بهذه الدراسة يكتمل المحور الذي خصصناه لرحيل هذا الكاتب الكبير الذي حرص على أن يواجه السلطة دوما بخطاب الحقيقة، وألا تعميه اختلافاتها السطحية عن حقيقتها المزرية، فانشق على السوفييات وخيب آمال الأمريكيين واستهجن النظام الروسي الجديد.

الكسندر سولجنتسين.. ربيب الأقدار الصعبة

المنشق المرتحل في جغرافيا الذاكرة

جهاد الترك

هل تصنع الأقدار القاسية، وحدها، كتّاباً كباراً على غرار الراحل الكبير الكسندر سولجينتسين؟ الأرجح لا. ثمة في هذه المعادلة بين الفرد وظروفه الاجتماعية السياسية، حلقة غامضة قد لا نعثر عليها إلا في تلك القراءة الاستثنائية التي توفرها لنا التراجيديا الإغريقية وهي تلقي بأبطالها مباشرة في معترك المواجهة مع الآلهة. أو أنها، من ناحية أخرى، تستدرج الآلهة إلى حيث يتعذر عليها الاستهانة بالبشر وهم يواجهون حياتهم وموتهم بإرادة نادرة تصنع التاريخ. اللافت في هذا التصور الاسطوري الذي يضفي على الإنسان بعده الكوني الأهم، أن القدر، وفقاً لهذه المعادلة المعقدة، لا يعود أحدي السقوط من فوق إلى أسفل، من حيث بمقدور الآلهة الإغريقية أن تمارس انشغالاً بقضايا البشر هو أشبه بترف لا لزوم له في الوقت الضائع. الأغلب، وفقاً لهذه الصيغة العجيبة أيضاً، أن القدر عينه بمقدوره كذلك أن يصعد من أسفل إلى أعلى؛ من الإنسان المتدثر بالهلاك، الملتحف بالحياة الزائلة والموت الدائم، إلى الآلهة المغرقة في دوامة الضجر خارج الزمان والمكان. لا يلبث الإنسان، على إيقاع هذه الجدلية المتجددة بين الأعلى والأدنى، أن يصنع قدراً جديداً للآلهة لم يكن، على الأرجح، مدرجاً في قائمة اهتماماتها. مردّه إلى قبولها التورط في ما يتجاوز مشيئتها العمياء، إلى انهماك حقيقي بصخب بشري ينقذها من لعنة الرتابة. 

من الهاوية إلى الهاوية
الآلهة في سياق التراجيديا الإغريقية تصنع القدر الإنساني. غير أنها سرعان ما تكتشف أن الإنسان نفسه يصنع قدرها على نحو مماثل. يحتاج أحدهما إلى الآخر في تسوية صامتة ولكن مجحفة، أحياناً كثيرة بحق الإنسان الذي يشهر هزيمته مرغماً أمام الموت. يبدو أن سولجينتسين من هذه الفئة القليلة وربما النادرة، الذي أدرك طبيعة هذه المعادلة وصعوبة الانسحاب من جبريتها المرهقة في ما لو أراد أن يستولد أدباً ينسجم، في حركته الداخلية، مع الفضاءات الإنسانية الكونية البعيدة للتجاذب الحاد بين قدر الآلهة في مضمونها الغيبي والقدر البشري بمضمونه المتكون على وقع الحياة والزوال. من أستاذ لمادتي الفيزياء والرياضيات بدءاً من نعومة أظفاره ومستقبل واعد من وراء الأسوار العالية للنظام الستاليني للاتحاد السوفياتي سابقاً، إلى متشرد تقوده خطواته من سجن إلى آخر مخلفاً ظلاله في الزنازين التي راح يجوبها منذ العام 1945 الذي شهد استئثاراً قبيحاً بالعالم بين المعسكرين الشيوعي والرأسمالي. بدت أقداره في تلك الأثناء الغامضة تمهّد له السبيل للانتقال من شفير الهاوية إلى هاوية أخرى. من التعامل الجاف مع الأرقام والنظريات الفيزيائية إلى الارتماء طواعية، على الأغلب، في مهب الريح الجارفة التي بدت صحراوية قاتلة بصقيعها الروسي حيث كانت المقابر توشك أن تقفل على قرابة العشرين مليون قتيل ذهبوا ضحية لعقد الاضطهاد الستالينية. لم يكن ثمة ما يشير في تلك الأثناء إلى ما كان يتربص ب سولجينتسين من مفاجآت كانت تتأهب لتقذف به من ضفة قريبة الى أخرى نائية. بدليل أنه فور تخرجه من الجامعة بإجازة في الفيزياء والرياضيات، التحق بالجيش السوفياتي إبان القتال الضاري ضد جحافل ألمانيا النازية وعيّن مسؤولاً عن اسطبلات الخيل، ثم نقل إلى سلاح المدفعية حيث أمضى أعواماً ثلاثة قائداً لوحدة استطلاعية.

