مع خلخلة الرؤية التقليديّة للمجتمع المغربي، أمام الغرب بوجهيه الثقافي والاستعماري، بدأ التساؤل عن مدى قدرة الثقافة العربية على تمثل التنوير وفن السرد الإبداعي. حول جدليّة هذا الحراك يقدم الباحث المغربي لباب علامات مقالتين تعودان لعقد الثلاثينات، للنهضوي عبد الله إبراهيم يشدد فيهما أهمية تكامل الإنتاج العقلاني والأدبي في السياق الثقافي.

عبد الله إبراهيم (1918 ـ 2005)

نموذجان من مقالاته الأولى

محمد زهير

عبد الله إبراهيم الناقد الأديب السياسي المفكر، أحد أبرز العلامات الثقافية والسياسية في المغرب الحديث والمعاصر، وأحد أعلام الوطنية المغربية المرموقين، وأعلام حركة النهضة الأدبية والثقافية الحديثة في المغرب. فقد ساهم في وضع أسس هذه الحركة، منذ ثلاثينيات القرن الميلادي الماضي، وترسيخ قيمها بعد ذلك. درس دراسة تقليدية، بجامع ابن يوسف بمراكش، ثم دراسة عصرية بفرنسا، وجمع بين الثقافتين القديمة والحديثة. وكان من النخب الوطنية المغربية المناضلة بالفعل والكلمة متلازمين، منذ مطلع شبابه. فاعتقل ونفي من قِبَل المستعمر بسبب ذلك. وظل مخلصاً لمبدئه الوطني، متميزاً بعمقه الثقافي، ومن ثمة بمكانته الثقافية والسياسية.

كتب عبد الله إبراهيم في الفكر والنقد الأدبيين، وفي التاريخ والسياسة، والفكر. وكتب الإبداع الأدبي. ولولا مشاغله السياسية لكسبت به الثقافة العربية الحديثة، أكثر مما كسبت، فالرجل كان موسوعياً بأعمق ما يمكن أن يدل عليه معنى الموسوعية. يسكن الأدب قرارة نفسه منافساً المفكر الناقد. لذلك كتب في السياسة بحس المبدع وبعد نظر المفكر، وكتب في الفكر والنقد الأدبيين باستبصار المتدبر، ونفاذ الناقد المحلل. وظل حتى آخر حياته مخلصاً لصورة المثقف الموسوعي النزيه، المسترفد من الماضي والحاضر، المتطلع إلى المستقبل في جدلية حية، يدل عليها أيضاً، رصيده السياسي والمبادئي. تقلد عبد الله إبراهيم بعد نزوح الاستعمار عن المغرب، عدة مناصب وزارية، ورأس الحكومة فترة في أوائل استقلال المغرب. ثم رأس بعد ذلك حزب "الاتحاد الوطني للقوات الشعبية". ولم يفارقه عمقه الثقافي أبداً.

من كتبه المنشورة:

ـ صمود وسط الإعصار. 1971.

ـ أوراق من ساحة النضال. 1975.

ـ الإسلام في آفاق ألفين. 1979.

ـ بالذكاء وقوة الكلمة. 1990.

وغير المنشور من آثاره في كتب، ما زالت الكثير من كتاباته في الأدب والنقد، والسياسة والفكر موزعة في صحف ومجلات، أو رهينة مخطوطاتها.

المقالة الأولى:

والمقال الأول الذي نقدمه هنا "ثورة العقل" نشره عبد الله إبراهيم في الملحق الثقافي لجريدة "المغرب"، العدد السادس، بتاريخ 12 ماي 1938. وكان آنذاك في حوالي العشرين من عمره. وهو مقال يدل على الاختيار النقدي النهضوي المبكر لكاتبه. كما يدل على إدراك للتطور الكاسح الذي اخترق السواكن ورج الثوابت رجاً، بالتصادم المباشر الحديث مع الغرب الأوربي. وفي المقال مساءلة قوية للنخب المغربية المفكرة، وبالذات للكاتب المغربي أواخر الثلاثينيات من القرن الماضي. والمساءلة اتجهت خاصة، إلى موقف هذا الكاتب من الأفكار الجديدة: هل في استطاعته مواجهتها إيجابياً، أم ينكص عنها سلبياً؟

