يطرح الباحث الفلسطيني هنا مجموعة من الأفكار الجديرة بأن يدير حولها الواقع الثقافي حوارا جادا ومعمقا، حيث تدعو لتخليق وعي جديد ليس مجرد علاقات فكرية جديدة بل نمط حياة جديد.

نحو وعي جديد

محمد شاويش

1 "الوعي الانحطاطي"، "الوعي النهضوي"، "الوعي الملائم":
هذا المقال يتكلم عن "وعي جديد" ويدعو إليه، نوع جديد من الوعي يعتقد الكاتب أنه يجب أن يكون عند شعبنا (أكثريته على الأقل)، وتنتج هذه المطالبة عن اعتقاد الكاتب أن الوعي السائد عندنا الآن "غير ملائم" للمهمة المطروحة على عاتق مجتمعنا إلزامياً، وهي مهمة النهضة الشاملة لمختلف جوانب الحياة الكفيلة بجعل مجتمعنا قابلاً للمنافسة والتحدي والفوز في الكفاح من أجل الوجود (لأن ما نواجهه الآن هو أن نكون أو لا نكون). وأقترح استعمال تعبيري "ملائم" و"غير ملائم" كبديلين عن تعابير من نوع "صحيح" و"خطأ"، ذلك أن المهمة المطروحة على المجتمع هي التي تحدد نوع "الوعي الملائم" لها، ولو كانت المهمة مختلفة لجاز أن نقبل بوعي آخر يلائمها. سأضرب مثلا على الوعي الذي هو ليس بالخطأ المطلق ولكنه غير ملائم لمرحلة تستلزم التركيز على عناصر القوة المادية في المجتمع ما أتى به الغزالي رحمه الله في تلك المرحلة من حياته التي أغرق فيها في الزهد (وبالغ!)، لقد كان الوعي الذي دعا إليه "أبو حامد" في المرحلة الثانية من حياته وعي مجتمع منصرف عن الإنتاج المادي والعلم الطبيعي (باختصار: عن الدنيا!) إلى الانشغال بيوم المعاد، وإنه لعمري لشغل شاغل لا يجوز للمرء أن ينصرف عنه، لكنه ليس بالشغل الذي نكتفي بالتركيز عليه في مجتمع يهدده بوش وأولمرت وأسلافهما وخلفاؤهما وحلفاؤهما بالاندثار. هذا الوعي لا يوصف في رأيي بأنه "خطأ" بل بأنه "غير ملائم" للهدف المطلوب، وانظر مثلاً رسالته "أيها الولد" حيث ينهى الولد عن أنواع من العلم غير المفيد للآخرة! ويجد القارئ عرضاً مفصلاً لتوجهات أبي حامد تلك في كتاب ابن الجوزي "تلبيس إبليس"، وفي هذا الكتاب يقدم ابن الجوزي مثالاً لتصدّ فقهي لهذا النموذج (ومنهج ابن الجوزي قد يسميه بعضهم "المعقول الديني" في مقابل أشكال أخرى من الوعي الديني تتسم بالعداء للعقل، وهذا النوع من المعقول هو في اعتقادي الأقرب لمستلزمات الوعي الملائم الآن)، وثمة من يربط النجاح الكارثي للغزو المغولي والصليبي في عقوده الأولى بهذا النموذج من الوعي الاجتماعي المستقيل من الفاعلية الدنيوية الذي نظّر له الغزالي، وأصحاب هذا الرأي يقولون إن الغزاة ما كانوا ليحققوا ما حققوه لو كان يسود في المجتمع نوع آخر من الوعي.

"الوعي الملائم" هو خيار من خيارات عديدة وليس حتمية تاريخية أو منطقية، بل قد يختار المجتمع خيارات أخرى لمواجهة التحديات الملحة أمامه، وخذوا مثلاً خيار الهجرة الجماعية (على طريقة ناطورة المفاتيح الفيروزية) أو خيار توثين القنبلة والبندقية حتى درجة الانتحار بدون تكتيك ولا استراتيجية واضحين، وكلا الخيارين تحوّلا إلى واقع ولم يبقيا في عداد الإمكانيات النظرية، فخيار الانتحار والتدمير الذاتي موجود في مثال العراق، وأخشى أن بعض سماته وجدت في الانتفاضة الفلسطينية الثانية، التي هي نقيض من جوانب كثيرة للأولى (والنقد الواجب للوعي الذي صاغ هذه الانتفاضة وتطور معها لا يعني بحال عدم إجلال آيات البطولة اللامتناهية التي سطّرها الشعب الفلسطيني فيها، ولكن هذه البطولة هي ما يجب أن يدفعنا إلى السؤال عن النتائج المختلفة التي كانت البطولة تستحقها لو كان الوعي الجمعي مختلفاً) بل يخشى من امتداد هذا النموذج الانتحاري للبنان وغيره. وأما خيار الهجرة الجماعية فيوجد في جميع بلادنا الفقيرة، ولا يحول بين الناس وبينه إلا اعتبارات عملية، وإلا فكثرة كاثرة من المواطنين تنام وتصحو على حلم الهجرة، والموت المأساوي لركاب قوارب الهجرة غير القانونية في المتوسط تعبير عن هذا الخيار الذي لم يترك مركب البنية الاجتماعية الطبقية مع الوعي الاجتماعي غير الملائم غيره لهؤلاء البائسين. على أن الخيار الأشيع والمؤهل للاستمرار ما لم تنبر طليعة واعية من الناس لتغييره هو خيار الركود والاستمرار في الوضع القائم الذي أصفه بأنه "وضع انحطاطي"، لأنه الوضع الذي ينتج ويعيد إنتاج حالة الهزيمة الحضارية الشاملة أمام التحدي الكبير الذي يواجهنا به العالم القوي. 

2 "السلوك النهضوي" و"السلوك الانحطاطي"
أنطلق في تحديد "الوعي الملائم" من "تعريف ملائم" لحالة النهضة المستهدفة من بث هذا الوعي الملائم، و"التعريف الملائم" هو تعريف مفيد (للفاعل النهضوي لأنه يساعده على تحديد هدف فعله)، صحيح (بمعنى أننا لا نستطيع أن نقول عنه إنه خطأ، وصحته محددة في إطار معيّن)، على أنه غير مستوف لكل جوانب الظاهرة التي يراد تفسيرها، فهو ملائم عمليا دون أن يكون مستغرقاً لكل جوانب الظاهرة نظرياً، إن من الصحيح أن نقول إن إهمال الإنسان لصحته يسبب له المرض وعنايته بها تسبب له الشفاء أو عدم المرض أصلا، وعلى هذا الأساس يجوز أن يتبنى من يتولى التوعية الصحية "التعريف الملائم" التالي للصحة: إن الصحة هي حالة الفرد الذي يهتم بصحته ويسلك سلوكاً صحياً، وإن يكن هذا "التعريف الملائم" إذا تبناه الفاعلون في مجال نشر التوعية الصحية، وهو مفيد لهم كما يرى القارئ، لا يستغرق الأسباب كلها التي تفسر ظاهرتي المرض والصحة.

ومن هنا يأتي الاقتراح التالي لتعريف ملائم للمجتمع الناهض: "المجتمع الناهض هو المجتمع الذي سلوك أفراده نهضوي"، والسلوك النهضوي لأفراد المجتمع هو "تفسير ملائم" لحالة النهضة الاجتماعية، إن تفسير أي حالة اجتماعية كانت بأنها ثمرة سلوك اجتماعي معين هو "تفسير ملائم" لمن يريد أن يشتغل على صعيد تعديل السلوك الاجتماعي، ولو أنه تفسير لا يستغرق كل جوانب الظاهرة التي يراد تفسيرها. وإن صادرنا مثلاً على أن المجتمع الغربي الحالي هو نموذج "المجتمع الناهض" الذي يجب أن نحوّل مجتمعنا على أساسه، فإن "التفسير الملائم" هنا هو التالي: إن المجتمع الغربي هو على ما هو عليه لأن سلوك أفراده هو على ما هو عليه!، أي أن مجتمعنا بالمقابل هو "مجتمع في حالة انحطاط" لأن سلوك أفراده الاجتماعي هو في الحالة التي نراها وهذا النوع من السلوك هو "السلوك الانحطاطي"، ويكون "السلوك الملائم" إن قبلنا بهذا الخيار هو سلوك أبناء المجتمع الغربي الذي يجب أن نقتدي به ونغير سلوكنا ليصبح مطابقاً له.

والمثال السابق هو للإيضاح فقط، ولا أعتقد أن التطابق مع السلوك الاجتماعي الغربي في كل مكوناته هو المطلوب للتحول إلى "سلوك ملائم" لهدف النهضة المنشودة، وإن كنت أعتقد بالفعل أن بعض سمات السلوك الغربي يجب تبنيها كمكوّنات للسلوك الملائم، أي النموذجي لتحقيق النهضة، ومن هذه المكونات مثلاً ما أراه في سلوك الألمان الذين يستضيفونني الآن، من تواضع، وقلة ميل "للمنفخة" بتعبيرنا الشامي، وصدق، وموضوعية في تقييم الذات والآخرين من أبناء مجتمعهم، علاوة على الحساب الدقيق للوقت والمال وعدم تبديدهما، والحرص على أداء العمل بأكبر إتقان ممكن وعدم الاكتفاء بأدائه كيفما اتفق، واحترام القانون، والحرص على المصلحة العامة، وإلى آخره..، وخلافاً لكتّاب من أمثال ياسين الحافظ الذين يضفون على الحالة الغربية صفة التفوق المطلق (إنها في أعلى سلم التطور وفق القانون الذي تؤمن بحتميته وإلزاميته التي لا يمكن التملص منها النظرة التاريخانية التي أيدها بحماس متعصب العروي والحافظ بمقابل الدونية المطلقة للأنماط الحضارية الأخرى الموصومة بالتقليدية) يجب عدم نسيان الخسارة في جوانب أخرى مهمة للإنسان عندما يتبنى المجتمع هذه الأنماط من السلوك ويترك الأنماط الحالية، ولست هنا بصدد مناقشة هذه الفكرة التي يجد القارئ عرضاً وافياً لها عند كتّاب ما أسميته في أماكن أخرى "التيار التأصيلي".

لا يستوعب هذا التفسير الظاهرة كما قلت، فمن غير الصحيح بشكل مطلق القول إن السلوك الانحطاطي هو سبب انحطاط المجتمع فالأسباب متنوعة كثيرة كما هو معلوم، مثلاً لا يصح بصورة مطلقة وضع المسؤولية على سلوك الفلسطينيين أو اللبنانيين وحدهم في الحالة الاجتماعية الانحطاطية التي هي ظاهرة التذابح الداخلي (لم تتذابح فتح مع حماس فقط بل وصل الأمر إلى درجة سقوط قتلى في الصراع بين شباب من تنظيمي حماس والجهاد) الظاهرة التي تجعلهم في حالة تدمير ذاتي، فثمة ظروف كثيرة أوصلت المجتمع المعني إلى هذه الحالة وهذا معروف، غير أن من "الملائم" للفاعل النهضوي أن يحاول بكل الطرق الممكنة إقناع مجتمعه بأن سلوكه يقوده إلى ما هو عليه، وتغيير سلوكه سيغير حالته الاجتماعية وهذا أيضاً صحيح، والغرض هو تعديل هذا السلوك ببث الشعور بالتقصير عند من يسلكه وهو شعور سيدفعه في حال توفر طليعة تقدم القدوة، عبر التزامها بسلوك معاكس للسلوك الانحطاطي السائد، إلى السير في طريق هذا السلوك الجديد الملائم لهدف النهضة الذي أدعوه "السلوك النهضوي"، و"التعريف الملائم للسلوك الملائم" له ميزة على النظرة التفسيرية المحايدة بأنه تعريف يدفع إلى العمل التغييري ويخاطب روح المسؤولية في أفراد المجتمع المعني في حين تكتفي التفسيرات الموضوعية (أو الوضعية) بالحياد، بل قد تعزز من طرف خفي النزعة القدرية ونزعة التواكل أو تبرير التقصير في المبادرة أو هي تسد طريق الوعي أمام إمكانيات نهوض روح المبادرة الاجتماعية.

