يكشف الباحث الجزائري في هذه الدراسة عن التراث الشعري العربي، حضور المتلقي المضمر في تلك النصوص، بصورة تستفيد بشكل خلاق من دراسات التلقي الحديثة، وإن كانت تعود إلى ابن قتيبة وابن رشيق والجاحظ والآمدي والقرطاجني وغيرهم، من البلاغيين العرب القدماء الذين لم تغب عنهم أهمية المتلقي ولا أليات التواصل في النص الأبداعي.

سلطة المتلقّي وكيمياء التّواصل في التراث العربي

عبدالقادر عوّاد

لقد اهتمّ العرب بموضوع التلقي والمتلقي بصورة واضحة في أغلب مدوّنات التراث، لا سيّما في الدّرسين النقدي والبلاغي، إذ يمكن مبدئيا الانطلاق من فكرة مركزية في معالجة مثل هذا الموضوع وهي أنّ الوعي النّقدي والأدبي بعملية التلقي وصوره، كان له تجلياته وحضوره في كتابات نقاد وبلاغيي العرب، على الرّغم من بساطة الطرح وغياب رؤية واضحة بإمكانها استيعاب فلسفة نظرية وجمالية مكتملة العناصر والأركان. غير أنّ هذا لا يمنع من اعتبار موضوع التلقي مشكلة توجد حيثما يوجد الأدب، بحيث من الصعب تصوّر انصراف الدراسات العربية بخاصة النقدية عن مفهوم مهمّ مثل التلقي(1)، كما قد يعسر من جانب آخر النظر إلى طبيعة العلاقة المنعقدة بين المتلقي/القارئ والنصّ في التراث على أنها علاقة قائمة على الصدفة أو على هوس مبدع وميله، وإنما هي في الوجه العميق منها تعاقد بين الأطراف المضطلعة بوظيفة التخاطب(2).

من هذا المنطلق قد يتهيّأ لنا تصوّر إطار يحدّد السّمات العامّة التي تنتظم موضوع التلقي وأحكامه وجمالياته، وذلك تأسيسا على ضرورة انشغال العرب قديما بمدارسة هذا الموضوع لأنّ اعتناءهم به(التلقي/الاستقبال) ظلّ مرتبطا في جملة أحكامهم بقضايا النصّ(3)، ممّا قد يعني بأنّ الدارسين العرب القدامى قد تعاملوا مع النص وضروب الكلام بالتركيز عن وعي على الذي يتلقى هذا النصّ، كون المتلقي أو بالأحرى التلقي من مستلزمات العمليّة الإبداعية(4)، فكان ذلك من أهمّ الدوافع التي دفعتهم إلى الإيمان بمنزلة المتلقي (السّامع على وجه الخصوص) في سائر أحوال تلقيه، حرصا على تقويم النصوص بخاصة منها الشعرية وتصنيفها من حيث السبق وجودتها، ولهذا فإنّ التراث العربي بشكل عام قد حاول وضع المتلقي" في منزلة مهمّة من منازل الأدب وقصده بخطابه قصدا وحثّ الشعراء على أن يكون شعرهم متوجها إليه"(5)، وهو ما يجعل المبدع/ الشاعر منشغلا في المقام الأول إلى درجة الهوس باستقطاب هذا المتلقي/ السامع وحيازة رضاه، وعيًا منه بأنّ في ردود أفعال المتلقي وخاصة من المتخصّص إقرارا للحقّ في نصابه، وقضاءً للمبدع بالشعرية أو نقيضها(6)، وكأنّ حضورَ المتلقي في عملية تلقي النص المبثوث مكتوبا أو مسموعا، ممّا يؤرّق الشاعرَ صاحبَ النص فيدفعه إلى إجادة صنيعه، مُرغِما إياه في كل الأحوال" على بناء قصيدته بناءً لا يرضي فيه تجربته الشعرية، بقدر ما يرضي السّامع، ويستدرجه إلى غرضه الأساسي.