ينطلق عبد الله إبراهيم الشاب من تلك التساؤلات الحيوية القلقة، ليكشف عما يراه بؤراً سلبية في حال الكاتب المغربي. وهدف ملاحظته أن يتحرك الفكر، ويجرؤ الكاتب على المراجعة والنقد، وعلى إعلانهما إعلاناً واضحاً صريحاً، فيؤثر في محيطه تأثيراً إيجابياً، بدل التأثر به سلبياً، بل الخضوع لمعتاده ومواضعاته الجامدة. وقد لاحظ عبد الله إبراهيم أن الذين ينتقدون ما يرونه من نقائص في وسطهم، لا يجرؤون على إبدائها للناس علناً، وإنما يظهرون لهم على غير حقيقتهم احترازاً من النقد الذي يخشونه. فيكون لذلك عائد سلبي على الكاتب وعلى مجتمعه. من ثمة فإن "الذي ينقص نهضتنا الفكرية إذن، هو الجرأة اللازمة ليستطيع الإنسان أن يصدع بما يعتقد أنه الحق في الحياة. وتكريس هذا النقص تأخير للحراك النهضوي والتاريخي. إن النهضة في أساسها مراجعة ونقد وإعادة بناء، وذلك ما أدركه عبد الله إبراهيم منذ مطلع شبابه، فلم ير مندوحة منه للحركة الثقافية النهضوية، التي كانت تؤسس لقيمها آنذاك.

نص مقالة «ثورة العقل»:

أصبحنا اليوم في المغرب، ونحن أمام تطور خطير، يرتطم بحياتنا ارتطاماً، ويكتسحنا في طغيان وإسراف، ليقتلع جذور هذه التقاليد التي نشفق عليها، وننزعج كلما سمعنا صيحة داوية في سبيل التحرر منها. أجل! أصبحنا الآن أمام تطور خطير؛ هذا شيء معلوم، والجهل به جهل بمعنى التطور، ولكن الذي يهمنا من ذلك كله هو ما إذا كان هذا التطور مرتكزاً على دعامات من الفكر ثابتة، تستطيع أن تنظم سيره، وتمده بالحرارة الكافية وبالقوة، أم لا. ولعل القارئ لا يجهل إلى أي شيء يرمي هذا الكلام. فهو يحوم حول العقول المغربية المفكرة، وهل أخذت تقدر الدور الذي أصبح طبيعياً معقولاً أن تقوم بتمثيله في الوسط الذي تنتسب إليه؟ وهل أخذ هذا التطور يرتسم عندها كحقيقة واضحة محددة قوية؟ أم لا. لنحدد النقطة التي يجب أن يوجه الكلام فيها؛ المسألة إذن تنحصر في الكاتب المغربي؛ وهل يستطيع أن يواجه هذا التيار الذي يسيطر على الحياة المغربية الجديدة، وينظم مناهجه إلى حد ما، ويوجهه توجيها صالحاً مفيداً؛ أم هو على العكس سيبقى يرقبه عن كثب وفي شيء من الصمت والإطراق؟

أنا أعتقد أن الكاتب المغربي اليوم مصاب بمرض قد لا يتهيأ معه إلى أن يكون له رأي مفهوم في هذه الحياة التي أصبح يحياها اليوم. وهذا المرض هو عدم إخلاصه للحقيقة، التي يدركها في نفسه ولكنه يتحرج من الظهور بها أمام الناس؛ ولا أريد أن أذهب بعيداً في إقناع الكتاب المغاربة بهذا، فيكفي كل واحد منهم أن يخلو بنفسه حينا ليلتمس ذلك، فلعله لا يستطيع أن يغالط نفسه في الحقيقة هذه، التي يغالط فيها الناس. وإذا كان الكتاب في العالم كله غير مخلصين أيضا فيما يتقدمون به إلى الجماهير؛ لأنهم ـ في مجموعهم ـ ماديون وخانعون لما تمليه عليهم ظروف القوة المحيطة بهم؛ فإن الكاتب المغربي لا يرجع عدم إخلاصه إلى شيء أكثر من الخضوع إلى مقاييس ضيقة يلتزمها على نفسه، خوفاً من أن يرمى بالشذوذ والخروج على المألوف.

