في هذه القصة كثير من خصائص الكتابة السردية عند الكاتب الليبي الذي يمزج المعرفة الحميمة بالواقع الذي يصدر عنه، بكشف المسكوت عنه والحفر في أركيولوجيا المدينة التي يعرف خباياها.

ضوء أكحل

محمد الأصفر

رمى بقنابله الباخرة الراسية في ميناء بنغازي، وقبل أن ينعطف ويرتفع بعيدا أصابت الدفاعات الجوية ذيل طائرته.. بحركة غريزية ضغط على الزر فارتفع الكرسي به عاليا وهوت الطائرة متفتتة إلى البحر.

يفكر الحكام الآن أن يزوّدوا كراسيهم بزر الإنقاذ الذي يرفع إلى السماء قبل الهلاك بلحظة، لكن مازالوا مترددين فلا أمان في السماء.. وهناك أبحاث تجرى لصناعة أزرار عند ضغطها في لحظة الخطر ترفعهم، وترفع معهم مائدة كبيرة عبارة عن قصر صغير بحُرّاسه وإعلامه وبنكه وسلاحه ووقوده وزاده ونخبة مختارة من شعبه الصغير أو الكبير الخانع.. يعيش بها الحاكم هناك فوق السحاب.. وكل واحد من هذا الشعب تكون معه مظلة، لحماية القصر وحاشيته وصاحبه من مطر الله.. لكن عندما نكون فوق السحاب هل هناك ثمة سحاب أعلى ومطر أعلى؟!.. أجبْ أيها الخانع الجميل.. حسنا.. اسمعني.. الأمطار دائما تمتزج في بعضها ولن تجد ماء أعلى من ماء.. أعتقد أنه لا ماء فوق السحاب.. والسحاب هو بول الماء غير المرئي.. الماء يشرب كثيرا لذلك هو ماء.. والهاربون الآن بقصورهم وقلاعهم وثكناتهم إلى أعلى.. عليهم أن يطمئنوا و يظلوا هناك بجفافهم وهيبتهم وقوتهم ولا خوف من الماء غاسل الناس ومغرقهم وراويهم وملهّبهم وجالدهم وهو في السماء.. الماء في الأرض يفعل كل شيء بينما النار لا تفعل إلا شيء واحد وهو حرق نفسها ومن يلامسها حتى سهوا.. والماء في السماء لا يفعل شيئا سوى الهطول إلى أسفل.. والأسفل تركه القادرون من لصوص ومرابين وساسة وغيرهم وتسلقوا زحفا.

الأسفل فقير لكنه غني لأنه كثير لأنه يعيش.

الطيار يصعد على براق نجاته إلى السماء.. الرياح دفعته بعيدا عن مرمى الدفاعات وفي الحقيقة كان من هول الصدمة شبه مغمى عليه.. جسد يتأرجح من مظلة نفخ روحها الهواء.. مظلة حيّة فضفاضة.. سرّتها نسيم ريح عتيق.. المظلة تتهادى في الأفق زارعة قصائد انزياحها بعيدا عن الاحتراق.. قماشها أسيوي عَطِر مبخر.. حاكه راهب بوذي.. بعد عودته من رحلة حجه الفجرية.. خيوطها متينة صديقة للرياح والعواصف.. قماشة تمقت النار والدم.. تطير بالإنسان عاليا نحو السلام.. لكن كيف سمحت له برمي القنابل إلى الأسفل؟!.. تلك قصة أخرى.. لقد كانت القماشة سجينة تحت كرسي الطيار.. والانفجار أتى لها بالحرية.. فلم تلتهم وجبة الهواء النقية وحدها، ورفعت معها في أنامل خيوطها الناعمة كل ما تعلق بها من حياة.. الحياة شيء قابل للتعليق في أي وقت.. الحياة معلوقة حب في عنق نبض يضحك.. التعليق من التلابيب أو من الأطراف.. حسب الظروف والرغبة.. هما الآن بين السماء والأرض.. لا مجال ها هنا للمحاسبة والعتاب.. عليهما أن يهبطا إلى واحة سلام وحب.. إلى سفح اطمئنان وسكون ونجاة من النار والسجن.. إلى ملح شافٍ للوجف والرجف والارتعاش.. لماذا الهبوط جنة، والأسفل راحة، والتراب نعمة نسفها كما نسف الكسبر المرحي الحلو؟!.

الهواء رغم الدخان والنار يغني.. كائنات نسيمه ترقص.. أطفال طراوته تلعب مع الفقاعات المرسلة من أزهار التراب.. الدخان المتصاعد من أسفل تتم معالجته سريعا عبر مصافي الرياح الضخمة.. وتحويل كربونه وسمومه الخانقة إلى رصاص كتابة ورسم.. وفحم وقود.. وشموع إضاءة تنتج الضوء الأكحل.. الشمس تساعد الهواء.. تفنى النفايات بنارها ونورها.. المظلة تتأرجح وتسمع ما يتحدث به الهواء وتترك نفسها له.. يحملها إلى الأمان.. الهواء أدرى بهذه البلاد.. فهو الداخل إلى أنوفها.. الخارج منها.. المشعل نارها.. المطفئها.. المنظفها من القاذورات.. المطبب رئاتها المعطوبة بترياق الندى.

هنا في بنغازي أثناء الحرب.. المدينة متداولة في الاحتلال بين الدول الأجنبية المتحاربة.. السكان والمؤسسات الدينية وغيرها تداول ولاءاتها مع المنتصر.. تصفق للمنتصر.. تتنكر للمهزوم.. من ينسحب منها تنساه ومن يفتح أبوابها ويدخلها تنقش اسمه على حجر الملح.. من يحترمها ويتواضع ويتبسط أمامها تجعله روحها.. ومن يتغطرس عليها ويتكبر تتجاوزه وتنساه وتقول له: «مارينا غير عظيماتك على الكسكسو».. آه من بنغازي مجنونة البحر.. آه من التاريخ آه آه.. والانحياز للمنتصر في الحرب غير المشتركة فيها، هو وبكل موضوعية أمر مفروض عليها.. فالمنتصر دائما يفرض شروطه، ويشكل ظروفه بالحديد والنار، وبهذا الموقف سأعتبرها واقفة على الحياد.. الفائز سنقف معه، ولنعتبر أنفسنا في هذه الحرب متفرجين ليس إلا.. رغم كل ما نلاقيه من دمار وموت وتفتيت لملح بنيتنا الأزلية.. فالنار تحرق ما يصلها.. لا تقرأ جنسه أو لونه أو طائفته أو دينه.. النار تحتاج إلى وقود.. ووقود النار هو أي شيء.. حتى الماء تستطيع أن تحرقه وتأكل بخاره.. وحرق المياه من أبشع الجرائم التي ترتكبها النار في حق الحياة.. فالدخان يمكننا قتله وكتمه.. لكن البخار يتحول دائما إلى مطر.. والمطر القادم من النار يثقب مظلتنا ويغرقنا.. ولا قارب ولا طوف يبحر في ماء النار.. كل شيء يذوب.. ينصهر.. يسيل كالهُلام.. يكبر الألم المذاب.. يتجبّل.. يُرَى كقمة من دم.. ينفجر مرارا ولا يتوقف أبدا.

