هذه هي رواية الكاتب المغربي الثانية، بعد روايته الأولى (البعيدون) التي رسخت مكانته كأحد أبرز كتاب الرواية المغربية، يجوب فيها مع التوحيدي مدينته الأثيرة، يعكس صورتها على مرايا زمن مضى منذ ألف عام فيشع الزمنان بدلالات ورؤى تحرك القلب وتثير العقل.

أبو حيان في طنجة (رواية)

بهاء الدين الطود

(1)

بقيت طيلة المسافة الفاصلة بين الميناءيْن الإسباني والمغربي، مسمّراً فوق مقعدي دون أن أهتم بأني أُجبرت على الجلوس بأمر من الشرطيَّيْن المتناوبَيْن على حراستي، فاهتمامي الوحيد كان مصوّبا إلى ما بداخلي، إلى تلك الهوة السحيقة التي باعدت بيني وبين كل ما يحيط بي.
كان الطقس دافئاً مشمساً، والأمواج متراخية غافية، كأنها تخشى إيقاظ البحر من سباته، وبعض راكبي الباخرة يصعدون إلى شرفات سطحها ناشدين تأمل الأفق أو التزود بمتعة مشاهدة البحر، أو ربما كان الطقس نقيض ما توقعت، مكفهراً مضطرباً، والبحر في أشد هيجانه، تتعالى أمواجه وتتلاطم، فتعترض سير السفينة ساعية في ابتلاعها.
من أين لي أن أعرف كل هذا؟
من أين لي أن أعرف ما كان يقع خارج دائرة نفسي، وكل اهتمامي كان منصبّاً على مصيبتي؟
كنت أحس أن خيطاً رقيقاً يربط ماضي بحاضري سينقطع بين لحظة وأخرى، فأنفصل عن أحد الزمانين، وأدور في أبديّة لا نهاية لها.
هكذا كنت في حالة خارقة من الذوبان في دواخلي، وحين كنت أجرؤ على التفكير فيما يجري حولي، أجده منفراً مقزّزاً، فالأماكن لم تعد هي الأماكن والناس ما عادوا هم الناس، والروائح لم تعد هي الروائح، والكلمات، والإشارات، وكل ما ألفته حواسي، اختفى واندثر، وحل مكانه الهلام.
الباخرة العملاقة نفسها، لم يستوعبها عقلي، فقد ظننتها قصراً خرافياً تسحبه الشياطين بخيوط غير مرئية فوق أمواج البحر.
وقلت لنفسي، لا يمكن لهذه أن تكون باخرة، فليس بها رجال ذوو قامات مديدة وسواعد مفتولة يتناوبون على التجديف، أو أشرعة ما تدفعها إلى السير بهذه السرعة!
إن لم يكن عالم السحرة والشياطين، فهو عالم آخر أجهله تماماً.
انتصبت واقفاً بأمر من الشرطيين وخطوت رفقتهما، انحدرنا في سلالم ضيقة وعرة، فذهب ظني إلى أنها ستفضي بنا إلى بئر سحيقة، لكنها أسلمتنا إلى باحة شاسعة فولاذية السقف والأرض والجدران.
كدت أختنق من روائح قوية عافتها نفسي، ومن هدير كدويّ رعد متواصل صادر من إحدى زوايا تلك الباحة، شموع قصيرة مبثوثة في سقفها لاتطفئها أعتى الرياح، هي الشموع ذاتها التي أفزعتني في الليلة السابقة بعد أن ألقي عليّ القبض في العدوة الأندلسية فحسبتها عيون شياطين، وتراءت لي كوة ضخمة مرعبة تفضي إلى الخارج، لكن بعد أن غادرناها تبيّن لي أنها باب كبير، وأن ما ظننته سجنا فولاذياً لم يكن سوى بطن السفينة الخرافية العملاقة.
واستقبلني فضاء مزعج مضاء بِسُرَجٍ مبثوثة هنا وهناك، لا تبدد الظلام القاتم فحسب وإنما تُحِيلُهُ نهاراً متألِّقاً.
سرت محاطا بالشرطيين، أستدير برأسي يمينا ويساراً، فضغطت بشدة على عنقي لأتبَيّن إن كنت حقا أعيش هذا الواقع وأنني لست في حلم، وانتفض قلبي مثل جواد جموح حين شاهدت "نهاوند"، لكن، منذ الوهلة الأولى، تبيّن لي أنها امرأة أخرى تشبهها، فلم أغضّ الطرف عنها إلا بعد أن تعثرت في سيري، لكن "نهاوند" ظلت مشعة في ذهني، فتذكرت أنه لم يسبق لي أن تحسّسْتُ مفاتنها الخفية إلاّ من خلال أصابع يدي ليلا في مضجعي، وليس أمام الملأ ودبيب حركة الحياة كما يفعل مرافق المرأة الشبيهة بها. نسوة أخريات كن يسرن وقد كشفن عن مفاتنهن بتلقائية، ورجال أزالوا لحاهم وشواربهم وقصوا من شعر رؤوسهم دون خجل أو وجل.
ولجنا داراً كبيرة كتب فوق مدخلها "مفوضية شرطة الميناء"، عرفت أني أدخل إلى دار الشرطة، وأن الرجال أصحاب الأحزمة الجلدية والقبعات الغريبة هم من الشرطة، أشاروا عليّ بالجلوس فوق مقعد خشبي إلى جانب رهط من الناس، فجلست.
جاء شرطي بدين وأمسك بقفاي، ثم جرني من بين الجالسين إلى مكتبٍ فسيحٍ، وأمرني بالجلوس فوق مقعد أمام "الحاج إبراهيم"، ضابط الشرطة الممتاز، كان اسمه وصفته منحوتين على لوح صغير بني اللون وضع أمامه، بينما جلس هو خلف منضدة توزعت فوقها أوراق وصكوك وأدوات لا أعرفها؟
وبدون مقدمات قذف الرجل في وجهي بذات الأسئلة الغريبة التي ألقيت عليَّ من لدن شرطة الباخرة، بعد أن تسلمتني من شرطة الأندلس.
ـ ما اسمك؟ كيف تسللت إلى إسبانيا؟ أين تقيم؟
كرّر أسئلته أكثر من مرّة، لكني بقيت أحدّق في عينيه الضيقتين المطلتين من وجه مستطيل، حليق، صقيل إلا من شارب مَوْخُوطٍ بشيب دون أن أجيبه، فالتفتَ إلى مرافقيْه الواقفيْن بجانبه، أحدهما بدين مكرّش، هو الذي قادني من قفاي كأنني كلب، والثاني نحيل رَثُّ الهيئة أصفر اللون، تولى كتابة محضر استنطاقي، وخاطبهما:
ـ لا أبداً، ليس مجنونا كما تظنان، إنه يدّعي الجنون، لاغير.
وتدخل الشرطي البدين الذي رافقني في الباخرة، مخبراً رئيسه:
ـ حاولنا يا سيدي جرّ لسانه إلى العربية وإلى لغات أخرى، حتى ظنناه أطرشَ أو أصمَّ، أبكمَ. فاستعملنا لغة الإشارات، فلم يرد بشيء، بل ظل يحملق في وجهينا وكأنه لايرانا، تماماً كما يفعل الآن.
ضرب "الحاج إبراهيم" بقبضة يده اليمنى على المنضدة حتى كادت تتطاير الأوراق من فوقها، وقطّب حاجبيه فازدادت عيناه الضيقتان انسداداً، وقال لي:
ـ لن يجديك هذا الصمت، فستُحبس، وتُجَوَّع، ويُدَقّ رأسك إلى الأرض إلى أن تعترف!
حركت رأسي كمن يفهم دون أن أَنْبِسَ بكلمة، فسادت فترة صمت خفيفة، تبادل الرجال خلالها نظرات ذاهلة، أكدت يقينهم بأني كنت أسمع، وأستوعب ما كان يقال، ولعلهم فكروا في أنّ التهديد بحبسي وتجويعي وضرب رأسي إلى الأرض هو أقصر السبل لتتدفق من فمي أجوبة ترضي مآربهم. كنت أسمع في الحقيقة كل ما قيل، لكنني لم أحفل بأي تهديد، فرعبي الوحيد كان منصباً على ما يجري بدواخلي، على انشغالي بشأني النفسي المفجوع بالغربة، بإحساسي الشنيع بالوحدة، بوعيي الكامل بوجودي في غير مكاني، وفي غير زماني.
وحين حركت رأسي إشارة إلى كوني أسمع وأفهم، كانت تراودني فكرة التحدث إليهم، علني بذلك أكتشف بعض الغموض عن نواياهم، أو عن مصيري مثلا، ونطقت. وجهت كلامي إلى رئيسهم "الحاج إبراهيم":
ـ سيدي أطال الله عمرك، ما كنت يوماً لصاً ولا شريرا ولا جبانا، ومادمت لا أخفي سُوءاً ضد الله ولا ضد عباده، فلن يرعبني أي تهديد، ولعلمك، فقد جئت إلى المغرب، ينتابني شوق عارم إلى ملاقاة فلاسفة وفقهاء من ديار أهل المغرب وأهل الأندلس، لا أقل ولا أكثر، إنني قدمت مهاجراً ناشداً المعرفة والحكمة، وكان ظني أني سأجد قوماً يكرمون وفادة الغريب ويقدرونه حق قدره، لكنني وحسبي ما وجدت سوى ما غَشَّى صدري بالغم، ورأسي بالكمد، ونفسي بالاغتراب.
ما أن أتممت جملتي الأخيرة حتى رأيت الذهول قد طغى على وجوه الرجال، وأخذ ينظر بعضهم إلى بعض في تساؤل من الْتبس عليه الأمر، وقد فغرت أفواههم، وجحظت أعينهم وكأنني فهت بكلام غريب مبهم، لا يصدر عن إنسان عاقل.
أنا أيضاً أصبت بالارتباك، والتبس عليَّ الحال، فظننت أن الأمر قد يتعلق بهندامي الغريب مما جعلني ألقي نظرة فاحصة على نفسي، وتابعتُ قولي:
ـ إن أحدهم في ثغر "المُنَقَّبْ" سترني بهذه الثياب، فو الله ما عرف جسدي قمصاناً ولا سراويل بهذا الشكل، ولا حتى غادرت بيتي يوما عاري الرأس، أعرف أنكم تريدون أجوبة مني على أسئلتكم، أنا أيضا أرغب في أجوبة منكم تستجلي لي سر هذا الغموض المحيط بي، فَتُزِيحُ عن صدري غمه، وعن رأسي كمده، وعن نفسي غربتها، فهل تبدأون فأفصح، أو أبدأ فتفصحون؟!
ظلت الدهشة مرسومة على محياهم إلى أن تحدث "الحاج إبراهيم" متلعثماً، محاولا اصطناع جملٍ عربية سليمة:
ـ حاشا يا سيدي أن تكونوا لصاً أو ما شابه. في الحقيقة فاجأنا كلامكم البليغ الفصيح، أدهشنا صوتكم العذب الرنان، إننا على استعداد لمساعدتكم، بل من واجبنا أن نوضح لكم ما التبس عليكم، إنما قبل ذلك، أريد أجوبة صريحة على أسئلتي.
حركت رأسي بالإيجاب، فنطق:
ـ ما هو اسمكم وما هي جنسيتكم؟
لم أقو على إخفاء ما غشى وجهي من استخفاف بسؤاله، منطقيا ولُغَويّاً، فأجبته:
ـ اسمي "أبو حيان التوحيدي علي بن محمد بن العباس"، وجنسي ذكر، عربي مسلم.
ـ أنا أسأل عن جنسيتكم وليس عن جنسكم!
وبالاستخفاف الممزوج بالامتعاض نفسه أجبته:
ـ أنا يا سيدي رجل واحد فرد، وأنت تخاطبني بصيغة الجمع، فهل ترى في شخصي جمعاً من الرجال، أم أن هناك سبباً أجهله وراء هذا الخطاب؟

(2)

تدخل الشرطي النحيل الأصفر الملامح، موجها كلامه إلى رئيسه:
ـ أسأله من أي بلد هو قادم، أقصد عن اسْمِ بلده.
فاستجاب له رئيسه، معيداً سؤاله بصيغة معقولة:
ـ من أي بلد قدمت؟
استرخت أسارير وجهي وأنا أجيبه:
ـ من "بغداد" يا سيدي.
التفت "الحاج إبراهيم" إلى معاونيه، وكمن يخاطب نفسه قال لهما:
ـ يقول من "بغداد!"، أما كان أولى أن تسلمه السلطات الإسبانية مباشرة إلى بلده عوض أن تحيله علينا.
ثم نظر إليَّ:
ـ ألديك أوراقٌ تثبت أنك عراقي؟
مرة أخرى يجانب سؤاله الصواب، لكنني أجبته:
ـ لم يسبق أن حصّلت وثيقةً تثبت ولائي للعراق ولا إلى بلد آخر؟
ـ وكيف تريدني أن أقتنع بأنك عراقي؟
على الرغم من غموض سؤاله، لم أسخر منه، كنت أرغب في أن أكون صريحاً وصادقاً، فقلت له:
ـ وما مرادك يا سيدي لكي تتأكد إن كنت عراقيا أم فارسيا أم حجازياً، أليس الوطن حيث أقامك الله؟! مع أني أجهر بأني عراقي، صراحة أود لو أعرف؟
أطرق صامتاً وكأن كلامي فاجأه، فتابعت حديثي:
ـ سبق يا صاحب السلطة أن أخبرتك بأنني مسلم، وفي ملتي واعتقادي أن المسلمين في ديار الإسلام سواسية، إلا إذا كان لك شك في إسلامي، ففي هذه الحال، ورفعاً لأي غموض، أعلن أمامك بأنني مسلم حنبلي، عالم متفقه في الأصول والفروع والحديث، وأمور الفقه عامة، من مذاهب ونحل ومسالك ومعاملات.
طلب مني أن أصمت قليلا، وأشار على معاونيه بالسكوت، ووضع راحة يده على جبينه، وسرح ساهماً وكأنه يواجه حالة شاذة فريدة تقتضي حرصه وصبره، أو كأن ما أواجهه به يجانب في نظره المنطق والصواب.
بعد برهة، خاطبني وهو يحاول أن يبدو هادئاً:
ـ إنني يا سيدي لا أشك في إسلامك، وقد أعجبتني ثقافتك وراقتني دقة أجوبتك، إن ما أرغب فيه صراحة هو أن أعرف كيفية مجيئك إلى المغرب، وطريقة دخولك إلى إسبانيا؟
طأطأت رأسي موافقاً مستحسناً سؤاله، وخضت في الحديث:
ـ قدمت إلى المغرب كحال جميع الوافدين عليه، أما إذا كان قصدك أن تعرف الطريق الذي سلكته، فلا أرى بأسا من إطلاعك على تفاصيل رحلتي بكاملها.
أسرع يقول بلسان تشوبه بشاشة معينة:
ـ تماما تماماً، ذلك ما أرغب فيه، استمر استمر.
وتابعت حديثي:
ـ يمّممت وجهي شطر دمشق، فالإسكندرية، فبرقة، فالقيروان، فتلمسان، إلى أن دخلت حاضرة فاس، سليماً معافى ولله الحمد.
وقد أنستني فاس ما كان قد تخلل رحلتي من محن ونوائب، إذ وجدت بها ما لم أجده في حواضر غيرها، مرتفعات مزدانة بشجر الغاب، ونباتات الكروم، والتين والزيتون، والليمون والتفاح، والمشمش والبرقوق، والعنب والكرز، واللوز والموز والجوز، استطبت هواءها وجنانها، وراقتني مبانيها وأَزِقَّتها وساكنتها، ووجدت الكل على دين الإسلام ومذهب إمام الهجرة سيدنا مالك بن أنس الأصبحي رضي الله عنه.
كان "الحاج إبراهيم" يحرك رأسه استلطافاً لكلامي، وكنت أروي أخباري وأنا أتلصّص ببصري بين معاونيْه، لأستطلع وقع ما أقصه عليهم، فاستنتجت عدم ارتياحهما لما أعترف به، لكن رئيسهما "الحاج إبراهيم" كان أكثر ما يهمني، وأضفت:
ـ اصطفيت من آل فاس خلاناً وأصحاباً أكرموا وفادتي، وقدروني حق قدري، أذكر من بينهم الفقهاء، الجوطي والدباغ والسليماني والكغاط والشبيهي، وفي أيام قليلة أخذ يألف بعضنا البعض، فصرت أطلعهم على الصغيرة والكبيرة مما كان قد أَذَلَّنِي في سفري من بلد إلى بلد، وما كان عليه طبعي وحالي في بغداد.
قاطعني "الحاج ابراهيم":
ـ سيدي! جميل ما تقصه عن مقامك في فاس، وما كان عليه طبعك في بغداد، لكنني أكثر شوقاً لأعرف كيف دخلت إلى إسبانيا.
فقلت له:
ـ المهم، أن أصدقاء فاس عرّفوني بقافلة كانت قد قدمت من سجلماسة في طريقها إلى غرناطة، وكان بها تجار نبهاء وفقهاء نبغاء، فانضممت إليهم لأرافقهم في قافلتهم المكونة من خمسة وستين رجلا، وعَدَدٍ من النساء والخيول والبغال والحمير، ودواب أخرى حملت صبية، وتكدست فوقها أمتعة ومؤن وأغراض أخرى.
وعاد "الحاج ابراهيم" إلى مقاطعة قصتي:
ـ باختصار، وصلتم إلى طنجة!؟
ـ أجل، كانت حاضرة طنجة محطة مستهدفة لنبحر منها إلى بلدة "طريف" بالأندلس، لكننا توقفنا في حاضرة "قصر كتامة" لنستريح من ضجر الطريق وعناء السفر، وهي بلدة يشقها نهر يدعى لوكوس، أرضها منبسطة خصبة معطاء، تحف بها بساتين خضراء وجنان مثقلة بالكروم والفواكه على مدار فصول العام، أهلها أَجْوَادٌ كرام، فصيحو اللسان، حاضرو البديهة، سريعو النفاذ إلى القلوب، ومن عاداتهم، السّهر والسّمر وقصّ ما استجد من العلوم والأخبار، ومما أستحضره عنهم، ما سرده على مسامعنا أحد رجالاتهم من بيت آل القنطري، أنه قابل شخصيا، منذ حَوَالَى خمسين عاماً المدعو "حاميم المتنبي"، البربري الذي ظهر في قبيلة غمارة، فأنشأ بها ديناً وقرآنا بربرياً، واقتصر في دينه الجديد على الصلاة مرتين في اليوم، وأبطل الحج إلى بيت الله، كما أوجب صوم الأربعاء والخميس، والعجيب الغريب، أن عدداً كبيراً من برابرة شمال المغرب اعتنق هذا الدين، لكنهم في قصر "كتامة" تصدّوا له، مثلما تصدوا لنشاط الخوارج. ما أقصه حقيقة لا ريب فيها، ويمكنك استفسار بعض أهالي كتامة من التقاة، كالصرصري وبوعجاج والدنهاجي والفاسي الفهري.
ثم رحلنا عن البلدة في صباح باكر بعد أن أدينا فريضة صلاة الفجر في مسجدها الأعظم المهيب، وقد قيل لنا إنه كان كنيسة رومانية في عصر بائد.
وقاطعني الرجل أصفر الوجه الذي يدوّن أقوالي:
ـ اختصر كلامك يا أخي، فلديْنا عشرات المهاجرين السريين!
فتصدى له الحاج ابراهيم مقاطعاً:
ـ اصمت! ودع الرجل يتحدث بالكيفية التي يريدها.
ثم ابتسم في وجهي وخاطبني:
ـ نحن معك إلى أن تنهي كل أقوالك.
فاستأنفت حديثي:
هكذا يممنا في اتجاه طنجة، لكن القدر كان يخفي علينا أننا سنتوقف في "ثغر أصيلا" يومين كاملين، بسبب وعكة صحية حلت برفيق لنا، لكنه قام منها سليماً والشكر لله، و "أصيلا" قرية بهيجة، تشرف على بحر الظلمات الصاخب، كانت أمنيتي أن أقف على مرمى حجر من هذا البحر الهادر وأتأمله عن كثب، فتحققت أمنيتي، وكبرت سعادتي وأنا أحس بهديره يملأ أذني، ونسائمه تتسلل إلى رئتي ومَسَامّي.
أقمنا في هذا الثغر يومين سيظلان موشومين في ذاكرتي ما حييت، فحين نزلنا في تلك السويعات الأولى من بزوغ خيوط الشمس لمشاهدة مروج البحر، وكان صخبه قد هدأ، وأطرافه قد انكمشت، مخلفة طَحَالِبَ بلورية، وأعشاباً مبللة، كأنها كرومٌ خضراء في أحد بساتين جنة الخلود، يا لها من نسائم رطبة ندية هي نقيض لروائح الصحاري، فمن شدة ما استطابتها نفسي وانشرح لها صدري جمعت منها عيّنات، فساعدني الفقيه "أبو عصيد" على ربطها عند مخلف سرج حصاني، نعم "أبو عصيد"، ذاك الفقيه الإمام المبرِّز في أصيلا، رجل متصوف، يبسط يده للدراويش والمعوزين. من بين مريديه وأصدقائه أتذكر وجها وديعا خجولا لصياد سمك يدعى رُوِيكَْلْ، رجل لا يعرف عن الدنيا سوى أنواع السمك وأقصاب صيدها، بينما يهتم أبو عصيد بأشعار المتصوفة والأنساب والتراجم، وبالرغم من ذلك يرتبطان بعلاقة مودة لافتة. ومما ذكره أبو عصيد في ليلة سمرنا الأولى، أنهما معاً من أشد وأقرب من عاشروا السلطان الإدريسي "يحيى بن إدريس بن عمر" خلال سنوات نفيه في "أصيلا"، بعد أن كان حاكما للمغرب كله، لكن الحاكم "موسى بن أبي العافية"، وحسداً منه على ما كان يتمتع به هذا الأمير الشاب من حب المغاربة، نصب له مكائد إلى أن نفاه إلى "ثغر أصيلا".
وقد دلني هذا الفقيه على دار بجوار حمام ومعبد يهودي، كانت محل إقامة هذا السلطان الذي كان على قدر من العلم بالفقه والحديث. وكان رويكَل يزوره كل مساء محملا بشراتل من الأسماك الطازجة. وفي الليلة الثانية، حدثني الفقيه عن شيخه الذي أخذ عنه كتاب البخاري "الإمام أبي محمد عبد الله بن ابراهيم بن محمد"، الملقب "بالإمام الأصيلي"، وكان قد توفي منذ حَوَالَى ثلاثين سنة، أسعدني في الحقيقة أن أستمع إلى بعض أخبار هذا الإمام، بعد أن سمعت عنه ما تيسر لي من بعض مريديه ومعاشريه في بغداد، ومكة، والمدينة، أثناء إقامته هناك منذ حَوَالَى خمسين عاماً.
توقفنا ترحّماً على قبره في حديقة مسيجة خارج أسوار المدينة، فتبادلنا أخباراً عنه، إذ أكدت له أن الإمام كان صديقاً مقرباً من الإمام أبي بكر الشافعي وأبي بكر الأبهري ومن شيوخه الأفذاذ في مكة الإمام زيد المروزي وأبي بكر الآجُري. وفي المدينة قاضيها الإمام أبي مروان المالكي، فأخبرني بأن الإمام الأصيلي، بعد أن عاد من المشرق إلى أصيلا، رحل عنها ليتولى القضاء في سرقسطة وقرطبة، وبعد مدة، عاد مرفوقاً بثلاث زوجات، أسكن كل واحدة في منزل خاص بها، وعاشرهن بالعدل والقسطاس، دون أن يفضل واحدة على غيرها، إلى أن قضى، فدفن هنا في مسقط رأسه.
توقفتُ عن إتمام حديثي حين انحنى الشرطي الأصفر الوجه على أذن رئيسه، وهمس له بكلمات غير مسموعة، لكن الرئيس ثَنَاهُ عن همسه بإشارة من يده، وطلب مني استئناف سردي، مبدياً ابتسامة متكلفة، غير أن ما كان يسود المقام نبهني إلى أن الرجل ما عاد يطيق سماع ما أزوده به من أخبار، أو لعله لم يصدق أقوالي، تلك طباع رجال الشرطة في كل البقاع، فعملهم يجبلهم على الارتياب والحيطة. ولربما طريقة سردي التي بدت له سجية مرسلة، هي أقوى ما كان يشدّه إلى سماعي وليس مضمون أخباري، مما جعلني أختصر كلامي، وهو عين ما حدث، فما إن أخبرته برحيلنا عن "ثغر أصيلا"، والعوائق التي اعترضتنا في قطع الأنهر الثلاثة الفاصلة بين أصيلة وطنجة، واستئجارنا لمراكب خشبية ذات أشرعة كادت أن تصبح أكفاناً لنا في لجّة البحر، حملتنا من "طنجة" إلى"طريف" بالأندلس، حتى قاطعني مستفسراً:
ـ منذ متى تم هذا السفر إلى الأندلس؟
أجبته صادقاً: 
ـ منذ بضعة أيام، أي في أقل من أسبوع واحد.
هنا ارتفعت أصوات الجميع بالضحك والقهقهة، فعاد الرئيس لاستفساري قائلا:
ـ أريد معرفة التاريخ، لا يهم اليوم أو الشهر، أريد العام بالضبط؟
يالغرابة السؤال! قلت في نفسي، وأجبته:
ـ قلت لك إن ما حدث كان منذ بضعة أيام، أي في هذا الشهر، وفي هذا العام ذاته، ألسنا في ذي القعدة من عام 400 للهجرة؟
انتشر الاستخفاف على محياهم جميعهم، ولم يعد عسيراً على عيني أن تقرأ في ملامحهم علامات دالة على أني في نظرهم شخص مجنون، لكنني واصلت حفاظي على رباطة جأشي، وتوجهت بالحديث ليس إلى الرئيس وحده، وإنما إليهم جميعاً:
ـ أؤكد لكم أنني سليم معافى، وفي كامل قواي العقلية والجسدية، فإن وقع التباس فيما أرويه عن رحلتي، فإن مرده إلى عدم فهمكم.
وتدخل "الحاج ابراهيم" بعد أن أطال النظر في وجهي:
ـ طيب، تقول إنك قدمت من العراق في هذا العام، وركبت البحر إلى الأندلس في العام ذاته. أيمكنك أن تخبرنا عن ظروف بلدك؟ من تركت يحكم العراق مثلا؟
أسرعت بالإجابة:
ـ تركت الخليفة العباسي "أبا العباس أحمد بن المقتدر" المعروف لدينا ولديكم "بالقادر بالله"، حاكما على العراق، لكن ما هو خاف عليكم، هو أن الحاكم الحقيقي ليس الخليفة وإنما "بهاء الدولة" البويهي، فهذا الرجل بعد أن بسط نفوذه على "فارس" و "الأهواز" و "كرمان" استبد بالسلطة دون الخليفة، خاصة بعد أن تزوج الخليفة من ابنته "سكينة" عام 383 بصداق بلغ مائة ألف دينار.
وقاطعني "الحاج ابراهيم" متبرماً من حديثي، بعد أن بَحَثَ في أوراق أمامه:
ـ اسمع يا سيدي، إننا لسنا في عام 400 للهجرة، وإنما في عام 1423، ثم التفت إلى معاونيه وخاطبهما آمراً:
ـ أعدا له محضراً بأقواله واتركاه ينام إلى الصباح، لنقدمه إلى النيابة العامة ضمن المهاجرين السريين.
وقال أحد معاونيه ضاحكاً متعجباً:
ـ يقيناً إن الرجل سجين كتاب قرأه عن التاريخ القديم فتوقف دماغه هناك.
لم يجبه الرئيس، بل غادر المكتب دون أن يفوه بشيء، أما أنا، فقد جمد لساني وتركت أمر إرادتي لمشيئة الله، وليقولوا أو يفعلوا بي ما شاءوا.
بعد أن أفردوا لي مقعداً خشبياً وأغلقوا الباب وانسحبوا، عاد فكري للاشتغال، أنا العالِم، الفقيه، المنطقي، الفيلسوف. يحاول شرطي بسيط إقناعي بأني سجين زمان يبتعد عن زماني بأكثر من ألف عام! يوهمني بأني فاقد للعقل! من منا فاقده، من جُبِلَ على الارتياب والتشكك؟ أم مَنْ يحتكم إلى عقله ومنطقه؟
وحسبي أني أوجد في مكان غير مكاني، فعادة ما يُفَسَّرُ اختلاف المكان باختلاف الزمان، إنما أن أكون في زمان جاء بعد زماني بأكثر من ألف عام، فهذا والله لن يستوعبه عقل كائن بشري، لقد حدث التباس ما! بكل تأكيد. لعلهم هنا في المغرب يعدون السنوات بطريقة مختلفة عما نعده نحن في العراق؟ لكنهم يتكلمون العربية، ويقولون عن أنفسهم إنهم مسلمون، يبسملون ويستغفرون الله.
يا إلهي، أكاد أصاب حقيقة بتلف العقل، ماذا لو أحضرت لهم الشيخين "القنطري" و "الدنهاجي" من حاضرة "قصر كتامة" وهي على مسافة يوم واحد لا أكثر، أو أحضرت لهم الفقيه "أبا عصيد" من "ثغر أصيلا" وهي على مقربة نصف يوم، ليشهدوا بالحقيقة، بوجودي في زمانهم ووجودهم في زماني، ثم كيف للمرء من بني آدم أن يعيش أكثر من ألف عام؟ وعلى سبيل افتراض أن ما زعموه حقيقة، فأين كنت مختفياً؟ في أعالي السماء أم في باطن الأرض؟
هراء، هرطقة، إنني أنا الذي أمتلك الحقيقة وهم الأغبياء، ولن أتنازل عن رأيي حتى لو انضم إليهم السواد الأعظم من الناس. إن الباطل لن يصير حقاً بكثرة منتحليه، كما أن الحقيقة لن تصير باطلا بقلة معتقديها، ذلك هو المنطق القويم.
هكذا عليّ أن أفكر وأن أقاوم، فأنا فيلسوف، عالم منطقي، أنا ناسخ لكتب "الجاحظ" في زماني هذا الحاضر، وليس في الزمان الذي قبله، ولن أعبأ بمنطق شرطي أملس المحيا كأنه جارية هرب عنها الزمان.
لم أدر المدة التي استغرقها حواري الداخلي، إلى أن فتحوا عَلَيَّ باب الغرفة لأعرف أن الوقت صباح.

(3)

اقتادوني، فأدخلوني مكتبا آخر، وأمروني بالجلوس فوق مقعد خشبي بمتكأ يريح الظهر، لجميع مقاعدهم مُتَّكَآت مريحة وكأنها مقاعد حاشية الخلفاء.
تناول شاب طويل القامة، أملس الوجه، شبيه بغلام، أوراقاً وأخذ يتلو على مسمعي تصريحاتي بلغة منفرة، خلتها سوطا يجلدني، وطلب مني أن أبصم أو أوقع، فناولني قلماً غريباً دون أن يسعفني بِدَوَاة، وحين نبهته أخبرني بأن سمق القلم لا يجف، مما أكّد لي أنني في عالم غريب عني. بعد ذلك غَلُّوا يدي بصفد حديدي، لم يسبق لعيني أن أبصرت مثيلا له، واقتادوني ضمن أسرى آخرين، إلى أن أدخلونا هودجاً ضخماً بنوافذ زجاجية، فتحرّك بنا وكأنه حصان أرعن، إلى أن توقف عند مدخل بناء أبيض اللون، ظننته أول الأمر سجناً، فنضح جبيني بالعرق، لكنني حين قرأت على مدخله: "المحكمة الابتدائية"، دبت في قلبي طمأنينة ما، إذ فكرت بأن التعامل مع القضاء أضمن لسلامة بدني من مواجهة الشرطة أو السجن.
أنزلونا مثنى مثنى في حراسة مشددة، وكأننا ثوار أو قطّاع طريق، وساروا بنا إلى أن وجدنا أنفسنا ننحدر في سلالم من بضع دركات أفضت بنا إلى غرفة عَطِنة تكدّس بها بشر سِيقوا قبلنا إليها، وسُدَّ علينا الباب لنظل في مواجهة المجهول.
بعد زمن قدرته بنصف يوم، جاء دوري، بعد أن كان أحدهم من وقت لآخر ينادي بأسماء بعضنا، خرجت من الغرفة، فصعدت السلالم ذاتها محاطاً بجنديين، سرنا وصعدنا، وسرنا إلى أن وجدت نفسي أومر بولوج مكتب رحب ثري، فولجته، فك الرجلان قيدي بعد أن قدما تحية عسكرية صارمة دالة على عظمة صاحب المكتب، أما هو فلم يكترث للتحية ولا رد بأكثر أو أقل منها، بل نظر إليّ أنا المعني بالأمر، مشيراً عَلَيَّ أن أجعل يدي خلف ظهري وأن أقف مستقيماً أمامه، ففعلت بمساعدة أحد الجنديين.
أخذ الرجل يتصفح أوراقاً فوق مكتبه، وبين الحين والآخر، كان يرفع بصره ويتأملني، إلى أن سألني:
ـ من أي بلد أنت؟ 
ـ من العراق سيدي، أجبته.
حرّك رأسه بطريقة توحي بذهوله، وخاطبني:
ـ تقول في تصريحاتك المدونة في المحضر، إنك قدمت من بغداد عبر المدن التي ذكرتها، وإِنَّ اسمك هو "أبو حيان التوحيدي"!
ـ أجل سيدي أطال الله عمرك، أعترف بذلك.
سكت برهة مفكراً، وكمن يحاول اختزال الاستنطاق قال لي:
ـ سأكون مضطراً لأن آمر بإيداعك مستشفى الأمراض العقلية إلى أن تعود إلى رشدك، لكن إذا ما عَدَلْتَ طَواعيةً عن ادعاء الحمق، واعترفت باسمك الحقيقي، ومقر إقامتك، ووسيلة دخولك إلى إسبانيا، فسأكون رحيماً بك، وستنجو من العقاب.
سكت قليلا وأضاف:
ـ أما إذا كانت لك عاهة عقلية، كأن تكون مختلا، فيجب أن تعترف بمرضك؟
ـ وما هو دليلك يا سيدي على أنني لم أعترف بالحقيقة، أو أني مصاب بعاهة عقلية كالجنون؟ لا قدر الله.
قلت في عجلة من أمري، وأضفت:
ـ إني يا سيدي لا أتستر على شيء، لا عن أخبار ولا عن مرض، وقد اعترفت باسمي الحقيقي وباسم بلدي الحقيقي، وبالسبل التي سلكتها، إلى أن حللت بالمغرب، وكذلك بالأندلس.
انتفض صوته واشياً تبرمه من جوابي:
ـ إنك جاوزت المراوغة حدّ اليقين بأنك شخص معتوه، فمن سيصدق أقوالك الخرافية، تسافر من فاس في قافلة متوجهة إلى "غرناطة"، وتحل "بقصر كتامة" و "ثغر أصيلا"، وتسمع أخباراً من أفواه رجال عايشوا أحد ملوك الدولة الإدريسية المنقرضة منذ قرون، ثم تقول بأنك لست مجنوناً؟
أجبته:
ـ إن الجنون أيها الحاكم لا يَقْوَى أحدٌ منّا على إخفائه إن كان مصاباً به، فأي تعبير لغوي شائن أو غير منطقي صدر عني؟ وأية حركة، أو تصرف غير عادي لاحظت، أو لاحظ غيرك،أنه قد طرأ على سلوكي؟
توقفت للحظة أسترجع أنفاسي، ورأيت الذهول مرسوماً على محيا الحاكم، فتابعت حديثي لمزيد إقناعه، وقلت له:
ـ إنني يا سيدي أتصرف تصرف العقلاء، وإذا كان قد صدر مني سلوك غير سوي، فليس معنى ذلك أنني أحمق، فقد يصدر عن العاقل بعض ما لا يصدر إلاّ عن مجنون، علما بأن الحمقى يطغى انحرافهم على اعتدالهم، وفي وضعي فإني متسق مع نفسي وعقلي، ولم أُخْفِ شيئاً من أخباري ولا من حياتي.
فاجأني مقاطعا:
ـ إذا كانت الحال كما تقول، أي أنك رجل عاقل متسق معتدل، فلماذا تزعم أنك "أبو حيان التوحيدي"؟
ـ إنها الحقيقة، بغض النظر عمّا إن كانت لي أو عليّ، وهل تعرف يا مولاي شخصاً غيري يحمل هذا الاسم؟
لم يقو على طمس ابتسامة ماكرة دالة على استخفافه بمنطقي، وأجاب:
ـ بطبيعة الحال أعرف "أبا حيان التوحيدي"، وليس هناك من المتعلمين المطلعين على تاريخ الأدب من يجهل أبا حيان التوحيدي المتوفى منذ قرون. أجل، قد يتكرر اسمه، هذا وارد، أما أن تنتسب إلى زمانه وتنتحل اسمه وصفته وحياته، حتى أنك تزعم بأن تاريخنا الحالي هو عام 400 هجرية، ثم تقول بأنك لست مجنونا! من يقوى على تصديق هذا الهراء؟
تمنيت لو تنفتح الأرض من تحتي، فتصهرني بداخلها، لأرتاح مما أنا فيه، ذلك أن الشك عاد يموج برأسي، ودون إرادتي وجدت أسئلة تنساب على لساني:
ـ سيدي، أنا أجهل صفتك تحديدا، وأعلم أن دوري ينحصر في إمدادك بأجوبة، لكن وضعي الغامض لديك ولدي أيضاً، يحتم عليّ استفسارك لأتعرّف رأسي من قدمي، فوالله ما عدت أفهم أكثر مما أجيب به، فهل تدلني رعاك الله على التاريخ الحقيقي الذي نعيشه اليوم، سواء هنا في بلاد المغرب أم ذلك الموجود في بلاد العراق؟ وكيف يمكن للمرء في نظرك أن يجمع قيد حياته بين زمانين، أحدهما مضى واندثر، والآخر حاضر حال؟ أو ليس هذا هو بؤرة خلافنا؟
حرك الرجل رأسه موافقا، وقال:
ـ طيب، صفتي وكيل الملك، أي أني أمثل النيابة العامة، وأدافع عن الحق العام، فهلا عرفت معنى وكيل الملك؟
ـ معناه في تقديري أن الملك أنابك عنه بمقتضى وكالة ضمنية، وبمعنى آخر فقد تكون قاضي القضاة!
عاد يقول في نفاذ صبر:
ـ أمازلت تدعي الجهل بالرغم من ثقافتك الواسعة!
ـ أنا لا أدعي شيئا، لكن يستحيل أن أقتنع بأني أُحْسَبُ على ماض يبتعد عن هذا الحاضر بأكثر من ألف عام، وإذا أردتني أن أصدّق، فعليك أيضا أن تصدق.
ـ أصدق ماذا؟
ـ تصدق أقوالي في الأوراق التي بين يديك، فإذا لم تقتنع، فأنا مثلك لا أستوعب هذا الفارق الزمني الذي تُصِرُّ عليه.
ـ أنت إذن متشبث بزعمك، طيب، لتعلم أن التاريخ الذي نعيشه اليوم في المغرب هو التاريخ نفسه الذي يعيشه إخواننا في العراق، فنحن في عام 2003 ميلادية، أما الدولة العباسية التي تزعم انتسابك إليها، فقد اختفت، واندثرت، ومر على قيامها عشرة قرون، وحلّت محلها دول أخرى، بخلفاء وسلاطين وحكامٍ آخرين، أما زلت مصراً على رأيك؟
ـ مهما يَحْدُثْ فأنا أعترف بالحقيقة، متمنياً لو لم تكن هذه هي الحقيقة، كأن نكون في حلم، أو على الأقل يكون أحدنا في حالة حلم.
امتدت يد وكيل الملك إلى قطعة جماد رمادية اللون، من خشب لامع، أو لربما من زنك أو حديد، فلم أقو على تمييز معدنها، لكنها كانت مشدودة بحبل رقيق إلى وعاء في لونها، وضعها بين فيه وأذنه، وأخذ يتحدث إليها كما لو أن رجلا حقيقياً بداخلها يحاوره.
وددت لو قلت له، بأن المجنون الحقيقي هو الذي يحاور جماداً، لكنني اكتفيت بذهولي، ولذت بالصمت.

(4)

بعد زمن قصير، وقع طرق خفيف على الباب، فأطل منه رجل كهل، معقوف الأنف، رمادي الشعر، حليق الوجه إلا من شارب متّسخٍ، غلب عليه بياض الشيب، قدرت أنه في عمري وقامتي ونحافتي، ألقى تحية احترام على وكيل الملك، وبعينيه تساؤل يخفي تضايقه، لكن وكيل الملك طمأنه، مرحبا، قائلا:
ـ إذن، أنت الكاتب محمد شكري، لقد طلبت حضورك قصد استشارتك لا غير، فأنت كاتبنا المعروف، من رموز هذه المدينة، تفضل، استرح.
بعد أن استوى محمد شكري فوق مقعد أسعفه به "محند أشهبار" الكاتب الذي يدوّن أقوالي، ظل تساؤله بادياً على وجهه، فبادره وكيل الملك بالقول:
ـ إنك من دون شك، تعرف من هو "أبو حيان التوحيدي". ولعلك عارف بأخباره، أو مطلع على بعض كتبه، أليس كذلك؟
أجابه شكري بصوت يفضح ارتباكه:
ـ نعم سيدي، أعرف بعض أسماء كتبه، أما عن شخصه، فأذكر أن أقلاماً كبيرة وكثيرة سالت منوهة بعبقريته وعلمه الغزير، خاصة منذ حوالي عشرين عاماً، حين وقع الاحتفال من لَدُن كبار المثقفين بذكرى مرور ألف عام على وفاته، أو بالأحرى على اختفائه، ذلك أن لا أحد من المؤرخين يعلم تاريخ وفاته.
قبل أن ينهي محمد شكري شهادته، اقتحم المكتب رجل طويل القامة، حسن الطلعة، واثق الْخُطى، فبدا من هيئته، وثقته بنفسه، أنه أحد كبار الحاكمين أو المفتين الأفذاذ، وزاد في تأكيد تخميني وقوف الجميع احتراما لقدومه، إلاّي أنا، فقد كنت واقفاً سلفاً. ولم يعودوا لجلوسهم إلا بعد أن استوى الزائر فوق مقعد بجوار وكيل الملك، وأشار عليهم بالجلوس، فتسلم أوراق تصريحاتي من يد وكيل الملك، ووضعها أمامه فوق المكتب.
قبل أن يطلع عليها، بادره وكيل الملك بالقول، وهو يشير إلى مثقف المدينة:
ـ إنه الكاتب المغربي الشهير محمد شكري، فقد دعوته لأستأنس برأيه في حياة ونتاج المرحوم "أبي حيان التوحيدي" الحقيقي، المتوفَّى منذ أكثر من ألف عام، أقول الحقيقي، لأن الضنين الماثل أمامنا يزعم أنه "أبو حيان التوحيدي"، وبأننا نعيش في عصر الدولة العباسية، وقد أحالته السلطات الإسبانية علينا بتهمة الهجرة السرية، وبعد أن اطلعوا على تصريحاته، سيتبين لكم إشكال هذه النازلة الغريبة.
انكب الوكيل العام على تفحص أقوالي المدونة في أوراق أمامه، وبين الحين والآخر، كان يرفع بصره ليتأملني، ثم يعود لمحضر تصريحاتي، واستبشرت خيراً حين أمر الشاب "محند أشهبار" بإحضار مقعد لي، وطالبه باستئناف كتابة محضر الاستنطاق.
وتدخل وكيل الملك، مخاطبا الكاتب محند أشهبار:
ناولِ السيد الوكيل العام، ماهو مسجل لديك من أقوال المتهم.
أزعجني أن يقول عني إني متهم، لكنني لذت بالصمت.
بعد أن تصفح الوكيل العام ماراج من استنطاق في غيابه، توجه نحوي بالسؤال التالي:
ـ هل أنت مصّر على أقوالك، وعلى أنك "أبو حيان التوحيدي"؟
حركت رأسي بالإيجاب وأضفت:
ـ إنني يا سيدي أتشبث بكل ما قلتُه، ولعلمك، فإني أجزع من التقوقع والتخاذل في الأقوال، سواء أكانت لغيري أمْ لي شخصياً، إنما بالله عليك، كيف ينسب لي السيد وكيل الملك صفة متهم؟ أي ذنب اقترفت؟
ارتسمت على محياه ابتسامة مواربة وهو يجيبني:
ـ إنك متهم بالهجرة السرية إلى إسبانيا، وهي ليست جناية حتى تصاب بالفزع. إن ما يشغلنا حقيقة، هو جريمة انتحال الصفة، أي انتحالك لشخصية "أبي حيان التوحيدي".
ثم التفت إلى محمد شكري وطلب منه الحديث.
جال محمد شكري ببصره في وجوه الحاضرين، وكأنه يلتمس سماعه، وقال:
ـ لم أفهم شيئا لحد الآن. ولعلمكم فإني جاهل بأمور القانون، أما إذا كانت رغبة السيد الوكيل العام أن أزودكم بما أعرفه عن "أبي حيان التوحيدي" فإني على أتم الاستعداد.
حرّك الوكيل العام رأسه بالإيجاب، فتحدث شكري:
ـ عرف عن أبي حيان الشجاعة والصراحة والمجاهرة برأيه في الناس، كباراً وصغاراً، دون حرج في نشر مساوئهم ومحاسنهم، اعتقاداً منه بضرورة ذم المسيء ومدح المحسن، وكان أديباً وفيلسوفاً وخطيباً لا يشق له غبار.
ثم وهو يتأملني أكمل حديثه:
ـ لكن هذا الرجل يبدو من لهجته عراقيا، ولغته ممتازة جدا، لكنه، على ما أرى وأسمع، رجل أحمق، ذلك أن "أبا حيان" تلاشت عظامه منذ ألف عام، وقد ترك كتباً كثيرة، أذكر من بينها "المقابسات" و "الإمتاع والمؤانسة" و "أخبار القدماء وذخائر الحكماء".
وطفق يتذكر، لكنني لم أَقْوَ على تحمل كذبه، فتوجهت بكلامي إلى الوكيل العام فاضحاً إياه.
ـ أعترف أنَّ الكتاب الأول والثاني من مخلوقاتي، وإني على استعداد لسرد محتوياتهما. أما كتاب "أخبار القدماء وذخائر الحكماء"، فلا علم لي به، ولم يسبق لي أن ألَّفتُ كتابا بهذا العنوان، ولاشك أنه من مختلقات السيد محمد شكري، بل أتذكر أن الشيخ "أبا سعيد السيرافي" كان يحتفظ بنسخ لبعض كتبي، وناقشنا عناوينها دون أن يخطر ببالنا هذا العنوان.
قاطعني الوكيل العام بإشارة من يده، طالباً من الكاتب "أشهبار" أن يسرع في تدوين أقوالنا، والتفت إلى "شكري" سائلا:
ـ هل تعرف من هو الشيخ "أبو سعيد السيرافي"؟ أقصد هل هو مذكور في تاريخ الأدب؟
رفع محمد شكري بصره إلى سقف المكتب في حالة تذكر، ثم خفض بصره وأجاب:
ـ لا ياسيدي، لا أتذكر من يكون هذا الشخص.
تطلع الوكيل العام نحوي وسألني:
ـ من يكون هذا الشيخ؟
أسرعت أجيب:
ـ إنه "أبو سعيد السيرافي" مِنْ أشهر علماء عصرنا، شيخي ومعلمي، أخذت عنه النحو والكلام وأصنافاً من العلوم والمعارف، كان رحمة الله عليه من كبار النحاة والمتكلمين المعتزلة، فقد شرح كتاب "سيبويه" في ثلاث آلاف ورقة بخطه، ناهيك عن تبحره في الحساب والهندسة والمنطق، إني أستغرب كيف أن السيد محمد شكري الذي يدعي اطِّلاعهُ على كتبي، لا يعرف من يكون المرحوم السيرافي؟
قاطعني الوكيل العام قبل أن أتمم جملتي، وسأل محمد شكري:
ـ هل العلماء الذين تتلمذ عليهم أبو حيان معروفون في كتب الأدب.
ردَّ محمد شكري:
ـ بكل تأكيد.
فالتفت نحوي وسألني:
ـ وعَمَّنْ غير "السيرافي" أخذت علمك؟
ـ تعلمت كذلك على يد الشيخ "أبي سليمان السجستاني" المنطقي، كما أخذت الكثير من المعارف على يد القاضي الشيخ "أبي حامد أحمد بن بشر المروروذي"، والذي لم أتخلّ عن السير في موكب جنازته بحي الأعظمية في بغداد، مثلما لم أتخل عن الاستشهاد بمأثوراته وأقواله في كتابي "البصائر والذخائر"، أستحضر عنه رحمه الله، أنه كان ضد الألقاب الكبيرة والتفخيم في الخطاب، مستنده في ذلك، السلف الصالح الذي كان يخاطب رسول الله بـ "يارسول الله ويا محمد".
كان الوكيل العام، مثل جميع الحاضرين، يتابع حديثي باهتمام بالغ، ويحث كاتب الضبط الشاب محند أشهبار على تدوين كل التفاصيل، بل كان يسعفه في كتابة الأسماء حتى لا يقع في خطأ.
واستمر حديثي عمن أخذت عنهم علومي.
ظل الوكيل العام صامتاً إلى أن تأكد من توقفي عن حديثي، فخاطبني:
ـ إنك أيها السيد ظاهرة غريبة، وقضيتك من المعضلات الفريدة المعروضة على القضاء، وبمساعدتك لنا، قد نصل بإذن الله وعونه إلى استجلاء مكمن هذا الغموض، وإلى فك هذا اللغز المحير، وقد نعثر على الحلقة الضالة بين ماضيك البعيد وحاضرك الحالي هذا، إني أرغب في تصديقك، لكن حتى لو ثبت لدينا أنك "أبو حيان التوحيدي" ذاته! فكيف تفسر لنا قفزك على ألف عام، إذ لا يعقل أن تصل إلى الأندلس في عام 400، وبعد يومين أو ثلاثة أيام يلقى عليك القبض في عام 1423. فأين ذهبت الألف عام ونيف، أليس هذا محيراً؟!
التفت إلى محمد شكري وسأله:
ـ هل يمكن لي اقتناء بعض مؤلفات "أبي حيان" بالابتياع أو الاستعارة؟
أجابه شكري:
ـ إنني يا سيدي الوكيل العام، أحتفظ في بيتي بكتب قيمة كتبت عن مؤلفاته وعنه شخصياً، كما أتوفر على بعض كتبه، وبإمكاني أن آتيك بها قبل أن يرتدّ إليك طرفك، ولي صديق شاعر، هو أحمد اليدري، يمتلك أيضاً بعض كتبه، سأستعيرها منه في الحال، فبيتانا لا يبعدان كثيراً عن المحكمة، فهو يقيم قبالة "شركة احتكار التبغ"، وأنا في شارع تولستوي بجوار مقهى روكسي، فهل تأذن لي بالانصراف لآتيك بها؟
ـ لتتفضل، سنبقى في انتظارك.
غادر محمد شكري المكتب، فظلت نظرات الحاضرين مصوبة نحوي بطريقة فضولية، وكأنني بينهم إبليس أعيش الدهر الأبدي، مما جعل نفوري منهم يشتد ويتضخم، لأحس وكأن سحابة قاتمة السواد، لم تكتف بتغليفي فحسب، وإنما اقتحمت دواخلي، وأخذت تمتصني لأتلاشى وأختفي، مثلما تختفي الأضغاث دون استئذان صاحبها.
هل أنا حلم؟ هل أنا سراب؟ هل أنا وهْم؟
وددت لو كنت أحد هذه المخلوقات الاصطلاحية، فأعيش مثلها دون إرادة أو وعي أو إحساس، لكن مشاعري الإنسانية وإحساسي بوجودي بين الوكيل العام ووكيل الملك ومحند أشهبار كاتب الضبط، والشرطة الموجودة خارج المكتب ومحمد شكري الذي تغيَّب لإحضار ما سماه بمؤلفاتي، و "نهاوند" التي تنتظر قدومي إلى غرناطة، أو ظلت تنتظر عودتي التي لم تتحقق. كل هذه الحقائق كانت تصفعني، فتنبهني إلى أنني كائن حقيقي قائم في مكانين، أو بالأحرى في زمانين يفصل بعضهما عن بعض زمان يحسب بالقرون.
فكرت في كتبي ومؤلفاتي، تلك التي أضرمت فيها النار غير آسف قبل مغادرتي بغداد، إنها أيضا حقيقة ثابتة، فأي كتب ينسبها محمد شكري إلى شخصي؟ تلك التي تغيّب لإحضارها، هل كتبت بعد رحيلي فنسبت إليَّ زوراً؟

(5)