لم يظهر عليه في تلك السنوات الملتهبة بحروب الإبادة الجماعية بين الألمان والروس ما يوحي بتمرد عنيف على النظام الستاليني، كان مسلكه العسكري انضباطياً نظيفاً على الأغلب. كان الذود عن الاتحاد السوفياتي، بمرتكزاته الستالينية، والأمة الروسية، بأبعادها التاريخية العريقة، شغله الشاغل. لم تكن ملاعبة الأقدار لحملها على الكشف عن مكنوناتها، أمراً مناسباً في ذلك الجحيم المجنون بالخوف على المصير. قد يعزى هذا الموقف، كما يتراءى لنا بعد ذلك بعقود طويلة وتحديداً أثناء إقامته في الولايات المتحدة بعدما أجبر على مغادرة روسيا مطلع السبعينات الماضية، أنه أكثر ميلاً إلى استعادة بلاده إلى كنف الروح الروسية العريقة المتمثلة بالتقاليد الراسخة والديموقراطية المنضبطة على ايقاع السلطة المتماسكة. 

إحباط للسوفيات ـ والأميركيين
صحيح أن سولجينتسين وجد في أدبه الروائي الذريعة المثلى للتعبير عن تشبثه بقيم الحريات الديموقراطية ورفض الظلم بأشكاله السياسية والاجتماعية كافة. غير أنه، في الوقت عينه، لم يكن تمرده على النظام الستاليني ومن بعد استياؤه البالغ من تداعيات الستالينية أثناء ولاية الزعيم المثير للجدل خروتشوف ومن تعاقب بعده على حكم "بلاد القياصرة"، رغبة اعتباطية في استبدال نظام بآخر أو زعيم بآخر. لم يكن هذا الحائز بجدارة على جائزة نوبل في العام1970، ممّن يسترسلون في الاستمتاع بالمغامرات السياسية التي قد تفضي إلى الكارثة. وبالمثل، لم تجعل منه سنوات سجنه الطويلة، وهو يحمل في احشائه ورماً خبيثاً قاتلاً، مفكراً ديماغوجياً يتلذذ بمتعة الاحساس بالانتقام المجاني من نظام ديكتاتوري كاد أن يطلق رصاصة الرحمة على الشخصية التاريخية للشعب الروسي، إن لم يكن قد تمكن من ذلك بالفعل. نستدل على ذلك بالعزلة القاتمة التي حكم بها على نفسه أثناء إقامته في مدينة فيرمونت الأميركية التي طالت من العام 1972 إلى العام 1994. كان يمضي معظم وقته داخل جدران منزله، يعكف على صمته، يأنف من ملاقاة الناس والمعجبين وأجهزة الصحافة، ما خلا خروجاً محدوداً من هذه القوقعة لإلقاء محاضرة في عدد قليل من أبرز الجامعات في الولايات المتحدة. أو ليعقد مؤتمراً صحافياً حول الأوضاع في روسيا، قبل أن يسدل الستار على الاتحاد السوفياتي، وبعد أن تغيّر النظام السياسي، في الشكل على الأقل، وأبقى على كثير من المضامين السابقة التي جعلته متردداً في التفلت من قيود الاستفراد بالسلطة.