"الوعي النهضوي" حين ندعو إليه ندعو ضمناً إلى التغيير، للوصول إلى أهداف أعتقد أن العرب يتفقون في غالبيتهم الساحقة عليها وإن يكن شكل هذه الأهداف الخارجي واللغة التي تصاغ بها تجعلهم يعتقدون أنهم مختلفون أو متناقضون فيها (أهداف اليسار النزيه والإسلامانيين والقوميين المخلصين بتلاوينهم هي واحدة في أعماقها، وهذا ما ينتبه إليه المرتدون عن هذه الأهداف أكثر من انتباه الذين لا يزالون يحملونها، وانظر إن أردت التأكد من ذلك إلى هجوم من يسمون خطأ "اللبراليين الجدد" على القومية والإسلامانية بلا تفريق ووصفهم لخطابهما بأنه "خشبي" إلى آخره..)(1) .

على أن للوعي التغييري عندنا تاريخاً أجد من المفيد استعراض محطات مهمة فيه، وهذا التاريخ يجب أن لا ننظر في رأيي إليه، حتى لو انتقدنا الأخطاء التي وقعت فيه، على أنه "تاريخ للضلال"، بل هو تاريخ لتجربة المجتمع الذي فرضت عليه مهمة التغيير فحاول أن يستجيب لها بما يتناسب مع الظروف الملموسة ومع المخزون الذي عنده من الخبرة، والنقد يهدف إلى الوصول إلى "الوعي الملائم" لمجتمعنا الآن. 

3 محطات هامة في تاريخ الوعي التغييري العربي
3 1 مفهومان للوعي الثوري: المفهوم اللينيني ومفهوم حرب التحرير الشعبية.
لنصل إلى فهم إجمالي للطرح عن "وعي جديد" (هو "الوعي الملائم" الذي أراه في حالنا وزماننا) من المفيد في اعتقادي عرض مجمل لتاريخ الوعي العربي في العصر الحديث. هذا الوعي اتخذ شكل "الوعي السياسي"، وهو ذلك النوع من الوعي الذي يركّز على المكون المتعلق بالسلطة في علاقات المجتمع معها ومع القوى الخارجية ذات التأثير المهم، ويعتقد أن الفعل في هذا المستوى هو وحده المهم، مع إغفال مكوّنات التركيبة الاجتماعية الأخرى انطلاقاً من رؤية تقول إن المستوى السياسي هو وحده المستوى الذي يقرر في ثباته وتغيره ثبات وتغير المكوّنات الأخرى. إن هذا "الوعي السياسي" كان في العصر الحديث متأثراً بصورة كبيرة بما يجري في العالم، لذلك من الضروري التطرق إلى بعض الاتجاهات الفكرية العالمية المتجاوزة لحدود الوطن العربي، ومن أهم هذه الاتجاهات الاتجاه الماركسي. الأفكار الماركسية سارع شيوعيون و"تقدميون" آخرون إلى التبرؤ منها ونسيان التاريخ الذي كان لهم معها بمجرد سقوط الاتحاد السوفيتي و"المنظومة الاشتراكية"، ولكننا إن أردنا دراسة تاريخ الوعي التغييري العربي الحديث يجب أن نتذكرها مرة أخرى. إن نكران الماضي في العلاقات الشخصية يدل على عدم الوفاء، أما التنكر للماضي وتناسيه في السياسة والفكر فيدل على واحد من أمرين أحلاهما مر (وواحد منهما على الأقل موجود بالفعل عند المعنيين المذكورين في هذه الفقرة): إما سطحية التفكير التي جعلت من السهل نبذ الأفكار التي كان من المفترض أنها قناعات علمية راسخة قائمة على براهين (وعلى هذا تكون الادعاءات الفكرية والنظرية العريضة القديمة كاذبة، فهي لم تنطلق إذن من معرفة نظرية كافية) وإما الانتهازية التي تجعل المرء يبدل موقفه مع تغير اتجاهات القوة في العالم. بالتضاد مع ذلك أرى من المهم هنا التذكير بهذا المكون الهام من مكوّنات الوعي التغييري العربي في القرن العشرين.

اهتم الماركسيون بموضوع "الوعي" أكثر من غيرهم من التيارات الفكرية السياسية، وقد اهتم ماركس في مطلع حياته بنقد الوعي الذي حملته جملة من المثقفين الألمان عن الواقع الألماني، وهو وفقاً لرأيه وعي زائف، وسجل هذا النقد في مجلد ضخم ألفه بالاشتراك مع إنجلز ونشر بعد وفاته اسمه "الأيديولوجيا الألمانية"، و"الأيديولوجيا" كانت تعني في ذلك المؤلف رؤية زائفة للواقع، ويمكن أن نرى بالتالي أن ما يناقضها سيكون رؤية اسمها مثلاً "الوعي المطابق للواقع"، ولم يستخدم ماركس فيما أعلم مفهوماً كهذا. والوعي عنده هو انعكاس للواقع الاجتماعي، ومن غير الوارد أن تستطيع طبقة الخروج من الظروف الموضوعية التي تحدد نوع وعيها، والاستنتاج المنطقي من ذلك أنه من غير المجدي البحث عن "وعي موضوعي" للواقع، وإن أكد الماركسيون لاحقا أن الوعي الموضوعي هو وعي الطبقات في مرحلة الصعود حيث يكون من مصلحتها كشف الواقع بكل تناقضاته، وهذا بعكس الحال في مرحلة الهبوط حيث تجاهد الطبقة المالكة لتمويه الواقع وتشويه الوعي به، وهي في تلك المرحلة خصوصاً تهتم بتشويه وعي الطبقات التي تستغلها والتي تتناقض مصالحها الموضوعية مع هذا الواقع.

الماركسيون قالوا إن التغيير ليس عمل مجموعة صغيرة من البشر بل هو عمل طبقة كاملة هي طبقة العمال، أما التيارات الاشتراكية الأخرى فكانت لا تستبعد إمكانية الوصول إلى السلطة عبر مؤامرة ناجحة لمجموعة محدودة منظمة (وهو التفكير الذي اعتادوا في فرنسا أن يسموه "البلانكية" نسبة للثوري أوغست بلانكي). كيف يكون التغيير في الرؤية الماركسية الأشيع؟ هذه الطبقة تثور وتستلم السلطة وتصادر وسائل الإنتاج، ولكي تثور يلزمها أن تكون واعية بضرورة "الثورة الاشتراكية" (هذا التعبير متضمن معناه عند ماركس لكنه نشأ بشكله هذا عند الروس). ومن هذه النقطة يدخل الماركسيون في بحث مسألة "الوعي الطبقي": إن العامل، الذي مصالح طبقته الجذرية يناسبها الوعي الاشتراكي، قد يكون وعيه مع ذلك "برجوازيا" لا "عمالياً"! وطرح السؤال: من الذي يجلب الوعي إلى العامل؟ هل يكتسبه تلقائيا من ظروف حياته؟.

لينين في كتابه الشهير (ما العمل) 1902 يؤيد الرأي القائل إن العامل لوحده لا يمكن أن يصل إلى "الوعي الاشتراكي ـ الديمقراطي" (هذا التعبير كان يعني في تلك المرحلة ما دعي لاحقا "الوعي الاشتراكي" أو "الشيوعي" ولهذا التغيير في المصطلح سبب يتعلق بتطور الحركة الاشتراكية الأوروبية وانقساماتها بعد الحرب العالمية الأولى)، ما يستطيع العامل الوصول إليه لوحده هو "الوعي التريديونيوني" ("التريديونيونات" هي الاتحادات النقابية الإنجليزية)، أي الوعي بضرورة تنظيم الجهود لرفع الأجور وتحسين شروط العمل وما شابه، أما الوعي الاشتراكي (في رأي يؤيده لينين وليس هو أول من قاله وقد خالفه في هذا الرأي اشتراكيون آخرون) فيجلبه إلى "البروليتاريا"، أي طبقة العمال، مثقفون هم من حيث الانتماء الطبقي الأصلي منتمون للطبقة البرجوازية من نوع ماركس وإنجلز.

ما هو مضمون الوعي الطبقي المطلوب؟ إنه عند لينين الوعي بضرورة التغيير الاشتراكي للمجتمع، وهذا يتضمن الوعي بالتناقض المحتوم بين مصالح العمال والنظام الاجتماعي البرجوازي، وعدم جدوى الترقيع والإصلاح الجزئي.

وهو في كتاب "ما العمل" يرى أن الوعي البروليتاري الصحيح لا يتضمن انعزال العمال عن المجتمع بل يتضمن وعيهم لكل ما يدور في قطاعات المجتمع ولطبيعة الحركة الفكرية والسياسية لمختلف الطبقات، ويرى أن تتدخل البروليتاريا لقيادة هذه الحركة الاجتماعية الشاملة في طريق إسقاط الحكم القيصري المطلق. وهو في هذا الكتاب خصم لاتجاهين ثوريين كانا موجودين في صفوف الاشتراكيين الروس وقت تأليف الكتاب يراهما متكاملين منطقيا: اتجاه تسميه الترجمة العربية "الاقتصادية" يرى إن الوعي العمالي يأتي عبر النضال الاقتصادي وحده في سبيل مطالب اقتصادية ملموسة، واتجاه ثان هو الاتجاه الإرهابي الذي يراهن على حفنة من المناضلين في تهييج الجماهير عبر العنف.

وتلخيصاً أقول إن المفهوم الماركسي للوعي المطلوب كما يتجلى عند لينين هو أنه وعي سياسي الطابع مضمونه السعي لاستلام السلطة عبر عمل جماهيري واسع تقوم به جماهير كبيرة من الطبقة العاملة عندها فكرة شاملة عن المجتمع وشرائحه وتكونت عندها مقدرة تستند للرؤية الماركسية النظرية على فهم توضّع الطبقات والشرائح الاجتماعية الأخرى ضمن مجمل البناء الاجتماعي وميولها وحركتها. والإنجاز الذي جاء به لينين كان تأكيده على أن التغيير هو عمل للأكثرية مقترن بوعي محدد، فليس التغيير عملاً نخبوياً، ولا هو عمل يأتي بالمصادفة في انفجار عفوي للثورة.

مفهوم الوعي هذا يتضمن على كل حال مبدأ أنه يستحيل أن يتغير المجتمع التغيير المطلوب من دون تغيير السلطة السياسية، وهو مفهوم معاد لكل دعوة لتغيير النظام الاجتماعي عن طريق الإصلاحات التدريجية.

الحركة السياسية العربية بأجنحتها "التقدمية" كلها تأثرت بهذا المفهوم اللينيني عن الوعي الاشتراكي، وهي بوجه عام إما ظلت عند حدود موقف لينين هذا أو ضيقته، فمنها من شدد على أن التغيير غير ممكن بدون وعي الأغلبية بأهميته وقيامها به بدون وصاية لنخبة صغيرة تتولى التغيير بالنيابة عنها، ومنها من تراجع عن هذا الموقف لصالح موقف يؤمن بمقدرة الأقلية على التغيير عن طريق مؤامرة متقنة للاستيلاء على السلطة، وقد كانت تجارب الانقلاب العسكري الثوري التي بدأت بحركة "الضباط الأحرار" في مصر عام 1952 مما شجع على هذا التوجه وجعله سائداً عملياً حتى السبعينات من القرن العشرين. على أن الثورة الجزائرية (1954 1962) وما رافقها وسبقها من تجارب في الصين وفيتنام وكوبا، ثم تجربة الثورة الفلسطينية وتجربة الكفاح المسلح ضد الاحتلال الإنجليزي في الجنوب العربي جاءت بنوع جديد من التصور لأداة التغيير، مع بقاء حصر هدف العمل التغييري باستلام السلطة السياسية، ووفقا لهذا التصور الجديد للتغيير الثوري فإن أداة التغيير هي الكفاح الجماهيري المسلح، والوعي المطلوب صار يتجلى عملياً في حمل السلاح، بعد أن كان في التصور اللينيني يتجلى على شكل نضال سلمي طويل يصل ذروته في الانتفاضة الجماهيرية الشاملة (وفقاً للنموذج الذي قدمته ثورة 1905 وعاد للظهور في ثورة شباط 1917، ومن المعلوم أن ثورة أكتوبر 1917التي حملت البلاشفة إلى السلطة لم تكن تتطابق تماماً مع هذا النموذج).

