تتبع هذه الدراسة حركة الترجمة عن اليونانية منذ بواكيرها الأولى بصدر الإسلام وحتى إزدهارها في العصر العباسي، وتدرس تأثيرات ما ترجم على كل من الشعر والنثر في تلك المرحلة.

الثقافة اليونانية وأثرها في الأدب العربي

رامي أبوشهاب

 

الثقافة والمفهوم:
جاء في لسان العرب: ثَقف َ الشيء ثقفا وثِقافا وثقوفة: حذقه وثَقِف حاذق فهم، ويقال ثقف الشيء، وهو سرعة التعلم وثقفته أي ظفر ما به، وثقف الرجل ثقافة أي صار حاذقا فهما، وتأتي بمعنى الأخذ، وفي التنزيل العزيز "واقلوهم حيث ثقفتموهم" وتأتي بمعنى العمل بالسيف والثقاف ما تسوى به الرماح وتثقيفها تسويتها وثقيف حي من قيس. وجاء في المعجم الوسيط ثقف ثَقفا: العلم والصناعة، وتأتي بمعنى ثاقفه مثاقفة وثقافا: خاصمه وجادله، ثقف الشيء أقام المعوج منه، وتأتي بمعنى أدبه وعلمه، ويقال ثقف على فلان في مدرسة كذا، والثقافة العلوم والمعارف والفنون التي يطلب بها.

ويرى مالك بن نبي أننا لا نجد كلمة ثقافة في وثائق العصر ولا في مقدمة ابن خلدون لأن فكرة الثقافة حديثة. جاءت من أوروبا، فالكتاب يقرنون هذه الكلمة بكلمة culture حيث لم تكتسب بعد قوة التحديد، لذلك فإن الكلمة جديدة، وجدت بطرية التوليد، و يرى أن واضع هذه الكلمة قد اختارها من بين أصول لغوية مثل (علم أدب فهم ثقف) وكلها تدل على العلاقة المعرفية، و يضيف أن هذه الكلمة قد جاءتنا من أوروبا كثمرة من ثمرات النهضة، ضمن تعريف تاريخي على أن الثقافة هي ثمرات الفكر في ميادين الفن والفلسفة والعلم والقانون والأدب، وبالتالي هي ثمرة الإنسان بناء على رأي المدرسة الغربية، وبهذا فإننا نتوصل لمفهوم الثقافة من منظور كلاسيكي، مع التأكيد على أن مفهوم الثقافة يتجاوز هذا المفهوم حتى يصل إلى درجة التعقيد ليشمل جميع النواحي الإنسانية. وبهذا التعريف الذي نتخذه تمهيدا لحديثنا عن أثر الثقافة اليونانية في الأدب العربي، فإننا نؤكد على أننا ننحاز إلى ظاهرة الأثر الثقافي انطلاقا من ظاهرة التأثر والتأثير. 

مقدمات
إن البحث في هذه القضية يتطلب منا أن ننظر في العمق التاريخي والنظر إلى ما وراءه للتنقيب عن تلك الجسور التي ربطت بين الثقافة العربية والثقافة اليونانية، وكما يتبادر للذهن أن مواضع الاتصال بين الثقافة العربية واليونانية كانت قد بدأت أولى حلقاتها في العصر العباسي، وخاصة عند بداية حركة الترجمة من اليونانية إلى العربية، إلا أن هنالك وقائع تعود إلى زمن أبعد وأكثر تقدما، مفادها أن الارتباط قد يعود إلى ما قبل الإسلام. فكما هو معلوم فإن الإسكندر المقدوني بفتوحاته الكبيرة والتي وصلت إلى مشارق الأرض ومغاربها، كان يعد الحلقة الأولى من حلقات التقارب بين هاتين الثقافتين، وما نتج عن ذلك من آثار على صعيد البنية الثقافية المصاحبة للحملات العسكرية، من نشر للثقافة اليونانية في المناطق المفتوحة، بسبب التمازج العرقي والتجاور المكاني.

وإذا ما تتبعنا طبيعة هذا المد العسكري وما صحبه من تأثير، فإننا سنعثر على بروز العامل المكاني و تنصيبه كبؤرة اتصال مع الثقافة العربية، عبر ثلاثة مدن، كان تشكل منارات للثقافة اليونانية التي ألقت بأنوارها على ما يحيط بها، وهذه المدن هي (جنديسابور) و(حرّان) و(الإسكندرية). المدينة الأولى كانت تقع في خوزستان وكانت تقوم شهرتها على الطب، فها هو الحارث بن كلدة طبيب العرب يتعلم فيها، وطبيبها "بختشيوع" يعالج أبا جعفر المنصور، وأما مدينة حرّان الواقعة في شمال العراق، فقد سكنها الوثنيون والذين سموا بالصابئة، وكان لهم أثر كبير وخاصة في العلوم، فقد كان منهم الطبيب ابن سنان، وإبراهيم بن إسحاق الصابئ، والبتاني، وثالث هذه المدن مدينة الإسكندرية والتي كانت تعتبر مهد الأفلاطونية الحديثة، وقد امتازت بحركتها الواسعة في الأدب والعلوم والفن.

