يرد الباحث الفلسطيني في هذا المقال على بعض الجدل الذي دار حول مشروعه الفكري، في مقالات نشرتها (الكلمة) وغيرها، ويبدد الكثير من اللبس الذي دار حول مفاهيمه الأساسية.

موقع التيار التأصيلي في الثقافة العربية المعاصرة

ومفهوم "الهوية" عنده

محمد شاويش

1 ـ مقدمة عن التيار التأصيلي والتباسات النظرة إليه.
1 ـ 1 الهدف من هذا المقال
أريد من هذا المقال أن أقدم تصوراً عن مفهوم "الهوية الثقافية" وبالذات عن القضية التالية: هل للقول "إن هوية مجتمعنا الثقافية هي هوية إسلامية" معنى واحد عند المتكلمين أم له أكثر من معنى؟. وحيث أن الالتباس الموجود كبير في تعريف هذه الثقافة وفي الانتماء الثقافي للمدافعين عنها، وسأتحدث عنه في فقرة لاحقة، فإن فهم الفروق يتطلب تدريباً ذهنياً عالياً، ومقدرة على فهم الأفكار المجردة، وخلفية ثقافية واسعة وعقلاً منفتحاً مبنياً على مبدأ الحوار مع احترام الاختلاف، ووفقاً لتجربتي لا يستطيع بعض الناس امتلاك هذه المواصفات، ولا يفيد هؤلاء شرح مهما كان مسهباً، لذلك لا أتوجه بكتاباتي لهؤلاء، وإنما أتوجه لقارئ يمتلك بصورة جذرية الصفتين: سعة الأفق والروح الديمقراطية الحقيقية التي تتعامل مع الأفكار المختلفة باحترام، ولا تحاول إقصاء كل من يبدو مختلفاً، أو ذا أطروحات جديدة، بل عندها من سعة الأفق والقدرة على الرؤية الدقيقة النافذة ما يتيح لها رؤية الفروق في الدلالات، على الرغم من التشابه الظاهري في الدوال.

أطروحتي أن له معنيين مختلفين بين كتاب "التيار التأصيلي" و "التيار الإسلاماني" (تسمية مقترحة للتيار ذي النفوذ الشعبي الواسع في زماننا، الذي أساسه فكر الإخوان المسلمين المصريين الذي تبلور بصورته النهائية في منتصف الثلاثينات، و هذا التيار على مستوى قواعده الشعبية يتحول بصورة متزايدة إلى شكل "الوهابية الشعبية"، وهي الرؤى الناشئة أصلاً في الجزيرة العربية وتخترق الآن في مظاهرها الأضيق أفقاً أوساطاً شعبية واسعة في كل بلدان الوطن العربي، مع أن فكر بعض قياداته المهمة ينحو في اتجاه إيجابي في رأيي يتمثل في قبول مبدأ التعدد الفكري في المجتمع واحترام الخيار الحر للناس سياسياً وفكرياً).

وقد كتب الصديق الدكتور حامد فضل الله في العدد 15 من مجلة (الكلمة) العزيزة استعراضاً لكتابي "نحو ثقافة تأصيلية" ختمه بملاحظات نقدية. مقالي هذا غير مخصص طبعاً "للرد" على الملاحظات التي بعضها على الأقل كان الصديق العزيز لو سألني قبل إرسال المقال سيحذفها منه، مثل الملاحظة عن الأخطاء في الترجمة الإنجليزية للعنوان! وفي الحقيقة لا يد لي في هذه الترجمة ولم تستشرني دار نينوى فيها، وإلى الآن لم أبحث جدياً في مدى صحة اختيار كلمة rooting لترجمة كلمة "تأصيلي" (من المحتمل أن تكون اقتراحاً جيداً لترجمة تعبر عن هذا التيار الخاص من تيارات الحركة الثقافية العربية!)، لم يخطر لي البحث في صحة هذه الترجمة لاعتقادي بعدم أهمية الموضوع، إذ الكتاب كما لا يخفى كتاب عربي موجه للعرب أساساً.

وتعريف العرب الذي أنا مقتنع به بسيط: "هم الجماعة البشرية التي تعد نفسها عربية وتحدد هويتها على هذا الأساس!"، فمن كان لا يعد نفسه عربياً، لا أعده كذلك حتى لو كان من صميم معد أو عدنان! وفي المقابل أعد عبد الحميد بن باديس أعظم عربي في القرن العشرين، رغم أنه ينتمي لأصل أمازيغي، أما عظمته فيعرفها من يعرفه، وأما عروبته فتحققت لأنه عد نفسه عربياً وافتخر بنسبته حين قال:

شعب الجزائر مسلم.. وإلى العروبة ينتسب
من قال حاد عن اصله.. أو قال خان فقد كذب

لكن الصديق العزيز تسرع في نقطة واحدة على الأقل غير هذه سأتطرق إليها في فقرة لاحقة من هذا المقال حين قال: "إن الجدل حول شكلية الأزياء وغطاء الرأس والخِمار والشادور والأسماء علينا أن ننصرف عنه، فهو نقاش لا طائل وراءه، ومضيعة للوقت، ولا يخدم قضية التأصيل"، وسأحاول أن أبين أن الصديق فضل الله، الذي يجد نفسه غالباً (وليس دائماً) في مواقع ناقدة للإسلامانيين (وهي تسميتي للتيار الذي يسمي نفسه "التيار الإسلامي" وسأبرر بعد قليل هذه التسمية)، يتفق معهم في عدم فهم ما قد أسميه "البعد المفيد" لهذه المسألة من حيث هي توضح بجلاء نموذجي الإشكالية الأعم المتعلقة بمفهوم "الهوية"، وفي المكان المناسب سأحاول أن أبين كيف أن هناك اتفاقاً خفياً بين الإسلامانيين وخصومهم في معسكر الحداثة في موضوع العداء للهوية الاجتماعية، التى تسمى انطلاقاً من مرجعية سوسيولوجية غربية "الهوية التقليدية" (والفقير لله سماها في الكتاب المذكور أعلاه "الأصل"، وهو ما يريد التأصيليون "تأصيله"!)، ولا تكاد تجد مكاناً أفضل من مثال الأزياء هذا لتوضيح ذلك. 

1 ـ 2 "الإسلام" و "الإسلامانية":
هذا المقال إذن له هدف توضيح مفهوم "الهوية" عند الفقير لله في تميزه عن المفهوم الشائع عند خصوم الهوية وعند بعض أنصارها المفترضين أيضاً، وهم أنصار التيار الذي أسميه "التيار الإسلاماني" ولا أرى تسميته باسم "التيار الإسلامي" بتعميم، لأن كلمة "إسلامي" فيما أرى تشمل كل ما يخص الثقافة الإسلامية، عبر التاريخ وإلى الآن، على حين أن التيار المذكور هو تيار حديث خاص من تيارات عديدة في المجتمع الإسلامي المعاصر هي بمجموعها، وليس أي واحد منها بمفرده، يمكن أن نسميها "التيارات الإسلامية"، ولنتذكر "مقالات الإسلاميين" للأشعري رحمه الله، فتحت هذا الاسم جمع التيارات التي تنازعت "أهل الإسلام" بمجموعهم حتى عصره، مع أننا لو أخذنا نظرة كل منهم بمفرده لنفسه لوجدناه يقصر صفة "الإسلامي" على ذاته ويجرد الآخرين منها على أنهم انحراف عن "الإسلام الصحيح"، ولنا في الخوارج والمعتزلة وأجداد الذين يدعون أنفسهم "سلفيين" في أيامنا هذه من القدماء أمثلة واضحة على هذه الحقيقة. وفي اعتقادي أننا نستطيع أن نسمي جميع التيارات الفكرية التي تنطلق من احترام للإسلام على تنوعها بهذا "تيارات إسلامية"، إذ هي من تيارات أهل الإسلام، مثلاً: "الناصريون" عندي هم من الإسلاميين بلا شك كما كان المعتزلة أو المرجئة أو الأشاعرة أو الحنابلة إلى آخره يعدون من "الإسلاميين"، ولا يجوز أن تحجب هذه الصفة إلا عن التيار المعادي للهوية التاريخية لمجتمعنا والداعي لنسفها، ومن "الإسلاميين" بهذا المعنى الواسع الذي يشمل كل من يحترم التجربة التاريخية للمجتمع الإسلامي، ويعد نفسه منها، ويهمه أمرها، من لا يعتنق الدين الإسلامي، بل من لا يعتنق أي دين، و ثمة مثال ضربته في كتابي "نحو ثقافة تأصيلية" عن "جمعية أصدقاء دمشق" في دمشق ومؤسسوها معظمهم من الشيوعيين والشيوعيين السابقين، وقد جعلت الجمعية هدفها الحفاظ على الهوية الأصيلة المعمارية والبيئية لدمشق، وهؤلاء مشمولون وفق هذا المنظور بهذا التعبير "إسلامي" الذي يشمل كل الشرائح التي كونت هذه الثقافة عبر التاريخ.

