تكشف الكاتبة المصرية الشابة في هذه القصة عن موهبة قصصية تحدوها رغبة في بلورة ملامح كتابه الهامش الجديدة في الواقع المصري بجماليات التقشف والقسوة وشظف الكتابة.

البلدة

ياسمين مجدي


(1)

أتلمس الجدران الخاوية من إمضائاتنا "شلة الجوع الكافر. كناريا هيما حودة أقترب من الموت ولا تقترب من هؤلاء". أمسك قلمى وأحاول أن أحفرها هنا من جديد لكن الحائط يتكسر ويسقط جيره الملون بحبر قلمى.

*  *  *

حنان مفاجئ من أبى يقتحم خصلات شعرى, وصديقه الجالس إلى جواره يشق جلبابى بعينيه ثم يعانق ما تحته بيديه. أصرخ وأرى وجه صديق أبى كلمبة الجاز أود لو أبصق فيه فينطفئ ويختفى كل شئ.

ـ والنبى يابابا ... يارب تسعد يا بابا ... بابا بابا ... خلاص بيحرقنى يا بابا ... يا أبويا بلاش بلاش.

أحترق وهم يحملوننى للخارج أول ما أرى من الوجوه أم شاهين تزغرد وتدق على أحد الأطباق المقلوبة.

ـ أعزف يا يحيى وسمعنا .. عالسمسمية ودلعنا... يارب تمم فرحتنا.. أعزف يا يحيى وسمعنا..نفرح ونرقص يا عنيه.

أعيش أياماً سجيناً ـ فوق السرير ـ بين صينية الطعام التى تحملها أم شاهين إلىّ والحريق الذى أشعره ويديها التى تحممنى برفق فى الطبق الكبير مراعية ألا تلمس فخذاى وتحرص وهى تلبسنى ردائى على تعليق الدبوس الحامل للجزء المقطوع منى الملفوف فى قماشة. أحاول دفعها حتى لا تعلقه بجلبابى لكنها تصر وتضعه فأراه يهتز يقشعر جسدى. أبتعد ببصرى فتقع عيناى على الآلة الصدئة بأوتارها المليئة بالتراب الملقاة فوق الدولاب تخرج صفيراً يدفعنى لتخبئه رأسى تحت الوسادة التى ظللت اختبئ تحتها ونحن مطاردون فى عتمة الصحراء نقطع الطريق هرباً لحمام مشترك وفصل بارد.

ـ ربنا يكرمكم بيه ويخليه ليكو...

فى البيت كشفت راسى والمدافع بتاعتى وقلت ربنا يديك اللى فى بالك وينصرك ويثبتك على هذه الأرض المقدسة.

ثم تهز مدافعها التى أستخدمتها فى الدعاء وتضحك النساء كلهن وهن يسألنها:

ـ هو كان بيحارب؟..ده حتة عيل اللى كان بيترجاه.

ـ وماله يا أختى؟

تمضى الأيام  وأنا لا أطيق سماع صوت أم شاهين رغم ذلك أتلصص على حكاياتها عندما أهرب من المدرسة كل أسبوع لألعب كرة يوم الثلاثاء فى الغريب، أو أذهب لسينما مصر يوم الأربعاء فى الأربعين مع شلة الجوع الكافر.. يهتف هيما قائلاً لى هأجوزهالك. أرد بغضب: متتجوزها أنت يا فالح أنا مش هأتجوز فيلم رعب.

ونهرب من وراء بعضنا البعض لنسمع حكايتها المسكونة بصوت البحر عن النداهة حين تخرج من البحر العميق تنادى على الجدع بعيونها الحلوة فيسير وراءها حتى يفيق فى نصف البحر وهى تجذبه بشعورها لأسفل .. فرصته الوحيدة فى النجاة أن ينتبه له أحد المارة وهو فى طريقه إليها فينادى عليه ويوقظه من سحرها.

