يمثل الشاعر الراحل سركون بولص علامة فارقة في مشهد الشعرية العربية المعاصرة، وتتناول هذه الدراسة عددا من أعماله، وتسعى لتعميق البحث في مشاغله الشعرية وبنياتها.

في شعرية الراحل سركون بولص

دراسة من ثلاثة مقالات

نصر جميل شعث

أولا: سركون بولص: المعني المختلف بين التبنّي والبنوّة
شاعر في ضوء فانوس.. ضوء في ظلّ شاعر
الشاعر، ما إن حلّ به خرابٌ أو حلّ هو في العمران؛ يَظلّ "يَحمل فانوسًا، يبحث عن شيء ما في الخرابة، أو عن معني، أو عن حماية للمعني وللنافذة من المناخات الزائلة التي لم يَعدّ صالحًا الانجراف معها (لقد خرّبوا الأوزون، تقول الجرائد من أجل هذه السيارات اللعينة).. ربما كان هو المعني: أن تترك المحطات خالية وراءك. ربما كان هو المعني: أن تتعلم كيف تحيا".

هكذا يعبّر الشاعر العراقي الراحل سركون بولص، عن الموقف في قصيدة: "شارة الانبعاث". إذ أمامي، الآن، العدد 27 من فصلية (مشارف) الحيفاوية، والتي استهلتها المحرّرة بأربعة عشر قصيدة (منشورة في ديوانه الأخير الذي يصدر عن "دار الجمل" بألمانيا بعنوان: "عظمة أخري لكلب القبيلة"). القصائد، كلها، تُحرّضُ، بدورها، علي الاستزادة عن المواقف الجمالية والشعرية والمعنوية لدي سركون؛ الوفيّ والصائن لموهبته بفضحها، بعفوية مَن سعي لحرّية القصيدة من الذهن، ومن مظهر النظام. مفسحًا الذري والتضاريس للصور الحسية الرشيقة؛ التي يترافق مع وجودها الاعترافُ بقدرة الشاعر الرائعة علي الإمساك بوجود الشعر في القصيدة. فالحالات التي يكتب تحت تأثيرها الشاعر، وينجح في الإمساك بوجود القصيدة علي الورقة؛ هي حالات شاعر يَتبنّي الجغرافيا في القصائد تبنّيًا يستدعي لقبًا آخر لصيقًا بالشاعر، وهو: السائح أو الرحالة المقبل علي المدن الغربية بنهم من هو هارب من خرابة الشرق والتاريخ، وبإرادة من هو عائد إلي الشرق كلما خصّه ألم، ودعاه عيد أحزانه لأن يعكس مرآة حنينه علي المعني. فيما يمكن أن نعتبره، الآن، افتراقًا، ورفضًا للانجراف، وطردًا لما يلوّث الروحَ العائدة إلي البلاد عودةً مجازية تتبّرأ من أزمنة الآخرين. في الوقت الذي، تَطرد أزمنة الآخرين صوتَ أيامه وحواشيها. هذا ما يقوله سركون بولص في قصيدة «صوت أيامي، أزمنة الآخرين» فنقرأ:

هكذا صارت حياتي أشبه بجغرافيا
لا يمكن تفسيرها
بالمواقع والأماكن، وصوت أيامي
لم يعد قابلاً للتبنّي
من قبل أزمنة الآخرين.

فهنا، نقبض علي مسألة "التبنّي" واضحةً كونها شريكةً خلاقة لتداعيات العناوين والقصائد، نلمح برفقتها "الحاشية"؛ وكلها ستنجح في خلق المعني في حضرة جدليات: المعمورة، الخرابة. الشرق، الغرب. المستقبل كوحوش منطلقة، الماضي كجثة آمنة. إذ تتطوّر، في التوتر الخلاق، علاقةُ الموت بـ "فوبيا" الحاضر والمستقبل.  

رسام في نيويورك
قصيدة: «حديث مع رسام في نيويورك بعد سقوط الأبراج» تمثّل لحظة الحاضر فـ:

لكلّ شيءٍ حدّ، إذا تجاوزتَه انطلقتْ عاصفةُ الأخطاء.
إنها حاشية علي صفحة الحاضر
خطوتها مهيأة لتبقي
"حَفْرًا واضحًا في الحجر".
بينما المستقبل هو «بوابة الجحيم»:
أري إصبع رودان في كل هذا
أراه واقفًا في بوابة الجحيم، ويشير إلي
هوةٍ ستنطلق منها وحوش المستقبل،
هناك حيث انهارَ برجان، وجنت أمريكا.

حيث هناك إشارة يضعها سركون في حاشيةٍ أسفلَ القصيدة؛ يَذكر فيها ـ ويحدّد مكان وجود نسخة منها ـ (بوابة الجحيم، تشير إلي منحوتة كبيرة لرودان بعنوان "بوابة الجحيم". توجد نسخة منها في متحف جامعة ستانفورد، في مدينة بالو ألتو، بولاية كاليفورنيا). وبدورها، أشارت مجلة "مشارف" إلي أنه (شاعر عراقي مقيم في سان فرانسيسكو، كاليفورنيا، الولايات المتحدة). إذاً، مادمنا نري وجودَ كلمة "حاشية" في القصائد، فيلزمنا الاهتمام بالحواشي التي كتبها الشاعر والمجلة. فهي حواش تشير في النص ـ الحاضر ـ إلي "المركز" بتعيين أسماء المدن انتهاءً بأمريكا! إذ، سيطرد سركون (هذا) المستقبل من قصيدة «صوت أيامي أزمنة الآخرين»، في طريقه إلي قبول الماضي، كونه جثةً أمينة:

"لم نعدْ نحبّ ما كنا مولهين به..
ما كان يسرّنا، كالرماد، علي لساننا يَستقرّ.
لأنه الأمس
نعانق ما كان ولا نقشعرّ عندما
نعرف أنه الماضي، "تلك الجثة الأمينة".