لدى ترحيله من الاتحاد السوفياتي، منتصف السبعينات الماضية، بدا أن النظام السياسي هناك كان عازماً على تصدير "بضاعة" إذا جاز التعبير، فقدت صلاحيتها التعبوية، على المستويين الثقافي والسياسي، خصوصاً في مرحلة حرجة جداً من تأجج الحرب الباردة بين القوتين العظميين. استوقفت هذه الخطوة المستغربة في تلك الأثناء، الدوائر السياسية والديبلوماسية والفكرية المعنية مباشرة بقراءة الاتحاد السوفياتي من الداخل. بعضها اعتبر أن سولجينتسين هزم، بعناده وشجاعته، جبروت الاتحاد السوفياتي. وبعضها الآخر أيقن أن في هذه القضية ضرباً من انتهازية مدروسة، كان من أسبابها أن النظام الشيوعي، وقتئذٍ، لم يكن يرغب في أن تنفتح عليه أبواب جهنم نتيجة لتحرك مبيت كانت تخطط له منظمات حقوق الإنسان في العالم. أقدمت السلطة السوفياتية على اتخاذ قرار الترحيل على مضض مشوب بالإحباط والمرارة. في المقابل، هللت الأوساط السياسية في الغرب بهذا التنازل المريع من قبل السلطة السوفياتية، معتبرة إياه بداية متواضعة على طريق الانهيار السوفياتي الشامل. كان في هذا التصور المتسرع شيء من الحقيقة التي أودت بحياة الاتحاد السوفياتي بعد أقل من عقدين.

استبشرت الولايات المتحدة خيراً عندما حطت طائرة سولجينتسين على أراضيها قادمة من أوروبا. اعتقدت الدوائر السياسية المغلقة مدعومة من أجهزة المخابرات الأميركية المتعددة، أنها باتت تستحوذ على "بوق" إعلامي سياسي يمكن استخدامه ساعة تشاء وكيفما أرادت لإلحاق المزيد من التشويه السياسي الثقافي بالجسد الايديولوجي السوفياتي الذي لم يكن بعد قد فقد صلابته. في المقابل، كانت الأنظار في الاتحاد السوفياتي معلقة على ما كان يزمع سولجينتسين القيام به انتقاماً، على الأرجح، مما حل به من بطش ستاليني واضطهاد مورس بحقه من قبل الطغمة المهيمنة على النظام والسلطة السياسية. في الواقع، وعلى نقيض ما كان متوقعاً، خيّب سولجينتسين آمال الأميركيين والسوفيات معاً. فاجأ الولايات المتحدة بسلسلة من المواقف والآراء والتصورات قيل وقتئذ إنها سقطت على رؤوس المسؤولين هناك كالصاعقة. وقيل أيضاً إنها أربكتهم الى الحد الذي جعلتهم ينأون بأنفسهم عن الاحتكاك المباشر بسولجينتسين، فازدادت عزلته عن الخارج إحكاماً على نحو لم يشهده، على الأغلب، حتى في الاتحاد السوفياتي. 