إن الاستغراق والتأمل في أثر هذه المدن سيقع على قضية بالغة الأثر، مفادها أن الثقافة اليونانية، كانت قد دخلت الباب المشرقي منذ زمن بعيد ولو بشكل خفي، وربما كان أثرها غير ظاهر ومباشر على الثقافة العربية، ولكنه واقع بصورة أو بأخرى، فكما نعلم أن تأثر الفرس بهذه الثقافة ـ اليونانية ـ وتحقيق التأثير المتبادل قد عمل على صهر منظومة فلسفية وثقافية تشكلت في المكان ـ أي بلاد فارس ـ لتنتقل لاحقا إلى الثقافة العربية بعد فتح العرب لبلاد فارس.

قبل الحديث عن الترجمة وأثرها في انتشار الثقافة اليونانية لابد لنا من النظر في أسباب وجود هذه الترجمة وبواعثها والتساؤل عما دفع العقلية العربية للبحث عن مصادر العلم والمعرفة.

أولا: العامل الحضاري
إن انتقال العرب من طور البداوة إلى طور الحضارة، نتيجة الانتصار والتفوق استوجب المحافظة على هذا المنجز، فكان لا بد لهم من العلم الذي هو من أهم متطلبات الحضارة، كالحساب والطب والعلوم وغيرها.

ثانيا: الحركة الدينية:
الجدل الذي نشب بين المسلمين وأصحاب الديانات الأخرى، وخاصة النصرانية واليهودية، واعتمادهم على المنطق والمجادلة، دفع المسلمين لمعرفة الفلسفة والمنطق للمحاججة والرد.

ثالثا: انتشار اللغة العربية وبالتالي تعزيز وحدة اللسان والثقافة.

رابعا: ميل بعض الخلفاء إلى العلوم الفلسفية، وخاصة هارون الرشيد والمأمون وغيرهم، مما ساعد على تشجيع العلم والترجمة. 

بواكير الترجمة:
إذا كانت الثقافة اليونانية قد تسربت إلى العرب قبل الإسلام من خلال فتوحات الإسكندر وأثر المدن الثلاثة التي ذكرت آنفا، فإن ذلك لا ينفي وجود المترجمين قبل الإسلام، وربما كان أشهرهم "يوحنا فيلوبولوس" المعروف باسم يوحنا النحوي في القرن السادس الميلادي، ولكن الترجمة الحقيقية انطلقت في العصر الأموي، ووصلت إلى ذروتها في العصر العباسي، وإذا ما أدرنا تتبع حركة الترجمة زمنيا، فإن أغلب الدراسات تنص على أن أول ترجمة قامت في العهد الإسلامي، كانت بفضل خالد بن يزيد بن معاوية، حيث نقل له "اصطفن" من الإسكندرية أحد المباحث في الصنعة والكيمياء، ونتوصل من خلال ذلك إلى أن حركة الترجمة ولدت من رحم العصر الأموي، ونمت وازدهرت في العصر العباسي. 

الترجمة في العصر العباسي:
مما لاشك فيه أن الترجمة الإثرائية كانت في العصر العباسي. إذا تحقق ذلك عبر فعل الانتظام، حيث شكلت هذه الترجمات رافدا منهجيا للثقافة العربية من خلال عملية نقل لثقافة العديد من الحضارات السابقة، كالفارسية، والهندية، واليونانية. فنحن نجد العديد من المصنفات الفارسية والهندية التي ترجمت إلى اللغة العربية كترجمة كليلة ودمنة، وبعض الصحف الهندية وغيرها(1) إلى اللغة العربية، وقد تحدثنا سابقا عن أثر المدن اليونانية في المشرق في عملية الترجمة التي كانت تمر عبر مراحل؛ الترجمة من اللغة اليونانية إلى اللغة السريانية، ومن ثم إلى اللغة العربية ـ على يد النصارى ـ وبناء على هذا فإن الترجمة بدأت من خلال شكلين: هما نقل الثقافة اليونانية من الفارسية أو من السريانية إلى العربية، ومن ثم أصبح النقل من اليونانية إلى العربية مباشرة، دون الوسيط المتمثل باللغة الفارسية، ويمكن تقسيم حركة الترجمة من خلال ثلاثة أدوار هي:

الأول: الترجمة من عهد المنصور إلى آخر عهد الرشيد ( 136 ـ 193 هـ) ومن أبرز الترجمات، ترجمة كتب "أرسططاليس" في المنطق، وكتب الطب والعلوم، وأشهر المترجمين "جورجيس بن جبرائيل" و"يوحنا بن ما سويه" وغيرهم. وكان لنقل المنطق أثر كبير في ظهور واتصال المعتزلة بالفلسفة اليونانية، وانتشار المنطق والمجادلة، وما تركه من أثر في الأدب العربي سيأتي الحديث عند لاحقا.

الثاني: الترجمة في عهد المأمون (198ـ 300) وفي هذه الفترة تمت ترجمة كتب أرسطو، وقصة "طيماوس" لأفلاطون، والحيوان لأرسطو على يد يوحنا البطريق، وترجمة الحكم لفيثاغورس، والمقولات لأرسطو، والطب على يد حنين بن إسحاق، وكان من أبرز المترجمين الحجاج بن يوسف الوراق، وعبد المسيح بن ناعمة وقسطا بن لوقا.

الثالث: من أتى بعد هؤلاء من مترجمين وأشهرهم "متى بن يونس" وسنان بن ثابت، وقد ترجموا كتب المنطق والطبيعيات لأرسطو وتفاسيرها.