والنوعان من التصور للتغيير والوعي التغييري يتفقان إذن أن المطلوب أولاً وأخيراً للتغيير الناجح هو استلام السلطة (من يد المستعمر أًو من يد "الحكومات الرجعية"). ومن دون ذلك لا جدوى من أي محاولة للإصلاح الاجتماعي (وقد أصبحت كلمة "النزعة الإصلاحية" بمثابة الشتيمة عند ثوريي ذلك الزمن كما هو معلوم). ما يطلب من المجتمع القيام به وفقاً لهذا النوع من الوعي هو دعم المناضلين وتقديم متطوعين بقدر كاف للجيش الثوري أو المنظمة الثورية، ولا يطلب منه شيء غير ذلك فلا أمل في عمل شيء مهم للتغيير ضمن نطاق النظام السياسي القائم. و"الوعي" إذن هو الوعي بإمكانية الثورة (الثورة السياسية أو الحرب الشعبية المسلحة طويلة الأمد) وضرورتها (والوعي بالضرورة ينتج عن الوعي بالتناقض الذي لا يمكن حله بين الأكثرية والجماعة الحاكمة أو المستعمرة) والناتج المطلوب للوعي هو دعم هذه الثورة والمشاركة بها بما يلزم. 

3 2 ياسين الحافظ: العودة إلى تغيير المجتمع كشرط للتغيير السياسي:
حتى الستينات كان الوعي التغييري السائد (ذو الطابع القومي ـ الاشتراكي) يركز على استلام السلطة السياسية كنقطة بدء للنهضة المرجوة (يمكن أن نلخص ملامح النهضة المرجوة تلخيصاً عاماً بالقول إن النهضة هي الوحدة القومية والاشتراكية والتطور الصناعي والعلمي). وكل ما هو مطلوب من وعي اجتماعي قبل ذلك هو الوعي الذي يقود إلى وصول "الأحزاب التقدمية" إلى السلطة. أحد الفاعلين السياسيين العرب وهو القومي اليساري ياسين الحافظ(2) توصل من دراسته لتجربته وتجربة رفاقه ومجتمعه إلى أن هزيمة العرب في المعارك الكبرى التي خاضوها اعتباراً من نكبة 1948 حتى هزيمة 1967 لا تكفي في تفسيرها أسباب عسكرية تكتيكية عابرة، ولا مجرد خيانة الحكومات والقادة، ولا المؤامرة الخارجية الأمريكية أو تقصير الاتحاد السوفيتي في دعمنا، وإنما تعود في جذرها الأساسي إلى "فوات" المجتمع العربي(3)، وباختصار: إن المجتمع العربي لا زال خارج العصر، لم يتحدث إلا بصورة سطحية، إنه "متخلف" على أن نفهم هذا التخلف كمقولة شاملة للمستويات الاجتماعية كلها وليس للمستوى الاقتصادي فقط "ليس التخلف مقولة اقتصادية بل هو مؤشر على التطور العام لمجتمع ما ومكانه في سلم التطور البشري"(4).

وقد انطلق من ملاحظات دقيقة لضعف الدور الاجتماعي في المعركة وعدم ملائمة كلا الوعيين: الوعي الجماهيري ووعي النخب السياسية لتحقيق نتائج لصالح العرب فيها، والتقط بنباهة فقدان "السلوك الملائم" في مجتمعنا لتحقيق الهدف الذي طرحه المجتمع على نفسه: "عندما يكف شعب أصابته لعنة التأخر عن شرب أركيلة وهو في حالة حرب، وعندما لا تنوجد في زاوية من الوطن حارة مثل حارة دريد لحام، "حارة كل مين إيده إله"، أي عندما ترتفع كتلة الناس البسطاء من درك العزوف واللامبالاة والسعي وراء الخلاص الفردي ولو على حساب الآخرين، من درك عدم وعي أهمية الاندماج القومي، من درك عدم وعي أو عدم احترام الحقوق العامة (أي حقوق الآخرين، وبالتالي، حقوق المجتمع وحقوق الأمة)، ـ أقول عندما يرتفع شعب، وبخاصة بسطاء الناس، إلى هذا المستوى من الوعي (والمسألة هي، حصراً، مسألة وعي)، يكون فعلاً قد أصبح في حالة تؤهله للخروج من التأخر"(5).

سر الانتصار الفيتنامي هو الحداثة في ميدان الوعي والأيديولوجيا وسر هزيمتنا هو عدم حداثتنا في الوعي والأيديولوجيا "ولأن فيتنام ليست بلداً متأخراً، على صعيد الفكر والأيديولوجيا والوعي، أي لأنها قاربت العصر على هذا المستوى، استطاعت أن تحارب حرباً حديثة وعصرية"(6). بوجه عام يقول الحافظ إنه في حال توازن العناصر والعوامل الأخرى من الطبيعي أن يغلب المجتمع الحديث المجتمع الأقل حداثة(7) . وقد تابع ياسين الحافظ التجربة الناصرية (هو نفسه كان ناصرياً متحمساً كما هو معلوم) مشيراً إلى جزئيات تدلنا على هذا الجذر الكبير للإخفاق العربي: البنية الاجتماعية العربية غير الملائمة (المتناسبة مع السلوك الاجتماعي غير الملائم)، ومن الأمثلة التي ذكرها عبد الناصر وأعاد الحافظ التذكير بها مراراً أن الثورة التي بنت السد العالي وأممت القنال وأنشأت مصانع الصلب وشرعت الإصلاح الزراعي وقفت عاجزة عن إصلاح مستشفى "القصر العيني" ("المرتبط أساساً بوعي الناس البسطاء" كما يقول الحافظ).

لا شك أن تركيز الحافظ على عدم ملاءمة وعي المجتمع وسلوكه للمهمة التاريخية التي تصدى لها كان إنجازاً مرموقاً وتجديداً مهماً في الوعي التغييري العربي، لكن الحافظ حين انتقل من تشخيص عدم ملاءمة هذا الوعي إلى تحديد الوعي المطلوب انتقل إلى مطالبة متعصبة بتحديث وعي "الإنتلجنتسيا" كطريق لتحديث وعي المجتمع بكامله، وقد قلت في مكان آخر(8) إن هذا التحديث عند الحافظ ما هو إلا دعوة لتبن متعصب بعيد عن كل نقدية للعقل العلماني الفرنسي (من بين علمانيات غربية عديدة أخرى). طريق التغيير برأي الحافظ يجب أن يمر حتماً بتحديث المجتمع العربي ونقله من حالة "الفوات" إلى حالة المعاصرة، ولا يتم ذلك إلا إن امتلكت الأمة "الوعي الكوني" وهو "وعي القسم الأكثر تقدماً في العالم" (انظر هذا التعريف في مطلع كتاب "التجربة التاريخية الفيتنامية")، وطريق تحديث الوعي الاجتماعي يمر بتحديث وعي الشريحة المثقفة: على "الإنتلجنتسيا" العربية أن تمتلك "الوعي المطابق" وهو ذو ثلاثة مستويات: هوأولاً وعي كوني، وتبني أيديولوجيا كونية هو السبيل الوحيد لوضع الأمة في قلب العصر بدلاً من وعيها المحلوي ـ القوماوي، والماركسية المستوعبة للّبرالية هي هذه الأيديولوجيا في نظر ياسين الحافظ في مرحلته الفكرية الأخيرة التي تبنى فيها منظورات عبد الله العروي في كتبه العديدة المحللة للثقافة العربية المعاصرة ولا سيما كتابه "العرب والفكر التاريخي"، وهو ثانياً وعي حديث نقيض للتقليد يلخصه الحافظ في أماكن عديدة، ومنها مثلاً التلخيص التالي "للدعائم الفلسفية والسياسية للحداثة":

1 التفكير الفردوي والعقلاني الحديث ممثلاً بديكارت وفلسفة الأنوار.
2 الدولة الملكية الممركزة بتقنياتها الإدارية التي أتت بعد النظام الإقطاعي.
3 قواعد علم فيزيائي وطبيعي ولدت أولى نتائج تقنولوجية تطبيقية" وثقافياً كانت هذه المرحلة مرحلة "دنيوة كلية" للفنون والعلوم.

ومن المفيد أن نضيف وصف الحافظ لتحول الحداثة إلى نمط حياة "ثورة 1789 أرست الدولة البرجوازية الحديثة، الممركزة والديمقراطية، الأمة بمنظومتها الدستورية وبتنظيمها السياسي والبيروقراطي. التقدم المتواصل للعلوم والوسائل التقنية، التقسيم العقلاني للعمل الصناعي أدخلا في الحياة الاجتماعية بعد التغيير الدائم وتدمير بنى العادات والطبائع والسلوك والثقافة التقليدية.ـ هذا كله، بالإضافة إلى التكاثر السكاني والتضخم والتكاثف المدينيين والنمو الهائل في وسائل الاتصال والمواصلات والإعلام، أضفى على الحداثة طابع ممارسة اجتماعية ونمط معيشة متمفصلة مع التغيير والتجديد"(9)، والمستوى الثالث "للوعي المطابق" هو الوعي التاريخي، وهو رؤية امتداد الواقع الراهن في التاريخ وثقل هذا التاريخ عليه، وربط الممارسة السياسية بالحقيقة التاريخية، مما يفرض نبذ كل رؤية أيديولوجية أو وردية للتاريخ.

"الوعي المطابق"عند الحافظ إذن لا يعني تطابق حامله مع واقع الذات بل مع وعي قسم آخر من العالم، وإن كان تكلم عن "الوعي المطابق لحاجات التقدم العربي"(10)، ومن المدهش أن الحافظ لا تجد عنده مهما بحثت ذكراً لمقولة "العنصرية" التي هي مقولة جوهرية مكونة للعقل الغربي الحديث، وقد كان غوبينو والداروينية الاجتماعية مكوّنين مهمين للعقل الحديث بدرجة تقارب ربما ديكارت وسبينوزا (على الأقل حتى الحرب العالمية الثانية إذ حد من نفوذ العنصرية البيولوجية الصريحة السافرة بعدها لارتباطها بالأيديولوجيا النازية، ولكن العنصرية الضمنية ظلت موجودة متسترة بأقنعة جديدة، منها مثلاً الانتقال من تفسير التفوق الغربي على البلاد الأخرى بأنه ناتج عن المورثات الجينية إلى تفسيره بأنه ناتج عن البنية الثقافية لتلك البلاد التي تجعل من المستحيل عليها اللحاق بالغرب، ولا سيما البلاد الإسلامية)، ولا أعرف وجهة نظر الحافظ في المتمثلين العرب بالتجربة الفاشية الأوروبية (وهم كثر كما يعلم الدارس للحركة السياسية العربية بين الحربين العالميتين)، أتراهم كان عندهم "وعي كوني" أم لا! وبناء على أية معايير لا نعتبر هذه الفاشية "الجزء الأكثر تقدماً من العالم" في عصرها!(11).

يضع الحافظ على عاتق "الإنتلجنتسيا" مهمة تحديث المجتمع بدلاً من البرجوازية التي قامت في أوروبا بهذا الدور، وهو يركز على مطلب الديمقراطية الذي خانته الإنتلجنتسيا، لأنه ما من سبيل غير الديمقراطية للخلاص من "العزوف والهجوع السياسي الذي يسيطر على كتلة الأمة"(12) . باختصار: يريد الحافظ مجتمعاً يتبنى القيم الغربية الحديثة بالكامل (وبنسختها الفرنسية) لكي يمكنه تحقيق أهدافه التي هي التخلص من الاستعمار وتحقيق الوحدة العربية والتقدم الاقتصادي وتجاوز الهوة المادية بيننا وبين "العالم المتقدم" وفي سبيل ذلك يقرأ التجربة الفيتنامية على أنها التجربة النموذجية التي قطعت كل علاقة مع التقاليد والفكر التقليدي وتبنت قيم الحداثة متوصلة عبرها إلى تحقيق هذه الأهداف التي عجزت عن تحقيقها الأمة العربية (تلاميذ ياسين الحافظ المفترضين في أيامنا أهدروا بعد المعلم القومي، المناضل في سبيل الوحدة العربية، وبعده المعادي للاستعمار، مكتفين منه بتبنيه المتعصب غير النقدي للنموذج الفرنسي من الحداثة، انظر كتابات أعضاء "حزب العمال الثوري العربي" ومن التحق بأفكارهم من نوع السيد عبد الرزاق عيد).