في غفلة عن إرادتي، طفا إلى سطح ذاكرتي وجه العرّاف "ابراهيم السوسي"، أشهر فقهاء وعَرَّافِي بلاد سوس. يا إلهي، كيف ظل مختفياً بالرغم من استحضاري لكل من التقيت بهم بحاضرة فاس. الآن أتذكر كل شيء، كان لا يجالس سوى السلطان المغربي المغراوي المعز بن عطية، وحتى الحاشية السلطانية وكبار شيوخ القبائل لا يستقبلهم إلا إذا أذن له السلطان بذلك. تحضرني تلك الواقعة من ألفها إلى يائها، وأنا بحضرة وكيل الملك والوكيل العام، ربما كانت غائبة عني بسبب كراهيتي للسحرة والعرافين، أجل، كنت أمقت السحرة، فأعلنت عن رأيي هذا لأصدقائي الفاسيين، وكانوا منقسمين حول هذا الفقيه السوسي بين مدافعين شاهدين له بالتقوى والكرامات، ونابذين يرمونه بالمروق والخروج عن الشريعة، فانضممت أول الأمر إلى الفئة الأخيرة، مستندا إلى قول النبي (ص) "من أتى كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد (ص)"، وهو حديث صحيح رواه البزار. لكني وافقت بعد أن تأكدّ لي تمسك الرجل بالشريعة ورغبته النبيلة في أن يطلع على علومي في التصوف والمنطق والنحو، وكذا تحصيله لإذن خاص من عظمة السلطان لمقابلتي.
هكذا وبعد أن سبقه رقاص أخبرني بقدومه في موعد حدده، حضر إلى مقر إقامتي في فندق ضيوف فاس، مصحوبا بحارسيْن من قوات دار المخزن، لكن الحارسَيْن بقيا في انتظاره بالبهو إلى أن عاد إليهما قبيل أذان الفجر.
أجل، استقبلته في غرفتي وأنا في أقصى ما يكون عليه الحرص واليقظة، كانت الليلة باردة، فسقيته مما كان متوافراً بغرفتي من عصير القرفة والزنجبيل، وطال سمرنا وتشعّب حديثنا إلى أن رُفعت الكلفةُ بيننا، فكذبنا على معدتيْنا بتين وزيتون فاسيين وبلح فكَيكَي، وأنا أُسمعه ما استهواه ورغب في مزيد من سماعه من فنون النحو والمنطق والكلام، كما روى لي ما زادني علما بالفوارق بين الكرامات والمعجزة والسحر، فالكرامة لا تقع إلا اتفاقاً، والمعجزة تمتاز عن الكرامة بالتحدي، أما السحر فلا يؤتى إلا من دجّال فاسق يستعين بالشياطين.
وشنّف سمعي بخوارق كثيرة متنوعة قام بها لإبطال أنواع متعددة من السحر، كسحر تعطيل الزواج، وسحر التفريق بين الزوجين، وسحر الخمول، ونماذج لعلاج جميع أنواع هذا السحر بآيات قرآنية وأدعية شرعية، وخاض في حديثه عن سحر المحبة للجمع بين الرجل والمرأة المتحابين، كما صارحني بتفوقه وبراعته في السحر الحلال البعيد عن الشرك بالله.
راقني أني وجدته متحدثاً بارعاً ملماً بخبايا النفوس والمشاعر النفسية القصية وهواجسها الخفيّة، مما جعلني أضعف فأبوح له بعشقي وتعلقي بـ "نهاوند"، ولربما لرغبة دفينة زَلَّ لها لساني، فانزلقت منه أسئلة عن رُقْيَةٍ أو كرامة تحفظ العهد والحب بيني وبينها لتظل في انتظاري إلى أن أقابلها بالأندلس، شريطة أن لا يكون لهذه الرُّقْيَةِ أو الكرامة علاقة بالشرك بالله. فاستبعد انشغاله بما يخالف الشرع، وأكَّد لي أن الرّقى نوعان: نوع يخالف الشرع، فيدخل في باب الشرك، وآخر جائز لابتعاده عن الشرك، وأسمعني حديثاً شريفاً صحيحاً رواه مسلم في كتاب السلام، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا بأس بالرّقى ما لم تكن شركاً".
ـ ولكن الأمر يتعلق أيضاً بالمدة التي ستبقاها في الأندلس؟!
سألني، وبعد أن فكّر قليلا، أضاف:
ـ سأعمل حِسَابَ ذلك، سأنجز لك رقية من أهم وأنجع ما ألهمني وحباني به عَزَّ وجَلَّ، بعد سنوات من الدعوات والخشوع والأرق والإرهاق، وهي رقية ستحفظ عقلك وبدنك ما طوّح بك الزمن بعيداً عن بغداد.
أسرعت أجيبه، كاشفاً له سري:
ـ لكني لن أبقى بعيداً عن "نهاوند" إلى أن أعود إلى بغداد، إنها في طريقها هي أيضاً إلى غرناطة، وهناك سأقابلها.
عاد يفكر ثم خاطبني:
ـ لو أنك تحتفظ الآن بما كانت تستعمله "نهاوند"، منديل أو خاتم مثلا، لأعددت لك في الحال رقية مماثلة تحصنها وتحفظ عقلها وبدنها مثلك، إلى أن تلتقيا.
أسرعت أفتح صندوق ثيابي، يفضحني حبوري ودهشتي، وأخذت ألقي بقطع الثياب فوق الأرض قطعة قطعة، إلى أن وقعت عيني ويدي على تكة ثم بخنق، فأشرت بهما إلى العرّاف ابراهيم السوسي دون أن أفوه بأي كلام. فابتسم وقال لي:
ـ ناولني البخنق.
أخذه مني ومرّ به على أنفه يشم رائحته، ثم أخرج ورقاً صقيلا من قرابه، أخذ يدعك البخنق به، قبل أن يخط رقيته بذات الورق.
ما إن مرّت أحداث هذه الواقعة بذهني حتى انتفضت في مقعدي، وكأن يداً خفية عن الأنظار امتدت إليّ فأمسكت بتلابيبي، وهزّتني هزاً تنبهني إلى ما حدث لي مع الساحر "ابراهيم السوسي" في فاس، مما جعل الوكيل العام للملك يسألني مندهشاً إن كنت بأتمَّي، فطمأنته بحركة من رأسي على سلامتي، لكنني في داخلي كنت شواظاً من نار.
كيف احتجبت هذه الواقعة عن ذهني، وفكري كله كان مصوباً إلى ما بداخلي وإلى ما تخلل رحلتي!؟ كيف لم تخطر ببالي، مع أنها تكاد تكون الحلقة المفقودة بين ماضيَّ وحاضري؟ أنا العالم المنطقي الفيلسوف الصوفي، المسخر لجمع حواسي وقدراتي الطبيعية والمكتسبة بحثاً وتدقيقاً عن مصدر همّي وغمّي وكمدي، أستحضر كل من قابلتهم في "حاضرة فاس" و "قصر كتامة" و "ثغر أصيلا" و "ثغر طنجة" و "ثغر طريف" يغيب عن ذهني أبرز وجه وأخطره لرجل ساحر كاهن فقيه، ابتليت به في تلك الليلة الليلاء، ليكون السبب في تغيير مصيري وقدري؟
أجل كل ما أعانيه لن يكون مرده إلا لتلك الرقية التي أعدّها لي "ابراهيم السوسي"، وأمرني بحفظها بجوار قلبي.
إنه السحر بعينه، السحر الذي جعلني أقفز على ألف عام.
ولعل "نهاوند" بفضل هذا الساحر المغربي، قد قفزت هي الأخرى على الألف عام، وهي دون شك قد استعادتها الحياة مثلي، و لعلها تبحث عني في مكان ما. إنما كيف سيقتنع الرجال بهذه الواقعة الحقيقية؟ من سيصدقني؟ من يصدق آثار هذا النوع من السحر؟

(6)

ظل رأسي متصدعاً إلى أن حضر محمد شكري، دخل وبيديه مجموعة كتب، يساعده في حملها رجل قصير القامة، مترهل الجسم، أشقر الشعر أشعثه، ذو وجه مُشْرَبٍ بحُمْرَة.
وضعا الكتب فوق مائدة الكاتب محند أشهبار، وقدم شكري إلى الحاكِميْنِ مرافقه قائلا:
ـ إنه "الروبيو" صاحب دكان بيع السجائر والصحف المجاور لبيتي، وهو صديقي قبل أن أتعلم القراءة والكتابة، فابتسم الجميع محرّكين رؤوسهم بتحية خفيفة، رد عليها "الروبيو" بحركة مماثلة دون أن يخفي ارتباكه وغادر المكتب.
طلب الوكيل العام من الكاتب محند أشهبار نقل الكتب إلى جواره، وأخذ يقرأ عناوينها بصوت سمعناه جميعاً:
ـ "البصائر والذخائر"، "الإمتاع والمؤانسة"، "المقابسات"، "الإشارات الإلهية".
توقف عن القراءة، وخاطبنا:
ـ إن الاطلاع على مضامين هذه الكتب يتطلب شهوراً.
ولم أطق صبراً، فقاطعت الوكيل العام:
ـ سيدي، إني أرفض أن تنسب هذه الكتب إلى شخصي، ذلك أنني أضرمت النار في مؤلفاتي جميعها قبل أن أغادر بغداد، ثم ما جدوى الإطلاع على الكتب ومناقشتها؟
انتفض الوكيل العام في مقعده وخاطبني مُرْغِياً:
ـ أنت لست إذن "أبا حيان التوحيدي" الحقيقي، ولذلك تتنصل وتبرر جهلك بمضامين مؤلفاته، فلا تَنْسَ أن الكتب المنسوبة إليه وقع تحقيقها من لدن علماء ثقات، فكيف تتبرأ منها وتدعي أنك "أبو حيان التوحيدي"؟
ـ إنني لا أتبرأ، وإنما أحيطك علما بأني جعلتُ جميع مؤلفاتي حطباً للنار دون أن أُبقي على واحد منها!
ـ وماذا كان الداعي لإحراق كتبك وبيدك؟ ما سمعنا عن شخص قام بإحراق مؤلفاته!
ختم هذه الجملة الأخيرة بضحكة جوفاء، فأجبته:
ـ نعم يا سيدي، هناك العشرات من العلماء الذين أضرموا النار في كتبهم، وبذلك فإن لي في إحراقها أسوة بأئمة، اقتديت بهم واهتديت بهديهم.
ـ مَن هم هؤلاء الأئمة والعلماء الذين أحرقوا كتبهم؟
سألني الوكيل العام، وطلب من الكاتب أن يدون جوابي بدقة فأسرعت أجيبه:
ـ "أبو سليمان الداراتي"، الذي جمع كتبه في تنور وسجرها بالنار. ومثل "داود الطائي" الذي ألقى كتبه في البحر، و "أبي عمرو بن العلاء" الذي دفن كتبه في باطن الأرض فلم يوجد لها أثر، وشيخي "أبي سعيد السيرافي" سيد العلماء. إنني يا مولاي حين أحرقت كتبي كنت أعاني من حالة نفسية متردية، وقد تتفق معي على أن الإنسان حين ينحدر إلى غروب عمره وتنكشف له تفاهة الدنيا، تتبدد آماله، ولا يلبث أن يدرك معنى العبث بكل حدته وقسوته. هكذا، حين كنت أنظر إلى كتبي، كنت أراها تجسيداً معبراً عن إخفاقي في الظفر بما كنت آمله من مجد أدبي، ولذلك لم أر داعيا للتمسك بها أو الحرص عليها، فقمت بإضرام النار فيها.
ـ إذا كانت الحال كما تقول، فمعنى هذا أنك لست مؤلف هذه الكتب التي بين أيدينا؟
وتدخل محمد شكري، مستأذنا في الكلام:
ـ سيدي الوكيل العام، المعروف عن أبي حيان التوحيدي، والذي تؤكده هذه الكتب التي بين أيدينا نفسها، أنه أضرم النار في جميع مؤلفاته، إلا ما نجا منها من نسخ ظلت في حوزة أصحابه، ولذلك لم يصل إلينا منها إلا حوالي عشرين كتاباً على ما أتذكر.
فرد الوكيل العام كمن يخاطب نفسه:
ـ من الحكمة إذن التريث، وعدم مناقشة المتهم في مضامين هذه الكتب إلى أن يتم الاطِّلاع على ما نختاره منها، مع مزيد من البحث.
والتفت نحوي، تعلو وجهه ابتسامة تعبر عن قناعة مؤجلة بشخصي، وقال لي:
ـ هل توافق على ماقاله السيد محمد شكري؟
حركت رأسي بالإيجاب، وقلت:
ـ فعلا، فقد سبق لي أن قمت بنسخ بعض مؤلفاتي، وأهديتها إلى ثلة من شيوخي وأصدقائي ومريديّ، غَيْرَ أن عددها كان لا يزيد عن عشرة كتب، أو لربما ضعف هذا العدد، لا أذكر. أما أكثر المخطوطات والبحوث والدراسات، بل جميع ما كنت أحتفظ به، من كتبي وكتب غيري، فقد أضرمت فيه النار استجلابا لراحة نفسي.
جال الوكيل العام ببصره في وجوه الرجال، يستطلع ذهولهم، وخاطبني:
ـ أما زلت تذكر من أهديتهم كتبك؟
ـ واحدا واحدا، وفي مقدمتهم الوزير "أَبُو الفضل بن العميد"، ذلك أنه الوحيد الذي عوضني عن تلك الكتب، لكن مقايضته غير المتوقعة كانت من نوع غريب مؤثر، فاعل فيما حدث بعدئذ في مسير حياتي كلها. وإذا سمح المقام، فإني على استعداد لسرد تلك الواقعة التي لم أؤرخ لها ولا دونتها في أي كتاب.
ـ تفضل، إننا على استعداد لسماع هذه القصة.
نظرت بدوري إلى وجوه الرجال الصامتة، فرأيت وجه محمد شكري أكثرهم ذهولا وقلقاً، فقد كان ينظر إليّ كالمأخوذ، فبسملت وقلت:
ـ كل شيء ابتدأ في ذلك الصباح البغدادي الرائق، حين نَقَرَ باب منزلي رسول يحمل في يده كتاباً من "الوزير أبي الفضل بن العميد"، فتحت له الباب وتسلمت منه الكتاب، فرمقت سيدة تقف خلفه، لم أحفل بوجودها، إذ حسبتها زوجته أو إحدى بناته، فقد كانت كسائر النساء تحجب وجهها وجسدها بعباءة وخمار أسودين، لكنه قبل أن يهم بالانصراف، بادرني بقوله:
ـ إن سيدي الوزير، يهديك سيدتي "نهاوند"، وأشار إلى مرافقته.
لن أزعم أني لم أرتبك، فلم تكن العادة أن يُهدى رجل من عامة الناس امرأة أو جارية، لكنني أخفيت ارتباكي وتصرفت كما لو أن الأمر عادي، فدعوت المرأة إلى الدخول، وودّعت الرجل بعد أن حمَّلته شكري وامتناني إلى سيده الوزير، وأوصدت باب داري.
في داخل الدار، والمرأة تقف بجواري، ألقيت نظرة سريعة على كتاب الوزير، فوجدته يوصيني خيراً بـ "نهاوند"، ويهديني إياها جزاء ما أمتعته به من أمهات المؤلفات، لكن عبارة "أجمل محظياتي" الواردة في الكتاب استوقفتني، لتملأ رأسي بالتساؤل، ذلك أني أعلم أن المحظية في سلم الحريم، أعلاهُنَّ درجة، فهي لا تُشَرَّفُ بهذا اللقب إلا بعد أن يقع تفضيلها على جميع الجواري، لكنها ستكون لدي امرأة بدون ألقاب! قلت في نفسي.
والتفت إليها لأستنبط من الخبر حقيقة المعنى. في تلك اللحظة رمقتها وهي تضع خمارها فوق حاشية سجادتي الشيرازية، بعد أن خرجت من عباءتها إعلانا بدخولها في عصمتي ومتاعي، فأصابني الدُّوار من فرط المفاجأة إلى أن تماسكت حتى لا أقع على الأرض، ذلك أني وجدتها عفراء، فاتنة الحسن، ممشوقة القَوام، ناعمة البشرة كمرمر فارسي، بيضاء كعاج هندي، وبعينيها الواسعتين كحل طبيعي آسر، إنها نموذج جمال المحظيات في قصور الخلفاء.
يا إلهي، مجرد مؤلفين من بنات أفكاري، وكتاب الحيوان للجاحظ كنت قد نسخته بيدي، وبعض كتب أرسطو المترجمة من السريانية إلى العربية على يد صديقي أبي زكريا يحيى بن عدّي النصراني، وها أنا أجازى بامرأة مغلفة بالسحر حدّ الافتتان والدهشة.
حسناً فعلت بإهدائي الوزير "أبي الفضل" تلك الكتب، وإلا ما كنت لأقف شاهداً على ما تحدثه المرأة في أحوال الرجل.
توقفت عن الكلام متأملا تلك الأيام، فضحك محمد شكري، وطلب مني أن أستمر في حديثي، وابتسم الوكيل العام وهو يشير عليَّ بيده أن أواصل سرد قصتي، فاستأنفت القول:
ـ ظلت "نهاوند" منتصبة بجواري نخلة باسقة، ومن انشراح محياها عرفت أنها سعيدة بقدرها، أنا أيضا بقيت مأخوذاً، لكنني نزعت عقالي من فوق رأسي، وألقيت به فوق البساط الفارسي نفسه، وصرت دون إرادتي أتلمس شاربيّ وأفتلهما بأصابع يدي، والنشوة تشتعل في فؤادي، فكلنا محكوم بإرادة الله ومشيئته، أليس القدر هو الذي سخّرها مملوكة لي، وسخّرني مالكاً لها؟ تلك مشيئة الله.

(7)

ـ كم مدة بقيت مع "نهاوند"؟
 سألني محمد شكري.
ـ ثلاث سنوات هي كل ما تناسلته أيامي مع "نهاوند"، وقبلها لاشيء يستحق نبش تفاصيله. ثلاث سنوات تغير خلالها طبعي وديدني، حتى شيطان ترسّلي انقلبت أحواله، أضحى يكشف لي عن مكمن المكارم والشجاعة بعد أن كان يفضح لي اللؤم والجبن، يرشدني إلى المحسن لأمدحه عوض أن يدلني على المسيء لأذمه.
تلكم حقائق مبهرة. فقبل "نهاوند"، كان طبعي أن أتتبع نقائص الناس وأن أحفر عنها، لدرجة أني كنت قد بلغت الذروة في الذَّمِّ والهجاء، حتى زاحم ترسلي مكانة الهجاء في شعر "جرير" و "الفرزدق". لكن بمجيء "نهاوند" صارت أيامي رائقة، لتصير معها نفسي تحس بالطلاوة في كل شيء. تلك خاصية العشق، فهو قادر على تحويل مصائرنا من طريق النار إلى طريق النور، فمن لا ينعم بالنور في الأرض سوف لن ينعم به في السماء.
هكذا صرت أرى الأشياء أنا الكهل النازل من الظهيرة، وهي الحسناء الربيعية القادمة من الضحى، وتمنيت لو تمدني بولد ذكر أصقل عقله بما حباني به الله من علم ومعرفة، فأسعدَها أن يكون لي معها نسل، لكن مولانا "أبا الفتح وريث والده أبي الفضل بن العميد"، أجهض حلمنا حين استعادها إليه نكاية فيَّ وعقابا بي على كتابي "مثالب الوزيرين" الذي فضحت فيه والده.
بعد رحيلها أظلمت الدنيا من حولي، فصرت كمن ضل طريقه، ولم أعد أطيق البقاء في المشرق، أضرمت النار في مؤلفاتي جميعها، وقررت الرحيل بعيدا، دون أن أحدد وجهة معينة، إذ ازدحمت في رأسي فارس مع الهند مع السند، وحين حضرتني الأندلس، أمسكت بها، وألغيت ما عداها، وأخفيت قراري عن جميع بني البشر، إلا عن نهاوند، التي حين علمت بعزمي على الهجرة إلى الأندلس، سرّبت لي مع وصيفتها خبراً، مفاده أنها ستظل في انتظاري إلى أن أعود ويقضي الله أمراً كان مفعولا.
في يوم آخر، ومع الوصيفة ذاتها، أبلغتني أجمل خبر تلقيته في حياتي، مُفَادُهُ أنها أفلحت في الانضمام إلى حريم أحد التجار من معارفها، وسترافقهن ضمن قافلة تتأهب للسفر إلى غرناطة، طالبة أن أظل كاتماً سر سفري.
من فرط سعادتي لم أنم تلك الليلة، لكن قبل أن تغادرني الوصيفة، حمّلتها كتاباً موجزاً، مبهما لمن قد يصادفه سواها، من غير أن أشير فيه إلى مرسله، ولا إلى متلقيه، قلت فيه بالحرف الواحد: "كل صباح يوم جمعة، عند مدخل جنة العريف بالمدينة المقصودة، إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولا".
كنت على يقين كامل، من أنها بفطنتها وذكائها ستعرف أن موعد لقائنا سيكون في صباح يوم جمعة عند مدخل حدائق جنة العريف في غرناطة، ففي هذا الوقت، ينشغل الناس بالاغتسال وارتداء الحلل النظيفة، استعداداً لصلاة الجمعة، كما أن النسوة في هذا الوقت يتبادلن الزيارة مما يتيح لنا التردد كل صباح يوم جمعة على جنة العريف إلى أن نلتقي.
ـ جميل، رائع.
صاح محمد شكري وأضاف:
كيف تم لقاؤكما في غرناطة؟
ـ لم نتقابل، إذ رأيت الدرب دوني، فقد ألقي القبض عليّ في مدينة "المُنَقّب" الساحلية، قبل أن أبلغ غرناطة، ولعل "نهاوند" قد وصلت إليها قبلي، ولربما هي الآن تتردد كل صباح على حدائق جنة العريف منتظرة قدومي.
ـ تقول إنها تتردد الآن على جنة العريف. أَتعلم أن الآن هذه قد مرّ عليها عشرة قرون؟
علق شكري وسألني، لكنني لم أجبه، فعاد يسألني من جديد:
ـ أكتبت شيئاً عن سنواتك الثلاث مع "نهاوند"؟
ـ سبق وأن قلت بأنني لم أدون شيئا عنها، إنني فوق مرتبة الكتابة عن النساء، ذلك أن الشعر وحده في اعتقادي، دون الترسل، ما يُنظم عن المرأة، لكن الحديث عنها في المجالس الرجالية الخاصة، لا يضر بمقام الفقهاء، أو ينال من هيبتهم.
ـ وهل نظمت فيها شعرا؟
سأل محمد شكري في عجلة من أمره.
صمت الجميع وكأنهم تضامنوا مع سؤاله، فاعتدلت في مقعدي، ورفعت رأسي إلى سقف المكتب، باحثاً عن مقاطع تناسب المقام، وأنشدتهم مما أحفظه عن أحد شعراء قصر كتامة:
آهٍ مما أضرَّ بي من غرامي
واشتياقي ولوعتي وغليلي
سادتي هل إلى الوصالِ سبيلٌ
إنّني لم أجدْ له من سبيلِ
فارحموا مَنْ شكا لغير رحيمٍ
كم له في ذوي الهوى من قتيلِ
ناله عِزُّكُم وذَلَّ لديكم
فاعجبوا منه للعزيز الذليلِ
وبشوقي بعثتُ قلبي رسولا
فارفقوا لا يُحلُّ قتل الرسولِ
حرك الوكيل العام رأسه مبتسماً، وخاطبني:
ـ لنَِعُدْ إلى الموضوع، أين اختفت الألف عام وأنت مازلت هو أنت؟
ـ أعترف يا سيدي بأنني محاصر بهذه الواقعة التي تكاد تتلف عقلي، والتي حثتني أكثر من مرة على الانتحار، ولولا إيماني بالله ما كنت لأتقي شر نفسي الأمّارة بالسوء، "ومن يَتَّقِ الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب"، صدق الله العظيم.
وضعت رأسي بين راحتي يدي، وطفقت أفكر باحثاً عن الحلقة المفقودة في حياتي، تلك التي كان للعرّاف "ابراهيم السوسي" يَدٌ فيها دون شك، لكنني شخصياً لا أومن بالسحر.
لكن الوكيل العام مزق حبل تفكيري حين عاد لسؤاله:
ـ أين تظنّها اختفت الألف عام؟ ماذا حدث لك في إسبانيا؟ أتتذكر واقعة معينة لها صلة بهذا الموضوع؟
ـ نعم أتذكر.
قلت، وخفضت رأسي مفكراً، متذكراً تفاصيل ما حدث في العدوة الأندلسية، فأسرع الوكيل العام يحثُّني بأسلوب لبق على الحديث:
ـ تكلم، اسْرُدْ كل ما تتذكره من أيامك في اسبانيا، منذ أن ركبت البحر من الساحل المغربي إلى أن ألقي عليك القبض هناك، فلنا متسع من الوقت لسماع كل ما تجود به ذاكرتك، تفضل، توكل على الله.
ـ حين وَطِئَتْ أقدامنا أرض الأندلس في بلدة "طريف"، وكنت ضمن القافلة التي غادرت فاساً، استأجرنا ثلاثة فرسان بخيولهم وأسلحتهم، ليكونوا حراساً ودليلا لنا إلى غاية بلدة "المُنَقَّب"، التي قيل لنا إنها تبعد مسافة ستة أيام، وبها قد نستعين بدليل آخر يرافقنا إلى "غرناطة" التي لا تبعد بسوى مسافة يوم واحد.
كان الصباح بارداً، فسارت قافلتنا في حفظ الله ورعايته، دون أن نتعرض لمكاره أو مخاطر، إلا ما كان من وعورة بعض الطرق والممرات والمسالك الجبلية الصاعدة النازلة المشرفة على البحر أحيانا، والقاصية عنه أحياناً أخرى.
مررنا بقرى ومداشر ووديان وأنهار، تثير الإعجاب والدهشة، لدرجة أن بعض المشاهد أيقظت بفؤادي مشاعر كانت آسنة، حتى أنني نظمت عنها شعراً.
نعم، أقرّ بجمال منتزهات فاس وعجائب ساحل بحر الظلمات، لكنَّ لهذه الأندلسية فرادة وطعما آخر، مذاق شراب ساحر يسكر بمجرد وقوع البصر عليه، كان البحر الرابض دوماً بين تلك الجبال والهضاب والسفوح، يزيد الأنفس تجليا والطبيعة إجلالا، حتى المطر المتساقط فوق رؤوسنا، بدت لنا زخّاته دموع فرح سماوي نزلت لتخفف عنا محن الطريق ونوائبه.
ربما اندثرت اليوم تلك المدن والمداشر والوديان والأنهار، أو هي قد لا توجد إلاَّ في بطون الكتب، لكنها بالنسبة لزماني الخاص بي مازالت لدي طلية طرية، إذ لم يمر على رحلتي هذه سوى بضعة أيام، يالفظاعة القدر!
سكت عن الكلام بعد أن انتبهت إلى أنني خضت في حديث قد لا يروق الوكيل العام، وقبل أن أبادره بتقديم عذري، قاطعني مبتسما.
ـ أرجو أن تستمر في حديثك بالكيفية التي تريحك، إننا جميعا نستمتع بجميع تفاصيل رحلتك، إنك أيها الشيخ متحدث باهر ماهر، تعرف كيف تستحوذ على العقول، استمر لا تتوقف؟
شكرته وأضفت:
استقبلتنا مدينة "المُنَقَّب" بمساءٍ شاتٍ، عاصفٍ بالرياح والزوابع والتعب والإرهاق، وجدنا الظلام قد سبقنا، ناشراً رداءَهُ الأسود عليها، فحجب عنّا كل الكائنات من دور وبحر وهضاب، حتى الأرض من تحت حوافر دوابنا تحوّلت إلى سَوَاقٍ جارية بسيول المياه المنسابة من أعالي الجبال، فاستحال علينا دق أوتاد خيامنا فوق ذلك الزمهرير المتدفق المصم للآذان، مثلما استحال على كل واحد منا البقاء فوق ظهر دابته، والماء فوق رأسه وتحت أقدام مركوبه مِكرٍّ مِفرٍّ مُتدفق.
عَدَّ بعضنا هذا الاستقبال نذير شؤم، لكنني شخصياً كنت قد اعتدت أن لا أتوجس شراً إلاَّ من بني آدم، وليس من غضب الطبيعة.
ظللنا وقتاً من الزمن نتحسر على حالنا كالأيتام، إلى أن اهتدينا إلى مغارات صغيرة تزدان بها الجبال، أرشدنا إليها حراسنا الفرسان، فقيّدنا خيولنا وبغالنا وحميرنا تحت وابل مطرٍ عاصف في ظلام سميك، كأنه شيء مادي قابل للقطع بسيف أو خنجر، لدرجة أن كلابنا خشيته، فلحقت بنا إلى المغارات متخلية عن حراسة الدواب.
كنت آخر من اهتدى إلى مغارة نائية منعزلة، دخلتها والبرد موشك على تجميد مفاصلي وقبض أنفاسي، فاستبدلت بثيابي المكسوة بالماء قفطاناً فاسيا لا يرتديه إلا أكابر القوم عند استقبال ضيوفهم، وليس أثناء نومهم، كنت أعرف هذا، لكنني قلت في نفسي، إن للضرورة أحكاماً.
وفاتني أن أقول، إنني قبل أن أرتدي القفطان الفاسي، كنت قد لبست تكة عراقية وفوقها غلالة عراقية أيضاً، وبالرغم من ذلك ظلت أوصالي تصطكُّ من هجمة البرد، فنهضت وأضفت فوق القفطان، بَقيراً وشملة عراقيين ثم جلباباً فاسياً صوفيّاً بقب كبير غطّيتُ به رأسي بعد أن دثرته بكوفية وطرحة عراقيتين، فاكتنفني دفء معقول، لعله كان السبب في أني ما إن توسدت سرج حصاني ووضعت خنجري بجانبي حتى داهمني سبات عميق، وكأنه حسام مهنّد أَهْوَتْ به يد مجهولة على مفرق رأسي، فأوقفت تشغيله في الحال.
وحين استعادتني الحياة، وجدت الظلام ما زال مخيماً على المغارة، ففزعت، إذ حسبت نفسي قد صحوت قبل طلوع النهار، مستبعداً أن أكون قد نمت ليلتي ويوماً كاملاً دون أن يتولى رفاقي إيقاظي. لكن الشك لعب برأسي، فمادامت المغارة نائية فلِمَ لا يكون مرافقيَّ قد ضلوا الطريق إليها فتركوني نائماً.
قمت أبحث عن المنفذ الذي تسللت منه، فزكمت أنفي رائحة رطوبة عطنة. وبعد طواف وتطواف، تأكد لي أن المغارة مغلقة، ولاشيء بها يسرب الضوء أو الهواء، أو يتيح لي الخروج منها، ذُعرت، فأمسكت بخنجري، وطفقت أقرع به الجدار وأحدث ضوضاء وصراخاً عسى أن يُقَيِّض الله لي انتباه أحد مرافقيَّ، فيسرع لنجدتي.
قرعت وقرعت وقرعت، وصرخت وصرخت وصرخت، فما انتبه أحد إلى قرعي أو سمع صراخي، فاستبدلت بخنجري سرج حصاني، نزعت عنه الركاب وصرت أقرع به ذا الجدار وذا الجدار، محدثا دوياً يخترق سمع الأصم، كنت لا أتوقف إلا بعد أن يكل مَتْنِي، فأعيد مواصلة الدق والقرع والصراخ، وأعيد وأعيد، إلى أن صار يقيني بأن ذلك الجحر المسكون بالظلام، سيكون الشاهد الوحيد على نهاية حياتي، وأن قلبي الذي تتسارع دقاته، مثلما تتسارع دقات الطبل إعلانا لخاتمة وصلة الغناء، سيتوقف بعد لحظات لتختتم وصلة وجودي.
"إنَّ عِلمَنا لو أحاط بموتنا متى سيكون، لكان ذلك مفسدة لنا، ومحنة شديدة علينا، فالجهل بالشيء راحة، والعلم بالشيء تعب".
سبق أن قلت هذا متفلسفا متخيلا، وها أنذا أعيشه حقيقة وواقعا،ً ألمس بجميع حواسي مفسدتي ومحنتي ونهاية حياتي.
أفكار مثل هذه وحدها، كانت تطرق رأسي، فشعرت بالوهن، ولم تعد قدماي تتحملان ثقل جسدي، ولا عادت يدي تقوى على الإمساك بالركاب لقرع الجدار، وبعد أن سقطت على الأرض مستسلماً لقدري ناطقاً بشهادتي، دوّى في أذني صدى لطرق من الخارج، فأرخيت سمعي لأتبين الأمر بإحساس من يستمع إلى منطوق حكم بإقامة الحد عليه في جناية كبرى بالإعدام أو البراءة.
تأكد لي الطرق من الخارج بوضوح لا لبس فيه، فأحسست بعينيَّ تغرورقان بالدمع إعلانا عن ولادتي من جديد،. أنا إذن رجل حي يرزق، هناك سعي حثيث في الخارج لإنقاذي، كنت أعرف أن شهامة رفاقي المغاربة لن تجعلهم يتخلون عني في مغارة مهجورة، ويحلو لهم سفرهم إلى غرناطة. ما كانت شيم مريدي سُنَّةِ مالكٍ خَلْعَ أصحابهم، وقد عاشرتُهم وخبرتُهم زمنا تضيع أيامه في العد.
لم أدر كيف غشيتني عافيتي، واشتدّ بأسي، لأجد نفسي وقد انتصبت واقفاً على قدمي، فتناولت ركاب سرجي وسط ظلام القبو، وصرت أقرع الجدار بكل ما أُوتِيتُ من قوة مستعادة خارقة، وأصرخ بذات القوة نفسها:
ـ أنا "أبو حيان التوحيدي"، أغيثوني، أغيثوني!!
ازداد هدير المعاول المنبعث من الخارج حقيقة قائمة كاسمي وصراخي، كشمس الهجيرة وبغداد وفاس، وبقدر ما كانت دقات الحفر تقترب، كنت أقترب من الحياة.
لم أدر إن كان الجدار قد تحطم، أم إن أولئك الرجال انبعثوا معي بداخل المغارة، ذلك أن نوراً كلمح البرق كان قد أعمى عيني فلم أتبيّن منهم إلا أصواتاً ترطن بكلام غريب لم تسمعه أذني من قبل، بعد ذلك شعرت بِأَيْدٍ تمسك بي وتقتادني في مجاهل لم أتبيّنها، إلى أن استعدت بصري بداخل مكتب شبيه بمكتبكم هذا.
بعد أن سقوني ماءً ولبناً، وألقموني رغيفاً حدَّ الارتواء والشبع، بدأت أسئلتهم تتقاذف من حولي، مرّة عن كيفية وجودي بذلك المكان، ومرّة أخرى عن الطريق الذي سلكته إلى الأندلس، ومرّة عن أسماء وأوصاف رفاقي، كان أحدهم يتحدث بعربية ما، هو الذي تولى وساطة الترجمة، فشرح لي أَنَّهم لم يصدقوا كلمة واحدة من كل ما أخبرتهم به، ولا هو نفسه صدّق ذلك، وذكر لي أَنَّ بناء ضخماً كان مقاماً بمكان وجود المغارة منذ سنين بعيدة، لا يضبطها سوى المختصين في علم الآثار الإسلامي، وأنه يستحيل على أي كان من بني آدم ولوج تلك المغارة والبقاء بها حيا،ً فعدّني الجميع مجنونا وقال أحدهم عني أنّي مجرد شبح.

(8)

ذلك ما حدث بالأندلس، لكن قبل ذلك وأنا في فاس، كنت قد التقيت بعرّاف مقتدر يدعى "إبراهيم السوسي"، فأعدّ لي رقية، كما نسميها في العراق، أو لنقل حرزاً كما تسمونه في المغرب، وأخبرني بأنها ستحفظ بدني مادمت بعيدا عن بغداد، فهل لهذا السحر علاقة ببقائي على قيد الحياة كل هذه السنين؟ هل أفلح ذلك الساحر إلى هذه الدرجة؟ لعله كان السبب في بقائي نائماً بتلك المغارة مدة عشرة قرون، هذا ما أرتاب فيه، غير أنّ ما أعرفه عن نفسي، هو أنني أبو حيان التوحيدي، وأعرف خلاني ومعارفي وتاريخ وآداب وفلسفة المسلمين قديمها وحديثها إلى زماني الذي عشته، والمتوقف في عام 400 هجرية. أما ما جاء بعده فهو لدي في عداد الغيب. "إن الله إذا أراد نجاة عبده تولاه بلطف من عنده". صدق الله العظيم.
ظلت عيونهم جاحظة مشرئبّة نحوي في خشوع وذهول، لكن الشاب "محند أشهبار" الكاتب، وفي غفلة مني ارتمى عليَّ يعانقني، فترك بخدّي شيئاً لزجاً ساخناً، عرفت أنها دموعه، وأن ما فعله جاء تعبيراً عن تصديقه لروايتي.
أجل، صدّق أصغر الرجال أنّني أبو حيان التوحيدي القادم من دهور ولت وانقضت، وإلا ما كان ليبلل خدّي بما فاضت به عيناه دون إرادته.
أراحني ما فعله الشاب، خفف عن كاهلي بعض ثقل همومي، دلني على أن منطق ووعي الرجال لم يطرأ عليه سوى تغيير طفيف، وأن الأحاسيس ما زالت توازي الأدلة العقليه، فمن يستعص عليه الاحتكام إلى البرهان العقلي يسخرْ أحاسيسه لتكون دليله.
واكتنفني شعور قوي بأن دورهم آت لاريب فيه، وأن الأمر يحتاج إلى بعض الوقت كي تلين مداركهم، فما دام الطرق مشتداً، فإن عقولهم لن تنفك تنفتح ليتقبلوا هذا الواقع، واقعي هذا الأسطوري المحير، وهو واقع والله يستعصى هضمه ويصعب تصديقه، فأنا نفسي أكاد لا أتقبله، بالرغم من أني صاحب الشأن، القادم إليهم من حقبة زمنية أعرفها ويجهلونها، الشاهد الأوحد عليها، على أيامي تلك البائدة التي أنا وحدي الأقدر على الإحاطة بها، وأيامي هذه القليلة الحاضرة التي لا أعرف منها سوى هذه الوجوه الآدمية المحيطة بشخصي.
ظل ذهني منشغلا في حواره الباطني إلى أن نطق الوكيل العام للملك، يخاطبني:
ـ إنني يا سيدي أود لو أصدق كل كلمة تصدر عنك، فإذا كنت أنت حقا الشيخ "أبا حيان التوحيدي" كما يدلني قلبي، فسأكون من الشاكرين له عز وجل، إذ قيض لي أن أتحدث إلى شخصية فريدة قادمة من زمن بعيد، شخصية في علو قدرك وعلمك ومكانتك الرفيعة في التاريخ العربي الإسلامي.
توقف يفكر وقد غشيت محياه سحابة حزن، وبصوت أجش خاطبني وكيل الملك:
ـ إنني أحس بقشعريرة تسري في بدني، ذلك أني من فرط الذهول أكاد لا أصدق ما أسمع وأشاهد، يا إلهي، كيف أتولى استنطاق العالم "أبي حيان التوحيدي" القادم من بطن التاريخ، وآمره أن يقف دون حركة، ويجعل يديه مغلولة خلفه وكأنه مجرم آثم؟ إنني أعتذر يا سيدي، ألتمس منك المغفرة!
وتدخل الوكيل العام:
ـ والله ما عدت أقوى على الاستيعاب، وأظن أني في حاجة إلى بعض الوقت.
توقف قليلا وكأنه شارد الذهن، ثم أضاف:
ـ بالنظر إلى مهمتي الجسيمة رئيساً للسلطة على هذا الإقليم، فإن مسؤوليتي تجبرني على التدقيق والتمحيص، خاصة وأنا أمام واقعة غريبة وفريدة، لم يسبق لها مثيل في تاريخ القضاء.
وأدار وجهه نحو وكيل الملك يخصه بخطابه:
هذا المحضر يجب أن يحفظ وبطريقة قانونية، والتعليل المناسب هو التقادم.
والتفت نحوي مبتسماً:
ـ إنها إجراءات عادية لقبر الملف، ذلك أن هجرتك إلى إسبانيا قد تمت في تاريخ قديم بعيد، والقانون لا يسري إلا على الجرائم المرتكبة في ظله، أي لا يطبق بأثر رجعي، وهي قاعدة مستمدة من القرآن الكريم: "وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا".
ما إن توقف الوكيل العام حتى صرخ محمد شكري:
ـ هنيئا سيدي أبا حيان.
فتبعه هتاف بالترحيب.
لكنني بالرغم من صواب القرار، والفرح الذي عم فطفا على وجوه الحاضرين، ظل ذهني منشغلا بقضيتي الأساسية، تلك التي طغت على كل ما عداها، فبعد انحداري نحو خريف عمري، أجد نفسي أبدأ المسير لأتعلم كيف أواجه عالما جديداً غريباً لم ألفه ولم يألفني، فحتى قوانينه التي يتحجج الوكيل العام بقوله إنها مستمدة من الإسلام، بدت لي صادمة، إذ كيف بالله يعاقبون على الهجرة، متى كان المسلم في بلاد الإسلام يُعَاقَبُ على الهجرة سواء أكانت سرية أم علانية؟. ألم يهاجر الرسول سرّاً من مكة إلى المدينة؟ ألم يَدْعُ الله في كتابه إلى الهجرة في أكثر من آية؟ "ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مُرَاغماً كثيراً وسعة". "ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجرُه على الله، وكان الله غفوراً رحيماً".
أمر يستعصى على الفهم، ما علمت بوجود دين أو مذهب يقيم الحد على المهاجر السرّي، ما أعلمه يقينا هو أن الله سبحانه وتعالى في قضية الهجرة، رفع من شأن بني آدم وسوّاه برسوله حين قال: "لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة". إن للمهاجر في الإسلام مرتبة أعلى من القابع الذي لا يهاجر، فنيته لا تتعدى طلب العلم أو البحث عن القوت والعيش أو الفرار من الضيم والذل. فهل في هذا ما يخالف كتاب الله وسنة رسوله.
كان الوكيل العام يملي على الكاتب محند أشهبار تعليل نجاتي من قسوة العقاب على جريمة هجرتي السرية البشعة في نظرهم. وفكرت في أن أناقش الرجل في الموضوع، وأن أعلن له بأن قوانينهم تخالف الشرع، لكنني خفت أن تغضبه أفكاري وهو رئيس السلطة، فينقلب لينه إلى ما لا تحمد عقباه. فالحاكم عادة ما يضيق صدره تجاه محكومه إن عارضه، مثلما يتسع صدره أمام من هو أعلى سلطة منه حتى لو أهانه، تلكم طبائع الحكام لو يعلمون! ثم إني أجهل قوانين هؤلاء المغاربة، فقد عرفتها نابعة من الإسلام، لكن ذلك مرَّ عليه أكثر من ألف عام، وجائز أن تكون قد انقلبت إلى غير منبع الإسلام ومذهب مالك، كأن تكون بيزنطية أو مجوسية، أو قد يكون مذهب المدعو حاميم المتنبي، البربري الذي ظهر في غمارة قد انتشر، فساد ربوع المغرب، إذ لا يعقل أن تتحوّل الهجرة في بلد يظله الإسلام، إلى جريمة يقام عليها الحد.
كانت هذه الخواطر تموج مسرعة في ذهني، فسكتُّ عن الكلام وأنا أحدج الحيرة المرسومة على وجوههم جميعا تتضاعف، لكن خواطر أخرى مضادة اقتحمتني لتثنيني عمّا اعتبرته حدّة في لهجتي، إذ فكرت في أني ما دمت سأصدق القول في موقفي من الهجرة، وهو موقف عقلاني سليم، يساير الشرع، فليفعلوا بي ما شاءوا، دون أن أغير من منطقي وصراحتي، حتى لو كان لهم منطق مخالف، فالصدق يحمل في كنهه براهينه، ويكشف عن قوة صاحبه فيمنحه التقدير والاحترام والنفوذ، فأنا "أبوحيان التوحيدي" المجبول على قول الحق.
وقبل أن أتحدث إليهم بالصراحة التي اعتزمتها، قاطعني الوكيل العام في أدب جم:
ـ سيدي أباحيان المحترم، لتعدّ نفسك من هذه اللحظة، ضيفاً مكرّماً مشرّفاً عزيزاً وغاليا، ستنتقل الآن إلى الإقامة في أفخم فندق في المدينة، هذه المدينة التي شرّفتها بقدومك قبل أن تغادرها إلى الأندلس، وعدت لتشرفها من جديد، وهي المدينة نفسها التي غادرها وليُّها طارق بن زياد، لينشر كتاب الله في الربع الإسباني كله.
وتدخل السيد محمد شكري مخاطبا الوكيل العام للملك:
ـ سيدي، إذا سمحتم، فإنني أدعو الشيخ أبا حيان للإقامة في شقتي، إلا إذا كان لكم رأيٌ مخالفٌ!
أجابه الوكيل العام:
ـ إن الشيخ أبا حيان سيحل ضيفاً على وزارة العدل، وليس على الخواص، فالرجل في حاجة إلى راحة كاملة.
وتدخل وكيل الملك مخاطباً رئيسه الوكيل العام:
ـ هل تأذن لي يا سيدي أن أحجز له جناحاً في فندق "المنزه"؟
ـ لا أبدا،ً أنا أفكر في إقامة "السراب" فهو فندق آمن، ثم هو مطل على المحيط الأطلسي، بحر الظلمات كما سماه أبو حيان واستهوته مروجه، فهناك سيكون في منآى عن كل مضايقة، يجب أن يخصص له أجمل جناح مشرف على البحر، وأن تفرد له حراسة خاصة، إنني سأصحبه بنفسي إلى الفندق، بعد أن أتصل بالسيد وزير العدل لأطلعه على هذا الحدث السعيد.
صمت قليلا وأضاف:
ـ آمركم جميعاً بأن يدفن هذا السرّ في مكتبنا هذا، وأن لا يتسرب إلى علم القضاة أو المحامين أو غيرهم، فالشيخ أبو حيان يجب أن يستريح، وكل ما يتعلق بشخصه من طلبات وغيرها يجب أن أعلم به حفظاً لسلامته وراحته، فأنا المسؤول الوحيد عنه إلى حدّ هذه الساعة!
وتدخل محمد شكري موجها كلامه إلى الوكيل العام:
ـ رأيك يا سيدي عين الصواب، وحبذا لو أذنت لي أن أبسط لك بعض ما تناقلته الأخبار عن حياة أبي حيان.
حرك الوكيل العام رأسه موافقاً، دون أن يقوى على إخفاء امتعاض لاح على محياه، فأضاف شكري:
ـ أبو حيان، لا يحب الأضواء ولا تستهويه حياة البذخ، وهو من الأدباء القلائل الذين كتبوا التاريخ الباطني المسكوت عنه في بغداد، تماماً مثلما فعلت في مؤلفاتي "الخبز الحافي" و "السوق الداخلي" و "وجوه"، حيث أرّخت لحياة المهمشين والمنبوذين والحشاشين من ساكنة طنجة وتطوان والعرائش، ومثلما كتب مؤلفا كاملا ذم فيه صديقيه الوزيرين ابن العميد والصاحب بن عباد، انتقاماً منهما ورداً على إساءتهما له، عرَّضت أنا كذلك بالشاعر محمود درويش رداَ على إساءته إليَّ، بل أيضا ألَّفتُ كتاباً مستقلا خصصته للهجوم على الكاتب الأمريكي بول بولز، الذي أقام طويلا في طنجة، فضحت فيه نواياه الاستعمارية السيئة، إذ كان يحب المغرب دون المغاربة.
هكذا كانت حياة أبي حيان، شبيهة بحياتي، فكلانا لم يتزوج وكلانا عاش منبوذاً من قِبَلِ أقربائه وبني قومه، كما نشترك في خصوصية حمل هموم المسحوقين والمهمشين والتعبير عنها، كما نلتقي في كون الاعتراف بقيمتنا الأدبية جاء من لدن الآخر الغرب الأجنبي، وليس من لدن بني قومنا.
وقاطعه الوكيل العام:
ـ إلى أين تريد الوصول بالضبط؟
ـ أرغب في مجالسته بحكم ما نشترك فيه معاً.
ـ أيها السيد محمد شكري، شتان بين ما تفكر فيه وما هو واقع الحال. إن الشيخ حلَّ ضيفاً على ساكنة الأرض قاطبة، جاءنا معطراً بعبق التاريخ الإسلامي العربي في طراوته التي كان عليها منذ عشرة قرون، إن انبعاثه حياً بيننا بعد هذه المسافة الزمنية الطويلة، لظاهرة فريدة محيرة للألباب، أما علمه وفكره وفلسفته، فتلك أشياء ثانوية تأتي في مقام آخر، وقد نطلع عليها في كتبه أو على لسانه مباشرة، وليس على لسانك أنت.
قبل أن ينتهي الوكيل العام من حديثه، استسمحته في الرد على محمد شكري وقلت أخاطبهم جميعاً:
ـ لم يسبق لي البتة أن سجّلت التاريخ الجواني المسكوت عنه في بغداد، ولا في غير بغداد، ولا عاشرت المنبوذين والمهمشين، أو عبّرت عن همومهم في أي مؤلف من مولفاتي، ويكفي على سبيل المثال العودة إلى كتابي "المقابسات" الموجود أمام السيد الوكيل العام.
وأشرت بيدي إلى الكتاب وأنا أقول:
ـ إن لم يكن قد طَالَهُ التزوير، ففي هذا المؤلف مثلا، قمت ببسط آرائي الخاصة لأطلع الناس على القضايا الفكرية التي تستغرق اهتمام المثقفين في بغداد، وهي قضايا تتعلق بالمسائل والأبحاث الفلسفية والمنطقية والاجتماعية والدينية، وتبرز صورة من التعاون بين مثقفين منتمين إلى ملل دينية مختلفة، مسلمين ونصارى ويهوداً وملاحدة ومجوساً، يتحاورون ويتقابسون العلم والمعرفة في جو من التسامح والود، أشرت إلى آرائهم وعقائدهم دون أن أهمل أسماءهم، وهم جميعاً شخصيات سامقة، فلاسفة ومناطقة، دون أن يوجد من بينهم جميعا منبوذٌ أو مهمشٌ واحدٌ.
وأنا أتحدث، رمقت وكيل الملك يمسك بكتاب "المقابسات" ويتصفحه، وكأنه يريد التأكد مما قلته، فاسترسلت في حديثي:
ـ أما عن صديقَيَّ الوزيرين ابن العميد والصاحب بن عباد رحمة الله عليهما، فقد أشرقت الشمس وغابت، وأشرقت وغابت مدة خمسين عاماً على هجومي عليهما، وهذا معناه أني كنت في طور الشباب الأرعن، لكن أيامنا ما انفكت أن عادت إلى صفائها الأول، بعد تلك الخصومة التي استغرقتنا عامين لا أكثر، فعدنا لنصير كما كنا، خمسة أصدقاء كأصابع اليد الواحدة، أنا وابن العميد وابن عباد والخوارزمي وبديع الزمان الهمذاني، تجدد صفاؤنا، فأصبحنا إذا لم نجتمع في قصر ابن عباد، اجتمعنا لدى ابن العميد في قصره بحي الكرخ على دجلة.
بعد أن أنهيت كلامي، وقف وكيل الملك وخطا نحوي، فصافحني وهو يكرر اعتذاره لي، بادلته التحية، ودعوته إلى الجلوس في مكانه.
في هذه اللحظة، انتصب الوكيل العام واقفاً وقال لنا:
ـ أيها السادة، أشكركم جميعاً، وأعلن عن إنهاء الجلسة.
فأسرع السيد محمد شكري يقول لي:
ـ سيدي أبا حيان، إني أتوق إلى مجالستك، فهل تأذن بزيارتي لك في فندقك؟
ـ ليس اليوم، وليكن بعد أن أنال قسطا من الراحة.
غادرت المحكمة في موكب الوكيل العام، وأنا أحس صداعاً في رأسي وتصدُّعاً في مفاصلي، فكرت في أني لو أملأ رئتي بهواء نقي فقد أستعيد بعض عافيتي، كما فكرت في حاجتي الماسة إلى العزلة، إلى أن أخلو إلى نفسي علَّني أقوى على التفكير في مصيبتي هذه الجديدة، فلم يعد لديَّ شكٌّ في أني فعلا قفزت على أكثر من عشرة قرون، يا له من واقع مرٍّ صادم! فبعد ليلة واحدة أستيقظ لأجد عشرة قرون قد وَلَّتْ! كل من قابلتهم يؤكدون هذه الحقيقة! لكن كيف لي أن أجعل عقلي يستوعبها؟ كيف لي أن أعزّي نفسي في وفاة "نهاوند"؟ وهل توفيت حقّاً؟ يا إلهي، لا أقوى على التفكير في ذلك، كانت مناي وملاذي الأخير، كانت إحدى طيات هجرتي بعد أن ضاق بي المشرق بافتقادها، ولعلني من أجلها بقيت على قيد الحياة. ترى ماذا كان مصيرها من بعدي؟ هل استعادها ورثة ابن العميد؟ هل منعوها من السفر إلى غرناطة؟ أم ترى سافرت فظلت تنتظرني كل يوم جمعة في حدائق جنة العريف؟ من أين لي أن أعلم بوقائع مرت عليها قرون! إن عظام الوزير متلاشية في التراب، وورثته كذلك. وخلاني في بغداد وفاس، ورفاقي في رحلة الأندلس، كلهم اليوم يرقدون عظاماً نخرة بعد أن طواهم الرّدى! من يدلني على ما حل بهم قيد حياتهم، وعلى بغداد العباسية، والأندلس الأموية، وعلى بيتي في الرُّصافة على دجلة، وبيت الوزير أبي الفتح بن العميد في الضفة الأخرى بحي الكرخ، وحفلات اللهو والسمر، والمحاورات الفكرية في بيت الوزيرين، كل شيء صار طعاماً لديدان القبور، بعد أن مضى بهم ركب الأيام، إلاّيَ، أنا الأوحد الأبقى من كل بشر تلك الحقبة الزمنية، كأنني إبليس من نار، وهم آدميون من تراب، ليتني قضيت في ذلك الزمن البائد، دون أن أتعرف هؤلاء القادمين من المستقبل، أو بالأحرى، الذين عدت إليهم من الماضي، ماذا يجمعني بهم غير الشكل البشري والشبه الآدمي، هل أنا قادر بعد هذا الانحدار في عمري على أن أتجانس معهم، وأنصهر في عاداتهم وحضارتهم؟ يستحيل! سأكون أضحوكة بينهم، دمية ناطقة تَسْتَدر الشفقة وتثير الذهول، إن الإنسان لا يستطيب العيش إلا في زمانه وثقافته ومحيطه.
تذكرت كيف كنت أدعو الناس في مجالسي إلى طرح وساوس الماضي، ومخاوف المستقبل، وعيش الحاضر فحسب، جلبا لاعتدال النفس. أنا القائل بهذا، لكن، هل أقوى اليوم على عيش الحاضر فحسب؟ وأي حاضر، أهذا الذي ابتليت به في طنجة أم هذا البغدادي المعشش في ذاكرتي بأناسه وأماكنه وروائحه؟ فكلاهما لدي حاضر، لا يجب أن يكون إلاّ حاضراً راهناً، وإن كان مُجزّأً إلى زمانين، تركت أحدهما في العراق منذ عشرة قرون، ولحقت بثانيهما في المغرب بعد عشرة قرون، أنا أعيش إذن الماضي والمستقبل في زمن يطلق عليه الحاضر، وعليّ أن أسميه بالحاضر، وأن أعيشه بتوافق بين الظاهر والباطن، لكن التوافق لا يكتمل إلا إذا أوتي صاحبه نور العقل وقبس النفس، فكيف لي بجلب نور العقل وقبس النفس أمام ما أنا عليه من حيرة وقلق وتمزق داخلي وغيابي حتى وأنا في حضوري؟
يا إلهي، عليَّ أن أعلن عجزي عن استيعاب حضارتهم، أن أجهر به أمامهم جميعاً، فالتظاهر بالعجز في موضعه، كالاستطالة بالقدرة في موضعها، أنا القائل بهذا في حاضري البغدادي، وأؤكده بعد عشرة قرون في حاضري هذا الطنجي المغربي، إنما ليس ترفاً فكريّاً، كحالي في بغداد، بل كواقع حسي ملموس، كحالي اليوم في طنجة، فشتان ما بين الكلام عن قبض الجمر وقبضه حقيقة، إذن أنا عاجز، عاجز عن اتساقي وتجانسي معهم، وكذلك مع نفسي، أحس بأني أقرب إلى الشبح مني إلى بني الإنسان، ليتهم يدركون هذا، من أين لهم أن يدركوه، وهم يقولون عن انبعاثي إنَّه خبر سعيد، إنه ضيف حلَّ على ساكنة الأرض قاطبة.
انتشلني الوكيل العام وأنا غارق في بحر همّي، وقال لي:
ـ سيدي الشيخ أبا حيان، إن هذه العربة التي نركبها تسمى "سيارة" وهي اختراع عمره حوالى مائتي عام، تجري بسرعة تفوق ركض الحصان عشرات أضعاف المرات، فمسافة الطريق التي يسيرها الإنسان على ظهر الدابة أو مشيا على قدميه مدة أسبوع كامل، تجتازها السيارة في ساعات، أقصد في أقل من يوم واحد.
سكت قليلا وسألني:
ـ كيف كنتم تقيسون الوقت في العراق؟ هل تقيسونه بالساعة؟
أجبته:
ـ إن قياس الوقت على الأرض اختراع عراقي منذ العصر البابلي. وحضرتني سورة يونس في القرآن الكريم فرفعت صوتي مرتّلاً:
ـ "هو الذي جعل الشمس ضياءً، والقمر نوراً، وقدره منازل، لتعلموا عدد السنين والحساب، ما خلق الله ذلك إلا بالحق، يفصل الآيات لقوم يعلمون، إن في اختلاف الليل والنهار، وما خلق الله في السموات والأرض، لآيات لقوم يتقون" صدق الله العظيم.
ـ آسف سيدي، نسيت أني أتحدث إلى فقيه عالم.
ـ أستغفر الله.
أجبته.
أحسست بإنهاك غشيني وأنا أعتمر مقعدي في الجانب الخلفي من السيارة، ولذلك لم أحفل بما كان يشير إليه الوكيل العام من معالم المدينة، أو أبنيتها المرتفعة في السماء، فالتفاتي إلى ما يوجد عن يميني أو عن يساري، يصيبني بالدوار، لذا ظل بصري منخفضا، أو مصوبا إلى الطريق أمامي، لكنني حين أخبرتهما بحالتي هذه، أوقف الوكيل العام السيارة في لمح البصر، فرستْ وكأنها استجابت لإرادته الخفية، ودعاني إلى الجلوس بجانبه، بينما انتقل وكيل الملك إلى الخلف، فعادت العربة تسير بنا في طريق ملتو مرصوص ناعم، شبيه بنهر آسن، وعلى جانبيه تدفقت أشجار قصيرة، واستقامت أخرى فارعة الطول، ما فتئت أن فسحت المجال لعشب بري أخضر غطى أديم الأرض على اليسار، وبحر أزرق شاسع امتد على اليمين، فنبهني وكيل الملك إلى أن أنعم النظر في الشعاع المتساقط على صفحة مياه البحر، ترسله الشمس المحتضرة، قبل تلاشيها بين أفق السماء والبحر.
وقال لي:
ـ إنه المحيط الأطلسي، بحر الظلمات كما كان يسمى قديماً.
فسألته عما يوجد خلف هذا البحر، إن كانت له نهاية، فأسرع الوكيل العام يجيبني:
ـ توجد قارة تسمى أمريكا، وقد اكتشفت منذ حوالَى خمسة قرون، أي في تاريخ مغادرة العرب للأندلس، بعد أن سقطت في يد النصارى.
تلقفت هذا الخبر وكأنه حجرٌ ألقي به فوق رأسي، وقاطعته دون أن أدعه يسترسل في مرده.
ـ تقول سقطت في يد النصارى! ألم تعد الأندلس عربية مسلمة؟
أجابني بمنتهى السكينة، وكأنه يخبرني بشروق الشمس أو مَغيبها، دون أن يدري أنه أوقد ناراً في رأسي وصدري:
ـ الأندلس ضاعت، تساقطت إمارة بعد إمارة، كان آخرها غرناطة.
ـ يا إلهي، أكاد أجن، لا أستوعب هذا الخبر، الأندلس تعود إلى العجم؟!
فتدخل وكيل الملك:
ـ إن الخبر ليس جديدا، فقد راحت الأندلس منذ خمسة قرون، ورحلت بعد سقوطها أجيال وأجيال، فمن ليس له اهتمامٌ بالتاريخ، لايعلم أن الأندلس كانت ذات يوم مسلمة عربية، فلماذا ياسيدي هذا الحزن؟
ـ إنكما لا تدركان وقع هذا الخبر الصاعق على نفسي، فقد كان يقيني أن بلاد الإسلام تتسع وإذا بها تنكمش.
سرحت مفكرا ثم أضفتُ:
ـ إن حكايتي مع الأندلس تعود إلى خمسين عاماً، إذا استثنينا العشرة قرون، فمنذ أطلعني صديقي الوزير الصاحب بن عباد على كتاب "العقد الفريد" لابن عبد ربه الأندلسي، وأنا لا يغمض لي جفن توقاً لملاقاة أهل الأندلس، وعاماً بعد آخر صار اهتمامي يزداد بأخبار وأشعار وموشحات وفقه وعلم أهل هذا البلد، أذكر أن صديقي الصاحب بن عباد حين اطلع على كتاب "العقد الفريد" قال عنه في حضوري: "هذه بضاعتنا ردت إلينا"، فقد كان يظن أن الكتاب يشتمل على شيء من أخبار بلاد الأندلس، فإذا به يستغرق أخبار بلاد المشرق، وهذا دليل يؤكد المحبة المتبادلة بين أصحاب الأرومة العربية الواحدة من المشرق إلى المغرب، نكتب إعجاباً بكم وبأخباركم، وتكتبون إعجاباً بنا وبأخبارنا، لكن أن تضيع أجمل أرض عربية إسلامية، فأنا أحتاج لوقت كثير لاستيعاب هذا الواقع!
وتذكرت العراق، فأسرعت بسؤال عنه:
ـ ويحكما، ألا أخبرتماني بما حلّ بالعراق؟ ألا يزال خلافة إسلامية، أم إن العجم انقضوا عليه هو الآخر، فمسِّح أو مجِّس؟
أجابني الوكيل العام:
ـ اطمئن يا سيدي، العراق مازال أرضاً عربية إسلامية، من أغنى بلاد المعمور، لو أحسن حكامه تدبير خيراته.
ـ الحمد لله، الحمد لله، لكن هذه الأندلس العروس الضائعة، سيصيبني خبر فقدانها بالخبل، تبّاً لنزوات الحكام، والله ما ضاع هذا الفردوس إلا بسبب الشتات والاستبداد!
عليَّ أن أقرأ عن سقوطها، وعن كل ما استجدَّ ببلاد العرب، منذ أن أوليتُ ظهري بغداد في عام 400 هجرية إلى اليوم، عساني بذلك أحقق البقاء عاقلا على قيد الحياة، وعساني أعثر لنفسي على بعض السلوى، أتعرّف فوقي من أسفلي، ورأسي من قدمي، فإني من فرط الضباب المحيط بعقلي وبصري، بماضي وحاضري، لم أعد أتبين شيئا.
فالتفت الوكيل العام نحوي، وبنظرة قاتمة قال يواسيني:
ـ بالله عليك يا سيدي، إذا كنت لا تقوى على تقبل واقعك هذا وأنت المنطقي الفيلسوف المؤمن بالله، فمن يا ترى يتقبله؟
توقفت بنا السيارة في ميدان فسيح منير تتوسطه بِرْكَة ٌبنافورة يتصاعد ماؤها عالياً مرتعشا مثيراً للدهشة، فأخبرني وكيل الملك، ونحن نترجل من السيارة، بأننا في مدخل فندق السراب، لكنني كنت أستجمع أفكاري لأرد على نصيحة الوكيل العام، فقلت أخاطبه قبل أن نهم بالدخول إلى الفندق:
ـ أشكرك على نصيحتك بأن أتقبل أمر واقعي، إنني فعلا أسعى في تحقيق ذلك، لكن فعل القبول أو الرفض، إذا كان مصدره العقل، فإن هناك فعلا آخر يصدر عن النفس، ولا يتحكم فيه العقل، ولعل أبسط ما يمكن أن أمثل به، هو ما عبّر عنه الخليفة الأموي عبد الرحمان الداخل، حاكم قرطبة، حين بعث إلى أخته في الشام قائلا:
أيها الراكبُ المُيَمِّمُ أرضي 
اِقْرَ من بعضِيَ السلامَ لِبَعْضي
إن جِسْمي، كما تراه، بأرضٍ
وفؤادي ومالِكِيهِ بأرضِ
قدَّرَ البَيْنُ بَيْنَنا، فافْتَرقْنا
وطوَى البَيْنُ عن جُفُونِيَ غَمْضِي
قد قضى الدَّهْرُ بالفِراقِ عَلَيْنا
فَعَسى باجتماعنا، سوف يَقْضي

إذا كان هذا العظيم الشجاع، الجامع بين السيف والقلم، يشكو من داء الاغتراب والنوى، فما عسى أن يفعله فقير مثلي، فقد الأحبة والخلان، هرب عنه الزمان والمكان.