فهو يبكي ويستبكي الأحبة، ويتغزل ويصف الرحلة ومشاقّها، ثمّ يخلص إلى الغرض الذي من أجله جاء، وهو في كلّ ذلك يتسلل من غرض إلى غرض برفق(حسن التخلص) كي لا يثير حفيظة ذلك السامع الماثل في خلده، كسلطة رقيبة، لا تسمح له بالروغان"(7)، وهو ما يسوقه الناقد اللامع" ابن قتيبة"(ت322هـ) في إشارته إلى تلك الأهمية التي يوليها مقصّد القصيد للمتلقي في أثناء بناء القصيدة بالحرص على استمالته واسترعاء انتباهه حين يقول" قال أبو محمد: وسمعت بعض أهل الأدب يذكر أنّ مقصّد القصيد، إنما ابتدأ فيها بذكر الديار والدّمن والآثار فبكى وشكا وخاطب الربع واستوقف الرفيق، ليجعل ذلك سببا لذكر أهلها الظاعنين عنها... ثمّ وصل ذلك بالنسيب فشكا شدّة الوجد وألم الفراق وفرط الصبابة والشوق ليُميل نحوه القلوب ويصرف إليه الوجوه ويستدعي به إصغاء الأسماء إليه، لأنّ التشبيب قريب من النفوس، لائط بالقلوب، لما قد جعل الله في تركيب العباد من محبة الغزل وإلف النساء، حلال أو حرام، فإذا علم أنه قد استوثق من الإصغاء إليه، والاستماع له،عتب بإيجاب الحقوق، فرحل في شعره وشكا النصب والسهر وسرى الليل وحرّ الهجير، وإنضاء الراحلة والبعير، فإذا علم أنه قد أوجب على صاحبه حق الرجاء، وذمامة التأميل وقرّر عنده ما ناله من المكاره في المسير، بدأ في المديح، فبعثه على المكافأة، وهزّه للسّماح، وفضله على الأشباه، وصغر في قدره الجزيل"(8).

فالعلاقة هاهنا بين الشاعر والسامع جدّ وثيقة لا يستطيع أحدهما الاستغناء عن الآخر، بل إنّ للسامع/ المتلقي دورا فعالا في قراءة النص المعروض عليه وتحري معانيه وأسراره، إذ نلفي في هذا الصدد قولا يشدّد على مشاركة السامع في فكّ شفرات الدلالات والغوص في لجة الأصداف "..وإن توفقت في حاجتك أيها السامع للمعنى إلى الفكرفي تحصيله، فهل تشكّ في أنّ الشاعر الذي أدّاه إليك، ونشر بزّه لديك قد تحمّل فيه المشقة الشديدة، وقطع إليه الشقة البعيدة، وأنه لم يصل إلى درّه حتّى غاص، لم ينل المطلوب حتى كابد من الامتناع والاعتياص"(9)، بل إنّ فعل التلقي أشدّ ارتباطا بالشعر شفاهيا وسماعا، بحيث إنّ السّامع بوصفه مصطلحا شاملا فقد تنضوي تحته مختلف أنماط التلقي الشفاهية أو السماعية فضلا عن القرائية (10)، وذلك كون الشعر في الثقافية العربية ظلَّ كالقرآن الكريم يعتمد على التلقي الشفاهي، فهو يُغنّى- الشّعر- ويُنشد أي يحتاج إلى متلقٍّ شفاهيّ وهونوع من التلقي الذي " يقوم على اللّمحة السّريعة الدالة، والقدرة على إثارة الانتباه والإعجاب، والتعامل السّريع مع مجرى النص"(11).

