يتوقف الناقد والقاص المغربي هناك عند سبعة عروض مغربية وعرض فرنسي من عروض الدورة الثالثة عشرة للمهرجان الدولي للمسرح الجامعي بأغادير، ويتأمل حصاد الدورة المسرحي.

مقاربات للعروض المسرحية

في الدورة الثالثة عشرة لمهرجان أكادير الدولي للمسرح الجامعي

محمد زهير

إشارة في البدء:
يصل مهرجان أادير الدولي للمسرح الجامعي هذه السنة إلى دورته الثالثة عشر (2 5 أبريل 2008). لقد أوجد له مكانته الملحوظة في خريطة انتظاراتنا المسرحية، باعتباره مجالا لإبداعات الجامعيين، ولحظة للتواصل معها، ومعاينة ما يمكن أن تحققه العلاقة مع المسرح من تحفيز لإمكانات الإبداع الجامعي لتعلن عن نفسها شاخصة في فضاء المسرح، الذي يتيح مساحة واسعة لمختلف التعبيرات الفنية للالتقاء والإنتاج في كتلة جمالية، تمتعنا وتستحث في ذواتنا دوافع الحياة، وتوقظ استبصارنا بما يجري فيها، وتمنحنا لحظة فنية حميمية راقية، نستخلصها لأنفسنا في غمرة متاعبنا الرتيبة، لحظة التقاء في ضيافة المسرح، حيث تنتفي الحواجز المصطنعة، وتمتد جسور التعرف والتعارف، والألفة والتآلف بين الذوات والثقافات والرؤى والاختيارات، تأكيدا لقيمة الإنسان دون تمييز، ولقيمة الحياة، ولقدرة الإبداع على النفاذ إلى جوهرها. 

1 سند وباد:
افتتحت عروض المهرجان بعرض "سند وباد" (لمحترف الكوميديا السوداء كلية الآداب أادير). وهو عرض تطابق طبيعته تسمية المحترف. فهو كوميديا سوداء بالفعل. مدارها المركزي ذالك الصراع الجائر من أجل الاستئثار بخيرات الأرض، والاستفراد بها للذات دون الغير. بهذا الدافع تتحرك شخصيتا المسرحية، وتحتال كل منهما بشتى الوسائل، المدمرة طبعا، من أجل التملك الأناني لمجال العيش وشجرة الحياة. أما مجال العيش فقوامه الماء: دم شجرة الحياة. الماء بكل معانيه ورمزياته. الماء هبة الطبيعة، يسرق منها ويعلب في قنينة رش ضيقة، إشارة إلى تضييق الفسيح بانتهابه الجشع، وحرمان الآخرين من حقهم فيما منحته الطبيعة للجميع، بل حرمان الطبيعة نفسها من عنصر الحياة فيها. ومن جراء ذلك، نرى المجال على الخشبة نفايات خشب يابس وأدوات صدئة صماء وأسلحة دمار، وعلاقات لا إنسانية تقوم على المداورة والتناحر والاغتصاب والفتك. ويستتبع ذلك اغتراب شجرة الحياة عن طبيعتها، فنراها جرداء من الخضرة، وعلى أعوادها تفاج وجزر، التفاح للمستقوي، والجزر لغيره إن أبقاه له، فثمارها ليست سوى حمل كاذب!.

إن عبارة "سند وباد" هي الفصم الثنائي للاسم الموحد "سندباد" فصما مؤشرا على انقسام الواحد.. وهكذا، فبدل رحيل السندباد بمحبة وسلام بحثا عن الجديد والمدهش والرائع في الحياة، ينفصم إلى اثنين أو أكثر متنافرين متحاربين يمتطيان نزعات الشر ويتنكبان مسالك الخير، بما يزرعان من ألغام التنازع والاحتراب، حتى تتفجر حربا حارقة للإنسان صانعها بألاعيبه الخطيرة.. ولذلك تبدو شخصيتا المسرحية في هيأة مهرجين سافرين دون قناع! يلعبان لعبة خطيرة، لا يزداد لاعبوها إلا إصرارا عليها مع الزمن، فيدفعون العالم إلى التقدم وجهة الرماد، لا وجهة ينابيع الحياة. 