(9)

ظلا ينظران إليَّ دون أن يفوها بكلام، فتقدم نحونا رجل في مقتبل عمره، قصير القامة، أنيق الملبس، سَمْح الوجه، تغمر محياه بشاشة امتزجت باحترام وتقدير لنا، فقال له الوكيل العام عني:
ـ إنه الشيخ "أبو حيان التوحيدي".
صافحنا واحداً واحداً، فذهب يقيني إلى أنه لا يعرف شيئا عني، خاصة بعد أن سألني إن كنت أحمل حقائب أو متاعاً، فأشار إليه الوكيل العام وهو يقول لي:
ـ إنه السيد عبد السلام، صاحب "السراب".
فعرفت أن مالك الفندق، خرج لاستقبالنا، بناء على موعد سابق مع الوكيل العام، إذ بادره بالقول وهو يدعونا لنتقدمه:
ـ أعددت لضيفكم الشيخ، أجمل جناح مطل على البحر، قصي عن الضوضاء، وبإذن الله، سوف يكون مبتهجاً بإقامته.
التحق بنا رجل يحمل في يده مفاتيح، لم يبادره أحد منا بتحية، ولا بادرنا هو بها، ففهمت أنه أحد الخدم في فندق السراب.
وفكرت في أن ازدراء الأسياد للفئة الدنيا لم يطرأ عليه تغيير منذ عشرة قرون.
سرنا يتعقب خطانا الرجل المُزْدَرَى ملفوفا في صدرية بيضاء، وسراويل سوداء، كأنه قط فارسي مطيع وأمين، فمررنا بحديقة حفَّت بها دور بيضاء، وتوسطتها بِرْكَةٌ شاسعة يتلألأ بها ماء شديد الزرقة، فكان على بصري أن يتوقف صوب المنحدر عن يميني، لينعم في زبد أبيض يفصل سواد البحر عن رمل الشاطئ، إنه الموج، صخبه الرتيب وصل إلى أذني، مثلما امتلأت خياشيمي برائحة الطحالب والفطريات، إنها رائحة شاطئ ثغر أصيلا نفسه، حين سرت على يابسته رفقة صديقي المرحوم "أبي عصيد"، البحر وحده ظل كالأبد، مستريحاً بصخب موجه، وروائح نباتاته العطرة.
ليتني كنت أفهم لغة البحر لأسأله عما حل بالدنيا خلال هذه القرون العشرة ونيف، أدرت في رأسي حسابا عن المدة التي بقيها العرب في الأندلس، فوجدتها تقارب ثمانية قرون، إنها ليست بالوقت الهين، فضحكت من نفسي ساخراً منها على هذا التحول، فبعد أن كنت أعد الوقت بالساعات أو الأيام أو حتى بالشهور، أصبحت أعده بالقرون، لكن إصغائي لهدير البحر بلسعات برده، أوقف نفسي عن الإبحار في الكآبة، وراقني الفندق الذي تمطى فوق ربوة ساجدة للبحر، لكن حكاية ضياع الأندلس، ظلت مطرقة تدق رأسي.
أدخلنا صاحب الفندق إلى سكن يسع قوما من الناس، توقد أضواؤه وتطفأ بمجرد لمس أزرارها، لم يكن ليخطر بخلدي جماله ولا رونقه، ولا فكرت في أني ذات يوم، سأكون من ساكنيه، فقد حسبته هدفا لزيارة جاءت من قبل الفرجة عليه ليس إلا، لكن، حين أبلغني الوكيل العام أنه مخصص لإقامتي بمفردي، أصابتني دهشة مباغتة لم أقو على إخفائها.
صار يدلني على محتوياته، هذه قاعة جلوس تفضي إلى شرفة استراحة مطلة على البحر، وهذه غرفة نوم بنوافذ مشرعة على البحر، وتلك غرفة أخرى لا تقل رونقا عن أختها، وهذا حمّام به قبر مرمري في بياض لبن المعز، وبجانبه مِيضأَةٌ مثيرة للاستغراب، وتلك معدات للحلاقة وقصِّ الشعر ومَشْطِهِ، وصنابير ماء يتحول وفق إرادتك من بارد إلى دافئ إلى ساخن. فقاطعت شروحاته وأنا أكاد أنفجر من الضحك:
ـ يلزمني تلقي دروسٍ لأعرف الاغتسال في هذا الحمام الخيالي.
ارتفعت أصوات الجميع بعَدْوى ضحكي، فتذكرت بأن صدري لم يعرف انشراحاً منذ أن استيقظت من سباتي في مغارة مدينة المنقب بالأندلس، قلت لهم والضحك يستبد بي:
ـ لأفترض أنني تمكنت من غسل بدني في هذا التَّابوت الأبيض، فبماذا أدثر نفسي وأستر عورتي وأنا لا أملك سوى ما أرتديه من أسمال رثة، تعاف الأنوف رائحتها.
فعمت قهقهاتنا من جديد أرجاء الحمام.
قال لي الوكيل العام وهو يجفف ما بعينيه من دمع ابتهاجه، ونحن نغادر الحمام:
ـ بعد لحظات ياسيدي، سيلحق بنا أحدهم يحمل لك ألبسة لتنتقي ما يروق لك منها.
قلت له وأنا أوزّع نظري بين شخوصهم:
ـ أسيكون لي مثل ما ترتدونه؟ شريطة أن يكون لباساً سائداً بين عامة الرجال؟
ـ طبعاً طبعاً، إنه لباس عام، يرتديه الرجال في كل بقاع الأرض، بما فيها العراق.
لم أقو على حبس ضحكي، وأنا أخال نفسي ملفوفاً في هذا اللباس الشبيه بما كان يتزين به الغلمان والجواري في حفلات اللهو والغناء بقصور الخلفاء والوزراء، ما إن أخبرتهم بما خلته عن نفسي، حتى دوت الصالة بالقهقهات.
لم أتوقف عن الضحك، وأنا أشير بيدي إلى قطعة ثوب متدلية من عنق السيد عبد السلام، صاحب الفندق، وشبَّهتها بحبل المشنقة، وأنا أسأل عن لزومها، وإن كان لها دورٌ في درء السحر أو الوقاية من عين الحسود أو من البرد أو الحرارة.
فأجابني الوكيل العام:
ـ لم أكن أظنك يا سيدي الفقيه العالم على هذا القدر من المرح والدعابة.
فقلت أرد عليه:
ـ أشكرك، وأخبرك بأنني بعد معاشرتي لخلان فاس، ولأصدقاء قصر كتامة ولأصحاب ثغر أصيلة، أصبح يقيني أن المغاربة من أظرف المسلمين وأخفهم روحاً، لكن، لله دَرُّكَ، لم تجبني، ما الغاية من حبال المشنقة هذه؟ وأشرت إلى الأثواب المتدلية من أعناقهم.
فأجاب ضاحكاً:
ـ إنها للزينة لا غير، وتسمى "ربطات العنق".
سكت قليلا وأضاف:
ـ وهي ابتكار أوروبي.
فأسعفه وكيل الملك شارحاً:
ـ حضارة أوربا هي السائدة في هذا القرن، فكراً ولباساً و غيرهما، والأندلس امتداد للقارة الأوربية، صانعة هذه الحضارة.
كاد تذكيري بالأندلس، هذه الهاربة من بين أصابع اليد العربية يصعقني، فيدرأ عن نفسي مرحها، لكنني استبعدتها عن ذهني وحصرت تفكيري في غرابة ابتكار "رباط العنق"، فسألت الرجال مازحاً:
ـ لعله ابتكار نسائي، أوحى به الحبل الذي تقاد به الدواب، أو تلجم به. إنما أود لو أعرف إن كانت المرأة تتزين به هي الأخرى.
فضحكوا وأجمعوا على النفي.
وأضفت:
ـ هذه قرينة على أن "ربطة العنق" من ابتداع المرأة، وذلك لتحكم به قبضتها على عنق الرجل متى شابهما نزاع.
عَمَّ الضحك من جديد، فاستأنفت بسط تداعياتي بذات السخرية المغلفة بالجد:
ـ إن المبتكر مثلُ الفيلسوف، تفكيره في الأصل مجرد رجع أو استجابة لحاجة تمليها الضرورة المادية أو النفسية، أو هما معاً، والمرأة حتى تُذِلَّ الرجل ابتكرت له هذه الربطة القريبة من شكل الأفعى، لزينة عنقه ظاهريا، أما في سرها فلغايات أخرى، أضعفها تشبيهه بالحيوان.
ظل جو المرح هو السائد إلى أن دخل رجل محمّل بعدد من الألبسة والأحذية، في قياسات مختلفة، حتى يتسنى لي اختيار مقاسات تناسبني.

(10)

بعد أن استعادتني الحياة، وصحوت من نومي، هرولت مسرعاً إلى النافذة، أزحت ستارتها وأشرعت بابها، فاستقبلني شاطئ فسيح بهيج، هو الشاطئ ذاته الذي كنت قد تنسّمت رائحته بالأمس، وتذكرت الألبسة التي كانت موضوع سمرنا، فعرَّجت على الصالة لأجدها في مكانها، أقمصة وبذل وأحذية وربطات عنق وجوارب وغيرها، فضحكت من نفسي على الأسماء الغريبة التي كان عليَّ حفظها وكأني أتعلم لغة جديدة، ارتديت سراويل وقميصا أبيضَ ثم انتعلت حذاءً أسودَ لامعاً، ووقفت أمام المرآة الكبيرة، أتفرج على نفسي، لاحظت أن كثافة شعر ذقني قد زادت عن المعتاد، ماذا لو قمت بِقَصِّ شيء من هذا الشعر؟ أو اقتلعت اللحية من جذورها؟ فكرت مليا، فنزعت القميص عن بدني بعد أن فتحت أزراره وتوجهت إلى الحمام، أخذت المقص وشذبت اللحية وهذبتها، ثم تذكرت كيف أن الوكيل العام وجميع مرافقيه، بل كل من قابلتهم في طنجة، كانوا حليقي الوجه أملسيه، فلماذا أستثنى منهم؟ أغاية الدين أن يحتفظ الرجل بلحيته؟ تساءلت في نفسي، وأنا أبلل لحيتي وأدعكها بالصابون متّبعاً إرشاد وكيل الملك، حين دلني على كيفية الحلاقة، لكنني أبقيت على شاربي مؤجلا إحفاءه إلى يوم آخر، وبعد أن عدت لارتداء القميص، وقفت أمام المرآة الكبيرة الرابضة في الصالة، فكدت أقع أرضا من شدة الضحك على نفسي، فقد جرّدتْ حافة الموسى محياي من كل صفات الوقار والورع، بقيت زمناً أمام المرآة أنعم النظر وأعيده مدققاً في قسمات وجهي، فقد بدا لي كأنه وجه شخص آخر قريب من وجوه المغاربة وشبيه بمخلوقات القرن الحادي والعشرين الميلادي، لقد أعجبت بنفسي حقاًّ، سرني أن أبدو كهلا عوض الشيخ الذي كنته.
إن القسمات الحقيقية لوجه المرء، لا تتبيّن إلا بعد أن يزيل لحيته.
تذكرت الوزير الصاحب بن عباد، قبل أن تسوء علاقتنا، أي قبل أن أكتب مؤلّف "مثالب الوزيرين"، الذي خصصته لذمه هو والوزير ابن العميد، فقد كنت في ذلك المساء، في ضيافته بقصره الفاخر، رفقة الصديق "بديع الزمان الهمذاني" حين رد بروحه الماكرة على دعوتي إلى الابتكار والتجديد للخروج عن المألوف الآسن، فيما لا يخالف الشرع، وقال لي:
ـ لِمَ لا تُحْفِي لحيتك ابتكاراً، مادام الفعل لا يخالف الشرع؟
فعلّق "بديع الزمان الهمذاني" تزلّفاً للوزير:
ـ إن اللحية سنّها أشرف المخلوقين محمد رسول الله (ص)، وإزالتها معصية لا تُغتفر، إلا بالتَّوبة والعدول عنها.
فأسرعت بالرّد:
ـ إن الرسول قد سنّها من باب الإجازة عرفاً مشتركاً بين الأقوام، من مسلمين ونصارى ويهود ومجوس، وإن إحفاءها ليس ابتكاراً ولا بدعة، ولا تدخل في باب المعاصي، صغيرها أو كبيرها، والدليل هو أنه لم يأت فيها وعيد، وإذا سلمنا تجاوزاً أن إزالة اللحية من المعاصي فستكون من الصغائر، وعلى رأي المعتزلة، فإن الصغائر تغفر بتجنب الكبائر، أي أن المعاصي الصغيرة، يستحق غفرانها بتجنب المعاصي الكبيرة.
كنت أعلم أن الوزير الصاحب بن عباد شغوف بأراء المعتزلة، وهو في سرّه على مذهبهم، لكن ما إن أكملت قولي حتى استوى في مقعده، ونادى على الجارية "رباب"، وهي من أجمل جواريه، لا يحضرها سوى في المجالس الخاصة الضيقة، امرأة كاملة، أسيلة، ظريفة الأنف، ضيقة الفم واسعة العينين، كحيلة الشعر، ناصعة البياض، سلّمها قدح نبيذه، وأشار عليها أن تملأه، وخاطبنا:
لستما مختلفين في الرأي، لكنكما لم تكملا شرحه، فكما قال أبو حيان. إن الصغائر إذا اقترفت من مجتنبي الكبائر، كانت مغفورة، وهو قول حق، لكنه ناقص، ذلك أنه إذا اجتمعت الصغيرة والصغيرة من ذات الشخص المجتنب للكبائر، فإن معصيته تصير من الكبائر، كالرجل الذي يسرق درهماً على انفراد، ودرهما على انفراد، ثم آخر وآخر، فإن فعله يكون من الكبائر، ومن ثَمَّ فإن الشخص يؤخذ بالذنب، إذا تاب عنه وعاد إليه.
دارت هذه الحادثة في ذهني وأنا أقف أمام المرآة في إقامتي بـ "فندق السراب"، فكرت في المعاصي الصغيرة التي أرتكبُها تباعاً، فقد أزلتُ لحيتي التي كانت محور النقاش مع الوزير الصاحب والهمذاني، منذ أكثر من عشرة قرون، وأنا اليوم في طنجة أعتزمُ قَصَّ شعر رأسي تمثلا بالمغاربة، وهي معصية ثانية، ثم إني أتعمد أن أظل عاري الرأس، من أية عمامة أو عقال، وهي معصية ثالثة، ويعلم الله ما قد أرتكب من الصغائر، لكنها أبدا لن تصير من الكبائر، فقد أصبتُ وأخطأ المعتزلة، رحم الله الصاحب بن عباد والهمذاني وجميع خلان بغداد، من سبق ومن لحق بهم، وأخص منهم جاريتي العزيزة "نهاوند"، فيا ليتها كانت برفقتي في عزلتي المغربية هذه، لتدفئ وحدتي، وتسهم برأيها في وجهي الحليق إلا من شارب يغلب عليه بياض الشيب.
لاشك أنها استحضرت أوقاتنا البهيجة وهي تترحَّمُ على روحي، واهمة أنني صرت في عداد الأموات.
الحقيقة أنَّها لم تكن واهمة، فقد كنت فعلا ميتاً، من يختفي كل هذا الدهر، لا يمكن أن يكون إلا ميتا.
لكن الموتى تفارق أرواحهم هياكلها، تغادر إلى الخلود الدائم المتصل الأزلي الأبدي، الذي لا أول له ولا آخر، أما روحي، فهي دون شك بقيت مثلما بقي جسدي في تضاعيف العاجلة، دون أن يطرأ عليهما أي تغيير، فكل ما حدث لي، هو أنني بقيت طيلة عشرة قرون مختفيا محتجباً عن العالمين العاجل والدائم، وليتني اطلعت على ما كان يحدث فيهما أو في أحدهما، لكن لا هذه ولا تلك.
إن من طبيعة الإنسان جنوحه إلى أن يعلم ما يحدث في غيابه، ولو بعد قيامه من مجلسه وهو على قيد الحياة، أحرى لو يعلم ما سيؤول إليه بعد وفاته، لكن لا على هذه ولا على تلك، فلم يتسن لي أن أطلع على سوى ما يموج في ذهني، على ماضي البعيد الحزين المليء بالضيق والحاجة، وبالكرب والشدة، لكن مع ذلك أحن إليه حنين الإبل في نجد.

(11)

سمعت نقراً على الباب، أسرعت لفتحه، فوجدت رجلا في مقتبل عمره، أسمر البشرة داكنها، ترتسم على محياه بشاشة محببة، تتدلَّى على صدره ربطة عنق غامقة اللون، شبيهة بإحدى ربطات عنقي التي لم أتزّين بها بعد، حياني بأدب جم وانحناءة من رأسه وأخبرني:
ـ إن السيد الوكيل العام يقرئكم السلام، ويخبركم بأنه يوجد في استراحة الفندق مع السيد وزير العدل وآخرين، وسوف يزورونكم بعد أن تنتهوا من فطور الصباح.
لعله تحقيق جديد مع قاضي القضاة، أو وزير العدل، كما يحلو للمغاربة أن يسموه، قلت في نفسي، وفكرت في هؤلاء المغاربة الذين أصبحوا ينتهكون اللغة العربية بطريقة فجة، إذ يخاطبون شخصاً مفرداً بصيغة الجمع، تصورتُ ما قد يكون رد سيبويه أو السيرافي، لو كانا قد علما ما سيصيب اللغة العربية من تحريف وهما على قيد الحياة.
تداركت سهوي عن الرجل الواقف أمامي، ودعوته إلى الدخول، لكنه اعتذر بانشغالات له، شارحاً أنه مستخدم في "فندق السراب"، شكرته وطلبت منه أن يبلغ السيد الوكيل العام، أني في انتظاره متى شاء، وأوصدت باب الإقامة.
بعد لحظات، عاد النقر على الباب، فهرولت مسرعاً لاستقبال الوكيل العام وقاضي القضاة، لكنني حين فتحت الباب فوجئت برجل يجر مائدة مزدانة بأصناف مأكولات، تكفي نفرا من الناس، دعوته إلى الدخول وأنا أسأله إن كانت مخصصة لضيوفي القادمين، فضحك وأكَّد لي أنها لي بمفردي، ولأتناول منها ما طاب لي. ألقيت نظرة سريعة على المائدة، فلم أميّز من محتوياتها سوى الرغيف والماء واللبن والبيض، فسألت الرجل قبل أن ينصرف عن باقي الأصناف، وأنا أشير إليها، وأخذ يدلني مستغربا جهلي لها:
ـ هذا شاي أخضر، وهذه قهوة، وهذا عصير برتقال، وهذا جبن، ثم رفع بصره نحوي وخاطبني:
ـ إذا احتجتم إلى شيء آخر فنادوني، اسمي محمد العربي.
وأجبته:
ـ أنادي من النافذة؟
ضحك في ذهول، وأشار إلى قطعة جماد فوق المائدة بجانب المرآة:
ـ اطلبوني بواسطة التلفون، على الرقم تسعة.
شكرته وانسحب.
جلست، وسحبت المائدة المتحركة نحوي، فشربت كل السوائل باردها وساخنها، ثم ألقيت في أحشائي بالرغيف والجبن والبيض، إلى أن أتيت على كل شيء، فبقيت الأقداح والأطباق فارغة، فكرت إن كان يصح لي غسلها أو ترك أمرها لصاحب الفندق، لكن ما دامت الإقامة تتوافر على ماء متصل لا ينقطع إلا بإرادتي، فَلِمَ لا أتولى تنظيفها، وهو ما حدث.
بُعَيْدَ لحظات، عاد النقر على الباب للمرة الثالثة، هرولت لفتحه، وأنا أجزم بأن الطارق، هذه المرة، لن يكون إلا الوكيل العام، وفعلا أصاب جزمي. رحبت بالرجال الأربعة، وصافحتهم واحدا واحدا، ودعوتهم إلى الدخول، تناثروا فوق أرائك مريحة، دون أن يتوقف لساني عن الترحيب بهم.
بادر الوكيل العام قاضي القضاة بالقول:
ـ والله يا معالي الوزير، لم أتعرّف شيخنا أَبَا حيان، حين فتح لنا الباب، إلا بصعوبة، فبعد أن أزال لحيته انتقص عمره عشرين عاماً إن لم أقل ثلاثين!
شكرته في حياء، وأنا أخزن في ذاكرتي كلمة معالي الوزير، مقرراً أن أخاطب الوزير أنا أيضا بهذا الاسم، وذلك حتى أضيِّق من هوة اختلافنا حول المفاهيم والألفاظ، فاختلاف معاني الألفاظ أمر يضيق له صدري ويربكني أكثر مما يربك محاوري، فعزمت على أن أجعل حواسي متيقظة لالتقاط ما استجد في اللغة لدى المغاربة.
كان معالي الوزير قد اتخذ مكانه قبالتي وجها لوجه، رجل أبيض البشرة ممتلئ الوجه، بشوش خجول، أملس المحيا إلا من شارب كث غلب عليه بياض الشيب، وقد ارتدى ربطة عنق غامقة مخططة بالبياض، وراقني أن يكون هو ومرافقوه الأربعة شبيهين بمستخدمي "فندق السراب"، يرتدون جميعاً بدلا وأقمصة، وربطات عنق وأحذية، دون أن يتميز الوزير عنهم بعمامة من حرير أو خنجر من فضة وذهب وماس، أو غير ذلك، ففكرت في أن الفوارق بين الفئات الاجتماعية، ولو ظاهرياً على الأقل، قد انتفت وتلاشت.
استمر الوزير في أحاديث عابرة لبقة، حول الطقس وموقع مدينة طنجة الجغرافي بين بحرين، خلته يتربص للزج بي في امتحان يكشف له حقيقتي، لكنه ظل بريئا من تخميناتي، بل عبّر لي عن سروره الأبلغ بلقائي والتحدث إليَّ، ووعد أن يمدني بمؤلفات تطلعني على ما طرأ من تحولات في التاريخ والعلم والفكر، خلال العشرة قرون الأخيرة، ثم تدارك وكأن الغيب كشف له ما كان يموج في خاطري، إذ قال لي:
ـ إن الكتب قد ترهقك، لذا أقترح أن أبعث لك بشخصية سامقة في الفكر والتاريخ، لسد الفجوة التي تفصلك عن الحاضر، هناك بكل تأكيد مستجدات في العلوم والفكر، لكن بالنسبة لنا نحن العرب عموماً، ستكتشف بنفسك أننا مستهلكون ومجترّون لعلم وفكر غيرنا أكثر مما نحن منتجون له.
وسألته:
ـ من تعني بغير العرب؟
ـ أقصد الغرب المسيحي، فمنذ النهضة التي عرفها قبل خمسة قرون ونحن ظاهرة لأبحاثه واكتشافاته، ويكفي إخبارك بأنك أنت شخصيا أديب الفلاسفة، وفيلسوف الأدباء، العالم المنطقي النحوي "أبو حيان التوحيدي"، قد وقع التنبيه إليك، وإلى مؤلفاتك من لدن الغرب قبل العرب، وممن أتذكر من المستشرقين الذين سبقوا إلى اكتشاف قيمتك، المستشرق "لويس ماسينيون"، الذي بحث في سيرتك ليكشف لنا الشيء الكثير عنك، والمستشرق "مارجليوت" الذي كان أول من انتبه إلى مؤلفاتك، والمستشرق "آدم ميتز" الذي ألف كتابا علميا دقيقاً في "الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري"، فأفاض في الإشادة بقيمتك العلمية.
وعدت إلى استفساره:
ـ من هم الذين سميتهم بالمستشرقين؟
ـ الاستشراق علم قائم بذاته، كعلم المنطق والفلسفة وغيرهما، وأصحاب هذا العلم، غربيون مسيحيون، تعلموا لغتنا، فبحثوا في تراثنا القديم، كظاهرة مستقلة عن تراثهم، فترجموه واعتمدوا بعضه مصدرا لبناء فكرهم وحضارتهم.
لم أخف إعجابي بهذا الوزير الشاب، ذي الثقافة الواسعة، فصارحته بذلك، مستحسنا مبادرته بإسعافي بشخص يطلعني على ما استجد في غيابي، فقال:
ـ أود إخبارك بأنني استمتعت حقاً بكتابك "الإمتاع والمؤانسة"، ومازلت أستحضر منه بعض النوادر والفكاهات، كما قرأت بعض الدراسات عن مؤلفاتك، ومما رسخ في ذهني أنك تجمع بين متناقضين هما، فلسفة التشاؤم، وفلسفة الفكاهة، فهل حقاً تجمع بينهما؟ كيف يمكن في نظرك للشخص أن يجمع بين هذين المتناقضين؟
أجبته بصدق وحماس:
ـ إنني مندهش يا معالي الوزير، ذلك أن الاستفسارات نفسها التي وجهت إليَّ من لدن الأصدقاء في بغداد، أجدها توجه إليَّ من جديد بعد عشرة قرون. إنني لم أكن أتوقع أو يخطر بذهني، أن مؤلفاتي ستحظى بالقبول، وتصمد كل هذه القرون، هذه حقيقة أندهش لها اليوم، ويكفي حجة على ما أقول، أنني كنت قد أضرمت النار في كتبي لعدم جدواها، وذلك لكوني لم أظفر منها بما كنت أنشده من موقع فكري أو أدبي، فقد عشت حياتي كلها أعمل وراقاً وناسخاً لكتب غيري، مقابل دراهم كانت تسد رمقي بمشقة.
ظلت عيون الحاضرين جاحظة مشرئبة تتأملني، فأضفت قائلا:
ـ أليس ما أعلنه مفارقة مدهشة؟ ما علينا، ولأعُدْ إلى سؤالك، إن ما قيل عن جمعي بين فلسفة التشاؤم وفلسفة الفكاهة لا أنفيه، فالتشاؤم المنثور هنا وهناك في مؤلفاتي، كان مجرد صدى لتجاربي وخبراتي، لوّنته بمزاجي الخاص، دون أن أتخذه مذهبا على غرار فلاسفة التشاؤم، ولا أحد يجهل أن الإنسان أشقى المخلوقات، وأن انجذابه نحو الفكاهة، حاجة طبيعية للتنفيس عن شقائه، والترويح عن نفسه، فكلنا نجمع بين المتناقضات، لأننا جزء من الطبيعة التي تجمع بين الليل والنهار والحرّ والبرد، لكنني لم يسبق لي أبداً أن مزجت الجد بالهزل، والهزل بالجد، في ذات العمل الواحد، كما فعل الحاجظ، وإذا رجعت إلى مؤلفاتي كـ "الهوامل والشوامل" مثلا، أو "الإشارات الإلهية" أو "الصداقة والصديق" فستجدها عاكسة لتمزقات داخلية عشتها، أو لإحساس بالغربة والحَيْرة، أو خيبة أملي في الناس،. أما إذا عدت إلى مؤلفات لي أخرى، كـ "الإمتاع والمؤانسة" أو "النوادر"، فستجدني أؤكد بها قيمة الفكاهة في حياة الناس، وضرورة تذوق النفس للفرح والهزل وحتى المجون، وذلك درءاً للشقاء الإنساني الطبيعي.
ما إن أنهيت كلامي حتى انتصب الوزير واقفاً وانحنى عليَّ ممسكاً برأسي، يريد تقبيله، فحاولت أن أثنيه وأنا أستغفر الله، إنما بدون جدوى، إلى أن عاد إلى مقعده وخاطبني:
ـ أصارحك أيها العالم الجليل، بأن تقبيلي لرأسك ليس احتفاء بمجيئك إلينا من عمق التاريخ، بقدر ما هو تقديرٌ لقيمتك الفكرية النادرة، فأنت من القلائل، ولربما الوحيد من المفكرين المسلمين العرب، الذين يجمعون بين السموق في الأدب والسموق في الفلسفة والمنطق والنحو والفقه والحساب، حتى لقد قيل عنك، وهو أقل ما قيل، إنك "فيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة"، وغيرها من الأوصاف الكبيرة.
وكانت المفاجأة حين سألته:
ـ إلى متى يا معالي الوزير، سأظل سجين هذه الإقامة الجميلة، كطائر في قفص من ذهب؟
لم يقو الوزير على إخفاء ما غشى محياه من حيرة وارتباك، فصوَّبَ نظرة حادة إلى مرافقيه، كأنه يشهدهم على انكشاف سرّ ما، أو يستنجد بهم ليسعفوه برأي ينقذه من ورطة وقع فيها، لكن ضيوفه كانوا أكثر حيرة منه، إذ تبادلوا نظرات مبهمة أوعزت لي بأن في صدورهم أمراً يخفونه عني، لكن الوزير بدَّدَ مخاوفي حين أجابني بصدق الرجال:
ـ إنني أيها الضيف العزيز الغالي لم أتوقع منك هذا السؤال، ذلك أنه لم يخطر ببالي أن يكون لك إحساس بالمضايقة إلى درجة الظن بأنك سجين، ولا أخفيك سراً إذا ما أخبرتك بأن لا أحد من رجال الدولة سواي يعلم بوجودك، أو له دراية بقصتك هذه المحيرة، وأنا شخصياً، حين أطلعني السيد الوكيل العام عليها، ظللت وقتاً من الزمن بين المصدق وغير المصدق.
بالله عليك، رجل ينبعث حياً بعد أكثر من ألف عام انقضت على وفاته، أو لِنَقُلْ على سباته أو غيابه، فمن ذا الذي يقوى على تصديق مثل هذا الخبر؟
هكذا في أقصى حالات الحيرة والذهول بقيت على اتصال تلفوني مع السيد الوكيل العام، ولزمتني الحالة نفسها وأنا في منزلي، إلى درجة صرت معها أفكر مع نفسي بصوت مرتفع، وكأنني ممسوس، مما جعل زوجي تصاب بالفزع، وتتهمني بالجنون، لكنها أعذرتني بعد أن أطلعتها على واقعتك هذه المربكة للعقل، وفي الليلة ذاتها، أي ليلة أمس، رجوت ثلاثة من مساعدي في الوزارة أن يحضروا إلى منزلي لمزيد من البحث والتقصي، وهؤلاء السادة هم: المفتش العام والكاتب العام ورئيس مديرية الشؤون الجنائية، الحاضرون معنا الآن، وفي أول الصباح أسرعنا بالقدوم للتعرف إليك، هذا كل ما في الأمر.
وتدخل المفتش العام:
ـ سيدي أبا حيان، إن إقامتك التي تراها سجنا، هي من أرقى فنادق طنجة.
وقبل أن يضيف شيئا، قاطعه الكاتب العام للوزارة:
ـ لعل الشيخ أبا حيان يعني بالسجن، حالته النفسية كالعزلة أو الاغتراب، وليس المكان.
فابتسمت للرجل كناية عن موافقتي، وأنا أستمع إلى الوزير الذي شرع في حديثه وهو يبتسم في وجهي:
ـ لم يعد لي أدنى شك في أنك "أبو حيان التوحيدي"، الحقيقي، ولذلك فإنني لأول مرة، سأطلع السيد الوزير الأول بصفته رئيس الحكومة المغربية، على هذه الواقعة.
واتسعت ابتسامته إلى أن قاربت الضحك حين أضاف:
ـ إني أعلم مسبقاً بأن السيد الوزير الأول لن يقتنع إلا بصعوبة لخبرك هذا، وقد يشبهني بالهدهد، حين زف نبأ ملكة سبأ إلى سليمان حجة على تغيبه، فأنا أيضا تغيبت عن المجلس الحكومي المنعقد في هذه اللحظة في الرباط، تحججت بمرض وهمي افتعلته حتى أزورك، وأتعرفك، وأتزود بمعلومات عنك ومنك شخصياً، وسأحظى حقاً بشرف كبير، وأنا أقدم للحكومة تقريراً عن هذا الحدث الجميل.
وتدخل رئيس مديرية الشؤون الجنائية موجها كلامه إلى الوزير:
ـ إن الشرطة القضائية يا معالي الوزير، وبدون شك، قد أبرقت إلى مديرية الأمن الوطني في الرباط، بهذا الحدث، ذلك أنها أول من تولى التحقيق مع الشيخ التوحيدي.
وتدخل الوكيل العام للملك موضحاً:
ـ إني أعرف بالمستوى الثقافي لرجال الشرطة القضائية في هذا الإقليم، فمن أين لهم أن يعلموا أنه سبحانه وتعالى، يحيي العظام وهي رميم. ذلك أنهم في ملخص ما كتبوه في محضر تحقيقهم، أن شخصا مجنونا يدعى "أبا حيان التوحيدي" يزعم أنه من مواليد القرن الرابع الهجري في بغداد، وقد ألقي عليه القبض في حالة تلبس، بجنحة الهجرة السرية، إنهم يجهلون اسم "أبي حيان التوحيدي".
وقاطعه الوزير:
ـ إني أتفق معك، فلا علم لمدير الأمن بهذا الخبر، كما لا علم للوزير الأول نفسه، فقد أجريت اتصالا بهما هذا الصباح، مما يؤكد عدم انتباه الشرطة لـ "أبي حيان التوحيدي"، وبذلك سيكون للقضاء شرف وميزة السبق إلى التعرف إليه.
والتفت نحوي مضيفا:
ـ إن انبعاثك يا سيدي أهم حدث في هذا العصر، فإذا كان علماء ومثقفو العالم قد سوّدوا آلاف الصفحات البيضاء، احتفاء بالذكرى الألفية لوفاتك، فكيف يا ترى سيكون ابتهاجهم وحفاوتهم بانبعاثك حياً ـ إنني يا سيدي، ويا شقيقي الأكبر، ويا والدي الروحي المتمنى ـ ولتسمح لي أن أخاطبك بهذه المشاعر الصادقة، إذا ما سئلت يوما عما استفدته في وزارة العدل، فسيكون جوابي: جلوسي إلى "أبي حيان التوحيدي".
ذكرني هذا الظرف بأصدقاء فاس وقصر كتامة، فقد كان وداعي لهم مؤثراً، ترك لدي انطباعاً محموداً لن تمحوه السنون. إنه حال المغاربة قاطبة، فهم يزجون المحبة إلى كل وافد مشرقي، وكأنهم ورثوا ذاك الحنين الفياض، الذي حمله معه عبد الرحمن الأموي إلى غرناطة، وقصتي معهم إن كانت جذورها تنسحب إلى جوف التاريخ، فإنني لا أزال أتظلل بأغصانها، في فندق السراب بمدينة طنجة.
وتدخل الكاتب العام للوزارة مخاطبا الوزير:
ـ في وسعنا يا معالي الوزير أن نرتب لشيخنا أبي حيان زيارات لبعض مناطق المغرب، حتى لا يحس السأم ببقائه في طنجة:
ونظر نحوي يستطلع رأيي، فأجبته:
ـ رغبتي أن أزور بغداد.
من جديد، نزل الخبر عليهم كسيف قاطع، فأضفت أعلل رغبتي:
ـ إنني عراقي مولدا ونشأة وعيشا، وحنيني إلى بلدي لا يضاهيه حنين، فمن حقي أن أزوره، إلا إذا كان هناك اعتراض!
رد الوزير:
ـ أبدا أبدا، لا اعتراض لأحد على رغباتك، فمن حقك زيارة العراق، وغير العراق، إنما بعد انتهاء الحرب، فلعلك على علم بأن العراق يتعرض لحرب مدمِّرة!
أسرعت بسؤاله وقد أفزعني الخبر:
ـ حرب في العراق؟ مع من نتحارب؟
أجاب الوزير موضحاً:
ـ قُلت إن العراق يتعرض لحرب، ولم أقل يتحارب، ذلك أن دولا غربية بزعامة أمريكا، طمعاً في ثروة النفط، افتعلت خرقه للشرعية الدولية، فشنَََّت حرباً عليه لتستأثر بهذ الزيت.
انتفض عقلي لغموض وهول ما سمعت، فقلت مستفسراً:
ـ لم أفهم مدلول عبارة الشرعية الدولية، ولا كلمة النفط، فماذا تعني بهما؟ ثم إن العراق أكبر خلافة إسلامية عربية، وهو محاط بجيران مسلمين، فأي موقف اتخذه الجيران؟
أجابني الوزير بهدوء، وكأنه غير معني بما يحدث:
ـ ما عاد العراق كعهدك به، خلافة إسلامية لا تغرب عنها الشمس، إنه في عصرنا هذا مجرد قطر صغير، محاط بأقطار متناثرة هنا وهناك، في نزاع دائم فيما بينها شأن أطفال الحيّ.
صمت قليلا وأضاف بالهدوء نفسه:
ـ الموضوع معقد جدا. إنه شبيه بما حدث بين إمارات الأندلس قبل ضياعها. فالبلاد العربية اليوم، أمست كنظيرتها الأندلس، تحتمي بالأجنبي، أو تؤازره ضد بلد عربي آخر. والعراق نفسه في عصرنا هذا الذي نعيشه، وبدعم من أمريكا التي تدمره اليوم، خاض حرباً شعواء مع جارته إيران. سأبعث إليك كما وعدتك، بمن يطلعك على كل مستجد يغيب عنك، وما يهمنا في هذه الساعة، هو أن السفر إلى العراق محفوف بمخاطر حقيقية.
توقف الوزير عن حديثه، دون أن يوقف نظرات صوّبها نحوي، كأنه يقيس بها درجات قناعتي، وبالرغم مما كان يعتمل في داخلي من قلق وحيرة، فقد حركت رأسي مبدياً قناعة ملتبسة، مما جعله يبتسم ويضيف:
ـ مادام غيابك عن العراق قد استغرق عشرة قرون وثلاثة وعشرين عاماً، فلا بأس إن زاد بضعة أشهر أخرى، إلى أن يهدأ الوضع.
خيمت فترة صمت قصيرة، فتداعى إلى ذهني محمد شكري، وتذكرت طريقته المسلية فيما يبسطه من أفكار بصوت حاد مرتفع، دون أن أنسى أنه كان المطلع الوحيد على بعض مؤلفاتي، العارف بأني كنت قد أضرمت النار فيها، ولن أجد غيره مؤنسا لي في هذه العزلة المضطربة. قلت هذا في نفسي، وسألت الوكيل العام إن كان بمقدوره دعوته لزيارتي، بعد أن يرحل معالي الوزير.
لكن ما إن سمع الوزير اسم شكري حتى انفجرت حنجرته بسؤال باغت به الوكيل العام:
ـ من أين هذه العلاقة بين الشيخ أبي حيان ومحمد شكري؟
أجاب الوكيل العام في شبه ارتباك:
ـ لا تجمعهما يا سيدي أية علاقة، كل ما حدث أن السيد وكيل الملك، وأثناء التحقيق التمهيدي مع الشيخ أبي حيان، استقدم محمد شكري ليستأنس برأيه في كتب الشيخ.
ـ من أين لشكري أن يمتلك رأيا في مؤلفات الشيخ أبي حيان حتى يُبديه؟
تساءل والغضب يتسلق وجهه، لكن لا أحد تجرأ على إجابته، فأضاف برنة تقل حدة عن سابقتها:
ـ التحقيق يكون سرياً، سترى كيف سينتشر هذا الخبر غدا صباحاً في أكثر من صحيفة.
فقال له الوكيل العام:
سبق يا سيدي أن أصدرت أمري إلى الحاضرين أثناء التحقيق، بكتمان سر هذه القضية.

(12)

حلّ المساء، وأنا وحيد في إقامتي، فافترشت وسادة في الشرفة المطلة على البحر، وصرت أرقب الشمس قبل مغيبها، وأستحضر في الآن ذاته هموم الدنيا، اكتسحني يقين جازم بأن وزير العدل يضمر عداء لمحمد شكري، لعل صداقة ما كانت تجمعهما، فانقلبت إلى عداوة، وإلا ما كان ليحتج على حضوره أثناء إجراء التحقيق معي، وينعته بوصف يحط من شأنه.
جعلني هذا أفكر في الصداقة بين العالم والحاكم، تلك التي يستحيل أن تكون متوازنة، إذ من شيم السلطان، الترحيب بالتزلف والاستلذاد بالإذلال، بينما العالم الحق، يدين التزلف ويرفض الإذلال.
تذكرت ما حدث لي مع الوزيرين أبي الفضل بن العميد والصاحب بن عباد، فقد كنت كمن يلقم حجراً كلما استمعت إلى آرائهما، عكس الفقيه "ابن مسكويه"، الذي كان على خلافي، كبير النفس مع العامة، صغيرها أمام الحاكم، قوي الكبرياء مع رفاقه، مسلوبها أمام الوزراء، ما أبصرت عيناي عالماً سخّر عواطفه وأحاسيسه رياء مثل ما فعل هذا الرجل، فقد أوصله تزلفه حدّ إبداء المحبة الصادقة، والإعجاب المنقطع النظير لأبي الفضل بن العميد، لدرجة أنه خصّ كتابيه "تجارب الأمم" و "تهذيب الأخلاق" من أجل إشاعة السمعة الرائعة عن ابن العميد وفترة حكمه، دون أن يرى في ذلك أية نقيصة، وكأنه منزه عن الأخطاء، كل ذلك ليصبح معلماً لولده أبي الفتح، وليظفر بعدها بوظيفة قيّم ومؤتمن على مكتبة بغداد، ولينزل إلى الدرك الأسفل من الإهانة، ليصير نديمه وجليسه في سهراته وملذاته ببلاطه.
يا له من رجل وضيع النَّفْسِ، جرفته تلك الحياة السرابية، ليرتبط بعلاقة أخرى مع الوزير المهلبي، الذي تسلقه كما يتسلق سارق التمور نخلة، فجاوزه ليتسلق نخلة أخرى أعلى وأنضج، هي عضد الدولة، أكبر أمير بويهي، إلى أن حظي برعاية منه جعلته يتصدر قاعة الجلوس في قصر البركة، لا أدري كيف صار ذلك القصر الذي كان متمطياً فوق دجلة، إن لم يكن قد جرفه النهر، فإن الأرض دون شك قد صهرته في باطنها، مثلما غيّبت ابن مسكويه.
أما أنا، فلم أطق إذلال الوزيرين، عافتهما نفسي لتكبّرهما ولتعجرفهما، ولم أفز بسكينتي وتوافقي النفسي، إلا بعد أن تعاليت على مقامهما لأصير أنا المنتصر، وهما الخاسران، وما كتابي "مثالب الوزيرين" إلا حجة قاطعة على أن قلمي كان أبتر من سلطانهما.
ضحكت وأنا أتذكر ما قلته لمسكويه حين أطلعني على ما دونه عن ابن العميد:
ـ لكنك يا مسكويه، لم تشر ولو بطريقة مواربة إلى عشق ابن العميد للغلمان.
فانتزع أوراقه من يدي، وقد اعتلى وجهه غضب شديد ولاذ بالفرار.
أتكون علاقة محمد شكري بوزير العدل المغربي، شبيهة بعلاقتي بالوزيرين العراقيين؟
عدت لأرقب الشمس، كان قرصها قد بدأ يغوص في البحر. فاصطبغ الأفق باحمرار شاحب، مع زرقة أرجوانية داكنة، أضفى عليه خرير ارتطام الموج على اليابسة واقعاً سحرياً، صبغ نفسي بمشاعر أججت حنيني إلى بغداد ونهاوند، وإلى وجودي بعيدا عن زماني ومكاني.
فكرت ُ في الأجيال التي ركبت هذا البحر، أجيال طارق بن زياد، وموسى بن نصير، والشعراء والقراصنة والمغامرين واللصوص، وفكرت أيضا في نفسي حين ركبته في ذلك الزمان البائد. أجل، كنت في كامل انشراحي وتألقي، أُفَقِّهُ رفاق القافلة في العلم والحديث، وأؤم بهم الصلاة، وكأني أحد الأئمة الأربعة، أوخامسهم، دون أن يغيب عن ذاكرتي رجوعي المأساوي إلى مدينة طنجة.
هربت من نفسي إلى تأمل انكسار الأمواج على الشاطئ، بعد أن تأكد لي انفصال تماهي وذاتي. بدت لي كل الأمواج متشابهة، لكنني، بين الفينة والأخرى، كنت أقتنص واحدة تكون غريبة عن أخواتها، فأمثل بها نفسي، هكذا قسراً عدت إلى التفكير في ذاتي، وحاولت من جديد أن أفصلها عني، أقنعت نفسي بأني وذاتي اثنان، وبانفصالي عنها أستطيع أن أجد حلاًّ لعجزها، وأن أنسف بعض ضروب يأسها.فعجزت مرة أخرى.
وبينما أنا كذلك، إذ بجرس التلفون يقطع حبل تأملي، فعدت مهرولاً إلى الصالة، رفعت قطعة الجماد إلى أذني، فوصلني صوت حاد النبرات:
ـ أُنْعِمت مساءً سيدي أبا حيان. أنا محمد شكري في بهو الفندق، أتأذن لي بزيارتك في غرفتك، أم أنتظرك في مكاني؟
ـ تعال إلى إقامتي.
أجبته:
ما إن فتحت له الباب ليبدو أمامي بشعر رأسه الأشعث، حتى جَحِظت عيناه ملتهمتين شخصي، فأدركت أن مظهري أذهله، دعوته إلى الدخول وأنا أقول له:
ـ لاتشرحنّ لي ما طرأ على شكلي، فأنا أيضاً ذهلت أمام المرآة، وأنا أشاهد نفسي بلباسكم هذا.
أشرت عليه بالجلوس، لكنه ظل واقفاً مأخوذاً، كأنه يحاول تفسير حلم مبهم، أو لغز محير، وأعدت الإشارة بيدي إلى المقعد الذي كان يعتمره وزير العدل قبل أن يغادره. فاستوى فوقه، ووضع بجانبه حقيبة جلدية صغيرة كانت تتدلى من فوق كتفه، وظل يحدق في وجهي. ودون أن أكبح ضحكة صدرت عني، سألته:
ـ أتراني أختلف عن بني البشر؟
ـ أبداً أبداً والله، بل أراك شديد الشبه بشاعر عربي أعرفه، اسمه أدونيس، وهو حي يرزق، دعني أشرح لك، عندما رأيتك بالأمس في مكتب وكيل الملك، حسبتك محتالا، أو مجنونا، كنت أكثر من استبعد حقيقتك استناداً إلى نظرية اختلاف الإنسان القديم عن المعاصر. وحتى بعد أن اتضح أمرك، وتأكدت حقيقتك، ظلت هذه النظرية مستحوذة على فكري، شاغلة ذهني، بين الرافض لها والقابل بها، لكنني وأنا أراك الآن، انتهى يقيني إلى خرافية تلك النظرية، وإلى أن الجنس البشري لم يطرأ عليه تغيير منذ وجود سيدنا آدم وزوجه حواء على سطح الأرض.
عدت إلى الضحك وقاطعته:
ـ أأنت على يقين أن آدم تزوج من حواء؟
أربكه سؤالي لوهلة، فضحك وأجاب:
ـ إن المسكين لم يكن له من اختيار، فقد كانت الأنثى الوحيدة في الدنيا، وكان عليه أن يقبل بها رغم أنفه.
ـ هي أيضاً كان عليها أن تقبل به رغم أنفها، فقد كان الرجل الوحيد في الدنيا.
ـ لا شك أن الله أبدعها على أحسن تقويم وبذلك عُمِّرت الأرض بهذه الألوان البشرية.
عدت لمقاطعته:
ـ أمن الضروري أن لا ينصبّ حديثي معكم معشر المغاربة، إلا عن الخوارق أو النظريات؟ أما كان أجدى أن نترك لسجيتنا حديثها فيما يريحها من أمور الساعة؟ كأن تدلني على واقعكم المعيش، أو علاقة أولي الأمر منكم بالرعية، أو أي شيء آخر يبقينا فوق الأرض ويقصينا عن ما تتناقله بطون الكتب؟
ضحك محمد شكري ودسّ يده في جيب سترته، فأخرج علبة صغيرة من الورق المقوى في حجم كفّ اليد وقال لي:
ـ إنها علبة دخان تحوي عشرين لفافة، أستهلك منها علبتين في اليوم، وثمة من يكتفي بواحدة، أو بأقل من واحدة في اليوم. ولعلمك، فهي ليست محرمة، فقد سبق أن أفتى بعض المتزمتين بمكروهيتها، لكنْ سرعان ما أبطل الواقع هذه الفتوى، فانتشر تدخين السجائر انتشار النار في الهشيم. مما جعل أحد الشعراء يقول:
قَالُوا تَعَاطِي الدُّخَانِ قُبْحٌ   
فَقُلْتُ لاَمَابِهِ قَبَاحَهْ
يُصَيِّرُ الْمَرْءَ فِي نَشَاطٍ  
وَفِيهِ عَوْنٌ عَلَى الفَصَاحَهْ
وَلَمْ يَرِدْ بِالْحَرَامِ نَصٌّ
               وَالأَصْلُ فِي شَاْنِهِ الْإبَاحَهْ
تناول من علبته لُفافة ألصقها بفيه، وأوقد في عقبها ناراً، وصار يمتص ما بها بنفسه، ويستخرج من فتحتي منخاره وفمه دخانا ينشره في الفضاء، وقال لي:
ـ إن ما أقوم به يسمى في قاموسنا المتداول بالتدخين، وأنا أدمنه منذ أن كنت في العاشرة من عمري، إنه يساعد مزاجي على الروقان والخصوبة، سترى كيف سيتقد ذهني، وتغمرني حالة إشراق تسعفني بفتوى أو مشروع يبعد عنا السأم، هل تقبل تدخين لفافة من باب التجريب؟
ـ لم لا، مادام الأمر كما تقول، فلأجرب.
وضعت لفافة في فمي، فأوقدها لي بعود ثقاب، وطلب مني أن أدعها تتسرب إلى دواخلي، فامتثلت لأمره، وإذا بسعال مفاجئ يبطش بي حد الاختناق، فانتصبت واقفا وهرولت إلى الحمام، غَسَلت وجهي وحلقي، ثم عدت إلى الصالة، وقبل أن أستوي فوق مقعدي، بادرته قائلا:
ـ بعد هذه التجربة المريرة أعلن لك، بأني والتدخين شيئان متضادان، لتنعم به أنت في حفظ الله ورعايته، أما أنا فإشراقاتي الذهنية لا تحتاج إلى غثيان أو بطش سعال.
لم يكف عن ضحكه، كأن ما ألمّ بي يدعو إلى الانشراح والقهقهة، فعلق مزهواً بعد أن أخذ نفسا من سيجارته:
ـ التجربة الأولى عادة ما تكون مُنفِّرة، كحال تناول النبيذ لأول مرة، فمذاقه مرّ كالعلقم، لكن النشوة التي يحدثها تشفع في إعادة تناوله، ليتحوّل في أفواهنا إلى مذاق العسل.
قاطعته:
ـ لست على مذهب أصحاب القياس، ولا من المتحججين بالضارة النافعة.
ـ لكم دينكم ولي دين.
أكدت لي جملته هذه طبعه الحاد، وأضاف:
ـ أتعاقر الخمر يا أبا حيان؟
لم أجبه، وتعمدت، وأنا أنظر إليه، إطالة صمتي، عله يقدم شرحاً أو مبرراً لدواعي سؤاله، أو يعتذر من الأساس، لكن بعد أن ظل هو الآخر محدّقاً في وجهي وكأنه فقيه يحث تلميذاً على جواب، أَشْفَقْتُ عليه من غروره، وهو في ضيافتي، فأجبته:
ـ ليس مع العامة، ولا مع الدهماء.
انفرجت أسارير محياه، وخاض في الحديث:
ـ كنت ستخيِّب ظني وتصدِمني إن كنت أجبت بالنفي، ذلك أنه ليس من طباع المشتغلين بالفلسفة والفكر الإحجامُ عن معاقرة المدام، ولو من باب التجريب. أما اقتصارك على الخاصة دون العامة، فهذا ما اهتديت إليه أنا أيضا بعد انحداري في الشيخوخة، فقد كانت بدايتي مع المهمشين، ثم ارتقت إلى العامة، ثم ارتقت إلى الخاصة، فخاصة الخاصة، بعد أن صارت مجالس العامة تصيبني بالقرف.
قاطعته:
ـ تزعم أن التدخين يمنحك صفاء الذهن، ويلهمك إشراقا يبعدك عن الضجر والسأم. ترى بماذا ألهمك وأنت مشرف على تدخين ثلاث سجاير؟
ـ لا تتعجل الأمر يا سيدي، فقد كنت بصدد إخبارك بأنني أعددت في ذهني خطة محكمة للتسلل من فندق السراب هذا.
ـ وإلى أين إن شاء الله؟
ـ إلى قلب مدينة طنجة، ألم تسألني أن أدلّك على واقعنا المعيش؟
ـ بلى، سألتك!
ـ إذن علينا أن نغادر الفندق دون أن ينتبه أحد من المسؤولين أوالخدم. وفي المدينة ستقف بنفسك على واقعنا.
ـ افرض أنهم انتبهوا، فهل يعترضون سبيلنا؟
ـ بكل تأكيد، فرجال الشرطة السريون، يطوقون مدخل الفندق، وهم على علم بوجودي معك، فقد تلقّوْا إذنا خاصا من الوكيل العام للملك يسمح لي بزيارتك، أي حتى زيارتي لك كانت متوقفة على إذن الوكيل العام.
ما العمل إذن؟ سألته فأجابني:
ـ ألم أقل لك إنني أعددت خطة محكمة، اسمع، أنا سأغادر الفندق من بابه الرئيس، كما لو كنت قد ودعتك، وأنت ستتسلل من جهة النافذة المطلة على الشاطئ، أو عبر النافذة ذاتها. ستنزل دركات السلم المفضية إلى الشاطئ، وتسير بمحاذاته إلى أن تجتاز منزلاً صيفياً مضاءً يملكه أحد الأمراء العرب، فتعرج يساراً مولياً ظهرك للبحر. بعد بضع خطوات ستجدني في الطريق العمومي صحبة سائق سيارة.
تناول حقيبته، وعلقها بكتفه، وقال لي:
ـ أتمنى أن لا تفشل خطتُنا، لا تنس أن تحمل معك مفتاح الإقامة.
خطا إلى الخارج، ثم التفت نحوي وأضاف:
حاول أن ترتدي سترة فوق قميصك، فقد تكون الليلة باردة.