 كما يمكن أن نلفي في السّياق عينِه حديثَ أحد النقاد القدامى عن موضوع اعتناء الشاعر(مقصّد القصيد) بصنيعه (بناء القصيدة)،لأنه يعلم يقينا أنّ هناك قارئا ذا خبرة ودراية يترصّد له(القارئ الضمني) إذ " للشعر صناعة وثقافة يعرفها أهل العلم كسائر أصناف العلم والصناعات، منها ما تثقفه العين، ومنها ما تثقفه الأذن، ومنها ما تثقفه اليد، ومنها ما يثقفه اللسان.. ومن ذلك الجهبذة بالدينار والدرهم، لا تعرف جودتها بلون ولا لمس.. ويعرفه الناقد عند المعاينة، فيعرف بهجرجها وزائفها وستوقها ومفرغها... فكذلك الشعر يعلمه أهل العلم به"(12). فصناعة الشعرعلى وجه الخصوص فعلٌ يمارسه أهل الاختصاص من الشعراء الواعين بعملية النظم وتشكيل القوافي وتأليف المعاني، استرضاءً للمتلقي(القارئ أو السامع) بالدرجة الأولى لأنّ بيده الأمر في استحسان القصيد أو استهجانه".. فإذا أراد الشاعر بناء قصيدة مَخَض المعنى الذي يريد بناءَ الشعر عليه في فكره نثرا، وأعدّ ما يُلبسه إياه من الألفاظ التي تطابقه، والقوافي التي توافقه، والوزن الذي يسلس القول عليه، فإذا اتفق له بيت يشاكل المعنى الذي يرويه أثبته، وأعمل فكره في شغل القوافي بما يقتضيه من المعاني على غير تنسيق للشعر وترتيب لفنون القول فيه... ثمّ يتأمّل ما قد أداه إليه طبعه ونتجته فكرته، يستقصي انتقاده... ويبدّل بكلّ لفظة مستكرهة لفظة سهلة نقية... ويكون كالنسّاج الحاذق الذي يفوف وشيَه بأحسن التفويت ويسديه وينيره ولا يهلهل شيئا منه فيشينه، وكالنقاش الرفيق الذي يضع الأصباغ في أحسن تقاسيم نقشه ويشبع كل صبغ منها حتى يتضاعف حسنه في العيان... والشعرُ على تحصيل جنسه ومعرفة اسمه، متشابه الجملة، متفاوت التفصيل، مختلف كاختلاف الناس في صورهم، وأصواتهم وعقولهم، وحظوظهم وشمائلهم وأخلاقهم، فهم متفاضلون في هذه المعاني، وكذلك الأشعار هي متفاضلة في الحسن على تساويها في الجنس، ومواقعها في اختيار الناس إيّاها كمواقع الصّور الحسنة عندهم، واختيارهم لما يستحسنونه منها"(13).

 قد يعني هذا في أبسط إيحاءاته بأنّ كتابة النص مرتبطة في ذهن منشئه بمَن يتلقاه مدوّنا أو مسموعا، لا سيّما سماعا، بحيث إنّ السّمع يعدّ من أهمّ وأنسب قنوات التلقي في إيصال النصوص(الشعرية)، لأنّ السامع يستقبل ما يرضيه وما يغضبه، ولا اختيار له في ذلك(14)، ولذلك فالشّعر أو الكلام الممتع الذي يروق مستقبله ويبهجه، ويلهج به لسانه هو ذاك الذي " لذّ سماعه، وخفّ محتمله، وقرب فهمه، وعذب النطق به، وحلي في فم سامعه"(15).

هذا، ولأحد النقاد العرب رأيُه الطريف في ربط أفضل الكلام (الشعر) بتلقيه سمعًا وذهنا حيث يقول" ثمّ خير كلام العرب وأشرفه عندها هذا الشعر الذي ترتاح له القلوب وتجذل به النفوس وتصغي إليه الأسماع وتشحذ به الأذهان وتحفظ به الآثار وتتقيّد به الأخبار"(16). وكأنّ هذا الكلام هو بمثابة تخصيص المتلقي بمنزلة ذات أهمية بارزة، إذ تشترك مجموعة حواس (الأذن، القلب، الذهن، الوجدان) في استقبال النص الشعري وتذوّقه ومن ثمّة إصدار رأي أو حكم فيه. ومن الممكن أيضا أن نقع في المفصل ذاته على عرض مثير ودقيق لحضور عنصر التلقي الذي ينهض على شرط الإصغاء والسماع وعناصر أخرى تسهم في عملية توجيه الفعل الإبداعي واستمالة المتلقي، وذلك في مثل قول أحدهم" والشاعر الحاذق يجتهد في تحسين الاستهلال والتخلص وبعدهما الخاتمة، فإنها المواقف التي تستعطف أسماع الحضور، وتستميلهم إلى الإصغاء"(17)، وفي قوله أيضا ".. وإنّما الكلام أصوات محلها من الأسماع محلّ النواظر من الأبصار، وأنت قد ترى الصورة تستكمل شرائط الحسن، وتستوفي أوصاف الكلام، وتذهب في الأنفس كلّ مذهب وتقف من التمام بكل طريق، ثمّ تجد أخرى دونها في انتظام المحاسن، والتئام الحلقة، وتناصف الأجزاء، وتقابل الأقسام، وهي أحظى بالحلاوة، وأدنى إلى القبول وأعلق بالنفس، وأسرع ممازجة للقلب"(18).