كذلك، تظهر مسألة "التبنّي" من قبل جغرافيا الآخرين، عندما نري إلي "الحاشية" التي يضعها الشاعر نهاية قصيدة: "يوميات من قلعة فيبر سدورف" ؛ بوصفها شكلاً من أشكال قبول سركون للتبني من قبل جغرافيا الآمنة والأمينة؛ حيث (قلعة فيبر سدورف تقع في قرية ألمانية صغيرة قريبة من برلين ـ أي بعيدة عن حاشية العراق الحاضر ـ وهي مكرّسة للكتّاب والفنانين. وكان قضي فيها الشاعر خمسة أشهر متفرغًا للتأمل والكتابة). إنّ جغرافية الآخرين تهيئ الأمنَ والحماية من أشياء كثيرة: من أزمنة الأنا، ومن حواشيها المثقلة بتداعيات المعمورة، الخرابة. كذلك هي تهدي الشاعر الطبيعةَ، بمعزل عن المدن الكبيرة ليكتب. لكنه يكتب، ليس عن الضجيج، ولا كما في قصيدة "سكة" عن: "نفس الفراغ الطالع من حضرة آخر الليل في أية مدينة: باريس، برلين، لندن، نيويورك.."، وحسب. ولكن، كتابة تعمد إلي نقل عنف أو "ملحمة الطبيعة"، إلي "ملحمة التراب" داخل العراق الذي لا يغادر عزلة الشاعر المقيم في مأمن جغرافي: القلعة.

ولئن كانت الأخيرة هي حماية، فإنها حافّة شعرية، وموعد مع القلق. فما يكتبه شاعر، متأمل ومتوحد في الداخل، في يوميات القلعة، عن روح الطبيعة وعنفها الموسيقي في الخارج؛ سرعان ما يؤخذ مأخذ الاستعارة والكناية علي الأنا العراقية التي حلت في الخرابة. فحين يتحدّث عن ريح شمالية من القطب، نجده ينقلنا علي الكناية إلي بلده، فالريح:

"ينشطر الطين لها في الأرض المفخورة
تتقشف لها أيدي الفلاحين
تقلق منسوب الماء في الآبار
ومن رهبة هبوبها، تبقي المحاريث عاطلة
في حافة الحقل، والرفش سُبات
لو أنّ أحدًا تجرّأ علي الخروج، فالشتاء غراب
أسحم، يهب في وجهه كعباءة أرملة".

وهو ما سوف يعني خروج الشاعر، عن الجغرافيا التي تبنّته، ليلامس، بالكتابة، جذر المصيبة التي تطارده عبر أيامه من بلده النائي. أو أن ينسي المضائق وينطلق صوب البحر. أي، هنا، يَحدث الافتراق بفضل المعني المختلف بين التبني والبنوّة. وأيضًا تقوم "الحديقة" بوظيفة "القلعة" كحماية جمالية، وحافة شعرية كذلك. إذ يكتب سركون، في قصيدة «لحظات في الحديقة»:

"جنرالات أمريكا
يشحذون آلة الخراب
صامتًا، وفي نيتي أن أصرخ...
لا هذه اللمحة التي
أقتنصها من ملحمة الطبيعة قسرًا
تقودني إلي سرّ أطمح في أن أستحليه بكل تلافيفه
المظلمة يومًا، ولا ذلك المنحني
في ذاكرتي يسمح لي
أن أرى القناع الهارب إلي الوراء دوما
في أزقة حياتي الماضية".  

أضواء طنجة
وقريبًا من ذلك، سيري الشاعر أضواء "طنجة" (من جهة أسبانيا) دعوةً لشرقيّ، غير مستقر، مثقل بالتاريخ والمنفي. الحنين إلي الماضي، إذًا، يستهدف "طنجة" المجاز والجغرافيا والأزمنة الأمينة والآمنة في ذاكرة التاريخ. فإذا كانت قلعة "فيبر سدورف" ـ وحديقة الغرب، عمومًا ـ تمثل الجغرافيا الآمنة؛ فإنّ "طنجة" رمز جغرافي وتاريخي لأمن وسلامة الإنسانية والتقاء الشرق مع الغرب. ولكنها، الآن، نقطة تاريخية، وحافة شعرية، من حيث هي دعوة للحزن علي الهوية الضائعة. وهكذا تكشف الحافة الشعرية عن حالاتٍ رومانسية مدعومة بطاقة نوستالجية في هيآت وتجليات حواسية كأضواء وروائح الأرض التي لها معني أبعد من الجغرافيا في نفسه. إنه معني "البنوّة" المجّسد أو المجغرف، علي نحو من الوصف والتفصيل الدال علي التولّه والعطش، فيما الابن علي الحافة، وفي نقطة الافتراق بين الأندلس وبغداد. هذه الأنشودة المقطوعة من الجذر نسمعها في قصيدة «لا شيء منذ آدم»، علي نحو جنائزي وسوداوي:

"في غور البستان، تتلعثم الظلمة
تعلوها سماء مستورة بصوف
من غزل النجوم فوق الشاعر المتعري من هذا
القميص، ولست يوسف حتي.
تذهب الأغاني
وتجيء المراثي.
لا شيء منذ آدم غير ملحمة التراب".