(13)

كانت الليلة فعلا باردة، سرت فوق رمال الشاطئ المبتلّة، مصحوباً بنسائم عشب البحر، وضوء القمر، وصخب الأمواج، والتوحُّد، والظنون، فانتبهت إلى أنني مغلّف بأحاسيس مضادة، متناقضة، لعلها مزيج من السعادة والحزن، أو من الفرح والكآبة. لقد سبق أن اعترتني أحاسيس شبيهة بهذه، بل استطعت أن أستحضر مكانها وزمانها، فقد كنت في مدينة المحمّرة الفارسية، ذلكم هو المكان، وكنت فتى يافعاً، ذلكم هو الزمان، ليس في هذا أية غرابة، فما أيسر تذكر الأحاسيس حين تعاودنا.
خيل لي أن ريحاً عاصفة تدوي بداخل رأسي، وتغسل ذاكرتي، فتزيح ما تراكم بها من طبقات النسيان، وتفتّقت بصيرتي، لتفرد لي مشاهد لوقائع عينية من حياتي البعيدة، تلك التي كانت في طي العدم، كما لو أني كنت أعمى، فصرت بصيراً.
وانزلق اسمها من لساني، فتوقفت وسط الشاطئ وخاطبت نفسي، ماذا؟ قلت شهربان؟ لفظت اسمها؟ لم أصدق، كيف لي أن أصدق وأنا منذ عشرات السنين، وقبل عشرة قرون، أحفر عن اسمها في ذاكرتي، إلى أن تملكني اليأس وصار يقيني بأنه امّحى إلى الأبد، وفجأة يطفو على سطح ذاكرتي، لتتقشّع معه كل تفاصيل أيامي المنسية.
ازددت وثوقاً من حالتي الخارقة، وفي لمح البصر مرّ سجل حياتي في ذهني.
أجل كنت في ضيافة الحاج عبد الحسين التوحيدي، أعز أقرباء والدي، كان قد أرسلني إليه لأتعلم الفارسية والسيسانية، رجل على قدر من التقوى والعصامية، وحده تولّى تدريس ولديه قواعد العربية والفارسية والسيسانية، وعلوم الدين والحساب، أستطيع أن أتنسم رائحة طيبه المعلوم من عمامته السوداء، أما صوته الجهوري وهو يتلو القرآن، أو يؤم بنا الصلوات، فإني أكاد أسمعه الآن يرن في أذني، وكأني لم أغادر بعد مدينة المحمّرة.
كنت وولديه نتناوب على جلب الماء من العين الرابضة عند سفح الجبل، كان يتولى أحدنا كلّ صباح هذه المشقة، لكنني أعفيتهما منها، وتحمّلتها وحيداً متطوعاً، ليس إيثاراً أو كرماً مني، وإنما لغاية في نفس يعقوب.
كنت أستيقظ مع نسمات الفجر الأولى، فأستر جسدي ببقيري الصوفي، وألف رأسي بما يشبه العمامة، وأسرع لأسابق الريح نحو العين، قبل أن تنقع ماءها حوافز الماشية والدواب.
هناك، كنت أنتظر مجيء شهربان، فتلوح رفقة صبيات كما يلوح القمر مكللا بنجوم في ليلة ظلماء، فأقترب منها ثم أبتعد ثم أقترب، محاولا أن ألفت نظرها إلى وجودي، وتكرر إقبالي وإدباري، فتجرأت وقلت في نفسي، ماذا لو تقابلنا على انفراد؟ لكنني حققت حلمي في خيالي، فلا رقيب على خيالي، أفتح أزرار قميصها وأدعك ما تلمسه أصابع يدي وراحتها، وحين أصطف مع رفيقيَّ وراء عمي عبد الحسين لأداء الصلوات، أدعو الله أن يغفر لي ما تقدم من ذنوبي وما تأخر، وأعود لأحلام يقظتي.
وتحقق ذلك الحلم البعيد المنال، ليس في خيالي، وإنما على أرض العين في سفح الجبل، بين شجيرات الصفصاف والصنوبر والعرعار، ونباتات برية ذات روائح زكية، وكأن كل شيْء أُعد عنوة ليتم مشهداً كنا بطليه.
ما أروع أن تتحول أمانيك إلى معيش حقيقي، إن ذلك شبيه بالشيء النادر الحدوث، لكنه تحقق لدي مع شهربان.
في ذلك الفجر العذري، وجدتها وحيدة تملأ جرتها، وحين تقابلتْ نظراتنا، وابتسمتْ لي، ارتبكتُ وانتفض قلبي، وبكلمات مني، مرتعشة مضطربة، لا معنى لها، لكنها كانت بليغة في إثبات هيامي بها، وبكلمات منها مرتعشة مضطربة، عرفتُ أنها هامت بي، ومثلما سرّها أن أكون عربيا وافدا من بغداد، سرني أن تكون فارسية من المحمّرة.
عند سفح الجبل، صرنا نلتقي كل فجر، نخفي ما نحمله من أواني السقي، مثلما نخفي قامتينا بين الأشجار والنباتات البرية الباسقة، لم أكن أعرف بعد أن اسمها شهربان، لكنني عرفت، بل ونزعت عن رأسها بخنقها لتنكشف لي خصلات شعر فاحم، تدلّت إلى أن خلتها ستصل إلى الأرض، وفتحت أزرار القميص وأنا أنتصب أمامها وجها لوجه، مطوقاً برعشة محمومة.
في تلك اللحظة بالذات، قُدر لي أن أكتشف عذاب متعة تحقيق الحلم.
توقفت في الشاطئ، وفكرت في شكري الذي ينتظر التحاقي به، لكنني فكرت في الوقت ذاته في شهربان، وفي الهوة التي تفصلني عنها، وفي حالتي الخارقة هذه، أيكون طيفها يحوم الآن حولي، فيسعف ذاكرتي باستحضار ما غاب عني.
عدت إلى تلك الأيام في المحمّرة، استحضرت ذلك الطقس الخريفي البارد، حين كنت أنسل من بين الأصدقاء، فأتدحرج نحو الشاطئ، أسير فوق رمله المبتلّ وأصدح بالغناء، أو بترنيمات لأبيات من شعر أبي ربيعة أو جميل بثينة أو كثير عزّة، وأبكي، وأبكي، مستعجلا رحيل الليل لقدوم الفجر، لأقابل شهربان، كنت أعيش العشق الحقيقي، دون أن أعرفه، ولعل مصدر بكائي كان عشقي، أو شدة خوفي من فقدان شهربان.
وها أنا ذا أعاود السير ليلا، على رمل شاطئ مبتل، عارف بأحوال العشق، في زمان ومكان غير زمانه ومكانه، كأني الأزل ينتقل من عصر إلى عصر.

(14)

أوليت ظهري البحر، فظل المنزل الأميري عن يساري، سرت بجواره إلى أن لاحت سيارة واقفة في الطريق، ترجل منها محمد شكري وفتح لي بابها الخلفي، ثم عاد وجلس إلى جوار السائق، فانطلقت بنا السيارة وكأنها حيوان ضخم جموح، تُرسل عيناه شرارة ضوء يحيل الظلام نهاراً.
أراد أن يقول شيئا، فأسكته ليتركني في سرحاني، لكن ما إن ولجنا أبنية مزدانة بالألوان، حتى صار يدلني على معالم لم أُعرها اهتماما، فقد كان ذهني منشغلا بليلة كانت أطول ليالي عمري، تلك التي تأخر فجرها عشرة قرون، لتكون حداً فاصلا بين عصرين.
هل استغرقت تلك الليلة حقّاً عشرة قرون؟
عليَّ أن أصدق قبل أن أطلب من الآخرين تصديقي!
ما إن توقفت السيارة، حتى قفز محمد شكري خارجها، وفتح لي الباب، وخاطبني:
ـ مرحبا بك صديقي أبا حيان في قلب مدينة طنجة، الشارع يسمى "موسى بن نصير" والمطعم الذي سندخله يسمى "الريتز".
عاد إلى صاحب السيارة، سمعته يشكره، ثم رجع حيث أقف، ودعاني لولوج المطعم وهو يقول لي:
بعد أن اتخذت هذا المطعم مقراً لي، جعلت منه ملتقى للمثقفين من معارفي وأصدقائي، أتقبل أن تكون أحدهم؟
حركت رأسي موافقاً ضاحكا، فتقدمني ينزل دركتين لنصير وسط المطعم، انحنيت برأسي مثله محييا ثلاثة أشخاص ملأوا إحدى الموائد. وقف أحدهم وصافحنا، فالتمس شكري منه بأدب جم، أن ينتظر إلى أن يفرغ من أمر له معي، وصار يدلني:
ـ الذي نراه في الزاوية حان صغير، والقنينات المرصوصة فوق الرف أنبذة مغربية.
لم أتمالك دهشتي، فسألته:
ـ خمور تعرض في مطعم علانية؟
ـ ماذا يدهشك في هذا؟ جل البلاد الإسلامية تُسوِّق الخمور جهرا، أما كان في العراق خمور وحانات؟
ـ بلى، هناك حانات من زمن جلجامش، ومنها حانة بغدادية كانت تديرها رابعة العدوية قبل أن تتصوف، أذكر أن أبا نواس كان يؤمها، كما كان يسافر من بغداد إلى حانات خارج مدينة الحيرة، أما الخمور فلا تعرض في الأسواق، بل تباع بطرق سرية، ويقام الحدّ على بائعها ومقتنيها، باستثناء حاشية الخليفة وبطانته.
ـ أنت تتحدث عن العراق قبل عشرة قرون. الأمر يختلف اليوم، دعنا من هذا الآن، وتعال أطلعك على الصور التي تزدان بها جدران المطعم.
تابعت الفرجة على صور تجمعه بأدباء وشعراء وسياسيين. صور عجيبة حقيقية، يكاد أصحابها ينطقون، توقف عند صورة لرجل دمث الملامح، وقال لي عنه:
ـ إنه الشاعر عبد الوهاب البياتي من العراق، قضى نحبه في دمشق منذ سنوات قليلة. لقد ظلَّ صوته رعداً مدوياً، وكان نسرا جريحاً، أعرفه عن كثب منذ ثلاثين عاماً. انتقل بعدها إلى صورة أخرى، وقال لي عن صاحبها:
ـ مناضل معارض عنيد، ابن مدينة طنجة، حكم عليه بالإعدام، لكن رفاقه دبروا فراره إلى خارج المغرب، وبعد عقد ونصف، عاد ليصبح وزيراً أوّلَ، حكايته تثير الإعجاب والدهشة، وقد تفيد في فهم أوضاع السياسة العربية الإسلامية الراهنة.
لم أتمالك نفسي وأنا أنعم في صورة هذا المناضل المغربي، فقلت:
ـ إنه يشبه بالتمام صديقي أبي زكرياء يحيى بن عدي النصراني البغدادي.
أشار إلى مائدة تحف بها أربعة مقاعد منزوية في ركن عند مدخل المطعم، وأخبرني:
إنها مائدتي الموقوفة عليَّ، لا يجلس بها أحد سواي.
أسايره وأستمع إليه، لكنني كنت منشغلا في الوقت ذاته بحال العراق، بعد عشرة قرون من رحيلي عنه. فقد قال لي، إن الأمر يختلف اليوم، دون أن يدري أن جملته القصيرة هذه دوَّختني، وفجَّرتْ في دواخلي بركاناً من أسئلة ستظل أجوبتها غامضة، رغم ما قد أقف عليه من كل مستجد في العراق.
ما كدنا نجلس حول مائدته المفضلة، حتى وقف علينا رجل في مقتبل عمره، خمري اللون، طويل كنخلة لم تثمر بعد، شاربه قصير داكن السواد، محفُوفٌ بعنايةٍ فوق بسمة لا تفارقه:
ـ إنه عبد الحفيظ، النادل القيّم على جميع الزبناء، لكنني أنا مستثنى منهم، فهو يعرف عني كل شيء، نبيذي المفضل، وعاداتي، وأصدقائي، حتى ما تشتهيه معدتي، ولعلمك، فإن معدتي تشبه معدة عصفور، فهي تفضل الشراب على الأكل.
يضحك ويتحدث، ويطلب من عبد الحفيظ أن يأتينا بما لديه، ويسألني في حضوره:
ـ أتجرب نبيذاً مفضلا لدي؟ ودونما اكتراث أجبته.
ـ أريد ماء.
ـ صديقي يرغب في أن يفتتح الجلسة بالماء، اسقه ماء، ذاك شأنه!
قال للنادل قبل أن ينصرف، ورحّب بالرجل الذي سبق أن صافحنا، وأشار إلى شخصي قائلا:
ـ هذا أبو علي، صديق من العراق.
ثم انحنى عليَّ، وهمس لي:
ـ حتى لا ينكشف اسمك، ثم إن الشاعر البياتي الذي شاهدنا صورته، كان يفضل أن نلقبه بأبي علي، أليس اسماً عراقيا؟
حركتُ رأسي بالإيجاب، فعاد إلى رفع صوته معرفاً صديقه الشاب:
ـ إنه عبد القادر، كاتب مغربي متميز، ولعله درس الفلسفة بكلية الآداب، إن لم تخني ذاكرتي!
ـ ليت لي مثل ذاكرتك.
علّق عبد القادر، فضحك شكري وقال لي:
ـ الرجل صادق فيما يقول، ذلك أني أمتلك ذاكرتين، إحداهما ذاكرة الأمي والأخرى ذاكرة المتعلم، وقد لازمتني ذاكرة الأمي إلى أن بلغت سن العشرين، ففي هذا العمر بدأت أتعلم القراءة والكتابة. أما قبل ذلك، فقد كانت ذاكرة الأمي تسعفني في حفظ الأسماء والأرقام والحكايات، لكنني وأنا أمي لم أكن جاهلا، بل كنت أكثر إطلاعا ولباقة من متعلمي هذا الزمن، كنت أقتني مجلات وأُناوِلُها لمن يقرأ لي مقالات منها، في حين أن هناك متعلمين جاهلين، لا يقرأون شيئا.
ضحكنا جميعا.
أحضر النادل قنينة شراب مع أقداح زجاجية مكتنزة، وقنينة ماء خاصة بي، ثم غاب فترة زمنية قصيرة، عاد بعدها يحمل صحونا صغيرة بمأكولات قليلة، لا تكفي لِرَدِّ جوع رجل واحد، زيتون وباذنجان وفجل، وردّاً على ذهولي عقب شكري:
ـ لاتحسبَنَّ هذا أكلا، إنه مجرد مزّة معتادة لفتح الشهية لا غير.
حين صبَّ عبد القادر كأس نبيذه، أسرعت أنا فملأت قدحي بالماء وقرّبته ناحيتي، وكأني بفعلي هذا أعلن رفض شرب الخمر، فابتسم الرجل وألقى في جوفه ببعض شرابه. في تلك الهنيهة دخل المطعم شاب مربوع القد، أميل للبدانة، لم يهاجم الشيب كل رأسه بعد، وقد طفح محياه بطيبة لا تخطئها العين، صافحنا واحدا واحدا، فدعاه شكري مرحبا، وقال عنه:
ـ هذا رجل حلو المعشر، طموح، بدأ حياته مدرساً صغيراً إلى أن أصبح أستاذاً للآداب العربية، اسمه عبد اللطيف.
وأشار إلي، وهو يقول لضيفه الجديد:
ـ أبو علي، أديب وفيلسوف من العراق.
صبَّ كأساً لضيفه وخاطبني:
ـ تأكد يا أبا علي من أنه لا وجود لأحد من العامة في جلستنا هذه.
سكت قليلا، ثم وكأنه لم يُطق صبراً عاد يستفسرني:
ـ إلى متى ستظل تشرب الماء؟
ـ إلى أن يشاء الله، بعد ذلك سأتدبر أمري.
أجبته:
مرَّ زمن شرد فيه ذهني عما كان يروج بينهم من أحاديث، إلى أن استرقت أذني اسم أبي حيان التوحيدي، فتساءلت في حالة استنفار، ظناً مني أنهم بصدد الحديث عن واقعتي:
ـ بالله عليكم، عمَّ تتحدثون؟
أسرع شكري يجيبني:
عن مرارة الاغتراب، وقد استشهد عبد القادر بثلاثة فلاسفة هم "كيركيجور" و "بول تيليش" و "أبو حيان التوحيدي"، صنفهم فلاسفة حاولوا التخلُّص من مأزق الاغتراب النفسي، عن طريق الإيمان بالله.
وأضاف عبد اللطيف:
ـ جعلوا الإيمان ملجأ ومنقداً من الاغتراب.
صمتوا في انتظار وجهة نظري، فقلت لعبد اللطيف:
قد تصدق نظريتك عن الفيلسوفين الأجنبيين، فأنا جاهل بهما، لكن بالنسبة لأبي حيان، فبودي لو أعرف مصدر استنتاجك هذا.
رد عبد اللطيف:
الأمر في بساطة شرب كأس ماء، فبتقليبك لصفحات كتاب "الإشارات الإلهيّة" ستجد التوحيدي ينادي ربه ويناجيه بنبرة صادرة عن قلب خاشع ذليل، متضرعاً، ناشدا التعلق بحبل الإيمان، وذلك دون شك، محاولة منه للفرار من يأسه واغترابه.
فتدخل عبد القادر.
ـ إن ألبير كامي سمّى أمثال هؤلاء بـ "الفلاسفة المنتحرين"، لأنهم رفضوا الصمود، هربوا من مواجهة مصيرهم بالعقل والمنطق، واستسلموا لما وراء الطبيعة، شأنهم في ذلك شأن من يتشبث بالسراب اتقاءً الغرق.
حركت رأسي موافقا،ً مع أني لم أتفق في داخلي مع استنتاجهم السطحي الساذج، لكن ما أدهشني هو اهتمامهم بشخصي، إذ لم يخطر ببالي ولربما ببال من عاصرني، بأني سأظل حاضراً في المشهد الفكري العربي الإسلامي طيلة هذه القرون، عشرة قرون مرت والناس ينبشون في أفكاري وشخصي، دون أن يأخذ موتي سوى جسدي، مع أني لم أكن أنشد المجد كما فعل المتنبي والمعري، لدرجة أني أضرمت النار في كتبي، إذ كان يقيني أني جئت إلى هذه الدنيا في صمت، وسأرحل عنها في صمت، هكذا تعمّدت العيش في الظل، دون أن أسعى إلى سلطان أو مجد، أيكون لأني تمرّدت على صخب الدهماء وعلى الأصوات النشاز؟ سأتعرَّفُ الحقيقة مادمتُ قد عدت إلى الدنيا، لكنني إلى حد هذه الساعة ما أعلمه يقينا هو أنني في حياتي الأولى تلك، لم أكن أعير ذاتي أي اهتمام، ففي إحراقي لكتبي كنت أحرق ذاتي، هذه الذات التي لم تر إلا العثرات بعد العثرات، وإلاّ الاستئناس بالوحشة والقناعة بالوحدة.

(15)

انتشلني شكري من ذهولي الداخلي صارخاً:
ـ أنت غائب عنّا يا أبا علي، لا تشاركنا الشراب ولا الكلام، ولا حتى الاستماع.
ـ معذرة، فقد كنت شارداً في هموم الدنيا، إنما صدقوني بأني أريد أن أستفيد. فعمَّ تتحدثون؟
أجاب عبد اللطيف:
ـ مازلنا نَنْبُش حياة أبي حيان الذي قهر اغترابه بلجوئه إلى مرساة الإيمان، محاولا التصالح مع ذاته. فما قولك وأنت من بلد أبي حيان؟
دققت النظر في وجوههم جميعاً، وأنا أعتزم دحض ما أجمعوا عليه، فقلت لهم:
ـ لم يلجأ أبو حيّان إلى الإيمان لقهر اغترابه ومصالحة ذاته، فهو لم يكن غريبا عن ذاته حتى يصالحها، بل كان متوحداً معها، فقد نشأ مسلما مؤمنا، وانتهى مسلما مؤمنا. إن اللجوء إلى الشيء لا يكون إلا من خارجه أو من نقيضه، كحال الملاحدة حين يهربون من القلق إلى الثبات، أي إلى الإيمان بالله، وأبو حيان لم يكن ملحداً، فإذا كان قد انتقل من إيمان ضعيف، بعد أن تقدم به العمر وخبر الحياة، إلى إيمان أقوى، وهو ما أفصح عنه في آخر مؤلفاته "الإشارات الإلهية"، فإن ذلك ليس هروبا ولا لجوءاً ولا اكتشافا جديداً للإيمان، فأحرى أن يكون انتحاراً، كما زعم فيلسوفكم النصراني كَمْ كُمْ أو كِمْ كَمْ، لا أذكر اسمه، ولعله مات منتحراً.
فأسرع عبد القادر يقول:
ـ ألبير كامي، لا تقل لنا يا أبا علي إنك لا تعرفه، فهو كما تقول، قد مات منتحراً يقيناً.
فتدخل شكري وسألني:
وما قولك في اغتراب أبي حيان؟
ـ الرجل في مسير حياته كلها لازمه إحساسه الشديد بالغربة، مثلما لازمه إيمانه الشديد بالله، ولا تنافر بينهما، ذلك أنه لم يكن مسلما عادياً، بل كان مسلما قويا متمكنا من كل علوم عصره، لدرجة أنه ألف كتاباً أسماه "الاكتفاء بالحج العقلي إذا ضاق الفضاء عن الحج الشرعي"، فأحدث بلبلة في المجالس العلمية بين مؤيد ورافض ومتردد، وذهب في قوله إلى أن أعمال القلوب فوق فرائض السنة، وهي أفكار جريئة لا يستطيع تناولها إلا مسلم عالم، قوي ببراهينه وحججه، أما ظاهرة اغترابه، فلا يمكن فصلها عن عصره، أتعلمون بما اتسم به عصره؟
صمت الجميع منتظراً ما قد أضيفه، فتابعت حديثي:
ـ في عصر التوحيدي، عانى أهل الفكر والعلم من الإحساس الشديد بالعجز والإهمال والفاقة، تولى جلهم أعمالا وضيعة لسد رمقهم، فجاء ما كتبه التوحيدي عن الاغتراب، صدى يمثل روح ذلك العصر، وبإيجاز كان عصر التوحيدي القمّة ثقافياً والهاوية سياسياً.
في الحقيقة، كان بودي أن أعرف موقفكم من آراء أبي حيان مفكراً وأديباً وفيلسوفاً، وليس مغترباً فحسب، وكأن الرجل ما عرف في حياته سوى الغربة.
حرك عبد اللطيف رأسه بين الموافق والمتردد، فأشرت له بيدي أن يقول ما لديه، فقال:
ـ لاشك أن رجحان صفة الفيلسوف كانت غالبة عليه، وهي التي أبرزت بطريقة لافتة ظاهرة الاغتراب لديه، ذلك أن الفلسفة في جوهرها، ترتبط أساساً بالاغتراب، بل هي نتاجه. ومن ثمة، فإن أي حديث عن فكر أبي حيان، لا يتسق إلا إذا وقع التطرق إلى اغترابه الوجودي الفلسفي الذي تثوي خلفه كل كتاباته، ولعله لهذا السبب كان يكثر من العزلة والوحدة، شأنه شأن غيره من الفلاسفة الكبار، فالإبداع الفلسفي هو نتاج موقف عزلة، نتاج مسافة بين الفيلسوف والواقع.
لم أطق صبراً، فقاطعته مضطراً:
ـ يا سيدي عبد اللطيف، ما كانت الفلسفة نتاج عزلة، ولا نتاج مسافة بين الفيلسوف والواقع، وكأنك تريد أن تقول إنَّ الفيلسوف هو ذلك الرجل القابع في برجه العاجي، يتأمل الحياة من بعيد.
لِنَبْقَ عند أبي حيان، فهذا الفيلسوف الأديب، لم تكن عزلته مادية واقعية، بل كانت عزلة نفسية سامية داخل دائرة الواقع، أي أنه كان يتأمل الواقع من داخله، يعبّر عن تجاربه الحية، وعن أحواله النفسية كما هي في صيرورتها، بعبارة أدق، كان يمارس التفلسف بوصفه تجربة معيشة.
اسمحو لي، لا أريد أن أطيل عليكم، لكن، ألا ترون معي أن ما وصلنا عن أبي حيان لا يتعدى بعض مؤلفاته؟ إنني أتساءل، وأسألكم في الوقت ذاته، إن كنتم تعرفون أحداً ترجم له أو أدمج حياته في كتاب أو رواية، أريد أن أعرف منكم؟
ردّ عبد اللطيف:
ـ حديثك أستاذي أبا علي مقنع جدّاً، فقد جعلتنا نحس بأننا تلاميذ في حضرة فقيه متمكن، وكما في علمك، فإن الكتابة عنه جاءت بعد أن تلاشت آثاره، لذلك فإن جميع ما قيل عن حياته متضارب، يقوم على الاستنتاج والترجيح والتخمين، فلا أحد أكد يقيناً حياته البيولوجية، كأن يكون من أصل عربي أو فارسي، تزوج أم جار عليه حب امرأة، فكره الزواج، إنه نفسه أهمل الحديث عن ذاته، مما يؤكد أنه لم يكن يطمح في بقاء أعماله بعد مماته. وما إحراق كتبه إلا تأكيد آخر على إحساسه بلا جدوى الطموح.
فتدخل عبد القادر مضيفاً:
ـ إن الإحساس بالإحباط يقتل الطموح فِعْلاً، وقد عرف عن أبي حيان، أنه عاش حياة الإحباط واليأس والاغتراب.
ـ حافظ، حافظ، قنينة أخرى مع كأس ويسكي مضاعف.
قال شكري، والتفت نحوي:
ـ بالله عليك، يا أبا علي، شاركنا يا أخي كأس شراب، إنه لديكم في العراق من عصير التمر، ولدينا هنا من عصير الكرم، وشتان بين مذاق التمر ومذاق العنب، أكرر عليك للمرة الضائعة في العدّ، أننا في جلسة خاصة لا يشاركنا فيها أحد من العامة.
ـ صمت قليلا وأضاف:
ـ من تقاليدنا في المغرب، أن لا يَرُدَّ الضيف هدية مضيفه.
لم أعرف كيف باغتني الضحك، ولا كيف حرَّكت رأسي رافضاً.
فوضع الكأس أمامه، وقال بخيبة فضحتها حنجرته:
ـ ما شئتَ لا ما شاءَ شكري.
ظل شكري في ذروة حبوره، إذ أخذ يضرب بشدة على ظهر عبد القادر، مفجراً فرحاً صبيانياً، إلى أن منعه الرجل من مواصلة ضربه، فتناول كأس مدامه، ورشفه في جرعة طويلة، ثم أعاد قدحه إلى مائدته وخاطب صديقيه:
أستسمح أبا علي إن أنا أفشيت سرّاً خطيراً مدهشاً.
أفزعني قوله، هذا رجل أحمق، بعد أن لعبت تعاويذ الكؤوس برأسه، سيقدم على فضح سرِّي لأصير من جديد موضوع تساؤلات، أنا في غنى عنها، قلت في نفسي.
لكنه أشار بيده يطمئنني، وقال:
ـ هناك مخطوط أثري فريد، عبارة عن سيرة ذاتية كتبها أبو حيان التوحيدي قيد حياته، عثر عليه مؤخراً في بغداد، وقد شاءت الظروف أن يطلع عليه صديقنا أبو علي، فإذا رأى أننا أهل لسماع شذرات من هذا المخطوط، فسنكون له من الشاكرين.
ملأ ثلاثة أقداح لصديقيه ولنفسه، وصمت ينتظر ردي.
أثارت عيونُهم جميعاً أسئلة خفية ظلت معلقة تستطلع حقيقة الخبر من كذبه.
لم أعرف بماذا ابتليت، فالرجل بطريقة مواربة يريدني أن أتحدث عن نفسي، وكأني أبو علي يتحدث عن أبي حيان.
ياله من مأزق، إنَّ حياتي تخصني وحدي، ولا معنى لأنشر تفاصيلها على آذان أناس لا تربطني بهم سوى صلة مجلس شراب عابر.
لكن شكري، وكأنه اكتشف ما يموج بداخل رأسي، قال:
ـ حياة أبي حيّان، ليست ملكاً عينياً موقوفاً عليه، أو على ذويه أو بلده، إنها من الشأن العام المشاع بين الناس، تراث إنساني مشترك بين جميع الأمم.
كلام جديد، لكنه حق ومنطقي، رفعتُ كأس الماء وألقيتُ به في حلقي، وقلت لهم:
ـ لا وجود لمخطوط أثري عن سيرة أبي حيان، لكنني أعلم عنه أشياء قد لا تعرفونها أنتم.

(16)

توقفت عن إتمام حديثي، بعد أن فاجأني محمد شكري بانتصابه واقفاً على رجليه، مرحباً بامرأتين وقفتا على رؤوسنا، وهو في حالة ارتباك، يشير تارة إلى مقعدين فارغين، ويطلبُ منّا تارة أخرى أن نفسح المجال لهما لتشاركانا المائدة، وفي الآن ذاته كان يسرد أسماء الجميع ليتعرف كل منا اسمَ الآخر، دون أن يذكر وجه قرابته بالمرأتين.
لعلهما زوجاه أو شقيقتاه! قلت في نفسي، وأنا أتحسر لمعرفة نوع هذه العلاقة، ودون إرادتي، انتفضت في مقعدي من هول ما شاهدت، فبعد أن أوقد لهما لفافتيهما بعود ثقاب، صب لهما كأسي نبيذ، فتناولتاه، وتجرعتاه، وكأنهما رجلان لا يختلفان عن الرجال في شيء، لكن الأغرب من ذلك، أن لا أحد غيري أثاره هذا المشهد.
إنهما جاريتان، قلت عنهما في داخلي، لكن شكري أبلغ السيدة السمراء، وتدعى صوفيا، بأنني أديب وفيلسوف من العراق، وقال لي عنها بالمقابل:
ـ إن السيدة صوفيا روائية باللغة الفرنسية.
حركت رأسي مبتسماً، لكنني في الحقيقة لم أفهم شيئا، إذ لم أقو على مزج امرأة تعاقر الخمر جهرا، براوية للأحاديث الشريفة!
وبعد برهة زمنية اهتديت إلى التسليم بالأمر الواقع متعللا بالفارق الزمني الذي قلب العالم رأساً على عَقب، فبعد هذه المسافة الزمنية، لم يعد غريبا أن أرى الشمس تسطع من مغيبها، وتغرب من حيث مشرقها.
جلست صامتا مسكونا بهواجس ظلت تُناوشني، فارتأيت أن أسلي نفسي بهذين المخلوقين اللذين اقتحما مجلسنا في بطن الليل، استرقت النظر إلى المرأة الداكنة السمرة المسماة صوفيا، إنها لا تتشبه بالرجال سلوكاً فحسب، بل مظهراً أيضاً، فقد قصّت شعرها العاري، وتزيّنت بقميص وسراويل ضيقة، حتى في عنادها لم تختلف عن الرجال، فقد أمرها شكري أن لا تخلط أحاديثها بالفرنسية، إلا أنها تمادت في غيها دون أن تعبأ بأمره، ثم بطرف جفن استرقت نظرات أخرى نحو "ماريا"، فراقتني أنوثتها، إذ كشفت عن ساقين ناعمتين بيضاوين، اعتلتهما تنورة قصيرة زاهية بلونها السماوي، بشرتها بيضاء وشعرها فاحم، أرسلته وراء ظهرها، لو لم أكن متعلقا "بنهاوند" لتمنيتها زوجا ثانية لي، سحر خاص بعينيها العسليتين، جعلني أتحاشى إطالة النظر إليها، فإلى تلك اللحظة لم أكن أعلم بعد درجة قرابتها من شكري.
كل شيء كان يطوقني بالدهشة والغرابة وبأسئلة كثيرة طرقت رأسي، فشغلتني دون أن أجد سانحة لأستفسر عنها.
كنت أبدو وكأني أستمع إلى أحاديثهم، لكنني في الحقيقة كنت أستمع إلى ما تتناقله نفسي من هواجس، تلك الهواجس المرتبطة بحضور المرأتين الغريبتين في مجلس واحد معنا، فقد كانتا تتحدثان وتعاقران الشراب كالرجال تماما، لا فرق بيننا وبينهما إلا ما تميزتا به من نعومة البشرة.
صارت الجلسة تمنحني نشوة تذكي أحلام يقظتي الموغلة في أعماق التاريخ.
وخطر لي أن أشاركهم الحديث، فتوجهت بسؤالي إلى صوفيا:
ـ سيدتي، عمن من الفقهاء تروين الأحاديث؟
حملقتْ في وجهي مستغربة، وكأني فهت بكلام غامض، فأسرعت أعيد سؤالي بصيغة مغايرة، وأنا إخال لهجتي قد عاقتها عن فهمي، والتبس الأمر عليَّ حين حركت رأسها يمينا وشمالا، وأشرعت عينيها تأكيدا لعدم فهمها، لكنني لم أتخاذل، بل توجهت إلى شكري، أستفسره بصريح العبارة:
ـ ألم تقل عن السيدة صوفيا إنها راوية، أم تُراني خانتني أذناي؟
تأملني برهة، ثم أجابني مبتسماً، وكأنه تدارك الموقف:
ـ كنت أعني روائية لا راوية، و "روائي" كلمة حديثة يقصد بها من يقوم بكتابة نصوص حكائية من نسج الخيال.
ثم فجأة، افتعل نوبة من الضحك، وخاطب مرافقيه:
ـ مزاح أبي علي لا يفهمه إلا خاصة الخاصة من الأدباء العراقيين، فقد أراد بأسلوبه الماكر إصلاح خطأ وقعت فيه، إذ قلت عن صوفيا راوية عوض أن أقول روائية، لكنني نجحت في الرد عليه بأسلوبه الماكر ذاته، أليس كذلك يا أبا علي؟
حركت رأسي موافقاً وأنا أحس بهم يتنفسون الصعداء، وأكثرهم صوفيا التي سايرتهم في فهم ما لم تفهمه.
لولا نباهة شكري وشطارته لافتضح أمري، قلت في نفسي، وقد تأكد لديَّ أن أكذوبته البيضاء قد انطلت عليهم جميعهم، ففكرت في أن لا أشاركهم بسوى أحاديث عابرة احتراساً من وقوعي في حُفَرٍ جديدة، لكن السيدة صوفيا أربكتني بسؤالها الذي فاجأتني به:
ـ كم لغة تتحدث يا مسيو علي؟
فأسرع شكري يشرح لي:
ـ إن كلمة مسيو فرنسية، وتعني السيد.
أحكمت تسجيل الكلمة الجديدة في ذاكرتي، وأدرت سؤالها في رأسي، وأنا أنظر إلى شكري، عله يسعفني بجواب يقيني زلة لسان جديدة. وبعد أن طال صمته، أجبتها:
ـ إضافة إلى لغتي العربية، أتحدث الفارسية والسيسانية والكرديّة. كما أنّني مُلِمٌّ ببعض أسرار اللغة البيزنطية والمسمارية والبابلية، وأنت سيدتي، كم لغة تتحدثين؟
فتدخل شكري يجيبني:
ـ اللغة الفرنسية هي ورقة توتها الوحيدة، فهي غير متمكنة من صياغة جملة عربية واحدة بطريقة سليمة.
خلت أن كلام شكري سيغضبها، لو لم تضحك وتقول:
ـ تلك حقيقة، وأنا سعيدة بها.
أما عبد اللطيف وعبد القادر، فكلما هَمَّ أحدُهما بفتح فيه، إلا وأسكته شكري، ليستأثر وحده بالحديث، ومثلما تنتقل جرادة من مكان إلى آخر، ظل ينتقل من موضوع إلى آخر، معلنا غبطته بكلِّ فكرة تصدر عنه، وسألني:
ـ أتعرف معنى لاسم صوفيا؟
فعلا لم أعثر على تفسير له، فقلت:
ـ لعله اسم مصدره الصوفية!
ضحك وهو يمسّد شعر المرأة، وكأنه سيمتدحها، وقال:
ـ اسم هجين، تنكر لأصله العربي "صفية" ليتشبه باسم لاتيني مسيحي، مثله مثل اسم ماريا، الذي هو "مريم" في أصله العربي.

(17)

رفع شكري قدحه وأمر الجميع بالصمت، وخاطبني:
ـ سوف تصادف نماذج كثيرة من أمثال صوفيا وماريا، رجال ونساء يشتركون في كونهم ضحايا، وإذا عرف السبب بطل العجب!
ـ لم أفهم!
قلت له، فابتسم وتجرأ على تناول سيجارة من صندوق "صوفيا" المختلف عن صندوقه، وقال لي:
ـ المغرب، هذا البلد الأمين، ظل نصف قرن رازحاً تحت جميع أنواع الاحتلال الفرنسي، لكنه لم يذعن، فثقافته، بالمفهوم الشامل، بقيت متراصة ومستنفرة، إلى أن أُعْطِيَ اسْتِقْلاَلَه، وهنا بدأ العجب.!
وقاطعه عبد اللطيف:
ـ لم أكن أعلم أنك محلل سياسي، إن كلمة "أُعْطِيَهُ"، هي الكلمة الحق.
ـ لست محللا سياسياً. أنا أنقل الواقع، وأعري الضحية والجلاد، فأنا رجل مخضرم، عشت عقديْن ونصفاً في ظل الاحتلال العسكري، وأزيد من أربعة عقود في ظل الاحتلال الثقافي.
وتدخل عبد القادر قائلا:
ـ أشاطرك الرأي، فقد خرج العسكري من الباب، وعادت ثقافته من النافذة، أهذا ما تريد قوله؟ املأ قدحي أيها العبقري!
ـ لا، لن أسقي أحداً قبل أن أنهي حديثي. ولعلمكم، عفواً، ولعلم صديقي وضيفي أبي علي، أعلن له، بأنني في مسير حياتي الطويلة العريضة، والتي كلما تقدم عمري، إلا وبدت لي قصيرة، أعلن عدم انتمائي في السابق والحاضر لأية هيئة سياسية حزبية، وبأني أمقت الحزبيين، الشيوخ الكبار البهلوانيين، حروف الجر وليس النكرات المجرورات، فهؤلاء اغتصبوا طفولتي وسرقوا كهولتي، لتكون النتيجة، أن صوفيا أصبحت سعيدة بجهلها تركيب جملة واحدة مفيدة بلغتها الأم، هكذا يبطل العجب.
والآن، سأملأ أقداحكم لنشرب نخب مآسينا، لنشرب على شرف عظمة حروف الجر، تلك التي انتصرت على إصابة المجرور بالكسر.
رفع الجميع كؤوسهم إلى السماء، فتساءلتُ عن السبيل لجعل هذه الجلسة تقصر أو تمضي بسلام، فقد فسدت أو كادت، فبسبب الكؤوس التي لعبت برأس شكري، لم أجد معنى لخطبته، ولا معنى لمجالستي شبانا صغاراً في مقام شراب، ولا معنى لوجود حريم غريب مشاع بيننا، ولا معنى لإرغامي على انتحال شخصية أديب عراقي، بل لا معنى لأن أظل كل هذا الوقت معلقاً فوق مقعد، وأنا المعتاد على افتراش البساط أو السجاد أو الأرض العارية، لا أن أتسلق الكرسي وكأني في حضرة حاكم.
تملكني ضيق مشوب بحزن وأنا أتحسس نفوري ممن يحيطون بي، فكان علي أن أستحضر أصدقاء فاس، فهم أيضا مغاربة، لكن الحال معهم كان مختلفا،ً كان لبعضهم مجالس شراب، إنما تلك كانت قليلة ومحاطة بسرية تامة، تتخللها موسيقى مغربية خالصة، عربية وأمازيغية ويهودية، كانوا يفترشون سجاداً يسمونه زربية، مطرّزاً بألوان زاهية، حيث تُفْرَدُ لكل شخص منهم وسادة مطرزة ليتكئ عليها. وتتوسط الجلسة مائدة خشبية ذات أرجل قصيرة يسمونها "طيفوراً"، توضع فوقها قوارير من قش أو مرشات فضية يتطيبون بما بها من رحيق الورد أو الزهر، أو غيرهما من أرحقة نباتات ذات روائح زكية.
لقد عَلِقَ بذاكرتي من أشربتهم "الصَّامت" و "الماحية"، يحتسونهما في قدح واحد يدار عليهم بالتناوب فردا فردا، ويسمون القدح القشي "غرّافاً".
ما ألذ تلك القعدات، وما أدفأها! فمن كثرة انتشائي بها، ونفوري من قعدتنا هذه، يزداد يقيني بانتمائي إلى الماضي، إلى ذلك الجيل من أصدقاء فاس وبغداد، إلى زمانهم وثقافتهم. ولذلك، فلو أني الرجل نفسه الذي حضر هناك ويحضر هنا، فإني لست الشخص ذاته الحاضر هنا. أيكون الرجل هو حمولته النفسية والوجدانية في زمن واحد؟!
لعل مرد اشتداد غربتي إلى أني ابن ذلك الزمان الذي مرت عليه عشرة قرون. فلو أن الأمر يتعلق بالمكان وحده، لخفت وطأة هذه الغربة، و لتقلّصت حدتها، ولو إلى نزر يُبقي لنفسي بريق أمل، ويشيع فيها حلم عودتي إلى بيتي في الرصافة، وإلى خلاني في بغداد.
لكن، أمام هول ما أنا فيه، فلا أرى لي سوى مخرجين، كلاهما مرّ، تحمّلٍ أو جنونٍ.
وأعادتني السيدة صوفيا إلى صخب الجلسة، بسؤالها الموجه إلينا جميعا:
ـ مارأيكم في تغيير هذا المكان؟
فأسرعت أجيبُها:
ـ أتمنى تغيير الزمان، لا المكان وحده!
ضحكوا جميعهم متوهمين بأني أمزح، لكن محمد شكري فطن إلى قصدي، إذ خاطبني وقد بَدَا عليه وهن الشراب من خلال حنجرته:
ـ الزّمان من أعقد قضايا الإنسان وأخطرها، وقد قام علماء، أكثرهم غربيون، بتسويد آلاف الصفحات عنه، لكنه ظل لديهم بدون علاج، إشكال محيّر، يُصيب بالجنون ولا يصاب، يَقهر ولا يُقهر.
وهمست إلى شكري ونحن نتهيأ لمغادرة المطعم:
ـ لن أقوى على الذهاب إلى مكان آخر. أفضل العودة إلى إقامتي.
ـ المكان الآخر نَادٍ ليلي، به موسيقى وغناء وبنات ليل.
ـ لا، لن أقوى.
ـ لك ما أردت.
أجابني شكري والتفت إلى مرافقيه يخبرهم برغبتي في العودة إلى فندقي، فمدوا أيديهم لأودعهم واحدا واحداً، لكن صوفيا لم تكتف بمصافحتي، بل مالت نحوي وطبعت على وجهي قبلة، ثم تبعتها ماريا وفعلت الشيء نفسه، قبّلتاني أمام الملإ وهما تضحكان، دون أن تثيرا أي تساؤل أو تعليق من رفاقنا، أما أنا، فمن كثرة ذهولي أحسست باحتقان الدم في شراييني.

(18)

في طريقنا إلى إقامة السراب، ونحن نمتطي صهوةَ السيارة البيضاء، ظلت المرأتان تشغلان تفكيري، فطلبت من شكري أن يكشف لي سرهما، لكنه بجوابه المقتضب، وكأنه يحتج على طلبي، زادني غموضاً على غموض، إذ أجابني بالحرف الواحد:
ـ إنهما مجرد صديقتين لا أكثر!
أربكني جوابه حدَّ الفزع، لكنني دون إرادتي، انتزعت منه ضحكاً عالياً، حين تساءلت بصوت مسموع:
ـ تتصادقان والرجال، دون أي اعتبار للشيطان؟
وسألته:
ـ وما الذي يضحك في هذا؟
حاولت أن أرصد ملامحه من خلال ضوء متقطع ترسله أعمدة الإنارة، فاتضح لي أنه يضحك في سره، وخاطبني:
ـ حين أدركك الصباح يا أبا حيان، بعد نومتك الأندلسية في القرن الرابع الهجري، كان العالم قد خطا إلى الأمام مسافة عشرة قرون، لكنك على ما يبدو، لم تقم وزنا لما استغرقته هذه المسافة من تغييرات، وإلا ما كنت لتسألني عن المرأتين هذا السؤال، إنك تريد أن يتصرف الناس وفق منطق زمانك، هذا مستحيل!
ـ أنا سألتك عن حكاية المرأتين، وليس عن كيف يجب أن يتصرف الناس.
 قلت. ولذت بالصمت. بعد فترة زمنية، استعذبت التفكير في حركة السيارة التي جعلتني أحس بما يشبه هدهدة المهد، ولعلني غفوت لحظات قبل أن أنتبه إلى أن الرجل منشغل بشيء ما بين يديه، وحين أوقد سيجارته عرفت أنه كان يبحث في محفظته عن صندوق سجائره، فتذكرت أن التدخين يساعد مزاجه على الروقان. إنه بعد سيجارة واحدة سوف يبوح لي باسرار المرأتين، وصدق حدسي، فقبل أن يأتي على سجارته الأولى، انفطرت حنجرته تعلن استعداده للبوح:
ـ لا شك أن سلوك صوفيا وماريا أوقعك في حيرة من أمرك؟
ـ إنه لكذلك.
أسرعت أجيبه برنة من ينشد سماع المزيد.
فزاد:
ـ لا بأس، ولو أني سأعرض بإيجاز ما قد يتطلب مني ليلة كاملة من الشروح.
 كانت أعمدة الإنارة قد اختفت، فبدا إلى جانبي شبحاً، لكنني من خلال هبوط حاد في نبرات حنجرته، أدركت أنه ثَمِلٌ.
ـ إن تصرفات صوفيا وماريا في مطعم ريتز، مرتبطة برياح التغيير التي لم تشملك، أكرر للمرة الثانية أن العالم أثناء نومك العميق، شهد حروبا وثورات واختراعات واكتشافات، كظهور الطائرة والإنارة وموانع الحمل واختفاء الأندلس، وأشياء أخرى كثيرة ومتنوعة، فكان من الطبيعي أن تولد عادات جديدة وقيم جديدة ومفاهيم جديدة ورؤى جديدة.
لم أطق صبراً، وهو يكرر برتوب كلمات بعينها، وكأنه يخاطب أَبْلَهَ أو شخصاً انبعث من العصر الحجري، فقاطعته:
ـ من يجهل تأثير الزمن في سلوك البشر؟ كل الحضارات منذ سومر وبابل والأندلس وغيرها، كانت مصادر لعادات وقيم لم تكن موجودة، أو هي كانت موجودة في مخيلة الإنسان، إلى أن دعت الضرورة إليها، فتعرفناها. كل هذا أعرفه وأحقه، لكن سؤالي الضيق اقتصر على حكاية المرأتين اللتين قبّلتاني أمام الملأ في مطعم ريتز، وشاركتانا مجلس الشراب، وتقول إنهما صديقتان لك، وكأنهما والرجال سواء بسواء، هذا تحديداً ما سألتك عنه.
ما إن أتممت قولي، حتى توقفت بنا السيارة في وسط الطريق، فخاطبني شكري:
ـ إننا بجانب القصر الأميري، على مقربة من فندق السراب، وسأرافقك عبر الشاطئ إلى إقامتك، وإن اقتضى الحال، أتممت ما تبقى من الليل في ضيافتك.
ترجلنا من السيارة، فطلب شكري من السائق أن ينصرف.
واستقبلتنا رائحة البحر بهواء ينعش العظام، وارتفع في السماء بدر منير في كماله، كشف أديم صفحة البحر، ولمعان بياض أمواجه، مثلما كشف ملامحنا وتعثر خطواتنا فوق رمل رحب استدار حولنا، فصرخت بأن البحر أشد مخلوقات الله روعة وسحراً. انحرفنا يمينا فامتدت أعمدة الإنارة خطاً واحداً مسرعاً من حدائق المنزل الأميري إلى فندق السراب، لكنها بدت أمام شعاع البدر قناديل باهتة محتضرة، فانتشلني شكري من هيامي، وقال لي:
ـ نظريتك القائلة إنَّ الاختراعات تنام في ذهن الإنسان، أعجبتني.
ـ أخبرني أولا بحال المرأتين.
قاطعته في عجلة من أمري، وأمسكت بذراعه أحثه على الابتعاد عن حدائق القصر، والاقتراب من الشاطئ، فضحك وأشعل سيجارة أخرى، وقال لي:
ـ أجل أجل، أعرف أنك مفتونٌ بالبحر، لِنَدْنُ منه إذن، إنما قبل أن أحدثك عن السيدتين دعني أصارحك بأن مقدمتي عن التغيير الذي أصاب سلوك البشر كان مصدرها اقتناعي بجهلك للمرأة، وبصفة خاصة نساء هذا العصر، فقد عرف عنك عدم مخالطتك للنساء، وباستثناء ما سمعته منك في المحكمة عن علاقتك بالجارية السيدة نهاوند، فإن جل الباحثين في سيرتك أجمعوا على خلو حياتك من المرأة، ولذلك سقت تلك المقدمة.
قهقهت وهرولت محاولا الابتعاد عن موجة اكتسحت الشاطئ، فغمرتني لأغوص وسط بركة ماء بارد بلغ ركبتي، وحين التفتت إليه، وجدته مُقَوَّسَ الظهر من شدة الضحك، وقد تراجع إلى الخلف ركضا في رشاقة نورس حقيقي، واستمر في ضحكه والموجة تنساب بين قدمي، عائدة إلى البحر بعد أن أنهت مهمتها.
ـ أنت ابن الصحراء، وأنا ابن البحر، وإلا لكنت عرفت أن تنجو من البلل، عليك بانتزاع حذائك وحمله في يدك. فهو حذاء جميل.
قال وهو يقهقه بصوت مرتفع.
 أنا أيضا غمرتني نشوة فرح طفولي، فأجبته دون أن أكف عن ضحكي:
ـ أفخر بانتمائي إلى الصحراء، مثلما أفخر بأني ابن بغداد، أكبر حاضرة في الخلافة الإسلامية، لكنني عشت كذلك في مدن ساحلية، في البصرة وفي المحمّرة الفارسية. إلا أن أمواج شواطئنا أكثر رقة ونعومة وانسياباً من أمواج شواطئكم. أخبرك بهذا لتضيفه إلى معلوماتك الناقصة. ألم تقل إنك أرّخت لحياة المهمشين، لتؤرّخ أيضا لحياة الهامشيين، أو بالأحْرى لمن صار في زمانك هامشياً.
ـ وأنت أيضا أبا حيان، لتضف إلى معلوماتك، بأن أسوأ ريح تهبّ على طنجة نسمّيها "الشرقي"، بينما نسمي الريح التي يحملها إلينا بحر الظلمات "الغربي"، وهي تسربل مشاعرنا بالنعومة والانتشاء.
ودون أن يتوقف عن ضحكه، أضاف:
ـ نحن معاً معلوماتنا ناقصة، إنك محظوظ يا صاحبي، فهذا النسيم الذي يلفح وجوهنا هو ما نسميه "الغربي"، أما ريح "الشرقي"، فإنك لا تقوى على مقاومة إزعاجه لحظة واحدة.