2 فصيلة على طريق الموت:
وبرمزية أخرى، وأسلوب آخر، شخصت مسرحية "فصيلة على طريق الموت" (لمختبر أمل المسرح كلية الحقوق مراكش)، وجها آخر لتدمير الإنسان والحياة. تجري أحداث هذه المسرحية في غابة، ولهذا المكان في سياق العرض رمزية القوة والعنف والشراسة والوحشية. فشخصياتها جنود زج بهم في حرب يجهلون معناها، ولا يعرفون لماذا ألقي بهم في أتونها. خمسة جنود لكل منهم مأساته الذاتية الخاصة، يرأسهم قائد دموي متجبر ملوث بماضيه الأسود، يقسو على الجنود إشباعا لنزعته السادية، مما يؤدي بهم إلى قتله وضياعهم في مسالك الغابة.. فالمسرحية تقوم على المفارقة بين الأحوال اللاإنسانية للجنود، على مستوى أوضاعهم الذاتية الخاصة بكل واحد منهم، وبين إرغامهم على خوض حرب مبهمة الهوية، مبهمة الهدف. بين انكسارهم الذاتي، وبين الدفع بهم إلى آلة جهنمية تسحقهم دون اعتبار. لقد جُرّوا إلى مواجهة عدو مبهم في حين أن العدو يسكنهم داخليا، فهم محبطون بأوضاعهم الخاصة، وذلك عدوهم الشاخص. وهنا مكمن المفارقة، إذ كيف لذات هشة منهارة داخليا، بالمواجهة، فبالأحرى مواجهة ما لا تدرك له معنى، وفي شروط جائرة.. إن أفراد الفصيلة يجدون أنفسهم في اختناق مضاعف، اختناق ذاكرتهم المشحونة بانكسارات ماضيهم، واختناق الزج بهم في حرب عبثية هي قتل آخر لهم، فلا الماضي يسعفهم ولا الحاضر يمدهم بالأمان. لذلك يسرقون لحظة سكر واستيهام تدل بقوة على عمق عطشهم الفاجع.. ثم يواجهون عنف قائدهم بعنف مضاد، وبعدها يؤول أمرهم إلى الانتحار والشتات.. فلم يخوضوا حربا حقيقية، ولا أتيحت لهم فرصة الحياة..

شكلت الغابة فضاء رمزيا دالا، على امتداد مشاهد المسرحية، حيث الجنود كائنات تصارع مصيرها فيه، مشخصة حالاتها بالقول والفعل والإشارة.. وكان اللعب بإطارات عجلة السيارة، من أهم الأدوات التي اشتغل الإخراج بها اشتغالا مبدعا. فالإطارات المطاطية المستهلكة المفرغة، تشير في حد ذاتها إلى اللامعنى في حياة فصيلة محاصرة في غابة منقطعة عن أي تواصل.. وتتعدد إشاريات الإطارات بتعدد استعمالاتها عبر لحظات هذه المسرحية التي نستخلص منها أن الحياة الإنسانية لا تتأسس على قانون الغاب، بل على بناء الإنسان بما يجعله يبني الحياة لكي يحياها بصفته إنسانا، وليس بصفة أخرى تضاد قيمة الحياة وقيمة الإنسان. 

3 مشاجرة رباعية:
التعارض في المواقف الذاتية، والأنانية المفرطة، والانحياز إلى المصلحة الشخصية على حساب الغير.. هو أيضا مدار مسرحية "مشاجرة رباعية" (لمحترف شموع كلية الحقوق سلا). فهي تشخص التنابذ بين شخصيات منغلقة عن أي حوار يجعلها تتفاهم وتقبل بوجود غيرها، كما تقبل بوجودها. فبدل التواصل بينها يلتف كل منها على ذاته، رافضا الإصغاء إلى الآخر والتفاهم معه وإفساح المجال لرأيه. هكذا تستنزف الزمن في عراك عدواني يجهز على معنى التساكن، وفي شجار شرس يقتل روح الحياة. ويتفجر مكبوت الشخصيات وتحتد رغباتها الأنانية أكثر، بظهور المرأة، التي تمارس على الذكور لعبة الإغراء، فيحتد الصدام بينهم على جسدها. لكن لعبتها تنقلب عليها بالضياع، إذ تصير فريسة يتناهبها المفترسون، الذين لا يرغبون في وجودها لذاته، ولا في جمالها لذاته، ولا في ربط اتصال إنساني متوازن معها، بل يرغبون في استهلاكها بوحشية تحيل جمالها فبحا فظيعا، وتعصف بكيانها عصفا.