كما سنجد الأنشودة للشيء المفقود في قصيدة "طنجة"، في هذا المعادل البصري والموضوعي، حيث يقول الشاعر:

روائح الأرض كلها أمامي
في صينية بائع الأفاويه
وبياع عرق السوس بالزنجبيل
يهزّ في وجهي سترته المجغرفة بأقداح الماء.
آنئذ أتذكر كم أنا عطشان!
وأيّ صيف يستيقظ في كبدي
وأي طيف من الماضي".

والاهتمام بتفاصيل جغرافيا المغرب، إنما يفصح عن قرابة صوفية وتاريخية بين المغرب وبغداد؛ عندما في قصيدة "عرافة أزمّور"، يلتقي نهر أم الربيع بالبحر/ وسط محزمة البلاد. هناك/ أبحر مولانا بو شعيب/ ليلاً، في السفينة الآتية بحبيبته عائشة البحرية من بغداد". وعندما في قصيدة «جبل القديس برونو» كان يرى الجبل من نافذته الشرقية (من جهة طنجة) حوتًا من تراب:

"أراه من نافذتي
الشرقية، حوتاً من تراب
ودْيانه الوردية عند الغروب تملأها الظلال حتى
يزحف الضباب من البحر، ويخفيه
في غلائله البيضاء،
مرّةً، ذهبت أتسلقه، وسرت علي القمة.
واليوم أسير في البيت
جيئة وذهابًا، كمن أضاع شيئًا
وكلما بلغت النافذة، تطلعت شرقًا
وألقيت عليه خلسة، نظرة".

في «يوميات من قلعة فيبر سدورف» أنت أيضًا، تنقلك القصيدة لروح الغابة السوداء، لعوالم شعرية تعود بك إلي ملوك الريف من شعراء ومفكرين ورومانطيقيين أثثوا قصائدهم بروح العالم والأشياء، فيما كانوا، في عزلاتهم القروية، أبناء أصليين. ومع سركون، هذا الشاعر ابن الشرق، أصيلاً كان في قرابته الروحية والشعرية مع العالم وشرق المعني. وهذا هو سر أسرار إمساك القصيدة بوجودها. ألم يقلْ، في أول قصائده المنشورة في فصلية "مشارف"، تحت عنوان «كوّة»:

"إذا لم تفتح الكوّة
لن تطير إلي غرفتك الحمامة
القصيدةَ قد تضيعُ، إذا لم تجدِ الخيطَ الخَفيّ
والراوي لن يعرف القصة". 

ثانيا: آلام سركون بولص: قراءة في (إذا كنتَ نائمًا في مركب نوح).
لكي ننفذ إلى المعنى الذي يدور حوله الشاعر العراقي الراحل سركون بولص، في ديوانه: (إذا كنت نائمًا في مركب نوح) منشورات الجمل، 1998؛ ينبغي التذكير، أولاً، بأنّ العنوان شطرٌ من عبارة جلال الدين الرومي: «إذا كنت نائمًا في مركب نوح وأنتَ سكران ما همّ لو جاء الطوفان». إذًا، ما يسعى إليه الشاعر مضاعفة «الإحساس» بالعذاب، خلال هذه العبارة التي تمثّل ـ من قريب وفي إطار مواجهة الضحيّة للأخطار ـ مناعةً مكتوبة. وقد تحصّن الشاعر وراء فقدان الوعي والإحساس، معزّزًا النومَ بثقل السكْر، في المركب. بكلمات أخرى، أراد الشاعر بهذا الاشتراط القصديّ للعبارة القول: لا وعيَ لكي يتجه الوعي للطوفان. وبالبقاء في إطار مواجهة الأخطار، بالعبارة، يمكننا، بالمناسبة، تجنيد عبارتين أخريين؛ ما يفرض علينا تذكّرهما هو انتشارُ صورٍ وإشارات مقلقة لأوضاع وهيآتِ الضحية. الأولى: هي قول القائل: «ألقاه في اليم مكتوفًا وقال له/ إياك إياك أن تبتلّ بالماء». وها نحن نقرأ، على سبيل المثال، في قصيدة طويلة وتجريبية بعنوان: «إرشا(على طريق الجمرة) دات» نقرأ قول الشاعر:

«أنا رجلٌ يَشقّ طريقه بين الغابات
لي هذه العيون: عين الدم، عين الإشارات المقلقة
عين رجل تربط يداه من قبل العدوّ
عين رجل يرى وطناً يبكي أمام عينيه
عين غراب مدرّبٍ على كتف قائد..»  

وما إلى هنالك من عيون(ص46). أيضًا الحديث عن:
«رماة عميان يتدرّبون بالسهام على إصابة امرأة مقيّدة» (ص48)،
«أرى جسدَكِ مقيدّا على سنام العالم المليء بالمني والذهب»(ص48).

وهذا غيض من فيض. وأمّا العبارة الثانية، فهي قولة أسماء بنت أبي بكر لإبنها عبد الله بن الزبير بن العوام، الذي استشارها هل يستمرّ في قتال الحجّاج ـ الذي دخل مكّة وضرَبَ حصارًا عليها ـ أم يستسلم؟ فقال لها: «يا أمتِ، إني أخاف إن قتلوني أن يمثلوا بي»، فقالت له قولتها الشهيرة: «وهل يضرّ الشاة سلخها بعد ذبحها». وقد قُتل، بالفعل، وصلبه حجاج العراق ومثّلَ بجثته.