 فالمتلقي أو السامع خصوصا ـ على هذا الأساس ـ يغدو ذا سلطة نقدية معتبرة، بوصفه متلقيا حصيفا ناقدا يحوز على علم الشعر وكذا قدرته على تلقيه والحكم عليه، ممّا يستوجب مراعاة الشاعر(الناص) لأحوال المتلقي ومقاماته والأخذ بأسباب إثارته والتأثير فيه، وهو ما يذهب إليه الناقد العربي الشهير "ابن رشيق"(ت463ه) في وجوب تخصيص العناية بمن يخاطب من الناس، فيكون حينذاك لزاما على الشاعر أن تنحصرغايته في" معرفة أغراض المخاطب كائنا من كان، ليدخل إليه من بابه، ويداخله في ثيابه، وذلك هو سرّ صناعة الشعر، ومغزاه الذي به تفاوت الناس، وبه تفاضلوا"(19)، ويضيف قائلا في موضع آخر متحدّثا عن ضرورة التفات المبدع/ الشاعر إلى رغبات وأحوال المتلقين وأمزجتهم " والفطن الحاذق يختار للأوقات ما شاكلها وينظر في أحوال المخاطبين فيقصد محابهم، ويميل في شهواتهم، وإن خالفت شهوته، ويتفقد ما يكرهون سماعه، فيتجنب ذكره"(20)، وهو ما قد يدلّ على أنّ الناقد العربي قديما قد تفطن إلى الأهمية التي تنطوي عليها مراعاة الأحوال النفسية والمزاجية للمتلقي كونها ذات وطأة فاعلة وفعّالة في تحقيق درجة الاستمتاع بالنص وإصدار الأحكام عليه، وكأنّ هذا بمثابة صورة من صور استحضارالمتلقي(المتخيل) أثناء الفعل الإبداعي، فالوجود" القبلي للمتلقي المتخيل ومحاولة تخمين ردّة فعله، عنصران هامان من عناصر عملية الإبداع نفسها"(21).

إذًا فالحضورُ الحتمي والقبلي للمتلقي كيفما كان شأنه ومقامه ووضعُه، ظلّ هاجسا مؤرّقا للمبدع والناقد معا في التراث العربي، جعلهما ينصرفان إلى ضرورة الامتثال لمنازل المخاطبين والسامعين وأقدارهم الاجتماعية في النص إذ من المستوجب" الملاءمة بين المعنى والمستمعين، فلكلّ طبقة كلام ولكل حالة مقام"(22)، وعليه يقوم رأي أحد النقاد والأدباء القدامى في ألا" يكلم سيّد الأمة بكلام الأمة، ولا الملوك بكلام السّوقة، ومدار الأمر على إفهام كل قوم بمقدار طاقتهم، والحمل عليهم على أقدار منازلهم"(23)، أو في مثل قول غيره الذي ينظر إلى المتلقي على أنه متعدّد ومختلف الأشكال والمراتب والطبقات، قد يكون من الخاصة والقادة والملوك، كما يكون من العامّة والسّوقة، ممّا يقتضي من الشاعر مخاطبة كل صنف بصفاته إذ" يحضر لبّه عند كل مخاطبة ووصف، فيخاطب الملوك بما يستحقونه من جليل المخاطبات، ويتوقى حطها عن مراتبها، وأن يخلطها بالعامة، كما يتوقى أن يرفع العامة إلى درجات الملوك، ويعدّ لكل معنى ما يليق به، وكل طبقة ما يشاكلها، حتى تكون الاستفادة من قوله في وضعه الكلام مواضعه أكثر من الاستفادة من قوله في تحسين نسجه وإبداع نظمه"(24)، أو في قوله كذلك مؤكّدا مسألة اختيار الشاعر كلامه وألفاظه ومن يخاطب" وكذلك الشاعر إذا أسّس شعره على أن يأتي فيه بالكلام البدوي الفصيح لم يخلط به الحضري المولد، وإذا أتى بلفظة غريبة أتبعها أخواتها، وكذلك إذا سهل ألفاظه لم يخلط بها الألفاظ الوحشية النافرة الصعبة القيادة "(25)، وهو ما يزكيه قول آخر في ضرورة مراعاة الناصّّ/المتكلّم أصناف وأنماط المخاطبين (المتلقين) حسب مستوياتهم ومستويات كلامهم، فكما لا ينبغي" أن يكون اللفظ عاميا، وساقطا سوقيا، فكذلك لا ينبغي أن يكون غريبا وحشيا، إلا أن يكون المتكلم بدويا أعرابيا، فإنّ الوحشي من الكلام يفهمه الوحشي من الناس، كما يفهم السّوقي رطانة السّوقي، وكلام الناس في طبقات، كما أنّ الناس أنفسهم في طبقات" (26).

