تشكف هذه القراءة الحساسة لديوان الشاعر المصري الجديد عن تجاوب الرؤى والإبداعات بين كتاب الجيل الجديد من الكتاب في مصر شعراء وروائيين، وعن مدى ثراء تجربة الشاعر وتعدد دلالاتها.

نمر يبتسم

مي التلمساني

للشاعر خالد السنديوني منزلة خاصة في قلبي هي مزيج من الصداقة والتفاهم والقناعة بأن الحياة حلم وكتابة. تعود صداقتنا إلى بداية التسعينيات وترتبط في ذهني بدهشة اكتشاف صوت خاص قادم من الجيولوجيا وعلم تاريخ الأرض وكيف تحول هذا الصوت بفعل الشعر إلى مصدر خصب من مصادر الأسطورة بالمعنى الحديث، تتشابك فيه طمأنينة الحكاية القديمة بقلق الحاضر، وفانتازيا العالم الشعري بواقعية الوصف والسرد.

في مجموعتي القصصية (نحت متكرر)، نسجت نصاً قصيراً على مقطع من قصيدة لخالد يقول فيها: «الزمن/ خنجر الأبنوس المصقول/ الذي تذهبه النوافذ/ ينقلب عائداً في أفقه/ ليوقظ دونما صوت/ وردة الصباحات». مازلت أتذكر تلك الأبيات بحنين خاص، حنين لتلك اللحظة الثابتة في الزمن التي كنا ننصت فيها لقصيدة بصوت خالد العميق في بيت تهدم الآن وحلت محله عمارة شاهقة في الدقي.

بعد ذلك بسنوات، في سنة 1999، نشر خالد ديوانه الأول (ميجابوليس) عن دار شرقيات، لكنه للأسف لم يحظ بالاهتمام النقدي الذي يستحقه، حيث قيل في ذلك الوقت إنه جاء متأخراً بعد أن استقرت موجة التسعينيات وأصبح لها نجوم ومقلدون. وقيل أيضاً إن خالد لم يكن متواجداً على الساحة بما يكفي لخلق علاقات دائمة برفاق المهنة. واليوم يصدر الديوان الثاني لخالد بعنوان (نمر يبتسم) عن نفس الدار، ويجتذب بعنوانه المرح ونبرته الحنون قراء الشعر الجديد في مصر.

من عالم المدينة الصاخب كما صوره خالد في ديوانه الأول ينتقل بنا الديوان الحالي إلى عالم الغابة الذي لا يقل صخباً، وتتراوح القصائد بين السرد المبني على لقطات من عالم الحيوان وبين التعليق على أوهام الوجود وجو الخرافة وطموحات التغيير التي يرجعها الشاعر دائماً إلى جدلية الزمن وثباته الأزلي وإلى فشل أصيل في تعلم الرضا.

يبدأ الديوان بوصف ساحر للنمر:

«لو تحدث ضحاياه لقالوا
صعقتنا جوهرتان من العالم السفلي
وأخذنا جماله
قبل أن تغمرنا وحشيته
وما من فريسة وهو يفتك بها
إلا تمنت فقط
لو يبتسم».

ربط الجمال بالتوحش والشعر بالقسوة، من أهم علامات الديوان وأكثرها نضجاً. فمن موقعه المتميز بين الوحوش، من فوق ربوة التأمل، يسيطر النمر على الغابة العذراء التي تقول:

«أسمع خطوات لم أسمعها من قبل
خطوة تعبر الحياة
وخطوة تعبر الموت
وخطوة تجمد الطيور فوق بحر الفناء».

القسوة هنا ليست شراً فليس أروع من نداء الذئب المتوحش في البرية. والشر ليس حكراً على الأقوياء فالشاعر يقتل عصفوراً استقر في قبضته ظناً منه أنه شجرة تمشي. والأقوياء يعانون هم أيضاً من أزمة الوجود مثل صقر جسور أعطي القوة لينقض على فأر حقير، أو فهد يقف حائراً عند حافة مستنقع تسبقه إليه ضفدعة.