(19)

أشرت له بيدي أن نستأنف مسيرنا بمحاذاة الشاطئ، فاستجاب، ومشينا دون أن أخلع حذائي المبتلّ وأمسك به في يدي، وكأني لا أملك سواه، ورفعت رأسي إلى فندق السراب أمامي، وقد بدا بأضوائه المرتعشة مارداً يحرس البحر، ولمعت في ذهني قَوْلَتُه عن جهلي بالمرأة، فأردفت بصوت عال حتى لا يبدده صخب الموج:
ـ تعرَّفت نساء كثيرات عربيات وفارسيات، ولي فؤاد خفق وهام وعشق، وذاق طعم الغرام وهَدَّهُ الوجد والبعاد، هذا البحر أحضر لي تفاصيل من حياتي كانت في طي العدم، كنت في حوالى العشرين من عمري، غض الإهاب، حين همت بأول صبية فارسية.
ـ ياسلام! ماذا كان اسمها؟
سأل شكري، وأرخى أذنيه لسماعي، وفي عَجَلَةٍ من أمري، وكأني أمتحن ذاكرتي لأتعرّف ما قد تستعيده من تفاصيل تلك الأيام البعيدة المنسية، أو لربما كنت في حاجة إلى البوح، قلت:
ـ كان اسمها شهربان، ومعناه بالعربية نور القمر.
ـ يا سلام!
صرخ شكري، ورفع نظره صوب القمر، فأسرعت أقول له:
ـ من أجل ماذا تتمثَّل بين الحين والآخر بكلمة ياسلام، ماذا تعني بذلك؟
ـ ألا تردّدون هذه الكلمة في العراق؟ إنها تقال في كل البلاد العربية، وتفيد التعبير عن الإعجاب أو الإنبهار.
ـ ما علينا، قد تكون الكلمة من التعابير المحدثة. بيت القصيد أنني وشهربان تواعدنا أن نَظَلَّ على وفائنا إلى أن نتزوج، كنا نلتقي خلسة عند غبش الفجر في الجبل، أو بعد أن يرخي الليل سدوله على المنحدر أو الشاطئ، وبعد أن صارت شهربان دنياي ومناي. ولعلني كنت قد صرت دنياها ومناها، ودون شائبة عكرت صفونا أو خصومة أفسدت هوانا، اختفت مرة واحدة مثلما يختفي القمر في ليل حالك الظلام، فرحت أبحث عنها دون كلل ولا ملل، حتى غلب على ظني أحد أمْرَيْنِ، إما أن السماء رفعتها، وإما أن الأرض ابتلعتها، إلى أن بلغني أن أحد الكهول من آيات الله، ضمها إلى حريمه زوجا رابعة، وهاجر بها إلى مدينة قُم، وأترك لك تخيّل ما أصابني من غم، وما لحق بي من كدر وتعاسة.
ـ ألم ترتبط بَعْدَ شهربان بامرأة أخرى؟
ـ أبدا لقد صار النحس يلاحقني، ليظل الفشل حليفي، نحن مسيرون ياشكري لامخيَّرُون. فكل شيء مخطط له في لوح محفوظ بمشيئة الله، قبل أن نولد، ثم بالله عليك، كيف تسألني إن كنت قد ارتبطت بامرأة أخرى، وأنا أحدّثك عن حبّ حقيقي كنت أكنّه لشهربان؟
ـ أقصد بعد زواجها من غيرك. وبعد مرور الزمن، ألم تفكر في الزواج؟
ـ "وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى"، صدق الله العظيم، أذكر أني كدت أقدم على الزواج مرتين، في المرة الأولى بمدينة شيراز الفارسية نفسها، وكنت قد تخطيت الأربعين من عمري، كان الجرح الذي تركته شهربان في فؤادي قد أخذ يلتئم. الحقيقة أنّني لم أفكر في امرأة أخرى، لكن الواقعة بدأت على يد صبي فارسي كنت أعلمه مهنة الوراقة، وأفقهه في علوم اللغة العربية، مقابل توليه شؤون بيتي، كان نجيبا مريدا ودوداً، تلك حكاية أخرى. الشاهد أن هذا الصبي النزق، أخبرني ذات يوم أن أرملةً من جيرانه توفى عنها بعلها، وتركها في ريعان شبابها، وكرر على مسمعي الخبر مرات، دون أن يكف عن الثناء عليها، ووصف مفاتنها وخصالها، ورشّحها زوجاً لي، مما جعلني أشك في أمرها وأمره، إذ ظننته مُرْسَلاً من قبلها، فاشترطْتُ مشاهدتها قبل أن أفكر في العقد عليها، وحين استدرجها لزيارتي بوصفي عالما صوفيا، وجدتها مليحة ناعمة، فاستفسرت عن أصلها وفصلها، وقررت أن أزفها إلى نفسي مستندا إلى حديث رسول الله (ص): "اختاروا لِنُطَفِكُمْ فَإنَّ الْعِرْقَ دَسَّاسٌ"، ذلك أني كنت على علم مسبق بصلاح أشقائها، ويا ليتني كنت أسرعت بخطبتها قبل أن تحل الكارثة.
أخذ شكري نفسا عميقا. واستوقفني ممسكا بذراعي، وسألني:
ـ أية كارثة؟ أتزوجها غيرك؟
ـ ليت غيري تزوجها، فقد حدث ما هو أفظع من ذلك، ترددتْ على بيتي بضع مرات، وتواعدنا على الزواج، ولأني لم أكن أتوافر على ما أرتديه من لباس لائق يرفع من مقامي أثناء الخطبة، انشغلت بحياكة وخياطة تكةٍ وغلالةٍ وبَقيرٍ وشملةٍ، ثم كوفية وعمامة في بياض اللّبن الحليب، دون أن أهمل قدمي، إذ ابتعت نعلين على مقاسي.
في خضم انشغالي هذا، قام أحد الوشاةـ لعنة الله عليهـ فأبلغ أحد أشقائها بأنها تزورني خلسة في منزلي، فما كان من هذا الشقيق، صونا لعرض عائلته، إلا أن انقضَّ عليها كحيوان شرس، وبعد أن سفك دمها، ألقى بجسدها الغضّ في جوف بئر على مشارف المدينة.
أمسك شكري رأسه بِكلتَا يديه، وصرخ:
ـ يا للكارثة. إنها حقا مأساة! ماذا فعلت بعد ذلك؟
ـ لم أكن على علم بما حدث، إلا بعد أن زرت والدها، وأنا في أوج تألقي ووثوقي من نفسي، فقد جلست إلى الرجل معرّفا بشخصي في ارتباك وحبور لا يدركه إلا من أقدم على خطبة امرأة خفق قلبه لها، فأرادها حرثاً له. وغادرت منزلها كليم الفؤاد، لأجهش بالبكاء، كامرأة ثكلت أعزّ من تحب.
ـ وهل كان لا بد من ارتداء لباس أنيق كي تخطبها، مع أن علمك خير ما ترتديه؟
ـ إنها الأصول ياشكري، فلباسك يرفعك قبل جلوسك، وعلمك يرفعك بعد جلوسك.

(20)

حرك رأسه استحسانا لجملتي، وقال لي:
ـ أسايرك الرأي، أنا واللهِ متفق معك، فموضوع الأناقة دوّخني أنا أيضا منذ سنين، ولا أرى بأساً في إخبارك بأن أقوى ما حفَزني على الكتابة، هو إعجابي برجل أنيق، كان محل ترحيب واحترام من لدن زبناء مقهى كان يرتاده، ودفعني فضولي لأستفسر عمّن يكون هذا الرجل، فقيل لي إنه كاتب. فقررت للتو أن أكون كاتبا، ما أخبرك به سبق وأن أعلنته في أحد كتبي جهراً، ذلك أن الأناقة لا تتجزأ، فالأنيق في كتاباته وثقافته، لا بد أن يكون أنيقا في سلوكه ولباسه.
وأخذ يضحك بصوت مرتفع وكأن مساً قد أصابه.
ـ ماذا يضحكك يا شكري. أجبْني؟
توقف بعد أن ابتعد عني خطوتين، وهو يمسح عينيه من دموع الضحك، فقال لي:
ـ أضحك على ما سببته لي من تعاسة، فقد جعلتني أتألم، وحين انتبهت، وجدت أن السيدة توفيت منذ قرون، أكثر من عشرة قرون، فحتى لو كنت تزوجتها، أو عاشت مائة عام دون زواج، فقد كان عليها أن تكون في العدم. إنَّ الحزن عليها في وقتنا هذا أمر مضحك، وإذا أردت الحقيقة، فإني أضحك أيضا من الفرح. من سعادة قصوى تغمرني.
ـ أية سعادة تقصد؟
لم يجبني، ألقى بين يدي بحقيبته، وجرى يواجه الأمواج إلى أن ولج البحر. لم أعرف بماذا ابتليت، هناك بكل تأكيد غاشيةً غشيته، أو جنّيٌّ شقّ صدره فدفعه إلى الانتحار، وتبعته يهدّني الهلع:
ـ شكري شكري، لا تكن مجنونا، ارجع ارجع!
دون أن يتوقف صراخي، وقفتُ والماء يعلو ركبتي، وداهمتني موجة تكسّرت فوق صدري، فكادت تلقي بي أرضا لتجرفني إلى داخل البحر، فتراجعت إلى اليابسة، وأنا أشاهد شبحه يغوص ثم يطفو فوق الماء.
بعد برهة زمنية، وقد أوشك صبري على النفاذ، خرج الرجل المجنون وهو يرتعش من البرد. أنا أيضا كانت ركبتي تصطكّان من البرد أو الخوف، أو من هجمتهما معا.
ـ ماذا بك ياشكري؟ لماذا ولجت البحر؟
لم يكف عن الضحك وهو يخلع سترته وقميصه، فخلعت أنا أيضا سترتي نصف المبللّة ووضعتها على كتفيه لتمنحه بعض الدّفء.
ـ من شدة فرحي دخلت إلى البحر.
ـ عن أي فرح تتحدث يا هذا؟
في ذروة حبوره وضحكه، أضاف:
ـ إنه التفرد بمعرفة أسرار أبي حيان، وعشقياته، وخيباته، ومنزلته الرفيعة في هذه الدنيا.
أزال حِذَاءَهُ، ورمى به بعيداً في جوف البحر، ثم كوّم سترته وقميصه، ولوّح بهما في البحر ذاته. وواصل حديثه متفلسفاً:
ـ إن القدر الذي حرمك من الزواج، هو نفسه الذي أبقاك حياً لتنعم برغد العيش والحياة. القدر سيعوِّضك ما فاتك في زمانك ذاك البعيد. كل نساء العالم سَيُرِدْنَ التّعرف إليك، سوف يجتمعن حولك كالنّحل ويرتمين على قدميك كالذباب. هلْ هناك سعادة أكبر من هذه؟ إن هذا مسطرٌ في اللوح المحفوظ قبل أن تولد. كان عليك أن تعرفه بمجرد علمك بعودتك إلى الحياة، لكنك لم تنتبه إليه. أنا لا أعرف كيف نتحجج نحن البشر بمبررات لشقائنا، ولا نتحجج بها عن سعادتنا، إنما قل لي، إنك لم تحدثني بعد عن المرأة الثانية!
ـ أنت رجل أحمق، هيا بنا إلى الفندق قبل أن يزهق البرد أرواحنا.

(21)

همست لشكري:
ـ إني أحس بانجذاب نحوها، يخيل إلي أنها أصابت مني الفؤاد، ليس بقصائدها الشعرية، إطلاقاً، وإنما بأطرافها كامرأة.
انحنى على كتفي، وأحاط فَاهُ براحتي يديه، كي لا يسمعه غيري، وأسرَّ في أذني:
ـ إنها حقاً جميلة، وشاعرة جيدة.
ابتسم وهو يعتدل فوق مقعده بجواري، وتابع انصاته لما تلقيه المرأة من شعر.
ـ شاعرة ليست ولابد، لكن أنوثتها صارخة، قلت في نفسي.
ظلت الأعناق مشرئبة نحوها، إلى أن توقفت، فاهتزّ المكان بالتصفيق.
رمقت شكري يتسلل وسط الحشد مندفعاً نحوها، وقد علّق محفظته على كتفه، في حين كانت هي تنشر ابتساماتها على من أحاط بها من مريدين، أولئك الذين ما أن انتبهوا إلى قدوم شكري حتى أفسحوا له المجال ليصل إليها، مؤكدين بارتباكهم مقامه الأثير لديهم.
بقيت في مكاني أرعى الوجوه والحركات، فدقَّقْتُ النظر في نوافذ كبيرة مستطيلة، ذات زجاج سماوي، تتدلى على حواشيها ستائر زاهية الألوان، ثم انسحب بصري إلى جدار، زيّن بصور لمناظر بهية، وآخر طرّز بزخارف ونقوش ارتفعت إلى سقف الرّدهة، فتدلت ثريات ضخمة بمصابيح صغيرة نحيفة، صعب عليَّ عدّها.
لا، ليس هذا فندقاً كما قال شكري، بل هو قصرٌ خليفيٌّ بحق.
راقني أن أكون نكرة وسط هذا الحشد من الناس. فلا أحد تعرّفني أو انتبه إلى وجودي.
فكرت في القصائد الشعرية التي هزّت القاعة بالتصفيق، تلك التي لم ترقني منها قصيدة واحدة، ولا صدرٌ ولا عجزٌ. فقد كانت أقرب إلى الترسّل منها إلى الشعر، غاب عنها الوزن، وغابت الموسيقى، فافتقر البيت الشعري إلى وحدته الإيقاعية، وإلى استقلاله التام، وامتد إلى بيت لاحق، ربما هي تجهل التّضمين، أو لعل شعراء هذا العصر تخلوا إرادياً عن نظام العروض كما كان عند الخليل.
تذكرت صديقي أبا نصر الجوهري، ومطارحاتنا الفكرية المستفيضة عن مؤلفيه "عروض الورقة" و "كتاب الصحاح المعروف"، فلو كان حاضراً واستمع إلى هذه القصائد، لأقام الدنيا ولم يقعدها، كان لا يجامل أحداً في العلم. تُرى ماذا حل بكتابيه التحفتين، أخلدا بعد وفاته أمْ أتلفا واندثرا؟ لابد لي أن أستفسر عن مصيرهما. فما دام أثري قد امتد إلى هذا القرن، فلم لا يكون أثره هو الآخر قد عامله الزمن برفق، فأوصله إلى هذا الوقت.
مددت يدي رداً على تحية عبد اللطيف، وقد فاجأني مبتهجاً مخاطباً:
ـ مرحبا بك أبا علي، أما زلت في طنجة يارجل؟
استولى على مقعد شكري بجواري، وجلس واضعاً رجلا فوق رجل، دون أن يكف عن الترحيب بشخصي، وإبداء رغبته لجلسة أخرى، كتلك التي ضمتنا في مطعم ريتز. ثم انتقل لسؤالي عن مدى إعجابي بقصائد الشاعرة "إخلاص".
قال عنها "إخلاص"، أحكمتُ حفظ اسمها في ذاكرتي، وحرَّكتُ رأسي دون أن اتلفَّظ بكلمة، فقد كانت تخطو في اتجاهنا.
في الآن ذاته حدستُ أن شكري قد حدّثها عنّي، وإلا ما كانت لتتقدمه في خط مستقيم نحوي.
وقفتُ ومددت لها يدي، فبادرتني بالقول:
ـ أعتز بحضورك يا أبا علي، إن العراق موطن الشعر الحق.
ثم التفتت نحو شكري، وأنهت ما كانا يتحدثان بشأنه:
ـ وهو كذلك، بعد ساعتين من الآن.
سارت بنا السيارة عبر الطريق الشاطئي، كان البحر المتوسط عن يميننا، توقعت أن تكون الشمس في هذه اللحظات قد جنحت إلى الغروب في الطرف الآخر من المدينة، حيث بحر الظلمات، تشرق من بحر وتغرب في بحر آخر، أسعدني تعرفي ثوابتَ طنجة، وانعرجت بنا السيارة لتتوغل في بطن المدينة. أكد لي شكري ما قاله لعبد اللطيف من أننا سنتعشى رفقة إخلاص بمطعم ريتز، وأخبرني بأن أمامنا ساعتين كاملتين للفسحة.
كانت العتمة في بداية إطلالتها الأولى، فسطعت أنوار الطرق والمتاجر معجلة بانهزام النهار. بشر مثل تجمعات نمل فَرَّ من ثُقْبِ الأرض، وانتشر يدبُّ على قارعة الطريق. رجال ونسوة وفتيان وصبايا يتسكعون في أمن وسلام.
أخبرت شكري بأن حركة الرجال في العراق تتوقف عند صلاة المغرب، وقد تمتد في بيوتهم إلى وقت صلاة العشاء.
ثم سألته:
ـ أتوجد في عراق اليوم كهرباء، مثل هذه الموجودة في طنجة؟
وحين عاد لضحكته الساخرة، توقعت للتو ما سيقوله.
ـ يكاد العالم اليوم يبدو كله متشابها.
أسعدني جوابه، سرحت أتخيل ليالي بغداد، تلك الموغلة في الماضي، وحالها اليوم مأنوسة بأضواء تسْطع من نوافذ الدور ودكاكين التجار، وتلك المبثوثة ربما فوق حواشي الطريق، أو أركان الحارات. فكرت في زخم ما سوَّدْته يدي من صفحات بيضاء، مسترشداً بضوء شمعة بعد شمعة، أو بقنديل هزيل يكاد يضيء نفسه. لو كان لي مثل إنارة اليوم، لكنت قد ألَّفت أضعافَ ما ألّفت من كتب. إنَّ بغداد اليوم مثل طنجة إذن، تمرق بها سيارات، وتضيئها كهرباء، ولعل الأتربة المتراكمة في كل مكان، وعواصف الغبار المنتشرة كالضباب، اختفت كلّها اليوم بعد أن عُبِّدت الطرق وأضيئت، وتخلَّت المرأة عن الخمار والبرقع، وغدت تجوب الشوارع سافرة الوجه، عارية الرأس، كحال شقيقتها في طنجة.
إذا كان الحال كذلك، فلا داعي لأن أعدّ نفسي منزوعاً من عالم ومقذوفاً بي إلى عالم آخر. الآن فقط أتأكد من أن المغاربة حين يتعرفوني أديباً وافدا من العراق، يتعاملون معي كرجل انتقل من مكان إلى مكان، وليس من زمان إلى زمان.
حين نطق شكري جملته، انتفضت في مقعدي وأنا أحسبه قد قرأ ما يموج في خاطري، إذ قال لي:
ـ القادم من الزمان ليس كالقادم من المكان، شتان ما بينهما من بون.
بعد ذلك انتبهت إلى أنه التقط جملتي حين جهر بها لساني دون إرادتي، وأضاف:
ـ كل مخلوقات الله تسافر في المكان، من سلع وبضائع وأجساد آدمية. إنه سفر تافه ساذج، فالسفر في الزمّان هو الإشكال الحق المحيّر، حبذا لو كشفت لي عن إحساسك الحقّ بهذا الانتقال.
أجبته وكأني أحدث نفسي:
ـ الزمان المتعدّد شرّ متعدّد.
فأسرع يقول في عجلة من أمره:
ـ أرجوك أبا حيان، لا تُعِدْ قول هذه الكلمة، إني أخشى عليك من نفسك.

(22)

اعتدل في مقعده وأشعل سيجارته، وأضاف:
ـ لكي يكون الرجل سوياً، عليه أن يتقبل واقعه، بعواهنه وتقلباته، إن خيراً فمرحبا، وإن شراً فمرحبا أيضا.
ـ قول جميل، لكنه يظل قولا على كل حال.
ـ إنه عصارة تجربة قاسية، ففي شبابي الأول، تعرضت لهزة نفسية بسبب رفضي لواقعي، وكانت النتيجة أنّني عثرت على نفسي مطوحاً بي فوق أحد أسرة مستشفى للأمراض العقلية في قرية مهجورة.
ـ تقول في شبابك الأول، ألك شباب ثان؟
أجابني بغضب حاد:
ـ دعني يا أخي أنهي حديثي، لا تقاطعني، إنك لا تدري إلى أين أريد الوصول، ولْأُجِبْ أولا عن سؤالك المقحم في حديثي، بأني أسمّي الكهولة بالشباب الثاني، والشيخوخة بالشباب الثالث، إن لي مسمياتي الخاصة بي، فهل لديك اعتراض؟
ضحكت وأنا أتظاهر بالإصغاء إليه، فأضاف:
ـ مكثت بالمستشفى زهاء عامين، ولعلني اهتديت إلى علاج نفسي بنفسي، إذ صرت أراوغ واقعي، أوهم نفسي بتقبله، أخلق عوالم خاصة بي، وأسكبها في متون سردية، وبعبارة أدق، صارت الكتابة ملجئي ودوائي، بعد ذلك تحولت لدي إلى احتجاج.
وكأنه استدرك فكرة كادت تضيع، فأضاف:
ليس هذا مهماً، ذلك أن ما كنت أهدف إليه، حين قلت لك بأني أخشى عليك من نفسك، هو أن أخبرك بقصة أهل الكهف، وهي قصة لم تشغلني حين قرأتها لأول مرة، لكنني بعد تلك الليلة في شاطئ المحيط عادت تطرق رأسي وتستبد بتفكيري.
ـ وهل لي علاقة بهذه القصة؟
أجل، لك علاقة بها، بل إنك أحد أبطالها الحقيقيين.
كان يتحدث بثقة وصدق بالغين، مما ولّد في نفسي فزعاً لم أقو على إخفائه.
وسألته:
ـ كيف ذلك؟!
ـ القصة استوحاها صاحبها من آية قرآنية لا أحفظها، لكنه صاغها في قالب حكائي شيّق، وملخصها أن أربعة أشخاص وخامسهم كلبهم، لبثوا نياماً في أحد الكهوف المهجورة، مدة ثلاثمائة عام أو أكثر، وحين استعادوا حياتهم، وجدوا العالم قد تغير عمّا كان عليه في زمانهم، وبالرغم من الحفاوة البالغة التي استقبلوا بها كقديسين، فإن صدمة الزمان الجديد، كانت أقوى على نفوسهم، فرجعوا إلى الكهف، وقضوا به.
إن الآية القرآنية لا تتحدث عن وفاتهم، لكن الكاتب، ليكشف عن رؤيته لإشكال الانتقال في الزمان، وليمنح حكايته بعدا مأسوياً، جعل الرجال الأربعة يفضلون الموت على العيش في زمان غير زمانهم.
سكت ينتظر رد فعلي، لكنني لم أجبه، فقد سرحت أستحضر الآية القرآنية بكاملها في ذهني، وأنا في أقصى وله من يُنتزع منه اهتمامه ودهشته، ثم أضاف:
ـ تلك وجهة نظر كاتب الرواية، وذاك رأيه، أما أنا فأخالفه وجهة النظر والرأي، بل إنّني مستعد أن أتنازل عمّا تبقى من شبابي الثاني والثالث ثمنا لأيام أعيشها في زمان لاحق، أنام مِلْءَ جفوني عن شوارد هذه الحياة، وحين أفتح عيني أجد نفسي في صحوة عصر آخر، مثلما حدث لك يا أبا حيان، ومثلما وقع لأصحاب الكهف، مارنوش ومشيلينيا ويمليخا والكلب قطمير. هكذا ارتأى صاحب الرواية تسميتهم، مثلما ارتأى أن يرفضوا العيش في غير زمانهم. أجل، قد أرفض العيش في زمان ولّى بعد أن تعرّفت مستجدات هذا العصر، لكن، أن أرى ما ستكون عليه الدنيا ولو بعد قرن واحد، فذلك أَحَدُ تمنياتي المستحيلة، ولعلّك تقر بأن لكل منّا تمنياته المستحيلة، أو لنقل أحلام يقظته. إنك تحلم بمقابلة "نهاوند"، أليس كذلك؟
ـ بكل تأكيد!
أجبته، فضحك، وأضاف بين الساخر والواثق مما يقول:
ـ إنها أمنيتك المستحيلة.
خفتُ أن يسخر مني لو صارحته بأني أعيش لأقابلها، فلذتُ بالصمت، لكن قوله، إنها أمنيتك المستحيلة، أربك مخي، حَدَّ أني تمنيت لو كنت مخلوقا وهميا كأحد رجال أهل الكهف الذين حدثني عنهم، واستحضرت الآية القرآنية مرة أخرى، فتأكد لي حقيقة وجودهم، لكن الآية لم تحدد عددهم ولم تشر إلى هلاكهم: "سيقولون ثلاثةٌ رابعُهم كلبهم، ويقولون خمسةٌ سادسهم كلبهم رجما بالغيب، ويقولون سبعةٌ وثامنُهم كلبهم، قل ربي أعلم بعدَّتهم ما يعلمُهم إلا قليل". صدق الله العظيم.
أراحت الآية نفسي، فشتّان ما بينها وبين شطحات كاتب الرواية، حقا، إنها لمعضلة أن يجد المرء نفسه وبدون سابق إنذار، في عالم لم يتوقعه ولم يألفه، ليس به أحبّاء ولاخلان ولا أعداء. فحتى الأعداء قد يحنّ الغريب إليهم أحيانا، لكن الحنين نفسه يتلاشى أمام الهوة الزمنية التي تفصلنا عن ماضينا البعيد، فيحل اليأس بدله، وأي حنين يتبقى بعد موت الأمل؟
قد يحسب المرء باستحضاره مخلوقات تفصلها عنه قرون، أنه يحن إليها، لكنه في حقيقة الأمر لا يحن إلا إلى نفسه من خلالها، هذه تجربة شخصية أعيشها، ثم تذكرت "نهاوند" فسرت في بدني رعشة حنين إليها، مع أنها ابنة ذلك الزمان البعيد الذي تفصلني عنه قرون. ولكن، هل سأحن إليها إن أنا فكرت فيها بمعزل عن ذاتي؟
خفت أن يقطع شكري حبل تفكيري، فتظاهرت بمشاهدة معالم المدينة من خلال نافذة السيارة وهي تسير ببطء، لكنني لم أشاهد شيئا، فقد بقيت مكتفيا بما يستحضره ذهني. فكرت في حنيني إلى "نهاوند"، أَهُوَ حنين صادق حقيقي، أم إن مرده خيط ما تبقى لي من أمل في لقياها؟ ذلك أنها باقية في مكان ما، مثل ما هو العراق باق، وشيراز وفاس، فلعل السبب أن ما يوجد في المكان أبقى وأرسخ مما يوجد في الزمان.
الزمان إذن هو المعضلة، لكن ليس إلى حد تفضيل الموت على الحياة، كما جاء في رواية أهل الكهف المتخيلة، وإلا، لكان آدم قد انتحر حين انتقل من زمن الجنة إلى زمن الأرض، ولكان الشيطان قد حذا حذوه. ولأظل في تجربتي الشخصية، فهل انتقالي من زمن إلى زمن سيجعلني أفضل الموت؟
كان على شكري أن يعيدني إلى واقعي العيني:
ـ ألا تريد النزول، فقد وصلنا؟
لم أعرف كيف توقفت السيارة، ترجلت منها وأنا أحاول أن أبدو ثابتاً محافظا على همّتي واتزاني، فأنا عالم منطقي.
كان الليل مُسجًّى يفوح فيه نسيمُ بحري عليل. بادرت شكري:
ـ يسكنني صفاء ذهني خارق، إني لقادر في هذه اللحظة أن أكتب مؤلفا كاملا.
ـ لتكتبه بعد أن تعود إلى إقامتك، أما الآن فدعني أخبرك بأننا مقبلون على ولوج "باراد"، أجمل مطعم وأروع حان في طنجة، إن لم أقل في المغرب كله، تديره وارثته "ليليان"، سيدة أمريكية مؤهلة لتكون بطلة لرواية باذخة، نحن زمرة أصدقائها ندعوها "ليلي" تصغيرا وتجمّلا.
دفع الباب بيده وفسح لي المجال لأتقدمه. فوجئت بحديقة تظللها أشجار باسقة، ويفرشها سجّاد من عشب أخضر، وموائد بِشَرَجٍ قصيرة تضيء نفسها لا أكثر، وعلى اليسار بعد صعود درجين، رُصَّتْ موائد أخرى، وطوار وأضواء تتلألأ بألوان قوس قزح، دعاني إلى حيث الطوار الخشبي الناعم، وطلب مني أن أعتلي مقعدا للجلوس، بدون متكإ الظهر، وتسلق آخر مثلي.
جاءت "ليلي" مبتسمة ضاحكة، مدّت لي يدها فصافحتها، أما هو، فانحنى على أصابعها يقبّلها بلطف مبالغ فيه، وكأنه ولَدٌ مطيع، ودخل معها في حوار بلغط لا أعرفه.
وبعد أن انسحبت قال لي:
ـ ليلي جاوزت العقد السادس، لكنها تبدو في شبابها الثاني، تحافظ على رشاقتها بالحركة وعزف البيانو ودرء كل ما قد يربك مزاجها. بدأت حياتها خليلة لثري أمريكي، فانتهت علاقتها غير الشرعية بعلاقة شرعية، تزوجها وفارق الحياة، فورثت عنه هذا المطعم وعقارات وأموالاً في أمريكا، لكنها فضلت البقاء في طنجة.
ونادى عليها يطلب شيئا، فجاءته بكتاب أنيق، تناوله وقال لي:
ـ إنه دفتر ضخم للذكرى أعدته "ليلي" لزوارها الكبار، توجد به رسومات لفنانين، وكلمات لسينمائيين وكتَّابٍ وشخصيات من العيار الثقيل، جميعهم مروا بهذا المطعم، لماذا لا تخط به أنت كذلك كلمات، وتوقعها باسمك الحقيقي؟
ـ وماذا عساني أكتب؟
أخذ يضحك حتى كاد أن يسقط أرضاً، وطلب كأساً إضافية لنفسه، وقال دون أن يكف عن الضحك:
ـ أُكتب يا أخي آية الكرسي.
ـ ولماذا آية الكرسي؟
أجابني وهو يواصل ضحكه:
ـ حتى تحجبها الآية من كل سوء.
عرفت أنه يمزح، فضحكت بدوري، وقلت:
ـ بما أنها ليست مسلمة، فسأدع أمر الكتابة لفقيه نصراني، أو لملحد إن كانت ملحدة.
وضحكنا معاً.
أقرُّ بأني أعجبت بتلقائية شكري، فهو يرفع الكلفة من أول لقاء، ويقحم الهزل في وقته المناسب متى أحس برتوب الكلام الجاد.
وقبل أن يطول صمتنا، قال لي:
ـ لم أزر "ليلي" منذ أسبوع كامل، وقد اعتدت أن أمر بها آخر الليل لأتناول آخر كأس، أسميه عكاز الطريق.

(23)

أخبرني شكري ونحن نهم بمغادرة مطعم باراد، بأننا سنذهب مشياً إلى مطعم ريتز، حيث الأصدقاء في انتظارنا، هلَّلْتُ لهذا الخبر بفرح طفولي، وأنا إخال نفسي أسير الهوينى مكتشفا أزقة وحواري مدينة طنجة. لكن فرحي لم يطل، فما إن انحدرنا في شارع ولي العهد، ثم عرجنا يساراً على شارع موسى بن نصير، حتى وجدنا مطعم ريتز عن يميننا بالمرصاد.
قبل أن ندخل المطعم، همس لي شكري:
ـ لا تلتفت خلفك، فحراسك على خطوات منا!
ـ هم يعلمون إذن بمعاقرتك الخمر، وقد يبلِّغون عنك.
سألته، فدعاني إلى الدخول، وقال لي بصوت خفيض:
ـ لا تكترث لذلك، فلن يجرؤ أحد منهم على حشر أنفه فيما لا يعنيه.
لكن مزاجي تعكّر.
كانت الجماعة جالسة حول مائدة عن يسار مدخل المطعم، في الركن الخاص بشكري، إخلاص وعبد اللطيف ورجلان لا أعرفهما، حاولت أن أدرأ عني الغمّ، فردَّدْتُ بداخلي قول امرئ القيس: اليومَ خمرٌ وغداً أمرُ.
أسرع القيم على المطعم الشاب حافظ، يسعفنا بمائدة، فيما جرَّ شكري مقعداً ودعاني إلى الجلوس، وجاء بآخر لنفسه قبل أن ينهي حافظ ترتيب المائدتين، لتصبحا واحدة.
ملأ شكري أقداحاً مستثنياً كأسي وكأس إخلاص وكأس عبد الإله، وعرفت أن الرجل الآخر اسمه حسن، دقيق الملامح، أبيض البشرة، نحيف، مستقيم الأنف، بَدَا أصغر الحاضرين سنا، لكن عبد الإله هو الآخر أقرب إلى عمر حسن منه إلى أعمارنا.
سألني عبد اللطيف عن أحوال الحرب في العراق، فتصدّى له شكري معلناً رفض سماع أخبار الحرب.
كانت إخلاص تجلس قبالتي، أسعدني وجودها بيننا، كيف لا، وأنا الظمآن لأنثى تروي عجاف سنواتي الهاربة مني، لكن همتي وحيائي جعلاني أتحاشى النظر إليها، بل تعمّدتُ أن لا أجعل نظراتنا تتقابل، إنما رويدا رويداً، صرت أجرؤ على تحقيق رغباتي الدفينة، وذلك بالتنعم فيها، ليس بوقاحة حاشية الخلفاء ورجال السلطة، وإنما بوقار العلماء وعفَّتهم حين يسترقون النظر كلما وجدوا غفلة، أو سانحة محمودة، هكذا كنت، أختزل في نظرة عابرة، ما يقع عليه بصري، فأفرد له في مخيلتي ما تصبو إليه نفسي.
المرأة شابة، ذات بياض ناصع، يميل إلى شقرة في لون سماء الغروب، كل شيء فيها يشدك إليها، ما ظهر بدواخلها وما خَفِيَ، فهي تتجمّل في القليل مما تنطق به، تنتقي كلماتها وتصوغها في تعابير مستحدثة جميلة، وكأنها لا تتحدث، وإنما تنظم نثراً فنياً.
بدت بهمتها وكبريائها وأنفها القصير أميرة بيزنطية بحق.
كيف السبيل لأن أضمها إلى متاعي زوجاً على سنة المصطفى، لكن من أين لي بمهرها؟ أيقبل معالي وزير العدل بأداء قيمة الصداق؟ وقبل ذلك، أتقبلني بعلاً لها؟ فكرت في شخصي، وفي عمامتي التي تخليت عنها، وفي لحيتي التي أزلتها، وشكرتُ لهؤلاء المغاربة بدعهم، فبفضلهم انتقص عمري ضعفه، لأصير في شبابي الثاني، كما يقول شكري!
غابت عني مواضيع أحاديثهم، لكن بعد أن أخرج عبد الإله من محفظته ورقة وأخذ يقرأ مابها، ركّزْتُ انتباهي لسماعه:
أنا المصْنُوعُ/ من تَبْغِي الرَّخِيصِ/ وقَهْوَتي المُرّةْ/ ومِنْ ماءٍ سَمَاويٍّ/ يُرَطِّبُ/ صَرْخَتِي الحُرَّةْ/ ولا أحتاجُ مقبرةً/ تُسَمِّي نَفْسَها/ الشُّهْرَةْ!!
ما إن توقّف، حتى ارتفعت حناجرهم إعجاباُ، وكأن ما استمعوا له يعد شعراً خالصاً:
استرقت أذني حديث عبد اللطيف حين سأل عبد الإله إن كانت القصيدة لإخلاص، فأخبره بأنها لشاعر مشرقي لا يقل سموقا عن إخلاص.
يقولون عن هذا الكلام إنه سموقٌ شعريٌّ، وينسبونه إلى المشرق، هل هناك مشرقٌ عربيٌّ آخر لا أعرفه؟! ركبتني الحيرة، فما كنت أظن أن ديوان العرب سيطوله التغيير هو أيضا، فيقع التخلي عن خاصية الشعر الرائعة، وعن الحكم والتنبؤ والتأمل وكشف أسرار الحياة، وعن مراعاة الوزن والقافية وقواعد العروض، ووجدت نفسي أسأل عبد الإله:
ـ هل ما قرأْتَهُ يصنّف ضمن الشعر العربي؟
استقبل سؤالي بامتعاض، وكأني ألقمته حنظلا، ثم نظر إلى عبد اللطيف وإلى إخلاص، نظرة من يستشهد بأحدهما، وأجابني بكل وثوق:
ـ إن ما أنشدتُه يُعَدُّ من أجود الشعر العربي!
إن الانسحاب من مجلسهم أخف على نفسي من سماع هذه الترهات، فقد صدمني جوابه. في الوهلة ذاتها، انتبهت إلى شكري الذي أشار عليَّ بالصبر، من أين لي بالصّبر وكلامهم مطرقة تدق رأسي. فكرت في أن أدلي بوجهة نظري، لكن الشك حاصرني، إذ خفت أن يكون عامل الزمن قد وَجَّهَ الشعرَ وجهة أخرى تغيب عني، فيبدو حديثي في نظرهم على قدر كبير من السخف. لكن بالرغم من ذلك، لم أقو على الصبر، فقررت مجابهتهم باحتراس، كأن أَستدرجهم إلى أن أقف على ما أمسى عليه الشعر في زمانهم، ووجهت سؤالي إلى عبد اللطيف:
ـ هل تذكِّر ني بما طرأ على الشعر العربي حتى أصبح على ما هو عليه في وقتنا هذا؟
كنت أظن أن عبد اللطيف وحده استمع إلى سؤالي، فتبيّن لي أن الأمر يعنيهم جميعا، إذ لاذوا بالصمت، وظلوا في حالة ترقب لما سيجيب به الرجل:
ـ أنت تعلم يا أبا علي بأن إخواننا في العراق، كانوا سباقين إلى إطلاق مصطلح الشعر الحر، أي تحرر الشعر من القيود القديمة كنظام الشطرين والوزن والقافية. وقد وُفِّقوا في هذه الريادة، ذلك أن للشعر قيمة عليا ترتفع عن الواقع، ومن غير المعقول أن يظل حبيس ستة عشر بحراً، مكرراً نفسه، دون أي تحول. إن كل تجربة إنسانية، بما تحمله من آمال ومعاناة وآلام، تمثل بحراً من بحور الشعر، لذلك كان عليه أن ينفتح على جميع بحور الحياة.
رشف من كأسه وأضاف:
ـ إنّ الشاعرية موجودة حتى في النثر، فأينما وُجِدَ الإيقاع في الكتابة فثمّة الشعر. فلماذا نقيده بالبحور! ولنأخذ على سبيل المثال القافية. ألا ترى معي أنها مرهقة، تجعل الشاعر يضيع في البحث عنها على حساب المعنى والانفعال وغيرهما؟
هو يتحدث وأنا ألعن في سرِّي بني قومي العراقيين، مبدعي مصطلح الشعر الحر، ليتهم كانوا قد سَخَّروا طاقاتهم لمحاربة الطغيان والاستبداد والفوارق الاجتماعية، وتركوا الشعر لشأنه.
وتذكرت ما قالته إخلاص في أول لقاء بها هذا العشي، مِنْ أن العراق بلد الشعر الحق، فأيّ شعر حق كانت تقصد، القديم أم هذا الحر؟ ووجدت نفسي أسألها:
ـ سيدتي إخلاص، أتتفقين مع ما ذهب إليه عبد اللطيف؟
رسمت على محياها ابتسامة خجل، وصمتت للحظة كأنها تدعو الحضور لسماعها، أو لعلها كانت ترتّبُ أفكارها، وقالت:
ـ تلك حقيقة، فمثلما تحررت المرأة من وظائفها القديمة، كخدمة الرجل والإنجاب، كذلك تحرر الشعر الحديث من وظائفه القديمة، ومن العمود والوزن والقافية، فقد تخلّى الشاعر المعاصر عن العِمامة والعقال وركوب الفرس، فاقترب بذلك من الشعر العالمي، وصار يرتدي البذلة وربطة العنق، ويركب السيارة والطائرة. لقد أصبح يكتشف الآفاق، ولم يعد مجرد معبر، وإنما خالقٌ. ذلك أن الحضارة المدنية الصناعيّة حلَّت محل الحضارة الزراعية الرتيبة.
كنت أحس بكل كلمة تصدر عنها خنجراً يُغرز في صدري. فلو كانت تعاقر الخمر لحسبت كلامها هذياناً، لكنها وهي تتحدث بثبات الرجل الفحل، المُقَدِّر لما يصدر عنه، جعلتني أرتاب في الأمر، ربما لم يعد الشعر يحتلُّ مكان الصدارة في الأدب، كعهدي به في زماني، قلت في نفسي. وتذكرت كيف أن الأدب ظل منظوماً طيلة التاريخ، إلى نهاية القرن الثاني، ليستقل الشعر بنفسه معتليا صدارة الأدب، لكن ذلك حدث منذ اثني عشر قرناً. ثم تذكرت مصطلح الشعر المحدث الذي أعلن عنه بشار بن برد وأبو نواس وأبو تمام في أيامي البغدادية، يا إلهي! إنه زمن طويل، كاف لظهور الشعر الحر وغيره، إنما ليس إلى حد التخلي عن بحوره.
في لمح البصر، تناسلت هذه الأفكار في ذهني، لأزداد اقتناعاً بعدم جدوى مناقشتهم في أمور استحدثت في غيابي، ذاك دَيْدَنُهُمْ وهذا ديدني. لكنْ، سيظل الشعر ذو الأوزان الشطرية، في ملتي واعتقادي، هو الشعر الحق الأبلغ في الخلق، والأوفى في التعبير عن حياتهم الجديدة نفسها، بسياراتها وطائراتها وربطات أعناقها.
وانتشلني شكري من حواري مع نفسي، ليرفع الغم عن صدري بقوله:
ـ الشعر الحر صرعة عصرية عابرة لن تطول.
والتفت نحوي مبتسماً وكأنه ينبهني إلى عدم تسليمي بآرائهم، وبعد أن أوقد لفافته، تابع قوله:
ـ جمهور تيار الشعر الحر قليل جدا، مقارنة بعشاق الشعر القديم، لذلك فأنا دائم التساؤل عما سيكون عليه حال الأغنية إن فقدت القصيدة وزنها وقافيتها.
سكت وظل محدقاً في شخصي، فوصلت إليّ رسالته البليغة الصامتة، لتغمرني بنشوة عارمة، زادت نفسي حباً وتقرباً من هذا الصديق، وأحسست بشهيتي تنفتح للكلام. فبعد أن علمت بعمر مصطلح الشعر الحر، وبأن جمهوره قليل، شعرت بأني أقف فوق أرض صلبة، وبأني هناك، وارتأيت أن أبدأ حديثي من حيث توقف شكري. فقلت متوجها بكلامي إلى عبد اللطيف:
ـ الغناء حُلَّةُ الشعر، إن لم يلبسها طُويتْ. ذلك أن الألحان لا تتهيأ ولا تستقيم إلا على شعر منظوم موزون مقفى، فلا يعقل أن نتغنى بكلام منثور.
ألقيت في جوفي كأس ماء، وتوجهت إلى عبد اللطيف متابعا قولي:
لم أفهم في الحقيقة ما قصدته من قولك إنَّ الشعر قيمة عليا ترتفع عن الواقع. ألم يكن الشعر مرتفعاً محتلاً صدارة الآداب منذ العصر الجاهلي؟ أم لعلك تقصد خوض الشعر في العوالم المثالية، وتخليه عن هموم وانشغالات الناس؟ إذا كان الأمر كذلك، فأية قيمة ستظل للشعر إن تخلّى عن هموم العباد؟ ألا ترى في هذا إفراغاً للشّعر من معناه الحقيقي؟ ثم كيف ضاقت بكم بحور الشعر لتتخلوا عنها طمعاً في بحور أخرى مغايرة للعلم والمنطق؟ أليست تلك هي البحور نفسها التي نظم بها القدماء في كل مجالات الحياة، من السلم والحرب والحب والعداء والهجاء، وهي مجالات تستغرق حياتنا إلى يومنا هذا؟
ثم إن الاعتقاد والنوايا واللباس والمطايا، لا علاقة لها بشيطان الشعر، فقد تجود قريحة ممتطي جمل أو معتمر عمامة، بما لا تجود به قريحة راكب سيارة أو طائرة.
ظلت نظراتهم مصوبة نحوي في ذهول.

(24)

كانت عادتي، ألا أتحدث العربية الفصحى إلا حين أكون رفقة صديقي سيبويه، رحمة الله عليه، وربما تكرر ذلك مع غيره من علماء النحو والمنطق والبلاغة، رحمة الله عليهم جميعهم، لكنني مع هؤلاء المغاربة، فطنت إلى أنني أشنف أسماعهم حين أنطق العربية الفصحى بتنغمية الأعراب القحاح في بادية العراق. فحرست ألا أحيد عن هذا السبيل، وأنا أرى نفسي متمكنا من السيطرة على وجدانهم، بل ومن سحق بعض آرائهم في الشعر سحقاً.
هكذا كانوا يصابون بالدهشة والخشوع، دون أن يقوى أحد منهم على قطع حبل تفكيري أو إرباكي بتدخل سمج ساذج، فاستمر حالي على هذا المنوال، وأنا أبسط بنات أفكاري على طريقة مالك، إلى أن تم لي ما أردت.
بعد أن توقفت بمحض إرادتي ورويت نفسي بماء زلال بارد، داهمتني إخلاص بصوتها الأنثوي الخجول:
ـ أعترف لك يا أبا علي، أنه لم يسبق لي أن قابلت أديباً له قوة بلاغتك أو سحر حديثك!
أكملت جملتها وحملقت في وجهي كأنها ذكر وأنا أنثى!
ثم واصلت تجملها بإيقاع مغربي متفرد، كان سمعي قد أخذ يألفه:
ـ إن كلامك مقنع، أقصد آراءك، فهي تنساب وكأنك تتلو من كتاب بين يديك، تراه ولا نراه.
فتدخل عبد اللطيف، مخاطباً جمعنا:
ـ تلك حقيقة، إن الصديق أبا علي لظاهرة، عند كل لقاء يجمعنا، نكتشف سحراً جديداً يخفيه عنا.
خفضت بصري دون إرادتي، ليس حياء من مديح عبد اللطيف، أبداً، بل ضعفاً أمام نظرات إخلاص، ذلكم طبعي منذ يفاعتي. قويا كنت بين الحكام والوزراء، وهشٌّا ليّنٌا أمام الحريم. لكن مع إخلاص، شملني ضعف من نوع خاص، بالغ اللذة، حتى أني لم أجد سبيلا لمقاومته، فبقيت متقد الوجدان، "سبحان الذي يحيي العظام وهي رميم"، لعلني رددت هذا في نفسي، وفكرت في أن الوجد لا عمر ولا إرادة له، فكما أن الصبيّ يتشبث بحاضنه حدّ العشق، يتشبث الشيخ بمن يسقط عليه هواه!
لكن نهاوند كانت لي بالمرصاد، فقد أحسست بطيفها يحوم حولي، أنظر إلى إخلاص فأراها نهاوند لحماً ودماً، لم يكن هذا جديداً، فقد تمثلتها في نساء كثيرات، وأحيانا، ما أن ينتعش وجداني ويتصابى فؤادي، فيرتعش من سحر امرأة حتى تحضر نهاوند، كأنها ربة العشق، مالكة لزمام أمره، فتحول بيني وبين أية امرأة ترومها عاطفتي، ويكون لها ذلك.
استغرقتني نهاوند وإخلاص على مقربة مني، أكان لا بد أن أرحل عن بغداد بدونها؟ هب أننا هاجرنا معاً، هل كانت ستلبث معي في تلك المغارة الأندلسية عشرة قرون؟!
يرحمها الله ويدثرها برحمته الواسعة، إنها اليوم راقدة في قبر مجهول، في العراق أو في الأندلس أو في المغرب، من أدراني؟! أتذكر أن الساحر إبراهيم السوسي أكد على مسمعي أن سحره غير مخالف للشرع، سيحفظ جسدينا إلى أن نلتقي، ولكن، كيف تشملني رقيته وحدي وتستثنى هي منها؟!
أحسست بصوت نذير خفي في داخلي يُسرّ لي، بأن نهاوند قد أصابها ما أصابني، وهي هائمة تبحث عني، فانتفضت للخبر إلى أن تصبَّبَ من جسدي عرق اخترق لباسي، إذن هي مثلي في العاجلة، في مكان ما تبحث عني. إن الأمر لا يجب أن يكون إلا كذلك.
يا إله السموات والأرض! كيف غابت عني هذه الحقيقة؟
سلمتُ بعودتي إلى الدنيا بعد عشرة قرون من غيابي، ونسيت عودتها؟! مع أني أعطيتُ بخنقها لإبراهيم السوسي ليعد رقيته حتى تشملنا معاً، أنا ونهاوند!؟ أين غاب المنطق الذي أتكئ عليه لينير طريقي؟ أين كان عقلي؟
أعادني صوت شكري إلى يقظتي يستفسرني عن دواعي هيامي، فأصابني الارتباك، وسحبت نفساً عميقاُ، ثم أحطت كلتا يدي ببطني وتظاهرت وكأن مغصاً شديداً ألمّ بي.
فكرت بأنه السبيل الوحيد لأبتعد عن مجلسهم، حتى أفكر في أمر نهاوند، فهي بكل تأكيد هائمة في مكان ما تخفي حقيقتها.
اقترحت إخلاص أن أتناول كوبا من الزعتر، مصدقة مرضي المفاجئ، فشرح لي شكري بأن الزعتر نبات بري يغلى في إناء ماء ويشرب، وله مفعول السحر في الشفاء، لكنني انتصبت على قدمي معلنا عودتي إلى الفندق.
ألقى شكري في جوفه بقية كأسه، ووقف إلى جانبي وهو يعلق محفظته الجلدية فوق كتفه، فاعتذرت لإخلاص حين أبدت استعدادها لمرافقتنا، ومددت لهم يدي، فصافحتهم واحدا واحدا، ثم أعدتها لتمسك ببطني متظاهراً بالألم الذي استبدّ بي. كذب أبيض، قلت في نفسي.
سرّني أن يتطوع شكري لمرافقتي دون أن أطلب منه ذلك، فقد كنت في حاجة إلى مؤنس أبوح له بسري، أتحدث إليه بصوت مرتفع عن مصيبتي، هذه المصيبة المحيرة التي تكشفت لي من تحت طبقة الغبار في ذاكرتي.
كان عليّ أن أعلم قبل اليوم بأن الرقية التي أعدّها إبراهيم السوسي تشملنا أنا ونهاوند، وبأننا سنظل في العاجلة إلى أن نلتقي، لكنني من شدة أنانيتي لم أفكر سوى في ذاتي.
ما أن غادرنا مطعم ريتز حتى أخبرت شكري بأني سليم معافى، وبأن مرضي مجرد تمويه لأطلعه على ما يشغلني.
لم يمهلني لأنهي حديثي، بل قاطعني ضاحكا:
ـ إنها أيضاً أبدت اهتمامها بشخصك!
ـ من تعني؟
ـ إخلاص!
ـ يا لك من متسرع متهور، إن ما يشغلني هو نهاوند وليس إخلاص!
أرخى أذنيه لسماعي بذهول، فانسابت مصيبتي على لساني إلى أن أتممت قص تفاصيلها.
ظل فترة من الزمن مأخوذاً، مُقَلِّباً الخبر في رأسه، وخاطبني:
ـ إنها قضية كبيرة، شائكة، تصلح لأن تكون مادة لرواية شائقة، إني أراها فوق مستوى تفكير الإنسان العادي.
صمت قليلا، وأضاف:
ـ من ذا الذي يصدق خبراً مثل هذا؟ جارية تبحث عنك منذ عشرة قرون!؟

أدار رأسه يميناً وشمالاً، وبعينه ارتياب، وكأنه يبحث عن فضوليٍّ أو متلصصٍ يسترق السمع إلينا قال لي:
ـ إننا يا أبا حيان نتحدث وقوفاً في الشارع!
ـ وأين تريد أن نتحدث جالسين؟!
ـ أقترح مطعم "بيرغولا" المواجه للبحر، ودعني أصارحك بأنني صرت في حاجة إلى كأس إضافية تخصب مخي حتى يقوى على استيعاب هذا الخبر الجديد المحير. فبالكاد صدقت قصتك الغريبة، وها أنت تضيف إليها ما هو أغرب! إن هذا يذكرني بالقولة الإسبانية: "كنا أربعة عشر نفراً، فأضافت الجدة مولوداً آخر".
قذف بنا شارع موسى بن نصير، ليتلقفنا شارع آخر فسيح، قال عنه شكري:
ـ هذا شارع باستور.
ثم أخذ يلقي خطبة بعيدة عن موضوع قضيتنا.
ـ باستور، اسم مسيحي لطبيب عالم اكتشف دواء يشفي من داء كان فتاكا، وهو الاسم الأجنبي الوحيد الذي أبقى عليه مسؤولو مدينة طنجة، بعد أن استبدلوا عشرات أسماء الشوارع بأسماء عربية.
كدت أصارحه بعدم أهمية ما يقول، لكنني فكرت في أن تلك طبائع بعض البشر، يقحمون مواضع هامشية في قضايا مصيرية تشغلك، و تظاهرت بالإصغاء. فاستأنف حديثه:
ـ ليتهم اكتفوا بشطب أسماء القادة العسكريين الأجانب، وأبقوا على أسماء العلماء والمفكرين والفنانين الأجانب!
اللباقة تلزم سماعه ومسايرته، لكن شكري صديقي، فقلت له:
ـ لكن لماذا لم يختاروا منذ البداية أسماء عربية لشوارعهم؟!
ـ كانت طنجة مدينة دولية، أي تحت نفوذ الأجانب المسيحيين، وهؤلاء من أقاموا الشوارع وتولوا تسميتها، وبذلك، فإن تغيير تلك الأسماء من لدن المسؤولين الجدد، تحريف وتزييف للحقيقة!
سكت قليلا وأضاف:
ـ ألم تطلعني يا أبا حيان على موعد كان لك مع نهاوند في جنة العريف بغرناطة؟
تنفست الصعداء، إذ أسعدني أن يعود بي إلى قضية نهاوند، فأسرعت بالقول:
ـ بلى، إنه لكذلك، فقد كنا على موعد في جنة العارف!
لكنه أجابني:
ـ هب أن اسم جنة العريف تغير إلى اسم آخر! فماذا سيكون موقفك؟ ألا ترى في هذا تغييراً للحقيقة؟ ولعلمك فإن الإسبانيين بعد أن أخرجوا المسلمين من الأندلس، أبقوا على بعض الأسماء العربية، حفظاً لذاكرة التاريخ، فلماذا نقوم نحن بتزييف التاريخ وإرباكه؟
كان عليَّ أن أشاركه موضوعه، رغم أنف مصيبتي، فقلت له:
ـ أوافقك على ما تقوله الآن، فتلك حقيقة كانت تغيب عني، وأتمنى أن تكون بغداد محتفظة بأسماء أحيائها ومعالمها القديمة!
 كنا نسير في شارع طويل عريض بجوار البحر، مضاء بأعمدة نور لا تحصى، فقلت له:
ـ لنعد إلى واقعنا، في أي بلد يحتمل وجود نهاوند؟
أسرع في خطواته، وكأنه بذلك يطلب مني أن نؤجل الحديث إلى أن نصل المطعم.