الهواء يدفع المظلة إلى حيث الأمان.. يسمع كلام بشر يبتعد عنه.. موسيقى حلوة يقترب منها.. لكن عندما يصاحبها غناء من حنجرة بشرية خمّنوا ماذا يفعل هذا الحُر؟!.. لقد ابتعد.. الجاذبية تجذب والسماء تقاوم.. والموسيقى ترحب بطالبي اللجوء والنجدة واللذة كمان.. الموسيقى تمنح الأمان للأذن.. توشوش الأذن بسكر الصوت.. فترتخي بقية عضلات هذا المُر وتسترخى وتمنح ثقتها فلا تتصلب أو تقاوم نداء الموسيقى البهيج.. الثقة في الموسيقى أشف أنواع الثقة.. شفافية واثقة من نقائها.. الموسيقى كما تقول الاكليشيهات الجاهزة المتفق عليها من قبل الأغلبية هي لغة أو خبز الروح.

لم تبتعد المظلة عن الميناء وبحثت عن أقرب نقطة آمنة.. لم تهبط فوق مئذنة مسجد أو قبة مُصلى أو زاوية صوفية.. هذه المعالم الإسلامية معرضة ومغرية للقصف.. المتحاربون نصارى وأكثرهم مازالت لديه عقدة الحروب الصليبية.. الآن جرس الكاتدرائية يدق دقاته المعتادة.. ينادى على العباد المسيحيين للقدوم للصلاة وتكفير الأخطاء والاعتراف لغسل الروح وبدء صفحة جديدة.. يرن مرسلا نغماته النحاسية إلى الهواء ليتحول صداها إلى ذبذبات سلام هوائية.. تبحث عن الخوف والهلع والنار وحينما تجدها تغسلها بتراتيل المسيح الأرضية.. النغمات النحاسية ترتقي سماء بنغازي المدخّنة باحثة عن أي شيء محتاج إليها.. الراهب يدق الجرس دقاته المعتادة ويتأمل السماء ويدعو مسيح السلام أن يحل السلام على هذه البقعة المالحة اللذيذة.. هذه المدينة الشرمولية التي ولد فيها لأبٍ وأمٍ لا يعرفهما لكن الناس تعرفهما.. لقد ماتا أثناء هذا القصف بالذات.. هذا القصف الذي فر منه من طفولته إلى رجولته إلى كهولته وشيخوخته ليقوم بواجب ما.. واجب يقتل فيه التاريخ ويحرقه ويضع رماده في مستوعبة اسطوانية في حجم عقلة الإصبع.. يشير بها للأغبياء والغافلين والعنجهيين والطغاة والمستبدين غير المؤمنين بصولة التاريخ متى رغب.

الطيار قذف قنابله على المنارة لكن المنارة الرشيقة وكأنها تفادت الضربة ومالت كنخلة صوب الداخل والخارج فمرت الشظايا المشتعلة واللهوب الخبيثة بين سعفها لتصب حممها على البيوت المجاورة في شارع بوخمسين.. لتقتل أب وأم هذا الطفل.. الرجل الإيطالي الذي مات مباشرة و المرأة المالطية التي فجعت في زوجها وجرحت جرحا بليغا في رأسها.. حاولت إنقاذ صغيرها فتحاملت على نفسها وركضت به بحرارة الروح إلى أقرب ضوء وهو ضوء المنارة.. لعلها تجد قربه أحدا يساعدها.. لم تجد إلا هذه الأسرة البنغازية البسيطة.. أسرة بريدان وربيعة.. لفظت أنفاسها قربها وتسلما منها الرضيع.. كان الرضيع يلقم ثديها رغم الجراح وآلام الاحتضار.. رفعته ربيعة من ثدي الموت ومنحته ثدي الحياة.. ثديها المرتجف من أصوات الانفجارات والنيران المتصاعدة مع البيوت والعشش والأكواخ القليلة المتناثرة فوق سبخة هذه المدينة مكوّنة شوارعها وزنقها وميادينها.. النيران تحرق البيوت البنغازية وترتقي معها محدثة هدير كهدير موج بحر الشابي المواجه للمنارة.. صوت النار وهي تحرق شبيه بصوت الأمواج وهي تلطم صخور الشاطئ أو تنفش على الرمل.. الصوت واحد والحرارة مختلفة.. الأمواج تلعب.. النار تقتل.. قامت ربيعة بالواجب.. أرسلت زوجها إلى أقاربها في قرية دريانة فقدموا سريعا بالخيرات و أقاموا عزاء لهذه العائلة المسيحية الجارة التي راحت جرّاء تلك الحرب المجنونة.. تمّ دفن الأب والأم بطريقة لائقة ووفق تقاليد وطقوس المسيحية.. صراخ الرضيع يصخب مع خمود المنارة ويهدأ إذ تضيء.. لا يكترث للأضواء الرهيبة التي تحدثها الانفجارات.. لا يهمه سوى ضوء المنارة ونور القمر وأشعة الشمس خاصة في فترة الضحوية.. عرفت ربيعة أن هذا الطفل لا يرضع إلا مع النور.. وأسعدها هذا الفأل الحسن.. كان الرضيع أبيض محمر منمش وشعره أشقر.. أرضعته أياما مع طفلها حتى اطمأنت عليه ثم حملته إلى قسيس الكاتدرائية الإيطالي فقال لها:

هذا الولد منّا وعمّده ومنحه اسم ماركو.
قال لربيعة: بإمكانك الاعتناء به وإرضاعه.

قبل أن تغادر الكاتدرائية أخبرها بحقها في إعانة مالية تستلمها منه شهريا مع ملابس لها وللطفل ولطفلها الليبي أيضا.. بعد عامين استلمت الكاتدرائية منها الولد ماركو لتعتني به الراهبات الخلاسيات.

