يتناول الكاتب المصري في هذه القصة الصراع الأبدي بين سلطة الكلمة وحنكة السلطة ومؤامراتها، فإما أن يتحول الكاتب إلى أداة طيعة في يدها، وإما أن تحيك له المؤامرات القذرة وتقضي عليه.

موت شاعر

مصطفى نصر

كان القيصر "نيقولا الثالث" يتحدث و "بوشكين" ينصت لحديثه الممل مضطرا، لقد عاد إلى "بطرسبرج" بعد غياب طويل، أنهكه السفر، وتحركات العربة الرتيبة، يريد بوشكين أن يرتاح، يرتمي فوق فراشه في حجرته الأثيرة التي أوحشته، ثم يذهب إلى "نتاليا" حبيبته ـ ويقابل أصدقاءه، يتحدث معهم عن الشعر. لكن القيصر مازال يتحدث وهو جالس مرتاح، بينما "بوشكين" يقف منذ وقت طويل:

ـ كنت في شبابي أكتب الشعر.

وضحك القيصر فاضطر بوشكين أن يجامله ويضحك مثله:

ـ لولا مهام الحكم الثقيلة لصرت شاعرا مشهورا مثلك، وربما أشهر منك.

ابتسم بوشكين ولم يعلق بشيء، "أي شعر هذا الذي يتحدث عنه؟!"
ـ لكنني غير راض عن الأشعار التي تكتبها عن الفلاحين، قرأت واحدة منها عن فلاح يحمل ابنه الميت وخلفه امرأتان.
ـ رأيت مشاهد حزينة كثيرة يعيشها فلاحو الأرض هناك.
وغضب القيصر، تبددت ابتسامته التي طالع بوشكين بها؛ عاد وجهه إلى الوضع الذي يعرفه بوشكين عنه.
ـ مالك أنت والفلاحين؟ كن في نفسك.

الإعياء يضنيه، ساقاه ترتعشان تحت جسده من شدة التعب.
ـ بوشكين، أنت شاعري المفضل، أحيانا أضبط نفسي متلبسا بترديد أشعارك، يمكنك أن تكون أغنى رجل في روسيا كلها، فقط تسير وتفعل ما أريد.

أومأ بوشكين برأسه ولم يجبه، كل ما يريده الآن؛ أن يسمح له بمغادرة القصر، أن يجد نفسه في بيته وفوق فراشه، ياه، لن يذهب إلى "نتاليا" الليلة، سيقابلها في الغد، سيكتفي الليلة بالنوم. 

ـ أجلس يا بوشكين، أجلس.
ـ العفو يا مولاي.
ـ تحب نتاليا جونتشاروفا وتريد أن تتزوجها؟
ـ فعلا يا مولاي وانتظر الوقت المناسب الذي أستطيع فيه أن أبني بيتا و.....
وقاطعه القيصر:

ـ كل نفقات الزواج سأدفعها لك.
ثم نادى رئيس حرسه بنكندروف الذي جاء بقامته المديدة وجسده الممتلئ ووجهه المائل للإحمرار ونظر إلى بوشكين في ضيق عندما رآه في حضرة القيصر.

ـ اصرف لبوشكين كل نفقات زواجه من نتاليا.
صاح بنكندروف بلا حماس وهو مازال يتابع بوشكين في ضيق:

أمرك يا مولاي.

وقال القيصر بعد أن وقف لينهي مقابلته لبوشكين:

ـ اذهب لتزف الخبر السعيد لنتاليا.
نظر بوشكين إليهما غير مصدق، أنه قد آن له الخروج من ذلك القيد، إنه يريد، بل يتمني أن يتزوج نتاليا، لكن ليس عن طريق القيصر أو بنكندروف.

سار كالمنوم حتى خرج من باب القصر. 

مازال بنكندروف يقف أمام القيصر واضعا يديه فوق كرشه الممتد، ضحك القيصر من رؤيته هكذا وصاح فيه:

ـ أراك غير راض عما فعلته مع بوشكين.
ـ إنه مجرد شاعر.
ـ بوشكين سيطر على أحاسيس الناس في روسيا، خاصة المثقفين، فإذا كان من الممكن توجيه قلمه وفنه ناحية الحكومة؛ فستكون الفائدة كبيرة وهامة.
ـ إنني يا مولاي قائد حرسك والمسئول عن أمنك، وأعرف كيف أتعامل مع أمثال بوشكين، القوة يا مولاي، القوة هي الحل.
ـ القوة تكون مع الرعاع، لكن المثقفين تزيدهم القوة عنادا وصلابة، وتجعلهم أبطالا في نظر الشعب.
نسى بوشكين القيصر في أيامه الأولى مع نتاليا الجميلة، أنصرف تماما حتى عن كتبه، لا شيء سواها.
ـ نتاليا، إنني سعيد في حياتي معك سعادة لا توصف وكل أملي أن تظلي معي.
ـ وأنا سعيدة لأنني تزوجت الشاعر الذي ملأ الدنيا غناءً وموسيقى، لكنك كسول هذه الأيام، لم تخرج من البيت منذ أن تزوجنا.

