في اقترابها الحساس من قضية الموت والطفولة العارية من الطفولة تمزج القاصة الفلسطينية المأساوي بالتهكمي وهي تصوغ لنا تلك الشخصية الفريدة وتمنحها بعدا أسطوريا.

طافش طفش

حزامة حبايب

 

مع أنّنا لم نعرف معنى اسمه حينئذ، إلاّ أنّه كان مُركّباً عليه.. "طافش"! ولا أذكر أنّنا حاولنا ولو لمرّة واحدة فقط أن نبحث في معناه ـ هذا إن كان له معنى. بالنسبة لنا كانت القضية واضحة! يكفي أن يكون اسمه "طافش" لنناديه.. "طافش"! وإلاّ لكان علينا أن نبحث في أُصول علي وكاظم وعثمان ووليد وأسعد.. ولماذا؟! مَن في سنّنا في العادة لا يهتمون بالتنبيش عن بذرة الأشياء حاضرهم فقط هو ما يعنيهم.. الحاضر بمساحة دائرية لا يتجاوز نصف قطرها طول الذراع وهي ممدودة! إنّ النتائج لا المقدَّمات هي التي تربطهم بوجودهم من دون أن يعوا هذه العملية المركَّبة والبسيطة في آن واحد.. تصلهم الأشياء إلى بابهم فلا يسألونها عن رحلة الطريق.. لا يُثيرهم كيف أتت! المهم أنها أتت وانتهى الأمر! ولم نكن لوحدنا في هذا الشيء، فالحارة كلّها لم تقف عند معنى طافش ـ ولا أظن أنها كانت تقف عند معنى أي شيء آخر كذلك ـ حتى إنّ الحاج حسين كان إذا ما مرق طافش بقرب بقّالته بسرعة كَهَبَّة، هزّ رأسه ضاحكاً وقال: "واللّه مَن سَمَّاك (طافش) لم يُخطئ!" فهل كان الحاج حسين مثلاً يعرف معنى "طافش"؟ أو لماذا سُمِّي "طافش" بـ "طافش"؟ لا أعتقد. فتعليقه لا يعدو أن يكون أكثر من جُملة من الجُمَل المربوطة بألسنتنا.. تنبت مع أسناننا اللبنية.. نُبدِّل أسناننا ونخلعها بينما هي ـ الجُمَل ـ تضرب جذورها في اللثّة! ومع هذا جاء يوم اكتسب فيه "طافش" معنى فجأة.. وبَدَا وكأنّ اسمه لم يُخلق من الأساس، إلاّ في انتظار هذا المعنى الجديد!

ـ "طافش طفش يا أم طافش! طافش طفش يا أم طافش.. طافش طفش يا أم طافش!"

ارتبطت صورته في أذهاننا بجسده مرسوماً فوق سور المقبرة. كنّا نُحبه، وكُنّا نكرهه.. نُحبّه لأنه منّا.. مِن مخيّمنا، يعيش وسطنا، وبيتهم يقع في نفس الصف مع بيوتنا.. الصف الثاني. ونكرهه أيضاً لأنه أحياناً ليس منّا.. أحياناً كثيرة هو ليس منّا.. خصوصاً حين تتأرجح قدَمَاه القصيرتان على جانبي السُّور.. فتتسابق أيدينا لانتزاع فَرْدَة حذائه المشرعة من الأمام، فهو نادراً ما كان يشدُّ الرِّباط، وغالباً ما تكون بلا رباط على الإطلاق. وكنتُ أنا من دون الجميع أتأمّل الخدوش الحمراء المتعاركة على كاحله، أو تلك الكدمات الزرقاء التي تَفَشْفَشَت على بَطّة قَدمه مِن الخلف. إلاّ أننا لم نكن لنقترب منه كثيراً أبداً. نلهو معه ونعبَث بحذائه أو نشدّ فردة بنطاله الكالِح من بعيد.. كل شيء من بعيد.. كنّا نحن وكان هو، وهو ظلّ خارج "نحن". وأذكر أنّ "خالد" ـ وكان أكبرنا سنّاً وأضخمنا جثّة ـ كان الوحيد الذي يجرؤ على انتزاع فَرْدَة حذاء "طافش" والهرب بها إلى شارع المخيم، فيلحقه "طافش" كالمجنون، ويلحقه قبله لسانه، تتدحرج عليه الشتائم المكشوفة، والتي تصحبها عادة كلمة "أمك" أو "أختك"! أمّا "خالد" فكان يركض بسرعة، حتى إذا ما شعر بدنوِّ "طافش" منه خاف وألقَى بالحِذَاء بعيداً، ثم واصل عَدْوه.. فيتوقّف "طافش" ليلتقط فَرْدَة الحِذَاء، يمسحها بطرف كمّه مُواصلاً هو الآخر السِّبَاب أيضاً و"التمخيط"، ثم يضحك ويمضي إلى سوره.