واقترحت إطلاق اسم "التيار الإسلاماني" على التيار الذي وصفته قبل قليل لنفي أي انتقاص عن الاسم قد تحمله الأسماء الشائعة عبر الأدوات اللغوية التي ألف خصوم هذا التيار استعمالها كإدخال الواو في التسمية "الإسلامويون"، وأنا بذلك أشير ضمناً إلى أن هؤلاء الذين يطلقون على أنفسهم هذا الاسم التعميمي الطموح "الإسلاميون"، الذي يخشى أن يحمل معنى مصادرة الإسلام كله، هم في الحقيقة جزء من تيارات أهل الإسلام في عصرنا، ليس أكثر، ولكن ليس أقل أيضاً (بعض خصومهم من الأنظمة كما تعلمون وأنصارها، وبعض المتعصبين من ضمن المتدينين أيضاً، يرغبون في نفي صفة الإسلام عنهم كلية كما تعلمون!).

وهذه المشكلة محلولة في اللغات الأجنبية التي تميز عادة بين نوعين من الصفات islamic و islamist. والالتباس في صفة "إسلامي" يكون في استعمالها بمعنيين مختلفين: الأول: وصف الشيء المنسوب للإسلام بمجموعه وللمسلمين بمجموعهم ولبلادهم وثقافتهم كلها كما نقول "البلاد الإسلامية"، "التاريخ الإسلامي"، الثاني: وصف الشيء المنسوب للحركات الإسلامانية في قولهم مثلاً: "المد الإسلامي" لوصف انتشار نفوذ الحركات الإسلامانية، و"الزي الإسلامي" لوصف نوع محدد موحد من الثياب سنتكلم عنه بعد قليل و"الكتب الإسلامية" لوصف الكتب الأيديولوجية السياسية لهذه الحركات. وهذا التباس يستعمل أحياناً عن قصد، فالإسلامانيون لا تخلو بعض تياراتهم من "نزعة مصادرة" تجعلها تقصر صفة الإسلام على رؤاها وأعمالها، وأعداء الإسلام أيضاً يرغبون في أن ينسبوا للإسلام كله وللمسلمين وللثقافة الإسلامية بأسرها أقوال وأعمال ورؤى جزء صغير من هذا الفضاء البشري الثقافي لتشويهه والتحريض عليه.

والذي أراه أن نكافح للخروج من هذا الالتباس، من جهة بإدخال تعبير "إسلاماني" كما أوضحت لوصف ذلك التيار الخاص الذي يزيد نفوذه وينقص دون أن تزيد وتنقص إسلامية المجتمع! (وإن لم نقبل بذلك لجاز أن نعد هزيمة حزب إسلاماني في انتخابات حرة دلالة على نقص في إسلامية المجتمع المعني) ومن جهة أخرى بنسبة كلمة "إسلامي" لمجمل ما ينتسب إلى ديار الإسلام والثقافة الإسلامية من بشر ومنتجات ثقافية وحضارية وسياسية، دون تفريق في المذهب أو حتى الدين، وعلى هذا تكون منتجات مفكرين وكتاب من نوع "مارون عبود" و "ناصيف اليازجي" و"كمال جنبلاط" منتجات إسلامية بغض النظر عن دين ومذهب أصحابها، تماماً كما أننا نعد أبا العلاء المعري من الإسلاميين بهذا المعنى رغم أن هناك نقاشاً حول التزامه الدقيق بالعقيدة الإسلامية. وكما قلت لا نخرج من هذه الصفة الشاملة الموحدة (بفتح الحاء وبكسرها أيضاً!) إلا خصوم هذه الثقافة والعاملين مع أعدائها على هدمها.

بهذا المعنى أعد هذا التوجه التأصيلي هو التوجه الفكري الأوضح حالياً المدافع عن تصالح مجتمعنا مع نفسه واعترافه بمكوناته الاجتماعية والثقافية جميعها طالما هي مكونات مبقية ـ في اختلافها ـ على احترام المجتمع ولا تعمل ضده تدميراً أو إذابة. 

1 ـ 3 في الالتباس بين "التيار التأصيلي" و"الإسلامانية":
دفعني إلى كتابة هذا المقال دافع ثان غير مقال الدكتور حامد هو رسالة من باحثة سورية نشيطة تريد كتابة رسالة دكتوراه حول موضوع "التيار التأصيلي" ومنظورات كتابه المختلفة. كتبت للفقير لله لأنه هو من وضع هذه المجموعة من الكتّاب في اتجاه خاص في الثقافة العربية متميز عن الاتجاهات المعتاد ذكرها في التحليلات الثقافية وفي أجهزة الإعلام (كالاتجاهات اللبرالية والاشتراكية في صف أصحاب الثقافة الحديثة ذات المرجعية الغربية، وتوضع هذه الاتجاهات عادة في مقابل الاتجاه الإسلاماني وأحياناً بالتضاد معه، وهذا الأخير ينظر إلى نفسه ويوافقه خصومه عادة في هذا بأنه ممثل "التراث" و "الهوية"). خطر للأستاذة الباحثة أن تعرّف للمشرف على الرسالة في مخططها الأولي الذي قدمته له "التيار التأصيلي" على النحو التالي الذي أنقله حرفياً: "مجموعة من الكتاب يشتركون بثوابت فكرية تأصيلية، ترى أن ثقافتنا وحضارتنا هي ثقافة تستحق البقاء، وأن نهضتنا المرجوة يجب أن تستند إلى هذه الحضارة والثقافة. والجدير بالذكر أن معظم هؤلاء الكتّاب كانوا يتجهون اتجاهاً يسارياً في مرحلة من مراحل حياتهم، ثم نجد أنهم تحولوا نحو اعتبار الإسلام هو النظام المناسب لمجتمعاتنا، والذي يحافظ على التنوعات الدينية والثقافية الموجودة في أمتنا. فمن خلال هوية حضارية فاعلة نستطيع الانطلاق إلى فضاء حضاري إنساني عام، يخرجنا من مواتنا الحضاري ويؤكد أحقية ثقافتنا الإسلامية بالبقاء".