من خلال مما سبق نستطيع الخروج بملاحظات هامة، تتمثل بالارتباط الثقافي بين العربية واليونانية، والذي يعود إلى ما قبل الإسلام، ومن ثم التطور الذي حصل من حاجة العرب للعلوم، وتشجيع الخلفاء لحركة الترجمة، وما امتازت به هذا الترجمة من ملاحظات، حيث نجد أن غالبية المترجمين كانوا من النصارى، أو من غير العرب، ثانيا الترجمة كانت بداية من الفارسية أو السريانية، وثالثا أن معظم ما تم ترجمته ينحصر في الطب والفلك والتنجيم، ومن ثم في العلوم كالرياضيات والكيمياء، بالإضافة للعلوم الفلسفية كالمنطق، ومن الملاحظات الهامة كذلك، ما أخذ على هذه الترجمات من عيوب، وخاصة في بداية الترجمة كعدم الإضافة أو الابتكار، أو عدم الفهم والتحريف، وخاصة المنطق وكتاب الشعر والخطابة لأرسطو على يد إسحاق بن حنين في فترة لاحقة. 

العرب والأدب اليوناني:
إذا كنا تحدثنا فيما سبق عن الثقافة اليونانية وما نقل منها، فإن الملاحظ أن عملية النقل كانت تركز على الآثار العلمية كالطب، والرياضيات، والفلك والتنجيم، والعلوم الفلسفية، وبعض المصنفات في الأدب، ككتاب الشعر، ولكن التساؤل المبرر هنا، هل عرف العرب الأدب اليوناني سواء أكان ملحميا أو مسرحيا أو غنائيا؟ مما لاشك فيه أن الأدب اليوناني يتكئ على تراث يوناني يقوم على الوثنية، وهذا يتعارض بشكل صارم مع التوحيد، وبناء على ذلك فإن الترجمة كانت غير ممكنة أو سيتم تحريفها لتتفق مع الروح التوحيدية، والسبب الثاني إحساس العرب بتفوقهم في ميدان الشعر، جعلهم يقرون بعدم حاجتهم لآداب الأمم الأخرى، ولكن ذلك لا ينفي معرفة العرب لبعض المقتطفات من هذا الأدب، من خلال الترجمة لبعض المصنفات في الأدب ككتاب الشعر، ولكنهم لم يستطيعوا فهم المصطلحات، والاستفادة من قواعده لعدم وجود أمثلة، فهم لم يترجموا الآثار اليونانية الكبرى، كإلياذة هوميروس وغيرها.

وإذا كان الفارابي وابن رشد قد قدما بعض الشروحات لكتاب أرسطو، وعرفوا أقسام الشعر اليوناني كالطراغوذيا والقوموذيا والأفيقي، وتوصلا أيضا لبعض القيم الموجودة في هذا الشعر، من الحكم والتحبب بالخير ودفع الشر، وارتباط الشعر بالأخلاق، وعلى الرغم من كل ذلك، فإن المائة سنة التي تلت وفاة الفارابي، أظهرت الاهتمام الحقيقي بأدب الحكمة اليوناني، وعملية فصله عن الشعر اليوناني، كما عند أبي سليمان المنطقي، والشهرستاني، مع أن هذا الشعر كان قريب الشبه بالحكمة، مما يعني أن معرفة العرب للأدب اليوناني تتحدد في دائرتين هما: الحكمة وبعض النماذج الشعرية ذات الصبغة المقاربة لمفهوم الحكمة، ولم يخرج من هاتين الدائرتين سوى أبي الريحاني البيروني في (الآثار الباقية عن القرون الخالية)، الذي استطاع الوصول إلى عمق الأدب اليوناني من خلال حديثه عن الأسطورة، التي تغافل عنها السابقون، لأنها تتعارض مع التوحيد، ولصعوبة الأسماء فيها، ولابد لنا من الإشارة أيضا إلى ما كان من أثر ابن سينا الذي أصبح كتابه (الشفاء) مرجعا لكل الدارسين في الثقافة اليونانية، وخاصة في النقد والبلاغة منهم ابن الأثير، وحازم القرطاجني، والجاحظ، من خلال معرفتهم لبعض المسائل المهمة في تكوين الشعر اليوناني.

فها هو الجاحظ يورد لنا بعض الأمثلة من خلال معرفة ابن سينا لضروب الشعر اليوناني، حيث يقول: «ولقد فاوضني بعض المتفلسفين في هذا، وأنساق الكلام إلى شيء ذكر لأبي علي بن سينا في الخطابة، والشعر وذكر ضربا من ضروب الشعر اليوناني يسمى "اللاغوذيا"، وقام فأحضر كتاب الشفاء لأبي علي ووقفني على ما ذكره فلما وقفت عليه استجهلته فإنه طول فيه وعرض كأنه يخاطب بعض اليونان، وكل الذي ذكره لغو لا يستفيد به صاحب الكلام العربي شيئا» ومن هنا، نلاحظ أن معرفة العرب للشعر اليوناني كانت ضيقة ويشوبها عدم الفهم الدقيق على مستويين هما الشعر بحد ذاته، والآراء النقدية الموضوعة حول هذا الشعر.