قبل أن يجيبها سمع صوت دقات على الباب فأسرع إليه، ظنها الخادمة العجوز التي تأتي كل صباح لخدمتهما، وتعود إلى بيتها بعد أن تقدم العشاء لهما، فوجئ برسول القيصر أمامه يدعوه لحفل في القصر يوم الأحد القادم.
صاحت نتاليا عندما رأته حزينا مهموما:

ـ لا أرى أن الأمر يستحق كل هذا القلق والأسى.
ـ لا أحب نيقولا هذا، لدي إحساس بأنه ـ أيضا ـ لا يحبني.
ـ لقد كان سبب زواجنا بالنقود التي خصصها لنا.
ـ إنني لم أخلق لهذه الحفلات، راحتي في بيتي حيث كتبي.
ـ كل شعراء روسيا يحسدونك لاهتمام القيصر بك، فلا تضيّع هذه الفرصة من أيدينا.

*  *  *

أضيئت أنوار القصر، ووقف القيصر يتابع الموجودين بشموخ، لم يأت بوشكين للآن، لا يستطيع القيصر أن ينكر أنه يهتم به اهتماما خاصا، إنه يتابع الباب الكبير بقلق كأنه ينتظر قدوم حبيبته، ما سر اهتمامه هذا؟ هل هي  "نتاليا" الجميلة؟ لا، بوشكين لوحده يشغله، ولو كانت زوجته دميمة، لقد كان القيصر يهتم به من قبل أن يعرف "نتاليا".

اقترب بنكندروف بملابسه الداكنة المميزة وحزامه العريض الذي يخنق كرشه، والسيف الذي يتحرك مع تحركات الكرش كأنه يفسح له الطريق وهو سائر، ضحك القيصر وأشار له بأصبعه:

ـ لماذا تكره بوشكين؟
باغته السؤال، إنه يكرهه حقا؛ وكان سببا في نفيه أيام القيصر السابق، وحاول مع نيقولا هذا كثيرا لكنه لم يستجب له:

ـ تكرهه لأنك تعلم أنني بداخلي أكرهه وأتمنى القضاء عليه.
ارتاح بنكندروف لهذا التفسير، وإن كان بداخله أسباب أخرى لا يعرفها القيصر.
اقترب شاب وسيم، أنحنى أمامهما في أدب وصاح:

ـ أسعدتم مساءً يا مولاي القيصر.
نظر القيصر إلى بنكندروف متساءلا، فصاح:

ـ إنه "دانتس"، نبيل فرنسي من مناصري الملكية هناك.
قال القيصر في لا مبالاة:

ـ أهلا بك.
ـ إنني فخور لأنني قابلت مولانا نيقولا الثالث.
وصاح بنكندروف:

ـ هاهو بوشكين قد جاء مع نتاليا زوجته.
قال "دانتس" دون أن يحس:

ـ إنها ذات جمال أخاذ.
أنتبه القيصر لملاحظته، فصاح:

ـ أعجبتك، ألا يوجد في فرنسا من تفوقها في جمالها؟!
ـ الجميلات كثيرات هناك، لكن لهذه جمال خاص ليس له شبيه في العالم.

ربت القيصر على ظهره وتركه وسار ناحية بوشكين ونتاليا.

أمسك القيصر ذراعي "نتاليا" ودار بها وسط البهو الكبير، وتبعه العديد من الراقصين:

ـ لم أر امرأة روسية ترقص في خفتك.
ـ إنني مسرورة لرأيك هذا يا مولاي.
ـ أين ذهب زوجك الشاعر؟
ـ يتحدث مع مجموعة من المثقفين أصحابه، إنهم يطاردونه حتى في الحفلات الراقصة.
ـ ظلمك "بوشكين" عندما تزوجك، أنت في حاجة لزوج متفرغ لجمالك وحسنك.
ـ "بوشكين" يحبني.
ـ ماذا فعل من أجل هذا الحب، إنه عاجز عن أن يصنع لك حياة مناسبة.

تركها القيصر بعد أن أتعبه الرقص، كانت  تطير كالفراشة بقامتها المديدة وقدها الممشوق، ثم أسرعت بعيدا عنه كأنها فكت من أسره، دارت وسط المدعوين، وهي شاردة فيما قاله القيصر عن بوشكين. اقترب "دانتس" منها، حدثته وابتسمت له، ثم أسرعت بعيدا عنه، وقفت تتحدث مع مجموعة من السيدات واقترب "دانتس" من القيصر وهو مازال يتابعها بإعجاب شديد. أمسك القيصر ذراعه:

ـ أراك متعلقا بهذه الحسناء،"نتاليا".
خاف "دانتس" من أن يصرح له بإعجابه بها، فأصدقاؤه في "بطرسبرج" يتحدثون عن تعلق القيصر بزوجها "بوشكين":

ـ هي جميلة حقا، لكنها زوجة بوشكين المقرب من مولانا القيصر.
ـ أسعد عندما أرى حبيبين يتناجيان أمامي.
ـ لكن يا مولاي؟
ـ أسرع إليها وراقصها، لا تضيّع وقتك.