وأقول: إن هذا التعريف للمجموعة المعنية من الكتّاب يحتمل إثارة اللبس في ذهن القارئ، فقد يفهم مما قالته الأستاذة عن تحول كتّاب هذا الاتجاه "نحو اعتبار الإسلام هو النظام المناسب لمجتمعاتنا" أنهم "علمانيون تابوا عن علمانيتهم" وانضموا "للتيار الإسلامي" وكفى! والأمر ليس كذلك، فهؤلاء أسسوا تياراً مستقلاً له نظراته الخاصة النقدية للسائد في الثقافة (والأيديولوجيا) العربية، فمن غير الجائز أن ينسبوا للإسلامانيين، كما أنه من غير الجائز الإبقاء على صفتهم اليسارية الأصلية عند تصنيفهم، وموقعهم الخاص، الذي لم يضئه أحد بعد في الفكر العربي، ولا زال في انتظار باحثين مثل الأستاذة لإضاءته، يجعل الالتباس معتاداً، فواحد منهم وهو الدكتور جلال أمين يصفه بعض أهل النظام المصري بأنه شيوعي على حين يصفه آخرون بأنه أصولي!، والفقير لله كاتب هذه السطور وقع معه الالتباسان نفساهما أيضاً مراراً، فعد تارة مع اليسار، وأخرى مع الإسلاميين، وهذا الالتباس في الفهم لم يخل منه حتى مقال الصديق فضل الله، ولا زالت طبيعة المدرسة الفكرية للدكتور عبد الوهاب المسيري غامضة في أنظار الشغيلة الثقافيين العرب، وكثيراً ما يكتفى في وصفه بأنه مناضل سياسي في حركة كفاية ـ وكفى! ـ أو أنه باحث في الصهيونية.

تعريف الأستاذة إذن يحتاج لإزالة اللبس منه أولاً إلى تعريف "الإسلام" كما يمكن استنتاجه من كتابات هذه المجموعة، وبعدها سيصح القول إن هؤلاء "يعتبرون الإسلام هو النظام المناسب لمجتمعاتنا"، ويحتاج ثانياً إلى إيضاح الفروق بين هؤلاء الكتاب في اقتراحاتهم العملية في مجال بناء "هوية حضارية فاعلة" تتكفل بتحقيق مهمة "الانطلاق إلى فضاء حضاري إنساني عام، يخرجنا من مواتنا الحضاري، ويؤكد أحقية ثقافتنا الإسلامية بالبقاء"، والذي يبدو لي أن واحداً من هؤلاء وهو الدكتور المسيري هو أكثر هؤلاء الكتاب تفاؤلاً في أن دعوته قابلة للتحويل العملي للمجتمع، على حين يكتفي زملاؤه الآخرون بالاعتراض على التجربة التحديثية للمجتمع، دون إيضاح واضح للبديل، وهو ما يجعل خصومهم من الحداثيين والإسلامانيين في وضع أفضل ولو شكلياً، من حيث وجود "برنامج عملي" عندهم يقدم لمجتمع مأزوم لا يستغني عن هذا البرنامج بغض النظر عن مدى واقعية ونواقص الخطة العملية التي يقدمها الفاعل الأيديولوجي لمجتمعه، وهذه النقطة الهامة هي التي قادت الفقير لله بعد الفترة التي اقتصر فيها على الدفاع عن بقاء التميز الثقافي العربي ـ الإسلامي إلى محاولة البحث في الطريقة التي تستطيع فيها هذه الهوية أن تحافظ على وجودها، وقد ارتأى في مقالات المرحلة التالية التي سماها "ما بعد التأصيل" أو "التأصيل الفاعل" أن الحل هو الدعوة لتغيير، لا مناص منه ولا مهرب، لأنه شرط للبقاء ببساطة، في مقوم من مقومات هذه الهوية القائمة، وهو مقوم الأنماط السلوكية التي تجعل المجتمع يخسر المنافسة مع الحضارة الأوروبية، وهذا التغيير يتم عبر الالتزام المطلق باللاعنف في كل محاولة تغييرية ـ ملتقياً في هذه النقطة مع اتجاه الأستاذ جودت سعيد نصير النزعة الغاندية في العالم الإسلامي ـ وذلك بعد النهايات المدمرة التي انتهت إليها محاولات التغيير بالعنف (سواء الاستيلاء العنيف على السلطة أو استعمال العنف ضد الخصوم السياسيين والفكريين)، وفي اعتقادي أن اتخاذ مبدأ اللاعنف المطلق بلا تحفظ هو أول أساس من أسس التغيير المطلوب في أنماط سلوكنا: من السلوك الركودي الحاضر الذي يجعلنا في أسفل سلم الحضارات من حيث معايير موضوعية محددة (مثلا الاستقلالية الاقتصادية وعدم الاعتماد على الآخرين)، إلى السلوك الذي أدعوه "السلوك النهضوي" وهو السلوك الذي يبني بطبيعته مجتمعاً متملكاً لقراره، متحكماً ـ بدرجة أعلى نوعياً من المجتمع الحاضر ـ بمصيره.

والبحث في منظورات كتّاب هذا الاتجاه للهوية وعلاقاتهم مع الثقافة العربية الحالية باتجاهاتها النخبوية والشعبية المختلفة يستحق فعلاً دراسات مفصلة، ولهذه الدراسات قبل كل شيء سيكون الفضل إن كتبت في تعريف القارئ العربي بهذه المدرسة المتميزة التي قد يعد كتابها بالعشرات، لكنهم لم يدركوا هم قبل غيرهم في نظري انتماءهم لمدرسة مستقلة. الدكتور عبد الوهاب المسيري نظّم مؤتمرين عن "التحيز" شارك فيهما عشرات الباحثين الذين يقتربون كثيراً في انشغالاتهم من الانشغالات النمطية للتيار التأصيلي (مثلاً الدفاع عن النسبية الثقافية في العلوم الإنسانية)، ولكن هذا التيار لم يع ذاته بعد، مما يجعل كتابه في موقع ملتبس خصوصاً في وضعنا الثقافي القائم الذي يشهد عملياً "حرباً أهلية ثقافية باردة" انقسم فيها الكتاب والفاعلون الأيديولوجيون بين معسكرين يتبادلان إطلاق الكلمات والشتائم بلا انقطاع! وفي هذا الوضع يحسب أي فاعل ثقافي بدون تبصر على واحد من الطرفين ولا يتم الانتباه إلى كونه ينتمي إلى طرف ثالث، ومن الأمثلة على ذلك مقابلة قرأتها مع برهان غليون قرأ فيها الشخص المقابل كتاب غليون "بيان من أجل الديمقراطية" قراءة مناقضة تماماً للكتاب على أنه في نقد التقصير العربي في إدخال التحديث إلى المجتمع! وهي قراءة تتناسب مع "البديهيات" التي ينطلق منها هو لا مع الكتاب، ولم يبد عليه أنه فهم فكرة غليون الجديدة عند صدور الكتاب في السبعينات عن دور الحداثة المفروضة من قبل النخب الحاكمة في استعباد المجتمع، ومصادرة كل نوع من أنواع الحرية! (وكانت فكرة ثورية بحق جاء بها شغيل أيديولوجي ينتمي إلى اليسار)، وقد كان كتاب غليون آنذاك في الحقيقة من مصادر الفكر التأصيلي في سوريا على علّات أسلوبه الذي يشكو من قلة السلاسة والميل إلى التكرار.