لم يعرف هذا الراهب أي بلد غير ليبيا ولم يعرف أي مدينة غير بنغازي.. لقد تربى في شوارع فياتارينو وقصر حمد والعقيب والشويخات وسبح في بحر الكبترانية وجليانة.. لعب ودرس مع أطفال بنغازي.. أكل الشوربة والبراك والعصبان والأرز والكسكسو والقلايا والحرايمي والطاجين والفلفل المحشي والبطاطا المبطنة والفاصوليا بالكرشة والمسيّر الحار والخبزة والتن بالهريسة الوطنية، وأفطر على السفنز، واحتسى السحلب، ورشف القهوة العربية بمزاج، ولعب كرة القدم مع الأولاد في ملعب السبخة.. فعل كل ما يفعله أولاد بنغازي.. زرد معهم إلى الجخ واللثامة وعين زيانة والباكور والحمدة حيث جرب معهم مسافدة الحمير واحتساء خمر القرابة.. زار معهم أيضا مواخير بنغازي لممارسة القليل من الرذيلة، وحضر معهم حفلات المرسكاوي التى أحياها أروع مطربي بنغازي عليويكة ورافقهم أيضا إلى بر سلوق وبنينة والكويفية لحضور حفلات الكشك ورؤية مؤخرات الحجّالات وهي ترتج مثل ليّة حوليّة مدوشنة ويشتد الارتجاج ويصل قمة ذروته مع اشتداد أنغام التصفيق والصراخ.. يتكلم ليبي بلهجة بنغازية ويتكلم طلياني وانجليزى وألماني ومالطي ويوناني واسباني وفرنسي وتركي.

يعرف أيضا الكتابة بالعربي ويحفظ من القرآن، ويؤمن به ويقدّسه مثل الإنجيل بالضبط.. يعرف يهود هذه المدينة ويصادقهم ويعرف عن دينهم الكثير.. تعلم داخل الكاتدرائية وخارجها وتعلم من الحياة أكثر مما تعلمه من الوعاظ والمدرسين والراهبات.. كل ذكور هذه المدينة اعتبرهم آباءه وكل إناثها اعتبرهن أمهاته.. أما حبيباته فكل عرائس هذه المدينة من أديانها الثلاث.. لقد كان جميلا جدا.. مثل جمال القديسين الذين قرأنا عنهم في الكتب.. من رأته تعلقت به.. وبترت بصل روحها.. لكن اللوطيين المشهورين في هذه المدينة لم يستطيعوا الاقتراب منه لأنه بالمفهوم البنغازي (ذكير).. أي أنه رجل يستطيع أن يدافع عن مؤخرته إلى حد الموت، ويقتل كل من ينوي له الخيانة.. حتى الشواذ داخل الكاتدرائية من رهبان وقساوسة لم يمسوه بسوء.. كان نور مؤثر يشع من عينيه.. نور به موسيقى رضعها من ربيعة الأم الليبية الأصيلة.. هذا النور الحليبي يدخل إلى أحاسيس القلب فيغيّرها من النيّة السيئة إلى النيّة الطيبة.. كان هذا الراهب رجلا صالحا عطوفا محبا.. عندما يدق الجرس تصير السماء أغنية شاسعة يسمع سحرها وترانيمها حتى الصم.. السحاب تراه يتراقص.. يرسم لوحات جميلة والمطر يغيّر من مسارات سقوطه صانعا أشكالا موحية ساحرة كما النوافير، ومرشات العطر، ونفاثات الحيتان العنبرية، وبقبقات الجرّة والشلالات الجبلية المنبجسة من قسوة الجبال ومعاركها السفلوية.

المظلة تهبط وموسيقى جرس الكنيسة تجذب الخوف إليها لتمنحه الأمان.. الآن قاربت المظلة أن تصل إلى الأرض.. لكنها فضلت التعلق بموسيقى الجرس على أن تتعفر بالتراب.. تعلقت المظلة بقبعة الجرس، واستيقظ الطيار من شبه غيبوبته، ليمسك بعصا الجرس ويرفع رجليه معدلا نفسه ومنقذها من سقوط غير آمن على الأرض.. صار جالسا على حافة النافذة المعلق بها الجرس.. تعلوه مظلته وخيوطها المتشابكة.. توقف الجرس عن الرنين رغم التحريك العنيف للراهب بواسطة عصاته الطويلة.. فنقص الرنات سيحدث نقصا في المصلين.. صعد الراهب عبر السلالم ليرى ما الذي أوقف الجرس عن الرنين.. وجد الطيار الجريح ومظلته ووجد الطيار أن الذي صعد له ملاك جميل.. شعر بالأمان والنجاة و الأُنس.. أعاد مسدسه إلى جرابه.. لملم المظلة ولفها وهبطا معا عبر السلالم إلى تحت.. إلى قلب الكاتدرائية.. قابلا الأسقف.. فمنحه الأمان.

قال له الدين لم ولن يدخل الحرب.. وأنت هنا لن يمسّك أحد.. تخرج إلى الخارج فأنت مسؤول عن نفسك.. ابق حتى تتعافى من جراحك.. وتحط الحرب أوزارها.. هي لن تطول فعمر النار والدخان والدم قصير جدا.. بعدها بإمكانك البقاء هنا لعبادة الله وترك الجيش أو العودة إلى جيشك أو إلى أي مكان تريد.. نحن هنا في خدمة الرب.. والرب يأمرنا أن نمنحك الأمان والغذاء والعلاج لأنك روح إنسانية مقدسة زجّوا بها في أتون قذر لا ينتج الانتصارات وأية انتصارات سيجلبها القتل والتدمير و الفظائع التي يستحي من فعلها الشيطان.. أيها الولد الذي استضافه جرسنا.. حنجرة معبدنا.. نداء صلاتنا.. سأتركك الآن ترتاح في هذه الغرفة وليباركك الرب ويحفظك.

رأسي ناقوس يبحث عن مسرح يتعلق في ناحية منه.. يهزني الجمهور.. يدقني الجمهور.. رأسي من نحاس.. مدقتي من نحاس.. صوتي من رنين.. رنيني صلاة للصغار.. الرضيع الصغير عندما يسمع رنين الناقوس تتفتح شهيته لرضع الحليب ويبدأ في المص.. مع كل رنة يمتص الحليب الممزوج بالموسيقى.. تنتهي الرنات.. يرتوي ويتجشأ بينما مرضعته الليبية ربيعة تعيد ثديها الباذخ إلى مكانه تحت قبة المشد.. ترفع ياقتي فستانها.. تستر نهر نهديها بجذب السحّاب إلى أعلى ثم تسدل شالها المورد على صدرها وتقول الحمد الله الوليد شبع سأهدهد ماركو الآن حتى ينام..