(25)

سرنا صامتين إلى أن ولجنا مطعم "بيرغولا". صعدنا بضع درجات، فبدت لنا صالة رحبة نصف مغطاة، ملأتها مقاعد وطاولات، وأشرفت على شاطئ ذي رمال بيضاء، امتد إلى أن انبطح لأمواج البحر. كان المشهد مثيراً لحواسي، خاصة وقد جعلت أشعة الإنارة ظلامه نهاراً مضاء جعلني أستحضر تلك الليلة العجيبة، ليلة الاحتفالات بعرس الخليفة "القادر بالله"، حين تزوج سكينة ابنة "بهاء الدولة البويهي"، فقد كانت الأضواء تسطع من عشرات المراكب فوق دجلة، وأخرى تزيّن الحارات والأزقة، جاعلة ليل بغداد نهاراً بهيجاً يأخذ بالألباب.
في تلك الليلة البغدادية المضاءة، وشهوتها تداعب عواطفي وتسربل أحاسيسي بدفء جارية ترقب عودتي، بقيت ساهراً رفقة صديقي بديع الزمان الهمداني إلى موقت آذان الفجر، كنا بحي الكرخ على ضفة دجلة، أنشده مما يستحضره ذهني من نسيب وغزل القدماء، ويسمعني من أطايب مقاماته الجديدة، وحين نصمت للراحة، تتناقل إلى مسامعنا مواويل بدوية حزينة، تصدر من مركب على مسافة منا، دون أن ينقطع صدى لأهازيج غنائية يحملها نسيم النهر. كان عرسا بحق، استقدم له الخليفة مغنين جواري وغلمانا من الهند وفارس ومصر، فتوزعوا بين قصر الخليفة وقصر والد العروس وقصور الوزراء ودور الحاشية وكبار رجال الشرطة.
حدث ذلك منذ حوالى عشرين عاماً أو أقل. أجل، أتذكر العام بالضبط، سنة ثلاثٍ وثمانين وثلاثمائة هجرية، ونحن الآن في عام ثلاثةٍ وعشرين وأربعمائة وألف، وأقول منذ حوالى عشرين عاماً! يا لسخرية القدر!؟ ورسى بصري في اتجاه واحد، على الميناء نفسه الذي استقبلني مهاجراً سرياً، تذكرت شرطة طنجة وكرم ضيافتها تلك الليلة، فقد كانت أتعس ليلة في حياتي. أصوات منفرة تصدرها بواخر تغادر الميناء وأخرى تحل في رحابه، لم أغظ طرفي عنه، فقد كان على مرمى حجر مني. ولعل الضوء البعيد هناك، كثير الغمز، أقيم عنوة ليرشد المراكب إليه، أما الضوء الآخر المقام للغاية نفسها، فقد سبق أن تعرفته وزودت بمعلومات عنه في إقامة السراب، إن مصدره محتجب عني، لكنه لا يكف عن إرسال برقه بين لحظة وأخرى طوال الليل.
لا أنكر نشوة التنعم في انعكاس إشارته الضوئية في السماء و على صفحة مياه البحر دون أن تخفت أنفاسه. لعله من أعجب اختراعات بني الإنسان وأغربها، لكنه لم يشغلني عن التفكير في عرس الخليفة ولا في نهاوند، ولا شغلني عما يستحضره ذهني مما كان قد مرَّ بي أيام شبابي في شط مدينة المحمرة بفارس، فقد كنت مولعاً بالمقارنة بين الصحراء والبحر. كنت أرى الصحراء عراء ملتهباً وودياناً شاحبة يطاردها الجدب، فتذكرت الرمال الساخنة تحرق قدمي الصغيرتين الحافيتين إلى أن ينسلخ بعض جلدهما، وكنت أرقب البحر في مده وجزره، وأستكمل من رأسي أساطير وأسرار سردها بحارون من مدينتي المحمرة والبصرة، فتصحبني في نومي، تؤرقني أو توقظني مفزوعاً، مكسواً عرقا.
وبقيت على تلك الحال، إخال الصحراء صادمة، والبحر ملهم، إلى أن أوضح لي الزمان بأن كل ما يصدم يلهم، فتساوت لدي الصحراء بالبحر.
كدت أضيق بصمت شكري، فهو لا يفتح فمه إلا ليتجرع كأساته، مما جعلني أخرجه من صمته بسؤالي:
ـ إن نهاوند تبحث عني، فما السبيل لأعثر عنها أو لأجعلها تعثر عني؟!
نهش في شعر رأسه، وأجابني بصوت خفيض:
ـ ما دليلك أنها تبحث عنك؟
ـ دليلي بصيرتي، ثم إني أستند إلى قناعتي ولا تهمني قناعتك، هب يا رجل أن ما أقوله هو عين الواقع، وفكر معي في وسيلة توصلني إليها.
ـ لك ما تريد.
نطق كلمته بتكاسل، ودسّ في فيه سيجارة أوقدها بيدين مرتعشتين، وقال:
ـ إن أقصر السبل إلى نهاوند أن تعلن عن وجودك، أن تجعل الصحافة والإعلام يتحدثان عن انبعاثك بعد عشرة قرون من غيابك، والجملة الأصح، بعد عشرة قرون من موتك! ولربما قد تستمتع بلقاء السيدة نهاوند. لكن يقيناً سوف لن تستمتع بالجلسات الهادئة في الأماكن التي ارتدتها أو في تلك التي لم تتعرفها بعد!
أهرق كأسه في جوفه، وسافر ببصره بعيدا نحو البحر، ثم نحنح مهيئا صوته للحديث، وكأنه سيحسم الموضوع برأي لا يُردُّ له أمر، وقال واثقاً من نفسه:
ـ بإشهار وجودك، سيرتبك العالم كله. سيصبح خبرك حديث الناس في كل بقاع الأرض، شمالا وجنوبا، شرقا وغربا، بين المصدق والمرتاب والنافي. سيسعى آلاف البشر إلى الظفر بمشاهدة هذا المخلوق العجيب الغريب القادم من القرن الرابع الهجري. فئة منهم ستقول عنك المهدي المنتظر، وفئة أخرى ستعتبرك ساحراً أو جنياً. سيتزاحم على رؤيتك الصحفيون والأدباء والسياسيون والفضوليون، إنها ضريبة الشهرة، أعني جزيتها. ومن يدري، فقد يجرأ أحد المجانين على اغتيالك، لمجرد الحسد، أو ليشاركك شهرتك.
قاطعته:
ـ ألهذا الحد وصلت أهميتي!؟
ـ أجل إلى هذا الحد! بل إلى أبعد مما تتوقع! فإذا كنت أنا محمد شكري، الرجل البسيط، كتبت مجرد كلام جريء عن مسير حياتي، وعن وجوه صرفها القدر في طريقي، أتعرض لمضايقات مزعجة، من لدن الخاصة والعامة، فما بالك بأبي حيان التوحيدي، مبدع أمهات الكتب في الفكر والمنطق والفلسفة؟ وأكثر من ذلك، فإن الحياة استعادته من بعد موته بعشرة قرون!؟ إني لا أرى فائدة في إشهار وجودك، وإلقاء نفسك في مكاره من أجل امرأة جارية عشقتها!
لم أطق سمع بقية خطابه، فعجلت بالرد عليه:
ـ لتصمت يا شكري غفر الله لك. إن ما تقوله قد يوافقك عليه رجل من العامة، تطغى ذاته على ما عداها، أما أنا أبو حيان التوحيدي، لن أخلع نهاوند بمباهج الدنيا وكنوزها، إني استرخص كل مخلوق لا يخفق قلبه بالحب، ولا أرى نفعاً يرجى من رجل يصدُّ محبوبه لقاء كسب مادي، فأحرى مخافة الشهرة والعزلة! إنك قطعاً لم تُكتو بنار العشق، ولا ذقت طعم خمرته!؟
اعتدل في مقعده، واشرع عينيه وكأن كلامي أفاقه من غيبوبة طويلة، وخاطبني:
ـ أكاد لا أصدق ما تسمعه أذني! أبو حيان صاحب الإشارات الإلهية، المتخذ من التصوف قضيته الكبرى، تحوّله جارية إلى عاشق مستهام، تنزع عنه بردى الورع والتقوى، وتلبسه عباءة قيس بن معمر.
ضرب كفّا بكفّ وهو يتأملني، وتابع خطابه:
ـ إنك أيها الفقيه السلفي كنت متسقاً مع نفسك في بغداد، حين لم تذكر كلمة عشق واحدة في جميع مؤلفاتك، ولا أشرت إلى أية امرأة في جميع ما كتبت. واليوم في طنجة، تضع نهاوند في كف وما عداها في كف أخرى، تعلن استرخاصك لكل مخلوق لا يخفق قلبه بحب امرأة. المحيّر، أنك عالم، فقيه، متصوف! يا لسخرية القدر! أنا حقا لا أفهمك!
ابتسمت استخفافاً برأيه، وأوجزت جوابي في جمل مبتورة:
ـ ما تبرمت من الورع والتقوى، ولا قايضت ديني بأية امرأة. فأنا الشخص ذاته بماضيه في بغداد و بحاضره في طنجة. ما حدث هو أنني أبحث عن امرأة سكنتني، جزما مني بأني أيضاً سكنتها. فأنا مخلوق بشر قبل أن أحمل باقي الصفات، أنا مسلم يا شكري. أعمل لدنياي كأني أعيش أبدا وأعمل لآخرتي كأني أموت غدا، وإذا كنت تراني قد عدت للبحث عنها بعد فراق دام عشرة قرون، فذلك بالنسبة لي لا يتعدى بضعة أشهر، هي ما استغرقه سفري من بغداد إلى طنجة، أما عزوفي عن التدوين عنها أو عن أية امرأة غيرها فلا يدعو إلى أي استغراب، ذلك أن معاشرة المرأة واقع عيني بديهي، وتدوين البداهات لدى العلماء والفقهاء ثرثرة منفرة، غير مستحبة. فأن يخفق قلب الرجل بحب امرأة أو يشقى للظفر بقلبها لا يضيف إلى الكتابة الأدبية أو الفلسفية قيمة جديدة، فتفسير الواضحات من المفتضحات. ولعلك تذكر ما أعلنته في حضرة الوكيل العام للملك من أن جنس الشعر وحده ما يستوجب تخصيصه للنظم عن المرأة.
قاطعني هازئاً:
ـ وجهة نظرك قديمة، بالية، مضحكة، ربما كانت مقبولة قبل عشرة قرون، أما في عصرنا هذا فلم يعد هناك ما يحدّ من حرية الكتابة. فمثلما يحق لنا أن نتحدث يحق لنا أن نكتب. ثم إن المواضيع الأدبية عموما، نثراً كانت أم شعرا، ما عادت قيمتها في جوهرها، وإنما في كيفية تناولها، أي صار الشكل مرجحاً على الجوهر، ولربما لهذا السبب تداخلت الأنواع الأدبية وتمازجت لتصبح نوعا واحداً، يطلق عليه الكتابة ذات الشكل الجديد.
انتفضت في وجهه:
ـ يستحيل أن أقبل بهرطقة كلامية كهذه، تمزج الشعر بالنثر كمن يمزج القمح بالشعير، تتذوق الشكل قبل الجوهر! ما سمعت عن أحد أطربه شكل قصيدة قبل جوهرها! إنكم باجتهادكم هذا تقدمون العربة على الحصان.
أخذ يضحك وقاطعني:
ـ إنك لم تدعني أنهي حديثي يا أبا حيان. طيب، لأزودنك علما بأن الشكل أصبح هناك، دون أن يظل مقتصراً على المجال الأدبي، بل امتد ليشمل أنواع المعرفة كلها. صار سمة مهيمنة على جميع أمور حياة هذا العصر، حتى العدل لم ينج منه، تصور العدل! وعلى سبيل المثال، إذا أقدمت على بسط تظلمك على القضاء، يلزمك وجوبا اعتماد شكلٍ محددٍ حصراً تحت طائلة بطلان حقك، فقاضي هذا العصر صار مثل الناقد الأدبي، يقوّم الشكل قبل الحق، وكم من حق ضاع بسبب شكلي تافه.
ـ وأين منكم قولة علي بن أبي طالب ما ضاع حق ورائه طالب؟
ـ صارت سنبلة فارغة!
ـ يا إله السموات والأرض، خفّف عن مخلوقك ما ابتليته به. أرجوك يا شكري أن تصمت، فما عدت أتحمل سماع مثل هذه الأخبار، إن عصركم هذا لعصر مجانين بحق.
أراد أن يضيف شيئا، فأسكته بإشارة من يدي، وقلت له:
أنت تربكني يا شكري، لعلك تقصد بالشكل والجوهر، اللفظ والمعنى؟
ـ تماما، ذاك بالضبط ما قصدته، فالشكل هو اللفظ والجوهر هو المعنى، وقد أصبح اللفظ في عصرنا الحالي مرجحاً على المعنى.
ـ شخصياً قد لا أتفق معك، ذلك أن ترجيح اللفظ على المعنى هو بمثابة ترجيح الجسد على الروح. فاللفظ كالجسد، عارض متغير فان. أما المعنى فهو كالروح، خالد لا يتبدل. ولذلك قيل في زماني السابق "إن الشعر تجويد للمعاني"، ذلك أن الشاعر وحتى العالم أو الفيلسوف، هو الذي يجيد التقاط المعنى، فتأتي بعد ذلك طريقة تجويدها.
بدا غير مقتنع بوجهة نظري، وقبل أن يتحدث أضفت قائلا:
ـ أفهم أنكم صرتم في هذا العصر تجمعون على ترجيح اللفظ على المعنى، هذا أيضاً ليس بالشيء الجديد، ففي عصري السابق وُجد من قال بهذا. أذكر أن الجاحظ عليه رحمة الله، قال ما معناه، إن المعاني ملقاة على قارعة الطريق، يلتقطها المسلم والنصراني والمجوسي، لكن الحرفية تكمن في كيفية صياغتها، وهو قول في ظاهره يبدو وكأنه يرجح اللفظ على المعنى، لكنه في عمقه ليس كذلك.
ابتسم شكري وهو يوقد سجارته وتلمظ رحيق كأس صبّها في حلقه، ثم تطلّع إلى سقف الصالة وكأنها ستمده بما يعتزم الردّ به، وخاطبني:
ـ أنت أيضا أربكتني يا أبا حيان، فلم أعد أعرف من منّا على صواب! طيب إني أفكر في أن أطلعك على آخر مستجد في النقد العربي.
قال ذلك ورفع بصره مرّة أخرى إلى سقف الصالة، فاستعجلته:
ـ هات ما لديك، إني أثوق لمعرفة هذا المستجد.
ضحك، وانخرط في الحديث:
ـ قبل خمسين عاماً إن لم تخني ذاكرتي، كان المشتغلون بالنقد، يضعون في المرتبة الأولى الكاتب قبل نصّه، فقد كان الكاتب أهم من النص الذي يكتبه، بعد ذلك توحّدت الآراء على استبدال الكاتب بالنص، ليصبح النص أكثر أهمية من الكاتب، هذا التفضيل للنص، لم يدم طويلا، فقد قام أحدهم من معشر منظري الغرب المسيحي، ودعا إلى ترجيح التلقي على النص، أي عدم جدوى النص دون قارئ. ضحك وأضاف:
ـ ما قول الأديب الفيلسوف القادم من القرن الرابع الهجري، أزهى عصور ثقافة العرب؟
بالرغم من الكؤوس التي صبها في جوفه، أحسست به في كامل قناعته بما يقول، فارتأيت أن أعود به إلى موضوعنا مخافة فساد جلستنا، فقلت له:
ـ إن التلقي، ومنه الإصغاء كأحد مدلولاته، ليس مفهوما جديداً وافداً على الفكر العربي، فقد كان موجوداً في بداية العصر العباسي، وكانت لنا مطارحات بشأنه.
أوقفني بإشارة من يده، فخلته سيشكرني على حصافة رأيي، إلا أنه فاجأني بما لم أتوقعه منه، إذ قال:
ـ عليَّ أن أكون صريحاً معك، فقد أخذت تربكني حقا، كل مستجد أطلعك عليه، تنسبه إلى تاريخك البعيد، لم أعد أعرف إن كنت تتعمد ذلك أم أن مثقفي هذا العصر يجهلون تاريخ ثقافتهم؟
قاومتُ غضبي، وقلت له:
ـ أنت الأعلم يا شكري بأنني لم أقرأ كتاباً واحداً منذ القرن الرابع، وأن إلمامي بالتلقي والإصغاء يعود إلى أيامي البغدادية، بل إني على أتم استعداد لأتحدث عنه ساعات وساعات، ولعلمك فإن الإصغاء كان حجر الزاوية في أدبنا العربي منذ أزيد من عشرة قرون.
أمسك بقنينة نبيذه وملأ قدحاً صبّه في حلقه، وقال لي:
ـ منذ أن التقينا وأنت تزج بي في معضلة وراء معضلة دون استراحة.
إني بصراحة لا أطيق الصنف الجاد من البشر لأكثر من ساعة، فقد تخليت عن مهنة التدريس لهذا السبب، وكذا عزوفا عن سخافة منطق المدرسين، وأنت تجاذلني بمنطقهم.
أحسست بالغضب يتسلق صدري، لكني في ذات اللحظة صرت أقاومه، مكثفا إرادتي لدرء استفزازه. أنا لا أُستفز إلا بإرادتي، رددت ذلك في نفسي وخاطبته بهدوء مفتعل، وأنا أكتم غيظي:
ـ لكنك يا شكري أنت الذي اختار الحديث عن المفاهيم المستجدة في الأدب، ومن يطرق الباب عليه سماع الجواب.
ـ لكنك أطلت الحديث في أمور عقلانية لا تناسب المقام.
ـ ما العيب في ذلك وأنت من اختار المقام؟
ـ الحلم والوهم وحدهما يناسبان مجالس الشراب.
ـ لا تنسى أن الإكثار منهما، مضاف إليهما الشراب، يؤدي إلى الجنون.
ـ مرحبا بالجنون، من كان دون جنون يُرفض من زمرة المبدعين. أتعرف أنني أثناء كتابتي لروايتي "الخبز الحافي" كنت في حالة جنون، فاستُقبلت الرواية بترحاب منقطع النظير، وعندما أتبعتها بكتاب "غواية الشحرور الأبيض"، وكنت في أوج التعقل، لم يلتفت إليه أحد.
أحسست أني أجالس شخصاً غريبا عني، أكيد أن الرجل أصيب بلوثة عقلية، أو لربما جنونه طغى على تعقله، فلا معنى أن ينقلب مزاجه من أقصى درجة الوداعة إلى أقصى درك الوقاحة. تذكرت كيف كان يضرب على ظهر عبد القادر بشدة وقسوة دون أدنى سبب، وكيف ولج البحر في الهزيج الأخير من الليل، بعد أن ألقى بحذائه وسترته في وسط الأمواج المتلاطمة.
أشياء وتصرفات خرقاء صار ذهني يستحضرها، إلى أن قال لي:
ـ إني أتقبل بشغف أن تحدثني عن علاقتك بنهاوند، فالظرف الذي جعلك تتعرف إليها يدعو إلى الدهشة. أهديت الوزير كتباً فأهداك جارية، يا لها من حكاية جميلة. في زماننا الحاضر لم يعد الوزراء يملكون جواري، أوهم يملكونها بمسميات أخرى، عشيقة أو صديقة.
لم أجبه بشيء. كان ذهني مشتتاً، تتزاحم به أفكار تتلاطم كأمواج بحر الظلمات. أفكر في إعلان البحث عن نهاوند لتدفئ فراشي، وأفكر في مزاج شكري الشاذ، وأفكر في تمالك نفسي التي لو لم أتق شرها لكنت ألقيت فوق رأسه بكل ما فوق المائدة، وانسحبت من دائرته إلى الأبد.
من جديد فاجأني وهو يضحك:
ـ إننا نحن العرب جميعا نعيش حياة مركبة، حياة انفصام. ندعو إلى السلف الصالح صانع النكسات والمآسي ونستلذ التبعية للغرب المسيحي. أنا لست مع هذا ولا مع ذاك، لا مستقبل يرجى من العودة إلى الوراء، ولا فائدة ترجى من قطف ثمار لم نشارك في زرعها.
أخذ يضحك حتى خلته مجنونا حقاً، ثم تحامل على نفسه لينتصب على قدميه، وأخذ يحوم حولي متابعاً ضحكه:
ـ أنت أبا حيان، تنتعل حداء عصرياً وتتدلى على صدرك العراقي ربطة عنق صممت في الغرب، وتخفي عظامك داخل بذلة فاخرة، فوق قميص غربي ناعم، إنك لا تختلف عن المشارقة في شيء، بل عن العرب عامة، ولست الوحيد القادم من القرن الرابع الهجري، فجميعنا قفزنا على عشرة قرون، استبدلنا ركوب الجمل والحمار بركوب الطائرة، دون أن نسهم في صناعتها. لكننا نبرر ركوبها بحرق المراحل.
توقف عن ضحكه وأخذ ينعم في وجهي وأضاف، لكنه هذه المرة نطق بمودة فضحتها حنجرته:
ـ إني أفسر صمتك برفضك لشخصي، أرجوك أبا حيان، لا تغضب مني، أكن لك مودة حقيقية، لعلي في حالة سكر، لكن عرضي وافر، وأنا في الوقت ذاته في كامل قوتي العقلية، ذلك أن سكري مثل جنوني لا يستغرقني سوى لحظات. عليك أن تشكر القدر الذي جمع بيننا، فلو كنت صاحبت غيري، ما كنت ستحظى بالاطلاع على حال ما نحن فيه، أقصد ما يعتمل في دواخلنا. لنكف عن الوهم والجنون.
لاحظت أنه ساه عن سماعي، فتوقفت عن الحديث. مرت فترة صمت دون تواصل بيننا، وعلى صدى صوت نسوي أدرت رأسي ملتفتا خلفي، فألفيت حشداً من بشر ملأ حيزا كان فارغاً، نسوة ورجال تكدسوا فوق مقاعد كتجمعات النمل، وازدانت موائدهم بأشربة ومزات وقهقهات، وانقدح خاطري إلى أن إحداهن في حالة سكر طافح، فقد طغى صوتها على ضجيج المقهى.
انتبه شكري إلى غيابه عني، فخاطبني بمودة:
ـ معذرة أبا حيان، فقد سهوت عنك، انشغلت بأم كلثوم.
لم أفهم شيئا، أو بالأحرى حسبته منشغلا بالبنت السكرانة، وتساءلت مع نفسي كيف عرف أن اسمها أم كلثوم إلى أن قال لي:
ـ أم كلثوم، سيدة الطرب العربي وتدعى كوكب الشرق، وهي الآن تغني قصيدة لأبي فراس الحمداني.
أدخلني شرحه في دهليز مظلم، فبادرته بالقول:
ـ إنك زدتني غموضاً، أوضح رعاك الله!
ضحك وقال:
ـ الصوت المسجل الذي نستمع إليه الآن، هو للفقيدة أم كلثوم، وقد سطع نجمها في الغناء العربي، سطوع نجم المتنبي في سماء الشعر العربي، أما القصيدة التي تشدو بها، فهي للشاعر أبي فراس الحمداني.
لم أقو على كبح ذهولي، ليس إعجابا بالموسيقى أو صوت المغنية فحسب، وإنما أيضا بقصيدة أبي فراس الذي لحق بي إلى القرن الرابع عشر الهجري، وأرخيت أذني لأذوب في رقة معاني شعر أبي فراس، وهي تنساب في حُلَّة من أنغام العود والدّف والصنج: أراك عصي الدمع شيمتك الصبر، أما للهوى نهي عليك ولا أمر.

(26)

حين أحس بي شكري مشدوداً إلى السماع، سألني:
ـ حبذا لو أعرف مدى تقبلك لهذا النوع من الغناء، وهل أصلا تفهم في الغناء.
أسكته بحركة من يدي إلى أن انتهت السيدة من غنائها وقلت له:
ـ لا تنسى يا شكري أني كنت صديقاً لجهابذة علماء الموسيقى في عصري، كأبي نصر الفارابي وأبي الفرج الأصبهاني، وبهذه الأصابع التي تشاهدها، قمت بنسخ جميع كتب الفارابي، كـ "الإيقاع" و "الموسيقى الكبير" وكذا "أصل العلوم" و "إحصاء العلوم"، وجميعها في علم الموسيقى واللحن، كما نسخت وحفظت "كتاب الأغاني" لصديقي المرحوم أبي الفرج الأصبهاني.
عاد يقول:
ـ أعرف أنك موسوعة، لكني لم أسألك عن الجانب العلمي في الموسيقى وإنما عن تذوق الألحان.
قاطعته ضاحكاً:
ـ أزعم أني أفوقك تذوقاً للألحان، وذلك لأني أحيط بعلم الألحان النظري من جهة، وبتذوق ما يهز منها مشاعري تطبيقا من جهة أخرى. فعلى سبيل المثال، إذا وقع خطأ في العزف أو في أحد الإيقاعات، فإني أكتشفه في الحال، ولعلمك فإني كنت مغرماً بعزف إبراهيم الموصلي وشقيقه إسحاق، وكذا بتلميذهما زرياب الذي كنت أنوي اللحاق به في الأندلس.
نظر إليَّ باستغراب، فأضفت قائلا:
ـ أتعلم أن العود بعد أن كانت له أربعة أوتار من الحرير، أضاف له زرياب وتراً خامساً، أسماه الأوسط؟جعله تحت المثلث وفوق المثنى، واتخذ مضراب العود، الريشة من جناح النسر، بدلا من قطعة الخشب، وجعل عوده بحجم عود إسحاق الموصلي، لكنه أخف وزناً بمقدار ثلث وزن عود الموصلي.
ستقول هذه معرفة، لكن صدقني أن صوت علية بنت المهدي وطريقة أدائها للغناء، كانا ينتزعان مني مشاعري ودهشتي ويسموان بي إلى أعالي السماء،كان صوتها في صفاء السيدة صاحبة أغنية أراك عصيَّ الدمع ومواصفاتها.
أصابت الدهشة شكري، فقال لي:
ـ من يصدق ما تقوله؟ من سيصدق أن أبا حيان يعرف عن الموسيقى والألحان أكثر مما يعرفه مثقفو عصرنا هذا؟
وقلت له:
ـ أصارحك يا شكري بأن أبا ناصر الفارابي إلى جانب العالم والصوفي كان مغنيا وعازفاً مبهراً، كان يعيش بداخله العالم والفنان متلازمين. وإذا كان الفيلسوف الطبيب أبو يوسف الكندي قد سبق الفارابي إلى التأليف الموسيقي، معتبراً الموسيقى فرعاً من الرياضيات، ووسيلة لشفاء المرضى، فإن الفارابي استوعب علمه وفاقه في أمر الأصوات والأنغام والتآلف، وزاد عنه اطلاعاً على ثقافة العجم. أذكر عندما كنت أنسخ كتابه "الموسيقى الكبير"، اكتشفت أن غايته من تأليف هذا الكتاب كانت بسبب ما وجده من نقص وغموض في كتب الإغريق، عليه رحمة الله الواسعة. نعم الرجل، تعاشرنا في السنوات الأخيرة أنا وهو وابن مسكويه دون شائبة، إلى أن سرنا في موكب حزين نعيده إلى التراب.
أنا أتحدث، وهو يحملق في وجهي مأخوذاً، إلى أن قال لي:
ـ هل تحفظ لحناً للفارابي أو الأصبهاني؟
ـ أحفظ لهما ألحاناً كثيرة، لكني لم أغني منذ زمن طويل.
ضحك وقال:
ـ أرغب أن تسمعني مقطعاًً من أغاني ذلك العصر، لا يهمني الصوت، أرجوك أبا حيان.
ـ لكن الغناء لا يستقيم إلا بالموسيقى.
ـ ليس بالضرورة، فأنا أريده بدون موسيقى.
ـ لكني أشترط حضور الموسيقى في الغناء، فالعلاقة بينهما ليست وشيجة فحسب، بل هما واحد في لبوسين، وبذلك حرَّمتُ على نفسي الغناء دون آلة موسيقية.
ـ معنى ذلك أنك تجيد العزف؟
ـ علماً وعملا.
ـ طيب، إذا جئتك بعود، هل تغني؟
ـ ليس وسط هذا الضجيج.
التفت خلفه يستطلع من في الصالة، وخاطبني مزهواً:
ـ لم يعد صحبتنا سوى أربعة أشخاص، وفي وسعي أن أخرسهم جميعهم.
ابتسمت له موافقاً، فنهض مسرعاً، غاب زمنا قصيراً إلى أن عاد يحمل آلة عود، ناولني إياها ثم خطى إلى حيث الأشخاص الأربعة، وهمس لهم كلاما لم أسمعه فتوقفوا عن أحاديثهم.
في تلك الأثناء، كانت آلة التسجيل قد كفّت عن بث موسيقاها، فأطبقت السكينة على المكان، ولم يعد يُسمع سوى هدير خفيف لأمواج تنكسر على شاطئ البحر.
داعبت أوتار العود قليلا، وقلت لشكري:
ـ إن العود الذي اعتدت عليه في بغداد وغيرها، كانت به ست أوتار فردية، أما هذا، فبه أحد عشر وتراً.
امّحى الفرح من وجهه، وقال في كآبة:
ـ إذن لن تستطيع العزف!
ابتسمت وطمأنته:
ـ سأعزف أنغاماً شجية، فلا شيء تغير في العود، سوى أن كل وتر أصبح مزدوجاً، باستثناء الوتر السادس، فقد ظل منفرداً، فبدونه لا يمكن تحقيق الغاية اللحنية على مستوى الصندوق الرنان.أي بطن العود.
ابتسم شكري وحرك رأسه مشجعاً، فأخذت أداعب كل وتر وأنا أشرح له علمي:
ـ هذا العود مُدَوْزَنْ على مقامات أندلسية، عليَّ أن أقوم بتحويله حتى يصير مدوزناً على المقامات المشرقية القديمة، ليتسنى لي أن أسلطن عليها.
بعد لحظة تمكنت من دوزنة العود، وخاطبت شكري:
سأسمعك أغنية من أغاني عُليَّه بنت المهدي.
وبعد أن عزفت المقدمة اللحنية، أنشدته جاعلا كل نغمة تتماه مع كل كلمة أنطق بها،
لَبِّ الهَوَى كُلَّمَا دَعَاك 
وَلاَحِ في الحُبِّ مَنْ لَحَاكَا
مَنْ لَامَ في الحُبِّ أَوْ نَهَاكَ 
فَزِدْهُ في غَيِّكَ انْهِمَاكَا

إنْ لَمْ تَكُنْ في الهَوَى كَذَاكَا 
نَالَ لَذَّاتِهِ سِوَاكَ
أغني وأرقب في الوقت نفسه تسرب الناس إلى قاعتنا، ولعل مستخدمي مطعم بيركَولا أنفسهم صاروا ضمن أولئك الناس.
ما إن ختمت وصلتي حتى دوت الصالة بالتصفيق المتواصل، فارتمى شكري عليَّ مقبلا رأسي ويدي وقد اغرورقت عيناه بالدموع، وخاطبني وهو في أقصى حالات الانفعال:
ـ أنت أعظم فنان في هذا العصر، بالله عليك أبا علي، كيف سمحت لنفسك بالتستر على هذا الكنز الفريد؟ إن صوتك يخفي سحراً أخاذاً يهز النفس ويبهر العقل.
لم أقل شيئا ولا حتى أطلت الابتسام، كي لا أبدو مزهواً بنفسي، بل عدت أداعب أوتار العود، مستأنساً بتقسيم على الطبقة الصوتية الخفيضة، إلى أن حضرتني تلك الأغنية التي كنت أعزفها بعد أن ودّعتُ نهاوند في بغداد.
واكتنفني شعور حاد بالأسى على فراق نهاوند، فأدركت أن تعبيري في أداء الأغنية القادمة سيكون صادقاً، لأن عاطفتي كانت فياضة، وبذلك سأغني بفن وذوق وسأستميل قلوب سامعي.
واندفعت أعزف وأغني:
أَسْتَوْدِعُ اللَّهَ في بَغْدَادَ لي قَمَراً
بالكَرْخِ مِنْ فَلَكِ الأَوْزَارِ مَطْلِعُهُ
وَدَّعْتُهُ وَبِوِدِّي لَوْ يُوَدِّعُنِي
صَفْوُ الحيَاةِ وأَنِّي لا أُوَدِّعُهُ
أعدت أداء الأغنية ثلاث مرات، لسببين اثنين، أولهما استجابة لرغبة الحاضرين وقد أفاض بعضهم في الإشادة بحسن أدائي، وحسبوني مطربا حديثاً قادماً من العراق، وثانيهما استجابة لإلحاح شكري الذي تحدث عن موهبة استماعه وتذوقه. فقلت له:
ـ بدون المتلقي لا قيمة للمغني، فلكي تحصل لذة الطرب لا بد من توافر صدق صوت المغني وحسنه، ورغبة المتلقي في الاستماع والتقبل، وأنا أتفق معك، فالموهبة كما تكون للمغني تكون للمتلقي.
ناولته العود، لكنه رفض وأصر على الاستماع إلى أغنية أخرى، فتعالت الأصوات تؤيده.
ابتسمت، وخاطبت شكري بصوت خفيض:
ـ لا بأس، سأختم هذه الليلة بأغنية كانت مفضلة لدى صديقي ابن فهم الصوفي القاضي، كان رحمه الله، إذا سمعها هاج وأزبد، وتعفَّر شَعْرُه، وهي من شعر أبي ربيعة.
احتضنت العود وعزفت مدخلا موسيقياً من مقام لحن الأغنية نفسها، وذلك حتى أجعل الآذان تعتاد جو المقام، ثم عرجت على اللحن الخاص بالأغنية من غير أن أترك لأحدهم ذرة إحساس بانتقالي من زمن موسيقي إلى زمن موسيقي آخر، بل سرت كطائر مفرد مغرِّد محلِّق في سماء صافية رحبة.
وانسابت القصيدة تنفذ في شرايين الموسيقى، وكأنهما جسد وحلة لا يليقان إلا ببعضهما.
أنيرِي مَكَانَ البَدْرِ إِنْ أَفَلَ البَدْرُ
وَقُومِي مَقَامَ الشَّمْسِ مَا اسْتَأْخَرَ الفَجْرُ
فَفِيكِ مِنَ الشَّمْسِ المُنِيرَةِ نُورُهَا
وَلَيْسَ لَهَا مِنْكِ المَحَاجِرُ والثَّغْرُ.

(27)

اتصل شكري بسائق السيارة، واقترح أن يرافقني إلى فندق السراب في الجبل، فأومأت برأسي موافقاً.
ونحن نهم بركوب السيارة، قدمت رجلي اليمنى على اليسرى وكأني سأجعل السائق خلفي، ثم استدركت خطأي فعدت لألج السيارة بشكل سليم، فضحك وقال لي:
ـ تبدو كأنك أنت السكران!
ضحكت بدوري، وقلت له:
ذاك كان حالي مع صديقي الناسخ ابن عدّي النصراني، هو يشرب وأنا أسكر عوضه، وكانت بطنه صغيرة مثل بطنك، لكنها قاحلة كالصحراء، لا ترتوي أبدا.
أقلعت بنا السيارة، وكمن يخاطب نفسه بصوت مسموع قال:
ـ عليَّ أن أنتظر إلى صباح غد لأتأكد!
وقبل أن أستفسره عن الشيء الذي يريد التأكد منه، أسرع مضيفاً:
ـ أتأكد إن كان ما عشته هذه الليلة واقعا عينياً أم مجرد لدغة حلم.
لم يكف عن الضحك، وهو يضيف:
ـ لو أنك أخبرتني سابقاً بأنك تجيد العزف والغناء لصدقت نصف الخبر.
ـ وما هو النصف الآخر الذي لم تصدقه؟
أخرج من قرابه صندوق سجائره، ألصق بفيه واحدة وأقفل نافذة السيارة عن يمينه كي لا تطفئ الريح عود ثقابه، فأتم له ما أراد، وخاطبني:
ـ مشاهدتي بأم عيني عزفك وغنائك، هي النصف الآخر من الخبر.
فتح نافذة السيارة ليتسرّب دخان سيجارته إلى خارجها، والتفت نحوي يخبرني:
ـ إني يا أبا حيان مستهام بالغناء، عاشق للأصوات الجميلة وللعزف الرفيع، أدخر في منزلي تسجيلات متنوعة لأهم المطربين والعازفين عرباً وعجماً، لكنني هذه الليلة وأنت تحلق بي في ملكوت الفن الراقي، جعلتني أقزّم كل ما أتوفر عليه من تسجيل.
أرجو أن تثق بي يا أبا حيان، فقد دوّختني، أحياناً كان يخيل لي وأنت محتضن العود، عازفاً منشداً، أن أقواما من الجنَّة مختفية عن الأنظار تنظم عزفك، أو هي مختبئة بين ثنايا الأوتار، وأنت تستنطقها فردا فردا، وجماعات جماعات. انه السحر بعينه. لعل سباتك الطويل في تلك المغارة الأندلسية عتّق صوتك مثلما يعتق الخمر الأصيل بعد أن يرقد لأمد طويل في مخزن هادئ منعزل؟ هكذا والله صوتك، مسكر كالخمر المعتق، أين منك مطربي هذه الأيام؟ إني لا أدري ما قد يحدث لبني البشر حين يكتشفوا عذوبة صوتك وسحر عزفك!
اكتنفني زهو فطري، وأنا أستمع إلى شكري يشيد بمهارتي في العزف والغناء، لكني لم أدع تثمينه يوقظ غروري، أو لربما لا مسه خفيفاً. ومن باب الدعابة، كدت أحتج على تشبيهه لصوتي بالخمر، لكنني عدلت عن رأيي خشية إقحامي في نقاش يحصد ما تبقى من ليلتنا القصيرة، فيضيع مني مخططي للبحث عن نهاوند.
ووجدت نفسي أصارحه، دون أن أزيغ عن سياق الحديث:
ـ عندما كنت أعزف قصائدي وأنشدها، كنت أستحضر نهاوند وأخاطبها، كنت أحس أنها تسمعني وتراني، فأغني لها، وأشاهدها وحدها وهي تشير عليَّ بيدها لأعيد هذا المقطع، أو لأكرر هذه الجملة الموسيقية الحزينة. ولكن، حين تشتد تصفيقاتكم وتتعالى أصواتكم، أستفيق على واقعي، وأدرك أنها قصية عني وأني أغني لجماعة من السكارى ومستخدمي الحان، فيتضخم حال وضعي النفسي المأزوم بالاغتراب، فأسكبه في القصيد المغنى نفسه، وأعود لاستحضارها.
أنيري مكانَ البدر إن أَفلَ البدرُ
وقومي مقامَ الشمس ما استأخرَ الفجرُ.
إنها القصيدة نفسها التي كانت تستهويها، فلا تمل سماعها مرات ومرات.
السيارة تلتوي بين منعرجات الجبل على مشارف بحر الظلمات نحو إقامتي، وشكري بعد أن أنصت في ذهول لما صارحته به، قال لي:
ـ إذا كان وراء كل مبدع شيطان، فأنت وراءك شياطين.
سكت ينتظر ردي، وحين لم أجبه، أضاف:
ـ صدق المعاصرون متناولوك بالدرس إذ نعتوك بأديب الفلاسفة وفيلسوف الأدباء، لكنهم أغفلوا الحديث عن علمك بالموسيقى والغناء، ربما لأنك لم تتحدث عنهما في مؤلفاتك، ولا القدماء أشاروا إليهما على ما أظن!
هو يتحدث، وأنا مأخوذ بجمال الليل، وعبير بحري بارد، يتسرب من نافذة السيارة المفتوحة على يميني، فانتبهت، وأسرعت بالقول:
ـ إني أجهل ما قيل عني بعد وفاتي، لكن ما أعلمه عن نفسي، أني سوَّدت أوراقا لا تحصى عن علم الموسيقى والغناء، وعن ليال في الإمتاع والطرب كنت سيدها، ويقيني أنها لم تنجو من قبضة النار مع غيرها من مؤلفاتي، وإني لأخال أن ما وصلكم منها، لا يمثل سوى نزر قليل مما تبقى محفوظاَ لدى خلاني.
ظل شكري مشدوداَ لما أرويه عن نفسي، فأضفت قائلا:
ـ إن ما يهمني اليوم هو مصير نهاوند، وأريدك أن تساعدني في البحث عنها.
أدار برأسه نحوي، وقال محتجاً:
ـ نهاوند نهاوند، ألا تحاول نسيانها، إنها بعيدة عنك مسافة عشرة قرون، يستحيل أن تظل على قيد الحياة.
اعتدلت في جلستي، وصرخت فيه:
ـ عن أي استحالة تتحدث وأنت تشاهدني حياً أرزق، إن الذي استعادني للحياة من جديد، قادر على استعادتها من جديد.
قاطعني:
ـ لو أن الأمر كما تقول لعمّ خبرها العالم بأسره. اسمع يا أبا حيان. إنك عملة ثمينة فريدة، وفي حياتك الجديدة هذه، سوف تلتقي بنهاوندات، إن مجرد إعلان وجودك، حدث فريد في تاريخ البشر، سيجعل نساء الدنيا تتسابقن إلى الظفر بالتعرف إليك.
قاطعته:
ـ ما كنت زير نساء حتى أسخر علمي لاستمالة النساء. أنا مكتف بامرأة واحدة ساقها القدر في دربي، فاصطفيتها عن بقية نساء العالم، وحبي لها ليس حاجة عضوية تنشد الإشباع حتى أسعى إلى أخريات. إنني في سني وتجربتي وثقافتي تخطيت مرحلة الانجذاب الجنسي إلى ما هو أعلى وأسمى.
ـ تريد القول بأنك عاشق عذري؟
ابتسمت مدركاً أنه لم يفهم ما أرمي إليه، فأجبته بصيغة تهكم، سائلا إياه.
ـ أتدرك حقيقة الحب العذري؟
صدرت عنه ضحكة متغطرسة وكأني سألته عن لون الماء، وأجاب مزهواً بعلمه:
ـ الحب العذري واضح كالشمس، فهو حب مثالي، مأساوي، يرجح بطلاه متعة الروح على متعة الجسد، فيرتبطان بعلاقة تشوبها العفة والطهارة إلى غاية حصول الزواج. إنه واقعك أنت مع نهاوند، أتريد مزيداً من الشرح؟
لم أقو على كبح امتعاضي، فقلت له:
ـ إني لا أسعى إلى الزواج من نهاوند، فهي أصلا زوجي، ثم إنك لم تصب في شرحك، بل كررت ما سال الحبر عنه في الكتابة والكلام، أي نقلت ولم تجتهد، وليتك نقلت ما هو مفيد. ولعلمك يا شكري، فإن العاشق العذري رجل أناني، مريض، شهواني، يبالغ في حب نفسه، متوهما أن ذلك الحب هو لمعشوقته.
قبل أن أسوق له أمثلة على ما أقول، قاطعني محتجاً:
ـ الآن دخلت في الهرطقة، تنفي الحب العذري من أساسه، تنفي قصة جميل وبثينة وقيس وليلي وعروة وعفراء، لا، لا، إنك أنت من ابتعد عن الصواب.
أسرعت بالرد:
ـ دعني أنهي رأيي وقل بعد ذلك ما شئت، ثم إني لا أنفي قصص من ذكرتهم من الشعراء. غير أن ما يستمد من قصائد جميل، أنه لم يكن يحب بثينة بقدر ما كان يحب نفسه، ولا كان يرغب في الزواج منها أصلا، وإلا، ما كان ليتغزل بها في أشعاره علانية وهو المدرك لتقاليد قبيلته التي تمنع زواج من يشبب بالمرأة التي يريدها زوجاً. فلو كان جميل قد أحب بثينة وأراد الزواج بها، لكان كثم حبه عن الناس، لا أن يقوم بإرادته الحرة ليعرقل زواجه، متحديا أعراف قبيلته وتقاليدها، مفضلا أن يظل عاشقاً على أن يصبح زوجاً، وإذا كانت بثينة تحبه وترغب في الزواج منه، ما كانت لتتباهى بعشقه وتعلنه أمام رفيقاتها. فليس صحيحاً ما يًنسب للحب العذري من العفة والطهارة وتفضيل متعة الروح على متعة الجسد. فأي متعة روحية يحسها رجل يختلي بامرأة في عصمة غيره، إن لم تكن متعة جسدية.
ـ دعني أهزمك ولو مرة واحدة يا أبا حيان، إنما بالله عليك، قل لي، في أي خانة تصنف حبك لنهاوند؟
ـ ليس من الضروري أن نصنّف عواطفنا في خانات، وكأنها أراء في الشعر أو الموسيقى. بالنسبة لي، أحب نهاوند وكفى، فبعد أن اتخذتها زوجا، وعرفتها، وعاشرتها، عشقتها فلم أطق فراقها.
ـ ألم يكن جمالها سبب عشقك لها؟
ـ جائز، بيد أن في الحب دوما إبهام، فما يراه المحب بعينيه قد لا يراه الغرباء بأعينهم، ولعل رأيي هذا يقترب من رأي صديقي الجاحظ الذي قال: "إن العاشق كثيراً ما يعشق غير النهاية في الجمال، ولا الغاية في الكمال، ولا الموصوف بالبراعة والرشاقة، ثم إذا سئل عن حجته في ذلك لم تقم له حجة".
هكذا هو حبي لنهاوند. ولعلمك يا شكري، فإني أميل إلى تصديق المقولة الشائعة بأن في حياة كل رجل امرأة واحدة.
ضحك وأخذ يردد الجملة نفسها، وطلب من السائق أن يتهمل في سيره، وقال لي:
لا داعي لمزيد من الشرح، أنا أشاطرك رأيك.
سرح يفكر، وكأنه يبحث عن شيء غاب عنه، وقال:
ـ أنا أيضا من طينة من تصدق عليهم تلك المقولة، فالمرأة الأولى التي استقر حبها في قلبي ظلت الأخيرة، وغيرها كثيرات، لكنهن مررن كالسحب الصيفية البيضاء.
فتح نافذة السيارة وألقى بعقب سجارته خارجها، وسألني:
ـ هل ترغب في سماع قصة حبي الأول، تصور أني لم أبح بها لأي شخص، ولم أكتب عنها شيئا، لكني في هذه اللحظة تتفتح شهيتي للحديث عنها، قد يكون حنيني لتلك الأيام أو شوقي إليها، أو لعل اقتناعي بحصافة رأيك في الحب هو الذي يدعوني لأحدثك عنها.
ـ هات ما لديك يا شكري، أسعد لسماعك.
نطقت جملتي بمودة لا تخطئها الأذن، فمن غير اللائق أن أطلعه على مكنونات قلبي، ولا أن أمنحه وقتاً ليبوح بلوائع عشقه، فقال:
ـ بدأت حكايتي مع زبيدة منذ حوالى ثلاثين عاما، لا، أكثر قليلا، فقد كنت حديث الالتحاق بمدرسة المعلمين في تطوان. آه زبيدة.
غمره الضحك إلى أن انخرط في السعال، وأضاف:
ـ أتعرف ما يضحكني؟
لا أعرف!
أجبته، وصمت قليلا ليطلعني على مصدر ضحكه.
ـ بالطبع لا تعرف، يالسخرية القدر، ضحكتُ من نفسي، إذ صرت مثلك، أتحدث عن عشق قديم كاد الزمان يتلفه. ما علينا، كانت زبيدة قد جاءت إلى منزل والدي لتحضر حفل خطبة شقيقتي مليكة، معناه أنها إحدى صديقات أختي. في تلك السويعات من ذلك المساء التطواني البعيد، وقبل أن يقع بصري عليها، كنت قد اتخذت مكاني فوق مقعد خشبي شاغر دون إرادتي، فقد كان قصيراً وبدون متكأ للظهر، لكن ما أن لمحتها وانتبهت إلى وجودها على خطوة مني، حتى تأكد لي بأني ما كنت لأختار غير ذلك المقعد.
وغمرني زهو الشباب وأنا أطوف بعيني أستجلي وجوه النساء الحاضرة في الحفل، هذه عبوس ذات وجه مستدير كوجوه الفلاحات، وتلك شبيهة ببقرة عجفاء، والأخرى أقرب إلى رجل منها إلى امرأة، إلا زبيدة، كانت بأنوثتها تثير الدهشة، تشدك لتتملى فيها رغم أنفك، لها عينا ظبية مشرقتان ضاحكتان، صوبتهما نحوي لتجدني متلبساً بالتفرس فيها، أزاحتهما عني وانشغلت بلا شيء.
إنها الخطوة الأولى، قلت في داخلي، وستليها خطوات أجرأ، وانشغلت بتقويم نفسي، هل أنا قادر على استمالتها، وحسبي أني أيضاً كنت شاباً وسيماً ذا مركز اجتماعي أحسد عليه، كنت طالبا في مدرسة المعلمين.
كان على غير عادته يتحدث ببطء شديد، وكأنه يرتجل حكاية يسردها لأول مرة، فاغتنمت لحظة توقف خلالها متذكراً، وسألته:
ـ أتحسد لأنك طالب علم؟
ـ بل أحسد لأني أتقاضى راتبا شهريا، وأنا بعد أخطو نحو العشرين من عمري.
أجابني، وأضاف:
ـ قبل أن ينتهي الحفل وتغادر زبيدة المنزل، أقسمت جازماً بأنها سمكة في شبكتي، فقد همست لي مرتبكة:
ـ سأترك عنواني لدى شقيقتك مليكة.
وقبل ذلك، وبالرغم من أن الظرف لم يتح لنا وقتاً لنتبادل أحاديث مسهبة، فقد سربتُ عبر أذنها، جملة تختصر مؤلفا كاملا في العشق، وهمست لي بمؤلف كبير ضخم في الهوى، مختصر في جملة قصيرة.
تملكني الضحك انتشاء بأسلوب شكري السجي وسألته في عجلة من أمري:
ـ ماذا قلت لها، وماذا قالت لك؟
ـ أنت التي كنت أبحث عنها قبل أن أولد، لن أعشق غيرك.
صرختُ بهذه الجملة مرتين حتى تلتقطها أذن زبيدة، ذلك أن الحاضرات كن يرددن أغنية مع صوت الراحل "محمد فويتح" المنبعث من أحد التسجيلات، وفي غمرة تعالي تلك الأصوات النسائية، صرخت بدورها تجيبني:
ـ اطلب عنواني من مليكة، واكتب لي:
منذ تلك اللحظة وأنا أذوب عشقاً في تلك الأغنية، كلما تناقلت إلى أذني إلا وتناقلت معها تلك الأصوات الصافية لأولئك النسوة الحاضرات في الحفل، ممزوجة بعبق العطور والأضواء، ودهشتي، وفرحي، وقلبي الصغير ينشغل، لأول مرة، بشيء لا يوصف، يسمونه الحب الأول.
وأخذ يردد مقطعا من تلك الأغنية باللهجة المغربية:
قولولي مالُه غَيَّرْ حالُه... قولولي مال الاشقر آش جرالُه
توقف عن الغناء وكنا قد اقتربنا من فندق السراب، فعدت اسأله:
ـ ماذا بعد ذلك، كيف التقيتما؟
ـ لم نلتق، أو بالأحرى التقينا بعد عشرين عاما، قال ذلك وسكت. كانت السيارة تلتوي بنا بين منعطفات الجبل، بطيئة في حركتها، وكان ضوء القمر الساقط على صفحة البحر أخاذاً مثيراً لشجوني، فمزقت الصمت بسؤالي:
ـ لم أفهم شيئا، ألم تراسلها؟
ـ أبداً، بقيت أنتظر أن تحصل أختي على عنوانها أياما طويلة، ثقيلة، وكأني في انتظار يوم القيامة، إلى أن حلّت الصدمة الأولى.
أسرعت بسؤاله:
ـ أي صدمة؟
ـ رفضت أن نتعارفا.
أجابني، ثم تابع حديثه:
ـ بعد أيام أخرى وقلبي تنهشه النار، عادت أختي تخبرني بأن زبيدة تزوجت، وسافرت لتقيم في مدينة سبتة المغربية السليبة.
توقف وكأن بحنجرته غصة، ثم أضاف برنة حزينة:
ـ أبا حيان، لا تقلل من شأني فتخلع عليَّ حكما كالذي أصدرته على العشاق العذريين، ذلك أن حبي لها ظل عذرياً مثالياً، دون أن أطلع عليه أحدا، لا أخفيك أني حاولت أن أنساها، لكن أي نسيان،.ففي كل لحظة، كنت أجد نفسي منشغلا بها، أهرب منها إليها، فاستسلمت لقدري. صار حلمي تعويضا لواقعي، أغمض عيني أو أتركهما مشرعتين، فأخال نفسي فارساً مغواراً أمتطي جواداً مروضاً يركض بي إلى حيث زبيدة، فأنتشلها من أحضان زوجها بعد أن أغرس في صدره سيفي، وأهرب بها بعيدا إلى منزلي في جبل درسة المطل على بيوت تطوان، ثم أخال أشياء أخرى، وهكذا دواليك، إلى أن التقطت أذني ذات يوم، حكمة تقول: إن المرأة تنسيك في الأخرى.
هللت لهذه الحكمة، وهمت باحثاً عن امرأة تنسيني زبيدة، تلغيها من وجداني، تطردها من أحلامي. التقيت بالمرأة الأولى، وبالثانية، والخامسة، ولا واحدة زاحمت زبيدة، فزادت قناعتي بأني كنت أفتش عنها في كل امرأة أتعرف إليها، دون أن أجدها في امرأة واحدة، فعاد مركبي لمهب الريح. فقدت سيطرتي على شراعي. صارت تتقاذفني نساء الليل واحدة لأخرى، وحانات طنجة تعتصرني واحدة بعد أخرى.
شكري يروي سره، وأنا أرخي أذني لسماعه في أقصى حالات اهتمامي، فقد كنت أحس صدقه في كل كلمة ينطق بها، واسترسل في سرده:
ـ في تلك الأيام كنت قد عُينت مدرساً في طنجة، لكني لم أقو على التدريس بسبب محنتي وكأساتي، فأُسندت لي مهمة اقل عناء، معيد في الإدارة. لن أخفيك أبا حيان، أنني في تلك السنوات الأولى من عملي انكببت على القراءة، لأكتشف بعد ذلك متعة الكتابة، إنك أعلم مني بحالها، فأنت الكاتب المقتدر، تدرك كم هي مستعصية، إن لم تمنحها نفسك لن تمنحك نفسها. هكذا، صرت أقيم الليل وأقعده في كتابات تمرينية، إلى أن راكمت قصصا ومسرحيات وروايات لم أفرج عنها جميعها، لكنني بما نشرته منها أكسبني مصالحتي مع ذاتي، حقق لي سلطة ونفوذاً لم يتكرم عليَّ بهما أحد، ولا يستطيع أن ينتزعهما منّي أحد. أصبح لي موقعي في جغرافية الإبداع، إلى أن قيل عني، الكاتب المؤرخ للمهمشين، هذا رأيهم وليس رأيي. المفيد أني ما عدت اقرب الشراب إلا ليلا، أومن حين لآخر نهاراً، إلى أن قابلت زبيدة. أجل التقيت بها، لكن بعد أن كان الصيف قد ضيع اللبن، وصارت شمسي في منحدر غروبها، هي أيضا بالرغم من أن الزمن عاملها بمودة تُحسد عليها، لم تنج من قبضة فصل الخريف، فقد جاءتني بكاهل مثقل بكمشة أولاد، تجر وراءها خيبة زواج فشل في أيامه الأولى، وقفتْ أمامي تعاتبني:
لماذا لم تراسلني، فقد ناولت شقيقتك عنواني مرتين؟
ـ سألتني دون مقدمات وكأننا لم نفترق سوى أمس، وبإرادة مشلولة انبرى لسان حالي يحثها على إعادة السؤال، متمنيا أن تكون أذني قد أخطأت سماعها.
تلك كانت الصدمة الثانية، أن أعلم أن شقيقتي من حال دون تحقيق سعادتي. خطأ فادح، أو تافه، بالنسبة لي اليوم سيان. إنما لولاه لكنت ربما شخصا آخر، ولكانت زبيدة امرأة أخرى، أتستوعب ما أقوله يا أبا حيان؟
ـ إني معك قلبا وقالبا، يالمضاضة ظلم ذوي القربى! إن ذلك كان مكتوبا في لوحك قبل أن تولد.
أجبته، فعاد يضيف:
ـ ليتني ما علمت بذاك الخبر، فقد وصل بعد فوات الأوان. كان أثقل مما أتحمل، تصور، مجرد خطأ يرتكبه شخص يُحوّل مجرى حياتك الهادئة إلى شقاء دائم.
كنا قد وصلنا إلى فندق السراب، وكان الأفق يعلن انهزام الليل.