*  *  *

أدس رأسى تحت الوسادة وأتغاضى عن رائحة البول ـ التى تطفو حولى ـ هرباً من صفير الآلة الصدئة حتى لا يجذبنى ندائها لعمق البحر ... أروح فى النوم ولا أخبر أمى لتصحبنى للحمام حتى تأتي وحدها وتحملنى وتجرى لأن شيئاً كان يدوى فيدفعهم للمخابئ هرباً من السماء التى برقت وأذنت لنا بالرحيل .. سمعت صوت بكاء أم شاهين ونحن نقفز إلى السيارة النصف نقل مع الكثيرين الذين يجرون على الشاحنة لا يبصرون سوى ضوء القنابل وأشباحهم وهم جرحى ومحروقون. فأكتشفنا فى تلك الليلة أن أم شاهين أنكسرت حين فقدت الجزء الثانى من اسمها بسبب ما جلبته السماء تلك الليلة، فرأوها تبكى مولولة أمام مدرسة الآباء الفرنسيسكان، لكنهم لم يلتفتوا لها.

*  *  *

كان الطريق الصحراوى هو بوابة الخروج من البلدة قبل أن يسيطروا عليها تماماً ضمن المدينتين اللتين تحتضنان القناة .. جرجر أبى آلته من فوق الدولاب وأحتضنها فى الشاحنة، وأنا مدسوس بين الوسادة وبين فخذى أمى لتلق بى على الأرض وسط ضجيج الأطفال، وتخلع من أبى آلته الصدئة التى كان يدندن عليها ألحان مدينته، وتدفعها للطريق .. منذ ذلك اليوم كنا نبكى الحمام المشترك فوق رمال ملاعب كرة القدم التى نسكنها .. أُغمض عيناى فى الليل فأرتاح حين أعرف أنه لا يوجد هنا بحر لكنى رغم ذلك أظل أخفى وجهى تحت الوسادة وصوت رنين أوتار الآلة يطاردنى.

*  *  *

أقبع وحيداً إلى أن أتعرف على صبيان المنطقة نلعب فى الشارع كل يوم ... ننسى أشياءنا التى كنا نبكيها ونجرى فى الطرقات الجديدة حتى يقرر آباؤنا فجأة أن نعود فنعود وأنسى وسط فرحتى الوسادة لأجد حين أصل قطنها قد سبقنى تطيره الريح فى الطرقات. أسمع أمى تحكى عن الأغراب الذين امتلأت بهم البلدة، وعن الترس والشعلة اللذان يستقبلاننا على الطريق وقد أكله الصدأ.

*  *  *

منذ عدت من جديد للبلدة وأنا أتلقط قصصها من أفواه الناس وأحاول رغم مشاعرى تجاهها أن أعرف أين ذهبت، أو أجيب على السؤال لماذا حين عدنا لبلدتنا لم تعد أم شاهين التى فقدت النصف الثانى من اسمها؟... يتحقق هربى بعد أعوام حين نحمل أشيائنا فى السيارة النصر 128..ونرحل للعاصمة للشقة الجديدة بعيداً عن الأغراب ... وفى الطريق الصحراوى أسمع صوت أنفاس تتبع السيارة.

*  *  *

أنسى أشياء كثيرة بعد أعوام لكننى بين الحين والحين أتشمم رائحة الزبد الذى كنا نشمه من طهى أم شاهين التى تحرق كيلو سمن بلدى فى الطاجن الفخار عند شرائه حتى يتسرب طعمه إلى كل أكله تطهيها فيه, وأظل فى الكثير من أحلامى أرى نظرة أبى الخاطفة ونحن فى منتصف الطريق لآلة صدئة مسكونة غنت للقنال.

(2)

تلملم قطع البقدونس والأرز الموزعة على الأرض وكلما أنحنت يسقط طرف طرحتها فترفعها .. نتعلق بجلبابها فتناديها أمى لتلحق بها.

أجرى ورائها لعلى ألتقط خيطا من حكاياتها، لكنها تُغلق فى وجهى الباب الذى يخفيها هى وأمى ورائه. تقشعر أذنى من برودة خشب الباب وأنا أتسمع صرخات أمى المنخفضة، وصوت أم شاهين وهى تكركر ... أخبط الباب بقوة ... تنهرنى أمى, أقرفص أمام العتبة وأرفض الرحيل، وأظل أتسمع لأنين أمى التى تخرج بعد دقائق إلى "دورة المياة" وورائها أم شاهين تهمس ضاحكة:

ـ أيوه أنت لسه هنا يا ولا؟!.