تغني له صحبة الهدهدة:
طيبْ ارطيّبْ طيبْ ارطوبة..
يكبرْ يركبْ ع الميدوبة..
يصيّدْ ويجيبْ جلوبة..
والعبد ايهجّرْ مركوبة..
والخادمْ تغسل له ثوبه..
طيبْ ارطيّبْ طيبْ ارطوبة

كما علمنا الرضيع يتيم.. مات أبوه وأمه في الغارة الجوية التي نفذها الطيار العالق بجرس الكنيسة.. الذي كانه والذي يكونه والذي سنكونه أو ستكونه.. أبوه إيطالي وأمه مالطية.. كيف التقيا وتزوجا لا أدري.. إنها الحياة.. يهمنى الرضيع الصغير.. الذي يرضع الآن من الحليب الليبي الأصيل.. يرضع التمر والزيتون والملح والعنب والقعمول وكمأ الأرض.. المرضعة ربيعة بدوية من دريانة.. المدينة المسماة على الأمبراطور الروماني الشهير آدريان.. عندما بدأ القصف أدخلا الطفل إلى الملجأ وخرجا إلى الأعلى ليجلبا بقية مستلزماته وبعض الماء.. لقد ضرب الطيار الباخرة الراسية في الميناء ثم أخذ انعطافة واسعة رغم إصابة ذيل طائرته ورمى قذيفة أخرى على شيء يومض ظنه دفاعات أرضية وما هو إلا منارة سيدي خريبيش مرشدة السفن لبر الأمان، وسميرة ليل هذه المملوحة.. هذه القذيفة لم تصب هدفها وأصابت جدار الجامع الملاصق للملجأ لتحرق بشظاياها كل موجود خارج الملجأ.. وكانت إصابتا الأب الإيطالي والأم المالطية خطيرتين.. الأب مات في الحال بينما الأم تحاملت على نفسها، وحاولت النجاة مع رضيعها بعد أن أصيب الملجأ بالدمار.. لم تجد قرب المنارة الإسعافات الأولية، فنزفت بشدة حتى فارقت الحياة.. قبل أن تفارق نهائيا اللحظة المدهشة المسماة بالحياة، تأملت عيني جارتها ربيعة، وعيني رضيعها ثم ابتسمت وأسلمت الروح.

لا ندري من استلم الروح منها وتركها.. لم نصل إلى درجة رؤية الملائكة.. إيماننا مازال ضعيفا وعبادتنا متعثرة.. الإبداع يغوينا كي نفكر ويستدرجنا إلى أنوار مقدسة.. نظنها قريبة.. لكنها بعيدة.. هي مثل السرّاب في الصحراء.. غير أنّ السراب ماء مزيف.. بينما الأنوار المستدرجين لها ماء مخلوط بقليل من الحبر.. الماء نسكبه للمستسلمين كي ينتعشوا بينما الحبر ننقش به ونواصل طريقنا. أسلمت الروح فأخرجت ربيعة ثدي روحها وألقمته للطفل اليتيم.. سريعا ما ألف ثدي ربيعة.. لم يفرق بين ثدي ربيعة القمحي اللون وبين ثدي أمه المالطية الأحمر.. الحليب أبيض في كلا الثديين وفي كل الأثداء البشرية والحيوانية.. لا أدري لماذا الدم أحمر والحليب أبيض.. سأبحث عن هذه الإجابة وإن وجدتها فسوف أهديها لحبيبتي.. أين حبيبتي الآن؟.. لقد وجدت الهدية ولم أجدها.. سأرمى بالهدية في الهواء.. وعندما أجد الحبيبة التقطها.. هذا إن نجت من السرقة أو العبث.

لم أتمكن في يوم من الأيام من الجمع بين هدية وحبيبة.. إن وجدت الأولى ضاعت الثانية وإن وجدت الثانية ضاعت الأولى.. وإن وجدتهما معا ضعت أنا.. الهدية ليست عملة معدنية.. وحبيبتي ليست عملة معدنية.. أنا ضائع الآن.. ضائع ومعلق في مظلة.. سأرمي نفسي في الهواء.. وليربح من يراهن على وجه من وجوهي.. سقوطي وشيك.. طائرتي انفجرت.. فجرتها صواريخ الملل.. الكلمات ترفعنى الآن إلى أعلى.. تلعب بي كما يلعب اللاعب بالكرة.. الكلمات تركلني.. تقذف بي في شباك مظلمة.. لا أشعر أننى انتصرت.. لا أشعر أنني هُزمت.. ألعب مباراة وهمية.. أنا فيها الكرة.. الكرة في ملعبي وأنا كسيح.. الكرة في ملعبك وأرجلك أخطبوط.. في الصغر كانت لدي كرة صغيرة.. بحجم القبضة.. أرميها إلى الجدار فتعود إلي.. أرميها في حفرة وأخرجها.. لم تضِعْ كرة طفولتي أبدا.. أثناء القصف كانت بجانب مهدي الدافئ.. عندما انتشلتني أمي من النيران كنت قابضا عليها.. كانت أمي تنزف فأخذتها من يدي ودفنتها في جرح جبينها.. امتصت كرتي من الدم كفايتها.. لكن الدم غلبها.. أغرقها.. البارود العالق في الجرح سممها.. خنق نعومتها.. بعثر مرح نطها.. جفف زيت زحفها.. شلّ نسيجها.. هرّّاها كما لحم أبي المتفتت المحترق.

أبي لم يقتله العرب الليبيون.. اللي اقتلوه أبناء جلدته.. ترك لهم أوروبا وعاش سعيدا في رباية الذايح فلحقوا به إلى هنا.. وقصفوه بالنار من أعلى.. حيث كان يتطلع إلى السماء وفي يده قميصه الأبيض المرسوم عليه صليب عيسي.. يلوّح به لهم ليثقوا به وليعرفوا أن هذه الجلوة سكنية وليست عسكرية.. يسكنها جيرانه الطيبين الذين أكل معهم عيشا وملحا وشاركهم الحلوة والمرّة.. لكن الطيار رأى المنارة.. رأى الومض الحزين.. المتناغم.. الغامس نوره في بلورات الملح المبللة.. فأهداه قنبلته.. قال الطيّار ظننته طلقات نار تطاردني.. ظننت المنارة عدوّتي.. قالوا لنا اضربوا الضوء اقصفوا الضوء دمّروا الضوء و لا تعودوا إلى قواعدكم سالمين إلا بعد أن تصنعوا الظلام في عز الظهيرة.