إن أغلب الدراسات تشير إلى عدم ترجمة إلياذة هوميروس أو الأدويسا، ولكن بعض المقتطفات قد ترجمت في القرن الثامن الميلادي، كما يذكر كريمر على يد "ثوفيل الرهاوي"، بالإضافة إلى ما ورد من أشعار وأقوال لهوميروس، في بعض المصنفات المترجمة، وقد جاءت على ثلاثة أنواع:

1 ـ أقوال ومواقف حكمية.
2 ـ أشعار ثابتة له أو محتمل ثبوتها.
3 ـ أشعار نسبت له.

وانطلاقا مما سبق فإننا نجد أن الشهرستاني والتوحيدي والشهرزوري، قد أوردا عددا من الحكم، ولاشك في أن هذه الحكم منسوبة لهوميروس، بينما نجد أن الأشعار قد وردت على شكل شواهد وأمثلة شعرية في كتاب الخطابة والشعر، وكذلك الأشعار المنسوبة له المبثوثة في (صوان الحكمة) للمنطقي، وفي (الكلم الروحانية) لابن هندو.

وهكذا نصل إلى نتائج هامة نستطيع أن نتخذها تمهدا لموضوعنا المقبل، وفي مقدمة هذه النتائج، أن العرب قد عرفوا الثقافة اليونانية، ولكن ليس على نسق واحد، فنحن نجدها بسيطة وساذجة قبل الإسلام، ومن ثم تتطور في العصر الأموي من خلال بعض الترجمات البسيطة التي كانت تنصب على العلوم، لتبلغ أوجها في العصر العباسي من خلال الترجمة المنظمة، لتتسع الدائرة لتشمل تقريبا جميع العلوم، وكتب الفلسفة، وبعض المصنفات الأدبية، وما حوته من أشعار دون التركيز على ترجمة الأعمال الأدبية الكبرى، ومن هذا المنطلق نستطيع أن نحدد مؤثرات الثقافة اليونانية من خلال عدة محاور هي: الفكر والفلسفة والحكم والشعر.  

أثر الثقافة اليونانية في الأدب العربي:
إن البحث في أثر الثقافة اليونانية في الأدب العربي القديم، يدفع الدارس للتفكر والتأمل مليا لتشعب هذا الموضوع، وكثرة ما يمكن أن يقال عنه، فنحن نكاد نجد الدارسين منقسمين على أنفسهم، فهناك من يرى أن تأثير الثقافة اليونانية، كان أبعد وأقوى أثرا في العلوم و الفلسفة، ولكنه كان خجولا في الأدب، وهناك من يرى أن هذا التأثير واضح المعالم، ويمكن الخروج بالكثير من الشواهد التي تؤكد حصول هذا التأثير، ونحن إذا ما أردنا تتبع هذا التأثير سنجد أنفسنا مضطرين إلى تضييق الدائرة وجعلها محصورة في الأدب المبدع، ونقصد به عملية الإبداع في فنون الأدب من شعر ونثر إبداعي، وإقصاء الموضوع النقدي والنثر التأليفي لحاجته إلى دراسة أخرى، ولكن يمكن الوقوف عليه وباختصار شديد، و يمكن أن نقول بهذا الصدد أن بعض الدارسين يرى أن تأثر العرب بالثقافة اليونانية وخاصة في المنهج في مجال النثر التأليفي كانت ضعيفا، فنحن نجد المصنفات العربية يشوبها الاضطراب، كما عند الجاحظ وابن قتيبة، وغيرهم في العصر العباسي، ولكننا نلمح آثار تلك الثقافة في مضمونها، من حيث الآراء النقدية الظاهرة في بعض المصنفات، كما عند قدامة بن جعفر في التقسيم والتحديد، والآمدي في حديثه عن العلل، واتهامه أبي تمام بأن معظم شعره فلسفة، وكذلك ابن قتيبة في كتاب (الخراج) المتأثر فيه بكتاب أرسطو فن الخطابة، وغيرهم من العلماء وخاصة في المغرب العربي. 

أثر الثقافة اليونانية في الشعر العربي:
إن التأثير اليوناني في الشعر العربي يتخذ عدة مستويات، وهذه المستويات تتباين تبعا لطبيعة المؤثر اليوناني، فمن خلال النظر في طبيعة ما حملته هذه الثقافة، وما تم نقله أو ما قد تسرب للثقافة العربية عبر المحاور التي تم ذكرها سابقا، سنتوصل إلى أن إعادة القراءة والتدقيق فيها أمر ملح، فنحن نجد أن مؤثرات الثقافة اليونانية كانت تنصب في عدة محاور تقوم على العلوم، ومن ثم الفكر الفلسفي اليوناني بما فيه من منطق وجدل ومحاورة، وأخيرا الأدب اليوناني بأقسامه: الشعر الغنائي، والملحمة، والمأساة، والملهاة، وكذلك الخطابة. وسنجد أن هذه المحاور تتباين في تأثيرها تبعا لعدة عوامل، فنجد ما كان منها شديد التأثير، ومنها ما كان ضعيفا على الأدب، لذلك فإنه من البديهي أن نسقط أثر العلوم، مع عدم نفي تأثيرها على العقلية العربية عامة، وفي طبيعة تفكيره مما ينعكس على الأدب. 