تأسيسا على هذه الرابطة القائمة بين المبدع (كيفما كان) ومتلقي نصّه والذي ركّزنا فيما سبق على صنف السامع منه نظرا لأهميته الخاصّة في التفاعل مع الإبداع العربي القديم ممثلا في فنّ الشعر،فإنناآثرنا أن نقف على جانب آخرمن فعل التلقي، وهو التواصل(الاتصال) الذي يمثل وجها موحيا ومؤثرا إزاءَ استقبال النص، بحكم أنّ عملية التلقي لا تقوم إلا بمشاركة طرفين أو أكثر، يمثل أحدَهما في نظرية الاتصال الحديثة" المرسل" وهو الباث الذي ينشئ النص والآخر "المرسَل إليه" أي قارئه أو مستقبله (lecteur, récepteur, destinateur) الذي تَتحدّد وَفقه وجهة النص المقروء إبلاغيا أو جماليا والذي يناط به غالبا تفعيل النص(27)، وعليه فإنّ التلقي لدى بعض الباحثين هو الإطار الموسّع الذي يستند إليه "الاتصال" والذي يشار إليه كثيرا في سياقه ـ التلقيـ وهما يلتقيان في أكثر ممّا تعنيه الاستجابة أو التأثير(28)، بل إنّ نظرية التلقي في عمومها قد تبلغ مداها في نظرية أعمّ هي الاتصال، كما يمكن أن تصنّف عن طريقها(29)، بخاصة وأنّ الوظيفة الرّئيسَة للغة هي الاتّصال ومن ثَمَّ التواصل، وهو ما يجعل المتلقي في وضع المسيطر والطرف الفاعل في تفجير النص وإعادة بنائه، ولعلّ قراءة النص في الفكر المعاصر لم تغد مجرّد وسيلة مادية للاتصال بل باتت هي التي تحدّد كيفيته (30).

 قد يُطرح من هنا سؤالُ التواصل في التراث العربي من خلال مقولة التلقي في ارتباط بعضهما ببعض، ولعلّ من الصّور الجلية التي يمكن الانطلاق منها في تعليل هذه الوشيجة، تلك الوقفة التي ذُكرت في التراث بين الشاعر أبي تمام وبين أحد (المتلقين) الذي عتب على الشاعر عدم نظمه شعرا واضح المعاني والألفاظ، وهو ما لم يستسغه الشاعرولم يستمرئه، ويُروى الموقف في إحدى الروايات باختلاف اللفظ كما يلي" أنّ رجلا ـ وهو أبو سعيد الضرير ـ قال للطائي في مجلس حفل، وأراد تبكيته لما أنشد: يا أبا تمام، لم لا تقول من الشعر ما يفهم؟ فقال له: وأنت ـ يا أبا سعيد ـ لم لا تفهم من الشعر ما يقال؟ فأفحمه"" أو"ففضحه"(31)، وكأنّ غاية العلاقة بين المبدع/ الشاعر هي غاية إفهامية وما يتطلبه ذلك من وضوح المعاني وتقريبها والإبانة عن خفاياها، إلى الدرجة التي يبلغ فيها إفهام العامة معاني الخاصة(32).

لعلّ الصّلة المنعقدة بين الفعلين(التلقي والتواصل) يمكن استنباطها بشكلٍ ما انطلاقا من الدلالات المعجمية لمفردة "التلقي"في اللغة العربية، إذ التلقي لغة هو الاستقبال (Réception) ـ وتسمّى النظرية التي تختصّ بفعل القراءة بنظرية التلقي أو نظرية الاستقبال ـ، وقد جاء في بعض متون المعاجم أنّ الفعل تلقى يعني استقبل "تلقاه أي استقبله، وفلان يتلقى فلانا آخر أي يستقبله"(33)، وفي موضع آخر" تلقاه أي استقبله"(34)، أوفي تعريف آخر" تلقاه استقبله"(35)، ولعلّ الاستعمال القرآني للفظة التلقي له أيضا إيحاءاته وإشاراته إلى عملية الاستقبال ومن ثمَّ التواصل ذهنيا ونفسيا مع ما يُتلقى، كما في قوله تعالى" فتلقى آدم من ربّه كلمات فتاب عليه"(36)، وكذا في قوله تعالى" وإنّك لتلقّى القرآن من لدن حكيم عليم"(37)، أو في قوله جلّ جلاله" إذ تُلقّونه بألسنتكم"(38). قد يتجلى على هذا الأساس أنّ دلالة التلقي تتقاطع مع الاستقبال، وبالتالي تتقاطع مع دلالة التواصل( الاتصال)، ولعلّ مجال البلاغة العربية من أهمّ الفضاءات التي تجلت فيها الوظيفة الاتصالية، وكأنّ بين البلاغة والاتصال قدرا مشتركا بحيث يمكن اعتبار البنية البلاغية دعامةً من دعائم نظرية الاتصال المعاصرة وخلاصتها، أو يمكن النظر إليها على أنّها مرادفة لها أوإحدى طرائقها(39).