*  *  *

ضاق بوشكين بهذه الحياة التي يفرضها القيصر عليه، مقابلات لا تنتهي، يحدثه فيها عن أشعاره التي كتبها في شبابه، وعن أفكار يقدمها إليه ويلح عليه بأن يكتبها، ويؤكد له بأنها ستعجب الناس، والحفلات التي يدعوه إليها هو وزوجته، الغريب أن "نتاليا" سعيدة بهذه الحياة، لو تطيعه لارتاح:

ـ نترك "بطرسبرج" نهائيا ونعيش في موسكو بعيدا عنهم.
ـ ذلك تصرف مجنون، لو ذهبنا إلى هناك سينقطع عنك الراتب الذي يدفعه لك
ـ لا تخافي، سأكتب وسأعيش من إيراد كتبي وأشعاري.
صاحت بضيق:

ـ أية كتب وأية أشعار، لو فعلت هذا لن تجد ثمن ما نرتديه.
ـ أرجوك يا "نتاليا"، إنهم يريدون القضاء عليّ بك.
ـ دعك منهم، فأنا أحبك ولن يستطيع أحد أن يأخذني منك.

*  *  *

عندما ينفرد "بنكندروف" بنفسه يتذكر "بوشكين"، يراه بوجهه المبتسم دائما وعينيه البنيتين، إنه لم يرتح له منذ أول لقاء بينهما، لقد تحدث بوشكين معه دون اهتمام، والتف الناس حوله وسألوه عن أشعاره وكتبه. ماذا يضر الناس لو كفوا عن قراءة الكتب، إنهم بلهاء هل ستشبعهم هذه الكلمات أو تغنيهم؟! إنه يكره بوشكين وكلما ازداد تعلق الناس بأشعاره وكتبه يكرهه أكثر، لذا؛ همس في أذن القيصر بأشياء لم تحدث:

ـ إنه يعلن في كل مكان إنه مثلك، فلو كنت تمتلك القوة والسلطة والمال، فهو يمتلك الموهبة العظيمة وحب الناس وتعلقهم بشعره وكتبه.

بوشكين لم يقل هذا، لكن "بنكندروف" أحسه من قوله وأفعاله ومعاملاته، خيلائه وثقته بنفسه. لقد أرسل "بنكندروف" الولد الفرنسي دانتس إلى بيت "نتاليا" ليؤثر عليها لكي تترك بوشكين وتلجأ إليه هو. لكنها صاحت فيه غاضبة:

ـ أرجو لا تأتي إلى هذا البيت ما دام "بوشكين" غير موجود.
وأشاع " بنكندروف " في كل مكان يذهب بوشكين إليه:

إن "نتاليا" زوجته عشيقة للقيصر ولدانتس الفرنسي.
فيصيح "بوشكين" في زوجته صارخا:

ـ يقولون إن ذلك الولد الفرنسي قد جاء إليك في غيابي؟
ـ جاء، لكن.
ـ ولماذا لم تخبريني؟!
ـ أنا أعرف كيف أدافع عن نفسي، جاء يغازلني فطردته.
ـ هيا نذهب بعيدا، فالقيصر يريد أن يخنقني بك.
ـ أفعالك هذه ستجعلهم يحسون بأنهم انتصروا عليك.

*  *  *

تأتي أخبار "بوشكين" إلى القيصر، يتلقاها مبتسما، لقد اقتربت نهايته، كل الأمور تسير كما يريد، يضحك ثلاثتهم بصوت مرتفع (القيصر وبنكندروف ودانتس).

ـ وأنت يا "دانتس"، أريد أن يصل الأمر إلى المبارزة، فأنت خير من يستخدم المسدس، وهو شاعر لا يمتلك سوى الكلمات.
ـ لكن يا مولاي المبارزة منعت بأمر القانون.
ينظر القيصر إلى "بنكندروف" ويضحكان للنكتة التي أطلقها "دانتس":

ـ أي قانون أيها الفرنسي؟! أنا القانون.
لم تتوقع "نتاليا" أن يصل الأمر سريعا إلى هذه النهاية:

ـ مالك أنت والمبارزة يا "بوشكين"؟
ـ لن أتراجع، لقد أهنته أمام الجميع، فطلب المبارزة وأنا وافقت.
ـ أرجوك، إنها مصيدة أعدوها لك منذ زمن بعيد.
ـ لن أتراجع.

وانطلقت الرصاصة لتصيب قلب "بوشكين" فيجلس القيصر على مقعده الوثير مرتاحا ومتنهدا. وبنكندروف يضحك حتى يهتز كرشه، لكن القيصر لم يضحك أو يبتسم، يقولون إنه حزن كثيرا على"بوشكين" وإنه ردد:

ـ لو أطاعني لظل حيا ينشد أشعاره.
وردد في صوت هامس لم يسمعه "بنكندروف":

ـ لولا اضطراري للمحافظة على العرش لما قتلته ولظل شاعري المفضل.

الإسكندرية