إن نظرة الحافظ للهزيمة العربية وأسبابها جديدة وقيّمة، ولكن قيمتها لا تكمن في رأيي بتشخيصه للمطلوب لتجاوز الهزيمة بل برؤيته الثاقبة لعدم ملاءمة الوعي والسلوك الاجتماعي العربي، إنه حين رد القضية إلى بعدها الاجتماعي بعد أن كانت في الوعي العربي مجرد مسألة سلطة سياسية أو مسألة تكتيك عسكري أو حشد للأسلحة والتقنية قدم إسهاماً ثميناً في الطريق إلى الوعي الملائم المطلوب، ولكنه حين أراد تقديم البديل وصل إلى مطلب تعجيزي يطالب فيه المجتمع بنسخ التجربة الغربية ولا سيما الفرنسية بحذافيرها من الناحية الفكرية على الأقل: "إن المرتكزات الثقافية أو الأيديولوجية لطائرة الميراج أو الفانتوم أو الميغ (مثلاً) نجدها في فكر ديكارت، سبينوزا، فولتير، هيغل، ماركس... (إلخ)"(13) .

إذا كان "ديكارت يقبع في أصل الطائرة" فعلى العرب أن يتحولوا أو تتحول الشريحة المثقفة فيهم على أقل تقدير إلى طلبة في كلية الفلسفة، وهذا شرط تعجيزي، والأهم أنه لا برهان على ضرورته، ولم أر الحافظ سأل نفسه إن كانت اليابان في الفترة القصيرة جداً التي قضتها لتلحق تقنياً وعلمياً بالغرب قامت بكل هذا التحول العقلي والثورة في البنى التقليدية الاجتماعية أو الفكرية، ويبدو أنه يظن ذلك لكنه كان يحس بأن معلوماته هنا ناقصة، والحال أن اليابان اتخذت أسلوباً خاصاً دمجت فيه التقليد الموروث مع الحداثة، ولعله ليس من باب الصدفة أن يشيد الحافظ بهوشي منه الذي اختار فرنسا وليس اليابان ليتعلم منها ويقتدي بها "فاليابان نتاج فرعي ومختزل للغرب"(14) . ثم إن الحافظ في رأيي لا ينتبه بما فيه الكفاية إلى الفارق بين الوعي النظري والسلوك الاجتماعي الفعلي، رغم أن عنده ملاحظة مهمة عن تحول الحداثة إلى "نمط حياة" استشهدت بها قبل قليل، ولكنه حين عدد لنا ميكانيزمات تحولت على أساسها الحداثة إلى نمط حياة ذكر مثلاً "التقسيم العقلاني للعمل الصناعي"، وصار من الواجب أن نبحث عن كيفية إيجاد نمط حياة حديث في مجتمع ليس فيه صناعة تذكر! وليس من الواضح كيف يمكن للإنتلجنتسيا أن تنقل وعيها الحديث إلى المجتمع (وفي التجربة الفعلية ظل تلاميذ الحافظ أقلية زهيدة معزولة حتى ضمن الوسط السياسي اليساري في المشرق الذي هو بكل فئاته لم يتجاوز قط وضعه كأقلية غير حائزة على تعاطف مجموعة اجتماعية وازنة).

وسنعود لاحقاً إلى هذه الفكرة الهامة التي تقول إن المهم في "الوعي الملائم" أنه وعي ممارس، أي هو "نمط حياة"، على نقيض الوعي النظري الذي يمكن أن يبقى نظرياً يثير الشعور بالنقص وانعدام الكفاءة والإحساس بحتمية الهزيمة ما دام صاحب هذا الوعي لا يرى طريقة لاستخدامه في تغيير الواقع. الحافظ يرى أولوية السياسي، ففي هذه النقطة هو لا يختلف ظاهرياً عن التيار العام للوعي التغييري العربي الذي لا يعتقد بإمكانية التغيير دون المرور بمسألة استلام السلطة السياسية، ولكنه يتميز باشتراطه لنوع ملائم من الوعي عند قوى التغيير لكي تستطيع السياسة أن تقوم بدور "الرافعة لعمارة المجتمع العربي": "إن السياسي، وتلحقه السياسة بالطبع، كفعل واع مصمم، يمكن أن يصبح، في بلدان لم تشهد تطوراً متوازناً سوياً، الرافعة إذا توفر لقوى التغيير الراديكالي العربية وعي كوني وتاريخي، رافعة لعمارة المجتمع العربي برمتها في كافة حيزاتها ومستوياتها، تهيء لها النضج والتوازن والاتساق. لذا فإن الفعل الراديكالي في البلدان العربية لا يمكن إلا أن يكون سياسياً وثورياً. وبالتالي فإن أولوية السياسي مسألة بديهية، على أن تكون مستندة بالطبع على حيز أيديولوجي ـ ثقافي متحرر بدرجة كافية من المعتقد الإيماني والتقليد"(15)

3 3 مالك بن نبي: الواجبات أولاً:
كاتب هذه السطور كرس كتاباً لشرح جانب واحد من جوانب تفكير مالك بن نبي أعتقد أنه الجانب الأهم في أفكاره في سياق الدعوة لوعي جديد، إنه الجانب الذي قلما يذكر، ألا وهو جانب الدعوة العملية لمالك وليس الجانب النظري في كتاباته أو جانب الفكر السياسي عنده(16). اشتهر مفهوم "القابلية للاستعمار" عند مالك بن نبي، ولكن من يستشهد بهذا المفهوم في الصحف والمحطات التلفزيونية لا يذكر عادة السياق الذي جاء به هذا المفهوم في كتاب مالك بن نبي المؤسّس "شروط النهضة"(17). فيبدو وقد قطع من سياقه أن مالك يبرّئ الاستعمار من كل دور في الوضع الحضاري المزري للشعوب التي استعمر بلادها، والحال أن مالك يتكلم أولاً عن "معامل استعماري" يبخس من قيمة ضحية الاستعمار، فالاستعمار لا يترك وسيلة إلا ويتبعها لمنع تلك الضحية من أخذ موقع مناسب في المجتمع، فهو يجهد لإبقائها جاهلة، فإن دخلت المدرسة يحاول عرقلة دراستها، فإن استطاعت مع ذلك إنهاء المدرسة بنجاح منعها من أخذ وظائف مهمة وحرمها من كل بنية تحتية ضرورية للازدهار الاقتصادي. أما معامل "القابلية للاستعمار" فيتكامل مع هذا المعامل الاستعماري لإنجاح الخطة الاستعمارية وتسهيلها وعرقلة كل جهد نهضوي، ومن هؤلاء المعرقلين السياسيون الانتهازيون الذين يفرقون صفوف الشعب شيعاً وأحزابا، وهذه هي السياسة التي يعطيها بن نبي الاسم الاحتقاري "بوليتيكا" كنقيض للسياسة النهضوية التي يريدها ويعرفها بأنها "علم اجتماع مطبقاً" في كتاب لاحق له، وتتميز السياسة التي تستحق اسمها بأنها سياسة تستعمل الوسائل المتوفرة تحت يدي الشعب لتصفية القابلية للاستعمار ثم بعد ذلك تغير البيئة بالتدريج لتصفية الاستعمار نفسه "المضمون الإيجابي هو وحده المقياس الذي يتيح لنا أن نعرف إذا كانت السياسة المتبعة علم اجتماع مطبقاً أم ضرباً من الأوهام والخزعبلات" (18).

المفهوم الانحطاطي للسياسة يكون في تركيزها على المطالبة بالحقوق لا على أداء الواجبات المطلوبة من المجتمع المبتلى بداء الاستعمار، وهذا ما يأخذه مالك على علماء الجزائر الذين بدؤوا نهضة من أسفل هزت خمول المجتمع الجزائري وأيقظته للعمل من أجل التغيير، ولكنهم في النهاية انساقوا وراء أوهام سياسة مطالبة باريس بالحقوق المهضومة "فبأي غنيمة أرادوا أن يرجعوا من هناك، وهم يعلمون أن مفتاح القضية في روح الأمة لا في مكان آخر؟"(19)، لقد كانت الحركة النهضوية لبن باديس وأصحابه تطبق الآية الكريمة "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم"، فتحولت البلاد إلى ورشة عمل لاستئصال السبات الحضاري المهيمن، إن العمل الفعال قام بدلاً من انتظار الخلاص في الحروز والتمائم وزردات الأولياء، ولكن هذه الحروز والتمائم عادت على شكل أوراق انتخابية فالنهضة استبدلت بحفلات انتخابية بذلت فيها الوعود بإعطاء الحقوق السليبة، ويصف مالك بن نبي هذه النكسة في الوعي في كتابه "شروط النهضة: "كم رددنا عبارة (إننا نطالب بحقوقنا)، تلك الحقوق الخلابة المغرية التي يستسهلها الناس، فلا يعمدون إلى الطريق الأصعب: طريق الواجبات"، "بعد أن كان الشعب يقتني بالثمن الغالي البركات والحروز، أصبح يقتني الأصوات والمقاعد الانتخابية، ويسعى إليها في تعصب لا يفترق عن تعصبه الأول دون أي ذوق ناقد، ودون أي جهد لتغيير نفسه أو مجتمعه"، "أصبح يؤمن بالعصا السحرية التي تحوله بضربة واحدة إلى شعب رشيد، مع ما به من جهل وما تنتابه من أمراض اجتماعية"(20).

لكي تنجح النهضة يجب أن يسير التغيير من تحت إلى فوق، تتغير القاعدة الاجتماعية أولاً فتتغير الحكومة لتتناسب مع التغير الذي جرى من تحت، وليس العكس. إن تحوّل الأمة معجزة موطنها هو ما دل عليه القرآن، أي في النفس ذاتها "الحكومة مهما كانت ما هي إلا آلة اجتماعية تتغير تبعاً للوسط الذي تعيش فيه" وكابوس الاستعمار لا ينقشع إلا "بتحول نفسي، يصبح معه الفرد شيئاً فشيئاً قادراً على القيام بوظيفته الاجتماعية، جديراً بأن تحترم كرامته"(21). ومن واجب الفاعل الاجتماعي النهضوي في غمار ذلك طرح المسائل المتعلقة بهذا التغيير من هذا الأسفل بصورة عملية واقعية لا خيال فيها. مالك بن نبي يصف نوع النقاشات التي كانت تدور في الجزائر في فترة النهضة. "لقد كنا إذ ذاك إذا ما خلصنا إلى سمرنا نتحدث حديث (الغشيم)، ولكنه ليس عقيماً، إذ هو يدور حول الشؤون الاجتماعية، كالتعليم والتربية وتطهير الأخلاق والعادات ومستقبل المرأة واستخدام رؤوس الأموال. وكانت هذه الأحاديث ذات قيمة، لأنها كانت بعيدة عن منطق الغوغاء وعن الرياء والذاتية وعن النزعات الانتخابية، فقد أصبح لكل كلمة من هذه الكلمات قيمتها في الوسط الجزائري، ولكل سعي أثره وإن قل، إذ هو يسهم في بناء التقدم والنهضة، تماماً كما تسهم القشة الصغيرة في بناء عش الطير إبان الربيع"(22).

هذا هو "النقاش النهضوي"، وفي الفعالية النهضوية تستعيد الكلمة كرامتها بعد أن فقدتها في الفترة الانحطاطية، حيث صار الكلام مجرد تعويض عن فقدان العمل بدلاً من أن يكون وسيلة من وسائل العمل نفسه. في مكان آخر ضربت مثال النقاش في ورشة الذي يجريه العمال أو المهندسون لحل المسائل الملموسة التي تظهر أثناء تقدم الإنجاز على أنه نموذج للنقاش النهضوي، وعكس هذا النموذج هو النموذج الانحطاطي الذي تستعمل فيه الكلمات للمباهاة أو لستر التقصير أو لقمع الآخر وإسكاته حتى لو كان يقول الحقيقة أو لمجرد قص قصص من عالم الأحلام الخلابة عن أمجاد سالفة واقعنا نقيض لها (كثير من مواعظ من يسمون "الدعاة" في أيامنا ليس لها إلا هذا الدور). العمل للتخلص من الاستعمار يتمرحل أولاً حول نهضة من الأسفل يقوم فيها الإنسان بواجباته، ويستعمل بصورة رشيدة وبفعالية الوسائل المتوفرة تحت يده ليتخلص أولاً من القابلية للاستعمار ثم من الاستعمار نفسه.