في إثر هذه العبارات السابقة، يمكن القول أن «الإحساس» أحد أهمّ مراكز القول الشعري لدى الراحل سركون بولص الذي ابتلّت ملابسُه وجلده بالماء وأُحرِقَ وجدانه بالنار. ومع ذلك لم يبدّلْ ملابسَه، ولا جلدَه؛ لإيمانه العميق بالإنسانية ودفاعه عنها. ذلك أنّ الإيمانَ إحساسٌ داخليّ يجعل الذات في مركزها، أيّ توازنها، برغم كون جسد المؤمن ضحيّة آلام عظيمة؛ جرّاء المؤثرات والتحدّيات على أنواعها. وهكذا يأخذ «الإحساس» بالعذابات والآلام امتدادَه من الحياة، بدءً من أوّل قصيدة، في المجموعة، بعنوان «رسالة» يتحدّث فيها الراحل عن نجاته بجلدِه من النار وقضائه أيامًا حالمًا بالاحتراق فيها، ومرورًا بقصيدة «إرشا(في الطريق إلى الجمرة) دات»؛ حيث يذكر الشاعر هناك «الجهاز العصبي»، وليس انتهاءً بنصّ «دليل إلى مدينة محاصرة» الذي يذكر فيهِ، صراحةً، «مركز الجِلْد». وكما يقول لنا العلم بشأن «الإحساس» أنه: نوع من الاستجابة للمؤثرات الداخلية والخارجية التي يتعرّض لها الكائن الحيّ، وهي استجابة إنذارية أو إعلامية. وبالنسبة للمؤثرات الخارجية، فإن مراكز الإحساس بالحرارة والألم كائنة في الجلد؛ حيث تنقل النهايات العصبية تيّارًا من الإرشادات إلى المخ؛ لكي يدركَ الإنسان ما حلّ بجلدِهِ من كدَمة أو حريق، أو أيّ مؤثّر آخر يُصيبُ الجسدَ، فيثير أعصابَه ويُخِلّ بتوازنه. وعندما يتعرّضُ الجلد للحرارة الشديدة، فإنّ هذه النهايات العصبيّة تتهتّك وتتدمّر، وبعدها يفقد جسدُ الإنسان الإحساس. لكننا نقرأ في قصيدة للشاعر الراحل بعنوان «هنا ينتهي العالم المعروف»، قوله:

«تعلمتُ كيف أحتفظ بحرارة سرٍّ إنسانيٍّ صغيرٍ عميقًا في جيوبي
بقبضتيّ المتشنجتين، كأنما على نقود نادرة
لن أشتري بها شيئًا في دكان الأرض» (ص147).

وفي قصيدة بعنوان «اللكْمة»، وهي مليئة بالمثيرات والتشنجات وفوضى الحدّة العصبيّة التي تلازمها السيجارة، نقرأ:

«العالم يَعوي في انفجارٍ منظّم على مبعدةٍ قدمٍ مني وتلمسني الرجة آخذة جسدي إلى النهاية الأخرى، الرجة التي كانت تجعل يديّ ترتعشان وفي إحداهما السيجارة، منطلقة من مكان ما في رأسي أو خلفَ عينيّ، وهادرة بقوة، لتتمركز في أصابعي...» (ص133) إلى نهاية القصيدة.

فهل، حقاً، فقدَ سركون بولص «الوعي» و «الإحساس» بآلامه ومسؤوليته تجاه ما يحدث في هذا المركب/ العالم؟! لا، لم يفقد. وإنما كل ما سيقال، لاحقًا، في ضوء ما تقدّم؛ لن يكون إلا تنويعًا على المعاني المجسِّدة للضحية بمعناها الشامل، في قصائد الشاعر الراحل القائل في قصيدته «حانة الكلب»:

«وجدت نفسي نائمًا في الجانب المظلم من العالم
أنقّبُ كلَّ صباحٍ في مكتبة الآلام العامّة عن جذرٍ
يربطني بكَ، أنتَ، دائمًا وحتّى
أنني أتردّدُ في أنْ أسمِّيكَ لأنكَ، لستَ امرأةً
أو الأرض أو الثورة: شجرةً فقيرًا حذاءً في الطوفان
لا أسمّي أحدًا بالضبط لكنني
أريدُ أنْ تشعرَ بخطورة القضيّة!» (ص112).

وهذا القول، سوف ينقلنا من «الإحساس» إلى «الشعور» الذي لا يغلب حضورُه، في قصائد سركون؛ لكون «الإحساس» هو الغالب كنوعٍ من الاستجابة للمؤثرات الداخلية، يجسّده الشاعر بقوله في قصيدة «إرشا(على طريق الجمرة) دات» بقوله:

«أصوّب هذه المرآة المنصوبة في دمي بكل قوّتي
نحو مخلوقات الكلمة الجديدة
رطبة ومشعرة على مياه العزلة تسطع ولا تظهر
تزحف في بنايات نومي إلى أطراف قبضتي
تسحر رأسي
وترجمني جماهيرُها من تحت جلدي
لكنني أصغي طويلاً وأسمع حياتي وحدها
تقيّدني بإشراقات شريرة إلى نقطة الغليان..».