لي أصدقاء كثيرون؛ كلما حادثتهم وحادثوني، ظهروا لي في صورة كلها طرافة ونشاط وجاذبية؛ ولكنهم لا يظهرون عليّ في مجلة أو جريدة إلا في صورة شاحبة مترددة مطبوعة بطابع المألوف المعتاد، ولا أعلل هذه الظاهرة إلا بكونهم يتحرجون فيما يكتبون وتزعجهم الطرافة يظهرون بها على الناس. وهذا عيب أقل ما فيه أنه شوه يقظتنا الفكرية ورمى إنتاجنا الأدبي بالتفاهة والجمود.

الوسط المغربي فيه كثير من النقائص، فهو لا يرضي أمل أحد من الكتاب؛ ومعالجة هذه النقائص تثير مشاكل متباينة التباين كله، بين الطبقة المفكرة في البلاد؛ كل واحد منهم له رأي خاص في هذه المعالجة يدافع عنه ويعتز به اعتزازاً، ولكنه إلى ذلك لا يستطيع أن يطالع به الناس، لأنه لا يستطيع أن يتحمل انتقادهم. وهم لا يرونه على نشرة من النشرات إلا في تحفظ وحياء شديد! وكثيراً ما يدفع به ذلك إلى إيثار الصمت؛ والصمت الطويل؛ وينكمش في نفسه معتزلا الحياة الفكرية وما يتصل بالحياة الفكرية! ولعل هذه أكبر جناية يجنيها الكاتب على نفسه، فيظلم الناس ـ الناس الذين قد لا يطمئنون إلى ما يقول أول الأمر ـ ويظلم التاريخ ويظلم نفسه، قبل أن يظلم الناس والتاريخ.

الذي ينقص نهضتنا الفكرية إذن، هو الجراءة اللازمة ليستطيع الإنسان أن يصدع بما يعتقد أنه الحق في الحياة؛ ينقصنا أن نفتح النافذة قليلاً لنشم من الهواء الطلق، وننصح للناس بما نعتقده صواباً ونحن مطمئنون مرتاحون. أما إذا أصررنا على أن لا نطل على الحياة إلا من زوايا ضيقة، وفي حياء واحتراس، فإننا من غير شك نؤخر يقظة المغرب، ونضرب رقماً فاسداً للأجيال المقبلة، قد لا يتخلصون من تبعاته إلا في عسر ومشقة شديدين. وليس المغرب أول ميدان يتجلى فيه الكفاح بين دعاة الترقي ودعاة الجمود، وليس المغرب أول أرض تندلع فيه ثورة العقل على التقاليد الفاسدة، وعلى الحياة التي لا تنظر إلى الأشياء إلا بعينين من وراء! فقد تكررت هذه المعارك في كل بقعة من البقع الناهضة في العالم اليوم، ولابد أن تدور رحاها هنا أيضاً. أما أصحاب الحق وأنصار الفضيلة فليكونوا مطمئنين، فإن الفوز والغلبة دائما للفضيلة والحق.

المقالة الثانية:

المقالة الثانية، مما اخترناه من رصيد عبد الله إبراهيم، هي مقالة: «القصة المغربية في طورها الأول». وقد نشرت في الملحق الثقافي لجريدة التقدم، السنة الثانية، 1940، العدد 48. وقد كتبت في المرحلة ذاتها التي كتبت فيها مقالة "ثورة العقل". وهي تكشف عن بعد آخر من انشغالات عبد الله إبراهيم الشاب، هو انتباهه المبكر إلى أهمية السرد الأدبي في التخييل والتصوير والتعبير والاستبطان والتأمل والكشف. وإدراكه لهذه الأهمية يتضح من بداية مقالته، إذ يؤكد "أن القصة ستصبح أوسع مظهر لتفكيرنا وإنتاجنا الفلسفي والأدبي"، وهو إدراك لتحول ثقافي يتمخض في المجتمع المغربي الحديث، وهو يواجه عواصف التحديث، ويبحث عن صيغ أدبية جديدة للتعبير عن تحولاته العنيفة. ومن أهم تلك الصيغ التعبيرية كان السرد الأدبي النثري قصة ورواية. وعبد الله إبراهيم من رواده الأُوّل في كتابة القصة، التي يرى أن عليها أن تعبر عن الحياة لأجل الحياة، الحياة المغربية الشاخصة لا المجردة والمتوهمة.لقد كان عبد الله إبراهيم من النخب الثقافية بعيدة النظر إلى حال وواقع الذات المغربية. وإشاراته النافذة إلى بعض من أدواء مجتمعه المزمنة، دالة على ذلك. فقد كان يؤرقه ذلك الغليان الصامت الكبيت في ذوات الأدباء، دون أن يجرؤوا على التعبير عنه. وإن عبروا فبشح متحفظ. وهو ما يقتل الأدب، إذ ينأى به عن مناطق وبؤر الغليان في الذات الإنسانية، فيفقره فقراً مروعاً ويبعد به عن العمق.إن عبد الله إبراهيم يرغب وبإلحاح في إفصاح الذات وبوحها وتعبيرها، ذات الأديب، وعبره ذات مجتمعه، يرغب في إطلاق الذات من إسارها الكابح لمجراها الحي المتطلع. وهل يمكن للذات أن تتغير، وتحيا بعمق دون ذلك؟ وهل ثمة أدب حي دون ذلك أيضا؟ ليس ثمة حياة متحركة يلفها الصمت، وليس ثمة أدب صامت، فالأدب قول متفجر من الأعماق، والحياة تدفقات تعبير عن حقيقة ما يسكن الذوات. ولا نهضة دون ذلك، "ونحن أحوج الشعوب إلى من يقطع السكوت العام ويأخذ الكلمة بنفسه، الكلمة التي نحس جميعا أنها كلمتنا". وهذه الكلمة المنبثقة المتأصلة من عمق ذاتنا، لا يمكن أن تصاغ إلا خارج القيود وضدا عليها، القيود التي تحول دون مراعة الكلمة الحية ويناعتها، فتعيق تبعا لذلك تدفق الحياة في المجتمع المغربي، وخصوبة عناصرها على أرضه.

إن عبد الله إبراهيم يلازم بين تحرر الكلمة وتحرر الذات التي تصدر عنها. وعلامة تحرر الذات الكاتبة أن تعبير عن حقيقة ذاتها وحقيقة واقعها، بعقلية واعية بالمعيش، مدركة لما يجري في وسطه، وليس بتمثل إسقاطي غير مرتكز على أساس من حقيقة المعيش الفعلي، حساً وإحساساً وتفكيراً ومعاناة. فلا تجديد للأدب دون وعيه بشروط مجتمعه. لكن التجديد في الأدب لا يتأتى طفرة، وإنما تدرجاً. وعبد الله إبراهيم يقبل التقليد خطوة إلى التجديد، لا انتكاساً إلى الوراء، خاصة إذا كان هذا التقليد يتعلق بشكل تعبيري نهضوي كالسرد الأدبي، الذي يلح على أن يتشبع بعناصر محيطه الإقليمي، ويتوفر على عمق فلسفي ونفسي، فيتوفر على قيمته الإنسانية، ومن ثمة على ما يستثير الأسئلة في ذات قارئه، وهو لن يكون كذلك إلا بتعبيره عن العمق الإنساني، من أجل أن يصل إلى العمق الإنساني. لقد كان عبد الله إبراهيم من رواد السرد الأدبي المغربي الحديث، ومن رواد نقاده، تفكيراً وممارسة، ومقالته "القصة المغربية في طورها الأول" بمثابة رسم منهج لهذه القصة وهي تخطو أولى خطوات تأسيسها، منهج يمكنها من أن تبدأ البداية الصحيحة، لتمضي بعد في المسار الذي تحقق عبره كثافتها النوعية.

نص مقالة «القصة المغربية في طورها الأول»:

لست أشك مطلقا في أن القصة ستصبح أوسع مظهر لتفكيرنا وإنتاجنا الفلسفي والأدبي. ولن يكون هذا تقليدا للأدب الغربي، لأن القصة لم تبق احتكاراً له، فهي في ملك مشاع بين آداب الأمم على السواء، بل لأنها أقدر أداة على إعطاء تعبير إنساني لحياتنا اليومية، وإضفاء صورة فلسفية على مناحي شعورنا وعواطفنا المتباينة. وأكرر أن المغرب ليس فقيراً في العواطف والإحساسات في ظروفه الحاضرة، لأنه يغلي غلياناً خفياً ويصطرع بطائفة من الأفكار الحادة المبهمة. ولكن المغرب فقير فقراً مزعجاً مرهقاً في القدرة على إعطاء صورة لما يحس. إننا من حياتنا الداخلية أمام مرجل فوار عنيف، ولكننا لا نستطيع أن نعطيه صورة أدبية تعبر عنه، ومن ثم موت الشاعر عندنا، ومن ثم موت الكاتب عندنا، ومن ثم فقرنا الأدبي المروع وعجزنا عن خلق دنيا أدبية للمغرب، ليست هي دنيا الخبز والكفاح لأجل الحصول عليه، بل مرآة شفافة ‏ينعكس فيها خيال هذا الخبز وخيال هذا الكفاح، ويصور نواحي اتصاله وتأثيره بالعالم الداخلي، عالم النفس.