لا زالت هذه "الوصفة" صالحة في اعتقادي حتى بعد أن تخلصت بلاد كثيرة من بلادنا من الاستعمار المباشر (ومن المعلوم أنه حتى هذا التخلص الشكلي من الاحتلال لم يعد قائماً في السنين الأخيرة بعد أن عادت الجيوش الأجنبية مرة أخرى مستثمرة "القابلية للاستعمار" شر استثمار، ولننظر في أمثلة العراق وفلسطين وأفغانستان، حيث لم تكن الجيوش وحدها هي ما تسبب في الهزائم، بل كانت العوامل الداخلية، "السلوك الانحطاطي" للمجتمع هي ما سهل للاستعمار في شكله الأجد مهمته وصعب مقاومته). أعتقد أن مالك بن نبي كان المؤسس الأول لنقد ما أسميه "فرط التسيّس" في الوعي العربي (والإسلامي) الحديث، وبهذا الاصطلاح أصف تلك الرؤية التي تعلق على "السياسة" بمعناها الأكثر سطحية مهمة تغيير الوضع المهزوم لأمتنا. 

3 4 تنويع لفرط التسيّس: شعارا "تطبيق الشريعة" و"الدولة الإسلامية":
بنيت هذه الثقافة العظيمة على نص مؤسّس وخبرة تاريخية لمجموعة من الشعوب تعاملت مع النص وطبقته مبتكرة أنغامها الخاصة المنسجمة مع النغم العظيم الذي يؤلف الأنشودة الخالدة للإسلام. إن المنظومة القانونية هي جزء من البناء الإسلامي العظيم كما هو معلوم، ولكن عصرنا شهد ظهور أيديولوجيا سياسية حديثة ترى أن الحل للكارثة الحضارية هو بناء "دولة إسلامية" مصادرة على أن الأشكال السياسية القائمة في العالم الإسلامي انحراف (أو ارتداد في رأي بعض اتجاهات هذا التيار)، والتركيز هو عادة على "تطبيق الشريعة" كحل يكفل للمسلمين استعادة هيبتهم وعزتهم وموقعهم الحضاري المتفوق القديم. في رأيي أن هذا الاتجاه هو تنويع للاتجاه العام للوعي السياسي العربي الحديث المتميز بما أسميه "فرط التسيّس" ويلخصه المبدأ: تغيير السلطة هو الحل!.

النهضة الحضارية لا تتعلق بسلطة سياسية ولا بالمنظومة القانونية التي تتبناها، وقد آن لهؤلاء العاملين السياسيين أن ينتبهوا للدروس الملموسة التي قدمتها تجارب بناء "الدولة الإسلامية" في السودان وأفغانستان وإيران بل والسعودية أيضاً. إن ما قلته في هذا المقال عن مدى جدوى الاعتماد على تغيير في البنية الفوقية للسلطة (أو مستوى من مستوياتها مثل مستوى المنظومة القانونية في حالنا) ينطبق على هذه الحالة أيضاً. إن حظوظ نجاح البرنامج الإسلاماني لا تزيد عن حظوظ الاتجاهات الأخرى التي مر بها الوعي التغييري العربي في العصر الحديث. والمشكلة هي نفسها هنا كما هي هناك: على أرضية بنية اجتماعية انحطاطية (وما يرافقها من وعي انحطاطي وسلوك انحطاطي) لن تستطيع بنية فوقية خلق نهضة. ومن خطل الرأي في نظري ما تراه هذه الاتجاهات من إمكانية تغيير ما بقومنا دون أن يغيّروا ما بأنفسهم أي بدون تغيير الوعي الاجتماعي والسلوك الاجتماعي المتناسب معه، خلافاً للتوجيه القرآني الصريح. 

3 5 نحو نقد الوعي المقاوم انطلاقاً من مفهوم أشمل للمقاومة: المرحلة الأحدث للوعي التغييري العربي: مفهوم "الوعي" عند حسن نصر الله:
من أهم الأشكال التي يتخذها فرط التسيّس في عصرنا الاعتماد الحصري على المقاومة العسكرية انطلاقاً من أن التغلب علينا في الصراع العنيف هو سبب مشكلتنا الوحيد وإمالة ميزان التغلب العنيف لصالحنا هو الحل الوحيد. "الحل في المقاومة" وحدها إذن، ومعنى "المقاومة" هنا هو المقاومة العسكرية لا غير. وجهة النظر هذه شائعة عند تيارات سياسية وفكرية مختلفة، ومن أفضل الأمثلة على مفكري المقاومة وأوسعهم أفقاً مفكر كان مع المقاومة منطلقاً من وجهة نظر ماركسية (ماوية ـ فيتنامية) ثم ظل على الموقف حين تحول إسلامانياً بعد الثورة الإيرانية 1978 وهو المناضل منير شفيق، وآراؤه جديرة بالنقاش بصفته ممثلاً نموذجيا للوعي المقاوم في عصرنا، وبقاء آرائه على حالها مع تغير المنظومة الفكرية عنده يدلنا على أن الوعي العربي التغييري المعاصر توحده الأهداف التي تفرض نفسها على المجتمع رغم التناقض الشكلي الظاهر بين المدارس الفكرية المختلفة، وعلى أساس هذه الوحدة يدعو كاتب هذه السطور إلى تنبه الفاعل السياسي العربي إلى وحدة المنطلقات وبالتالي إلى تجاوز ما تبقى من آثار الصراعات الجانبية السابقة في صفوف الحركة الوطنية العربية.

سأناقش في هذا المقال مفهوم الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله للوعي، الذي تشكل تجربة حزبه التجربة الأرقى في تيارات المقاومة الإسلامانية الجديدة (في اعتقادي أنها تجاوزت من حيث الحكمة وسعة الأفق والنظر الاستراتيجي تجربة حركة "حماس" بمراحل عديدة، وهذا ما يتبدى بجلاء في الفرق بين التنظيمين في طريقة التعاطي مع الفرقاء الآخرين في الوطن، حيث لم يلجأ حزب الله إلى "الحسم العسكري" إلا مضطراً ومتبعاً أكثر الطرق حكمة وأقلها استفزازاً، على خلاف نموذج حماس في غزة التي انساقت وراء استفزاز العناصر الفاسدة في السلطة مسببة انقساماً داخلياً خطيراً أدخل الشعب الفلسطيني في الضفة وغزة في مأزق لا يتضح الآن سبيل الخروج منه). وقد ألقى خطاباً عرض فيه بصورة واضحة مناسبة لغرضنا في هذا المقال مفهومه للوعي وكرّس جلّه لهذا الموضوع، وسأحلل هذا الخطاب من منظور نقدي يدعو إلى توسيع مفهوم "المقاومة" بحيث لا ينحصر في البعد العسكري الضيق، وفي فقرة لاحقة سأوضح رأيي في أن مفهوم "الوعي" كما يتبدى في الخطاب هو حتى أضيق من المفهوم العسكري الصرف للمقاومة الذي أعتقد أنه يجب تجاوزه إلى مفهوم أوسع تشمل فيه "المقاومة" نشاطات اجتماعية تخص كل البنى الاجتماعية ويقوم بها بوعي الغالبية الساحقة من أفراد المجتمع المقاوم إن لم يمكن أن يقوموا جميعهم بها. 

3 5 1 استعراض عام: "الوعي" كما ورد في خطاب الذكرى الأربعين لاستشهاد مغنية:
ألقى الأمين العام لحزب الله خطاباً في الذكرى الأربعين لاستشهاد القائد العسكري للحزب عماد مغنية (في 24 3 2008، والخطاب بنصه موجود في صفحة حزب الله في الإنترنيت لمن يريد قراءته بالتفصيل، وهذا النص هو الذي أقتطف منه الاستشهادات في هذا المقال) احتوى على موضوع مهم جداً في رأيي هو موضوع "الوعي". تلمّسه نصر الله بنباهته المعهودة، ولكنه طرحه من منظور ما يمكن أن نسميه "الوعي المقاوم العسكري الصرف"، وسأحاول بعد قليل إيضاح ما أعنيه بهذا التعبير. قال نصر الله: "لطالما تحدث الإسرائيليون عن معركة الوعي بينهم وبين أعدائهم وخصومهم، وكانوا يقولون دائما أنهم يخوضون معركة وعي مع شعوب منطقتنا مع الفلسطينيين واللبنانيين والعرب وشعوب المنطقة، وهم يقولون شيئا صحيحا، هم يخوضون معنا جميعا معركة وعي ولكن يخوضونها ليس بلغة المنطق والعلم والإستدلال وإنما بلغة القتل والبطش والإرهاب والمجازر وقتل النساء والأطفال وهدم البيوت واغتيال القادة والحصار والتجويع..".

وضرب نصر الله لذلك مثلاً بحصار غزة لإفهام الفلسطينيين إن إطلاق الصواريخ يكلفهم غالياً، الهدف إذن "كي الوعي"، "هذا الوعي الفلسطيني يجب أن يُكوى ويجب أن يملأ بأفكار مغلوطة ومقلوبة، وكذلك الحال بالنسبة للبنانيين ولغيرهم. هم يتحدثون عن القتل لنفهم، وعن الاغتيال لنعلم، وعن الحصار لنستوعب ونعي، إذاً هذه هي أدوات معركة الوعي عند الإسرائيلي". والإعلام العالمي الذي نشهد مستوى اختراق له لم يسبق له مثيل يجيء ليؤازر البطش الصهيوني بهدف إقناعنا بضعفنا وحتمية هزيمتنا ولا جدوى مقاومتنا. ويقول نصر الله إنه في المقابل كانت المقاومة تخوض معركة الوعي من منطلق المبادرة بالفعل وليس فقط رد الفعل، والمقاومة لا يعني بها تياراً واحداً بل يعني كل المقاومين من شتى التيارات منذ عام 1982، ومعركة الوعي مرت بثلاث مراحل: المرحلة الأولى طرح فيها السؤال: "هل يمكن أصلا أن نقاتل الإسرائيليين؟ هل تقاوم العين المخرز؟" وقد حسمت المقاومة السؤال وأثبتت أنه "يمكن لشعب أعزل متروك من العالم أن يقاتل وأن يقاوم وأن يقف وأن يحمل البندقية وأن يطلق النار وأن يقدم الاستشهاديين وأن يفرض على العدو أن يعلن الحداد ثلاثة أيام في هذه الواقعة او تلك الواقعة، هذا الوعي تكوّن عندنا وأيضا تكوّن عند الصهاينة. أنه نعم هناك من يملك عقل وارادة ووعي وثقافة عزم أن يحمل البندقية ويقاتل ولو كان الأفق مسدودا أمامه".