محاضرة هارفرد
مرد ذلك الى وصفه المجتمع الأميركي، في محاضرة هي الأشهر له ألقاها في جامعة هارفرد في العام 1978، بالتدهور الروحي المريع وإفراطه في التشبث بالنزعة المادية المبتذلة. أضاف في المناسبة عينها، أن الأميركيين يتميزون بالاحساس بالجبن، فقليل منهم مستعد للموت من أجل مبادئه. وصدم الحضور والشعب الأميركي بأكمله عندما اتهم الإدارة الأميركية بخضوعها للاستسلام المتسرع في فيتنام. وانتقد بعنف أيضاً الموسيقى الأميركية باعتبارها فناً ممجوجاً. ولم يستثن الصحافة من كلامه اللاذع لإقدامها على انتهاك الحريات الشخصية. حملت هذه الأفكار غير المتوقعة من قبل الأميركيين بعضاً من أهم السياسيين والشخصيات المؤثرة في عملية صنع القرار، على تعميم توصية تشدد على وجوب الابتعاد عن سولجينتسين قدر المستطاع حتى لا يمنح أبداً فرصة التهجم على قيم الثقافة الأميركية. ولكن بدا أن هؤلاء كانوا يستهدفون أمراً آخر أكثر خطورة على سمعة الولايات المتحدة، يتمثل في تجنب شماتة الاتحاد السوفياتي بمن استقبل سولجينتسين في أحضان الديموقراطية الأميركية.

بالفعل حصل ما لم يكن في الحسبان. كانت قهقهات الكرملين تصل البيت الأبيض من دون استئذان، ولكن على نحو لم يغفر لسولجينتسين تمرده على النظام الشيوعي وانشقاقه عنه. بدت مواقف هذا الرجل المكتئب في عزلته الأميركية مدوية بين الحين والآن، مزعجة دائماً، مخلة بانتظام الثقافة الأميركية في مواجهة الأيديولوجيا السوفياتية المغلقة. حيال هذا الانغلاق الذي خرج عن المألوف الأميركي بالغاً حد المهزلة، كان وزير الخارجية الأسبق، هنري كيسنجر، من أوائل الساسة البارزين الذين سعوا الى التصدي لجرأة سولجينتسين المخيبة للتوقفات، رفع توصيته الى الرئيس الأميركي، في تلك الأثناء، جيرالد فورد، يدعوه الى الامتناع الكلي عن مقابلة المنشق السوفياتي لسببين جوهريين: أولهما وأقلهما أهمية، زعمه أن الاجتماع الدائم بسولجينتسين من شأنه أن يسيء الى العلاقات التي كانت تشهد تحسناً ملحوظاً بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي. وثانيهما وأكثرها أهمية، الحؤول دون أن يتمكن هذا الرجل من أن يكون لنقده الراديكالي للتقاليد السياسية والاجتماعية الأميركية أصداء مزلزلة في الداخل والخارج. ومع ذلك، لم تكن مبادرة كيسنجر ذات مفعول قوي يرضي غرور الإدارة الأميركية. كان الثقل الفكري والأدبي والإنساني لسولجينتسين الذي اعتبر بحق أحد كبار الكتاب في القرن العشرين، أكثر سلطة من المحاولات الخجولة التي قام بها كيسنجر وغيره في الولايات المتحدة وخارجها.

وفي المجال السوفياتي، كان وقع المرارة التي سببها سولجينتسين أكثر إيلاماً لسببين رئيسيين اثنين على الأقل، أولهما: ان تناوله المجتمع الشيوعي الهش بالنقد لم يكن ينطوي على تجريح انتقامي أو مجاني أو مبتذل. لم يأخذ على عاتقه هذه المهمة الدعائية التي تمرس بها الإعلام الأميركي، ومثيله السوفياتي في المقابل. بدا في تصوراته الرافضة للهيمنة السوفياتية على مقدرات البلاد والناس، أقرب الى الرهان على القدرات الكامنة في لا وعي الشعب الروسي بالتحديد، بانتظار أن تنتفض من تحت الأنقاض على واقعها المزيف لتستعيد الأمة الروسية دورها المتقدم في الحضارة الإنسانية المعاصرة. السبب الثاني، إحجامه منذ اللحظة الأولى عن الانزلاق في الافتتان بالحريات الليبرالية والنظام الديموقراطي والأسواق الاقتصادية المفتوحة في الغرب عموماً والولايات المتحدة على وجه التحديد، لم يكن بوسع السلطة السوفياتية المحكومة بالتقاليد الستالينية الصارمة والممارسة الحزبية الضيقة، إلا أن تراهن على رد فعل كيدي غريزي يعبر عنه سولجينتسين تلقائياً فور بلوغه الأراضي الأميركية. هذا ما خيل إليها على الأقل وهي التي أمعنت بطشاً وإرهاباً به ومصادرة لمخطوطاته التي كانت تصل، في العادة، الى المطابع الأوروبية والأميركية قبل أن يضع الرقيب السوفياتي يده عليها.