فضلا عن كثرة المؤثرات الخارجية التي يتعرّض لها الجسد ويستجيب لأوامرِها بالتألّم والمضيّ بعنادٍ الضحية في طريق القصيدة. وأما «الشعور»، فيرتبط لدى الشاعر، بوجود شيء خفيّ. إننا لا نحسّ وإنما نشعر بالخوف والتوتّر ونقلق تجاه العمى، أو مما يخبئ لنا المجهول. وهكذا كان يُفصّل بولص في قصيدة «حانة الكلب»، ببساطة، وقائعَ مِن سيرته اليومية في أمريكا ـ مركز العالم الآن. ولا ينسى، في غضون ذلك، شعورَه العميق بالعمى، هناك:

«أخرج لأشتري علبة سجائر
في أعماق الليل وأزور صديقي
لنناقشَ الشعرَ ونقذف المسبّات في وجه الغرب
حيث نعيشُ كلانا مؤقتاً بالدَين
وبنوع من الشعور العميق بالعمى» (ص113).

ولكن، كما قلنا، سابقًا، لقد أحسّ الشاعر، فعليّا، بالآلام والعذابات الحقيقية، أي أنه عاش التجربة ـ ولم يستشعرها بالكتابة ـ بكلّ أخطارها وأبعادها. وهذا العيشُ، بحدّ ذاته، إنما يُسمّى ويَصِفُ الضحيّةَ ضحيّةً، بكلّ ما تحمل الكلمة من معاني وحجوم الأخطار الذاتية والعراقية والإنسانية، التي نلمسها في قصائد الراحل الذي يتمثّل مصيرَ المسيح ورسالته دونما تصريح ديني؛ وإنما بكلام شعري فصيح.  

لا أنا، بل من يتكلّم من خلالي:
وبالمضيّ على نهجِ ما سبق، «المركزُ» هو ما كان يشغل الراحلَ سركون بولص، كما نتبين ذلك في هذه المجموعة، التي بين أيدينا، على الأقلّ. مركزية ذاتيّة شرفتها لا تطلّ على مركزية الإنسان وسيطرته على الطبيعة والعالم. إنّه تَمرْكزُ شاعرٍ ليس له حقيقة مفرطة في ذاتيتها، وإنما سخيّة في استيعابها وإحساسها بالآخرين. لدرجة أنْ أصبحت أناه معجمًا لمن يتكلّم من خلاله، حيث نقرأه، في قصيدته: «إرشا(على طريق الجمرة) دات»، يقول:

«لا أنا، بل من يتكلّم من خلالي
بألسنة يقطعها حالما ينتهي».(ص36).

كما أنه شاعرٌ بلا حقيقةٍ مركزيةٍ أرضيّة ثابتة، إذ لم يستنطقِ الحقيقةَ من ثباتِ اليقين بوصفه المكان. لأنه كان يكتب قصيدة الطريق إلى مدينة «أين». حيث في بداية قصيدة «إرشا(على طريق الجمرة) دات» كتب الشاعر:

«عجائب القدم اليمنى(هكذا بدأ القصيدة) تكمن في إنقاذِ الشاعر الذي يُؤمنُ بالسفر كنوعٍ من الاعتماد على الطرق والطرُقُ وحدَها
في استنطاقِ الحقيقة» (ص35).

ولئن كانت ثمّة موادّ نجميّة تحت عتبةٍ ثابتة، تغري بالمكوث والاستمساك بالثبات كصفة من صفات اليقين؛ فإن الشاعر ـ الذي راح يشبّه نفسه بباب يهتزّ ـ لم يكن يمكنه النظرَ، في الليل بمركز عينيه، إلى تلك الموادّ النجمية التحتية، بثباتٍ. لأنه كان بابًا قلقًا وغير مقفل. وكانَ عينًا غير ثابتة. ولكن تلك الموادّ ـ في منجم العتبة، واللغة الشعرية ـ كانت مُصوّبةً في معنى الحياة. حيث حدّقَتْ إلى داخلِ الشاعر آتيةً من أقصى نهاياته؛ لتعلنَ بداية حياته بنجمةٍ مربوطة إلى «أين». وغير مربوطة إلى المرآةِ المصوّبة، آنفًا، في دمه؛ التي قيّدته بإشراقاتٍ شرّيرة إلى نقطة الغليان. إنها موادّ المعنى التي صوّبتْ إلى الداخل، لتعلن بداية الحياة بنجمةٍ غير مقيّدة، كذلك، إلى جذر أو رمز أسطوريّ، كما درج الشعراءُ «التمّوزيّون» على الإسراف في فعل ذلك التقييد:

«تحت عتبتي موادٌّ نجميّة لا يمكن النظر إليها بثبات
لكنها تحدّق إلى الداخل آتية من أقصى نهاياتي
لتعلن بداية حياتي بنجمةٍ
عندما عبرتُ بمساعدة الأحياءِ إلى عيني» (ص53).

وفي قصيدة بعنوان «كلّ مَنْ تاق» كان قد توجّه الشاعر، لنا، بهذا المعنى من معاني السيرورة وسيولة الزمن، قائلاً:

«لكلّ مَنْ سمِعَ الأغنية.. لكلّ مَن تاقَ إلى سماعها أقول أنّ السيولةَ صفة من صفات اليقين والمحطّات تتوالى حتى إذا توقف القطار» (ص149)،

وهو القائل أيضًا:
«في المرْكزِ مُفكّرًا بنهرٍ حتى أكونَ النهر
أكون النهر وأعبر ذاهلاً بين الأراضي» (ص56).