الآن أنا لاجئ داخل كاتدرائية.. إن خرجت قبضوا علي وإن بقيت داخلها فسأعيش كما تريد الكاتدرائية.. سألتزم بضوابطها ونظمها وناموسها.. ينبغي علي أن أصلي الصلوات كلها.. أن استمع إلى رنين الجرس.. أن أتناول طعاما معينا كالذي يتناوله الرهبان والقساوسة.. أشعر أنني في معسكر مسيحي.. لباس موحد.. طعام موحد.. تراتيل موحدة.. صلاة موحدة.. رنين جرس موحد.. ساعات نوم موحدة.. صليب موحد.. يا للتعاسة.. إنها الرتابة.. إنه الملل.. سأخرج من الكاتدرائية على مسئوليتي.. لن أطيق نمط العيش فيها.. سأتخفى ولن يعرفني أحد.. سأرتدي زي هذا البلد.. بدلة عربية وفرملة وشنة حمراء تحتها معرقة بيضاء وجرد أبيض سأتعلم حتما كيفية التنقب به.. في جيبي بعض ليرات الذهب.. وبعض العملة الورقية.. وبنغازي رخيصة.. وكريمة.. ومربية للذائح والغريب.. ستربيني بملحها حتى استريح وأجد طريقة أعود بها إلى أهلي وإلى خطيبتي التي نمت معها ليلة كاملة قبل يوم من التحاقي بالمعسكر للقيام بهذه المهام الانتحارية.. قالت لي خطيبتي ستعود.. الذي تركته في رحمي سيعيدك لي سالما.. سيحفظك ثغاؤه في عالم الظلمات من كل سوء.. قاتل الأعداء ببأس وشجاعة.. و فعلا قاتلت الأعداء ودمرت سفينتهم لكن قصفت أيضا يا للعار أهدافا بريئة: مدنيين مسالمين.. يتمت أسر.. رملت عرائس في عز الشباب.. أحرقت أشجارا وورودا وهدمت المباني البسيطة المكللة بالحب.. لقد انتجت في هذه الغارة أنهارا من الدموع ومحيطات من الوجع والحسرة والأنين.. إنه خطأ.. إنها المنارة التي أغوتني.. غمزت لي بقنديلها فأجبتها بعين النار.. هي تدعوني للزيارة.. للهبوط.. للمكوث قربها.. لإرسال بريدي إليك يا حبيبتي عبر ومضها المتمهل النقي.

المنارة شمس الليل.. عمامة البحر.. رمز المدينة ومؤنستها.. في الظلام الدامس لا شيء يُرى سوى المنارة.. تراها من بعيد ومن قريب ومن كل أركان المدينة.. تراها وهي بالمقابل تراك وترعاك وتحبك وتهواك إن عانقتها في الخيال.

حبيبتي منارة والبحر لا أركبه إلا بإذنها والطائرة لا أركبها إلا بإذنها.. لا أركب شيئا حتى أنتِ يا حبيبتي إلا بإذنها.. حبيبتي منارة بنغازي.. ملح روحي المضيء.. الآن سعادتي لا توصف لأن حبيبتي تنتج الضوء.. تبتسم به على دفعات تفصلها برهات زمنية ثابتة.. للمنارة جذور في الأرض.. وضوء في السماء.. ومطر معلق في سحاب حزين.. وهي متواضعة.. تؤدي لعبتها منذ أن تغرب الشمس.. تلعب بلا ملل حتى يطل الفجر ويغسلها بقطراته وجحيمه الأحمر المنعش اللذيذ.. ويطلب منها ان تذهب لترتاح.. فالنهار على وشك وها هي الشمس تشرق وترسل الدفء والنور والعرفان للمضيئين والمضيئات.

لا أطيق البقاء في الكاتدرائية.. أنا طيار.. البقاء من دون تحليق ولو على قدمي في الشوارع يقتلني.. يسبب لي الكآبة.. أحب السماء والسحاب والفضاء الشاسع الذي أمارس فيه ألعابي الانطلاقية. فلأخطط للخروج من الكاتدرائية من دون أن ألفت أنظار العسس والعيون.. أخرج وأذوب في زحام بنغازي.. سأعتبر نفسي بلورة ملح هطلت على شرمولة المدينة فنكّهتها وجعلتها شهية.. سأشتغل في حرف متعبة ويدوية.. حتى أتمكن من تدبير أموري ومغادرة البلاد في أمان لجلب حبيبتي إلى هنا.. إلى ليبيا.. هذه البلاد التي أحببتها.. وجبتي الوطنية اليومية.. أردد اسمها في فمي.. أسمع ألمها.. أسمع من عين سرّتها حكايات الكحل والدم و الملح و الحليب وحكايات الأسطورة والواقع والشمس المشرقة.. السرّة هي حكّاءة المدن.. فمن سرّة القرية تأسست المدينة.. وازدهرت وعاشت حياة لا يمكننى الحكم عليها الا بكلمة طيبة.

سماء بنغازي لم ترسلني إلى الجحيم ومنحتني فرصة فعلقت حياتي في جرس أثناء رنينه.. أوقفتُ رنين الجرس فوقف مشروع موتي.. الأذن تبكي.. الموسيقى قالت لها لا تبكِ.. لقد أنقذنا حياة إنسان.. الروح أقدس من النداء إلى الصلاة.. اقدس من الوقوف إلى العلم وترديد نشيد البلاد.. الجرس يحرس الساقطين من السماء.. يلاقيهم ويحتضنهم ويوفر لهم الغذاء والمأوى و الأمن.. الموسيقى تتجول عبر الرياح في فضاء بنغازي باحثة عن محتاجين.. تتصدق عليهم بذهب النسيم وتواسيهم بملح الصبر وتعدهم أن تعود كلما شعرت أرواحهم بصهد الحياة الملوث.