والمرحلة الثانية قيل فيها: نعم يمكنكم أن تقاتلوا ولكن هل بإمكانكم أن تهزموا الجيش الذي لا يهزم؟ وذلك استناداً للتاريخ العسكري القريب الذي استطاع فيه الجيش الصهيوني هزيمة الجيوش الرسمية العربية، واستناداً للمعلومات عن تطور السلاح الصهيوني وتفوقه وتفوق الجندي والضابط والجنرال. وانتصار عام 2000 حين انسحب هذا الجيش بلا قيد ولا شرط حسم هذه المرحلة أيضا. وبقي سؤال المرحلة الثالثة: "بقي هناك سؤال بعده لا يوجد سؤال هل يمكن أن يزول هذا الكيان من الوجود؟ قبل عام 2000 كان هذا الكلام مستحيل. قبل المقاومة اللبنانية والانتفاضة الفلسطينية الأولى والثانية كان هذا الكلام أساطير وخرافات وجنون، ولذلك تراجعت الكثير من المشاريع القومية والعربية والثورية وقالت لنكن واقعيين ومنطقيين، اذا اعطونا ال 67 يكثر خيرهم". هذا السؤال طرح بعد عام 2000 والإجابة جاءت بعد حرب تموز 2006: إنه بعد أن واجهت المقاومة الهجوم وحطمته (في السابق كان العدو يحتل والمقاومة أخرجته) "الصورة الاسرائيلية انكشفت على حقيقتها وصورة الجبهة الداخلية. هذا الشعب الذي لا يتحمل قصفا ولا تهجيرا ولا سكنا في الملاجئ لمدة 33 يوم، على الفلسطينيين واللبنانيين أن يتحملوا التهجير لـ 60 عاما. لكن الإسرائيليين، 33 يوم لا يتحملون تهجير ولا سكن في الملاجئ. وتنتهي الحرب بخسارة إسرائيل كشفت صورة الجبهة الداخلية وأصبح هناك إمكانية لجواب جديد. هل يمكن أن تزول إسرائيل من الوجود؟ نعم وألف نعم يمكن أن تزول إسرائيل من الوجود".

واستشهد نصر الله باستطلاع للرأي أظهر أن غالبية الشعب اللبناني بمختلف طوائفه تؤيد العمل على اسقاط النظام الصهيوني، ونسبة كبيرة منه (55%) يعتقدون بأن النظام الصهيوني بطريقه إلى السقوط. ورأى نصر الله أن الجيش الصهيوني في غزة يرتكب الأخطاء ذاتها التي ارتكبها في لبنان. وفي سياق هذا التحليل التاريخي واستنتاج العبر من الماضي القريب والحاضر أعلن نصر الله النبوءة المهمة التالية التي أراها جديرة بالتعليق لأنها مرتبطة ارتباطاً كبيراً جداً بموضوع الوعي الذي أخصص له هذا المقال: "لذلك أنا أقول لكم أيها الإخوة والأخوات أنتم إن شاء الله ببركة دماء الشهداء وخصوصا الشهداء القادة الكبار من علماء وجهاديين وسياسيين أنتم الجيل الذي سوف يشهد الانتصار النهائي الحاسم لأمتنا وتغيير وجه المنطقة وإقامة المشروع الحقيقي الذي ينتمي إلى شعوبنا وأوطاننا وأمتنا". 

3 5 2 مفهوم "الوعي المقاوم العسكري الصرف":
ما هو "الوعي" الذي تدور حوله المعركة إذن كما يراه نصر الله، وهو كما نرى كل ما يطلبه من وعي؟ إنه وعي يتعلق حصراً بالمغالبة العسكرية، واخترت تعبير "المغالبة" القديم قصداً لأنه اشتقاقياً يتصل بمفهوم "التغلب"، وهو كما يعلم من قرأ كتابات الفقير لله القديمة التعبير الذي اخترته لوصف مكون مهم جداً من مكونات "الاستلاب" وفقاً لتحليلي الموجود في أحد فصول كتاب "حول الحب والاستلاب ـ دراسات في علم نفس الشخصية المستلبة" وصدر عن دار الكنوز الأدبية في بيروت عام 1995، وأعني مكوّن "الاستلاب التغلبي"، وتعريفه عندي أنه القناعة التي تتكون بعمق عند الفرد المضطهد (بفتح الطاء) بصفرية قوته في الصراع الاجتماعي وبحتمية الهزيمة في هذا الصراع، وهذا المركب من مركبات الاستلاب يوجد جنباً إلى جنب مع مركبات أخرى وصفتها في ذلك الموضع من الكتاب وهي "الاستلاب الطبقي" و"الاستلاب الأخلاقي" و"الاستلاب العنصري".

إن العدو على هذا يتوجه إلى تعزيز "الاستلاب التغلبي" عبر "كي الوعي" بمجازره الوحشية بحيث تتعزز فكرة لاجدوى المقاومة، وفي المقابل إن عمل المقاومة الوطنية ثم الإسلامية كان يعمل في الاتجاه المعاكس وهو إزالة هذا "الاستلاب التغلبي" عند الجماهير، إن ما فعلته المقاومة هو بالفعل نوع من أنواع "العلاج السلوكي" للاستلاب، (في الكتاب المذكور كتب شقيقي الدكتور حسين شاويش فصلاً حول العلاج السلوكي للاستلاب")، وفي الحقيقة إن الجماهير "شفيت" من هذا الاستلاب التغلبي الذي راكمته تجربة الهزائم العسكرية العربية في المواجهات مع العدو الصهيوني ليس بالمواعظ ولا بالاقتناع النظري بل عبر تغيير سلوكي يزول فيه الاستلاب تدريجياً مع تصاعد المواجهة ورؤية "المريض" أن السلوك الجديد يحقق النتيجة التي كان مستبطناً لفكرة استحالة تحقيقها وهي النصر في المواجهة، وكثير من أنماط العلاج السلوكي للأعصبة (ولا سيما أنواع المخاوف المرضية "الفوبيا") تتبع أساليب لها صلة بهذا الأسلوب! الوعي في الخطاب إذن هو:

1 امتلاك الشعب لإرادة القتال
2 قناعته بإمكانية النصر العسكري على العدو.

في المقابل يهدف العدو في معركة الوعي هذه إلى إقناع الشعب بأن القتال مستحيل في ظل موازين القوى المائلة كلياً لصالح العدو، فإن لم يستطع العدو إيصال شعبنا إلى هذه القناعة يتبقى عليه أن يقنعه باستحالة النصر، وفي المرحلة الثالثة (كما قد نستنتج من محاكمة الأمين العام)، وبعد القناعة بإمكانية النصر تبقى القناعة بإمكانية إزالة الكيان الصهيوني نفسه. ها هنا نرى "الوعي المقاوم العسكري الصرف"، فهو يتناول بعد المغالبة العسكرية مع العدو، دون الأبعاد الأخرى للصراع التي تجعل المجتمع قابلاً للهزيمة ("قابلاً للاستعمار" وفقاً لتعبير مالك بن نبي الشهير)، ذلك أن الوضع الضعيف الهش القابل للهزيمة الذي يعانيه مجتمعنا لم ينتج فقط عن كوننا مهزومين عسكرياً كما هو معلوم، بل الهزيمة العسكرية كانت عرضاً للمرض العام الحضاري الذي كان من منجزات ياسين الحافظ ومالك بن نبي التركيز عليه كما حاولت أن أبين في ما سبق من هذا المقال، وإن يكن البعد العسكري مهماً جداً طبعاً، وليس من الصواب في شيء إنكاره والتعتيم عليه كما يفعل أصناف عديدة من الناس عندنا: من الناس العاديين اليائسين إلى أتباع وأبواق "الأنظمة المعتدلة" إلى "المثقفين اللبراليين الجدد" (تسمية غير مستحقة كما قلت)، والأخيرون هم من ابتكر مصطلح "ثقافة الحياة" في وجه "ثقافة الموت" أي ثقافة المسالمة والصلح مع العدو في وجه ثقافة المقاومة العسكرية الصرفة. وفي هذا المقال أدافع عن مفهوم للمقاومة يتجاوز موقف كلا الفريقين، على أنه موجه طبعاً للحوار مع أهل المقاومة لأن الطرف الآخر في اعتقادي لا يريد أي نوع من أنواع المقاومة بل هو ثقافة انسجام مع الطرف المعتدي انطلاقاً (في حالات حسني النية من هذا التيار) من وهم أن الطرف الآخر يمكن أن تزول عدوانيته ويصبح مسالماً إن سالمناه، وأن مصالح شعبنا يمكن أن تلتقي ذات يوم مع مصالح الكيان الصهيوني. 

3 5 3 من الذي يقاوم؟
لكننا لو بقينا ضمن المفهوم العسكري الصرف للمقاومة فإن السؤال يظل مطروحاً هنا: من هو الذي سيقوم بالعمل المؤدي إلى الانتصار؟ أهو الشعب بكل أفراده أو معظمهم على الأقل، أم توجد إمكانية أن النخبة المجاهدة التي هي بحكم طبيعتها أقلية من السكان تستطيع بإمكانياتها الخاصة عملياً تحقيق هذا الهدف؟ يبدو أن نصر الله يرى الإمكانية الأخيرة واقعية ويظهر هذا من حقيقة أنه وعدنا في خطاب سابق بمفاجأة ستقلب موازين القوى الاستراتيجية وتنهي الكيان وتحل التناقض التاريخي مع العدو(لصالح: المسلمين أو العرب أو الفلسطينيين أو اللبنانيين أو كل هؤلاء، وتحديد هوية الطرف الذي يدعم المقاومة وله مصلحة فيها ملتبس في التركيبة اللبنانية بالذات كما يعلم القارئ!).

نصر الله يطمئن هذا الجيل أنه هو الذي "سيشهد الانتصار النهائي الحاسم" وأتمنى على القارئ لكي يفهم القصد أن ينتبه للفعل "يشهد". هذا الفعل يختلف عن فعل "يحقق" مثلاً، والفعل "يشهد" له رابطة معنوية ولغوية مع الفعل "يشاهد"، وهو يذكّر بالفعل "يتفرج" ولو استغرب هذا القول أنصار أخينا نصر الله ومؤيدوه، والفقير لله كاتب هذه السطور على كل حال واحد من الغالبية العربية الشعبية التي تؤيد مبدأ المقاومة وتجل نصر الله إجلالاً كبيراً، ولكني أرى من الضروري جداً نقد هذا الوعي المقاوم بصيغته المتمحورة حول البعد العسكري ـ الإرادي ـ التقني، والانطلاق إلى بعد أوسع لمفهوم المقاومة التي هي الرد الشرعي الذي يقوم به الإنسان المضطهد على الشروط الاضطهادية والقوى التي تحمي بقاءها.

ولإيضاح الفكرة المركزية في هذا النقد لا أرى بأساً من الاستشهاد بتجارب مقاومة سابقة خاضتها شعوب وطبقات وشرائح اجتماعية واتجاهات فكرية سابقة هنا، والمثال الذي يخطر في البال هنا هو المقاومة المسلحة للنظام القيصري في روسيا التي خاضتها منظمة نارودنايا فوليا (إرادة الشعب) في ثمانينات القرن التاسع عشر، وقد جاء من بعدهم تنظيم "الاشتراكيين الثوريين" الذي نظّر لإسقاط النظام القيصري الذي كان المزاج الثوري للإنتلجنتسيا الروسية مجمعاً على معاداته للإنسان واستعباده للغالبية البائسة من الشعب الروسي (الغالبية الفلاحية والأقلية العمالية الناشئة أيضاً) عن طريق العنف المسلح (وكان يصطلح على تسميته آنذاك "الإرهاب"، وهو بالمناسبة أيضاً اسم النظام الذي قاده روبسبير قبل ذلك في الثورة الفرنسية واعتمد أكثر الأساليب دموية). الثوري الكبير الذي سيستلم السلطة لاحقاً لينين جادل "الاشتراكيين الثوريين" قائلاً إن الشعب سينظر إلى هذه المبارزة بين حفنة من الأبطال والنظام القيصري "وهو ينكش أنفه"!.

إن "تبشير" هذا الجيل بأنه هو الجيل الذي "سيشهد الانتصار النهائي والحاسم" في اعتقادي ليس بالتربية الحسنة له، وهو عمل لا يساهم في الانتصار "بمعركة الوعي" وبالعكس: إن بث هذه الفكرة في صفوف الشعب من شأنها أن تجعله اتكالياً يراقب المعركة بين "حفنة الأبطال" والنظام الصهيوني والنظام العالمي الذي يسانده وهو "ينكش أنفه" أو على أقل تقدير وهو يكتفي بالدعاء له في صلاته بالنصر وأن يسدد الله رميه! وفي اعتقادي فإن التجربة العملية لحزب الله تتجاوز هذا النوع من الوعي المحصور في البعد العسكري للصراع، لأن له تجربة غنية في تعبئة جزء مهم من المجتمع والعمل على تغيير ملائم في أبعاد كثيرة في البنية الاجتماعية، ولكن هذا النوع من الوعي الذي يقود إليه خطاب نصر الله الذي نتكلم عنه هنا هو أكثر ضيقاً من الانحصار في المواجهة العسكرية البشرية والتقنية بين الجيش المعادي والمقاومين لأنه ينحصر هذه المرة في البعد التقني البحت، وقد حذف حتى دور المجموعة المقاتلة من المقاومين، فالدلائل كلها تشير إلى أن أخانا نصر الله يتكلم عن نوع من الأسلحة هو الذي سيبدل موازين القوى جذريا، وهو ما يفهم من الأحاديث المتكررة للأمين العام لحزب الله عن "مفاجأة استراتيجية ستقلب موازين الصراع"، وهذا المستوى من الوعي إن انتشر في صفوف الجماهير سيقود إلى استسهال مفرط للمعركة، وتعليق للأمل ليس هذه المرة على مجموعة المقاومين، بل على سلاح محدد يفترض أن حزب الله امتلكه أو هو في سبيله لامتلاكه.