وإذن، لم تكنْ مرآتُه المركزية الغربية، لأنّ حقيقته خارج المركز الوضعي، وحين نقرأ قوله: «الحقيقة في داخلي وهي مليئة بالأخطاء في هذه الأرض» (ص59) ينقلنا أحد المعانى إلى قصيدة بعنوان: «شرقاً حتى الموت»، وفيها يتجه الشاعر إلى الشرق بوصفه حقيقة الجهاتِ، في داخله؛ فيمنحه مديحَه بجعله أيقونةً ماسيّة. ولكنه سرعان ما يسلبه المنحة معزّزًا المديح بإحدى صفات الذم: «أنتَ الآن ماسة بليدة». وليس بليدة وحسب، بل وخادشة نخدش بها (نحن) زجاج الذاكرة، لتطفرَ بأحشاء الشرق، أي بحقيقته الداخلية الراقصة على الموائدِ في مآدبه الخيالية، إذ ما زال الشرق يتبجّح كسلطان بعددٍ لا يحصى من الآبار:

«أنت الآن ماسة بليدة نخدش بها زجاج الذاكرة
لتطفر بأحشائك الراقصة على الموائد في مآدبك الخيالية
وما زلت تتبجح كسلطانٍ بعددٍ لا يحصى من الآبار!» (ص125)

وينقلنا هذا المعنى، المتمثّل بإجراء الخدش والتجريح الجماعي الذي يصيب زجاج الذاكرة، إلى مجال إصابة جسد الضحية بأخطارٍ فادحة، حيث «الحقيقةُ تنقل رأسها المحترق من اليد اليمنى/ إلى لحظة الانفجار» (ص60) لتتحوّل الشظايا والرصاصات لأثرٍ شعري؛ في عيون قرّاء جَعَلُوا يبحثون عن أهدافهم ومعانيهم المسماة ذهبًا أو نجمةَ الرفعة ونشوة معنى الحياة، هناك، حيث كان الشاعر راويًا لغناء المرأة، القصيدة:

«من يأخذني يجدْ عينَه في نهاية جسدي
محفوظة في بئر أعضائي
معتقة كالخمر
على العجائب والأنوار لكنه في كل فجر
سيفقدني فجأة دون أن يعرفَ متى» (ص53).
وفي قصيدة: «أخطار وأبعاد» يقول بولص:
«منذ البداية، أيّ نهرٍ فيه سبحتُ

كم مرّة غرقتُ، أي قدمٍ دخلتْ مجالَ الإصابة، أيّ خطرٍ أعمى يهاجمُ باتجاه نغمةٍ تنطلقُ عفوًا من فم السائر في أزقة ليليةٍ اختارتْ قدميه وحدهما لتسبراهما» (ص13).

من هنا، نستطيع القول إن سركون بولص كتب الشعر بعناد الضحية السائرة في طريق القصيدة؛ برغم الخدوش والعميقة والحفر الخطِر في خشب مركب العالم الخارج، الآن، وفي زجاج مصباح المؤرخ:

«تحت رأس الضحيّة الذي ينوص كمصباح المؤرخ في برج بابل رأسي، مدينةٌ لم أرها
تظهر أحيانًا سرابية الزوايا
فيها بيتٌ مهدّمٌ على بابه امرأةٌ تبكي.» (ص12).

وتبقى إشارة أخيرة، تكتظّ القصائد وعناوينها بمفردات القاموس القتاليّ؛ حيث نقرأ في عناوين القصائد: «يخرج القاتل»، «دليل إلى مدينة محاصرة»، «القائد المهزوم والنملة»، «حالة إنذار»، و«اللكمة». وهذه القصيدة الأخيرة مليئة بما فيه الكفاية بشواهد المعنى المتعلّق بإحساس الضحية الفعلي بآلام الاصطراع نتائج الأمرِ الواقع. فلنقرأ شيئًا من هذه القصيدة:

«كأنّ نهايةَ الذراع المُركّبة على شكْل منجنيق مغلق، بسلاّمياتٍ صلدةٍ تتآمرُ تحتَ الجلْدِ قدْ مَغنطتْ فجأةً هذه القلعةَ مِنَ الأعصاب والشرايين والأحشاء التي تحمل اسمي وأعيش لأبرّرَ وجودَها وفي هذه اللحظة، أتبعها نحو اليسار، منحرفًا عن القلعة الآدمية الأخرى(عدوّي) التي جَمُدَتْ مقابلي، بعنفٍ، لأبرّرَ ما فعلته للتو مخلصًا لكلّ ما تأمرُ به.» (ص134).

وفي الختام، في كلّ مرة، من المرات المتكررة لقراءتي لهذه المجموعة، كانَت تنفتح قناة على العلم للإفادة منه معرفيّا في ضوء شعرية «الإحساس» لدى الشاعر العراقي الراحل سركون بولص، الذي لم يثْبت على اعتبار الماء كجنديّ أو قائد من الله لتعذيب الخلق بالطوفان، كما في القصص الديني المعروف؛ بل أبدل الماءَ بالنار. وهكذا تجسيدٌ عظيم، إنما هو تنويع تعميم العذاب في هذا المركب، الكوكب. 