وللمتكلّم في الفكر البلاغي أو(المرسل) سيطرته الطاغية على النص، والذي يتواصل مع مستقبله حيث يتمّ التركيز على مهمة"الإفهام" التي يضطلع بها المتكلم "الباث" ومهمة"الفهم" التي يقوم بها السّامع"المتلقي"(40)، وإنّ الدارسين العرب القدامى (لا سيّما البلاغيين) لم يتركوا معنى يتّصل بمهمّة المتكلم في إفهام السامع إلا نبّهوا إليه، ولم يغفلوا عن شيء يتصل بمهمة المتلقي في فهم ما يُلقى إليه وقد أشاروا إليه وأفاضوا الحديثَ فيه، فتحدّثوا" عن الإفهام الذي يغني عن الإعادة كما تحدثوا عن البيان الذي يغني المتكلم عن الحركة والإشارة"(41)، وهو ما يمكن التعبير عنه في ظلّ العلاقة بين البلاغة والتلقي والتواصل بنظرية البيان البلاغية التي تهتمّ أكثر بعنصرَي التبليغ والتوصيل، كما تهتمّ بوظيفة التلقي من خلال طرفين رئيسين وهما (المتكلم والسامع)، فضلا عن توفر شرطين ضرورين في تحقيق البيان وهما (الفهم والإفهام)، ولعلّ خير من مثّل كلَّ هذا أحسن تمثيل وأفرد له عناية خاصة، شيخ الأدباء" الجاحظ" (ت255ه)، حيث نلفيه يقول مثلا في هذا الصدد" والبيان اسم جامع لكلّ شيء كشف لك قناع المعنى، وهتك الحجاب دون الضمير، حتى يفضي السامع إلى حقيقته، ويهجم على محصوله كائنا ما كان ذلك البيان، ومن أي جنس كان الدليل، لأنّ مدار الأمر والغاية التي إليها يجري القائل والسامع، إنما هو الفهم والإفهام، فبأي شيء بلغت الإفهام وأوضحت عن المعنى، فذلك هو البيان في ذلك الموضع"(42)، ويقول في محل آخر ملتمسا مواطن الفصاحة والبلاغة والبيان، فيحدّد صفات وشرائط ينبغي على المتكلم أن يلتزم بها ويسير وفقها، كي يدركَ درجة البليغ ويوصلَ ما يشاء إلى أذن السامع بحلاوة وجمال"..لا خير في المتكلم إذا كان كلامه لمن شهده دون نفسه، وإذا طال الكلام عرضت للمتكلم أسباب التكلف، ولا خير في شيء يأتيك به التكلف، وقال بعضهم ـ وهو من أحسن ما اجتبيناه ودوّناه ـ لا يكون الكلام يستحق اسم البلاغة حتى يسابق معناه لفظه، ولفظه معناه، فلا يكون لفظه إلى سمعك أسبق من معناه إلى قلبك"(43)، ويقول في الغرض ذاته "... وما يعتري المتكلم من الفتنة بحسن ما يقول، وما يعرض للسامع من الافتتان بما يسمع، والذي يورث الاقتدار من التهكم والتسلط، والذي يمكّن الحاذق والمطبوع من التمويه للمعاني، والخلابة وحسن المنطق، فقال في بعض مواعظه: أنذركم حسن الألفاظ، وحلاوة مخارج الكلام، فإنّ المعنى إذا اكتسى لفظا حسنا وأعاره البليغ مخرجا سهلا، ومنحه المتكلم دلا متعشَّقا، صار في قلبك أحلى، ولصدرك أمْلا.."(44).

