يكشف القاص المصري الكبير هنا عن شعرية العلاقات الشعبية وحراكها البالغ الخصوصية من خلال هذا القص الشفيف الذي يجسد حميمية علاقات الجيرة في الشرائح الفقيرة وأوجاعها.

جيران

محمد البساطي

الشقة في بيت قديم، من ثلاث حجرات. بكل حجرة عائلة. الباب الخارجي مفتوح ليل نهار، لايوجد في الصالة مايخشي عليه، وكل عائلة تغلق باب حجرتها علي نفسها واشيائها، الحجرة في الطرف الأيسر يشغلها فوال، عربته علي ناصية البيت، والحجرة في الطرف الايمن يشغلها خباز، والفرق غير بعيد، لحست النار وجهه من زمن ونالت من أذنه، خلفتها ثقبا معتما، يداري الجانب المسلوخ بالكوفية، الحجرة الوسطي تواجه باب الشقة، يسكنها عامل بالسكة الحديد، يصلح مايتهاوي من الفلنكات الخشبية تحت القضبان، ويشكو من رداءة مسامير القلاووظ الضخمة التي تنثني اوتقطم حين يضغط عليها بالمفتاح، ولايجد غيرها في المخزن:
ـ هي جت علي المسامير!
يقولها لنفسه وهو يجمع ماتلف منها ليعيدها للمخزن.
عودته للبيت غير منتظمة بسبب طواريء العمل، وكثيرا مايرجع مع بشاير الفجر.لباب حجرته ترباس من الداخل مكانه مرتفع بالنسبة لابنه، وكان في الخامسة من عمره، وينهض من فرشته في الليل مرتين أو ثلاث للذهاب الي الحمام، ربما بسبب البرد عندما ينحسر الغطاء عنه، ولايسعفه الوقت ليوقظ أمه وتفتح له فيبلل نفسه، وطلبت المرأة من زوجها أكثر من مرة¬ أن ينقل الترباس ليكون في متناول الولد، ويقول: حاضر. غير انه يعود دائما مهدودا من الشغل وينسي، وما ان يتناول لقمته حتي يغط في النوم، ولم تجد امرأته بدا من ان تترك باب الحجرة مواربا وتشعل السهاري.

* * *

العائلات الثلاث تعيش في وئام، لم يحدث ان ارتفع يوما صوت شجار بينها، وثمة اتفاق غير معلن بين النسوة الا يشغلن دورة المياه في فترة الصباح الباكر، فتخلو للرجال حتي لا يتأخرون عن أعمالهم، ولم تكن هناك مشكلة في استخدامهن المطبخ معا لإعداد الاكل.
أما الغسيل فكمل منهن تقعد الي طشتها في الصالة، وكن يفضلن القعاد معا.
جاءت المشكلة من حيث لايتوقع أحد. الفران كان ينهي عمله عند منتصف الليل، ويري الوقت مبكرا للعودة الي البيت، ودماغه مازالت صاحية، ولن يأتيه النعاس سهلا، وقد يجد نفسه يعافر امرأته التي ترفض عندما يوقظها من النوم، وهو يحس بضيق حين يلح عليها، ويود لو سعت إليه، ولم يحدث ذلك منذ زواجهما، يحاول معها، وحين يراها تنفخ في غضب ينطوي ويعطيها ظهره، لا دخل لوجهه في رفضها، وربما خطر له ذلك في لحظة ضيق، غير انه يقصيه بعيدا في ركن مظلم. كثير من النسوان مثلها كما سمع، لايرغبن وهن بين اليقظة والنوم، غير انها أحيانا تكون صاحية وتروح وتأتي بالحجرة، واردافها الثقيلة تترجرج في الجلباب الضيق، وما ان يحتويها بذراعيه من الخلف حتي تنفضه في شدة.
كان التفكير في هذه الامور يعكر دماغه ويبعده عن الحجرة قدر مايستطيع.
عرف الطريق الي المستودع، حجرة واسعة بالدور الارضي في زقاق، علي رأسه باعة الترمس والفول النابت والعصافير المقلية، الحجرة مختنقة بالانفاس ورائحة العرق الزنخة. يتربع علي دكة خشبية ومركوبه تحت فخذه بعد ان فقد مركوبين في نفس المكان. ما اسهل أن يدس احدهم قدميه فيه ويمضي. يشرب البوظة قصعه بعد الاخري، ويكون هناك دائما من يمد يده بسيجارة منتفخة متوهجة الطرف، يجذب نفسا أو نفسين ويري اليد تعود فيضع السيجارة بين اصبعيها المنفرجتين.
يخرج مترنحا مع اغلاق المستودع، لايميز شماله من يمينه، ومايشبه الشبورة تحجب الرؤية، وأصوات تقترب وتبتعد، وثقل يجذبه إلي الأرض، يقاومه متعثرا، عادة مايفرغ معدته عند اقترابه من البيت، ويقف لاهثا مستندا برأسه للجدار، ويفيق متنهدا ويمضي الي حجرته. ويوما سار الي البيت دون ان يقيء تحسس الدرابزين وامسك به، درجات السلم تهرب من تحت قدميه، وعندما يضع قدمه اخيرا فوقها يجدها تلين وتكاد تفقد تماسكها. ويصعد.
باب الشقة المفتوح، دخل باب الحجرة الموارب، وضوء دافيء في لون الحلبة التي يحبها يخرج من عتبته ويتناثر امامه، دخل، ورأي فراشا فرقد، وأراد ان ينبه امرأته لتطفيء السهاري وراح في النوم، امرأة عامل السكة الحديد أحست بالذراع تلقي علي جنبها، وجهها للحائط، فتحت عينيها ورأت الثقوب وأثار البق التي اعتادت ان تراها وعادت للنوم، وانتبهت علي صوت خطوات زوجها تصعد السلم، وانتظرت ان تسمع الصوت الاخر، وسمعته، شخشخة مسامير القلاووظ التالفه في حقيبته، اخذت نفسا عميقا واسترخت، ثم سمعت الشخير فزعت جالسة، ورأت الوجه المسلوخ جنبها، وانطلق صراخها.
في لحظة جاء الفران وامرأته ووقفا بالباب، لحق بهما عامل السكة الحديد ونظر من فوق كتفيهما، لم ير النائم في فراشه، وانما رأي امرأته يتوالي صراخها وتضرب فخذيها بيديها، الخباز في رقدته توقف شخيرة حين ارتفع الصراخ، ثم عاد الشخير خافتا مصحوبا بتمتمة، اندفعت امرأة الخباز الي الداخل وقصدت السرير وكأنما توقعت ماتراه، سحبت زوجها من صدر الجلباب، تعثر في قبضتها وهوي علي ركبتيه، وجهها المقبض يوشك علي البكاء، قالت لجارتها:
ـ معلهش يا أختي، حقك عليّ.. موش داري بنفسه.
وخرجت بزوجها
انسحب الفوال وامرأته بلا كلام، وعامل السكة الحديد رمي الحقيبة الممتلئة بالمسامير التالفة جانبا وقال لامرأته.
ـ اشطفي الواد.
الولد كان واقفا بفرشته مبللا نفسه.
تحركت المرأة وكانت في وقفتها الساكنة ترقب وجه زوجها.
انحني الرجل ومد ذراعه تحت السرير، وجاء بشاكوش ومفك، نقل الترباس من مكانه المرتفع إلي أسفل.
حين عادت امرأته من الحمام رأته راقدا في الفراش، ووجهه للحائط، أطفات السهاري، وتمددت بجوار الولد.