(28)

فتحت عيني، فوجدت الظلام يخيم على غرفتي. لعل نومي كان ثقيلا فجمعت بين النهار وجزء من الليل. فكرت في آخر ليلة قضيتها مع محمد شكري، بدت لي بعيدة وكأن شهوراً مرت عليها فغيبت بعض تفاصيلها عن ذهني، قد تكون مجرد حلم. لا أدري!
حاولت أن أغفو ثانية، فلم أحس بأدنى رغبة في النوم، امتدت يدي تبحث عن مفتاح الكهرباء، لم تجده في مكانه، فكرت في أنه كان على يميني، أعدت الكرة للمرة الثالثة والخامسة دون جدوى. داهمني بعض القلق، بعد أن اتضح لي أني أفترش الأرض ولا وجود لسريري، لا وجود أيضا لوسادتي. مسَّدتُ وجهي بيدي لأتحقق من وجودي أنا أيضا، فازداد ذعري، إذ حسبته وجه رجل آخر لم يقرب الحلاقة منذ شهور أوسنين.
اشتد نبض قلبي، وارتفع هديره إلى أن وصل أذني، تشتت ذهني. أسئلة كثيرة تزاحمت، فانحبست في داخلي. أغمضت عيني وسط الظلام علني أسترجع رشدي، لا يُعقل أن ألقي بجسدي فوق سريري وأنام، فأصحو لأجد نفسي أفترش الأرض، وتطول لحيتي، وكأني لم أحلقها منذ سنين.
أأكون بداخل قبري؟ من أين لي أن أدري! رفعت يدي لألمس سقف قبري. لا، هذا ليس به سقف.
لعله قبر ضخم يسع قامة رجل واقف أو ممدد.
تحاملت على نفسي إلى أن انتصبت واقفا، ففطنت إلى أني خائر القوى. بصعوبة أقف على رجلي. أرسلت يديّ في كل اتجاه دون أن يعترضني سقف أو جدار، لكن قدمي تعثرتا بقطعة قماش صلب حسبتها وسادتي أو جزءاً من سريري، وحين انحنيت لألتقطها تبيّن لي أنها سرج حصان، وبجانبها قطع حديدية لم تكن سوى ركاب سرج الحصان.
من جاء بها إلى غرفتي؟
لم أفهم شيئا، أو بالأحرى أجّلت أن أفهم.
لكني حين تعثرت رجلاي بالخنجر، وتحسست مقبضه وغمضه والحجرين الماسيين المرصَّع بهما، تطاير صوابي من شدة ذعري.
لم يبق ما يمكن تأجيله، باغتتني أجوبة متخفية تفضح ما احتبس في داخلي.
صرخت مستنجدا بإله السموات والأرض، عسى أن يدرأ عني كابوس هذا الحلم، فأنا لست في المغارة بل في غمرة وهم الحلم.
عفى الله عن المغارة منذ أن أخرجوني منها، وأركبوني الباخرة العملاقة محاطاً بحارسين، وكأني من قطاع الطريق.
كل شيء كان واضحاً جلياً. مفوضية شرطة الميناء، الحاج ابراهيم ضابط الشرطة الممتاز ذو العينين الصغيرتين المطلتين من وجه طويل بشارب ممزوج بالشيب، والشرطي البدين المكرش الذي جرني من قفاي كأنني كلب، والآخر النحيل أصفر الوجه من تولى تدوين محضر استنطاقي. لا لست في المغارة. إني في حالة حلم عابر سأصحو منه قريبا، سيكون لي معه شأن.
جرجرت رجلاي خطوات باحثا عن منفذ أغادر منه الغرفة، سأكسر بابها حتى وأنا في حال الحلم، لكن جبيني ارتطم بأحد الجدران لينبهني ألمي إلى صحوي، إلى أنني حقيقة قائمة في أقصى حالات وعيي وإرادتي وشعوري، في كامل إحساسي بالألم والخوف والقلق والتذكر.
إذن، لا غبار على حقيقة وجودي في المغارة بمدينة المنقب، سرج حصاني وركابه وخنجري وثيابي يشهدون بذلك، ولكن، لمَ لا أكون بأحد السجون؟ نقلني القضاة إليه أثناء نومي، وأحضروا أغراضي من المغارة! كل شيء محتمل الوقوع.
أن أكون سجينا بداخل حجرة في أحد السجون، محتمل جدا، إنما أن يتولى القضاة حبسي دون محاكمة، فهذا بعيد الاحتمال، لكن الشرطة يمكنها ذلك، ولو من قبيل الانتقام، فهي الوحيدة التي لم يقنعها دفاعي عن نفسي، فبعد أن أحالتني على القضاء متلبساً بجريمة الهجرة السرية، تلقت أمراً بحراستي والحفاظ على سلامتي من كل مكروه وأنا أقيم في أضخم فندق في البلد! شيء يدعو إلى الارتياب، على الأقل من وجهة نظرها.
لا، لا يعقل أن أكون في المغارة، فأغراضي كوسائل إثبات على وجودي في المغارة لن ترجح على شهود عيان عاشرتهم في طنجة، وما شاهدته وما خبرته. أعمدة الكهرباء المبثوثة على جوانب طرق معبدة. فندق السراب المطل على بحر الظلمات. دركات ثلاث تفضي بك إلى داخل مطعم ريتز في شارع موسى بن نصير. أخرى تصعد بك إلى مطعم بيركولا المواجه للميناء والبحر الأبيض المتوسط. هناك في الصالة المشرفة على البحر، قمت بدوزنة العود الذي جاءني به شكري، وأنشدت الحضور أحلى أغاني عُليَّه بنت المهدي البغدادية، آه عُليَّه! إنها من جيلي، ضمتنا مجالس عامة وأخرى خاصة رفيعة. غنت لنا وغنينا في حضورها أنا وصديقي أبو ناصر الفارابي، لكن ابن مسكويه الحاضر دوما، لم يكن له في الغناء بالرغم من إجادته الاستماع، تلك حكاية قديمة حقيقية، أما ما يشغلني الآن فهو أيام طنجة، تلك التي تتماهى بين الحقيقة والحلم، هل يمكن أن تكون مجرد حلم؟
في مطعم بيركَولا، ارتمى علي شكري مقبلا رأسي ويدي، اغرورقت عيناه بالدموع وهو يخاطبني:
ـ أنت أعظم فنان في هذا العصر.
في تلك الليلة ذاتها، بعد منتصفها، والسيارة تختال بنا في طريق الجبل الملتوي، أسرّ لي قصة حبه الأول، تلك الحكاية المثيرة التي لم يبح بها لأحد غيري.
إذن عشت في طنجة، واقع يشهد به وكيل الملك والوكيل العام ووزير العدل نفسه، من أين لي بهؤلاء الشهود؟
أعياني وقوفي، فتهالكت على الأرض، جلست القرفصاء، وهمت مفكرا، زكمت أنفي رائحة رطوبة عطنة، هي الرائحة ذاتها الموجودة بالمغارة القديمة. عدت لأقف على قدمي، ودلفت بين أرجائها باحثا عن منفذ بها، فلم ألمس سوى ما لمسته في المغارة السابقة، أتكون هي ذاتها؟ بماذا يمكن لي تفسير عثوري على نفسي بها مرة ثانية؟
أيعقل أن أُحمل من فوق سريري بفندق السراب بطنجة ويُلقى بي داخل مغارة لا منفذ بها في مدينة أندلسية نائية؟
إما أني عشت في طنجة حقيقة وعودتي للمغارة حلما، وإما أني لم أغادر المغارة أبدا فتظل أيام طنجة حلما!
ذلكم هو المنطق القويم، هو ما يدل عليه سرج حصاني الذي حملني من فاس إلى طنجة، وخنجري الذي رافقني من بغداد إلى هذه المغارة في الأندلس، وسراويلي وثيابي ولحيتي الكثة الطويلة، بمعنى أني لم أغادرها منذ أن ولجتها بإرادتي لأستريح بها ليلة واحدة.
لا يُعقل أن أنام عشرة قرون، لا يعقل أن يعيش المرء حاضرين في زمانين يبتعدان عن بعضهما عشرة قرون!
الآن، ولو أني كنت في حالة حلم، أتفطن إلى سبب رفض المغاربة تصديق قدومي إليهم من عصري العباسي البائد، أنا نفسي لم أقبل بذلك!
إن الحقيقة الصارخة القاسية هي التي أواجهها هذه اللحظة، هي استيقاظي في المغارة بعد نومي بها ليلة أو ليلتين، ولربما قام أحدهم بسد منفذها فبقيت محاصراً بداخلها.
أما صحوتي السابقة وخروجي من المغارة فقد كان مجرد حلم، تماماً مثل أناس طنجة، فلم أتعرفهم سوى في الحلم.
من يؤكد لي حقيقة وجود رجل يدعى محمد شكري مقيم في طنجة؟
إنه شخص هلامي من الشخوص الحاضرة في الحلم، وبالرغم من ذلك فإن مرافقته أدفأت أيامي وليالي، وكأني عاشرته حقيقة!
ما يؤكد أن ما حدث كان حلماً، هو قوله ذات ليلة إن الحضارة الحقة تأتي من وراء البحر، من لدن الغرب المسيحي، ونحن العرب مجرد مستهلكين لها، الغريب أني صدقت ذلك!
أتذكر في السياق نفسه، جواب وزير العدل بعد أن سألته:
ـ من تعني بغير العرب؟
ـ أقصد الغرب المسيحي، فمنذ النهضة التي شرع فيها قبل خمسة قرون، ونحن ظاهرة لأبحاثه واكتشافاته، ويكفي إخبارك بأنك أنت شخصياً أبو حيان التوحيدي وقع التنبيه إليك، وإلى مؤلفاتك من لدن الغرب قبل العرب.
يا لضعفي الإنساني وهشاشة عقلي في غمرة الحلم، فقد سلمت بهذه الأخبار وهي تنافي المنطق!
من يصدق أن من كان وراء اكتشاف قيمتي العلمية والفكرية ونبه إلى مؤلفاتي هو الغرب المسيحي؟ مهزلة! بهتان!
أما الشخص الآخر وكيل الملك، أحد الشخوص الهلامية في مشهد الحلم، فقد توغل في الهذيان، حين زعم أن الأندلس سقطت في قبضة النصارى إمارة إمارة، خرافة، لدغة أحلام! هذيان حقيقي!
أحمدك يا ذا الجلال والإكرام، أن ما وقع كان مجرد حلم، وأن الأندلس مفخرة العرب لا تزال عدوة مغربية عربية إسلامية منبثاً للعلماء والأدباء والشعراء، إنها هناك، مثلما العراق الحبيب قوة شامخة هناك.
أي معتوه هذا، سيخطر بباله تعرض العراق للدمار والنهب؟ ومن قبل من؟ من لدن دولة غير موجودة! أوجدوها في حلمهم وسموها أمريكا! أو بالأحرى أنا من استنبطها في حلمه، أنا من خلقهم جميعا في حلمه! يا لخرافة أحلام المغارات!
من يقوى على هزم خلافة إسلامية عربية مسيّجة بأشقاء مسلمين عربا؟ دولة عمرها كما قيل في الحلم، خمسمائة عام، تهزم العراق، منبع حضارات الدنيا من سومر إلى حضارة الإسلام؟ خرافة، هراء، كلام قيل في لحظة لا وعي!
استقمت واقفا وخطوت إلى الأمام ورجعت إلى الخلف، ثم عدت فجلست على الأرض وأنا لا يشغلني سوى هذا الحلم.
لكن الأحلام لا تتداعى بهذه التفاصيل الصغيرة الدقيقة الواضحة، وكأنها الواقع المعيش.
لعل الأمر يتعلق برؤية وليس بحلم. أحداث الرؤى ترسخ في أذهان أصحابها دون أن تتباهت أو تتلاشى كالأحلام.
بكل تأكيد هي رؤية حقيقية، من تلك التي يخص بها الله عباده من الصفوة الصالحة الزاهدة في الدنيا.
ألم أكن زاهدا في حياتي العراقية والإيرانية؟
لكن الآخر الموجود بداخلي يلح أن أعتبرها مجرد حلم، ذلك أن الرؤى غالبا ما تتحقق، وإذا ما كتب لهذه أن تنفذ إلى الوجود فتتجسم واقعاً عينياً، حينذاك سلام على الأندلس، سنغادرها لتصبح حضارتنا في خبر كان، سنتحول إلى قبائل مستضعفة، بشرا، حيوانات ترعاها حضارة مسيحية جديدة، لا لا لن تكون رؤيا، أنا في صف الآخر الموجود بداخلي، أقول معه، أن من يملك ذرة منطق، لن يصدق أنها رؤيا، لن يصدق أننا العرب مصدري العلم والوعي سنصبح منقرضين، ظاهرة لتجارب غيرنا، أبدا أبدا، ليست رؤيا، ليست عالماً ممكنا، إنها مجرد حلم عابر منفلت، حلم مضحك، يدعو إلى الشفقة!
إني في المغارة الأندلسية، ليس لي من مؤنس سوى أحلامي، حلم طنجة كان متنفسي الوحيد لأظل حيا، أما ما يحدث في الواقع، هو أن خلاني المغاربة في انتظاري يبحثون عني، سوف يهتدون إلى مكاني، وسأنضم إليهم لنكمل رحلتنا إلى غرناطة المسلمة العربية، سنتبارى في سرد أحلامنا، فجميعنا أقمنا في مغارات يشبه بعضها البعض.
آه نهاوند، الحبيبة البغدادية الغالية، لا ريب أنها في طريقها إلى غرناطة تنفيذا لاتفاقنا، سألتقي بها صباح يوم جمعة في جنة العريف، سأقص على مسامعها تفاصيل حلمي المغربي، وكيف تعرفت إلى محمد شكري ونبأ ضياع الأندلس، وتعرض العراق للدمار والنهب، ستضحك مثلي.
لكن حتى ألتقي بها، عليَّ أن استجمع قوتي لأعود إلى قرع الجدار.
ياله من حلم غريب!
بحثت عن خنجري، أمسكت به وطفقت أقرع الجدار وأصرخ، لكن لا أحد انتبه إلى قرعي أو سمع صراخي، فاستبدلت بخنجري سرج حصاني، نزعت الركاب عنه وصرت أقرع به ذا الجدار وذا الجدار، محدثا ذوياً يخترق سمع الأصم، لا أتوقف إلا بعد أن يكلَّ مثني، وأعيد القرع والصراخ مرات تضيع في العد، إلى أن صار يقيني بأن هذا الجحر المسكون بالظلام والأحلام، سيكون لا محالة قبري.
بعد أن استسلمت لقدري، وسقطت على الأرض ناطقاً بشهادتي، ذوى في أذني صدى لطرق من الخارج، بعد لحظات تأكد لدي الطرق بوضوح لا لبس فيه، ففاضت عيني بالدمع إعلانا عن ولادتي من جديد، إذن أنا حي أرزق. وقفت، وعدت لأقرع الجدار وأصرخ:
ـ أنا أبوحيان، أغيثوني.. أغيثوني.

(1)

بقيت طيلة المسافة الفاصلة بين الميناءيْن الإسباني والمغربي، مسمّراً فوق مقعدي دون أن أهتم بأني أُجبرت على الجلوس بأمر من الشرطيَّيْن المتناوبَيْن على حراستي، فاهتمامي الوحيد كان مصوّبا إلى ما بداخلي، إلى تلك الهوة السحيقة التي باعدت بيني وبين كل ما يحيط بي.
كان الطقس دافئاً مشمساً، والأمواج متراخية غافية، كأنها تخشى إيقاظ البحر من سباته، وبعض راكبي الباخرة يصعدون إلى شرفات سطحها ناشدين تأمل الأفق أو التزود بمتعة مشاهدة البحر، أو ربما كان الطقس نقيض ما توقعت، مكفهراً مضطرباً، والبحر في أشد هيجانه، تتعالى أمواجه وتتلاطم، فتعترض سير السفينة ساعية في ابتلاعها.
من أين لي أن أعرف كل هذا؟
من أين لي أن أعرف ما كان يقع خارج دائرة نفسي، وكل اهتمامي كان منصبّاً على مصيبتي؟
كنت أحس أن خيطاً رقيقاً يربط ماضي بحاضري سينقطع بين لحظة وأخرى، فأنفصل عن أحد الزمانين، وأدور في أبديّة لا نهاية لها.
هكذا كنت في حالة خارقة من الذوبان في دواخلي، وحين كنت أجرؤ على التفكير فيما يجري حولي، أجده منفراً مقزّزاً، فالأماكن لم تعد هي الأماكن والناس ما عادوا هم الناس، والروائح لم تعد هي الروائح، والكلمات، والإشارات، وكل ما ألفته حواسي، اختفى واندثر، وحل مكانه الهلام.
الباخرة العملاقة نفسها، لم يستوعبها عقلي، فقد ظننتها قصراً خرافياً تسحبه الشياطين بخيوط غير مرئية فوق أمواج البحر.
وقلت لنفسي، لا يمكن لهذه أن تكون باخرة، فليس بها رجال ذوو قامات مديدة وسواعد مفتولة يتناوبون على التجديف، أو أشرعة ما تدفعها إلى السير بهذه السرعة!
إن لم يكن عالم السحرة والشياطين، فهو عالم آخر أجهله تماماً.
انتصبت واقفاً بأمر من الشرطيين وخطوت رفقتهما، انحدرنا في سلالم ضيقة وعرة، فذهب ظني إلى أنها ستفضي بنا إلى بئر سحيقة، لكنها أسلمتنا إلى باحة شاسعة فولاذية السقف والأرض والجدران.
كدت أختنق من روائح قوية عافتها نفسي، ومن هدير كدويّ رعد متواصل صادر من إحدى زوايا تلك الباحة، شموع قصيرة مبثوثة في سقفها لاتطفئها أعتى الرياح، هي الشموع ذاتها التي أفزعتني في الليلة السابقة بعد أن ألقي عليّ القبض في العدوة الأندلسية فحسبتها عيون شياطين، وتراءت لي كوة ضخمة مرعبة تفضي إلى الخارج، لكن بعد أن غادرناها تبيّن لي أنها باب كبير، وأن ما ظننته سجنا فولاذياً لم يكن سوى بطن السفينة الخرافية العملاقة.
واستقبلني فضاء مزعج مضاء بِسُرَجٍ مبثوثة هنا وهناك، لا تبدد الظلام القاتم فحسب وإنما تُحِيلُهُ نهاراً متألِّقاً.
سرت محاطا بالشرطيين، أستدير برأسي يمينا ويساراً، فضغطت بشدة على عنقي لأتبَيّن إن كنت حقا أعيش هذا الواقع وأنني لست في حلم، وانتفض قلبي مثل جواد جموح حين شاهدت "نهاوند"، لكن، منذ الوهلة الأولى، تبيّن لي أنها امرأة أخرى تشبهها، فلم أغضّ الطرف عنها إلا بعد أن تعثرت في سيري، لكن "نهاوند" ظلت مشعة في ذهني، فتذكرت أنه لم يسبق لي أن تحسّسْتُ مفاتنها الخفية إلاّ من خلال أصابع يدي ليلا في مضجعي، وليس أمام الملأ ودبيب حركة الحياة كما يفعل مرافق المرأة الشبيهة بها. نسوة أخريات كن يسرن وقد كشفن عن مفاتنهن بتلقائية، ورجال أزالوا لحاهم وشواربهم وقصوا من شعر رؤوسهم دون خجل أو وجل.
ولجنا داراً كبيرة كتب فوق مدخلها "مفوضية شرطة الميناء"، عرفت أني أدخل إلى دار الشرطة، وأن الرجال أصحاب الأحزمة الجلدية والقبعات الغريبة هم من الشرطة، أشاروا عليّ بالجلوس فوق مقعد خشبي إلى جانب رهط من الناس، فجلست.
جاء شرطي بدين وأمسك بقفاي، ثم جرني من بين الجالسين إلى مكتبٍ فسيحٍ، وأمرني بالجلوس فوق مقعد أمام "الحاج إبراهيم"، ضابط الشرطة الممتاز، كان اسمه وصفته منحوتين على لوح صغير بني اللون وضع أمامه، بينما جلس هو خلف منضدة توزعت فوقها أوراق وصكوك وأدوات لا أعرفها؟
وبدون مقدمات قذف الرجل في وجهي بذات الأسئلة الغريبة التي ألقيت عليَّ من لدن شرطة الباخرة، بعد أن تسلمتني من شرطة الأندلس.
ـ ما اسمك؟ كيف تسللت إلى إسبانيا؟ أين تقيم؟
كرّر أسئلته أكثر من مرّة، لكني بقيت أحدّق في عينيه الضيقتين المطلتين من وجه مستطيل، حليق، صقيل إلا من شارب مَوْخُوطٍ بشيب دون أن أجيبه، فالتفتَ إلى مرافقيْه الواقفيْن بجانبه، أحدهما بدين مكرّش، هو الذي قادني من قفاي كأنني كلب، والثاني نحيل رَثُّ الهيئة أصفر اللون، تولى كتابة محضر استنطاقي، وخاطبهما:
ـ لا أبداً، ليس مجنونا كما تظنان، إنه يدّعي الجنون، لاغير.
وتدخل الشرطي البدين الذي رافقني في الباخرة، مخبراً رئيسه:
ـ حاولنا يا سيدي جرّ لسانه إلى العربية وإلى لغات أخرى، حتى ظنناه أطرشَ أو أصمَّ، أبكمَ. فاستعملنا لغة الإشارات، فلم يرد بشيء، بل ظل يحملق في وجهينا وكأنه لايرانا، تماماً كما يفعل الآن.
ضرب "الحاج إبراهيم" بقبضة يده اليمنى على المنضدة حتى كادت تتطاير الأوراق من فوقها، وقطّب حاجبيه فازدادت عيناه الضيقتان انسداداً، وقال لي:
ـ لن يجديك هذا الصمت، فستُحبس، وتُجَوَّع، ويُدَقّ رأسك إلى الأرض إلى أن تعترف!
حركت رأسي كمن يفهم دون أن أَنْبِسَ بكلمة، فسادت فترة صمت خفيفة، تبادل الرجال خلالها نظرات ذاهلة، أكدت يقينهم بأني كنت أسمع، وأستوعب ما كان يقال، ولعلهم فكروا في أنّ التهديد بحبسي وتجويعي وضرب رأسي إلى الأرض هو أقصر السبل لتتدفق من فمي أجوبة ترضي مآربهم. كنت أسمع في الحقيقة كل ما قيل، لكنني لم أحفل بأي تهديد، فرعبي الوحيد كان منصباً على ما يجري بدواخلي، على انشغالي بشأني النفسي المفجوع بالغربة، بإحساسي الشنيع بالوحدة، بوعيي الكامل بوجودي في غير مكاني، وفي غير زماني.
وحين حركت رأسي إشارة إلى كوني أسمع وأفهم، كانت تراودني فكرة التحدث إليهم، علني بذلك أكتشف بعض الغموض عن نواياهم، أو عن مصيري مثلا، ونطقت. وجهت كلامي إلى رئيسهم "الحاج إبراهيم":
ـ سيدي أطال الله عمرك، ما كنت يوماً لصاً ولا شريرا ولا جبانا، ومادمت لا أخفي سُوءاً ضد الله ولا ضد عباده، فلن يرعبني أي تهديد، ولعلمك، فقد جئت إلى المغرب، ينتابني شوق عارم إلى ملاقاة فلاسفة وفقهاء من ديار أهل المغرب وأهل الأندلس، لا أقل ولا أكثر، إنني قدمت مهاجراً ناشداً المعرفة والحكمة، وكان ظني أني سأجد قوماً يكرمون وفادة الغريب ويقدرونه حق قدره، لكنني وحسبي ما وجدت سوى ما غَشَّى صدري بالغم، ورأسي بالكمد، ونفسي بالاغتراب.
ما أن أتممت جملتي الأخيرة حتى رأيت الذهول قد طغى على وجوه الرجال، وأخذ ينظر بعضهم إلى بعض في تساؤل من الْتبس عليه الأمر، وقد فغرت أفواههم، وجحظت أعينهم وكأنني فهت بكلام غريب مبهم، لا يصدر عن إنسان عاقل.
أنا أيضاً أصبت بالارتباك، والتبس عليَّ الحال، فظننت أن الأمر قد يتعلق بهندامي الغريب مما جعلني ألقي نظرة فاحصة على نفسي، وتابعتُ قولي:
ـ إن أحدهم في ثغر "المُنَقَّبْ" سترني بهذه الثياب، فو الله ما عرف جسدي قمصاناً ولا سراويل بهذا الشكل، ولا حتى غادرت بيتي يوما عاري الرأس، أعرف أنكم تريدون أجوبة مني على أسئلتكم، أنا أيضا أرغب في أجوبة منكم تستجلي لي سر هذا الغموض المحيط بي، فَتُزِيحُ عن صدري غمه، وعن رأسي كمده، وعن نفسي غربتها، فهل تبدأون فأفصح، أو أبدأ فتفصحون؟!
ظلت الدهشة مرسومة على محياهم إلى أن تحدث "الحاج إبراهيم" متلعثماً، محاولا اصطناع جملٍ عربية سليمة:
ـ حاشا يا سيدي أن تكونوا لصاً أو ما شابه. في الحقيقة فاجأنا كلامكم البليغ الفصيح، أدهشنا صوتكم العذب الرنان، إننا على استعداد لمساعدتكم، بل من واجبنا أن نوضح لكم ما التبس عليكم، إنما قبل ذلك، أريد أجوبة صريحة على أسئلتي.
حركت رأسي بالإيجاب، فنطق:
ـ ما هو اسمكم وما هي جنسيتكم؟
لم أقو على إخفاء ما غشى وجهي من استخفاف بسؤاله، منطقيا ولُغَويّاً، فأجبته:
ـ اسمي "أبو حيان التوحيدي علي بن محمد بن العباس"، وجنسي ذكر، عربي مسلم.
ـ أنا أسأل عن جنسيتكم وليس عن جنسكم!
وبالاستخفاف الممزوج بالامتعاض نفسه أجبته:
ـ أنا يا سيدي رجل واحد فرد، وأنت تخاطبني بصيغة الجمع، فهل ترى في شخصي جمعاً من الرجال، أم أن هناك سبباً أجهله وراء هذا الخطاب؟

(2)

تدخل الشرطي النحيل الأصفر الملامح، موجها كلامه إلى رئيسه:
ـ أسأله من أي بلد هو قادم، أقصد عن اسْمِ بلده.
فاستجاب له رئيسه، معيداً سؤاله بصيغة معقولة:
ـ من أي بلد قدمت؟
استرخت أسارير وجهي وأنا أجيبه:
ـ من "بغداد" يا سيدي.
التفت "الحاج إبراهيم" إلى معاونيه، وكمن يخاطب نفسه قال لهما:
ـ يقول من "بغداد!"، أما كان أولى أن تسلمه السلطات الإسبانية مباشرة إلى بلده عوض أن تحيله علينا.
ثم نظر إليَّ:
ـ ألديك أوراقٌ تثبت أنك عراقي؟
مرة أخرى يجانب سؤاله الصواب، لكنني أجبته:
ـ لم يسبق أن حصّلت وثيقةً تثبت ولائي للعراق ولا إلى بلد آخر؟
ـ وكيف تريدني أن أقتنع بأنك عراقي؟
على الرغم من غموض سؤاله، لم أسخر منه، كنت أرغب في أن أكون صريحاً وصادقاً، فقلت له:
ـ وما مرادك يا سيدي لكي تتأكد إن كنت عراقيا أم فارسيا أم حجازياً، أليس الوطن حيث أقامك الله؟! مع أني أجهر بأني عراقي، صراحة أود لو أعرف؟
أطرق صامتاً وكأن كلامي فاجأه، فتابعت حديثي:
ـ سبق يا صاحب السلطة أن أخبرتك بأنني مسلم، وفي ملتي واعتقادي أن المسلمين في ديار الإسلام سواسية، إلا إذا كان لك شك في إسلامي، ففي هذه الحال، ورفعاً لأي غموض، أعلن أمامك بأنني مسلم حنبلي، عالم متفقه في الأصول والفروع والحديث، وأمور الفقه عامة، من مذاهب ونحل ومسالك ومعاملات.
طلب مني أن أصمت قليلا، وأشار على معاونيه بالسكوت، ووضع راحة يده على جبينه، وسرح ساهماً وكأنه يواجه حالة شاذة فريدة تقتضي حرصه وصبره، أو كأن ما أواجهه به يجانب في نظره المنطق والصواب.
بعد برهة، خاطبني وهو يحاول أن يبدو هادئاً:
ـ إنني يا سيدي لا أشك في إسلامك، وقد أعجبتني ثقافتك وراقتني دقة أجوبتك، إن ما أرغب فيه صراحة هو أن أعرف كيفية مجيئك إلى المغرب، وطريقة دخولك إلى إسبانيا؟
طأطأت رأسي موافقاً مستحسناً سؤاله، وخضت في الحديث:
ـ قدمت إلى المغرب كحال جميع الوافدين عليه، أما إذا كان قصدك أن تعرف الطريق الذي سلكته، فلا أرى بأسا من إطلاعك على تفاصيل رحلتي بكاملها.
أسرع يقول بلسان تشوبه بشاشة معينة:
ـ تماما تماماً، ذلك ما أرغب فيه، استمر استمر.
وتابعت حديثي:
ـ يمّممت وجهي شطر دمشق، فالإسكندرية، فبرقة، فالقيروان، فتلمسان، إلى أن دخلت حاضرة فاس، سليماً معافى ولله الحمد.
وقد أنستني فاس ما كان قد تخلل رحلتي من محن ونوائب، إذ وجدت بها ما لم أجده في حواضر غيرها، مرتفعات مزدانة بشجر الغاب، ونباتات الكروم، والتين والزيتون، والليمون والتفاح، والمشمش والبرقوق، والعنب والكرز، واللوز والموز والجوز، استطبت هواءها وجنانها، وراقتني مبانيها وأَزِقَّتها وساكنتها، ووجدت الكل على دين الإسلام ومذهب إمام الهجرة سيدنا مالك بن أنس الأصبحي رضي الله عنه.
كان "الحاج إبراهيم" يحرك رأسه استلطافاً لكلامي، وكنت أروي أخباري وأنا أتلصّص ببصري بين معاونيْه، لأستطلع وقع ما أقصه عليهم، فاستنتجت عدم ارتياحهما لما أعترف به، لكن رئيسهما "الحاج إبراهيم" كان أكثر ما يهمني، وأضفت:
ـ اصطفيت من آل فاس خلاناً وأصحاباً أكرموا وفادتي، وقدروني حق قدري، أذكر من بينهم الفقهاء، الجوطي والدباغ والسليماني والكغاط والشبيهي، وفي أيام قليلة أخذ يألف بعضنا البعض، فصرت أطلعهم على الصغيرة والكبيرة مما كان قد أَذَلَّنِي في سفري من بلد إلى بلد، وما كان عليه طبعي وحالي في بغداد.
قاطعني "الحاج ابراهيم":
ـ سيدي! جميل ما تقصه عن مقامك في فاس، وما كان عليه طبعك في بغداد، لكنني أكثر شوقاً لأعرف كيف دخلت إلى إسبانيا.
فقلت له:
ـ المهم، أن أصدقاء فاس عرّفوني بقافلة كانت قد قدمت من سجلماسة في طريقها إلى غرناطة، وكان بها تجار نبهاء وفقهاء نبغاء، فانضممت إليهم لأرافقهم في قافلتهم المكونة من خمسة وستين رجلا، وعَدَدٍ من النساء والخيول والبغال والحمير، ودواب أخرى حملت صبية، وتكدست فوقها أمتعة ومؤن وأغراض أخرى.
وعاد "الحاج ابراهيم" إلى مقاطعة قصتي:
ـ باختصار، وصلتم إلى طنجة!؟
ـ أجل، كانت حاضرة طنجة محطة مستهدفة لنبحر منها إلى بلدة "طريف" بالأندلس، لكننا توقفنا في حاضرة "قصر كتامة" لنستريح من ضجر الطريق وعناء السفر، وهي بلدة يشقها نهر يدعى لوكوس، أرضها منبسطة خصبة معطاء، تحف بها بساتين خضراء وجنان مثقلة بالكروم والفواكه على مدار فصول العام، أهلها أَجْوَادٌ كرام، فصيحو اللسان، حاضرو البديهة، سريعو النفاذ إلى القلوب، ومن عاداتهم، السّهر والسّمر وقصّ ما استجد من العلوم والأخبار، ومما أستحضره عنهم، ما سرده على مسامعنا أحد رجالاتهم من بيت آل القنطري، أنه قابل شخصيا، منذ حَوَالَى خمسين عاماً المدعو "حاميم المتنبي"، البربري الذي ظهر في قبيلة غمارة، فأنشأ بها ديناً وقرآنا بربرياً، واقتصر في دينه الجديد على الصلاة مرتين في اليوم، وأبطل الحج إلى بيت الله، كما أوجب صوم الأربعاء والخميس، والعجيب الغريب، أن عدداً كبيراً من برابرة شمال المغرب اعتنق هذا الدين، لكنهم في قصر "كتامة" تصدّوا له، مثلما تصدوا لنشاط الخوارج. ما أقصه حقيقة لا ريب فيها، ويمكنك استفسار بعض أهالي كتامة من التقاة، كالصرصري وبوعجاج والدنهاجي والفاسي الفهري.
ثم رحلنا عن البلدة في صباح باكر بعد أن أدينا فريضة صلاة الفجر في مسجدها الأعظم المهيب، وقد قيل لنا إنه كان كنيسة رومانية في عصر بائد.
وقاطعني الرجل أصفر الوجه الذي يدوّن أقوالي:
ـ اختصر كلامك يا أخي، فلديْنا عشرات المهاجرين السريين!
فتصدى له الحاج ابراهيم مقاطعاً:
ـ اصمت! ودع الرجل يتحدث بالكيفية التي يريدها.
ثم ابتسم في وجهي وخاطبني:
ـ نحن معك إلى أن تنهي كل أقوالك.
فاستأنفت حديثي:
هكذا يممنا في اتجاه طنجة، لكن القدر كان يخفي علينا أننا سنتوقف في "ثغر أصيلا" يومين كاملين، بسبب وعكة صحية حلت برفيق لنا، لكنه قام منها سليماً والشكر لله، و "أصيلا" قرية بهيجة، تشرف على بحر الظلمات الصاخب، كانت أمنيتي أن أقف على مرمى حجر من هذا البحر الهادر وأتأمله عن كثب، فتحققت أمنيتي، وكبرت سعادتي وأنا أحس بهديره يملأ أذني، ونسائمه تتسلل إلى رئتي ومَسَامّي.
أقمنا في هذا الثغر يومين سيظلان موشومين في ذاكرتي ما حييت، فحين نزلنا في تلك السويعات الأولى من بزوغ خيوط الشمس لمشاهدة مروج البحر، وكان صخبه قد هدأ، وأطرافه قد انكمشت، مخلفة طَحَالِبَ بلورية، وأعشاباً مبللة، كأنها كرومٌ خضراء في أحد بساتين جنة الخلود، يا لها من نسائم رطبة ندية هي نقيض لروائح الصحاري، فمن شدة ما استطابتها نفسي وانشرح لها صدري جمعت منها عيّنات، فساعدني الفقيه "أبو عصيد" على ربطها عند مخلف سرج حصاني، نعم "أبو عصيد"، ذاك الفقيه الإمام المبرِّز في أصيلا، رجل متصوف، يبسط يده للدراويش والمعوزين. من بين مريديه وأصدقائه أتذكر وجها وديعا خجولا لصياد سمك يدعى رُوِيكَْلْ، رجل لا يعرف عن الدنيا سوى أنواع السمك وأقصاب صيدها، بينما يهتم أبو عصيد بأشعار المتصوفة والأنساب والتراجم، وبالرغم من ذلك يرتبطان بعلاقة مودة لافتة. ومما ذكره أبو عصيد في ليلة سمرنا الأولى، أنهما معاً من أشد وأقرب من عاشروا السلطان الإدريسي "يحيى بن إدريس بن عمر" خلال سنوات نفيه في "أصيلا"، بعد أن كان حاكما للمغرب كله، لكن الحاكم "موسى بن أبي العافية"، وحسداً منه على ما كان يتمتع به هذا الأمير الشاب من حب المغاربة، نصب له مكائد إلى أن نفاه إلى "ثغر أصيلا".
وقد دلني هذا الفقيه على دار بجوار حمام ومعبد يهودي، كانت محل إقامة هذا السلطان الذي كان على قدر من العلم بالفقه والحديث. وكان رويكَل يزوره كل مساء محملا بشراتل من الأسماك الطازجة. وفي الليلة الثانية، حدثني الفقيه عن شيخه الذي أخذ عنه كتاب البخاري "الإمام أبي محمد عبد الله بن ابراهيم بن محمد"، الملقب "بالإمام الأصيلي"، وكان قد توفي منذ حَوَالَى ثلاثين سنة، أسعدني في الحقيقة أن أستمع إلى بعض أخبار هذا الإمام، بعد أن سمعت عنه ما تيسر لي من بعض مريديه ومعاشريه في بغداد، ومكة، والمدينة، أثناء إقامته هناك منذ حَوَالَى خمسين عاماً.
توقفنا ترحّماً على قبره في حديقة مسيجة خارج أسوار المدينة، فتبادلنا أخباراً عنه، إذ أكدت له أن الإمام كان صديقاً مقرباً من الإمام أبي بكر الشافعي وأبي بكر الأبهري ومن شيوخه الأفذاذ في مكة الإمام زيد المروزي وأبي بكر الآجُري. وفي المدينة قاضيها الإمام أبي مروان المالكي، فأخبرني بأن الإمام الأصيلي، بعد أن عاد من المشرق إلى أصيلا، رحل عنها ليتولى القضاء في سرقسطة وقرطبة، وبعد مدة، عاد مرفوقاً بثلاث زوجات، أسكن كل واحدة في منزل خاص بها، وعاشرهن بالعدل والقسطاس، دون أن يفضل واحدة على غيرها، إلى أن قضى، فدفن هنا في مسقط رأسه.
توقفتُ عن إتمام حديثي حين انحنى الشرطي الأصفر الوجه على أذن رئيسه، وهمس له بكلمات غير مسموعة، لكن الرئيس ثَنَاهُ عن همسه بإشارة من يده، وطلب مني استئناف سردي، مبدياً ابتسامة متكلفة، غير أن ما كان يسود المقام نبهني إلى أن الرجل ما عاد يطيق سماع ما أزوده به من أخبار، أو لعله لم يصدق أقوالي، تلك طباع رجال الشرطة في كل البقاع، فعملهم يجبلهم على الارتياب والحيطة. ولربما طريقة سردي التي بدت له سجية مرسلة، هي أقوى ما كان يشدّه إلى سماعي وليس مضمون أخباري، مما جعلني أختصر كلامي، وهو عين ما حدث، فما إن أخبرته برحيلنا عن "ثغر أصيلا"، والعوائق التي اعترضتنا في قطع الأنهر الثلاثة الفاصلة بين أصيلة وطنجة، واستئجارنا لمراكب خشبية ذات أشرعة كادت أن تصبح أكفاناً لنا في لجّة البحر، حملتنا من "طنجة" إلى"طريف" بالأندلس، حتى قاطعني مستفسراً:
ـ منذ متى تم هذا السفر إلى الأندلس؟
أجبته صادقاً: 
ـ منذ بضعة أيام، أي في أقل من أسبوع واحد.
هنا ارتفعت أصوات الجميع بالضحك والقهقهة، فعاد الرئيس لاستفساري قائلا:
ـ أريد معرفة التاريخ، لا يهم اليوم أو الشهر، أريد العام بالضبط؟
يالغرابة السؤال! قلت في نفسي، وأجبته:
ـ قلت لك إن ما حدث كان منذ بضعة أيام، أي في هذا الشهر، وفي هذا العام ذاته، ألسنا في ذي القعدة من عام 400 للهجرة؟
انتشر الاستخفاف على محياهم جميعهم، ولم يعد عسيراً على عيني أن تقرأ في ملامحهم علامات دالة على أني في نظرهم شخص مجنون، لكنني واصلت حفاظي على رباطة جأشي، وتوجهت بالحديث ليس إلى الرئيس وحده، وإنما إليهم جميعاً:
ـ أؤكد لكم أنني سليم معافى، وفي كامل قواي العقلية والجسدية، فإن وقع التباس فيما أرويه عن رحلتي، فإن مرده إلى عدم فهمكم.
وتدخل "الحاج ابراهيم" بعد أن أطال النظر في وجهي:
ـ طيب، تقول إنك قدمت من العراق في هذا العام، وركبت البحر إلى الأندلس في العام ذاته. أيمكنك أن تخبرنا عن ظروف بلدك؟ من تركت يحكم العراق مثلا؟
أسرعت بالإجابة:
ـ تركت الخليفة العباسي "أبا العباس أحمد بن المقتدر" المعروف لدينا ولديكم "بالقادر بالله"، حاكما على العراق، لكن ما هو خاف عليكم، هو أن الحاكم الحقيقي ليس الخليفة وإنما "بهاء الدولة" البويهي، فهذا الرجل بعد أن بسط نفوذه على "فارس" و "الأهواز" و "كرمان" استبد بالسلطة دون الخليفة، خاصة بعد أن تزوج الخليفة من ابنته "سكينة" عام 383 بصداق بلغ مائة ألف دينار.
وقاطعني "الحاج ابراهيم" متبرماً من حديثي، بعد أن بَحَثَ في أوراق أمامه:
ـ اسمع يا سيدي، إننا لسنا في عام 400 للهجرة، وإنما في عام 1423، ثم التفت إلى معاونيه وخاطبهما آمراً:
ـ أعدا له محضراً بأقواله واتركاه ينام إلى الصباح، لنقدمه إلى النيابة العامة ضمن المهاجرين السريين.
وقال أحد معاونيه ضاحكاً متعجباً:
ـ يقيناً إن الرجل سجين كتاب قرأه عن التاريخ القديم فتوقف دماغه هناك.
لم يجبه الرئيس، بل غادر المكتب دون أن يفوه بشيء، أما أنا، فقد جمد لساني وتركت أمر إرادتي لمشيئة الله، وليقولوا أو يفعلوا بي ما شاءوا.
بعد أن أفردوا لي مقعداً خشبياً وأغلقوا الباب وانسحبوا، عاد فكري للاشتغال، أنا العالِم، الفقيه، المنطقي، الفيلسوف. يحاول شرطي بسيط إقناعي بأني سجين زمان يبتعد عن زماني بأكثر من ألف عام! يوهمني بأني فاقد للعقل! من منا فاقده، من جُبِلَ على الارتياب والتشكك؟ أم مَنْ يحتكم إلى عقله ومنطقه؟
وحسبي أني أوجد في مكان غير مكاني، فعادة ما يُفَسَّرُ اختلاف المكان باختلاف الزمان، إنما أن أكون في زمان جاء بعد زماني بأكثر من ألف عام، فهذا والله لن يستوعبه عقل كائن بشري، لقد حدث التباس ما! بكل تأكيد. لعلهم هنا في المغرب يعدون السنوات بطريقة مختلفة عما نعده نحن في العراق؟ لكنهم يتكلمون العربية، ويقولون عن أنفسهم إنهم مسلمون، يبسملون ويستغفرون الله.
يا إلهي، أكاد أصاب حقيقة بتلف العقل، ماذا لو أحضرت لهم الشيخين "القنطري" و "الدنهاجي" من حاضرة "قصر كتامة" وهي على مسافة يوم واحد لا أكثر، أو أحضرت لهم الفقيه "أبا عصيد" من "ثغر أصيلا" وهي على مقربة نصف يوم، ليشهدوا بالحقيقة، بوجودي في زمانهم ووجودهم في زماني، ثم كيف للمرء من بني آدم أن يعيش أكثر من ألف عام؟ وعلى سبيل افتراض أن ما زعموه حقيقة، فأين كنت مختفياً؟ في أعالي السماء أم في باطن الأرض؟
هراء، هرطقة، إنني أنا الذي أمتلك الحقيقة وهم الأغبياء، ولن أتنازل عن رأيي حتى لو انضم إليهم السواد الأعظم من الناس. إن الباطل لن يصير حقاً بكثرة منتحليه، كما أن الحقيقة لن تصير باطلا بقلة معتقديها، ذلك هو المنطق القويم.
هكذا عليّ أن أفكر وأن أقاوم، فأنا فيلسوف، عالم منطقي، أنا ناسخ لكتب "الجاحظ" في زماني هذا الحاضر، وليس في الزمان الذي قبله، ولن أعبأ بمنطق شرطي أملس المحيا كأنه جارية هرب عنها الزمان.
لم أدر المدة التي استغرقها حواري الداخلي، إلى أن فتحوا عَلَيَّ باب الغرفة لأعرف أن الوقت صباح.

(3)

اقتادوني، فأدخلوني مكتبا آخر، وأمروني بالجلوس فوق مقعد خشبي بمتكأ يريح الظهر، لجميع مقاعدهم مُتَّكَآت مريحة وكأنها مقاعد حاشية الخلفاء.
تناول شاب طويل القامة، أملس الوجه، شبيه بغلام، أوراقاً وأخذ يتلو على مسمعي تصريحاتي بلغة منفرة، خلتها سوطا يجلدني، وطلب مني أن أبصم أو أوقع، فناولني قلماً غريباً دون أن يسعفني بِدَوَاة، وحين نبهته أخبرني بأن سمق القلم لا يجف، مما أكّد لي أنني في عالم غريب عني. بعد ذلك غَلُّوا يدي بصفد حديدي، لم يسبق لعيني أن أبصرت مثيلا له، واقتادوني ضمن أسرى آخرين، إلى أن أدخلونا هودجاً ضخماً بنوافذ زجاجية، فتحرّك بنا وكأنه حصان أرعن، إلى أن توقف عند مدخل بناء أبيض اللون، ظننته أول الأمر سجناً، فنضح جبيني بالعرق، لكنني حين قرأت على مدخله: "المحكمة الابتدائية"، دبت في قلبي طمأنينة ما، إذ فكرت بأن التعامل مع القضاء أضمن لسلامة بدني من مواجهة الشرطة أو السجن.
أنزلونا مثنى مثنى في حراسة مشددة، وكأننا ثوار أو قطّاع طريق، وساروا بنا إلى أن وجدنا أنفسنا ننحدر في سلالم من بضع دركات أفضت بنا إلى غرفة عَطِنة تكدّس بها بشر سِيقوا قبلنا إليها، وسُدَّ علينا الباب لنظل في مواجهة المجهول.
بعد زمن قدرته بنصف يوم، جاء دوري، بعد أن كان أحدهم من وقت لآخر ينادي بأسماء بعضنا، خرجت من الغرفة، فصعدت السلالم ذاتها محاطاً بجنديين، سرنا وصعدنا، وسرنا إلى أن وجدت نفسي أومر بولوج مكتب رحب ثري، فولجته، فك الرجلان قيدي بعد أن قدما تحية عسكرية صارمة دالة على عظمة صاحب المكتب، أما هو فلم يكترث للتحية ولا رد بأكثر أو أقل منها، بل نظر إليّ أنا المعني بالأمر، مشيراً عَلَيَّ أن أجعل يدي خلف ظهري وأن أقف مستقيماً أمامه، ففعلت بمساعدة أحد الجنديين.
أخذ الرجل يتصفح أوراقاً فوق مكتبه، وبين الحين والآخر، كان يرفع بصره ويتأملني، إلى أن سألني:
ـ من أي بلد أنت؟ 
ـ من العراق سيدي، أجبته.
حرّك رأسه بطريقة توحي بذهوله، وخاطبني:
ـ تقول في تصريحاتك المدونة في المحضر، إنك قدمت من بغداد عبر المدن التي ذكرتها، وإِنَّ اسمك هو "أبو حيان التوحيدي"!
ـ أجل سيدي أطال الله عمرك، أعترف بذلك.
سكت برهة مفكراً، وكمن يحاول اختزال الاستنطاق قال لي:
ـ سأكون مضطراً لأن آمر بإيداعك مستشفى الأمراض العقلية إلى أن تعود إلى رشدك، لكن إذا ما عَدَلْتَ طَواعيةً عن ادعاء الحمق، واعترفت باسمك الحقيقي، ومقر إقامتك، ووسيلة دخولك إلى إسبانيا، فسأكون رحيماً بك، وستنجو من العقاب.
سكت قليلا وأضاف:
ـ أما إذا كانت لك عاهة عقلية، كأن تكون مختلا، فيجب أن تعترف بمرضك؟
ـ وما هو دليلك يا سيدي على أنني لم أعترف بالحقيقة، أو أني مصاب بعاهة عقلية كالجنون؟ لا قدر الله.
قلت في عجلة من أمري، وأضفت:
ـ إني يا سيدي لا أتستر على شيء، لا عن أخبار ولا عن مرض، وقد اعترفت باسمي الحقيقي وباسم بلدي الحقيقي، وبالسبل التي سلكتها، إلى أن حللت بالمغرب، وكذلك بالأندلس.
انتفض صوته واشياً تبرمه من جوابي:
ـ إنك جاوزت المراوغة حدّ اليقين بأنك شخص معتوه، فمن سيصدق أقوالك الخرافية، تسافر من فاس في قافلة متوجهة إلى "غرناطة"، وتحل "بقصر كتامة" و "ثغر أصيلا"، وتسمع أخباراً من أفواه رجال عايشوا أحد ملوك الدولة الإدريسية المنقرضة منذ قرون، ثم تقول بأنك لست مجنوناً؟
أجبته:
ـ إن الجنون أيها الحاكم لا يَقْوَى أحدٌ منّا على إخفائه إن كان مصاباً به، فأي تعبير لغوي شائن أو غير منطقي صدر عني؟ وأية حركة، أو تصرف غير عادي لاحظت، أو لاحظ غيرك،أنه قد طرأ على سلوكي؟
توقفت للحظة أسترجع أنفاسي، ورأيت الذهول مرسوماً على محيا الحاكم، فتابعت حديثي لمزيد إقناعه، وقلت له:
ـ إنني يا سيدي أتصرف تصرف العقلاء، وإذا كان قد صدر مني سلوك غير سوي، فليس معنى ذلك أنني أحمق، فقد يصدر عن العاقل بعض ما لا يصدر إلاّ عن مجنون، علما بأن الحمقى يطغى انحرافهم على اعتدالهم، وفي وضعي فإني متسق مع نفسي وعقلي، ولم أُخْفِ شيئاً من أخباري ولا من حياتي.
فاجأني مقاطعا:
ـ إذا كانت الحال كما تقول، أي أنك رجل عاقل متسق معتدل، فلماذا تزعم أنك "أبو حيان التوحيدي"؟
ـ إنها الحقيقة، بغض النظر عمّا إن كانت لي أو عليّ، وهل تعرف يا مولاي شخصاً غيري يحمل هذا الاسم؟
لم يقو على طمس ابتسامة ماكرة دالة على استخفافه بمنطقي، وأجاب:
ـ بطبيعة الحال أعرف "أبا حيان التوحيدي"، وليس هناك من المتعلمين المطلعين على تاريخ الأدب من يجهل أبا حيان التوحيدي المتوفى منذ قرون. أجل، قد يتكرر اسمه، هذا وارد، أما أن تنتسب إلى زمانه وتنتحل اسمه وصفته وحياته، حتى أنك تزعم بأن تاريخنا الحالي هو عام 400 هجرية، ثم تقول بأنك لست مجنونا! من يقوى على تصديق هذا الهراء؟
تمنيت لو تنفتح الأرض من تحتي، فتصهرني بداخلها، لأرتاح مما أنا فيه، ذلك أن الشك عاد يموج برأسي، ودون إرادتي وجدت أسئلة تنساب على لساني:
ـ سيدي، أنا أجهل صفتك تحديدا، وأعلم أن دوري ينحصر في إمدادك بأجوبة، لكن وضعي الغامض لديك ولدي أيضاً، يحتم عليّ استفسارك لأتعرّف رأسي من قدمي، فوالله ما عدت أفهم أكثر مما أجيب به، فهل تدلني رعاك الله على التاريخ الحقيقي الذي نعيشه اليوم، سواء هنا في بلاد المغرب أم ذلك الموجود في بلاد العراق؟ وكيف يمكن للمرء في نظرك أن يجمع قيد حياته بين زمانين، أحدهما مضى واندثر، والآخر حاضر حال؟ أو ليس هذا هو بؤرة خلافنا؟
حرك الرجل رأسه موافقا، وقال:
ـ طيب، صفتي وكيل الملك، أي أني أمثل النيابة العامة، وأدافع عن الحق العام، فهلا عرفت معنى وكيل الملك؟
ـ معناه في تقديري أن الملك أنابك عنه بمقتضى وكالة ضمنية، وبمعنى آخر فقد تكون قاضي القضاة!
عاد يقول في نفاذ صبر:
ـ أمازلت تدعي الجهل بالرغم من ثقافتك الواسعة!
ـ أنا لا أدعي شيئا، لكن يستحيل أن أقتنع بأني أُحْسَبُ على ماض يبتعد عن هذا الحاضر بأكثر من ألف عام، وإذا أردتني أن أصدّق، فعليك أيضا أن تصدق.
ـ أصدق ماذا؟
ـ تصدق أقوالي في الأوراق التي بين يديك، فإذا لم تقتنع، فأنا مثلك لا أستوعب هذا الفارق الزمني الذي تُصِرُّ عليه.
ـ أنت إذن متشبث بزعمك، طيب، لتعلم أن التاريخ الذي نعيشه اليوم في المغرب هو التاريخ نفسه الذي يعيشه إخواننا في العراق، فنحن في عام 2003 ميلادية، أما الدولة العباسية التي تزعم انتسابك إليها، فقد اختفت، واندثرت، ومر على قيامها عشرة قرون، وحلّت محلها دول أخرى، بخلفاء وسلاطين وحكامٍ آخرين، أما زلت مصراً على رأيك؟
ـ مهما يَحْدُثْ فأنا أعترف بالحقيقة، متمنياً لو لم تكن هذه هي الحقيقة، كأن نكون في حلم، أو على الأقل يكون أحدنا في حالة حلم.
امتدت يد وكيل الملك إلى قطعة جماد رمادية اللون، من خشب لامع، أو لربما من زنك أو حديد، فلم أقو على تمييز معدنها، لكنها كانت مشدودة بحبل رقيق إلى وعاء في لونها، وضعها بين فيه وأذنه، وأخذ يتحدث إليها كما لو أن رجلا حقيقياً بداخلها يحاوره.
وددت لو قلت له، بأن المجنون الحقيقي هو الذي يحاور جماداً، لكنني اكتفيت بذهولي، ولذت بالصمت.