أثر الفلسفة على الشعر العربي:
لقد كان لنقل العلوم الفلسفية إلى اللغة العربية أثر بارز، وربما يعد من أكثر المؤثرات وضوحا في الشعر العربي، فنحن نكاد نجد فترة زمنية كان الشعر فيها يمتاز بصبغة فلسفية من حيث المضمون والأسلوب، وهذه الفترة أشد ما تكون في العصر العباسي، ولا سيما لدى أعلام الشعر في هذه الفترة كبشار بن برد، وأبي نواس، وأبي تمام، وأبي العتاهية، والمتنبي، وأبي العلاء المعري، وغيرهم، ولكن التساؤل المطروح هو، كيف استطاع هؤلاء الشعراء التعرف على الفلسفة اليونانية ومنطقها؟ تحيلنا الإجابة عن هذا السؤال إلى أثر المعتزلة والمتكلمين وما شاع عنهم من أفكار فلسفية، وولعهم بالحجة والمجادلة، واستخدام المنطق، عوضا عن ألفاظ فلسفية كالجسوم، والأعراض، والجواهر، والحركة، والسكون، والكمون، وغيرها، بالإضافة للتفكير الفلسفي. مما جعل بعض المعاني الفلسفية والألفاظ تظهر في شعر شعراء تلك الفترة الذين كانوا على اتصال بتلك الحركات، ومن روادها والمشاركين بها. مما سمح لهم بتشكيل ثقافة فلسفية كما هو الحال لدى بشار بن برد، وأبي نواس، وأبي تمام، فها هو بشار بن برد يخوض في أحد تلك المعاني العقلية حيث نجد حديثا عن الإنسان المخير والمسير حيث يقول:

طُبعت على ما في غير مُخير   هواي ولو خُيرت كنت المهذبا
أريد فلا أعطى وأعطى ولم أرد   ويقصر علمي على أن أنال المغيبا


وهنا يلجأ إلى الاستدلال والجدل والبراهين كما في قوله:

إذا بلغ الرأي المشورة فاستعن   برأي نصيح أو نصيحة حازم
ولا تجعل الشورى عليك غضاضة   فإن الخوافي قوة للقوادم


وقوله أيضا:

إذا كنت في كل الأمور معاتبا   صديقك لم تلق الذي لا تعاتبه


ونجد أيضا استخداما للموازنة والتقسيمات حيث يقول:

وعي الفعال كعي المقال   وفي الصمت عي كعي الكلم


فهذا الأثر العقلي ما كان ليظهر لولا مخالطة هؤلاء المتكلمين وتأثره بفلسفتهم، ونجد أيضا لدى أبي نواس مثالا على التأثر حين يتطرق إلى قضية الجزء الذي لا يتجزأ، أو فكرة الجوهر حيث يقول متغزلا:

يا عاقد القلب عني ها ذكرت حلاّ
تركت مني قليلا من القليل أقلا
يكاد لا يتجزا أقل من اللفظ من لا

وقوله أيضا:

توهمتُها في كأسها فكأنما   توهمت ُ شيئا ليس يدرك بالعقل
وصفراء أبقى الدهر مكنون روحها   وقد مات من مخبورها جوهر الكل
كَمَن الشنآن فيه لنا   ككمون النار في حجر


حيث نلاحظ فيها المفردات الفلسفية كالكمون والعقل و الجوهر والكل وغيرها من المعاني والمفردات، وها هو أبو نواس يرد على النظام في فكرة العفو التي جاء بها المرجئة، حيث يقول:

فقل لمن يدعي العلم فلسفة   حفظت شيئا وغابت عنك أشياء
لا تحظر العفو إن كنت امرأ   حَرِجا فإن حظركه بالدين إزراء


من خلال ذلك نلاحظ المعاني والمفردات الفلسفية التي ما كانت لتوجد لولا بروز الفلسفة وتثقف الشعراء بها من خلال بيئة المتكلمين، حيث نجد أحد الشعراء يرد على فلاسفة اليونان مستخدما الأدلة والبراهين، وهو الشاعر بشر بن المعتمر حيث يقول:

لله در العقل من رائد   وصاحب في العسر واليسر
وحاكمٍ يقضي على غائب   قضية الشاهد للأمر
وإن شيئا بعض أفعاله   أن يفصل بين الخير والشر
لذو قوى ً قد خصه ربه   بخالص التقديس والطهر


وربما كان أبو تمام خير من يمثل هذا الأثر عبر أشعاره التي لازمتها الصبغة الفلسفية، وكانت سببا باتهامه بالغموض، وذلك عائد إلى ثقافته الفلسفية العميقة، التي استطاع أن يحولها إلى فن كما يقول شوقي ضيف، فضلّ عن عمود الشعر العربي، حيث نجد إعلاء للجانب العقلي في شعره، كما في البيت التالي:

ولهت فأظلم كل شيء دونها   وأنار منها كل ُ شيء مظلم ِ


نلاحظ كثرة التأويلات لهذا البيت، كما في المثال التالي أيضا، و يظهر فيه الجانب الفلسفي من خلال هذا الطباق الذي يقوم على عملية التضاد والمفارقة، حيث يقول:

هي البدر يغنيها تودد وجهها   إلى كل من لاقت وإن لم تودد ِ


ونسوق مثالا آخر يظهر فيه ما اسماه شوقي ضيف نوافر الأضداد كدليل على العمق الفلسفي الذي امتاز به هذا الشاعر حيث يقول:

 صيغت ْ له شيمة غراء ُ من ذهب   لكنها أهلك الأشياء للذهب ِ


ويمتاز أبو تمام كذلك باستخدامه للأقيسة المنطقية، حيث يقول:

وطول المرء في الحي مخلق   ٌلديباجتيه فاغترب تتجددِ
فإني رأيت الشمس زيدت محبة ً   إلى الناس أن ليست عليهم بسرمد


ويظهر المتنبي أيضا كأحد هؤلاء الشعراء الذين ظهرت في أشعارهم ملامح الفلسفة، فكما هو معلوم، فثقافة المتنبي كانت واسعة، وكان أسير البحث عن كل جديد لبيان قدرته الشعرية والفنية، ومن هنا لجأ إلى توظيف الألفاظ والأفكار الفلسفية كما في مفردة السكون في قوله:

تناهى سكون الحسن في حركاتها   وليس لراء وجهها لم يمت عذر ُ


و فكرة الروح والخلود في قوله:

تخالف الناس حتى لا اتفاق َ لهم   إلا على شجب ٍ والخلف ُ في الشجب ِ
فقيل تخلد نفسُ المرء باقيةً   وقيل تَشرك ُ جسم المرء في العطَب


ونلاحظ أيضا التعقيد في شعره من جراء الفلسفة حيث يقول:

الجيش جيشك غير أنك جيشه   في قلبه ويمينه وشماله


حيث نلاحظ الأسلوب الفلسفي من أن الجيش دائر على نفسه، أو كما يقول أصحاب الفلسفة فكرة فيها دور، وكما هو الحال أيضا في هذا البيت الذي يظهر فيه التعبير الفلسفي:

ولك الزمان من الزمان وقاية ٌ   ولك الحِمام من الحمام فداء ِ


وإذا ما أردنا تتبع مثل هذه الآثار الفلسفية، فإننا سنجد الكثير من الأمثلة منها، فنحن نجدها أيضا لدى أبي العتاهية، وأبي العلاء المعري، وغيرهم من الشعراء في ذلك العصر، الذي تميز بملامح و مظاهر فلسفية، تكونت من خلال الألفاظ والأفكار الفلسفية.

الحكم اليونانية وأثرها على الشعر العربي:
تشكل الحكم اليونانية محورا هاما في هذه الدراسة فقد ميزت هذه الحكم الثقافة اليونانية وجعلتها سمة بارزة من سماتها، وإذا كانت الترجمة قد انصبت على العلوم والفلسفة فإنها أيضا لم تخل من الحكم اليونانية التي تركت آثارا هامة في الأدب العربي، ومما هو جدير بالملاحظة تداخل تلك الحكم بالموضوع السابق، ألا وهو أثر الفلسفة اليونانية، فنحن نلاحظ ترابط هذين الموضوعين وترادفهما في الشعر العربي، ونكاد نلمح أثر الفلسفة من خلال تلك الحكم التي بدأت تظهر في الشعر العربي مشكلة اتجاها واضحا عند عدد من الشعراء، وخاصة شعراء العصر العباسي، ونجد تلك الحكم من خلال أسلوبين هما تحوير الحكم والأمثال اليونانية في صورة نظم، والطريقة الثانية صهر معاني الحكم اليونانية في الشعر العربي، وربما كان الاتجاه الأول مسبوقا بما كان في الشعر العربي القديم من حكم ذات صبغة قصصية كزرقاء اليمامة والقارظ العنزي، مما يشكل تمهيدا لهذا الموضوع، وبالتالي أصبح تقبل الحكاية الخرافية فيما بعد أمرا مقبولا في الشعر العربي كما عند الكميت، وإذا ما أردنا التمثيل على اتجاه تحوير الحكم، سنجد أن خير من يمثل هذا الاتجاه أبو العتاهية في أرجوزته «ذات الأمثال» التي احتوت على أربعة آلاف مثل، وفيها ميل واضح لإبراز العقل، و من ذلك قوله:

لكل شيء معدن وجوهر وأوسط وأصغر وأكبر
وكل شيء لاحق بجوهره أصغره متصل بأكبره

وقد عرف عن أبي تمام ولعه بالحكم، ووصفه بالحكيم جاء نتيجة لبروز هذه الحكم في شعره، وهذه الحكم ذات مصادر متعددة، منها الحكم اليونانية، والفلسفة اليونانية، فنجد في قوله مثالا على ذلك:

وإذا أردا الله نشر فضيلة   طويت ْ أتاح لها لسان حسود
لولا اشتعال النار فيما جاورت   ما كان يعرف طِيبُ عَرف العود


مقارنات نصية حول الفلسفة والحكم
يبدو أن تأثر أبي العتاهية كان كبيرا من خلال مراثي الحكماء للإسكندر، وقد نبه على هذه القضية كل من ابن طباطبا والمبرد والثعالبي والحصري ونورد هذه الأبيات التي يرثي فيها أبو العتاهية صديقه علي بن ثابت:

يا علي بن ثابت بان مني   صاحب جل ّ فقدُهُ يوم بتنا
قد لعمري حكيت لي غُصص   الموت فحركتني لها وسكنتا
بكيتك يا علي بدمع عيني   فما أغنى البكاء عليك شيا
وكانت لي حياتك عظات   وأنت اليوم أوعظ منك حيا