جرس يرن أنقذ حياتي.. وحياتي لم تنقذ أحدا في بنغازي.. أنا قاتل.. قاتل جبان.. قصفت المنارة.. وقتلت المدنيين.. اعترف أن هذا خطأ وطمع مني في الحصول على ترقيات وأوسمة.. أبيع دم الليبيين لتجار المجد.. ظننت ومض المنارة دفاعات جوية.. لكن كان ذيلي يحترق.. ومن يحترق ذيله يتحالف حتى مع الشيطان.. لكن عزرائيل ملائكة وليس شيطانا.. آه أتألم الآن وجوديا وفكريا وقلبيا ونفسيا وجسديا.. ذيلي يحترق.. مقودي الطائر يحترق.. أنا معذور.. لكن في قرارة نفسي عندما ارتفع عن الأرض اتحول إلى قاتل.. أرى نفسي ملكا.. أرى كل شيء تحتي صغير.. أشتهي سحقه ودكه بالقنابل.. قالوا لنا دمروا أي هدف يتحرك تحتكم أو يضيء.. نحن ننفذ أوامر يا سيادة القسيس.. أنا أعترف بالفضائع.. كل يوم أعترف.. لكن قلبي مازال يؤنبني ويحتقرني ويصرخ في: أنت ليس نبيلا.. لن نرضى عنك.. لكن قلبي قطعة مني.. أعرفه جيدا.. لن أعير تداعياته أي اهتمام.. الذي يتبع القلب يتعب.. يضيع.. يجد نفسه يقلي في طاجين قلاية.. هذه حرب.. القتل فيها شيء طبيعي مشروع.. وما فعلته شيء طبيعي مشروع.. سأظل اعترف بخطايا قصفي للمساكن المجاورة للمنارة كل يوم.. قال له القسيس قبلنا اعترافك وأنت الآن نقي فعش حياتك وتمتع بها وضميرك الآن صار شفافا لا دم فيه.. لقد مات أناس كثر.. لا تقتل نفسك بالهم و اخرج من هنا في خيالك إلى حانة الريفيرا احتسي بعض الكؤوس وحلق في سماء الدنيا من جديد من دون أن تقذف الناس وتقتلهم وإن فكرت أو أحببت أن تقذفهم فافعل ذلك بالماء والورد والسلام.

وقرعا كأسي النبيذ في بعضهما وسكباها في الجوفين.. جوف المعترف وجوف القسيس.

قال له القسيس: أنت روح طاهرة الآن.

ذات ليلة وعند آذان الفجر خرج من الكاتدرائية وشق طريقه عبر الشوارع إلى الفندق البلدي.. ربع ساعة راجلا بخطوة نشطة كان هناك.. يحتسي قهوته في مقهى العاشق ويستمع إلى الأخبار من الراديو الكبير المثبت على الرف.. الحرب وضعت أوزارها.. والإتفاقيات وقعت.. والبلاد الآن غادرتها الجيوش المتحاربة.. المنتصرة والمهزومة.. فيما عدا بعض القواعد العسكرية المنتشرة في عدة مدن ليبية هامة.. ليس هناك خطورة الآن من خروجه.. حكام البلاد الجدد ليبيون.. علاقتهم جيدة مع الكنيسة.. وهو بملابسه الكهنوتية لاقى التبجيل والإحترام.. قدمت له القهوة مجانا.. ومرّ سنفاز على رأسه طست مملوء بالسفنز الساخن جثى أمامه على ركبتيه وأعطاه سفنزتين إحداهما بالدحي (البيض).. ورفض بإلحاح تقاضي الثمن.

لقد كانت البلاد سعيدة.. وآمنة والجميع يتسابق على إزالة آثار الدمار وبدء التعمير، خاصة بعد أن أثبت الخبراء الأجانب أن النفط في باطن الأرض موجود بالهبل وكلها بضعة شهور وسوف يتدفق ليعم بخيره رغم سواده على جميع أبناء الوطن.طلب قهوة أخرى وأشعل سيجارة ودردش مع النادل سأله عن المواصلات إلى مصراتة وطرابلس والاسكندرية فدلّه على وكالة لنقل الركاب.. وسرعان ما ازدحم المقهى بالزبائن القادمين من البر والمستيقظين توا من الشوارع القريبة من الفندق البلدي أو القادمين من أحياء بنغازي الأخرى.. سيدي حسين.. رأس عبيدة.. البركة.. السبالة.. الكيش.. الصابري بأقسامه الثلاثة سوق احداش.. دكاكين حميد.. الزريرعية.. وحتى القادمين من منطقة اللثامة والكويفية.

صار المقهى حياة تنبض.. رائحة القهوة أختلطت برائحة الناس.. برائحة السجائر.. برائحة الكلمات التي نرشف حلاوتها الآن.. بضجيج الأكواب والسفر والفناجين.. بأخبار وأغاني وبرامج المذياع الصباحية.. بنداءات الباعة على سلعهم البسيطة.. بصهيل الخيول ونهيق الحمير وزقزقة الطيور المختلفة الرابضة على شجيرات النم والدفلي والهابطة على كل فتاتة خبز أو حبة قصب تلوح على الأديم.. بأصوات السيارات والحافلات وبوق القطار الزاعق القادم الآن من قرية سلوق أو من مدينة المرج مارا على الأبيار.

كل روائح الحياة هذه مختلطة بخضروات وفواكه الفندق البلدي الواقع خلف مقهى العاشق.. روائح الخضروات والفواكه الطازجة تصل إلى المقهى عبر نافذة صغيرة خلف معد الطلبات بالضبط.. نافذة صغيرة ضيقة غير مقضبة تدخل نور الشمس ونور روائح النباتات الحيّة.. تقول النافذة كلما ضاقت النوافذ اشتدت الرائحة وكلما اتسعت تشتت وابتعدت عن الأنوف.

في هذا المقهى شعر أنه قد ولد من جديد.. أوقاتا طويلة قضاها داخل الكاتدرائية عبد ودرس ونام وسار وفق منهج معين.. تعود عليه وتقبله لأنه لم يختره برغبته.. القدر من اختار له ذلك.. والآن وجوده في هذا المقعد أيضا القدر من اختاره له.. لكن بعد القهوة الثالثة والسيجارة الخامسة قرر أن يحرّك هذا القدر.. أن يزحزحه قليلا من فوق نار الاستسلام.. أن يشق طريق حياته.. أن يصيغ شيئا جديدا مستفيدا من معرفته المعتبرة التي تلقاها داخل الكاتدرائية.. لقد رأي في الخارج عالما مختلفا.. عالما حيا واقعيا.. دينه مدينة بأسرها وليس مربع بناء جميل مقفل.. وجد مدينة تفوح بعطر الملح اللاذع والشافي والمجفف للألم.. مدينة مفتوحة.. متسامحة.. بحرها طويل.. وسماؤها زرقاء تمطر.. تمطر الماء والدفء والحب الذي لا تدري كيف هدهد روحك.

