مجلة الكلمة - جعانشي أفت لك!

في احدى مجاعات مصر الكثيرة قال "ابن المتوج": «اخذت امرأة من ذات البيوت عقدا من الجوهر لايقدر بمال وطلبت عوضا عنه حفنة من دقيق، وحين اخذتها مشت بها من مدينة الفسطاط حتي باب زويلة. وحين عجنتها وخبزتا رغيفا يتيما حملته علي جريدة،وتوجهت به إلى قصر الزمرد، ونادت بأعلى صوتها، قالت: "يا أهل القاهرة ومصر ادعوا للخليفة المستنصر بالله بالنصر.. الذي اكلنا الرغيف في ايامه بألف دينار».

من أيام الشدة المستنصرية المباركة

رحم الله معلمي واستاذي "حسن أفندي الكفراوي" مدرس الابتدائي بمدرسة محب، بمدينة المحلة العامرة، والذي كان ينظر ناحيتي في العام 1955، ويخبرني وانا ارقب زر طربوشه يرقص في اليمين وفي الشمال.. يقول «يا ابني لازم تتأكد أن الحركة المباركة اللي اسمها ثورة يولية دي هتخلي مصر جنة، وربنا يبارك عليكم أيام الهنا الجاية اللي انا، ويا للأسف مش هاشوفها..».

ومات المدرس الطيب من قبل أن يحصد الخير المزروط الذي أحدثته أيام يوليه المجيدة في حياة المصريين.. رحم الله استاذي وعوضه عن الخير الذي فاته!!

أنا شخصيا، مرت علي السنين، وعشت من أيامها، أنا قليل الحيلة، أنتظر الهنا الذي تنبأ به معلمي الفاضل فلم أحصد سوي العاصفة، وبعض الأشياء الأخري مثل سمع الأناشيد، وتمجيد الزعيم، والهزائم المقررة، وناس يغنيها الله من غير مناسبة، وآخرين يطمرهم الطين فيما الثورة ماضية لايغلبها غلاب.

رأيت من نكد طالعي خروج المصريين من التاريخ، وشاهدت بأم عيني اختفاء رغيف العيش، أذكر انه في طفولتي كان الرغيف أشكالا وألوانا.. رح طري ومدور من قمح خالص.. حنون مقبص بالجبنة القريش والزبدة.. عيش مسلوق خارج من نار الفرن تدسه في السمن والعسل وتاكل بالهنا والشفاء، ومطرح ما يسري يمري.. ومخلوط بالدرة أو الحلبة تفوح رائحته من جسد الآكلين حلبة خالصة فتفتح النفس، وتجري الريق.. وعيش من دقيق أسمر، طحين قمح هندي حباته مثل عقد الكهرمان. وبالرغم من زمن الفقر الدكر أيامها فإن رغيف الخبز كان طوال الوقت سيد المقام. أنا لا أعرف سر العلاقة الجدلية بين المصريين ورغيف الخبز.

كان استاذنا يحيي حقي يصف الفرنسي بأنه يأكل بوفتيكه من عرق جبينه، بينما المصري يأكل عيشه من عرق جبينه.

عرفت الفرق بين البوفتيك والعيش؟

زمان، وأنا صغير، كنت أراهم يقيمون العرس احتفالا بليلة الخبيز.. كنت أتأمل نسوان حارتنا في زمالة الليل، يجلسن أمام الفرن والنار تتوهج بداخله، وأنا أجلس فوق الشروقة ادلدل رجلي أمام الفتحة واستمتع بالدفء ومشاهدة الشابات وقد تحررن من ملابسهن، ويظهرن مثل ارغفة الخبز الصابح، وأسمع أغانيهن الشبيهة بتراتيل الكنائس، وعفرة الدقيق تبدو حول مصباح الجاز مثل شبورة في الصباح.

أراهن يضعن العيش في الطشاطي.. خبزة لأيام قادمة.. ويملأن الأسبتة بأرغفة، يضعن عليها قبضات البرسيم لتظل لينة وطازجة، وأنا بين اليقظة والنوم أحلم بضربات المطارح مثل ركض الجياد.

لخيري شلبي قصة قصيرة هي «منخل من الحرير»، سمعت استاذي يحيي حقي، يصنفها من فرائد القصة القصيرة المصرية.. تحكي القصة عن ام تنخل الدقيق للوصول للدقيق العلامة.. الدقيق البيور مثل حرير القز المهفهف. طفلها ينام علي فخذها وهي تنخل، ورأسه بالقرب من صدرها ومع ضربات المنخل يستدعي الطفل النوم ويحلم.

كأنني كنت هذا الطفل في الزمن القديم.. كأنني كنت محاطا بجرن من الأرغفة الطازة، وفوح رائحة الخبز يعبق في أنفي لاتماثلها رائحة في الدنيا. أيام كان فيها لكل شيء طعمه ومذاقه وأسباب وجوده، ولم نكن نعيش شعفة المكان والزمان والأحوال التي نعيشها الآن.

أتذكر صرخة الزعيم الخالد: بأن الاشتراكية كفاية وعدل.. وأتذكركم انكفأنا وكم انعدلنا.. اتساءل عن سبب تلك المعاناة التي يعيشها المصريون، وهل يستحقون ذلك؟.. هل لانهم تركوا حياتهم يسيرها العوام؟.. العوام في المجلس النيابي.. عوام الحكومة والحزب والقيادة.. عوام النخبة التي تقود المجتمع.. المؤسسات والأحزاب وجمعيات الرأي العام، وأجهزة الاعلام المضللة.. لقد أجهزت سلطة العوام علي الضمير العام. واستبدلت الناس بأفعال تغيب العقل والضمير مثلما استبدل رؤساء هذا الوطن انفسهم جماع أمة عظيمة مثل مصر.