*  *  *

فى الليلة التالية سمعت أخبار عن أخى الجديد ورأيت من نافذة حجرتى أمى وهى تعطى لأم شاهين نقود كانت تشخلل فى يديها وهى ماضية بعيداً تجرجر قدميها. أستغل الفرصة فألقى عليها حجراً يصيبها أسفل رقبتها فتتوقف كأنها تريد أن تستدير وتلعننى لكنها تعاود المسير مرة أخرى وهى تجرجر قدميها المنهكتين.

تصبح مع الوقت علامة من علامات أفراح ومآتم تلك المدينة الساحلية. تقتحم النساء وهى تهز مؤخرتها وتزغرد ثم تغنى باللبنانى أوالسورى أواليونانى:

ـ رقص الحصان على دقة قلبنا ورقصنا أحنا كمان...  غنينا لحبنا من فوق ظهر الحصان.

منذ أختارت الخروج من المنزل لأجل نصف اسمها الثانى، وجدناها فى اللقاءات الرسمية تغنى للمحافظ بالإنجليزية ... تقف فى المؤتمر تهتف ثم تطلب منه بالإنجليزية "تى فى".. وفى طريق السائق المحمل بالجهاز ـ الذى طلبته ـ إليها كانت تدور عجلات كلام الناس عن "الشقة فى البرج اللى فى شارع النمسا اللى جابها لها المحافظ طالما إنها طذراع البلد اليمين" و"بتسد فى الإنتخابات وحفلات المسئولين وتشجع فريق الكرة فى الإستاد".

*  *  *

فى الليل تذهب لتغسل غضبها فى أحد الأفراح، تحمل الزهور تلقيها على العرسان تزغرد, تُضيّق بيديها جلبابها الأسود وتقفز، وهى تهز مؤخرتها، فتضحك كل النساء وتصفق وحين لا يتفاعلون معها تهتف:

ـ الأكل كتم على أنفاسكم؟!..متصحصحوا معايا.

*  *  *

ولدت أم شاهين فى بورتوفيق، لم تر غير أمها بعد أن رحل أبيها ـ كما يقول الناس ـ مع قواته الإنجليزية التى كانت تحمى القناة .. ومن يومها تعود أم شاهين إلى بيتهم الصغير القائم فى بورتوفيق كل ليلة بعد أن تكون قد أسكنت بجلبابها أتربة الطرقات ... نسألها عن عمرها فتجيب:

ـ 1938 ... 1939 باين مش فاكرة.

تسرق ليلة العيد بفرحة وهى ترقص مع الأطفال فى الشارع، تقفز لأعلى حاملة ابنها وتغنى فألتف حولها ـ رغم مشاعرى تجاهها ـ حتى يطل زوجها من نافذته فتهز له مؤخرتها مرتين وصدرها، ثم تنسحب وهى تجرى على باب بيتها الذى تظل تجرى عليه كل ليلة حين تنتهى مما وراءها لتصل للصبى الصغير الذى تحمله فى الجزء الثانى من اسمها ... تطعمه بيدها، ثم تلملم ما تبقى وتعطيه للرجل الذى يحمله فى بختها.

تحارب لتحصل على "شنطة بفتة بيضة" ومجموعة أقلام وكراسات .. تلبس القميص الوردى وتنتظره آخر الليل، حين يأتى تخلع عنه قميصه الملئ برائحة الأسمنت والجير، تدلك ظهره، تسرح فى عقله بحكايات الجيران وقصص يومها، تنحنى فى النهاية على أذنه وتهتف بما تريد ... يقبلها كأنه لم يسمع شئ وهو يهمس برقة:

ـ طلعيه من المدرسة.

تغمض عينيها وترحل، فى الصباح الباكر تفتح أبواب البيوت وتقرفص فى جلستها ... تلتف نساء البيوت المجاورة حولها فى أى بيت كانت ... يتحرك لسانها ويديها كل فى اتجاه .. تقطع الطعام .. ترصه .. تلفه .. تقطع الحكايا .. تربطها .. تلفها فى رؤوسهن. يتوقف الليل على عتبات أقدامها حين تفتح باب بيتها وتجرى عليه .. تضع فى يده الكراسة والأقلام، وإلى جواره الشنطة .. يصحو فرحاًَ يقبلها ويذهب مع رفاقه .. تودعه من النافذة وكلما ابتعد رأته يكبر، يصير فى التوجيهيه، ثم الجامعة، ثم تصير وحدها باكية ونحن نقفز للشاحنة.