في مجتمع منقسم بين اتجاهين ثقافيين متحاربين (ا) و (ب) لن يستطيع المتلقي للعمل الثقافي لشغيل ينتج الاتجاه (ج) (أو اتجاه رابع أو خامس.. إلى آخره) أن يفهم الناس بسهولة أنه خارج هذا الاستقطاب، وذلك أن هذا الاتجاه المتميز يتلقاه المستقطب في الطرف (أ) على أنه منتم إلى (ب) كونه ليس (أ) وللناظر المستقطب في الطرف (ب) أنه منتم إلى (أ) كونه ليس (ب)، إذ "الثالث مرفوع" بين هذين! وفي الثقافة العربية المنفصمة الآن أنت بالنسبة لأهل الحداثة "أصولي" إن لم تكن حداثياً، وبالنسبة للإسلامانيين أنت حداثي (ألقاب أخرى: علماني.. إلى آخره)، وقد تكون شيوعياً! وهذا يشبه في السياسة الموقف من الاحتلال الأمريكي للعراق عند المعارضة العراقية السابقة التي أيدت الاحتلال، فعندهم "الثالث مرفوع" فأنت إما أن تكون مؤيداً للاحتلال أو مؤيداً لصدام! وهكذا هي الحال مع قوى 14آذار اللبنانية: من لم يكن معهم فهو مع النظام السوري بل هو عميل له! وضيق الأفق الثقافي مثل ضيق الأفق السياسي لا تصحو منه الشرائح الاجتماعية المعنية إلا بصدمات كبيرة يقدمها الواقع، أما الفاعل الثقافي فمهمته أن يقدم الأساس النظري للتحول قبل أن تصبح شروطه الاجتماعية جاهزة على الأرض. وهذا في اعتقادي ما يجب أن يقوم به هذا الاتجاه الثالث الذي يتوجهه كتاب "التيار التأصيلي" في استقلالية عن بعضهم متوصلين عادة لنتائج متشابهة، ومنظور التأصيلية للهوية هو موضوع مقالي هذا، غير أن مقالي يقتصر على ذكر منطلقات كاتب هذه السطور في كتبه الثلاثة "حول الحب والاستلاب: دراسات في علم الشخصية المستلبة" (مشترك مع الدكتور حسين شاويش)، دار الكنوز الأدبية، بيروت 1995، "نحو ثقافة تأصيلية ـ البيان التأصيلي"، دار نينوى، دمشق 2007، "مالك بن نبي والوضع الراهن"، دار الفكر، دمشق، 2007، وفي كتاب رابع يتناول التجارب النهضوية المجهضة في العصر الحديث يصدر قريباً. وكتاب "نحو ثقافة تأصيلية" مكتوبة مقالاته جميعها بين عامي 1993و2001، فمن الجدير بالذكر الاختلاف في المنظور الذي جدّ في الكتابات اللاحقة (ومنها الكتاب عن مالك بن نبي، الذي لم أقصد منه في الحقيقة إصدار كتاب جديد عن مالك بن نبي لأهداف أكاديمية بل كان القصد اتخاذ التذكير بتحليلات وآراء مالك بن نبي مناسبة لطرح السؤال: ما العمل؟ وهو السؤال الذي طرح نفسه بقوة على كل عربي أولاً وكل مسلم ثانياً بعد العربدة الأمريكية العدوانية التي لم يسبق لها مثيل التي جاء بها عصر بوش والمحافظون الجدد). 

2 ـ ما هي "الهوية الإسلامية" لثقافتنا؟
2 ـ 1 عن المصادرة بصفتها النزعة الملازمة لعصر الحداثة
 
انشغل أجدادنا الألباء ببحث الفروق في الكلمات الاصطلاحية، لأن الالتباس في الفهم يحدث عند استعمال الكلمة نفسها بمعان مختلفة، أو عند استعمال كلمات مختلفة معناها واحد، لا يعرف القارئ بدقة الفروق بينها، وأعيد القارئ مثلاً إلى نموذج القرافي في "كتاب الفروق"، وهو يبحث في الفروق بين قواعد فقهية تبدو متماثلة. ويساهم الإعلام السطحي في التدهور الفكري العربي القائم، فالاصطلاحات تستعمل بلا أي روح مسؤولية، مما يجعل الرؤية نفسها تغيم عند المواطن العربي العادي الذي هو في النهاية من يهمنا، ومن الأمور التي لا يستطيع المرء مهما بلغ من قوة الأعصاب أن يحتملها أن يرى كيف يساء استعمال كلمات "إسلام"، "إسلامي"، "أهل السنة والجماعة"، وأيضاً كلمات من نوع "حداثة"، "عقلانية"، "علمانية". وأسوأ ما في إساءة الاستعمال تلك هو نزعة المصادرة والفرض القسري للهوية (ونزعها) الذي ينتج عنها، فالاتجاه الذي يسمي نفسه "سلفياً" مثلاً ينزع قسراً صفة "أهل السنة والجماعة" عن أصحابها التاريخيين، وهم أغلبية المنتمين للدين الإسلامي من متبعي المذاهب الأربعة (لسبب أساسي هو تأييدهم للأشعرية والماتريدية في مسائل العقيدة، علاوة على علاقة كثير منهم بالصوفية) ومذاهب أخرى قريبة منها مثل مذهب داوود وابن حزم الظاهري ومذاهب فقهاء آخرين (ومنهم المذهبان الزيدي والإباضي اللذان قرر العلماء المتعمقون من أمثال محمد أبو زهرة أن الفروق الفقهية بينهم وبين أهل المذاهب الأربعة فروق صغيرة غير مهمة)، ليقصرها على اتجاهه الضيق الذي لا يشمل حتى الحنابلة كلهم! ومن هنا وجدنا من يعيد "تحقيق" كتاب حجة الإسلام الغزالي" ليصحح بعض عقائده وفقاً لمذهب أهل السنة والجماعة"! (ويقصد المذهب الذي أسميته: "الوهابية الشعبية" أما تعبير "أهل السنة والجماعة" فيعبر تاريخياً عن الكتلة الغالبة من أهل الإسلام بمقابل الفرق الصغيرة، والحال أن هؤلاء الذين يطلقون هذه الصفة على أنفسهم من أتباع "الوهابية الشعبية" هم أبعد من يكون عن هذا الوصف! إذ هم في الأصل فرقة صغيرة منشقة لا هم لها إلا تكفير أغلبية الجماعة وإقصائها). ونزعة المصادرة هي من صفات العصر فهي لا تقتصر على هؤلاء، المنسوبين عادة (خطأ!) إلى "التقليديين"، فهذه النزعة فاقعة في معسكر "الحداثة"، إذ بعض منظّري شعر النثر مثلاً لا يقرون حتى لشعر التفعيلة بصفة الشعر، ناهيك بالشعر الذي سبقه!، وكذلك منظرو "الحساسية الجديدة" في الرواية يرون أن مدرستهم "جبّت ما قبلها" ونزعت عنه صفة الصلاحية، فهم وحدهم من كتب "الرواية" التي تستحق اسمها منذ عصر سرفانتس الذي تكاد تتفق الآراء على أنه مؤسس الرواية الحديثة! مما يعطي الشعراء الأوائل المساكين، من هوميروس وامرئ القيس إلى محمود درويش، وكذلك أوائل الروائيين من ديكنز وبلزاك حتى نجيب محفوظ، مع هؤلاء الجدد وضع الفلسطينيين مع المستوطنين الصهاينة الذين يلخص وضعهم المثل العامي: "الدار دار أبونا وجوا الغُرب يطردونا"! وهذه التطابقات بين الخصوم المتناقضين في الظاهر لا تبدو غريبة إلا عند الناظر السطحي لتيارات الثقافة العربية المعاصرة. 