مصر التي خبزت عبر تاريخها رغيف بيزنطة.. وسدت حنك الامبراطورية الإسلامية والتركية، وأغوات المماليك.. وامتد خيرها ليملأ بطن روما.

شعب خنوع لم يعد يزرع ولايقلع؟

بطل خبيز، وهدم الأفران في بيته، واستبدلها بعشش الدجاج الأبيض، وعاش متوكلا علي أفران الحكومة يأكل مزابل القمح المسوس، وما يفيض به الأمريكان ليرهنوا استقلال الأوطان تحت طلبهم.

تصطف الآن طوابير العيش مثل طوابير اسري الحروب.. علي وجوه الواقفين فيها علامات المذلة، والرضا بالمقسوم، وفي وقفتهم يستعيدون أزمان القهر والعياذ بالله.

وأنت تمخر عباب الوقت، مجتازا ميدان السيدة زينب، مغادرا فرن "بنه" الفضل إلى شارع "الصليبة" لتتوجه فتعاين ميدان السيدة "عائشة" حيث يوم الحشر وبعضهم يصرخ: زوارك ياعيشة كل نطع واخوه!!.. من هناك إلى الأباجية والدويقة حيث الجحيم الحقيقي في دنيا الله التي لم يدركها ابدا نجيب محفوظ .. عبر الحواري الوسخة المغبرة بالتراب، والمعجونة بطين طفح المجاري.. زحمة العيال بلا أهل أو مأوي.. هؤلاء الذين يعيشون حداثة الثورة وزمن الانفتاح، واستثمارات شركات الاقتصاد الحر.. طوابير المعوزين يقفون من فجر الله في الأعالي أمام الأفران التي تفح بوابير السولار فيها وهم منكمشون في طوابير اطلقوا عليها طوابير العيش.

خمسون عاما من أزمة رغيف الخبز تقود إلى ازمات لا حل لها، والأمم حولنا تغادر الماضي إلى ازمان الحداثة فيما نجري نحن بالشوط نحو ماضي السلف السعيد الصالح فيما يعيش أغنياء الوطن في البنات والتبات. ويخرج العيش من الفرن بلا شكل ولا لون.. يبرد فيتحول إلى صخرة وعمنا الرصين الحاج نور الدالي ينهض قبل الفجر بساعة.. يتوضأ ويغير هدمته ويمشط ذقنه، وينزل علي ريق النوم متوجها إلى مسجد "تغربردي" بشارع الصليبة يصلي الفجر بأناة، ويقرأ الأوراد، ويطيل الدعاء بأن يرزقه الله رزق العيال: عشرين رغيفا بالتمام والكمال وبالسعر المدعم من فرن "بنه" المواطن الصالح صاحب الشمعة العطرة.

يمضي متجاوزا"شيخون" حتي يصل الفرن فيتجاوز دوره ويقف امام الولد "حنكش" الشضلي.. ياعم الحاج ده مش دورك.. يا ابني انا راجل كبير وعاوز.. يفحمه.. يعني انت راجل كبير وانا ابن قحبة يعني.. الحاج يستغفر الله.. ترتفع الأصوات ويزدحم المكان بالسباب.. يخرج "حنكش" قرن الغزال ويطعن بها الحاج المصلي عارف ربنا.. ويرتفع العويل وتشتد حرب العيش.

ويغيب عن وجه الوطن الرغيف الليبرالي الذي خبزه يوما طه حسين ولطفي السيد وأحمد أمين وتوفيق الحكيم وسيد درويش وغيرهم.. وغنت له ام كلثوم وعبدالوهاب وراقبه سعد زغلول وعرابي.. وكتب عنه نجيب محفوظ ويحيي حقي ويوسف إدريس وعبدالحكيم قاسم.

وارتد طفلا اجلس ثانية علي عتبة الدار، وستي هانم تسألني: جعانش أفت لك؟.. تنهض وتحضر لي شالية اللبن تفت فيها اللقيمات من العيش الصابح، وتضع السكر في اللبن وتدعوني للأكل.. آكل بنفس مفتوحة، ومن حلاوة الأكل أرفع الشالية إلى فمي وأكرع اللبن المسكر فيما سرسوب من حليب يخط مساره حتي صدري، وأراها تبتسم في حنية.

يا الله الكريم!! حرب العيش يمارسها شعب كل يوم، وعلي مدي خمسين عاما، لا الحياة تغيرت ولا وفرت الحكومة الرغيف، ولا زرع الشعب ارضه.. وصدق من قال: «وزع خراج مصر أربعة وعشرين قيراطا.. أربعة عشر للسلطان.. وستة للأغنياء.. وأربعة للجند.. وحين سئل عن نصيب المصريين بعد أن وزعت القراريط، أجاب: لهم بحمد الله القيراط الخامس والعشرين وهو في جنة الخلد عند وجه كريم».

ولا حول ولا قوة إلا بالله العظيم، وادام عليهم منذ فجر التاريخ الطوابير، وسدنة الملك، وعشق الآخرة، وعدل الحكام عليهم الذي لاينتهي أبدا!!!.

سعيد الكفراوي

الأكثر قراءة