كنّا نهوى منظره حين كان يجري بفردة حذاء واحدة من دون الأُخرى، وكنّا نحب شتائمه ونُحبّها أكثر حين يكون صوته عالياً. صحيح أنّ الحاج حسين البَقَّال كان يعيب على "طافش" ألفاظه التي "تحت الزنّار" ـ على حد وصفه ـ إلاّ أنّنا كنّا نحبّها، لم نمنع أنفسنا من أن لا نحبها، ومع هذا ما كنّا لنجرؤ أن نتناقلها فيما بيننا.. خصوصاً تلك المتبوعة بكلمة "أمّك" أو "أختك"! تماماً كما كنّا نحب "طافش".. نحبه وفي نفس الوقت لا نَقْرَبَهُ..

حتى عُمَر الأهبَل، ذراع "طافش" الأيمن و "سكرتيره"، لم يكن هو الآخر يلمسه. كان يدور بين بيوت المخيم، يتصيَّد عويل امرأة، أو صوت قرآن غير مفهوم تنتأه مسجلة قديمة، وأحياناً كان يدسُ رأسه من بين الثقوب الواسعة لشَبَك نافذة مطبخ، علَّ أنفه يلتقط رائحة هال مطحون مع قهوة.. ثم يُسرع بعد ذلك إلى سور المقبرة الخارجي، وينادي على "طافش" مرة ومرّتين قبل أن يبرز هذا الأخير فوق حافة السور فجأة، فيبدو في اسْوداده الصَّدئ وشدّة نحوله كمسمار طويل مدقوق باعوجاج ظاهر في منتصف لوح خشبي.

ـ ماذا عندك؟

ويبتسم عمر الأهبل قليلاً، لكنّ أمله يخفت بسرعة، فالشعاع الجاف الذي تقطره عيناه شبه المغمضتين لا يُثير فضول "طافش" لأن يستعجله في الكشف عن سبب ابتسامته.. كعهده به دائماً، فما كان ليخفي على "طافش" السرّ المفضوح وراء تلك الابتسامة البلهاء. أكيد أن أحداً قد "وسَّع"!

ـ أبو توفيق "وسّع" لغيره!
ـ متى؟
ـ البارحة.. في الليل.
ـ وكيف عرفت؟
ـ ذهب الرجال لتغسيله في الجامع.. والنسوة اجتمعن منذ الصباح عند زوجته.. أعني أرملته!
ـ هل تظن أنّ أحداً قد درى بالأمر؟
ـ تقصد فتحي الحفّار؟! لا.. ذهب إلى سوق الخضار.. في عمّان ولن يعود قبل المساء.
ـ اسمه فتحي.. لا فتحي الحفّار!
ـ ولكنه حفّار.. أليس كذلك؟!
ـ أتُسمِّي مُصلِّح الحمّامَات هذا.. حفّاراً؟ أتذكر القبر الذي حفره للحاجة زكية؟
ـ حقاً.. كان القبر ضيقاً.. بالكاد يسع كلبة.. والمرحومة ما شاء اللّه.. أنعم وبارك.. قطعة هبر!
ـ يبدو أنه خلط بين مهنته كمُصلِّح حمّامات، ومهنته كحفّار قبور.. فتخيّل أنه يحفر جُورَة مرحاض.

ويقهقهان معاً بصوت محشورة فيه كتل بصاق ثم يثب "طافش" فجأة من على السور إلى الأرض كقطة سوداء.. فيجفل عمر الأهبَل مبتعداً إلى الخلف خشية الاحتكاك به. والحق أنّ "طافش" كان كقطة.. وقطة سوداء! فالجنّ في العادة لا يركب إلاّ قطة سوداء! فكيف لنا بعد ذلك أن نقرب "طافش"؟

ويمسح "طافش" بطن كفّيه المتربتين ببنطاله منتشياً:

ـ يعني الليلة ضمنت عشاء محترماً!