قضى نصف نهاره في المقهى.. يتركه قليلا ليتجوّل داخل سوق الفندق البلدي.. أو في الشوارع الواقعة أمامه.. اشترى سجائر ووقيد شمعة يشتعل بخطه على أية صلابة.. فطر صحن فاصوليا بالكرشة مع المسيّر وخبز الشعير في مطعم قريتشا.. تجول في المنطقة المحيطة حيث المواخير التي يتزاحم عليها البدو والبنغازيين.. يصنعون أمامها طوابير مبتسمة صاخبة تردد النكات الفاحشة وتهرش أعضاءها المتوعدة فتح عكا المفتوحة ألاف المرات وتنتبه للأبواب التي تفتح ليدخل الرجل الذي يليه.. كانت قحبة فرنساوية جديدة قد باشرت عملها.. قدمت في باخرة مبحرة من جربة.. طويلة ذات وركين مستديرتين كدلاع بنينة شعرها أسود عيناها بلون القسطل وشهوانية إلى أبعد حد حتى أن صوت جضّها يسمع من شاطىء الكبترانية.. كل من دخل إليها عاد إليها في اليوم التالي أو الذي بعده.. ومنهم من جعلها وجبته اليومية التي يتناولها نهارا ومساء.. لم يندم أحد عن مضاجعتها.. تمنح الرجل رجولته كاملة وتفرغ له كل لذائذه التي يتمناها بواسطة ما تقترحه من أوضاع جنسية جديدة لم يألفها زبائن مواخيرنا من قبل.. لا نريد أن نصوّر كيف تفعل ذلك احتراما للرقابة وللذوق وسنختصر ذلك بكلمتين نيك فرنساوي.

رفضت أن يحتكرها واحد لذاته فقط.. رفضت دعوات تجار السوق للسهر معهم في مزارعهم وفيلاتهم في الفويهات والرحبة والمحيشي والبقاء لهم فقط.. رفضت دعوات ضباط الجيش والبوليس.. رفضت أن تبيع نفسها بالمال ليركبها عنين ويسرد عليها بطولاته الوهمية.. فضلت أن تمنح نفسها لفحولة ولعطش هذا الشعب البسيط المسكين.. لا تطلب مالا كثيرا.. المهم الحب الظرافة اللطف القبول والنظافة والكلمة الحلوة وعدم الاستدارة بعد الانتهاء.. ما تكسبه من عملها المرخص هذه تتبرع بمعظمه على الفقراء والفائض منه تضعه في صندوق الولي الصالح سيدي غازي.. صندوقه تحت منارة سيدي خريبيش.. يفتح شقه للضوء ويقفله للظلام.. تزق متبرعاتها في ذاك الشق وتعود إلى العربة التي تنتظرها لتعيدها إلى بيتها.. تغتسل بماء بنغازي المالح.. لا تضيف إليه المنظفات.. فقط ترمي فيه بعض الأعشاب الجافة الواقية من المرض والتي تبتاعها من عطار النجار الشهير في سوق الظلام.

لقد جرّب هذا الراهب حظه مع هذه العاهرة معشوقة الشعب.. أفسح له الليبيون الطريق رغبة في نزع ثوب توبته.. خلع ثوب الكنيسة.. علقه على مقبض الباب ودخل.. سلمها نفسه فداوت جروحه التي لم يداوها الميكركروم والبوماطة.. ذكرته بحبيبته هناك.. تحدث معها فتعلق بها.. مد لها لفافة مال وأراد أن يخرج بها من المستنقع القذر ويبصق على الزبائن المنتضرين.. لكنها رفضت.. سألها عن دينها فقالت له لست مسيحية ولا مسلمة ولا يهودية.. ديني هو حريتي.. ديني أن يركبني كل العالم وأنت قد ركبتني فشكرا لك.. إن أردت العودة فمرحبا بك.. أعادت له نقوده.. وغسلت له عضوه ووجه وعطّرته ثم ألبسته ملابسه الداخلية وسرواله وقميصه وركعت أمامه تلبسه جوربه وحذائه ثم ودعته ببسمة.. آه ما أحلى أن تودعك الحياة ببسمة.. لقد ذكّرته بحبيبته هناك.. هي الأخرى تحترمه هكذا وتقدره هكذا.

خرج وترك ثوب الكهنوت معلقا على مقبض الباب.. لم يأخذه أحد وعندما قضى الجميع وطره أخذته العاهرة ووضعته في صندوقها.. قالت لنفسها سأعتبره ذكرى تجلب البركة.. وسأنتظر ثوب فقيه الجامع إن رمى به جنون الحياة إلى بابي.. أمّا ثوب الخاخام فأمره سهل جدا.. أحب أن أخدم رجال الأديان جميعها.. من العبث أن يمسني أحدهم ولا يمسني الآخرين.. أنا مشاعة للجميع.. أريدهم كلهم.. من خلالي سيفهمون مريديهم.. سيدخلون إلى القلوب من أبواب اللذة.. وأي قلب يقفل بابه ونبضه أمام الملذات.. لا يفعل ذلك إلا القلب الميت.. والقلب الميت هو الشيطان.. سأقفل بابي أمام الشيطان.. الشيطان سيحتكرني لنفسي ليجزئني ويبيعني ويزرع مني في سجون مغلقة.

واصل طريقه متسكعا في شارع بوغولة وبقية الزنق والشوارع المتفرعة منه يستكشف المدينة ويشم هواء بحرها العليل هو مزاجه رائق الآن فاطر مدخن شارب قهوة مضاجع.. يتسكع متمتعا بيومه وصحته وحياته الجديدة.. لا يدري أين سيبيت ليلته.. وماذا سيعمل عندما ينفد ماله هذا.. لم يضيع الوقت وبدأ يبحث عن عمل.. فكر ماذا يقول لهم أنه يجيد.. هو لن يعمل خادما أو عتالا.. هو ضابط.. ويقود طائرة.. فلا يمكن أبدا أن يدفع عربة أمامه أو يحمل أكياس الرملة والمرش على ظهره.. زار مصلحة البريد فاعتذروا له.. زار عدة بنوك فاعتذروا له.. البلدية اعتذرت له القنصلية اليونانية والايطالية وغيرهما اعتذرت له.. كاد أن ييأس ولكنه لمح داخل روحه ثمت أمل لا يكشر.. أخذته الخطوات إلى بحر الشابي القريب من المنارة.. وجد مصطافين شباب هناك.. رأي شبه مشاجرة في الماء.. ثلاثة على واحد.. مثلث مقفل حاد يحيط بريشة.. يحاولون السيطرة عليه وهو يصرخ طالبا النجدة.. لا أحد قريب منه كفاية حتى يتدخل.. هو القريب من المشهد.. وبالرغم من الخطورة فقد جذبته اللهجة البنغازية المستنجدة وقرر أن يتدخل ويقصف الجناة بوابل من لكماته ورفساته التي درسها عمليا في كلية الطيران.. قفز إلى الماء.. مدّ نحوهم بسرعة رهيبة فدنى منهم.. الولد يصرخ والثلاثة ينهشونه بتضييق مثلتهم الذي تشكل في تشكيل الاغتصاب.. واحد يطوق رقبته.. الآخر خلع فرعته ولاح عضوه المنتصب.. الثالث اقفل براحته فم الولد وأعاز للثاني أن يلتصق.