ليست الخطورة في انتشار هذه الفكرة متعلقة فقط بالإحباط الهائل الذي سيصيب الجماهير في حال أن الحسابات التقنية لم تصح (وظهرت مثلاً "مفاجأة" معاكسة!)، بل المسألة أبعد من هذا: إن الربح في المعركة مع الكيان ومن وراءه هو مسألة حضارية تاريخية شاملة، والحقيقة التي نكرر الإشارة إليها هي أن وجود الحالة الاستعمارية الاستيطانية الصهيونية "عرض" للمرض الحضاري الذي تعاني منه العضوية العربية، وأن المعركة مع هذا المرض هي بحق "المقاومة" ببعدها الشامل. ولن يجد نصر الله لهذا مثلاً أحسن من حال "المقاومة الإسلامية" في لبنان الآن: إن الخطر الأكبر على هذه المقاومة لا يتمثل في الحقيقة بالجيش الصهيوني مهما كان هذا الخطر مهماً، وقد أثبتت المقاومة من هذه الناحية أن إنهاءها عسكرياً هو مجرد وهم لعله لم يعد يراود حتى الصهاينة وحلفاءهم الأمريكان، بسبب تجذرها الجماهيري الكبير وتحولها إلى تعبير عن جزء كامل منسجم متجانس من أجزاء الشعب اللبناني (ذلك الشعب الذي يسلك أحياناً سلوك "كونفدرالية" شعوب مختلفة وإن كان أحياناً يسلك سلوك شعب واحد، فكأنه في "منزلة بين المنزلتين"!). إن الخطر عليها يتمثل في هذه الحالة الانحطاطية للمجتمع اللبناني التي تكفلت فعلاً بتبديد كل مفاعيل الانتصار العسكري في حرب تموز 2006.

إن الذي يقاوم يجب أن يكون هو الشعب كله أو قسمه الأكبر على الأقل، وإن أشكال المقاومة يجب أن تتجاوز انحصارها في الشكل العسكري الصرف لتتحول إلى حالة نهضة سلوكية حضارية شاملة. وهذا السلوك الحضاري الشامل في رأيي هو المفهوم الشامل للمقاومة الذي يتضمن تركيباً لا ينفصم بين الوعي والسلوك، إن السلوك ينتج عن الوعي ثم يعود فيعززه عبر تحوله إلى عادة وخبرة. إنه إذن مركب فكري ـ سلوكي معقد يدمج الحركة الاجتماعية للفرد مع المفاهيم النهضوية الواعية في رأسه وهذا الدمج يتضمن جدلاً مستمراً بين المفاهيم النظرية والتطبيق. والانحصار بشكل الصراع العسكري البحت ليس ضرورياً في كل الحالات، وفي بعض الأحيان يكون الشكل اللاعنيف من المقاومة أكثر ملاءمة لمصالح المجتمع المعني من الشكل العنيف، وهذا ما نراه إن نظرنا إلى الصورة العامة لتطور حالة المجتمع الفلسطيني في المناطق المحتلة عام 1967، ففي رأيي أن حال المجتمع الفلسطيني كانت أفضل بكثير أثناء فترة الانتفاضة الأولى وكان المجتمع موحداً تحت الشكل المبدع الذي ابتكره للتسيير الذاتي والقيادة الجماعية للجان الشعبية، وكان يسير في طريق السلوك الحضاري الأفضل بكثير، على حين انحدرت حال هذا المجتمع في الانتفاضة الثانية، وتحول العنف إلى داخل المجتمع، وتمكن العدو مستعيناً باتفاقيات أوسلو من بث الفرقة والاقتتال حتى بين تنظيمي الجهاد وحماس ناهيك به بين فتح وحماس!، علماً أن من خطيئات أوسلو الكبرى تحويلها المجتمع الفلسطيني إلى مجتمع يتسوّل المعونات الدولية بعد أن كان سائراً أثناء الانتفاضة الأولى في طرق مبدعة جديدة من طرق الاكتفاء الذاتي الاقتصادي. 

3 5 4 نحو مفهوم شامل للمقاومة:
أردت من هذا النقد للوعي المقاوم كما يتجلى عند واحد من أنبه رجال المقاومة في زمننا هذا، ومن موقع الحليف الغيور لفكرة المقاومة، أن أساهم في الحث على التفكير في توسيع فكرة المقاومة، وفي التماس سبل جديدة تتجاوز مساوئ المفهوم الوحيد البعد للمقاومة، وهو الذي أسميته "الوعي المقاوم العسكري الصرف". أقوال أخينا نصر الله في الخطاب الذي تحدثت عنه في هذه الفقرة لا تمثل في اعتقادي سيراً إلى الأفضل في طريق امتلاك الوعي المقاوم الملائم، بل هي حتى تمثل خطوة إلى الأسوأ والأقل ملاءمة للغرض الذي تهدف إلى تحقيقه المقاومة، فهي حتى تراجعت عن فكرة ضرورة دعم المجتمع كله للعمل المقاوم العسكري الذي تقوم به طليعة عالية الوعي العقائدي وعالية التدريب العسكري أيضاً إلى فكرة أضيق تقول بانتظار النصر النهائي عن طريق تقنية عسكرية جديدة من المحتمل أنه لا دور للمجتمع في تطويرها أو حتى استخدامها، والشيء الوحيد الذي يطلب منه هو أن ينتظر و"يشهد" النصر النهائي الذي ستحققه.

والحال في اعتقادي أن المطلوب هو على العكس تماماً: توسيع المفهوم العسكري الضيق للمقاومة إلى مفهوم شامل يخاطب كل فرد بالمجتمع، ويطلب منه أن يغير سلوكه الذي يساهم ويتسبب في الهزيمة الحضارية التي تكمن وراء الهزيمة التاريخية لمجتمعنا أمام الاستعمار، وهي الهزيمة المستمرة منذ قرون عديدة. إن كل فرد في المجتمع إن أمكن، والغالبية الساحقة من الأفراد على الأقل، يجب أن يستبطن في وعيه العميق المنعكس مباشرة على شكل سلوك اجتماعي عملي لا نظري أن "النصر النهائي" و"التغيير الاستراتيجي في موازين القوى" يجب أن يكون عبر العمل الجماعي للمجتمع كله بدأب تام، وبدون أي كسل وإهمال لسد كل ثغرات بنيتنا الحضارية المترهلة المسترخية من جهة وهذه مصيبة كبرى، والمنقسمة على نفسها والقابلة للتدمير والانتحار عبر الصراع الداخلي وهذه مصيبة كبرى أخرى أو هي مصيبة أكبر.

4 خاتمة: نحو وعي جديد:
4 1 نحو وعي شامل:
أردت من هذا المقال تقديم وصف موجز لمحطات أساسية في تطور الوعي التغييري العربي. لقد تميز هذا الوعي عموماً بفرط تركيزه على المستوى السياسي من بين مستويات البناء الاجتماعي، مما قاد عملياً إلى إهمال بعد العمل الفردي والعمل الاجتماعي لتغيير الحالة الحضارية التي وصفناها بالانحطاطية، والتعريف الملائم للانحطاط فيما أرى هو التالي: "الانحطاط هو الحالة التي لا يستطيع فيها المجتمع إعالة نفسه والدفاع عن نفسه ولا يستطيع التحكم في مصيره". والتفسير الملائم للانحطاط في رأي كاتب هذا المقال كما ذكرت في الفقرة الأولى أنه "الحالة التي ينتجها السلوك الانحطاطي"، من هنا فإن العمل التغييري الذي ينبني على الوعي الجديد يجب أن يكون التغيير الشامل في السلوك الفردي والجماعي للقاعدة الاجتماعية. وبدلاً من التركيز على المستوى السياسي للبناء الاجتماعي وحده يجب الاهتمام الشامل بالمستويات كلها.

من المستويات المهمة مثلاً تحقيق الوحدة الوطنية والقومية من أسفل بلا انتظار للتوحيد من أعلى، وهذا يكون بتحويل الوعي الوحدوي إلى ممارسة يومية وليس إلى شعارات ترفع في المؤتمرات أو تقال في الإذاعة والتلفزيون والصحف. حين لا نركز على مهمة الوحدة تصبح كل بطولة المقاومين مثلاً عرضة للضياع في اللاجدوى، بل عرضة للانقلاب ضد المجتمع نفسه كما في الأمثلة العراقية والفلسطينية، وقد حالت حكمة قيادة حزب الله المتميزة دون أن يكون هذا هو الحال في لبنان أيضاً. وليس من وظيفة هذا المقال تحديد كل جوانب هذا الفعل النهضوي المطلوب، فهو يهتدي بواقع العمل الاجتماعي نفسه وما سينطرح على تجربته اليومية من مسائل ومشاكل، ومن المؤسف أن "فرط التسيس" يقود الأنظمة العربية إلى الشك بكل مبادرة اجتماعية على اعتبار أن التجربة والعقلية التي تربت عليها النخب الحاكمة لا تصدّق بأن من الممكن وجود فعل اجتماعي لا يتوجه إلى استلام السلطة(23)، ومن واجب الفعل التغييري الجديد أن يكافح لتغيير هذه الحالة عبر التزامه بالبعد عن هدف استلام السلطة إذ لا يتوقع خير من هذا الاستلام طالما الأساس الاجتماعي النهضوي لم يبن لتقوم سلطة تتناسب معه (وقد رأينا هذه الفكرة الصائبة عند مالك بن نبي).  

4 2 من ثقافة تحميل المسؤولية إلى ثقافة تحمل المسؤولية:
من أهم نتائج فرط التسيّس في الوعي العربي المعاصر انتشار الميل للهجاء: كنا نهجو الاستعمار، أما في المرحلة الجديدة فصرنا نهجو الحكام ونشتمهم، وعلى الرغم من أنني طبعاً لست في وارد تبرئة الاستعمار ولا تبرئة الحكام من المسؤولية عن أوضاعنا المحزنة، فإنني أعتقد أن علينا التقليل من الهجاء والانصراف إلى نقد فاعل للذات لا يهدف إلى جلد الذات وتبرئة الأعداء (كما تفعل الثقافة الجديدة للمرتدين عن اليسار) وإنما الهدف هو تغيير السلوك الاجتماعي وتغيير النظرة إلى الطريق المؤدي إلى التغيير. في الوعي الجديد يكون التغيير واجب كل فرد وليس عملاً تقوم به النخبة بالنيابة عن المجتمع. الوعي الجديد ينتقل من ثقافة تحميل المسؤولية للآخرين إلى ثقافة تحمّل المسؤولية وحملها والسلوك بمقتضاها: كانوا فيما مضى يقولون "كل مواطن غفير" أما الوعي الجديد فيجب أن يكون شعاره "كل مواطن مسؤول عن التغيير"، وفي التعبير التراثي "كل مواطن يقف على ثغرة من ثغرات المسلمين فلا يؤتى الإسلام من قبله"!.