فيُصحِّح له عمر الأهبَل بسرعة:

ـ بل ضمّنا عشاء محترماً!

الحفلة الحقيقة بالنسبة لنا كانت تبدأ مع الحفر. كنّا نرقب عضلات "طافش" تهتزّ بعنف، وتكاد تشقّ جلد ذراعيه السوداوين، وهي تسقط على الرّفش، فينغرس الرّفش في الأرض، وتبدأ الحفرة بالتقعُّر أكثر والاتساع إلى أن يأخذ القبر شكله الطبيعي. لم تكن العملية تستغرق أكثر من ساعة، نتجمّع نحنُ أثناءها وراء تلال الرمل الصغيرة التي تتكوّم حول الحفرة العميقة. كان "طافش" أسود، وسواده هذا كان يسودّ أكثر عند الحفر. ولم يكن يتكلّم أو يتحدّث إلينا. ولا أعتقد أنّه حاول مرة واحدة أن يطلب مساعدتنا لنزيح أكوام الرّمل من على جوانب القبر. كان يقوم بكل شيء لوحده. أتراه كان يعرف؟ أتراه كان يُدرك معنى تلك المسافة الواضحة وغير المفهومة التي كنّا نحرص على إبقائها بيننا وبينه؟ لابدّ أنه كان يشعر بذلك جيداً.. ولكن.. هل عرف السبب؟

وما هو السبب؟ هاأنذا كبرتُ ولا أستطيع أن أجزم بكنه التقلّصات الغريبة التي نادراً ما رحمت أمعائي في تلك الأيام عندما كنت أراه يحفر قبراً. كانت التقلّصات تتمدّد مع تمدُّد الحفرة، ويتقعّر بطني مع تقعُّر بطن الأرض! ويبدأ كل ما في داخل جسدي بالانزلاق تدريجياً إلى أسفل ليتجمّع عند ركبتي.. حتى كان يتهيّأ لي في بعض الأحيان أنّ ركبتي تمزقنا، وفارت كل الأعضاء والأجهزة المتجمِّعة فيهما إلى الخارج، ووقعت في القبر. هنا كنت أتراجع وراء التلال الرملية أكثر، وأتلمّس ركبتي لأتأكّد أنّ ما تهيّأته كان مجرّد تهيّؤ! لا أجهزتي طارت من ركبتي ولا "طافش" دفنها! لكن سواد "طافش" الذي لم يختلف شيئاً عن سواد قطة سكنها جني، كان يُرعبنا، وكنّا نحرص على ألا يعلق بنا شيء من هذا الشّحبار الآدمي.. أن نراه ونلعب معه شيء.. وأن نقربه شيء آخر!

ويصل الميت، ويقوم عمر الأهبل بحركة مسرحية من يديه بكشّنا بعيداً.. فتستطيل رقابنا الطريّة نحو "طافش" والقبر، إذ إنّ "البضاعة" الآن أضحَت بين يديه، ولا يجب أن يفوتنا شيء مما قد جئنا لأجله.. لا.. "طافش" لم يكن يلمَس الكَفَن. وأذكر تماماً أنه ما حاول قط أن يكشف الغطاء الأبيض عن الكرش المتجلِّدة، أو يتأكّد هو بنفسه من إغلاق الجفنين المنفوخين. كان يقف بعيداً خارج القبر، وينتظر أن ينتهي هؤلاء الذين جاؤوا بالكفن على أكتافهم من إنزاله في القبر، ويطلب من أحدهم النزول والتأكّد من إغلاق الجفنين المنفوخين. الغريب هو أنّي لمّا كنتُ أشذّ عن سرب الرِّقاب الطريّة المتحلِّقة حول القبر لأُراقب "طافش" كنت أُدهَش.. أُدهَش كثيراً. فكثيراً ما صدّته سادّاً أنفه بيده أو ـ وهذا، ما كان يُدهشني أكثر ـ يشيح ببصره بعيداً. فلماذا؟!