ثالثا/ سركون بولص ليس شاعر قصيدة نثر
نشرت جريدة "القدس العربي" بتاريخ 17 أيار(مايو) 2006، على أعتاب مؤتمر قصيدة النثر الذي أقيم في بيروت بتاريخ 19 آيار(مايو)2006..؛ نشرت الجريدة نماذج "قصائد نثر أوربية" كتبها ثلاث عشرة شاعرًا عربيًا؛ حسب ما جاء في مختارات الشاعر عبد القادر الجنابي الذي كتب تقديمًا بالخصوص؛ مشيرًا بجهده للقارئ: "هذه قصيدة النثر المطلوبة!". وقد ختم تقديمه للنماذج بالقول: "لكن بالرغم من الفوضى في المصطلح العربي، وبحثًا عن الجديد، استطاع عدد من شعراء قصيدة النثر العربية، أن يكتب عن وعي أو بلا وعي، قصائد نثر وكأنه يريد أن تكون له حصّة شعرية على غرار النموذج الحقيقي: قصيدة النثر الأوربية..". وقد لفت انتباهي أنّ تفريق الجنابي الذي جاء به، إعمالاً ليد وعين التخصّص، وحاجةً للتبسيط؛ يرسّخ مصطلحين جديدين يحلان كبديلين، غير دائمين، عن "قصيدة النثر" و"الشعر الحرّ". وهما: "قصيدة النثر على الطريقة الأوربية"، وقصيدة النثر على الطريقة العربية". بكلمات أخرى، هذا الفصل الميتافيزيقي العريض، لوهلة أولى، ما هو إلا إغلاق مؤقّت لملفات البون الشاسع بين "قصيدة النثر" الفرنسية و"الشعر الحر" لأنجلوسكسوني. وهل حقاً اعتمد الجنابي على "المؤقت" لإيصال أحكام التخصّص. لا، فالمتابع للملفات المتخصّصة التي يقدمها، في "إيلاف" عن "قصيدة النثر" يقدّر سعيه الحثيث و"الدائم" للكشف عن أمور دقيقة ضاعت في تعميم الكثير ممن كتبوا عن "قصيدة النثر".

قبل أيام، الشاعر أمجد ناصر سار على نفس الطريقة في التفرقة بين "قصيدة النثر العربية" و"قصيدة النثر الأوربية"، وذلك في مقالته المعنونة بـ: "من يتذكر صلاح فائق"، والمنشورة في "القدس العربي" عدد الجمعة بتاريخ 30 نوفمبر 2007. والتي نقلها محرّر الصفحة الثقافية في "إيلاف" عبد القادر الجنابي، في نفس اليوم. يقول أمجد ناصر: "فاجأ صلاح فائق الوسط الشعري العربي (الجديد) بعمله الأول (رهائن) الذي صدر في دمشق عام 1975. كان عملاً غير مسبوق في مدونة "قصيدة النثر العربية"، أقرب في كتلته، إلي "قصيدة النثر الأوروبية"، وفي أنفاسه إلي بقايا الإرث السريالي.". وهكذا.. بمقدار ما تستند تفرقة الشاعر ناصر إلى الدراية والتخصص، بمقدار ما سيبدو الفصل والتحديد جاهزا ومريحًا للذين ضلّوا سواء السبيل، وهم يكتبون عن الفروق بين قصيدة النثر والشعر الحر. ولن يكون صعبًا، مع تسلّم المصطلح كشعار فقط، أن يكتب ضالّ أنّ شاعرًا ما يكتب قصيدة النثر على الطريقة الغربية، ويشهد اللهَ بلا شواهد!

هذا التقديم، إنما، يتوسّل الدخول من باب التخصص لقراءة نصّ للشاعر الراحل سركون بولص في ديوانه: " إذا كنت نائما في مركب نوح". يذكر أن الشاعر الجنابي ضمْنَ مختاراته، لثلاث عشرة شاعرًا، اختار قصيدة "إعدام صقر" ـ الواقعة في صفحة 135 من ديوانه المذكور في السطر أعلاه ـ بوصفها قصيدة نثر على غرار النموذج الأوربي الحقيقي. وفي جزء المجموعة المعنون بـ: "دليل إلى مدينة محاصرة"، هناك نصّ في الصفحة 85، بعنوان: "الحانة المكسيكية(البلدة2)" يمكننا أن نقرأ أوّل الأحد عشرَ سطرًا، من هذا النصّ، في ضوء الإيجاز، الكثافة، اللاغرضية ـ شروط قصيدة النثر على الطريقة الأوربية. حيث ستنتهي هذه الشروط في نصّ بولص الذي نقرأه، الآن، عند كلمة "كمين".. فلنقرأ، بعد اصطياد سطور قصيدة نثر من النصوص وحتى المقالات كما يحبّ أن يصطاد الجنابي:

في الأعلى حيث الكوة المنفردة يدخل منها النور وذات مرة،
لدهشتي، يدخل طائر ضائع بالخطأ مفكرًا بأنها تقود إلى
الخارج وفيما بعد ظلّ يضرب بجناحيه جدران الغرفة مدة
ساعة دون أن يستطيع الخروج
قبل أن تنهض المرأة وشعرها الكثيف الأسود
يغطي ظهرها العاري وتحاول
أن تمسك به وهي تضحك
حين أمسكت به في النهاية وبعد أن أتعبته، بعد أن يئس،
بعد أن استسلم أتت به إليّ
بينما كنت أدخّن في السرير ووضعته في يدي المفتوحة وهو
يرفرف بين حين وآخر، أسيرًا في كمين.