وعنيت بالإسلام هنا الاسم العام الشامل لمجتمعنا وثقافتنا بكل ما فيه من مكونات دينية وثقافية واجتماعية، ولم أعن البعد الديني الضيق بحصر المعنى (وإن كان الفقير لله كاتب هذه السطور يقف شخصياً على أرضية الإيمان بالدين الإسلامي بسعته وسماحته طبعاً وليس على أرضية طائفية ضيقة هي سمة هذه الأيام)(24). إن الفعل النهضوي ليس فعل تيار سياسي واحد أو فعل اتجاه عقائدي محدد، ففيه تتوحد جهود كل من يؤمن بالأهداف الكبرى للمجتمع من متدينين من مختلف الطوائف والمذاهب ومن غير متدينين أيضاً، طالما أن العلاقة التي توحد هؤلاء هي الاحترام المتبادل والعمل الفاعل في سبيل هدف مشترك. والانصراف للعمل المنجز كما تقول التجربة يوقف الميل للخلاف والانقسام اللذان ينتجان عادة عن حالة العطالة التي تقود إلى الإحباط، وهي بدورها تقود للنزاعات الداخلية حيث يحمل كل فرد الآخرين مسؤولية الوضع المحبط. وقد تعلمنا من تراثنا أن الله إذا غضب على قوم أعطاهم الجدل وحرمهم العمل!.

4 3 الوعي الجديد هو وعي سلوك وعادات جديدة
الوعي الجديد الملائم يجب أن يتخلص من الطابع الوعظي. إن كثيراً من المواعظ المتعلقة بالسلوك السليم والمثالي لا تزيد في نجاحها العملي في تحويل سلوك السامعين في الاتجاه المطلوب على نجاح قراءة "سيرة أبي زيد الهلالي" أو"سيرة عنتر بن شداد" أو "سيرة الملك الظاهر" في تحويل السامعين في سلوكهم الممارس إلى أبطال مماثلين لأبطال تلك السير. ومما نراه في حالة الإسلامانيين أنهم يدعون دائماً في محاضراتهم وكتبهم إلى سلوك إسلامي دون أن ينتج عن هذه الدعوة تحول فعلي في سلوك سامعي المحاضرات أو قارئي الكتب. ومن الأمور التي أتضايق منها الوصف الشائع لتحول معظم قطاعات شعبنا إلى التدين، فهذه الواقعة يسمونها "الصحوة الإسلامية"، وكأن الإسلام من ألفه إلى يائه لا يعني أكثر من اكتظاظ المساجد بالمصلين وتبني النساء "الزي الإسلامي" (هو تعبير غير دقيق إن كان يعني أن هذا الشكل من الزي وحده إسلامي إذ من المعلوم أن الشعوب الإسلامية عندها أزياء كثيرة تختلف عن بعضها بالشكل وتوافق بمجملها متطلبات الشريعة من الثياب)، ورفع صوت مكبرات الصوت إلى أعلى درجة ممكنة عند الأذان وخطب الجمعة، وإلى آخر هذه المظاهر...

ولا يسأل أحد فيما أرى من المتكلمين عن "الصحوة" نفسه: هل تغير السلوك الاجتماعي فعلاً بعد هذه "الصحوة"؟ هل المجتمع أصبح أكثر ترابطاً وتعاضداً وصار مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى؟ هل اختفى التباغض والتحاسد وهل صار المسلمون متعاونين على البر والتقوى؟ هل أدت "الصحوة" إلى الوحدة أم إلى الخلاف والتفرق؟ هل أصبحت الشوارع (والإسلام دين النظافة كما نعلم) أنظف أم لا زالت الوساخة تملأ شوارع أحياء سكانها جلهم "صاحون صحوة إسلامية"؟ هل ظهر عند "الصاحين" مبدأ الصدق والنزاهة في التعامل مع الآخرين؟ هل ظهر إتقان العمل والوفاء بالعقود أم لا زلنا ننجز أعمالنا كيفما اتفق بلا مراعاة للإتقان ولا نتردد في التهرب من التزاماتنا؟ هل أخونا وجارنا يشكل بالنسبة لنا عموداً من أعمدة بنائنا الاجتماعية ندعمه ونقويه ليظل واقفاً أم نحاول تهديمه اعتقاداً منا أن واحداً منا فقط هو من يجب أن يقف ووقوف الآخر يعني تهديمنا نحن؟ هل يحترم "الصاحون" الملكية العامة والمصلحة العامة أكثر مما كانوا يفعلون قبل "صحوتهم" أم لا زالوا لا يعيرونهما أي اهتمام؟

الجواب فيما أرى سلبي. إن هذه "الصحوة" لم تقد إلى أي تغير إيجابي نهضوي في السلوك الاجتماعي، ومن هنا دعوت في مقال سابق إلى "تفعيل فضائل الإسلام"، فالوعظ بهذه الفضائل غير مفيد، بل له دور هدام ما دامت هذه الفضائل عملياً لا تتحول إلى سلوك، إذ ينشر الإحباط واليأس ويعزز من الميل الانحطاطي لهجاء الآخرين وتحميلهم المسؤولية بدلاً من نقد الذات والوصول إلى قرار بتحمل المسؤولية يكون للتنفيذ الفوري. إذا كان ياسين الحافظ يعلّق الرهان الأكبر في نشر الوعي الذي يراه ملائماً في المجتمع على أقلية واعية، فإنني أيضاً أرى أن فعل التغيير النهضوي يبدأ بمجموعة واعية، ولكني خلافاً لطريقة ياسين الحافظ أرى أن المطلوب من هذه الأقلية ليس قراءة الكتب والتبشير بمضمونها النظري بل المطلوب هو نشر الوعي الجديد عملياً عبر تقديم نموذج مطبق للسلوك الملائم المتناسب مع الوعي، الوعي في هذا المفهوم الجديد هو سلوك عملي نهضوي تحول بالتدريج إلى عادة اجتماعية ومعيار يقيّم سلوك الفرد اجتماعياً على أساسه. والهدف إذن من التوعية ليس حشو الأذهان بقناعات بل توجيه الفرد في طريق علاج سلوكه الانحطاطي ليصبح سلوكاً نهضوياً. إن حامل هذا الوعي الجديد لا يتوجه إلى ابن مجتمعه قائلاً له: "خذ هذه المعلومة وضعها في رأسك!"، بل يقول له: "خذ هذه المعلومة ورافقني في تطبيقها على أرض الواقع!".

هذه المجموعة الواعية يجب في تقديري أن تحاذر كل الحذر من التحول إلى حزب سياسي أو أن تضع على نفسها مهمة كهذه، لأنها بالتعريف تشتغل على مستوى المجتمع كله، على حين أن الحزب بطبيعته شغله جزئي (وفي بلادنا يكون عادة تجزيئيّاً أيضاً). وفي رأيي فإن إرهاصات لمثل هذا العمل النهضوي المطلوب نجدها مبكراً مثلاً عند "عبد الله النديم" ونشاطاته في مرحلة الثورة العرابية وعند حسن البنا في مرحلة الإخوان المبكرة قبل تحولهم (غير الموفق في رأيي) لاحقاً إلى حزب سياسي وعند عبد الحميد بن باديس ونشاطات "جمعية العلماء" في الجزائر المستعمرة.

الوعي الجديد هو وعي يضع مهمة التغيير على عاتق المجتمع، وتقوم بنشره مجموعة تكبر بالتدريج من فاعلين متحمسين قادرين على تجاوز العطالة الذاتية وخلق نمط جديد من السلوك. إن الوعي الجديد ليس "معرفة جديدة" بل هو "نمط حياة جديد". 

برلين

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ـ "اللبراليون الجدد" هو وصف خطأ لتلك المجموعة من الكتاب والمثقفين عندنا التي تؤيد التدخل الغربي العسكري لفرض "الديمقراطية"، وتناصب العداء للأفكار الوحدوية والاشتراكية وأفكار المقاومة للاحتلال، الصهيوني خصوصاً، التي كانت سائدة في مرحلة ما قبل "النظام العالمي الجديد". والوصف خطأ  لأن "اللبرالي الجديد" لا يكون إلا ابن المركز المهيمن، أما في الأطراف التابعة فلا يمكن أن يكون ابن المجتمعات المهيمن عليها "لبرالياً جديداً" كما لا يكون خادم الملك "ملكياً"، إذ "الملكي" هو الملك نفسه والشريحة الحاكمة التي يعبر الملك عن مصالحها وعقليتها ويرتبط به. ا أما خادم الملك فهو خادم فحسب، والكتاب المذكورون هم أتباع محليون للبراليين الجدد فقط والعربي لا يكون "لبرالياً جديداً" تماماً كما أن ابن المستعمرات لا يكون "استعمارياً" وكل ما يستطيعه هو أن يكون نصيراً محلياً للاستعمار.
(2) ـ في هذا المقال أستشهد بالكتابين التاليين لياسين الحافظ:
"التجربة التاريخية الفيتنامية تقييم نقدي مقارن مع التجربة التاريخية العربي" دار الحصاد للنشر والتوزيع دمشق الطبعة الثالثة 1997.
"الهزيمة والأيديولوجيا المهزومة" " دار الحصاد للنشر والتوزيع دمشق الطبعة الثانية 1997
(3) ـ ترجمة للكلمة Anachronisme  وانظر في بداية كتابه "التجربة التاريخية الفيتنامية" شرحه لهذا المصطلح ومصطلحات أخرى يكثر استعمالها عنده
(4) ـ "الهزيمة.." ص46
(5) ـ "التجربة.." ص8.
(6) "التجربة.." ص27.
(7) ـ انظر الفصل "التأخر العربي تقنولوجي أم أيديولوجيسياسي؟" من كتاب "الهزيمة.." ص249 259.
(8) ـ انظر الفصل "ياسين الحافظ ومالك بن نبي" في: محمد شاويش "مالك بن نبي والوضع الراهن" دار الفكر دمشق 2007 ص103 134.
(9) ـ الاستشهادات الأخيرة مأخوذة من "التعريفات" التي وضعها الحافظ في مطلع كتابه عن "التجربة التاريخية الفيتنامية" ص 15 24 .
(10) ـ "الهزيمة.." ص 30.
(11) ـ انظر تعريف الحافظ لمفهوم "الوعي المطابق" في كتابه "الهزيمة.."   ص237 240.
(12) ـ "الهزيمة.." ص 236.
(13) ـ "الهزيمة.." ص 144.
(14) ـ "التجربة.." ص152.
(15) ـ "الهزيمة.." ص 227.
(16) ـ "مالك بن نبي والوضع الراهن" دار الفكر دمشق 2007.
(17) ـ انظرحديث مالك بن نبي عن "المعامل الاستعماري" و "معامل القابلية للاستعمار" في: مالك بن نبي "شروط النهضة" دار الفكر دمشق ط 4 1987 إعادة 2004 ص149 160. وانظر في كتابي المذكور في الهامش السابق التعليق على هذين المفهومين ص33 41. ونقداً لمفهوم "القابلية للاستعمار" في الكتاب نفسه ص10 23.
(18) ـ مالك بن نبي "وجهة العالم الإسلامي" ترجمة عبد الصبور شاهين ط2 دار الفكر دمشق1980 ص91.
(19) ـ "شروط.." ص 29.
(20) ـ الاستشهادات من "شروط النهضة" ص37، 39.
(21) ـ المرجع نفسه ص33.
(22) ـ المرجع نفسه ص35 36.
(23) ـ من الأمثلة على ذلك تعامل السلطة السورية مع حركة للشباب في قرية داريا قرب دمشق قامت مباشرة بعد احتلال الأمريكان لبغداد في نيسان (أبريل) 2003 تحت شعار "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم" بأعمال مبادرة من نوع تنظيف الشوارع ودعوة الموظفين إلى عدم الرشوة مع تبيان عواقبها المدمرة على المجتمع وأشياء شبيهة بهذا، وهذه المبادرة الطليعية أرى فيها بشرى سارة بوجود إرهاصات للوعي الجديد بين الشباب بغض النظر عما قد يكون اعتور هذه التجربة الجديدة من قلة خبرة، والتعامل الأمني مع هؤلاء الشباب واللجوء إلى اعتقالهم وسجنهم مع أن الواجب كان تشجيعهم والحوار معهم يعكس ما ذكرته في هذا المقال من أضرار "فرط التسيس" التي تعرقل كل عمل منتج في بلادنا عند المعارضات والسلطات معاً.
(24) ـ انظرحول هذه النقطة مقالاً للكاتب في مجلة "الكلمة" الإلكترونية اللندنية العدد 17 مايو 2007 بعنوان "موقع التيار التأصيلي في الثقافة العربية المعاصرة ومفهوم الهوية عنده".