خيب سولجينتسين التوقعات الانتهازية للاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة. غير أنه لم يخيب رجاءه بنفسه وثقته بما يكتب وتفاؤله بقيامة روسية مرتقبة لم تكن، على الأرجح مدعاة سرور له بعد زوال الاتحاد السوفياتي. لم يكن مطمئناً أبداً الى مآل الشعب الروسي بعد أن لفظ النظام الشيوعي أنفاسه الأخيرة واستبعد من دائرة الفعل التاريخي المعاصر. قيل عنه نتيجة لآرائه حول الواقع الروسي بعد تفتت الاتحاد السوفياتي، إنه مفكر رجعي، قومي متطرف، يشمئز من النظام الديموقراطي، ويحبذ القبضة الحديدية للسلطة. ومع ذلك، ليس في أي من هذه التصورات التي وصف بها سولجينتسين شيء من الحقيقة التي كان يمتلئ بها عقله وقلبه. جل ما في الأمر، أنه عايش الايديولوجيا الشيوعية وتحولها سلطة مستبدة تزعم أنها قادرة على إعادة انتاج التاريخ الإنساني بأشكال أرقى. فإذا بها، وفقاً لهذه الذريعة، تنقلب تلقائياً على شعاراتها البراقة لتصنع سلطتها الذاتية بدلاً من ابتكار معاني جديدة للتاريخ. وبالمثل، قيض ل سولجينتسين أن يشهد عن كثب المخاضات الرأسمالية المتوحشة التي تتحكم بمفاصل المجتمع الأميركي جاعلة منه فريسة سهلة للمصالح الاقتصادية الضخمة التي يديرها أفراد بشروط ذاتية ضيقة. والنتيجة أنه انكفأ عن الامبراطوريتين معاً، الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة، داخل منزله النائي في مدينة فيرمونت الأميركية. ينشد بذلك اعتكافاً عن رهانات لا تقوم خارج القدر الإنساني الأوسع الذي كان بدأ يلاعبه، والأغلب يصطدم به متعمداً منذ أن استدرجته ظروفه الى زنازين السجون بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. 

أولى تجاربه مع القدر
في العام 1945، عندما كان في السابعة والعشرين، أقدم سولجينتسين على خوض أولى تجاربه مع أقداره التي بدت، في تلك الأثناء، مشوشة الى حد كبير، محفوفة بالمطبات التي قد يسفر بعضها، من دون شك، عن استحضار الموت السريع. مكان مسرح زهق الأرواح، وقد أسدل الستار على مجازر الحرب العالمية الثانية التي ارتكبتها ألمانيا النازية على أراضي الاتحاد السوفياتي، معداً على نحو غير مسبوق. أظهر ستالين، وهو المنتصر في الحرب والمنتسب الجديد الى نادي الأقوياء على الساحة الدولية، نهماً متوحشاً لتصفية حساباته مع من كان يشك بولائهم للاتحاد السوفياتي. كان الفوز الساحق الذي حققه ستالين الفرد بالدم السوفياتي الوفير ايذاناً بمذابح أكثر دموية في الداخل. فهذا الرجل المتسلّل الى القرن العشرين من زمن الموت، بدا حازماً أمره بأن البدايات الكبرى للأمم القوية ينبغي أن تعمّد بالدم الغزير. فما أن انصرف عن القتال على الجبهة مع الألمان حتى انشغل بإقفال الاتحاد السوفياتي بجدران من حديد، ناشراً أشباحه في طول الاتحاد السوفياتي وعرضه بحثاً عن مئات آلاف الضحايا الذين قدموا قرابين بشرية رخيصة بذريعة إعادة بناء الدولة.