2 ـ 2 ما هي "الهوية الثقافية الإسلامية"؟
"الهوية الإسلامية" لمجتمعنا لم تكن موضع نقاش عند الأعداء أو الأصدقاء حتى بداية عصر الحداثة، وأول من وضع "إسلامية" هذه الثقافة موضع شك كان الإصلاحيين، الذين سموا أنفسهم "سلفيين" مع ملاحظة الفوارق الكبيرة من حيث سعة الاطلاع والأفق بينهم وبين سلفيي عصرنا (في نسختهم الشعبية الشائعة، وليس كل من يدعو نفسه سلفياً سواء، فما أبعد الفارق بين "السلفيين" ضيقي الأفق المنتشرة "كتاباتهم" في مواقع الإنترنيت وسلفيين أذكياء ذوي مقدرة نفاذة على رؤية الواقع وفهمه وتحليله من نوع الشيخ سلمان العودة مثلاً أو حاكم المطيري)، فهم أول من لاحظ أن مجتمعنا لا يستطيع ببنيته القائمة، وقد ركزوا على عناصرها العقلية والسلوكية، أن يقاوم الغزو الغربي، فأعلنوا أن المشكلة تكمن في أن المجتمع خارج عن الإسلام الحقيقي، إسلام السلف الصالح المؤسس، وأن الحل هو العودة إلى ذلك الأصل، وغني عن البيان أن إرادة العودة هذه لها نظائر في المجتمع الغربي بالذات الذي أراد إصلاحيوه اللوثريون والكالفينيون القضاء على "البدع" الطاغية في الكنيسة الكاثوليكية للعودة المباشرة إلى النص المؤسس بلا شروح القرون ولا تأويلاتها والوسطاء الذين ظهروا فيها ليتوسطوا بين النص والجمهور.

لكن الطابع التجديدي الذي لا شك في أهميته لهذه النزعة التغييرية للواقع، الذي ما عاد من الممكن الدفاع عن بقائه على ما هو عليه، كان يحمل خطر المصادرة، إذ أعلن الإسلام كما هو موجود وممارس "إسلاماً مشوّهاً" بأحسن حالاته (الاصطلاحات المستعملة مثلاً: هو الإسلام وقد لوثته البدع وفقد نقاءه الأصيل)، وفي ذلك دعوة لإسقاط التجربة التاريخية التي بناها المسلمون في تفاعلهم مع النص والواقع التاريخي، ولو شئت أن أوصّف هذه الواقع بتعبير آخر يفيدنا في التحليل هنا لقلت: إن الإصلاحيين ناصروا إسلاماً مجرداً افتراضياً لم يجرب، وأسقطوا من حسابهم بل من احترامهم "الثقافة الإسلامية" التي هي نتاج للتاريخ ثانياً وللنص المؤسس أولاً. ليست الثقافة الإسلامية في التعريف الذي أتبناه لها شيئاً آخر غير هذا التركيب الخلاق بين النص المؤسس والتجربة التاريخية الجماعية للمجتمع الذي بناه النص المؤسس. وهذه الثقافة الإسلامية هي ببساطة في اعتقادي اسم آخر "للهوية الإسلامية". ومن المفيد أن نتذكر هنا أن هذه التجربة التاريخية تضمنت عناصر حضارية كانت موجودة قبل ظهور الإسلام ما دامت تتوافق مع روح النص المؤسس (الذي أعلن بوضوح منذ البداية أنه ليس بالجديد كل الجدة فهو يكمل مكارم الأخلاق القديمة وينبني على فطرة سوية موجودة عند البشر منذ آدم!)، وفي الأوقات اللاحقة لم يتوقف المجتمع المسلم عن التفاعل مع المجتمعات الأخرى تفاعلات من نوع مختلف لم تمر بالطبع دون أن تحدث ألواناً من الرضا والنفور عند شرائح هذا المجتمع المختلفة، وهذا الجدل المعقد كان موجوداً ولم يزل.

هذا التعريف في اعتقادي هو المنسجم مع الاتجاه العام في كتابات التيار التأصيلي وإن لم تكن هذه الفكرة واضحة بهذا الصفاء عند الجميع، (أعيد القارئ مثلاً إلى وصف المسيري لمجتمع دمنهور كما كان في زمن طفولة الكاتب، ومقارناته لهذا المجتمع وخلفياته الأخلاقية مع نظائرها في المجتمع الأمريكي الذي خبره شخصياً، وهذه المقارنة موجودة في سيرته "غير الذاتية غير الموضوعية" كما عنونها، وفي كتابه "العالم من منظور غربي"، وكتابات جلال أمين حافلة بهذا الدفاع عن البنية الاجتماعية المحلية، في وجه محاولات اقتلاعها بالقوة لصالح النط الاستهلاكي الغربي) وإني لآمل أن أتمكن بعون الله من العودة في مقالات لاحقة لوصف مقاربات كتاب هذا التيار لهذا الموضوع، وأنتظر بشوق أيضاً ما ستبدعه الأستاذة في رسالتها الجامعية التي ذكرتها آنفاً والمخصصة لهذا التيار وكتابه بمنظوراتهم المختلفة للموضوع الأساسي الذي يهتمون به وهو موضوع الدفاع عن بقاء الهوية الثقافية المتميزة لشعبنا. 

2 ـ 3 في شرح الفارق بين النظرة السلفية ـ الإصلاحية وتطورها الإسلاماني والنظرة التأصيلية للهوية:
2 ـ 3 ـ 1 في الفارق بين النظرتين إجمالاً:
إن "الإسلامانية" هي تطور نوعي حدث في وسط ثقافي تسوده النزعة الإصلاحية عموماًً، وهي تلك النزعة المتميزة بالسعي لإصلاح المجتمع الإسلامي عبر تغيير فهمه للعقيدة الإسلامية وللشريعة بحيث تتناسب مع برنامج التحديث المستوحى أساساً من الغرب، وبحق أشار الأستاذ رشيد رضا مرة إلى أن المسلمين ما كان لهم أن يكتشفوا أهمية مبدأ الشورى لولا الاحتكاك بالغرب (وهو يقصد بالتأكيد نظامه السياسي اللبرالي بنسختيه الإنجليزية والفرنسية، وهما ما كان معروفاً للمثقف عندنا في مطلع القرن العشرين)، والتطور النوعي الذي أميل لتأريخه بالمؤتمر الثالث للإخوان ـ مارس 1935 حدث حين تحوّلت العضوية في الجماعة من عضوية مفتوحة عملياً للمجتمع إلى عضوية مغلقة وحددت مراتب للعضوية تتدرج من "الانضمام العام" إلى "الانضمام الأخوي" إلى "الانضمام العملي" إلى "الانضمام الجهادي"، وصيغت عقيدة خاصة مميزة للجماعة فيها النقاط التالية: 1ـ اعتبار عقيدة الإخوان رمزاًً لهذا المنهاج 2ـ على كل مسلم أن يعتقد أن هذا المنهج كله من الإسلام وأن كل نقص منه نقص من الفكرة الإسلامية الصحيحة 3ـ على كل أخ مسلم أن يعمل على نشر هذه المبادئ في جميع البيئات، وأن يتحمس لها تحمساًً تاماً، وأن يطبقها في منزله مهما احتمل في سبيل ذلك من المكاره. 4ـ كل أخ لا يلتزم هذه المبادئ لنائب الدائرة أن يتخذ معه العقوبة التي تتناسب مع مخالفته وتعيده إلى التزام حدود المنهج.وعلى حضرات النواب أن يهتموا بذلك فإن الغاية هي تربية الإخوان قبل كل شيء(1). ومع هذا التحول إلى جماعة مغلقة متمايزة عن المجتمع لها "عقيدتها" (أي أيديولوجيتها الخاصة) كانت الخطوة التالية هي التحول إلى حزب يصارع بقية الأحزاب على السلطة، وفي مجلة "النذير" في مايو 1938 أعلن حسن البنا لأنصاره: "إلى الآن أيها الإخوان لم تخاصموا حزباً ولا هيئة، كما أنكم لم تنضموا إليهم كذلك، ولقد تقوّل الناس عليكم فمن قائل إنكم وفديون نحاسيون، ومن قائل إنكم سعديون ماهريون، ومن قائل إنكم أحرار دستوريون، ومن قائل إنكم بالحزب الوطني متصلون، ومن قائل إنكم إلى مصر الفتاة تنتسبون، ومن قائل إنكم إلى غير ذلك من الأحزاب منتمون ـ والله يعلم والعارفون بكم أنكم من كل ذلك بريئون. فما اتبعتم غير رسوله زعيماً وما ارتضيتم غير كتابه منهاجاًً، وما اتخذتم سوى الإسلام غاية.فدعو كلام الناس جانباً وخذوا في الجد... كان ذلك موقفكم أيها الإخوان،سلبياًً هكذا فيما مضى، أما اليوم وأما في هذه الخطوة الجديدة فلن يكون كذلك، ستخاصمون هؤلاء جميعاً في الحكم وخارجه خصومة شديدة لديدة إن لم يستجيبوا لكم ويتخذوا تعاليم الإسلام منهاجاً يسيرون عليه ويعملون له".