لكن، سيخرج النصّ من شروطه السابقة إلى الاستطراد والسرد والغرضية بمجرّد أن ينتقل سركون بولص إلى القول: "وقالت شيئًا بالأسبانية". فمن هذه النقطة وحتى نهاية نصّ: "الحانة المكسيكية"، أي ما يشكل أكثر من ثلثي النصّ، ينقطع، أو يترك، الشاعر اللحظة العَرضية أو اللعبية. حيث يذهب بولص، أو يقوده التفكير بطريقة تفتح شهية التحليل الفرويدي، أثناء كتابة النثر؛ إلى الغرضية عندما يوظّف = يرمّز "الطائر" توظيفًا = ترميزًا جنسيّا. بالضبط حين يكتب:

ولم أسلّم على الفتاة التي أخذت تبتسم وسحقت سيجارتَها
على الأرض، ثم رأت الطائر فأخذت تنظر إلى يدي كأنها
تتوقع أن أفلت الطائر في وجهها، أو أن أمرغه على شفتيها
الحمراوين كعضو جنسي مُريّش أو أن أجبرها على أكله حيّا وحارّا كالرغيف"

إذ انتقل سركون من لعبة الطائر العَرضية، في الغرفة، في بداية النصّ؛ إلى رغبة الترميز والدوران حول الجنس متمثلاً بالطائر الذي استقرّ كرمز جنسي في متناول القارئ. وهنا نتذكّر، تحديدًا، بعضَ تحليلات سيغموند فرويد للطائر بوصفه عضوًا جنسيا مُريّشًا، وذلك في كتابه [ التحليل النفسي والفنّ، ترجمة: سمير كرم، دار الطليعة، بيروت، الطبعة الأولى: نيسان(أبريل)1975، ص27].. ففي فقرة كان تحدّث فيها ليوناردو دافنشي عن طيران النسر، مقاطعاً نفسه، فجأة، ليتتبع ذكرى من سنيِّ حياته المبكّرة جدّا، حيث طرأت على ذهنه، يقول: " يبدو أنه قد قدّر عليّ من قبلُ أن أشغل نفسي تمامًا بالنسر، فإنه يطرأ على ذهني كذكرى قديمة جدّا، فحينما كنتُ لا أزال في المهد، هبَطَ عليّ نسرٌ، فتح فمي بذيله، وضربني عدّة مرات بذيله على شفتي". ولا ننسى أن نشير أنه في نصّ بعنوان" المحظية"، في الصفحة 138، يستأنس سركون بولص بعبارة من مفكّرة ليوناردو دافنشي: (بمجرد التحديق في السقف، يمكنك أن ترى الكون). كذلك التذكير أنّ النصّ التالي لـ لنصّ"الحانة المكسيكية" يحمل عنوان: "تركيب حلم"؛ الأمر الذي يساعد في تحليل وتفكيك غرضية بعض نصوص الشاعر ذات النثر الشعري المؤسّس على لغة الترميز. وهي لغة الاشتباك بين النثر الشعري والنثر القصصي، بما يشير إلى مرحلة داهمها الخلط بين القصة القصيرة التي كان يكتبها بولص والنثر الشعري، حيث مجموعة: "إذا كنت نائما في مركب نوح" تنطوي على تجريب الشاعر في المناخ الأنجلوسكسوني. وفي سياق غرضية الترميز عند بولص، هناك نصّ بعنوان" مشهد باتجاه واحد"، نجده في الصفحة130؛ إذ علينا أنّ نقرأ هذا النص القصير، ثم نعقد مقارنة لرؤية وجه الشبه والغرضية، بين "الطائر الأحمر" فيه، وبين مآل "الطائر كعضو جنسي مُريّش" في نصّ "الغرفة المكسيكية".

بين القصبات المحطّمة طائرٌ أحمر
يجري أو يحلّق نحو نقطةٍ مجهولة
شيء ملفوفٌ على بكَرة
في يدي امرأة تنام بين الأشجار
إنها تحلم
بعد أن طردوا من عينيها الشياطين
وفي المثلّث المضاء بين ساقيها المفتوحتين
الخيط، ثانية، يحاول أن يدخل ثقب الإبرة
والذكر عكاز يطرح ظلّه عبر الصحراء.

لكن هذا المقترب لن يقتصر، لدى سركون، على اعتبار الجنس لديه،عمومًا، مركزًا؛ بل تتجاوز القصائد هذه الرغبة. وكم سينجح الشاعر بطردها أو عزلها من صلب الاهتمام والهمّ الذاتي والموضوعي.

وسنلاحظ في قصائد أكثر تعقيد أو تركيبا قدرة سركون بولص على الخروج من مركز الترميز إلى الشعر خلال التلاحق والتدفق الهائل للصور التي تمحو الترميز أو لا تسمح بالقبض على طائر بالسهولة السابقة. حيث تتوفر نصوص كثيرة على طاقة عظيمة ومختلفة عن القصّ أو النثر الشعري القائم على الترميز، فتدخل القارئ في دوران وجري مع الشاعر وليس مع رموزه الممحوة الآن. إننا في أوقات نقرأ سركون بولص كما لو كان يكتب قصيدة مدورة، لما لديه من قدرة على التدفق وإنتاج رموز متلاحقة وعصية على التكّشف، وتوحي أكثر ما تشير.

أرى أنه في كتابه: «إذا كنت نائمًا في مركب نوح"، على الأقلّ، كونه كتبه في بداياته في أمريكا، لم يظهر سركون بولص متحالفًا مع حدّة التنظير لقصيدة النثر، ولا وفيّا للتخصص ودقة المصطلح؛ بل إنه كتب آخذًا بالاعتبار أنه يكتب ذاته دونما قياسات محدّدة، في الخلفية. لذا نجده، أحيانًا، يعوّم المسألة: فنقرأ نصوصًا له من مناطق تعبيرية متعددة، وقد نقرأ نصّا واحدًا يمكن تقسيمه نقديّا إلى أكثر من منطقة: قصيدة نثر، شعر نثري، سرد قصصي، وسرد مقالي، بمعنى الكلمة. فضلاً عن اشتمال ما سبق على غرضية التركيب وإنتاج الشاعر لرموزه بتأويلها؛ كما هو الحال مع "الطائر" الذي "يرفرف بين حين وآخر أسيرًا في الكمين».