اعتمدت المسرحية الاقتصاد في تشكيل فضاء الخشبة. فالعنصر الرئيس في هذا الفضاء طاولة مغطاة بثوب أبيض، يصير أسفلها مخفى لافتراس المرأة افتراسا يبلغ حد تقطيع أطرافها. فنتخيل حينها بياض الغطاء ملطخا بدم المجزرة، ونتخيل مستطيل الطاولة قبرا لجسد كان متوثبا قبل حين، ونتخيل ثوب العرس الأبيض الذي كان على الجسد الحي، قد صار كفنا له لما انقلبت لعبة الإغراء عليه دمارا. تمتد حركة هذه المسرحية إلى القاعة، في إشارة إلى أن المشاهد معنى بأحداثها، وتشعرنا بأن شيئا جوهريا منكسر في حياتنا، ومن علاماته الصادمة غياب الحوار المتوازن والإصغاء إلى الرأي الآخر، وغياب التفاهم والسماح بالاختلاف بين الناس، مما يحول دون تدفق نهر الحياة في مجراه الطبيعي المنساب.. 

4 للا الغالية:
تستوحي مسرحية "للا الغالية" (لمحترف البساط كلية الآداب أادير) محكيات خرافية من الموروث الشعبي المغربي، ومن القصص الديني. وتوظفها مسرحيا للإحالة على ثنائية الخير والشر. وتموضع الأحداث في مجال قبلي متخيل، تؤشر عليه بقرائن المروي والمحكي المشخص مسرحيا، وببعض المرددات الغنائية الشعبية أيضا، لتنسج من كل ذلك عملا مسرحيا تحيل استعارته الكلية على اختلال في المعيش، مصدره التسلط والأثرة وركوب النزوة الذاتية.. والمستعار، على هذا الأساس، قناع لمقصد، ونوع من التحيين للذاكرة، للإحالة من خلال بعض مخزونها، على مشاغل راهنة. ونوع أيضا، من تحويل المحكي إلى المشخص مسرحيا، والمعتمد أساسا على أداء الممثل مشخِّصاً وراويَّةً ومدعوما ببعض المؤثرات الصوتية الموحية، وبلحظات موسيقى ورقص، وعلامات لونية أبرزها قطع ثوب أبيض تتشكل حسب مقامات المشاهد، لتساهم في تشخيص الدلالة الكبرى للمشهد المسرحي.

وقد تضمنت المسرحية بعض الحوارات والأغاني بالأمازيغية. أما أغلبها فصيغ بالعربي الدارج.. والمسرحية إذ تدين التسلط، فإنها تحتفي بقيمة الحب علاقة سامية ورمزا وريفا، وعبره تفضي ببعض البوح عن مشاعر الذات وتطلعات الجماعة إلى قيمة "غالية" مأمولة، رمزها المحوري "للا الغالية" القابل للتأويل على أكثر من وجه. لكن كل التأويلات لا يمكن أن تؤدي إلا إلى مطمح تنشدّ إليه النفوس، وترمز إليه "للا الغالية" التي تطل من الذاكرة على وجودها الحاضر. ومن وجودها الحاضر يستجيب لها الثاوي في النفوس، في صورة جرح وصورة حلم معا.. 

5 شذرات:
ومن كلية الآداب بأادير أيضا، قدم محترف (صلة وصل) مسرحية "شذرات"، وفيها اشتغال بارز على مكونات فضائية ذات دلالات محورية في بناء العرض. أعني تحديدا، المخادع المستطيلة المصفوفة في مساحة الخشبة على شكل غرف ضيقة، أقرب إلى الزنازن، لتدل بذاتها على معاناة المنضغطين داخلها أسرى جراحهم الاجتماعية الغائرة. إننا نراهم أولا، خيالات ظلال في حركات جسدية كنداءات انعتاق من أسر يخنقهم. فحركات خيالاتهم واشية بأحوالهم. وهم ثلاث نساء ورجل، يعبرن عن إحباطاتهم من جراء علاقتهم المختلة بالجنس الآخر.. لكن المسرحية تركز أساسا على معاناة المرأة، حتى لتكاد تكون إدانة للرجل أو محاكمة له، تنتهي بقتله في تطور يصير المشكل معه معقدا أكثر. فالمسرحية على هذا المستوى   ترسل أكثر من رسالة، على الرغم من أنها تنفي ذلك.. وهذه مساحة لنقاش ذي طبيعة معيارية، ربما كان الانشغال به حاجبا لما أراه أهم في العرض، وهو عناصر بلاغته الدرامية الشاخصة في إجراءاته التقنية، التي هي مقومات جماليته.. فبالإضافة إلى المخادع المُطْبِقَة على الشخصيات في جزء من المسرحية، وانعكاسات ظلال الممثلين على أستار نوافذ المخادع، استخدمت أيضا المرآة ملصقة على بعض مصارع النوافذ، لتضاعف صورة الممثلة لنفسها وللمشاهدين، وتحولت الأستار القماشية لنوافذ المخادع في استخدام دال إلى لفات تحيط بذوات الممثلين كأكفان أو مخانق تشير إلى ضغوط حادة.. وفي بداية العرض وآخره وظف المشهد السينمائي أولا لإحداث صدمة عن طريق عنف صورة الجثة المغطاة بإزار أحمر.. وأخيرا لتوظيف تقنية السينما في الإعلان نهاية العرض.