في هذه الفترة المفعمة برائحة الموت الجماعي داخل الاتحاد السوفياتي ونبش المقابر على مدار الساعة، وجد سولجينتسين فرصته التاريخية ليقرع باب أقداره بقوة العارف. أرسل من موقعه على الجبهة الشرقية، في العام 1945، رسالة الى أحد أصدقاء الدراسة القدامى يتهكم فيها على ستالين. وقعت الرسالة في يد أحد الجواسيس الذين سلطتهم أجهزة المخابرات على الناس. كانت النتيجة مطابقة، على الأرجح، مع تطلعات سولجينتسين الذي بدا مستاء، وقتئذٍ، من حالة الرتابة التي هيمنت على حياته كاملة. انقلب على مسيرته المتواضعة فقرّر أن يلقي حجراً ثقيلاً جداً في مياهه الراكدة. كان له ما أراد. فإذا بالمستنقع الآسن الذي يحيط به من كل الجهات يتحرك بعنف، يغسل نفسه بنفسه، مستقبلاً مياهاً عذبة بلسمت جراحاته الداخلية الصدئة. راح سولجينتسين، منذ تلك اللحظة الفاصلة، يحتكم الى قدره وحده من دون أن يستكين إليه ويطمئن الى خياراته.

من نزيل مهمل في سجنين في موسكو الى معسكر مرعب للاعتقال لا يبعد كثيراً عن العاصمة السوفياتية، الى سجن رابع يسمّى (الرقم 16) يقع على مقربة من إحدى ضواحي موسكو، كان مخصصاً لإقامة ذوي المواهب التي تستغلها الدولة لتعزيز مراكز الأبحاث العلمية. بدت أقدار سولجينتسين صعبة مخيفة خالية من الرحمة. غير أنها، في الوقت عينه، كانت أكثر رأفة به من سلطة الاستبداد السوفياتية. كانت تعدّه، على نحو تدريجي، للارتقاء الى منزلة من التبصر الإنساني الأعمق في شؤون الحياة والظلم والإرهاب والموت. في هذا المعتقل، بالتحديد، اقترف سولجينتسين خطأ مميتاً هو الثاني من نوعه بعد الرسالة المذكورة التي غيّرت مجرى حياته الى الأبد. وبخ الضابط المسؤول عن السجن لتساهله في الإشراف على مشروع علمي يقوم بالدرجة الأولى على معادلات رياضية معقدة. جن جنون الضابط، وهو برتبة عقيد، فرحله، على الفور، الى معتقل آخر أكثر جهنمية يقع في كازاخستان حيث وضع روايته الهامة "يوم واحد في حياة ايفان دانيسوفيتش". كان سبق هذا العمل رواية أولى هي "الدائرة الأولى". كتب مسودتها في السجن "الرقم 16". 

آخر المعتقلات
في العام 1953، كان القدر يعدّ سولجينتسين لارتياد سجن فيه من صنوف المعاناة والقهر ما لم يكن متوافراً في المعتقلات السابقة. كان يقع الى الشرق من سجن كازاخستان في صحراء قاحلة كانت أشبه بالتصحر الروحي والفكري الذي ساد الاتحاد السوفياتي في تلك الأثناء. شكل هذا العام المفارقة الأهم، على الأرجح، في السنوات التي سبقت حصوله على جائزة نوبل للآداب ومن ثم ترحيله الى خارج الاتحاد السوفياتي. إذ أعلنت رسمياً وفاة ستالين على نحو متزامن مع انعتاقه من أحكام الاعتقال الدائم. خيّل لكثيرين، في تلك السنة بالتحديد، أن سولجينتسين كان على وشك أن يستعيد حياته الهادئة التي سبقت انضمامه الى الجيش إبان اندلاع الحرب العالمية الثانية عندما كان أستاذاً لمادتي الفيزياء والرياضيات. بالفعل استرجع مهنته القديمه في مجال التعليم. غير أن الرياح كانت تجري بما لا تشتهي سفن النظام السوفياتي. لم يعد سولجينتسين هو إياه كما كان في الماضي البعيد. أصبح من طينة القدر نفسه، إن لم يكن ترك بصمات عميقة على هذا القدر الذي كان يلاعبه بعنف، تارة يفتك به، وطوراً يقذف به الى متاهات السجون، وأحياناً يجعله عرضة للانسحاق الرهيب.