الإسلامانية بهذا تأسست كفرقة متميزة في المجتمع الإسلامي لها حدود تنظيمية تفصلها وعقيدة خاصة وهدف سياسي خاص، وهي في النهاية لا تهتم ـ لحد الآن على الأقل ـ بالحفاظ على المنجزات الثقافية التاريخية للمجتمع الإسلامي (لعلنا نرى تمثيلاً رمزياً واضحاً لذلك في ابتكار محازبي هذه الحركة لأزياء خاصة بهم وهجرهم لأزيائهم الوطنية التي تحترمها على العكس النزعة التأصيلية وترى فيها ابتكارات خلاقة بالتوافق مع روح الإسلام التي جاء بها النص المؤسس، للتأقلم من جهة مع المناخ، ومن جهة أخرى مع المسار الخاص للذوق الجمالي الذي سلكته كل ثقافة إسلامية جزئية على حدة).

تنطلق التأصيلية في فهمها للهوية الإسلامية للمجتمع من المجتمع الموجود بكافة مكوناته دون أن تحاول أن تفرض عليه أي أيديولوجيا محددة، وهي ترى كما رأينا في الفقرة السابقة أن الإسلام يتضمن عنصري النص المؤسس والتجربة التاريخية، وعلى هذا فهي لا تحاول تفكيك المجتمع، وإعادة هندسته من جديد، وفقاً لأصل صاف متعال على التاريخ والتجربة الاجتماعية، إن هذه التجربة قد أنتجت وفقاً لسنة الله في الخلق تنوعات داخلية نراها عياناً في المجتمعات الإسلامية المختلفة، حيث تتنوع مكونات الثقافة مع تنوع اللغات والتقاليد والفنون والعادات، وهذا ضمن الثقافة الجامعة التي تتفرع منها تلك الثقافات الجزئية لا كتفرع أجناس مختلفة بل كتفرع أنواع مختلفة من جنس واحد. ولعل القارئ هنا يلاحظ هذا الفارق الدقيق الذي أظن أن الدكتور حامد فضل الله في استعراضه لكتابي "نحو ثقافة تأصيلية ـ البيان التأصيلي" لم يلاحظه بما يكفي من الدقة أو لم يشر إليه بوضوح على الأقل. 

2 ـ 3 ـ 2 نموذجان متماثلا البنية مع الهوية لتوضيح النظرة التأصيلية للهوية:
من المفيد فيما رأيت لشرح النظرة التأصيلية للهوية الثقافية أن أسوق نموذجين علاقات عناصرهما الداخلية تشبه علاقات البنية الاجتماعية التي نسميها الهوية. واحد منهما مبتكره هو مالك بن نبي وهو نموذج الأنغام الأساسية وتوافقاتها والثاني آخذه من بنية اللغة وتفرعاتها اللهجية والفردية.  

2 ـ 3 ـ 2 ـ 1 نموذج الأنغام الأساسية وتوافقاتها:
يرى مالك بن نبي في كتابه " مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي" ( ترجمه محمد عبد العظيم علي ونشرته مكتبة عمار، القاهرة، 1391هـ ـ 1971م) أن الأفكار تشبه أسطوانة يحملها الفرد عند ميلاده، وهي تختلف من مجتمع لآخر، والأفراد والأجيال يعزفون أنغامهم الخاصة التي تتوافق تردداتها مع الأنغام الأساسية أو النماذج المثالية (القوالب archetypes) لتلك الأسطوانة. تلك الأنغام يسميها مالك بن نبي "الأفكار المطبوعة" وأما التوافقات الموسيقية التي تخص الأفراد والأجيال فيسميها "الأفكار الموضوعة".

"الأفكار المطبوعة" اليونانية كما يقول اتخذت شكلها وقالبها على الأفكار المطبوعة التي أبرزها هوميروس وإقليدس وفيثاغورث وسقراط وأمبدوكل وعلى الأفكار الموضوعة لأفلاطون وأرسطو، ثم أخرجت الأجيال التالية توافقات مع هذه الأفكار كونت لحناً بديعاً لم يزل له أثر في الحياة المعاصرة، والقرآن كان هو الرسالة المطبوعة التي جاء بها الوحي من السماء فعدلت الطاقة الحيوية للمجتمع الجاهلي ووجهتها وجهة جديدة، وغيرت طريقة تفكير هذا المجتمع ومنظومته الأخلاقية(2). كما نرى تأتي الأجيال (كما الأفراد) بابتكارات خاصة ميزتها أنها تتوافق مع أنغام أساسية، وجدل التطابق والاختلاف هذا يوضح بصورة جيدة في اعتقادي ما هي الثوابت وما هي المتغيرات في الهوية، وتمثل بصورة ممتازة للطريقة التي تختلف فيها الثقافات عن بعضها، فهي تختلف عن بعضها ببنية ثقافية مؤسِّسة ذات طاقة هائلة كانت قادرة على خلق نمط ثقافي جديد يسير المجتمع والأفراد وفق محدداته الكبرى. 

2 ـ 3 ـ 2 ـ 2 نموذج اللغة الأم وتفرعاتها اللهجية والفردية:
ثمة نموذج آخر له مقدرة تمثيلية متميزة أيضاً وهو نموذج اللغة الأم وتفرعاتها. ثمة لغة واحدة مشتركة في مجموعة إثنية معينة، ولكن هذه اللغة بوحدتها لا تمنع وجود لهجات مختلفة من جهة، ولا تمنع من جهة أخرى الاختلاف في طريقة استعمال اللغة من فرد لآخر. جميع الأنظمة التي تكون اللغة (كالنظام الصوتي والنحوي والقاموسي) تسمح باختلافات ضمن حدود معينة، ووجود هذه الاختلافات لا يمنعنا من الحديث عن لغة واحدة.