من اللائح أنّ الجاحظ يُولي اهتماما محوريا لما يحقق نظرية البلاغة والبيان، ومن ثَمَّ ما تتضمّنه تلك الصّياغة من أبعاد التلقي والتواصل، حين نلفيه يكاد يفرد كتابه" البيان والتبيين" لهذا الشأن، ولعلّ من أفضل ما يمكن الاستشهاد به حين يخاطب المتكلم ويوصيه بتحرّي مجموعة قواعد أسلوبية يراعي فيها الحال والمقام واضعا مختلف أشكال المتلقين نصب عينيه، إذا كان ينشد البلاغة وتبليغ المقاصد وذلك في قوله".. فكن في ثلاث منازل؛ فإنّ أولى الثلاث أن يكون لفظك رشيقا عذبا، وفخما سهلا، ويكون معناك ظاهرا مكشوفا، وقريبا معروفا، إما عند الخاصة إن كنت للخاصة قصدت، وإما عند العامة إن كنت للعامة أردت، والمعنى ليس يشرف بأن يكون من معاني الخاصة، وكذلك ليس يتضع بأن يكون من معاني العامة، وإنما مدار الشرف على الصواب وإحراز المنفعة، مع موافقة الحال، وما يجب لكل مقام من مقال، وكذلك اللفظ العامي والخاصي، فإن أمكنك أن تبلغ وبيان لسانك، وبلاغة قلمك، ولطف مداخلك، واقتدارك على نفسك، إلى أن تفهم العامة معاني الخاصة، وتكسوها الألفاظ المتوسطة التي لا تلطف عن الدهماء، ولا تجفو عن الأكفاء، فأنت البليغ التام"(45).

وهكذا يمكن أن نتبيّن صورةَ انشغال العديد من الأدباء والنقاد والبلاغيين العرب القدامى ـ منهم من ذكرنا ومنهم من لم يسمح المقام بالوقوف عندهم جميعا أمثال: حازم القرطاجني (ت684ه) في كتابه (منهاج البلغاء وسراج الأدباء)، وأبو الحسن علي الآمدي (ت370ه) في كتابه (الموازنة بين شعر أبي تمام والبحتري)، وضياء الدين بن الأثير (ت622ه) في كتابه (المثل السائر)، وأبو حيّان التوحيدي (نحو400ه) في كتابه (الإمتاع والمؤانسة) وغيرهم ـ بصياغة النص (الرسالة)، وبمنشئ النص (المتكلم، الخطيب) أي المرسل، وبمتلقّي هذا النص أو مستقبله(السامع)، فضلا عن اهتمامهم بأوصاف وأبعاد التخاطب الذي يشترط فيه بالضرورة توفّر أكثر من طرف، ممّا يحقق بنية منسجمة تتفاعل ضمنها هذه الأطراف وفق عمل مشترك يؤدّي فيه المتلقي دورا فعّالا ورئيسا، حيث يفكك رموز النص ويستنبط معانيه بل يكمّلها ويثريها ويملأ الفراغات، وهو ما يعدّ في النظرية الحديثة شرطا أساسيا للتواصل(46)، ومن ثمّة يحدث التفاعل والتكامل والمشاركة في إعادة تشكيل المعنى وإنتاج الدلالة وصياغة البعد الجمالي للنص.

جامعة وهران ـ السانية ـ ( الجزائر(

الهوامش والإحالات:

1- ينظرد. محمد المبارك: استقبال النص عند العرب، ط1، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت،1999، ص10.

2- ينظر شكري المبخوت: جمالية الألفة(النص ومتقبله في التراث النقدي)، بيت الحكمة، تونس،1993، ص13.

3- ينظر د.محمد المبارك: استقبال النص عند العرب، ص80.

4- ينظر رشيد يحياوي: التلقي في النقد العربي القديم، مجلة علامات في النقد،ج19،مج5، النادي الأدبي، جدة،1996، ص247.

5- د.محمد المبارك: استقبال النص عند العرب، ص91.

6- ينظر الحسين آيت مبارك: صورة المتلقي في التراث النقدي،مجلة جذور، ع15،مج8، النادي الأدبي، جدة، 2003، ص363.

7- د.حبيب مونسي: القراءة والحداثة، مقاربة الكائن والممكن في القراءة العربية، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2000، ص19.

8- ابن قتيبة الدينوري: الشعر والشعراء، ج1، حققه وضبطه د.مفيد قميحة، ط1، دار الكتب العلمية، بيروت، 1981، ص74-75.

9- عبد القاهر الجرجاني: أسرار البلاغة في علم البيان، تحقيق محمد التنجي، دار الكتاب العربي، بيروت، ص123. 

10- ينظر بشرى موسى: نظرية التلقي أصول وتطبيقات، ط1، المركز الثقافي العربي، 2001، ص59.

11- محمد المبارك: استقبال النص عند العرب، ص112.