في ما تبقى من عقد الخمسينات وأعوام الستينات من القرن المنصرم، لم يعد في ذاكرة سولجينتسين ما يبعث في نفسه الخوف على المصير والخشية من الاعتقال أو ترقب الأسوأ. أصبح صديقاً لأقداره، وأصبحت أقداره صديقة له من دون أن يتخلى أي من الطرفين عن فرادته وخصوصيته. بدا له أن آخر الاختبارات المضنية التي وضعها القدر في طريقه، الورم الخبيث القاتل الذي زرعه عميقاً في أحشائه. اجتاز سولجينتسين هذا الامتحان بجدارة فائقة، إذ تمكن من مقاومة المرض وهو في السجن، على نحو كان يقال إن المحيطين به بدوا على قناعة بأنه على وشك أن ينهار دفعة واحدة أمام استفحال الداء. خاب ظنهم. صدق ظن سولجينتسين. انهار المرض. بقي هو على قيد الحياة ليوقع بإمضائه فصولاً من حياته كانت تنتظره على مفارق متعددة داخل الاتحاد السوفياتي وخارجه وضع أثناء مكابدته مرضه إحدى أهم روائعه "جناح السرطان". لم تكن هذه الرواية، على الأرجح، تعبيراً عن يوميات المرض الذي يقضم الجسد بأعصاب باردة. الداء الرهيب في هذه الرواية هو القدر نفسه بعد أن حلّ في الجسم جحيماً لا براء منه. تعايش سولجينتسين هذه المرة مع قدره المتسلل الى عمق المسام. يستلقي معه ويتنفس ويأكل ويشرب مترقباً النهاية بين لحظة وأخرى. لم ينه القدر حياة سولجينتسين. أصبح الإثنان من نسيج واحد. يعيشان معاً ويزولان معاً.

ارتحل سولجينتسين من جديد الى روسيا هذه المرة، مخلفاً وراءه حلماً مجهضاً هو الولايات المتحدة. عاد غريباً الى بلاده. لم يعثر فيها على نفسه وشخصيته وتجاربه المؤلمة أثناء سنوات "النضال" والنفي الى المعتقلات. والأغلب أنه لم يلق روسيا التي صنعها في ذاكرته. وجد شيئاً أخر مختلفاً أكثر استهجاناً وإحباطاً مما رآه وشهده وعايشه في منفاه الأميركي، لم يفاجأ، على الأغلب. فقد سبقته الى أرض الوطن انتقاداته الساخرة للنظام السياسي المستجد. الغريب أنه أبدى تعاطفاً واضحاً مع الرئيس الروسي السابق، يلتسين، الذي يعزى إليه الخراب الكبير الذي حلّ بمؤسسات الدولة. ولم يكن بمقدوره أن يتقبل الرئيس بوتين الذي تعاقب على السلطة بعد ذلك إلا بعد جهد جهيد. كانت روسيا محطته الأخيرة في الارتحال الجغرافي، ولم تكن كذلك في ارتحاله الروحي. من يصبح من طينة القدر نفسه، قلما يحن الى المكان والزمان. في عزلته الروسية الأخيرة، كان سولجينتسين يفتقد صديقه الأكثر وفاء له: القدر المشاكس، القاسي، عديم الرحمة، ولكن العاشق الكبير.

اليوم، لا يرقد سولجينتسين في مثواه الأخير وحيداً، ثمة من يتكئ على قبره. يستذكران معاً أيامهما القديمة.