إن ثقافتنا العربية في اعتقادي يمكن تمثيلها بلغة لها لهجات، وتمثلها دوائر ثقافية جزئية من الدائرة الكلية (لنتذكر في الرياضيات الحديثة مفهوم "الزمرة الجزئية" في نظرية الزمر)، وهذه اللهجات الثقافية ليست عناصر مستقلة عن اللغة الثقافية الأم، بل هي ببساطة عناصرها المكونة، وكل بلد كما هو معلوم يحتوي على هذا التنوع الكبير في الثقافات المحلية الجزئية، ومن المصادرات الذائعة الصيت أن التطور الحديث سيحمل معه توحيد البشرية في لغة ثقافية واحدة فكأن سنة الله في التنوع ستزول، وفي الغرب كثيرون الآن يكافحون للحيلولة دون ذلك، وهم لا يقتصرون على "أحزاب الخضر" لوحدها، وهؤلاء يترافق نشاطهم مع نشاطات فكرية تحذر من نماذج التفكير المستهلكة التي كانت مثلاً تؤيد النمو الاقتصادي بلا حدود، وهو ما تمخض عملياً عن خطر دمار البيئة، من هؤلاء مثلاً الاقتصادي الفرنسي الشهير "سيرج لاتوش"، أما عندنا فلا نزال نجد من يطبل للعولمة بدون أي نقد، وغالباً ما يكون الدافع حقداً دفيناً على المجتمع العربي لأسباب فردية استلابية أو أسباب منتشرة الآن من نوع النزعة الطائفية عند بعض متعصبي الأقليات الطائفية والقومية في الوطن العربي (وينطلق هذا الحقد من أسباب مشروعة تتمثل في الموقف الوحشي لبعض المتعصبين الذين ينسبون أنفسهم للأكثرية زوراً، ومعظم هؤلاء ينطلق من منطلقات "الوهابية الشعبية" والتي لا تقتصر منطلقاتها الوحشية في الحقيقة على أهل السنة فلها نظائر عند الطوائف الأخرى ولا سيما الشيعة، وهذا ما نراه عياناً في العراق حيث يقوم متعصبو الطرفين بأبشع الجرائم الطائفية، بتشجيع من الاحتلال ومشاركة له أحياناً كثيرة، ومن أسباب غير مشروعة تتمثل في الموقف الانتهازي الذي يريد إرضاء الغرب عبر إظهار العداء للعروبة والإسلام وشتمهما في كل مناسبة وبدون مناسبة أيضاً!). 

2 ـ 3 ـ 3 مثال للفارق بين النظرتين التأصيلية والإسلامانية (ومعها "الوهابية الشعبية"): قضية الأزياء والحجاب:
تنطلق الإسلامانية المعاصرة (مثل الأيديولوجيات "الثورية" العربية الأخرى) من منطلق الاستهتار المطلق بالتقاليد الاجتماعية والموروثات، فكل ما هو قائم يجب فكه وإعادة تركيبه وفق النموذج النظري الطوباوي للثائرين! ومن المدهش أن النقاشات المعاصرة في قضية "الحجاب" من جميع الأطراف تقريباً لا تكاد تهتم بتاريخية هذه المسألة، ولم أجد أحداً من المناقشين يذكرأنها قضية حديثة لا جذور قديمة لها، فهي مثارة من طرف الإسلامانيين الذين رغبوا في قولبة زي المرأة على شكل يتلاءم في رأيهم مع الشريعة، بعد أن خرج هذا الزي عبر استيراد النموذج الغربي للثياب (عند الجنسين) عن قواعد الاحتشام الإسلامية بالفعل. وأغرب من ذلك أن المتناقشين لا يخطر على بالهم وضع القضية في مكانها وهي أنها قضية زي! والحال أن المتناقشين يخرجون عن هذا الأصل إلى مناقشتها فقهياً وسياسياً. وأنا وإن كنت طبعاً لست ضد المناقشة الفقهية والسياسية، غير أني أرى أن هذه المناقشة تغفل جوانب ذات أهمية حاسمة في الموضوع وتعتّم عليها مما يقلل تقليلاً خطيراً من إمكانيات فهم المسألة فهماً متكاملاً.

إن كان لا بد من الحديث عن "تغريب" أزياء العالم الإسلامي فمن المفروض أن نتكلم عن تغريب أزياء الجنسين معاً، وهنا في اعتقادي تتبدى "أصالة" النظرة التأصيلية إن جاز التعبير ودقتها في مقابل النقاشات السطحية المعتادة، التي لا تزيد عن تراشق التهم. فطرف أول يتهم الطرف الثاني بالتخلف، والثاني يتهم الأول بالفجور والسعي لنشر الإباحية ومعاداة حكم الله! ما جرى أن قطاعات من المجتمع العربي تبنت الزي الأوروبي، وخرجت عن الزي الوطني الذي يشكل تنوعاً خلاقاً من الناحية الجمالية وبالانسجام مع الجو والبيئة ضمن التشكيلة الأخلاقية الإسلامية وما تستلزمه من احتشام معروف.

الأزياء الوطنية في المجتمعات الإسلامية تتنوع تنوعاً جميلاً كبيراً لكنها كلها داخلة ضمن متطلبات النص المؤسس من الثياب (من نوع الاحتشام وأن يكون الثوب مما لا يشف ولا يصف)، ولكن تغريب الزي وتبني الزي الأوروبي، لا على أنه زي عملي بل على أنه نموذج للجمال (وهو المعنى النفسي لكلمة "موضة" على كل حال) أدخل المجتمع في المفارقة التالية: إن المرأة وحدها هي التي فرض عليها أن تخرج على قواعد هذا الزي الأوروبي (أي قواعد الموضة، ويتضمن ذلك إخلالاً "بالجمال" وفقاً لمعياره الاستلابي السائد). حين تضع المرأة الخمار على رأسها فقد خرجت حكماً على معايير الجمال الأوروبية للزي، فأصبح زيها بهذا "نشازاً" أو خروجاً على المألوف (كثير من المسلمات في أوروبا يعرفن ذلك ويحاولن إيجاد "حل أوروبي" لتغطية الرأس من نوع بعض أشكال القبعات مثلاً) على حين أن الرجل المسلم يذهب ويجيء بزي يتطابق تطابقاً تاماً مع الزي الأوروبي، أي مع "الموضة" ومع المعيار السائد بالتالي للزي الجميل، وليس ذلك فحسب: إن زيه "طبيعي" بخلاف زي المرأة التي حين غطت رأسها فقد صارت تلبس لبساً "غير طبيعي". وقد شبهت مرة الحجاب فوق الزي الأوروبي بخليجي يرتدي فوق الدشداشة قبعة أوروبية بدلاً من "الحطة" (أو "الشماغ") والعقال! (لا أنسى للإيضاح أن أذكر القارئ أن ثياب المرأة المحجبة على اختلافها ما عدا غطاء الرأس تنسجم عموماً مع المألوف الغربي).

بهذا صارت المرأة تلبس لبساً يميزها عن المحيط حين تكون مثلاً تعيش في مجتمع غربي (وحتى في مجتمع إسلامي تتميز بأنها خرجت عن الموضة الغربية المأخوذة كمعيار ليس "للجميل" فقط بل "للطبيعي" أيضاً) بخلاف الرجل، ووفقاً لقانون نفسي اجتماعي (على ما يتضح للناظر المتأمل) فإن كل اختلاف في المظهر يثير عند المجتمع تساؤلاً عن معنى هذا الاختلاف، ودلالته. وفي مجتمع عنده استعداد للعداء للمختلف ثقافياً أو دينياً أو حتى عرقياً فإن هذا الاختلاف يؤوّل بما يبرر الاضطهاد والتمييز لهذا المختلف، فالحجاب الذي هو بالمعنى الدقيق ظاهرة حديثة يؤوّل بأنه علامة على التزام بأيديولوجيا متطرفة معادية للغرب. ظهر "الحجاب" مع ظهور الزي الأوروبي عندنا، وقبله لم يكن هناك لا حجاب ولا سفور، لأننا كنا نرتدي أزياءنا الوطنية التي يرتديها الجميع وبالتالي هي فاقدة للدلالات التي اكتسبتها مثلاً تغطية المرأة لرأسها لاحقا، وفي هذه المناسبة أذكر بأن معظم أزيائنا الوطنية كانت تقتضي تغطية الرأس عند الجنسين معاً، ولا أزال أذكر كبار السن من بلدي الذين لم يكن الواحد منهم مستعداً أن يسير في الشارع بدون حطة وعقال، ويعد إكراهه على ذلك إهانة لا تغتفر.