ويبدأ بعدها "طافش" عمله.. ينثر الحناء على الكومة البيضاء، ثم يرش الماء فوقها. في أثناء ذلك يكون عمر الأهبل قد جلب ثلاث بلاطات من ورشة من ورش البناء القريبة، يتناولها "طافش" ويرصصها أفقياً فوق الجثة ويقف عليها. عندها نقترب أكثر، فاللحظة التي انتظرناها دَنَت. يصبح "طافش" الآن فوق الجثة تماماً.. لا تفصله عنها إلاّ بلاطة هزيلة أقرب إلى رقاقة بسكوت.. تتدلّى أبصارنا إلى أسفل لتبتلع قدميه وهما تدوسان بقسوة على قطعة اللحم الملمومة في الخرقة البيضاء. "ألا يخاف؟!" نسأل أنفسنا.. هو لا يكبرنا كثيراً. أنهى السّادس الابتدائي العام الماضي.. فلماذا نخاف نحن وهو لا يخاف؟ يدوس بقوّة أكبر، فنطوي الشّهقة في صدورنا إذا ما انزاحت بلاطة أو انزلقت بعيداً عن الكتلة المكفنة. لكنه في كل مرة يعود فيثبّتها برأس حذائه مُحاذراً ألاَّ يلمس الجثة.. أبداً..

ماذا كان ليحدث لو أنّ الكفن نهض فجأة وقضم الفم حذاء "طافش"؟ كنت أتخيّل أصابع قدمي "طافش" معلوكة في فم الجثة، والدم يغطي نصف حذائه، و "طافش" يضحك.. فـ "طافش" لا يخاف! إذ كيف يخاف هذا الذي يدوس على الكتل المصرورة؟! كان يحلو لي أن أتخيّله كفناً.. قطعة لحم متجلِّدة مثل تلك اللحوم التي دفنها.. وكانت الفكرة تكبر في رأسي الخيالي، وتتعقّد إلى أن تصبح منطقية بلا منطقيّتها وأقبلها! أتخيّله إذا مات يقوم فيغسل نفسه بنفسه.. ثم يرتدي كفنه ويسير وحيداً في جنازته، فيبدو في قماطه الأبيض ووجهه الأسود كسمكة نتنة. ثم يصل إلى المقبرة ويحفر قبره، بعد أن يمدّ ذراعيه طبعاً خارج الكفن.. ونحن نراقبه.. ولا نساعده! ثم يستلقي داخل القبر على جنبه وينتظر أن تُسوّى فوقه بلاطات ثلاث، ويهيل عليه أحد ما التُّراب! لكن أحداً لا يأتي.. فيُقرِّر أن ينهض ويخلَع كفنه! فهو لا يستطيع أن يموت مثلنا!

لكن الكفن لم يكن ينهض! وكان "طافش" يضغط بكل ثقله الأسود على البلاطات ويدوس ويضغط ويدوس ويضغط، ثم يقفز إلى الخارج ويهيل تلال الرمل داخل القبر و.. تنتهي الحفلة، وينصرف المدعوون والمتفرجون. لم يكن يطلب الكثير. ثلاث ليرات فقط "والمعدة تعمر لأسبوع".. كان يقول.. ثم..

ماتت أمّونة الصغيرة.. وأمها "ولولت".. والمخيّم حزن.. والنساء ذهبن إلى منزل أم أمّونة في الصباح لتغسيل أمّونة وتكفينها.. وعمر الأهبَل لقط الخبر وأسرع إلى سور المقبرة الخارجي فنادى على "طافش" مرة ومرتين قبل أن يبرز هذا الأخير فوق حافة السور فجأة كلطخة سوداء! والحفلة بدأت. "طافش" حفر قبراً.. ورقابنا استطالت.. والبضاعة "المكفّنة" وصلت.. تحنّت وترطّبت.. والبلاطات الثلاث استوَت فوق التي كانت أمّونة.. و "طافش" داس وضغط، وداس وكل شيء عال.. لكنه قبل أن يضغط للمرة الرابعة انزاحت البلاطة القريبة من الوجه المكشوف. حاول "طافش" أن يثبت البلاطة برأس حذائه فانزلقت قدمه لتدوس على الفم المتصمّغ، وحدث ما حدث! ولولا أننا جميعاً أولاد المخيم وبناته اتّفقنا على أنّ ما رأيناه كان ما رأيناه حقاً لَمَا وثقتُ في حمل شريط تلك الحادثة معي إلى اليوم!