وفي حركة دائرية كرد العجز على الصدر، تعالق المسرحية بين المشهد السينمائي في بداية العرض، وبين مناظره المسرحي في آخره، لتنتهي بمشهد عنيف جدا كما بدأت بمشهد عنيف. وكأن ماجريات المسرحية هي "التبرير" لنتيجتها الشاخصة في صورة فعل أعنف. لقد كانت الإجراءات التقنية دالة بذاتها على الشخصيات الحالات، التي استطرد الكلام فيها بتقاطعات لغوية (عربية دارجة، وأمازيغية، وفرنسية) جاوزت حدود الشذرات إلى تفاصيل تنوء بها بلاغة الشذرة، وهي ومضة لا تحتمل الاستطراد. إن عرض "شذرات" يتوفر على مساحات اشتغال أرحب، في عناصره الجمالية غير الملفوظة. وربما كان البحث في هذه المساحات الضمنية، والتركيز على بلاغة أجساد الممثلين، رافدين حيويين لتميز هذا العرض الدال منجزه بكل تأكيد على حساسية جمالية مرهفة، وعلى إمكانات بناء درامي بكفاياته الإبداعية النوعية، هي أساس تميزه.  

6 الدراجة:
ومن العروض اللافتة في هذا المهرجان، مسرحية "الدراجة" (لنادي الإبداع المسرحي الكلية متعددة التخصصات تطوان). انعطفت هذه المسرحية عن طريق الموضوع الجاهز، لتخوض مغامرة جميلة في مساحة اللامعنى (النص مقتبس من أربال) وذلك بانتهاك جاهزية المعنى وضيقه عما لا يقبل التأطير والتحديد. فالشخصيات، كما في مسرح "أربال" تتحدث لغة نافرة بدائية صادمة، معادية للتقنين والتدجين. وتسلك سلوكات عبثية لا مبالية، في عالم سوريالي مليء بالمفارقات والانتهاكات.. ومدار حديثها اللامنطقي المتقطع، عن دراجة هوائية تجريدية، غائبة عن فضاء الخشبة، حاضرة في تقطعات الكلام عنها. دراجة مكتراة ويحتاج مكتريها إلى ثمن الكراء.. فهي كرمز ممكن للانطلاق، مقيدة بمقابل مفقود، يوجد عن طريق جريمة قتل مفتوحة على أكثر من احتمال.. وهذا خط ملتبس المعالم في خريطة درامية تشبه المتاه، لا يمكن أن تقبض فيها على معنى محدد، تجافيه طبيعة المسرحية، وهي تغامر في متواريات اللامعنى، لتكشف عن وجهة أخرى في النظر إلى الحياة، وتجعلنا في مواجهة العبثي فيها، في صور أشخاص هامشيين، كل شيء في حياتهم يكتسي طابع العنف، حتى الحب.. أشخاص يحلمون ببسائط في الحياة، لكنهم محاصرون بإرغاماتها التي يقابلونها بعنف بارد مضاد.. فهم في حديقة يغتالها الخريف، ومعظم كراسيها معطوبة وسط فوضى من المنبوذات هم أطراف منها. فبدل أن تكون الحديقة فضاء حياة، نراها رديفا للمقبرة بموت عناصر الحياة وشخوص أدوات العنف فيها. ومن أبرز رموزه رجلا السلطة الملازمان لمشاهد المسرحية، لكن في وضعين كاريكاتوريين يجعلهما مثار سخرية، وجزءا من الفوضى واللامعنى لا العكس.