12- ابن سلام الجمحي: طبقات فحول الشعراء، تحقيق محمد محمود شاكر، دار المعارف، القاهرة، ص5.

13- محمد بن أحمد بن طباطبا العلوي: عيار الشعر، تحقيق طه الحاجري ومحمد زغلول سلام، المكتبة التجارية، القاهرة، د.ت، ص2-3.

14- ينظر د. محمد عباس عبد الواحد: قراءة النص وجماليات التلقي بين المذاهب الغربية الحديثة وتراثنا النقدي، دراسة مقارنة، ط1، دار الفكر العربي، مصر،1996، ص118.

15- ابن رشيق القيرواني: العمدة في محاسن الشعر ونقده، ج1، تحقيق محمد قرقزان، ط1، دار المعرفة، بيروت، 1988، ص257.

16- عبد الكريم النهشلي القيرواني: الممتع في علم الشعر وعمله، تقديم وتحقيق د. منجي الكعبي، الدار العربية للكتاب، تونس، 1978، ص11.

17- القاضي الجرجاني(أبو الحسن علي):الوساطة بين المتنبي وخصومه، تحقيق وشرح محمد أبو الفضل إبراهيم وعلي محمد البجاوي، مطبعة البابي الحلبي، د.ت، ص48.

18- المصدر نفسه: ص412.

19- ابن رشيق:ج1، ص 364-365.

20- المصدر نفسه: ج1، ص395.

21- د.فؤاد المرعي: في العلاقة بين المبدع والنص والمتلقي، عالم الفكر، مج23، ع1-2، الكويت، 1994، ص366.

22- د.إحسان عباس: تاريخ النقد الأدبي عند العرب، دار الشروق للنشر والتوزيع، عمان، 1986، ص67.

23- الجاحظ(أبو عثمان عمرو بن بحر): البيان والتبيين،ج1،تحقيق عبد السلام محمد هارون، مؤسسة الخانجي، القاهرة، ص92.

24- ابن طباطبا: عيار الشعر، ص2.

25- المصدر نفسه: ص2(نفسها).

26- الجاحظ: البيان والتبيين، ج1، ص46.

27- ينظر أمبرتو إيكو: القارئ في الحكاية، تر: أنطوان أبو زيد، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 1996، ص61.

28- ينظر د.نسيمة الغيث: البؤرة... ودوائر الاتصال، دراسة في المفاهيم النقدية وتطبيقاتها، دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة،2000، ص27.

29- ينظر د.حامد أبو أحمد: الخطاب والقارئ(نظريات التلقي وتحليل الخطاب وما بعد الحداثة)، مؤسسة اليمامة، الرياض، 1996، ص109.

30- ينظرد. نسيمة الغيث: البؤرة...ودوائر الاتصال...، ص31.

13- ابن رشيق القيرواني: قراضة الذهب في نقد أشعار العرب، تحقيق الشاذلي بويحي، المطبعة الرسمية، تونس،1972، ص257، وينظر أيضا كتابه: العمدة، ج1، ص42.

32- ينظر الحسين آيت مبارك: صورة المتلقي في التراث النقدي، ص 364.

33- ابن منظور، جمال الدين: لسان العرب، ج15، ط1، دار صادر، بيروت، ص253.

34- الرازي، محمد بن أبي بكر بن عبد القادر: مختار الصحاح، ج1، تحقيق محمود خاطر، مكتبة لبنان، بيروت، ص612.، أو ينظر الجوهري: الصحاح في اللغة، ج2، ص147.

35- الزبيدي، محمد بن محمد بن عبد الرزاق الحسيني: تاج العروس، ج1، تحقيق مصطفى حجازي، دار إحياء التراث العربي، ص8587.

36- سورة البقرة، الآية 37.

37- سورة النمل، الآية 6.

38- سورة النور، الآية 15.

39- ينظر نسيمة الغيث: البؤرة... ودوائر الاتصال...، ص22.

40- ينظرد.محمد عباس عبد الواحد: قراءة النص وجماليات التلقي...، ص132.

41- المرجع نفسه: ص132(نفسها).

42- الجاحظ: البيان والتبيين، ج1، ص23.

43- المصدر نفسه: ج1، ص115.

44- المصدر نفسه: ج1، 76.

45- المصدر نفسه: ج1، ص136.

46- ينظر فولفغانغ ايزر: وضعية التأويل والفن الجزئي والتأويل الكلي، تر: حفو نزهة وبوحسن أحمد، دراسات سيميائية أدبية،ع6، 1992، ص69.