يقول "بول فاليري" إن الكاتب، شاعراً كان أو قصاصاً، ‏ليس إلا رجلاً كجميع الرجال، اجترأ على قطع السكوت العام وأخذ الكلمة لنفسه. ونحن أحوج الشعوب إلى من يقطع سكوتنا العام ويأخذ الكلمة لنفسه، ‏الكلمة التي نحس جميعا أنها كلمتنا، أنها تفسر سكوتنا العام، وتملأ نفوسنا بالحياة والرضى، وتبعث فينا الشعور بالسمو والاطمئنان إلى فهم الحياة أو جانب من الحياة. ولن يتم لنا شيء من هذا إلا إذا أقصينا عنا هذه المقاييس التي اصطنعناها لأنفسنا، وأخذنا ننتج على مثالها. ‏يجب أن نسحق هذه "البورجوازية الفكرية" المسيطرة علينا، ونمهد السبيل إلى انقلاب شامل يصبح أدبنا منه، يبتدئ حيث تبتدئ حياتنا الاجتماعية على التراب المغربي، ‏وينتهي حيث تنتهي هذه الحياة. وهو إلى ذلك يكون شعاعاً نفاذاً إلى أعماق الحياة نفسها، ويكتشف ما يكمن فيها من سمو إنساني أو عجز، ومن احتمالا‏ت وحركة. لست أومن "بميتافيزيكية" الأدب، لأن الأدب تعبير عن الحياة، ويجب أن يكون التعبير على الحياة هو الحياة نفسها. ‏وعلى ‏ذلك، يجب أن ننتج ونحن مغاربة لا أكثر. يجب أن نتملص من تأثير الكتاب إذا أخذنا ننتج، لأن الكتب أصابتنا بنوع من الشلل في الخيال والفكرة، ويجب أن نتحرر من القراءة وفهمها وعقليتها متى أردنا أن ننتج ونعالج موضوعاتنا بفهمنا نحن وبعقليتنا، وبما نهضمه ونحس أنه جزء من حياتنا الداخلية.

اتجاه جديد في أدبنا أن أصبح يجنح إلى القصة، بدافع التقليد أو بدافع الشعور بحاجات الساعة. ومهما يكن من شيء فالمحاولة في أصلها الأول، ترمي إلى إعطاء تعبير أدبي عن إحساسنا وظروفنا الحاضرة. ولكن هذا التعبير يبقى سخيفاً طوراً، وناقصاً طوراً آخر، ما لم يتشبع بالجو الإقليمي، ويعطيه لوناً فلسفياً عميقاً يفسر مناحيه ويقربها إلى الفكر، ويضفي عليه من التحليل النفسي ما يجعله واضح المراسم موصول الحلقات. وما سوى ذلك فإنتاج هزيل لا يقوى على البقاء بحال. لقد حسب بعض من يكتب القصة عندنا أنه يكفي لإ‏عطاء اللون المحلي، أن يذكر بعض الأسماء المحلية الخاصة. وحسب فريق آخر، أنه يكفي لإضفاء النزعة الفلسفية أن تذكر كلمات الإنسانية والوجود وغيرها. وحسب فريق آخر أنه يكفي للتحليل ‏البسيكولوجي أن يكثر القاص من الأنات المفجعة، ويصب على بطل قصته سيلاً من النعوت المتكررة المتسلسلة. وليس هذا من ذلك في شي.

إن أجمل القصص التي قرأتها لحد الآن، ليست هي تلك التي تغمرني بالحقائق المزدحمة المتكومة بعضها فوق بعض، ‏بل هي التي أتممتها وتركت في نفي خطاً متسلسلاً من الاستفهامات، هذه القصة "السقراطية" هي الجديرة بالتقدير.