الراهب الغاطس انبثق من تحتهم صرخ فيهم اتركوا الولد! وردّ عليه المتهيأ للمضاجعة ابعد يا نصراني من هنا رانا انيكوك معاه.. لم يعبأ لتهديدهم والتحم بهم بقوة وبعثرهم بسرعة.. صافعا هذا.. راكلا ذاك.. خابشا المتهيأ لفعل المضاجعة في خصيتيه.. خلص الولد الوسيم وعاد به إلى الشاطئ سالما بينما عصابة الثلاثة تصرخ وتتألم وتطلق اللعنات لكنها لا تجروء على المضي خلفه.. تبللت ملابسه والولد الوسيم كانت ملابسه على الشاطىء فقدم له منشفة ليجفف نفسه وشكره كثيرا.. قال له لقد استدرجوني.. واحد منهم تظاهر بالغرق فدخلت إليه ولا أدري من أين خرج الآخران لأجد نفسي بينهم في كماشة.. كادت كعكتي تكسر هذا اليوم يا راهب الرب.. لم أسمع كلام أمي وعصيتها في الخروج للسباحة منفردا في هذا الطقس وفي هذا الوقت الذي ترتاح فيه الناس في بيوتها.. لكن ربي أتي بك إلي لتنقذني أكيد أنت رجل مبارك ورجل سلام وحب كالقديسين والصالحين الذين نقرأ عنهم في الكتب.

تعال معي الآن.. لابد أن أضع ما معي من مال في صندوق سيدي غازي.. تسلقا التبّة وقطعا الطريق الترابي إلى منارة سيدي خريبيش.. دخلا روضة المرابط وأخرج الولد ما في جيبه من قروش زقها في الصندوق مبتسما.. وهما خارجان تقابلا مع العاهرة الفرنسية قادمة إلى المرابط.. تبادلا النظرات والابتسامات وكل مضى في حال سبيله.. رافق الولد إلى بيته وهما خارجان من ساحة المنارة وجدا عربة واقفة.. العرابادجي يدخن والحصان يأكل من علوقه قمحا لذيذا مبللا وهو في حالة سعادة كما يفصح عن ذلك ذيله هاش الذباب والشعران بلطف وأيضا قضيبه نصف المنتصب.. أراد الولد أن يستأجرها لتنقلهم إلى البيت لكن العرابادجي ابتسم له وأشار إلى روضة سيدي غازي يعني بالإشارة أنه مشغول وينتظر زبونا يزور الآن المرابط.

سار معا راجلين يتحدثان وسأله الراهب هل ستبلغ الشرطة عن ما حدث لك فأجاب الولد لا.. هذه المشاكل في مدينتنا نصفيها مع بعض بعيدا عن الشرطة.. لقد قلت لهم طاقتكم والجرّة.. وهم يعرفون جيدا معنى هذه الكلمة.. أنا ذكير وسوف أنتقم لمحاولة مس شرفي من هؤلاء الجبناء الذين هربوا منك ولم يقاوموا رغم أنهم ثلاثة.

تعارفا أكثر وأكثر.. الولد أبوه صاحب كسّارة.. يملك سيارات ضخمة يقودها الرقريق (اليونانيين) دعاه إلى البيت الكائن في ميدان سوق الحشيش ليس بعيدا عن البحر وهناك رحبت به الأم كثيرا و أعطته ملابس عربية سورية وسروال وفرملة وشنة وجرد من ملابس زوجها ناسبت مقاسه تماما.. وفرحت أم الولد القريتلية الجميلة بولدها الذي نجا بإعجوبة، لأن نيتها طيبة وتعمل الخير وتضع البخور والنقود في زاوية علي الوحيشي القريبة.. فرحت بالضيف ومنحته الملابس وأعدّت له وجبة كسكسي بالحوت مع الفلفل الأخضر والسلاطة وبعض البراك والبطاطا المبطنة والفلفل المحشي وأصرت أن يبقى في البيت حتى عودة زوجها من الكسّارة عند المساء.

كلما أكتب شيئا به ملح أشعر بالراحة.. قد أكون صامتا (ناقص ملح).. أو أكون مرتويا من الحلاوة.. أو أكون مريضا وقذرا ومبللا وأحتاج إلى فصد وتطهير ودبغ.. لا أنكر أنني تفتحت على سبخة.. سبخة غير نتنة.. البحر يجددها يوميا.. لا توجد قناة أراها تصل السبخة بالبحر.. بين رأس عبيدة والبحر مناطق الفندق البلدي وجليانة وسيدي حسين والكيش وقاريونس.. لكن في الأسفل أكيد أن البحر يمدها بالكثير من الخير.. سبخة بها ملح وسمك.. ليست غريقة عميقة.. علوها نصف متر تقريبا.. نمشي فيها.. نسبح فيها.. حلاقنا يطل على السبخة.. السبخة موجها صغير.. يلطم زينقوا حلاقنا.. أرى من خلال الثقب موجه ذي الجمة البيضاء وهو يقترب.. واستمتع بهديره وهو يمتزج بخشخشة زينقوا الحديد.. وسعادتي لا توصف عندما تتسرب أثناء لطم الموج إلى الداخل بعض القطيرات التي تشكل داخل حمامنا ومطبخنا غديرا صغيرا.. أرمي فيه سريعا فلوكة ورقية.. تصرخ فيَّ أمي أوراق الكراسة كلها مزقتها وصنعت منها فلايك.. لا أهتم لصراخها.. ماذا أدري.. أعشق الفلايك.. حتى هذا الحين.. لكن السبخة ردمت والغدير الجميل ما عاد يزورنا رغم أن البلاد غارقة والماء وفير.. أشعر أنني دخلت في السياسة قليلا.. سأعود إلى الفلايك.. أعشق فلايك اللحم.. لكن اللحم الجيد غالٍ جدا.. والعاهرة الفرنسية التي تحبنا أختفت في ظروف غامضة.. أفكر أن أبحث عنها أنا الولد أنا الراهب أنا بريدان أنا ربيعة أنا المنارة المكسوة بالغبار والوامضة بالمطر. 

كاتب من ليبيا