تدل أفعال الشخصيات، كحواراتها المتقطعة العبثية المقتصدة، على نفسياتها المتأزمة، واختلال العلاقة بينها بين شرطها. وهي كالهارب من النفق إلى النفق تلجأ إلى المخدر أو النوم أو الانزواء. أما الفتاة فيتناثر الورد من باقة تحملها أو تقطع تويجاته، كناية عن لا معناه في عالم عدواني صادم. بل إن من الشخصيات من يفكر في الانتحار، فيدور الحديث عنه كالحديث عن شيء عادي تافه.. فهي شخصيات معطوبة، تكشف عن لا معنى التظاهر بالمعنى، بإسقاط القناع عن لا معناه. فبلاغة عرض "الدراجة" قائمة على هذا الانتهاك بالذات.

وكان لإخراج هذه المسرحية أن يكون أكثر تعبيرية، بإضفاء مزيد من الحيوية على بعض المشاهد أو اللحظات التي نحس فيها بفتور أو بطء يتنافيان مع طبيعة الإرسال الخاطف في مسرح "أربال". بل يتنافيان مع الطبيعة الدرامية في قصدها إلى تحريك السواكن واستثارة ردود الأفعال.. 

7 فرجة المتفرجين:
"فرجة المتفرجين" (لجمعية CB3 جامعة بوردو فرنسا) صيغة من صيغ الفرجة المفتوحة، المتميزة بحيوية أداء الممثلين، وتوسيع مساحة التمثيل التشاركي، لتشمل فضاء الخشبة وفضاء الجمهور، دونما فاصل بينهما. فهي فرجة من بين أهم استراتيجياتها إشراك الجمهور في بناء العرض، سواء بواسطة زرع الممثلين بين صفوفه، أو بواسطة تحفيزه على المشاركة باستثارات موجهة. وقد استجاب فضاء المسرح المفتوح في الهواء الطلق لهذه الاستراتيجية، كما استجابت لها الشخصيات المختلفة المواقف، مما سمح بتعدد الآراء وتقاطعها.. خاصة وأن المسرحية تتناول موضوعين محوريين، هما المسرح ذاته، والهجرة وما يحيط بها من مشاكل في بلد كفرنسا. وهما موضوعان جداليان بامتياز، تتعدد الآراء فيهما وقد تتصادم. فالشخصيات تمثل أولا جمهورا جاء لمشاهدة عرض مسرحي عن معاناة مهاجر إلى فرنسا. لكن العرض تأخر فانخرطت الشخصيات في حواريات عن المسرح نفسه، قبل أن تنخرط في قضية الهجرة من خلال حالة مهاجر كردي عبر إلى فرنسا، متسللا ليواجه ثقافة تختلف عن ثقافته، وصعوبات في العيش والتلاؤم مع شروط الحياة.

وقد عولجت هذه القضية بأسلوب يميل إلى المرح، ووسائل تبعد العرض عن الرتابة، إذ تمده بإمكانات تنوع عناصر البناء والأداء، وذلك بتدخل المشهد السينمائي وتنويعات الموسيقى والرقص، والمحاورة المتفكهة.. لكن الإخراج على العموم اعتمد على ما قل ودل، متيحا للمثل مساحة واسعة للحوار والحركة والتعبير واجتذاب الجمهور للمشاركة في العرض، الذي يوحي عنوانه بهذا القصد، إذا ما قرأناه من أفق الإنتاج المشترك للعرض من الفرقة والجمهور، وعلى أساس أن المسرح لحظة تشارك، وأن قضية الهجرة هي قضية تعنينا جميعا، باعتبارها إحدى القضايا الكبرى التي ازدادت تعقيدا واستشكالا في عالمنا المعاصر.. وفضاء المسرح هو فضاء مطارحة وحوار جماليين في شؤون مختلف القضايا والمشاكل التي يعاني منها الإنسان أينما كان. 

8 شمس الليل:
واختتمت عروض المهرجان بعرض "شمس الليل" (لمحترف موليير كلية طب الأسنان الدار البيضاء). وهو عرض يتوفر على مقومات التكامل، وبه يؤكد محترف موليير إمكاناته المبدعة، بعد أن كشفت عنها بوضوح مسرحيته في السنة الماضية (6×6). تجري أحداث مسرحية "شمس الليل" في مأوى للمكفوفين، تسيره إدارة فاسدة، تسرق حقوق المكفوفين وتتحايل عليهم، وتركب نزواتها الذاتية دونما وازع من مسؤولية أو خلق.. لكن بعضهم لا تنطلي عليه اللعبة، خاصة شخصية "الطير" التي تمتلك استبصارا نافذا لما يجري حولها، هو الشمس المضيئة لليل البصر.