"طافش" نعق!..

ونعيقه كان موجعاً.. ثقب رقابنا المنقوشة والمتجهة نحوه، فانكمشنا إلى الوراء.. جميعاً.. وتقهقرت عيوننا.. جميعاً أيضاً.. الكبار قبل الصغار! وقف "طافش" فوق أمُّونة مُتجلِّطاً للحظة قبل أن ينعق ثانية.. ثم.. نعق ونعق.. وبعدها.. نعق! تبّدل. ملامح وجهه كلّها انقلبت. فمه ترخرخ في استدارة واسعة مبعوجة، والبؤبؤان ارتفعا والتصقا بسقف البياض الرّث. انزلق لسانه على ذقنه. فتحتا أنفه انحفرتا أكثر.. جسده انتفخ.. تورّم و.. نعق! يداه.. قدماه.. رأسه.. كل أعضائه نعقت. قفز إلى الخارج، فتلقفته تلال الرمل المكوّمة حول القبر. ركلها بقدميه وزحف مبتعداً عنها. زحف على بطنه، ثم على ظهره، ثم نام على جنبه، وأخذ يضرب الأرض بقدميه ويصرخ. خفنا.. ابتعدنا عنه أكثر. حتى الرجال خافوا وابتعدوا عنه. كان لا يزال مستلقياً على جنبه.. يُقوِّس قدميه ويديه ويبرمها كما لو كان يودّ أن يخلعها عن جسده! بلّل بطن كفه بلسانه ومسح كاحله. مسح ومسح. ثم فركه بالأرض. فرك وفرك. وأخيراً نهض وأسرع إلى رخامة عريضة مقامة على ضريح مرتفع، وأخذ يكحت كاحله. كحت وكحت!

وكان سواده ينعق!

وسواده اسودّ، رمى قدميه.. قفز.. دار.. طار.. نتر جسده في الهواء.. خرمش كاحله. كان مثل "بشار"! و "بشار" هذا قط أسود ألف مزبلة المخيم وألفناه واخترنا أن نُسمِّيه "بشار" لأنه كان يقفز في الهواء ويفرقع كالبُشار ويدور حول نفسه ويتشتت بجنون لما كان أحدنا يشعط أسفل بطنه بسيخ حديد محمي! فما الذي شعط كاحل "طافش"؟! فَمُ أمُّونة بارد لا يشعط! أتكون أمُّونة نهضت وعضّته؟ أيكون فمها قضم قدمه؟ لكن قدمه كانت سليمة، ولا توجد آثار لدماء، كما لم تتدلَّ أصابع معلوكة من الفم الأصفر.

أمُّونة كانت لا تزال ممددة على جنبها. وجهها مكشوف. والبلاطة منزاحة. وفمها متصمّغ! فمهما الذي حدث؟! أتراه خاف؟ لكن "طافش" لم يكن يخاف. "طافش" الوقح ما عرف الخوف. "طافش" الأسود يخاف؟! "طافش" حفر مائة قبر ودفن مائة خرقة بيضاء ومعّس مائة كتلة متجلِّدة وما خاف. فلماذا إذن حدث ما حدث؟!

شاهدناه يقفز بين القبور.. كان يتوقف قليلاً يهرش كاحله بالرمل ثم يزعق، ويعود فيقفز ونحن نقف.. نرى.. ونفهم.. ولا نفهم. وجعل يقفز ويقفز إلى أن قفز من أعيننا.. ثم قفز من مخيمنا.. اختفى! طار.. "انتتر". "لقد طفش" هذا ما قاله الحاج حسين. "طافش" طفش.

لكنّ خيالات أقدامنا لا تزال تتزاحَم بالقرب من دارهم، وأصداء ألسنتنا التي كانت تتجمَّع ساعة العصر تحت شباكهم، ما فتئت إلى اليوم تُردِّد اكتشافنا للمعنَى الجديد..

ـ "طافش طفش يا أُم طافش! طافش طفش يا أُم طافش.. طافش طفش يا أُم طافش!".