وعلى هذا يكون من اللازم ذكر انتهازية الرجل في الجاليات الإسلامية المغتربة الذي أوجب على المرأة وحدها أن تتحمل هذا التميز عن المحيط، ولم يوجب على نفسه أن يتحمل ذلك (مثلاً بأن يميز هو أيضاً زيه عن الزي الأوروبي إن كان فعلاً متضامناً مع قضية المرأة المسلمة التي تتعرض للتمييز عند ارتدائها للحجاب، ومرة خطرت لي فكرة أن أدعو العربي للبس الحطة والعقال كعلامة تميزه إن كان حقاً بالشجاعة التي يدعيها حين يطلب من المرأة ارتداء الحجاب! وقد قامت ناشطات أوروبيات معاديات للعنصرية بارتداء الحجاب، فقط كعلامة للتضامن ورفض التمييز العنصري). وقد اخترع بعض الإسلامانيين (الذين تشهد بعض تياراتهم إلى حد معين حركة اندماج مع "الوهابية الشعبية") ما يسمونه "الزي الإسلامي" وكأن الزي الوطني الأصلي لم يكن إسلامياً! ومن اليسير على الملاحظ أن يرى كم هي هذه الأزياء الجديدة فقيرة من الناحية الجمالية وتنحو منحى التوحيد (على طريقة الأزياء العسكرية).

وفي مثال الحجاب والأزياء الذي نكلمت عنه بإيجاز في هذه الفقرة آمل أن يستطيع القارئ أن يرى الفارق في طبيعة المنطق والمحاكمة بين الرؤية التأصيلية والرؤية الإسلامانية لمسألة الهوية، وأن يلمس التسرع الذي أتى في مقال الدكتور حامد فضل الله الذي زعم أن "الجدل حول شكلية الأزياء وغطاء الرأس والخِمار والشادور والأسماء علينا أن ننصرف عنه، فهو نقاش لا طائل وراءه، ومضيعة للوقت، ولا يخدم قضية التأصيل"، فالإسلامانيون ومعهم التحديثيون الذين ناقشوا الموضوع اشتركوا في تجاهل البعد الثقافي التاريخي، وركزوا على المسألة من منظور من يريد هندسة المجتمع من جديد، بتجاهل تام لتاريخه وتجربته. والإسلامانيون تحديداً في نقاشهم لمسألة الحجاب من منظور فقهي فقط أكدوا على أن نظرتهم للإسلام تقول إنه النص والنص وحده. التأصيلي كما قلت يرى أن الإسلام هو النص المؤسس والتجربة التاريخية للمسلمين في تطبيق هذا النص وبناء المجتمع بكل تفرعات بنيته وتعقيداتها على أساس التوافق مع هذه "الفكرة المطبوعة" إن أحببنا أن نستعير تعبير مالك بن نبي، أو لنقل إن النص المؤسس هو قواعد "اللغة" الإسلامية التي انبنى على أساسها "الكلام" الإسلامي، أي التجربة المجتمعية الإسلامية، إن أردنا استعارة تعبيري دوسوسور الشهيرين. 

3 خاتمة:
كما أن اللغة تتفرع إلى لهجات وهذا قانون عام حتمي على ما يبدو، فكذلك فيما نرى تتفرع الثقافة إلى فروع جزئية، والنظرة الإنسانية السليمة لظاهرة التنوع هذه هي النظرة الإيجابية التي ترى في الاختلاف غنى، وعلى العكس من ذلك تتلخص الرؤية الفاشية في معاداة التنوع والسعي لجعل المجتمع أحادي البعد. والحفاظ على الهوية الثقافية يخص أهل الثقافة المعنية أولاً، ومن هنا اهتممت إلى الآن بالعمل ضمن الثقافة العربية، وهذا حال كتاب هذا التيار على الأغلب، لكن هذا لا ينفي أن هذا التيار يجد نفسه ضمن تيار عالمي واسع يزداد بروزاً في عصر العولمة المتوحشة وانفلات النزعات العدوانية والعنصرية في أنحاء العالم وفي المركز الإمبريالي الذي يشجع بصورة مباشرة وغير مباشرة النزعات المتعصبة الوحشية في الأطراف المهمشة من المستعمرات القديمة.

في مقالات سابقة تكلمت عن صلات النزعة التأصيلية بتيارات موجودة في العالم تخص الدفاع عن حقوق الإنسانية وعن البيئة وتكافح العنصرية. في اعتقادي أن الكتابات التأصيلية تصب في هذا التيار العالمي الجذري، وكما تقيم المنظمات المعنية بالبيئة وأحزاب الخضر والمنظمات المدافعة عن حقوق الإنسان "مراصد" لمتابعة حالة حقوق الإنسان في العالم (ومنها عندنا "المراصد" المصرية واليمنية والبحرينية والموريتانية إلى آخره، وفي العالم Amnesty International و Middle East Watch)، لتفضح كل حالة انتهاك لحقوق الإنسان واعتداء على كرامته، فكذلك ترصد النزعة التأصيلية حالات القضاء على التنوع الثقافي وحالات اللامساواة والتمييز العنصري بين الثقافات البشرية لتفضح كل محاولة لإزالة هذا التنوع أو للسطو على التراث الثقافي الذي يخص البشرية (كما جرى في فلسطين التي دمّروا آثارها ومعالمها الثقافية، وفي العراق الذي نهب متحفه الوطني تحت رعاية الاحتلال بآثاره التي لا تقدر بثمن، ثم عاد المتعصبون لاحقاً للهجوم على المساجد التاريخية والكنائس، فلم يعتدوا بهذا فقط على العمارة، بل اعتدوا أيضاً على تجربة التعايش الخلاق بين المكونات الثقافية المختلفة التي كانت وصلت إلى حد معين، نمثل له بالزيجات المختلطة والجوار السكاني الودي، والمشاركة في الفعاليات السياسية والنقابية ذاتها في المجتمع العراقي الحديث، وكان من الممكن، لولا الاحتلال الذي أدخل المتعصبين من وهابيين شعبيين سنة ونظراء لهم شيعة إلى قلب الفعل والفاعلية، أن يتكرس بصورة راسخة مع الزمن، حتى لو كان النظام الدكتاتوري "الاشتراكي" على النمط السوفييتي قد خرّب كثيراً أيضاً من مقومات هذه التجربة التاريخية، ثم جاء الاحتلال ليوجه لها الضربة القاضية) والنزعة لإزالة الفروق الثقافية تجب مكافحتها كما تكافح النزعة للقضاء على التنوع الطبيعي، لأن التنوع الثقافي غنى للحضارات كما سبق أن أشار إلى ذلك بنباهة الديمقراطيون من علماء الأنثروبولوجيا الكبار شأن كلود ليفي شتراوس وغيره. ولئن أحببنا أن نطلق اسم "الديمقراطية" على النزعة المعادية جذرياً للفاشية بكل ألوانها وما تسمي نفسها به من أسماء، فإنني أقول: إن التأصيلية هي ديمقراطية جذرية شاملة وهي النقيض المبدئي الكامل للفاشية!

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) نقلت هذه المعلومات عن "منهاج الإخوان المسلمين" ومراتب العضوية ما جاء في مذكرات البنا رحمه الله ـ (مذكرات الدعوة والداعية) للإمام الشهيد حسن البنا، دار التوزيع والنشر الإسلامي، القاهرة، 1986م، ص219 ـ 220.
(2) محمد شاويش، (مالك بن نبي والوضع الراهن)، دار الفكر، دمشق، 2007، ص87 ـ 88.