ليست المرة الأولى في تاريخ الأدب التي تتحدث فيها الحيوانات بلسان الإنسان وتتحرك الكائنات الحية والجامدة لتقلد حركة البشر. لكن خيال الشاعر يعود بنا إلى خرافات بدايات التكوين، وافتتانه بقانون الغابة العمياء لا يخلو من الأسى والسخرية الذين يميزان القصائد في مجملها. من عالم الأسطورة إذن ينسج الديوان فضاءً مبهجاً رحباً حيث ترتبط الشخصيات بمكان يميزها وبزمن تقيم فيه لا تبرحه. فالبومة ترتبط بالليل والقمر، والغراب يرتبط بالأرض فهو أول من علم الإنسان تقاليد الدفن، والتمساح مكانه النهر وحديث الناس عن دموعه يجعله يمعن في التوحش، أما النورس فيقف عند حدود المحيط، والبلبل يغرد فوق كتف ملكة تستحم... في كافة الأحوال ثمة حكاية تنشر ظلها على الحيوان وتربطه بأسطورة قديمة مثل أسطورة الغراب الذي نراه:

«قادماً وحيداً
من زمن انقطاع الأخبار
أو ماراً عبر العصور
ببطء آخر الآلام وأطولها».

في «مقاطع من كتاب تعاليم الغابة» يرتدي الشاعر ثوب المتصوف ويخاطب الإنسان قائلاً:

«خرائط الجنون الحية لا تنشغل بها
لا تتأمل فيها كثيراً
ولا تطلق لشهواتك العنان
وتقول أنا "حيوان"
و إلا استقر بك المقام أنت وقطيعك المرح
كسالى سعداء في كهوف العار
أو فرجة للأطفال في سيرك متجول».

بهذا الوعي الأخلاقي يختتم خالد السنديوني ديوانه بقصيدة «إنسان» وكأن القدر البيولوجي الذي يجمعنا والقطيع الأكبر لا مفر منه:

«لأول وهلة قال الجميع
يا له من حيوان غريب
لكن طيور الغابة كانت تعرفه
فهو أول من أصابها بالفزع
وتعرف أنه نافذ الصبر
عندما كانت قدمه في النهر
والقدم الأخرى على اليابس
صوب إلى شجرة الأشجار
بلطته الحادة كالموت
يثير عاصفة من الأفكار أينما حل
وفي موضع قدميه نبتت شجرة غريبة
لم تكن الغابة تعرفها
شجرة القلق التي تشرب الدماء
لم يكن هناك غيره
ذلك المخلوق الذي قفز بمهارة
إلى حيث يستطيع أن يحيط بكارثة الوجود المصورة».

في هذا الديوان الفارق، تبتسم وحوش الغابة، وتؤدي فصائل الحيوانات مهامها الطبيعية بلا حياء، فيما يزهو الإنسان بحكمته الخائبة في صلف يليق بسقوطه المروع، ويتسع البرزخ بين العالمين باتساع ابتسامة الشاعر المتهكمة وبيأس تغازله الأوهام. ولأن القصيدة ليست تمجيداً ساذجاً رومانسياً للحيوان بما في ذلك الفرائس والطرائد، فإن تلك الكائنات التي تراقبها القصيدة ترضى بقدرها باستسلام «فريسة محظوظة» مثل غزالة تنتظر أن ينقذها الشعراء، أو إوزة يحتضنها ثعبان ويقبلها قبلة لا تنساها، أما الإنسان فمثله مثل قنفذ يحلم أن تنبت زهرة من أشواكه. هكذا تقطر القصائد عذوبة وحزناً رقيقاً، وتبحث عن الخلاص في رفة جناح النورس، أو في الهوامش الأسطورية لكتب الأحلام.  

may.tel@sympatico.cam