ونلاحظ أن قوله حركتني وسكنتا مأخوذ من قول أحد الحكماء "حركنا الإسكندر بسكونه" وقوله أيضا "فأنت اليوم أوعظ منك حيا" من قول حكيم آخر "قد كنت أمس أنطق وأنت اليوم اوعظ"

ونلاحظ كذلك هذا المثال عند المتنبي، الذي يبدو فيه آخذا لمقولة أفلاطون «الفقير إذا تشبه بالغني كان كمن به ورم ويوهم الناس أنه سمين وهو يستر ما به من ورم» حيث يقول المتنبي:

أعيذها نظرات منك صادقة أنٌ   تحسب الشحم فيمن شحمه ورم


ومن ذلك أيضا قول المتنبي المشابه لقول "فيلن" "الذي يقبل الحكم هو الذي ضل عنها وليست هي الضالة عنه" نجد أن بيت المتنبي يقارب هذا المعنى حيث يقول:

إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا   ألا تفارقهم فالراحلون هم


ويبدو أن هذا الموضوع كان يشكل هاجسا لدى بعض النقاد حيث نجد أبي على الحاتمي يضع (الرسالة الحاتمية) في ما وافق المتنبي في شعره كلام أرسطو مع ما أخذ عليها من نقد حول منهج واضعها وتجنيه على المتنبي والشك في نسب بعض الحكم لأرسطو. 

الموضوعات الشعرية:
لقد وضعت هذا العنوان بعد تردد كبير، قناعة مني أن اثر الثقافة اليونانية لم يصل إلى درجة استيلاد موضوعات جديدة في الشعر العربي، ولكن البحث قادني إلى هذا الموضوع، وإن كانت ملامحه غير واضحة أو غير مستقرة، فالعديد من الدارسين قصروا أثر الثقافة اليونانية على ما تحدثنا فيه سابقا، ولكن ذلك لا ينفي من ظهور إشارات تتمثل بترجمة أشعار يونانية خمرية إلى اللغة العربية على يد إبراهيم الرقيق (425هـ) في كتابه (قطب السرور)، حيث نجد فصلا يتحدث فيه عن "منافع الأشربة ومضارها على مذاهب الفلاسفة" إذ ضمنه شعرا في الخمر لشعراء يونانيين، ونجد فيها حكما منسوبة لأرسطاطاليس، وربما هوميروس، ومنها القول التالي: «الخمرة جوهر ذائب والجوهر خمرة جامدة» نجد هذا القول، ورد نصا عند أبي نواس:

أقول لما تحاكيا شبها   أيهما للتشابه الذهب
هما سواء وفرق بينهما   أنهما جامد ومنسكب


ومنها أيضا قول أحد الشعراء اليونانيين يتحدث عن الشراب حيث يقول: «هو أخو إخوان و نديم ندمان يشربه أقوام كرام يشاكلونه في الأفعال يتصاحبون ويتزاورون» قريب من قول أبي نواس:

والخمر قد يشربها معشر   ليسوا إذا عدوا بأكفائها


والتساؤل هنا هل عرف أبو نواس هذه الخمريات اليونانية؟ 

الشعر التعليمي:
تشير أغلب الدراسات أن فن الشعر التعليمي هو فن مستحدث، ليس له أصول في الأدب العربي، فهذا الفن نتاج لتطور الحياة العقلية خاصة في العصر العباسي، وهذا الرقي العقلي ما هو إلا ثمرة اتصال العرب بالثقافات الأجنبية من هندية ويونانية وفارسية، فنحن نجد العديد من الشعراء في هذا العصر ينظمون القصص أو بعض المعارف أو السير والأخبار كما هو عند صفوان الأنصاري، حيث يتحدث عن فضل الأرض وما تحمله من كنوز، ويعد أبان بن عبد الحميد اللاحقي من الذين عملوا على إشاعة هذا الشعر حيث نظم قصصا وتاريخا وفقها، ومنها نظم قصة كليلة ودمنة، وقصيدة في مبدأ الخلق إذ ضمنها شيئا من المنطق، ونورد هذه الأبيات من نظمه لقصة كليلة ودمنة:

هذا كتاب أدب ومحنة وهو الذي يدعى كليلة ودمنة. فيه دلالات وفيه رشد وهو كتاب وضعته الهند. فوصفوا آداب كل عالم حكاية عن ألسن البهائم. فالحكماء يعرفون فضله والسخفاء يشتهون هزله

ونجد ابنه حمدان متأثرا بهذا النظم، فينظم مزدوجة طويلة في الحب، ونرى أيضا أبا العتاهية ينظم مطولته التي بلغت أربعة آلاف بيت و أسماها ذات الأمثال، ونجد كذلك الشاعر محمد بن إبراهيم الفزاري ينظم في علم النجوم، ومنها يقول:

الحمد لله العلي الأعظم ذي الفضل والمجد الكبير الأكرم. الواحد الفرد الجواد المنعم. الخالق السبع العلا طباقا. والشمس يجلو ضوءها الإغساقا. والبدر يملا نوره الآفاقا

ويكثر هذا النوع من الشعر عند المتكلمين، وأشهرهم بشر بن المعتمر في رده على أصحاب المقالات والنحل والزنادقة، فها هو يرد على بشار بن برد قائلا:

زعمت بأن النار أكرم عنصرا وفي الأرض تحيا بالحجارة والزَّنْد
وتُخلق ُ في أرحامها وأرومها أعاجيب لا تحصى بخط ِّ ولا عَقْدِ
 

النثر والثقافة اليونانية:
لقد آثرت وضع هذا العنوان بعد أن توصلت إلى حقيقة مفادها أن اثر الثقافة اليونانية قد لامست وأصابت تقريبا المنظومة العربية بما تحتويه من فكر وعلوم وفلسفة وأدب بشعره ونثره فكما تتبعنا اثر تلك الثقافة على الشعر العربي نجد أن هذا الأثر ينسحب كذلك على النثر، وقد تحدثت عن جانب منه هنا حينما تحدثنا عن أن اثر تلك الثقافة على النثر التأليفي ضئيلا، وخاصة في العصر العباسي، وتحديدا في القرن الرابع الهجري. ولكن هذا الرأي الذي جاء به أحمد أمين يكاد يكون عاما وحاسما في نتائجه، فنحن نجد أن بعض المنهجية في التأليف قد بدأت تتسلل إلى المؤلفات العربية، بالإضافة إلى آثار تلك الثقافة بما حملته من رؤى نقدية، أصبحت شاغلة للعديد من العلماء والفلاسفة، كابن رشد والفارابي وحازم القرطاجني من خلال تأثرهم بمؤلفات اليونان خاصة أرسطو، ونجد كذلك أن الأثر اليوناني يلقي بظلاله على النثر الإبداعي حيث نجد الدكتور إحسان يعقد دراسة مقارنة بين نص يوناني بعنوان "مأدبة الحكماء" التي يجتمع فيها عدد من الحكماء يتحدثون عن الطعام، وما يتعلق به من لحوم وخضار وشراب لأثنايوس النقراطسي وبين مقامة لابن بطلان تتحدث عن عدد من المشتغلين بالطب، حيث تجري بينهم محاورات ومناظرات شبيهة بتلك التي في مأدبة الحكماء، ونجد أن ابن بطلان يضمن العديد من الحكم اليونانية لأرسطو وأفلاطون وجالينوس دون بيان نسبها من ذلك قوله: «اعلم يا سيدي أنه ليس الآمر بالخير بأسعد من المطيع له، ولا الناصح أولى بالنصيحة من المنصوح له».

نجد هذه المقولة عند أرسطاطاليس، ومن خلال شكل آخر تحولت المقامة إلى وعاء لحمل الأفكار كما هو الحال عند لسان الدين بن الخطيب، الذي يستفيد من ترجمة ابن الداية لكتاب العهود اليونانية حيث يصوغها في مقامة سياسية، و من الآثار كذلك ظهور النثر العلمي والفلسفي، وتلك القصص والمناظرات، كقصة حي بن يقظان التي تأثر بها بالأفلاطونية الحديثة. وإذا ما نظرنا إلى الأساليب، فإننا سنجد أن خير من يمثل هذا الأثر اليوناني عبد الحميد الكاتب الذي كان ختنا لسالم مولى سعيد بن عبد الملك، وقد كان كاتبا عند الأمويين، وسالم هذا نقل من رسائل أرسطاطاليس إلى الإسكندر. ومما لاشك فيه أن عبد الحميد قد تأثر به في الإطالة، بالإضافة للتشابه الموجود في رسائله برسائل أرسطاطاليس، وخاصة الرسائل التي في شؤون الحرب معتمدا التفصيل والتحليل، فكما ورد عند أرسطاطاليس «حصن العورة واضبط الضيعة وأذك العيون واجتهد في الأحراس» نجد عند عبد الحميد ما يلي «حصن جندك وأذك عيونك وأعلم أن موضع الأحراس».. وهكذا يتضح لنا أن عددا من الكتاب كانوا على علم بالثقافة اليونانية وأساليبها، وقد استفادوا منها بعدة نواحي منها ما كان بالشكل ومنها ما كان بالمضمون. 

المصادر والمراجع:
(1) ابن منظور: لسان العرب، دار صادر، بيروت.
(2) إبراهيم أنيس ورفاقه: المعجم الوسيط.
(3) الجاحظ: البيان والتبيين، ط1، 1968، دار صعب، بيروت.
(4) إحسان عباس: تاريخ النقد الأدبي عند العرب، دار الشروق،عمان.
: ملامح يونانية في الأدب العربي،ط 2، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1993، بيروت.
(5) أحمد أمين: موسوعة أحمد أمين الإسلامية، ط10، دار الكتاب العربي، بيروت
(6) شكري فيصل: مناهج الدراسة الأدبية في الأدب العربي، ط7، دار العلم، 1996، بيروت
(7) شوقي ضيف: العصر العباسي الأول، ط8، دار المعارف، القاهرة.
: الفن ومذاهبه في الشعر العربي، ط13، دار المعارف، القاهرة
(8) مالك بن نبي: مشكلة الثقافة، ترجمة عبد الصبور شاهين،دار الفكر، سورية.
(9) محمد الموافي: حركة التجديد في الشعر العباسي، مطبعة التقدم، القاهرة.
الدوريات
(10) عباس أرحيلة: حازم القرطاجني ومسألة التأثير الأرسطي، عالم الفكر، المجلد 32، أكتوبر، 2003.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر ضحى الإسلام 264 للتعرف على نقل العرب لثقافات الحضارات الأخرى.