تنحو المسرحية، في الكثير من لحظاتها، إلى السخرية الحبلى بحدة المعاناة، وتفتح منافذ لبوح المكفوفين للتعبير عن جراحاتهم ومواجدهم وتطلعاتهم الإنسانية، ومشاكلهم التي لا يفهمها أو يتجاهلها غيرهم.. وكل شخصية تمثل تفرعا خاصا داخل البنية العامة للعرض، فهناك الشخصية المتزمتة المنغلقة، وهناك الشخصية المتفتحة المنبسطة، وهناك ما بينهما.. وكلها تتوفر على قدرات ملحوظة في التقمص والأداء المستثمر لإمكانات الجسد حركة وصوتا وإيحاء، واضطلاعا بتشخيص المفارقة وإبداع اللحظة المسرحية الجاذبة، في تظافر بطبيعة الحال مع مختلف المكونات الجمالية التعبيرية المصطنعة، المستلزمة لإنجازية عرض مسرحي متكامل العناصر. فقدرات الممثل مؤازرة بعلامات الإضاءة المشعرة بتغاير الأزمنة والمواقف، وبتنويعات الموسيقى والمؤثرات الصوتية حسب اللحظات والحالات، ومؤازرة كذلك بتشكيل فضاء الخشبة بما يؤشر على حيز الحدث وهو مأوى المكفوفين بمختلف مرافقه.. وهو الحيز الثابت على امتداد المسرحية، المعتمدة حركيتها أساسا، على سيولة الأحداث ومفارقاتها، وسخريتها المحببة ذات الدلالة العضوية في تطورات مسارها، المبني في لحظتين مفصليتين، لحظة لقاء المكفوفين في المأوى والتعرف على شخصية كل منهم ومشاكلها.. ولحظة وقوع ورقة متضمنة لحجم ومصادر تمويل المأوى في يد "الطير". وهو ما أدى إلى انفضاح حقيقة الاختلاس والنصب من إدارة المأوى، فكان أن هبت الرياح بعكس نزواتها.

وإذا كانت هذه المسرحية تخترق عالم الضرارة، فتوقفنا على بعض معاناته ومطامحه وملابساته، فإنها وعلى مستوى أوسع، يمكن النظر إليها كذلك، على أنها استعارة رمزية كبرى لما يجاوز عالم الضرارة، إلى واقع الكثير من المبصرين أنفسهم، حين لا يكون نصيبهم من الحياة غير الضنك وشرب الريح. وهذه أيضا من الميزات التي تحسب لشمس الليل، وهي تضيء العتمة ولا تكتفي بلعن الظلام. 

إشارة في الختام:
لقد مكننا المهرجان الثالث عشر للمسرح الجامعي بأادير، من التعرف على إبداعات جامعية أخرى، تدل على ما يتوفر عليه الطلبة من قدرات، وما يمكنهم أن يبدعوه، متى أتيحت لهم الفرصة لذلك. فما شاهدناه في هذا المهرجان أو في غيره من مهرجانات المسرح الجامعي، يؤكد أهمية المسرح في تكوين الطالب واكتشاف طاقاته المبدعة، وضرورة دعمها واستثمارها الإيجابي لئلا تضيع أو تنصرف في مسالك ملتوية.. كما يؤكد أن الإبداعات الجامعية المسرحية أو غيرها، مكسب يستوجب الانتباه إليه جيدا، وتوفير شروط رعايته، بما يجعل الجامعة محضنا له، ويجعلها فضاء حقيقيا لبناء الشخصية وتوسيع آفاقها بما يتيح لها إمكانات التواصل مع مختلف الثقافات، والانفتاح على تجاربها الحية، ويمكنها من فرص الإبداع وإثبات الذات وتوطيد العلاقة بالحياة.

لقد كان المهرجان دعوة لالتقاء الطلبة والمسرحيين وعموم الجمهور في مجال المسرح. دعوة مفعمة بنداء الحياة من أجل الحياة.. 


قاص وناقد من المغرب