(4)

بعد زمن قصير، وقع طرق خفيف على الباب، فأطل منه رجل كهل، معقوف الأنف، رمادي الشعر، حليق الوجه إلا من شارب متّسخٍ، غلب عليه بياض الشيب، قدرت أنه في عمري وقامتي ونحافتي، ألقى تحية احترام على وكيل الملك، وبعينيه تساؤل يخفي تضايقه، لكن وكيل الملك طمأنه، مرحبا، قائلا:
ـ إذن، أنت الكاتب محمد شكري، لقد طلبت حضورك قصد استشارتك لا غير، فأنت كاتبنا المعروف، من رموز هذه المدينة، تفضل، استرح.
بعد أن استوى محمد شكري فوق مقعد أسعفه به "محند أشهبار" الكاتب الذي يدوّن أقوالي، ظل تساؤله بادياً على وجهه، فبادره وكيل الملك بالقول:
ـ إنك من دون شك، تعرف من هو "أبو حيان التوحيدي". ولعلك عارف بأخباره، أو مطلع على بعض كتبه، أليس كذلك؟
أجابه شكري بصوت يفضح ارتباكه:
ـ نعم سيدي، أعرف بعض أسماء كتبه، أما عن شخصه، فأذكر أن أقلاماً كبيرة وكثيرة سالت منوهة بعبقريته وعلمه الغزير، خاصة منذ حوالي عشرين عاماً، حين وقع الاحتفال من لَدُن كبار المثقفين بذكرى مرور ألف عام على وفاته، أو بالأحرى على اختفائه، ذلك أن لا أحد من المؤرخين يعلم تاريخ وفاته.
قبل أن ينهي محمد شكري شهادته، اقتحم المكتب رجل طويل القامة، حسن الطلعة، واثق الْخُطى، فبدا من هيئته، وثقته بنفسه، أنه أحد كبار الحاكمين أو المفتين الأفذاذ، وزاد في تأكيد تخميني وقوف الجميع احتراما لقدومه، إلاّي أنا، فقد كنت واقفاً سلفاً. ولم يعودوا لجلوسهم إلا بعد أن استوى الزائر فوق مقعد بجوار وكيل الملك، وأشار عليهم بالجلوس، فتسلم أوراق تصريحاتي من يد وكيل الملك، ووضعها أمامه فوق المكتب.
قبل أن يطلع عليها، بادره وكيل الملك بالقول، وهو يشير إلى مثقف المدينة:
ـ إنه الكاتب المغربي الشهير محمد شكري، فقد دعوته لأستأنس برأيه في حياة ونتاج المرحوم "أبي حيان التوحيدي" الحقيقي، المتوفَّى منذ أكثر من ألف عام، أقول الحقيقي، لأن الضنين الماثل أمامنا يزعم أنه "أبو حيان التوحيدي"، وبأننا نعيش في عصر الدولة العباسية، وقد أحالته السلطات الإسبانية علينا بتهمة الهجرة السرية، وبعد أن اطلعوا على تصريحاته، سيتبين لكم إشكال هذه النازلة الغريبة.
انكب الوكيل العام على تفحص أقوالي المدونة في أوراق أمامه، وبين الحين والآخر، كان يرفع بصره ليتأملني، ثم يعود لمحضر تصريحاتي، واستبشرت خيراً حين أمر الشاب "محند أشهبار" بإحضار مقعد لي، وطالبه باستئناف كتابة محضر الاستنطاق.
وتدخل وكيل الملك، مخاطبا الكاتب محند أشهبار:
ناولِ السيد الوكيل العام، ماهو مسجل لديك من أقوال المتهم.
أزعجني أن يقول عني إني متهم، لكنني لذت بالصمت.
بعد أن تصفح الوكيل العام ماراج من استنطاق في غيابه، توجه نحوي بالسؤال التالي:
ـ هل أنت مصّر على أقوالك، وعلى أنك "أبو حيان التوحيدي"؟
حركت رأسي بالإيجاب وأضفت:
ـ إنني يا سيدي أتشبث بكل ما قلتُه، ولعلمك، فإني أجزع من التقوقع والتخاذل في الأقوال، سواء أكانت لغيري أمْ لي شخصياً، إنما بالله عليك، كيف ينسب لي السيد وكيل الملك صفة متهم؟ أي ذنب اقترفت؟
ارتسمت على محياه ابتسامة مواربة وهو يجيبني:
ـ إنك متهم بالهجرة السرية إلى إسبانيا، وهي ليست جناية حتى تصاب بالفزع. إن ما يشغلنا حقيقة، هو جريمة انتحال الصفة، أي انتحالك لشخصية "أبي حيان التوحيدي".
ثم التفت إلى محمد شكري وطلب منه الحديث.
جال محمد شكري ببصره في وجوه الحاضرين، وكأنه يلتمس سماعه، وقال:
ـ لم أفهم شيئا لحد الآن. ولعلمكم فإني جاهل بأمور القانون، أما إذا كانت رغبة السيد الوكيل العام أن أزودكم بما أعرفه عن "أبي حيان التوحيدي" فإني على أتم الاستعداد.
حرّك الوكيل العام رأسه بالإيجاب، فتحدث شكري:
ـ عرف عن أبي حيان الشجاعة والصراحة والمجاهرة برأيه في الناس، كباراً وصغاراً، دون حرج في نشر مساوئهم ومحاسنهم، اعتقاداً منه بضرورة ذم المسيء ومدح المحسن، وكان أديباً وفيلسوفاً وخطيباً لا يشق له غبار.
ثم وهو يتأملني أكمل حديثه:
ـ لكن هذا الرجل يبدو من لهجته عراقيا، ولغته ممتازة جدا، لكنه، على ما أرى وأسمع، رجل أحمق، ذلك أن "أبا حيان" تلاشت عظامه منذ ألف عام، وقد ترك كتباً كثيرة، أذكر من بينها "المقابسات" و "الإمتاع والمؤانسة" و "أخبار القدماء وذخائر الحكماء".
وطفق يتذكر، لكنني لم أَقْوَ على تحمل كذبه، فتوجهت بكلامي إلى الوكيل العام فاضحاً إياه.
ـ أعترف أنَّ الكتاب الأول والثاني من مخلوقاتي، وإني على استعداد لسرد محتوياتهما. أما كتاب "أخبار القدماء وذخائر الحكماء"، فلا علم لي به، ولم يسبق لي أن ألَّفتُ كتابا بهذا العنوان، ولاشك أنه من مختلقات السيد محمد شكري، بل أتذكر أن الشيخ "أبا سعيد السيرافي" كان يحتفظ بنسخ لبعض كتبي، وناقشنا عناوينها دون أن يخطر ببالنا هذا العنوان.
قاطعني الوكيل العام بإشارة من يده، طالباً من الكاتب "أشهبار" أن يسرع في تدوين أقوالنا، والتفت إلى "شكري" سائلا:
ـ هل تعرف من هو الشيخ "أبو سعيد السيرافي"؟ أقصد هل هو مذكور في تاريخ الأدب؟
رفع محمد شكري بصره إلى سقف المكتب في حالة تذكر، ثم خفض بصره وأجاب:
ـ لا ياسيدي، لا أتذكر من يكون هذا الشخص.
تطلع الوكيل العام نحوي وسألني:
ـ من يكون هذا الشيخ؟
أسرعت أجيب:
ـ إنه "أبو سعيد السيرافي" مِنْ أشهر علماء عصرنا، شيخي ومعلمي، أخذت عنه النحو والكلام وأصنافاً من العلوم والمعارف، كان رحمة الله عليه من كبار النحاة والمتكلمين المعتزلة، فقد شرح كتاب "سيبويه" في ثلاث آلاف ورقة بخطه، ناهيك عن تبحره في الحساب والهندسة والمنطق، إني أستغرب كيف أن السيد محمد شكري الذي يدعي اطِّلاعهُ على كتبي، لا يعرف من يكون المرحوم السيرافي؟
قاطعني الوكيل العام قبل أن أتمم جملتي، وسأل محمد شكري:
ـ هل العلماء الذين تتلمذ عليهم أبو حيان معروفون في كتب الأدب.
ردَّ محمد شكري:
ـ بكل تأكيد.
فالتفت نحوي وسألني:
ـ وعَمَّنْ غير "السيرافي" أخذت علمك؟
ـ تعلمت كذلك على يد الشيخ "أبي سليمان السجستاني" المنطقي، كما أخذت الكثير من المعارف على يد القاضي الشيخ "أبي حامد أحمد بن بشر المروروذي"، والذي لم أتخلّ عن السير في موكب جنازته بحي الأعظمية في بغداد، مثلما لم أتخل عن الاستشهاد بمأثوراته وأقواله في كتابي "البصائر والذخائر"، أستحضر عنه رحمه الله، أنه كان ضد الألقاب الكبيرة والتفخيم في الخطاب، مستنده في ذلك، السلف الصالح الذي كان يخاطب رسول الله بـ "يارسول الله ويا محمد".
كان الوكيل العام، مثل جميع الحاضرين، يتابع حديثي باهتمام بالغ، ويحث كاتب الضبط الشاب محند أشهبار على تدوين كل التفاصيل، بل كان يسعفه في كتابة الأسماء حتى لا يقع في خطأ.
واستمر حديثي عمن أخذت عنهم علومي.
ظل الوكيل العام صامتاً إلى أن تأكد من توقفي عن حديثي، فخاطبني:
ـ إنك أيها السيد ظاهرة غريبة، وقضيتك من المعضلات الفريدة المعروضة على القضاء، وبمساعدتك لنا، قد نصل بإذن الله وعونه إلى استجلاء مكمن هذا الغموض، وإلى فك هذا اللغز المحير، وقد نعثر على الحلقة الضالة بين ماضيك البعيد وحاضرك الحالي هذا، إني أرغب في تصديقك، لكن حتى لو ثبت لدينا أنك "أبو حيان التوحيدي" ذاته! فكيف تفسر لنا قفزك على ألف عام، إذ لا يعقل أن تصل إلى الأندلس في عام 400، وبعد يومين أو ثلاثة أيام يلقى عليك القبض في عام 1423. فأين ذهبت الألف عام ونيف، أليس هذا محيراً؟!
التفت إلى محمد شكري وسأله:
ـ هل يمكن لي اقتناء بعض مؤلفات "أبي حيان" بالابتياع أو الاستعارة؟
أجابه شكري:
ـ إنني يا سيدي الوكيل العام، أحتفظ في بيتي بكتب قيمة كتبت عن مؤلفاته وعنه شخصياً، كما أتوفر على بعض كتبه، وبإمكاني أن آتيك بها قبل أن يرتدّ إليك طرفك، ولي صديق شاعر، هو أحمد اليدري، يمتلك أيضاً بعض كتبه، سأستعيرها منه في الحال، فبيتانا لا يبعدان كثيراً عن المحكمة، فهو يقيم قبالة "شركة احتكار التبغ"، وأنا في شارع تولستوي بجوار مقهى روكسي، فهل تأذن لي بالانصراف لآتيك بها؟
ـ لتتفضل، سنبقى في انتظارك.
غادر محمد شكري المكتب، فظلت نظرات الحاضرين مصوبة نحوي بطريقة فضولية، وكأنني بينهم إبليس أعيش الدهر الأبدي، مما جعل نفوري منهم يشتد ويتضخم، لأحس وكأن سحابة قاتمة السواد، لم تكتف بتغليفي فحسب، وإنما اقتحمت دواخلي، وأخذت تمتصني لأتلاشى وأختفي، مثلما تختفي الأضغاث دون استئذان صاحبها.
هل أنا حلم؟ هل أنا سراب؟ هل أنا وهْم؟
وددت لو كنت أحد هذه المخلوقات الاصطلاحية، فأعيش مثلها دون إرادة أو وعي أو إحساس، لكن مشاعري الإنسانية وإحساسي بوجودي بين الوكيل العام ووكيل الملك ومحند أشهبار كاتب الضبط، والشرطة الموجودة خارج المكتب ومحمد شكري الذي تغيَّب لإحضار ما سماه بمؤلفاتي، و "نهاوند" التي تنتظر قدومي إلى غرناطة، أو ظلت تنتظر عودتي التي لم تتحقق. كل هذه الحقائق كانت تصفعني، فتنبهني إلى أنني كائن حقيقي قائم في مكانين، أو بالأحرى في زمانين يفصل بعضهما عن بعض زمان يحسب بالقرون.
فكرت في كتبي ومؤلفاتي، تلك التي أضرمت فيها النار غير آسف قبل مغادرتي بغداد، إنها أيضا حقيقة ثابتة، فأي كتب ينسبها محمد شكري إلى شخصي؟ تلك التي تغيّب لإحضارها، هل كتبت بعد رحيلي فنسبت إليَّ زوراً؟

(5)

في غفلة عن إرادتي، طفا إلى سطح ذاكرتي وجه العرّاف "ابراهيم السوسي"، أشهر فقهاء وعَرَّافِي بلاد سوس. يا إلهي، كيف ظل مختفياً بالرغم من استحضاري لكل من التقيت بهم بحاضرة فاس. الآن أتذكر كل شيء، كان لا يجالس سوى السلطان المغربي المغراوي المعز بن عطية، وحتى الحاشية السلطانية وكبار شيوخ القبائل لا يستقبلهم إلا إذا أذن له السلطان بذلك. تحضرني تلك الواقعة من ألفها إلى يائها، وأنا بحضرة وكيل الملك والوكيل العام، ربما كانت غائبة عني بسبب كراهيتي للسحرة والعرافين، أجل، كنت أمقت السحرة، فأعلنت عن رأيي هذا لأصدقائي الفاسيين، وكانوا منقسمين حول هذا الفقيه السوسي بين مدافعين شاهدين له بالتقوى والكرامات، ونابذين يرمونه بالمروق والخروج عن الشريعة، فانضممت أول الأمر إلى الفئة الأخيرة، مستندا إلى قول النبي (ص) "من أتى كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد (ص)"، وهو حديث صحيح رواه البزار. لكني وافقت بعد أن تأكدّ لي تمسك الرجل بالشريعة ورغبته النبيلة في أن يطلع على علومي في التصوف والمنطق والنحو، وكذا تحصيله لإذن خاص من عظمة السلطان لمقابلتي.
هكذا وبعد أن سبقه رقاص أخبرني بقدومه في موعد حدده، حضر إلى مقر إقامتي في فندق ضيوف فاس، مصحوبا بحارسيْن من قوات دار المخزن، لكن الحارسَيْن بقيا في انتظاره بالبهو إلى أن عاد إليهما قبيل أذان الفجر.
أجل، استقبلته في غرفتي وأنا في أقصى ما يكون عليه الحرص واليقظة، كانت الليلة باردة، فسقيته مما كان متوافراً بغرفتي من عصير القرفة والزنجبيل، وطال سمرنا وتشعّب حديثنا إلى أن رُفعت الكلفةُ بيننا، فكذبنا على معدتيْنا بتين وزيتون فاسيين وبلح فكَيكَي، وأنا أُسمعه ما استهواه ورغب في مزيد من سماعه من فنون النحو والمنطق والكلام، كما روى لي ما زادني علما بالفوارق بين الكرامات والمعجزة والسحر، فالكرامة لا تقع إلا اتفاقاً، والمعجزة تمتاز عن الكرامة بالتحدي، أما السحر فلا يؤتى إلا من دجّال فاسق يستعين بالشياطين.
وشنّف سمعي بخوارق كثيرة متنوعة قام بها لإبطال أنواع متعددة من السحر، كسحر تعطيل الزواج، وسحر التفريق بين الزوجين، وسحر الخمول، ونماذج لعلاج جميع أنواع هذا السحر بآيات قرآنية وأدعية شرعية، وخاض في حديثه عن سحر المحبة للجمع بين الرجل والمرأة المتحابين، كما صارحني بتفوقه وبراعته في السحر الحلال البعيد عن الشرك بالله.
راقني أني وجدته متحدثاً بارعاً ملماً بخبايا النفوس والمشاعر النفسية القصية وهواجسها الخفيّة، مما جعلني أضعف فأبوح له بعشقي وتعلقي بـ "نهاوند"، ولربما لرغبة دفينة زَلَّ لها لساني، فانزلقت منه أسئلة عن رُقْيَةٍ أو كرامة تحفظ العهد والحب بيني وبينها لتظل في انتظاري إلى أن أقابلها بالأندلس، شريطة أن لا يكون لهذه الرُّقْيَةِ أو الكرامة علاقة بالشرك بالله. فاستبعد انشغاله بما يخالف الشرع، وأكَّد لي أن الرّقى نوعان: نوع يخالف الشرع، فيدخل في باب الشرك، وآخر جائز لابتعاده عن الشرك، وأسمعني حديثاً شريفاً صحيحاً رواه مسلم في كتاب السلام، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا بأس بالرّقى ما لم تكن شركاً".
ـ ولكن الأمر يتعلق أيضاً بالمدة التي ستبقاها في الأندلس؟!
سألني، وبعد أن فكّر قليلا، أضاف:
ـ سأعمل حِسَابَ ذلك، سأنجز لك رقية من أهم وأنجع ما ألهمني وحباني به عَزَّ وجَلَّ، بعد سنوات من الدعوات والخشوع والأرق والإرهاق، وهي رقية ستحفظ عقلك وبدنك ما طوّح بك الزمن بعيداً عن بغداد.
أسرعت أجيبه، كاشفاً له سري:
ـ لكني لن أبقى بعيداً عن "نهاوند" إلى أن أعود إلى بغداد، إنها في طريقها هي أيضاً إلى غرناطة، وهناك سأقابلها.
عاد يفكر ثم خاطبني:
ـ لو أنك تحتفظ الآن بما كانت تستعمله "نهاوند"، منديل أو خاتم مثلا، لأعددت لك في الحال رقية مماثلة تحصنها وتحفظ عقلها وبدنها مثلك، إلى أن تلتقيا.
أسرعت أفتح صندوق ثيابي، يفضحني حبوري ودهشتي، وأخذت ألقي بقطع الثياب فوق الأرض قطعة قطعة، إلى أن وقعت عيني ويدي على تكة ثم بخنق، فأشرت بهما إلى العرّاف ابراهيم السوسي دون أن أفوه بأي كلام. فابتسم وقال لي:
ـ ناولني البخنق.
أخذه مني ومرّ به على أنفه يشم رائحته، ثم أخرج ورقاً صقيلا من قرابه، أخذ يدعك البخنق به، قبل أن يخط رقيته بذات الورق.
ما إن مرّت أحداث هذه الواقعة بذهني حتى انتفضت في مقعدي، وكأن يداً خفية عن الأنظار امتدت إليّ فأمسكت بتلابيبي، وهزّتني هزاً تنبهني إلى ما حدث لي مع الساحر "ابراهيم السوسي" في فاس، مما جعل الوكيل العام للملك يسألني مندهشاً إن كنت بأتمَّي، فطمأنته بحركة من رأسي على سلامتي، لكنني في داخلي كنت شواظاً من نار.
كيف احتجبت هذه الواقعة عن ذهني، وفكري كله كان مصوباً إلى ما بداخلي وإلى ما تخلل رحلتي!؟ كيف لم تخطر ببالي، مع أنها تكاد تكون الحلقة المفقودة بين ماضيَّ وحاضري؟ أنا العالم المنطقي الفيلسوف الصوفي، المسخر لجمع حواسي وقدراتي الطبيعية والمكتسبة بحثاً وتدقيقاً عن مصدر همّي وغمّي وكمدي، أستحضر كل من قابلتهم في "حاضرة فاس" و "قصر كتامة" و "ثغر أصيلا" و "ثغر طنجة" و "ثغر طريف" يغيب عن ذهني أبرز وجه وأخطره لرجل ساحر كاهن فقيه، ابتليت به في تلك الليلة الليلاء، ليكون السبب في تغيير مصيري وقدري؟
أجل كل ما أعانيه لن يكون مرده إلا لتلك الرقية التي أعدّها لي "ابراهيم السوسي"، وأمرني بحفظها بجوار قلبي.
إنه السحر بعينه، السحر الذي جعلني أقفز على ألف عام.
ولعل "نهاوند" بفضل هذا الساحر المغربي، قد قفزت هي الأخرى على الألف عام، وهي دون شك قد استعادتها الحياة مثلي، و لعلها تبحث عني في مكان ما. إنما كيف سيقتنع الرجال بهذه الواقعة الحقيقية؟ من سيصدقني؟ من يصدق آثار هذا النوع من السحر؟

(6)

ظل رأسي متصدعاً إلى أن حضر محمد شكري، دخل وبيديه مجموعة كتب، يساعده في حملها رجل قصير القامة، مترهل الجسم، أشقر الشعر أشعثه، ذو وجه مُشْرَبٍ بحُمْرَة.
وضعا الكتب فوق مائدة الكاتب محند أشهبار، وقدم شكري إلى الحاكِميْنِ مرافقه قائلا:
ـ إنه "الروبيو" صاحب دكان بيع السجائر والصحف المجاور لبيتي، وهو صديقي قبل أن أتعلم القراءة والكتابة، فابتسم الجميع محرّكين رؤوسهم بتحية خفيفة، رد عليها "الروبيو" بحركة مماثلة دون أن يخفي ارتباكه وغادر المكتب.
طلب الوكيل العام من الكاتب محند أشهبار نقل الكتب إلى جواره، وأخذ يقرأ عناوينها بصوت سمعناه جميعاً:
ـ "البصائر والذخائر"، "الإمتاع والمؤانسة"، "المقابسات"، "الإشارات الإلهية".
توقف عن القراءة، وخاطبنا:
ـ إن الاطلاع على مضامين هذه الكتب يتطلب شهوراً.
ولم أطق صبراً، فقاطعت الوكيل العام:
ـ سيدي، إني أرفض أن تنسب هذه الكتب إلى شخصي، ذلك أنني أضرمت النار في مؤلفاتي جميعها قبل أن أغادر بغداد، ثم ما جدوى الإطلاع على الكتب ومناقشتها؟
انتفض الوكيل العام في مقعده وخاطبني مُرْغِياً:
ـ أنت لست إذن "أبا حيان التوحيدي" الحقيقي، ولذلك تتنصل وتبرر جهلك بمضامين مؤلفاته، فلا تَنْسَ أن الكتب المنسوبة إليه وقع تحقيقها من لدن علماء ثقات، فكيف تتبرأ منها وتدعي أنك "أبو حيان التوحيدي"؟
ـ إنني لا أتبرأ، وإنما أحيطك علما بأني جعلتُ جميع مؤلفاتي حطباً للنار دون أن أُبقي على واحد منها!
ـ وماذا كان الداعي لإحراق كتبك وبيدك؟ ما سمعنا عن شخص قام بإحراق مؤلفاته!
ختم هذه الجملة الأخيرة بضحكة جوفاء، فأجبته:
ـ نعم يا سيدي، هناك العشرات من العلماء الذين أضرموا النار في كتبهم، وبذلك فإن لي في إحراقها أسوة بأئمة، اقتديت بهم واهتديت بهديهم.
ـ مَن هم هؤلاء الأئمة والعلماء الذين أحرقوا كتبهم؟
سألني الوكيل العام، وطلب من الكاتب أن يدون جوابي بدقة فأسرعت أجيبه:
ـ "أبو سليمان الداراتي"، الذي جمع كتبه في تنور وسجرها بالنار. ومثل "داود الطائي" الذي ألقى كتبه في البحر، و "أبي عمرو بن العلاء" الذي دفن كتبه في باطن الأرض فلم يوجد لها أثر، وشيخي "أبي سعيد السيرافي" سيد العلماء. إنني يا مولاي حين أحرقت كتبي كنت أعاني من حالة نفسية متردية، وقد تتفق معي على أن الإنسان حين ينحدر إلى غروب عمره وتنكشف له تفاهة الدنيا، تتبدد آماله، ولا يلبث أن يدرك معنى العبث بكل حدته وقسوته. هكذا، حين كنت أنظر إلى كتبي، كنت أراها تجسيداً معبراً عن إخفاقي في الظفر بما كنت آمله من مجد أدبي، ولذلك لم أر داعيا للتمسك بها أو الحرص عليها، فقمت بإضرام النار فيها.
ـ إذا كانت الحال كما تقول، فمعنى هذا أنك لست مؤلف هذه الكتب التي بين أيدينا؟
وتدخل محمد شكري، مستأذنا في الكلام:
ـ سيدي الوكيل العام، المعروف عن أبي حيان التوحيدي، والذي تؤكده هذه الكتب التي بين أيدينا نفسها، أنه أضرم النار في جميع مؤلفاته، إلا ما نجا منها من نسخ ظلت في حوزة أصحابه، ولذلك لم يصل إلينا منها إلا حوالي عشرين كتاباً على ما أتذكر.
فرد الوكيل العام كمن يخاطب نفسه:
ـ من الحكمة إذن التريث، وعدم مناقشة المتهم في مضامين هذه الكتب إلى أن يتم الاطِّلاع على ما نختاره منها، مع مزيد من البحث.
والتفت نحوي، تعلو وجهه ابتسامة تعبر عن قناعة مؤجلة بشخصي، وقال لي:
ـ هل توافق على ماقاله السيد محمد شكري؟
حركت رأسي بالإيجاب، وقلت:
ـ فعلا، فقد سبق لي أن قمت بنسخ بعض مؤلفاتي، وأهديتها إلى ثلة من شيوخي وأصدقائي ومريديّ، غَيْرَ أن عددها كان لا يزيد عن عشرة كتب، أو لربما ضعف هذا العدد، لا أذكر. أما أكثر المخطوطات والبحوث والدراسات، بل جميع ما كنت أحتفظ به، من كتبي وكتب غيري، فقد أضرمت فيه النار استجلابا لراحة نفسي.
جال الوكيل العام ببصره في وجوه الرجال، يستطلع ذهولهم، وخاطبني:
ـ أما زلت تذكر من أهديتهم كتبك؟
ـ واحدا واحدا، وفي مقدمتهم الوزير "أَبُو الفضل بن العميد"، ذلك أنه الوحيد الذي عوضني عن تلك الكتب، لكن مقايضته غير المتوقعة كانت من نوع غريب مؤثر، فاعل فيما حدث بعدئذ في مسير حياتي كلها. وإذا سمح المقام، فإني على استعداد لسرد تلك الواقعة التي لم أؤرخ لها ولا دونتها في أي كتاب.
ـ تفضل، إننا على استعداد لسماع هذه القصة.
نظرت بدوري إلى وجوه الرجال الصامتة، فرأيت وجه محمد شكري أكثرهم ذهولا وقلقاً، فقد كان ينظر إليّ كالمأخوذ، فبسملت وقلت:
ـ كل شيء ابتدأ في ذلك الصباح البغدادي الرائق، حين نَقَرَ باب منزلي رسول يحمل في يده كتاباً من "الوزير أبي الفضل بن العميد"، فتحت له الباب وتسلمت منه الكتاب، فرمقت سيدة تقف خلفه، لم أحفل بوجودها، إذ حسبتها زوجته أو إحدى بناته، فقد كانت كسائر النساء تحجب وجهها وجسدها بعباءة وخمار أسودين، لكنه قبل أن يهم بالانصراف، بادرني بقوله:
ـ إن سيدي الوزير، يهديك سيدتي "نهاوند"، وأشار إلى مرافقته.
لن أزعم أني لم أرتبك، فلم تكن العادة أن يُهدى رجل من عامة الناس امرأة أو جارية، لكنني أخفيت ارتباكي وتصرفت كما لو أن الأمر عادي، فدعوت المرأة إلى الدخول، وودّعت الرجل بعد أن حمَّلته شكري وامتناني إلى سيده الوزير، وأوصدت باب داري.
في داخل الدار، والمرأة تقف بجواري، ألقيت نظرة سريعة على كتاب الوزير، فوجدته يوصيني خيراً بـ "نهاوند"، ويهديني إياها جزاء ما أمتعته به من أمهات المؤلفات، لكن عبارة "أجمل محظياتي" الواردة في الكتاب استوقفتني، لتملأ رأسي بالتساؤل، ذلك أني أعلم أن المحظية في سلم الحريم، أعلاهُنَّ درجة، فهي لا تُشَرَّفُ بهذا اللقب إلا بعد أن يقع تفضيلها على جميع الجواري، لكنها ستكون لدي امرأة بدون ألقاب! قلت في نفسي.
والتفت إليها لأستنبط من الخبر حقيقة المعنى. في تلك اللحظة رمقتها وهي تضع خمارها فوق حاشية سجادتي الشيرازية، بعد أن خرجت من عباءتها إعلانا بدخولها في عصمتي ومتاعي، فأصابني الدُّوار من فرط المفاجأة إلى أن تماسكت حتى لا أقع على الأرض، ذلك أني وجدتها عفراء، فاتنة الحسن، ممشوقة القَوام، ناعمة البشرة كمرمر فارسي، بيضاء كعاج هندي، وبعينيها الواسعتين كحل طبيعي آسر، إنها نموذج جمال المحظيات في قصور الخلفاء.
يا إلهي، مجرد مؤلفين من بنات أفكاري، وكتاب الحيوان للجاحظ كنت قد نسخته بيدي، وبعض كتب أرسطو المترجمة من السريانية إلى العربية على يد صديقي أبي زكريا يحيى بن عدّي النصراني، وها أنا أجازى بامرأة مغلفة بالسحر حدّ الافتتان والدهشة.
حسناً فعلت بإهدائي الوزير "أبي الفضل" تلك الكتب، وإلا ما كنت لأقف شاهداً على ما تحدثه المرأة في أحوال الرجل.
توقفت عن الكلام متأملا تلك الأيام، فضحك محمد شكري، وطلب مني أن أستمر في حديثي، وابتسم الوكيل العام وهو يشير عليَّ بيده أن أواصل سرد قصتي، فاستأنفت القول:
ـ ظلت "نهاوند" منتصبة بجواري نخلة باسقة، ومن انشراح محياها عرفت أنها سعيدة بقدرها، أنا أيضا بقيت مأخوذاً، لكنني نزعت عقالي من فوق رأسي، وألقيت به فوق البساط الفارسي نفسه، وصرت دون إرادتي أتلمس شاربيّ وأفتلهما بأصابع يدي، والنشوة تشتعل في فؤادي، فكلنا محكوم بإرادة الله ومشيئته، أليس القدر هو الذي سخّرها مملوكة لي، وسخّرني مالكاً لها؟ تلك مشيئة الله.

(7)

ـ كم مدة بقيت مع "نهاوند"؟
 سألني محمد شكري.
ـ ثلاث سنوات هي كل ما تناسلته أيامي مع "نهاوند"، وقبلها لاشيء يستحق نبش تفاصيله. ثلاث سنوات تغير خلالها طبعي وديدني، حتى شيطان ترسّلي انقلبت أحواله، أضحى يكشف لي عن مكمن المكارم والشجاعة بعد أن كان يفضح لي اللؤم والجبن، يرشدني إلى المحسن لأمدحه عوض أن يدلني على المسيء لأذمه.
تلكم حقائق مبهرة. فقبل "نهاوند"، كان طبعي أن أتتبع نقائص الناس وأن أحفر عنها، لدرجة أني كنت قد بلغت الذروة في الذَّمِّ والهجاء، حتى زاحم ترسلي مكانة الهجاء في شعر "جرير" و "الفرزدق". لكن بمجيء "نهاوند" صارت أيامي رائقة، لتصير معها نفسي تحس بالطلاوة في كل شيء. تلك خاصية العشق، فهو قادر على تحويل مصائرنا من طريق النار إلى طريق النور، فمن لا ينعم بالنور في الأرض سوف لن ينعم به في السماء.
هكذا صرت أرى الأشياء أنا الكهل النازل من الظهيرة، وهي الحسناء الربيعية القادمة من الضحى، وتمنيت لو تمدني بولد ذكر أصقل عقله بما حباني به الله من علم ومعرفة، فأسعدَها أن يكون لي معها نسل، لكن مولانا "أبا الفتح وريث والده أبي الفضل بن العميد"، أجهض حلمنا حين استعادها إليه نكاية فيَّ وعقابا بي على كتابي "مثالب الوزيرين" الذي فضحت فيه والده.
بعد رحيلها أظلمت الدنيا من حولي، فصرت كمن ضل طريقه، ولم أعد أطيق البقاء في المشرق، أضرمت النار في مؤلفاتي جميعها، وقررت الرحيل بعيدا، دون أن أحدد وجهة معينة، إذ ازدحمت في رأسي فارس مع الهند مع السند، وحين حضرتني الأندلس، أمسكت بها، وألغيت ما عداها، وأخفيت قراري عن جميع بني البشر، إلا عن نهاوند، التي حين علمت بعزمي على الهجرة إلى الأندلس، سرّبت لي مع وصيفتها خبراً، مفاده أنها ستظل في انتظاري إلى أن أعود ويقضي الله أمراً كان مفعولا.
في يوم آخر، ومع الوصيفة ذاتها، أبلغتني أجمل خبر تلقيته في حياتي، مُفَادُهُ أنها أفلحت في الانضمام إلى حريم أحد التجار من معارفها، وسترافقهن ضمن قافلة تتأهب للسفر إلى غرناطة، طالبة أن أظل كاتماً سر سفري.
من فرط سعادتي لم أنم تلك الليلة، لكن قبل أن تغادرني الوصيفة، حمّلتها كتاباً موجزاً، مبهما لمن قد يصادفه سواها، من غير أن أشير فيه إلى مرسله، ولا إلى متلقيه، قلت فيه بالحرف الواحد: "كل صباح يوم جمعة، عند مدخل جنة العريف بالمدينة المقصودة، إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولا".
كنت على يقين كامل، من أنها بفطنتها وذكائها ستعرف أن موعد لقائنا سيكون في صباح يوم جمعة عند مدخل حدائق جنة العريف في غرناطة، ففي هذا الوقت، ينشغل الناس بالاغتسال وارتداء الحلل النظيفة، استعداداً لصلاة الجمعة، كما أن النسوة في هذا الوقت يتبادلن الزيارة مما يتيح لنا التردد كل صباح يوم جمعة على جنة العريف إلى أن نلتقي.
ـ جميل، رائع.
صاح محمد شكري وأضاف:
كيف تم لقاؤكما في غرناطة؟
ـ لم نتقابل، إذ رأيت الدرب دوني، فقد ألقي القبض عليّ في مدينة "المُنَقّب" الساحلية، قبل أن أبلغ غرناطة، ولعل "نهاوند" قد وصلت إليها قبلي، ولربما هي الآن تتردد كل صباح على حدائق جنة العريف منتظرة قدومي.
ـ تقول إنها تتردد الآن على جنة العريف. أَتعلم أن الآن هذه قد مرّ عليها عشرة قرون؟
علق شكري وسألني، لكنني لم أجبه، فعاد يسألني من جديد:
ـ أكتبت شيئاً عن سنواتك الثلاث مع "نهاوند"؟
ـ سبق وأن قلت بأنني لم أدون شيئا عنها، إنني فوق مرتبة الكتابة عن النساء، ذلك أن الشعر وحده في اعتقادي، دون الترسل، ما يُنظم عن المرأة، لكن الحديث عنها في المجالس الرجالية الخاصة، لا يضر بمقام الفقهاء، أو ينال من هيبتهم.
ـ وهل نظمت فيها شعرا؟
سأل محمد شكري في عجلة من أمره.
صمت الجميع وكأنهم تضامنوا مع سؤاله، فاعتدلت في مقعدي، ورفعت رأسي إلى سقف المكتب، باحثاً عن مقاطع تناسب المقام، وأنشدتهم مما أحفظه عن أحد شعراء قصر كتامة:
آهٍ مما أضرَّ بي من غرامي
واشتياقي ولوعتي وغليلي
سادتي هل إلى الوصالِ سبيلٌ
إنّني لم أجدْ له من سبيلِ
فارحموا مَنْ شكا لغير رحيمٍ
كم له في ذوي الهوى من قتيلِ
ناله عِزُّكُم وذَلَّ لديكم
فاعجبوا منه للعزيز الذليلِ
وبشوقي بعثتُ قلبي رسولا
فارفقوا لا يُحلُّ قتل الرسولِ
حرك الوكيل العام رأسه مبتسماً، وخاطبني:
ـ لنَِعُدْ إلى الموضوع، أين اختفت الألف عام وأنت مازلت هو أنت؟
ـ أعترف يا سيدي بأنني محاصر بهذه الواقعة التي تكاد تتلف عقلي، والتي حثتني أكثر من مرة على الانتحار، ولولا إيماني بالله ما كنت لأتقي شر نفسي الأمّارة بالسوء، "ومن يَتَّقِ الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب"، صدق الله العظيم.
وضعت رأسي بين راحتي يدي، وطفقت أفكر باحثاً عن الحلقة المفقودة في حياتي، تلك التي كان للعرّاف "ابراهيم السوسي" يَدٌ فيها دون شك، لكنني شخصياً لا أومن بالسحر.
لكن الوكيل العام مزق حبل تفكيري حين عاد لسؤاله:
ـ أين تظنّها اختفت الألف عام؟ ماذا حدث لك في إسبانيا؟ أتتذكر واقعة معينة لها صلة بهذا الموضوع؟
ـ نعم أتذكر.
قلت، وخفضت رأسي مفكراً، متذكراً تفاصيل ما حدث في العدوة الأندلسية، فأسرع الوكيل العام يحثُّني بأسلوب لبق على الحديث:
ـ تكلم، اسْرُدْ كل ما تتذكره من أيامك في اسبانيا، منذ أن ركبت البحر من الساحل المغربي إلى أن ألقي عليك القبض هناك، فلنا متسع من الوقت لسماع كل ما تجود به ذاكرتك، تفضل، توكل على الله.
ـ حين وَطِئَتْ أقدامنا أرض الأندلس في بلدة "طريف"، وكنت ضمن القافلة التي غادرت فاساً، استأجرنا ثلاثة فرسان بخيولهم وأسلحتهم، ليكونوا حراساً ودليلا لنا إلى غاية بلدة "المُنَقَّب"، التي قيل لنا إنها تبعد مسافة ستة أيام، وبها قد نستعين بدليل آخر يرافقنا إلى "غرناطة" التي لا تبعد بسوى مسافة يوم واحد.
كان الصباح بارداً، فسارت قافلتنا في حفظ الله ورعايته، دون أن نتعرض لمكاره أو مخاطر، إلا ما كان من وعورة بعض الطرق والممرات والمسالك الجبلية الصاعدة النازلة المشرفة على البحر أحيانا، والقاصية عنه أحياناً أخرى.
مررنا بقرى ومداشر ووديان وأنهار، تثير الإعجاب والدهشة، لدرجة أن بعض المشاهد أيقظت بفؤادي مشاعر كانت آسنة، حتى أنني نظمت عنها شعراً.
نعم، أقرّ بجمال منتزهات فاس وعجائب ساحل بحر الظلمات، لكنَّ لهذه الأندلسية فرادة وطعما آخر، مذاق شراب ساحر يسكر بمجرد وقوع البصر عليه، كان البحر الرابض دوماً بين تلك الجبال والهضاب والسفوح، يزيد الأنفس تجليا والطبيعة إجلالا، حتى المطر المتساقط فوق رؤوسنا، بدت لنا زخّاته دموع فرح سماوي نزلت لتخفف عنا محن الطريق ونوائبه.
ربما اندثرت اليوم تلك المدن والمداشر والوديان والأنهار، أو هي قد لا توجد إلاَّ في بطون الكتب، لكنها بالنسبة لزماني الخاص بي مازالت لدي طلية طرية، إذ لم يمر على رحلتي هذه سوى بضعة أيام، يالفظاعة القدر!
سكت عن الكلام بعد أن انتبهت إلى أنني خضت في حديث قد لا يروق الوكيل العام، وقبل أن أبادره بتقديم عذري، قاطعني مبتسما.
ـ أرجو أن تستمر في حديثك بالكيفية التي تريحك، إننا جميعا نستمتع بجميع تفاصيل رحلتك، إنك أيها الشيخ متحدث باهر ماهر، تعرف كيف تستحوذ على العقول، استمر لا تتوقف؟
شكرته وأضفت:
استقبلتنا مدينة "المُنَقَّب" بمساءٍ شاتٍ، عاصفٍ بالرياح والزوابع والتعب والإرهاق، وجدنا الظلام قد سبقنا، ناشراً رداءَهُ الأسود عليها، فحجب عنّا كل الكائنات من دور وبحر وهضاب، حتى الأرض من تحت حوافر دوابنا تحوّلت إلى سَوَاقٍ جارية بسيول المياه المنسابة من أعالي الجبال، فاستحال علينا دق أوتاد خيامنا فوق ذلك الزمهرير المتدفق المصم للآذان، مثلما استحال على كل واحد منا البقاء فوق ظهر دابته، والماء فوق رأسه وتحت أقدام مركوبه مِكرٍّ مِفرٍّ مُتدفق.
عَدَّ بعضنا هذا الاستقبال نذير شؤم، لكنني شخصياً كنت قد اعتدت أن لا أتوجس شراً إلاَّ من بني آدم، وليس من غضب الطبيعة.
ظللنا وقتاً من الزمن نتحسر على حالنا كالأيتام، إلى أن اهتدينا إلى مغارات صغيرة تزدان بها الجبال، أرشدنا إليها حراسنا الفرسان، فقيّدنا خيولنا وبغالنا وحميرنا تحت وابل مطرٍ عاصف في ظلام سميك، كأنه شيء مادي قابل للقطع بسيف أو خنجر، لدرجة أن كلابنا خشيته، فلحقت بنا إلى المغارات متخلية عن حراسة الدواب.
كنت آخر من اهتدى إلى مغارة نائية منعزلة، دخلتها والبرد موشك على تجميد مفاصلي وقبض أنفاسي، فاستبدلت بثيابي المكسوة بالماء قفطاناً فاسيا لا يرتديه إلا أكابر القوم عند استقبال ضيوفهم، وليس أثناء نومهم، كنت أعرف هذا، لكنني قلت في نفسي، إن للضرورة أحكاماً.
وفاتني أن أقول، إنني قبل أن أرتدي القفطان الفاسي، كنت قد لبست تكة عراقية وفوقها غلالة عراقية أيضاً، وبالرغم من ذلك ظلت أوصالي تصطكُّ من هجمة البرد، فنهضت وأضفت فوق القفطان، بَقيراً وشملة عراقيين ثم جلباباً فاسياً صوفيّاً بقب كبير غطّيتُ به رأسي بعد أن دثرته بكوفية وطرحة عراقيتين، فاكتنفني دفء معقول، لعله كان السبب في أني ما إن توسدت سرج حصاني ووضعت خنجري بجانبي حتى داهمني سبات عميق، وكأنه حسام مهنّد أَهْوَتْ به يد مجهولة على مفرق رأسي، فأوقفت تشغيله في الحال.
وحين استعادتني الحياة، وجدت الظلام ما زال مخيماً على المغارة، ففزعت، إذ حسبت نفسي قد صحوت قبل طلوع النهار، مستبعداً أن أكون قد نمت ليلتي ويوماً كاملاً دون أن يتولى رفاقي إيقاظي. لكن الشك لعب برأسي، فمادامت المغارة نائية فلِمَ لا يكون مرافقيَّ قد ضلوا الطريق إليها فتركوني نائماً.
قمت أبحث عن المنفذ الذي تسللت منه، فزكمت أنفي رائحة رطوبة عطنة. وبعد طواف وتطواف، تأكد لي أن المغارة مغلقة، ولاشيء بها يسرب الضوء أو الهواء، أو يتيح لي الخروج منها، ذُعرت، فأمسكت بخنجري، وطفقت أقرع به الجدار وأحدث ضوضاء وصراخاً عسى أن يُقَيِّض الله لي انتباه أحد مرافقيَّ، فيسرع لنجدتي.
قرعت وقرعت وقرعت، وصرخت وصرخت وصرخت، فما انتبه أحد إلى قرعي أو سمع صراخي، فاستبدلت بخنجري سرج حصاني، نزعت عنه الركاب وصرت أقرع به ذا الجدار وذا الجدار، محدثا دوياً يخترق سمع الأصم، كنت لا أتوقف إلا بعد أن يكل مَتْنِي، فأعيد مواصلة الدق والقرع والصراخ، وأعيد وأعيد، إلى أن صار يقيني بأن ذلك الجحر المسكون بالظلام، سيكون الشاهد الوحيد على نهاية حياتي، وأن قلبي الذي تتسارع دقاته، مثلما تتسارع دقات الطبل إعلانا لخاتمة وصلة الغناء، سيتوقف بعد لحظات لتختتم وصلة وجودي.
"إنَّ عِلمَنا لو أحاط بموتنا متى سيكون، لكان ذلك مفسدة لنا، ومحنة شديدة علينا، فالجهل بالشيء راحة، والعلم بالشيء تعب".
سبق أن قلت هذا متفلسفا متخيلا، وها أنذا أعيشه حقيقة وواقعا،ً ألمس بجميع حواسي مفسدتي ومحنتي ونهاية حياتي.
أفكار مثل هذه وحدها، كانت تطرق رأسي، فشعرت بالوهن، ولم تعد قدماي تتحملان ثقل جسدي، ولا عادت يدي تقوى على الإمساك بالركاب لقرع الجدار، وبعد أن سقطت على الأرض مستسلماً لقدري ناطقاً بشهادتي، دوّى في أذني صدى لطرق من الخارج، فأرخيت سمعي لأتبين الأمر بإحساس من يستمع إلى منطوق حكم بإقامة الحد عليه في جناية كبرى بالإعدام أو البراءة.
تأكد لي الطرق من الخارج بوضوح لا لبس فيه، فأحسست بعينيَّ تغرورقان بالدمع إعلانا عن ولادتي من جديد،. أنا إذن رجل حي يرزق، هناك سعي حثيث في الخارج لإنقاذي، كنت أعرف أن شهامة رفاقي المغاربة لن تجعلهم يتخلون عني في مغارة مهجورة، ويحلو لهم سفرهم إلى غرناطة. ما كانت شيم مريدي سُنَّةِ مالكٍ خَلْعَ أصحابهم، وقد عاشرتُهم وخبرتُهم زمنا تضيع أيامه في العد.
لم أدر كيف غشيتني عافيتي، واشتدّ بأسي، لأجد نفسي وقد انتصبت واقفاً على قدمي، فتناولت ركاب سرجي وسط ظلام القبو، وصرت أقرع الجدار بكل ما أُوتِيتُ من قوة مستعادة خارقة، وأصرخ بذات القوة نفسها:
ـ أنا "أبو حيان التوحيدي"، أغيثوني، أغيثوني!!
ازداد هدير المعاول المنبعث من الخارج حقيقة قائمة كاسمي وصراخي، كشمس الهجيرة وبغداد وفاس، وبقدر ما كانت دقات الحفر تقترب، كنت أقترب من الحياة.
لم أدر إن كان الجدار قد تحطم، أم إن أولئك الرجال انبعثوا معي بداخل المغارة، ذلك أن نوراً كلمح البرق كان قد أعمى عيني فلم أتبيّن منهم إلا أصواتاً ترطن بكلام غريب لم تسمعه أذني من قبل، بعد ذلك شعرت بِأَيْدٍ تمسك بي وتقتادني في مجاهل لم أتبيّنها، إلى أن استعدت بصري بداخل مكتب شبيه بمكتبكم هذا.
بعد أن سقوني ماءً ولبناً، وألقموني رغيفاً حدَّ الارتواء والشبع، بدأت أسئلتهم تتقاذف من حولي، مرّة عن كيفية وجودي بذلك المكان، ومرّة أخرى عن الطريق الذي سلكته إلى الأندلس، ومرّة عن أسماء وأوصاف رفاقي، كان أحدهم يتحدث بعربية ما، هو الذي تولى وساطة الترجمة، فشرح لي أَنَّهم لم يصدقوا كلمة واحدة من كل ما أخبرتهم به، ولا هو نفسه صدّق ذلك، وذكر لي أَنَّ بناء ضخماً كان مقاماً بمكان وجود المغارة منذ سنين بعيدة، لا يضبطها سوى المختصين في علم الآثار الإسلامي، وأنه يستحيل على أي كان من بني آدم ولوج تلك المغارة والبقاء بها حيا،ً فعدّني الجميع مجنونا وقال أحدهم عني أنّي مجرد شبح.

(8)

ذلك ما حدث بالأندلس، لكن قبل ذلك وأنا في فاس، كنت قد التقيت بعرّاف مقتدر يدعى "إبراهيم السوسي"، فأعدّ لي رقية، كما نسميها في العراق، أو لنقل حرزاً كما تسمونه في المغرب، وأخبرني بأنها ستحفظ بدني مادمت بعيدا عن بغداد، فهل لهذا السحر علاقة ببقائي على قيد الحياة كل هذه السنين؟ هل أفلح ذلك الساحر إلى هذه الدرجة؟ لعله كان السبب في بقائي نائماً بتلك المغارة مدة عشرة قرون، هذا ما أرتاب فيه، غير أنّ ما أعرفه عن نفسي، هو أنني أبو حيان التوحيدي، وأعرف خلاني ومعارفي وتاريخ وآداب وفلسفة المسلمين قديمها وحديثها إلى زماني الذي عشته، والمتوقف في عام 400 هجرية. أما ما جاء بعده فهو لدي في عداد الغيب. "إن الله إذا أراد نجاة عبده تولاه بلطف من عنده". صدق الله العظيم.
ظلت عيونهم جاحظة مشرئبّة نحوي في خشوع وذهول، لكن الشاب "محند أشهبار" الكاتب، وفي غفلة مني ارتمى عليَّ يعانقني، فترك بخدّي شيئاً لزجاً ساخناً، عرفت أنها دموعه، وأن ما فعله جاء تعبيراً عن تصديقه لروايتي.
أجل، صدّق أصغر الرجال أنّني أبو حيان التوحيدي القادم من دهور ولت وانقضت، وإلا ما كان ليبلل خدّي بما فاضت به عيناه دون إرادته.
أراحني ما فعله الشاب، خفف عن كاهلي بعض ثقل همومي، دلني على أن منطق ووعي الرجال لم يطرأ عليه سوى تغيير طفيف، وأن الأحاسيس ما زالت توازي الأدلة العقليه، فمن يستعص عليه الاحتكام إلى البرهان العقلي يسخرْ أحاسيسه لتكون دليله.
واكتنفني شعور قوي بأن دورهم آت لاريب فيه، وأن الأمر يحتاج إلى بعض الوقت كي تلين مداركهم، فما دام الطرق مشتداً، فإن عقولهم لن تنفك تنفتح ليتقبلوا هذا الواقع، واقعي هذا الأسطوري المحير، وهو واقع والله يستعصى هضمه ويصعب تصديقه، فأنا نفسي أكاد لا أتقبله، بالرغم من أني صاحب الشأن، القادم إليهم من حقبة زمنية أعرفها ويجهلونها، الشاهد الأوحد عليها، على أيامي تلك البائدة التي أنا وحدي الأقدر على الإحاطة بها، وأيامي هذه القليلة الحاضرة التي لا أعرف منها سوى هذه الوجوه الآدمية المحيطة بشخصي.
ظل ذهني منشغلا في حواره الباطني إلى أن نطق الوكيل العام للملك، يخاطبني:
ـ إنني يا سيدي أود لو أصدق كل كلمة تصدر عنك، فإذا كنت أنت حقا الشيخ "أبا حيان التوحيدي" كما يدلني قلبي، فسأكون من الشاكرين له عز وجل، إذ قيض لي أن أتحدث إلى شخصية فريدة قادمة من زمن بعيد، شخصية في علو قدرك وعلمك ومكانتك الرفيعة في التاريخ العربي الإسلامي.
توقف يفكر وقد غشيت محياه سحابة حزن، وبصوت أجش خاطبني وكيل الملك:
ـ إنني أحس بقشعريرة تسري في بدني، ذلك أني من فرط الذهول أكاد لا أصدق ما أسمع وأشاهد، يا إلهي، كيف أتولى استنطاق العالم "أبي حيان التوحيدي" القادم من بطن التاريخ، وآمره أن يقف دون حركة، ويجعل يديه مغلولة خلفه وكأنه مجرم آثم؟ إنني أعتذر يا سيدي، ألتمس منك المغفرة!
وتدخل الوكيل العام:
ـ والله ما عدت أقوى على الاستيعاب، وأظن أني في حاجة إلى بعض الوقت.
توقف قليلا وكأنه شارد الذهن، ثم أضاف:
ـ بالنظر إلى مهمتي الجسيمة رئيساً للسلطة على هذا الإقليم، فإن مسؤوليتي تجبرني على التدقيق والتمحيص، خاصة وأنا أمام واقعة غريبة وفريدة، لم يسبق لها مثيل في تاريخ القضاء.
وأدار وجهه نحو وكيل الملك يخصه بخطابه:
هذا المحضر يجب أن يحفظ وبطريقة قانونية، والتعليل المناسب هو التقادم.
والتفت نحوي مبتسماً:
ـ إنها إجراءات عادية لقبر الملف، ذلك أن هجرتك إلى إسبانيا قد تمت في تاريخ قديم بعيد، والقانون لا يسري إلا على الجرائم المرتكبة في ظله، أي لا يطبق بأثر رجعي، وهي قاعدة مستمدة من القرآن الكريم: "وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا".
ما إن توقف الوكيل العام حتى صرخ محمد شكري:
ـ هنيئا سيدي أبا حيان.
فتبعه هتاف بالترحيب.
لكنني بالرغم من صواب القرار، والفرح الذي عم فطفا على وجوه الحاضرين، ظل ذهني منشغلا بقضيتي الأساسية، تلك التي طغت على كل ما عداها، فبعد انحداري نحو خريف عمري، أجد نفسي أبدأ المسير لأتعلم كيف أواجه عالما جديداً غريباً لم ألفه ولم يألفني، فحتى قوانينه التي يتحجج الوكيل العام بقوله إنها مستمدة من الإسلام، بدت لي صادمة، إذ كيف بالله يعاقبون على الهجرة، متى كان المسلم في بلاد الإسلام يُعَاقَبُ على الهجرة سواء أكانت سرية أم علانية؟. ألم يهاجر الرسول سرّاً من مكة إلى المدينة؟ ألم يَدْعُ الله في كتابه إلى الهجرة في أكثر من آية؟ "ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مُرَاغماً كثيراً وسعة". "ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجرُه على الله، وكان الله غفوراً رحيماً".
أمر يستعصى على الفهم، ما علمت بوجود دين أو مذهب يقيم الحد على المهاجر السرّي، ما أعلمه يقينا هو أن الله سبحانه وتعالى في قضية الهجرة، رفع من شأن بني آدم وسوّاه برسوله حين قال: "لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة". إن للمهاجر في الإسلام مرتبة أعلى من القابع الذي لا يهاجر، فنيته لا تتعدى طلب العلم أو البحث عن القوت والعيش أو الفرار من الضيم والذل. فهل في هذا ما يخالف كتاب الله وسنة رسوله.
كان الوكيل العام يملي على الكاتب محند أشهبار تعليل نجاتي من قسوة العقاب على جريمة هجرتي السرية البشعة في نظرهم. وفكرت في أن أناقش الرجل في الموضوع، وأن أعلن له بأن قوانينهم تخالف الشرع، لكنني خفت أن تغضبه أفكاري وهو رئيس السلطة، فينقلب لينه إلى ما لا تحمد عقباه. فالحاكم عادة ما يضيق صدره تجاه محكومه إن عارضه، مثلما يتسع صدره أمام من هو أعلى سلطة منه حتى لو أهانه، تلكم طبائع الحكام لو يعلمون! ثم إني أجهل قوانين هؤلاء المغاربة، فقد عرفتها نابعة من الإسلام، لكن ذلك مرَّ عليه أكثر من ألف عام، وجائز أن تكون قد انقلبت إلى غير منبع الإسلام ومذهب مالك، كأن تكون بيزنطية أو مجوسية، أو قد يكون مذهب المدعو حاميم المتنبي، البربري الذي ظهر في غمارة قد انتشر، فساد ربوع المغرب، إذ لا يعقل أن تتحوّل الهجرة في بلد يظله الإسلام، إلى جريمة يقام عليها الحد.
كانت هذه الخواطر تموج مسرعة في ذهني، فسكتُّ عن الكلام وأنا أحدج الحيرة المرسومة على وجوههم جميعا تتضاعف، لكن خواطر أخرى مضادة اقتحمتني لتثنيني عمّا اعتبرته حدّة في لهجتي، إذ فكرت في أني ما دمت سأصدق القول في موقفي من الهجرة، وهو موقف عقلاني سليم، يساير الشرع، فليفعلوا بي ما شاءوا، دون أن أغير من منطقي وصراحتي، حتى لو كان لهم منطق مخالف، فالصدق يحمل في كنهه براهينه، ويكشف عن قوة صاحبه فيمنحه التقدير والاحترام والنفوذ، فأنا "أبوحيان التوحيدي" المجبول على قول الحق.
وقبل أن أتحدث إليهم بالصراحة التي اعتزمتها، قاطعني الوكيل العام في أدب جم:
ـ سيدي أباحيان المحترم، لتعدّ نفسك من هذه اللحظة، ضيفاً مكرّماً مشرّفاً عزيزاً وغاليا، ستنتقل الآن إلى الإقامة في أفخم فندق في المدينة، هذه المدينة التي شرّفتها بقدومك قبل أن تغادرها إلى الأندلس، وعدت لتشرفها من جديد، وهي المدينة نفسها التي غادرها وليُّها طارق بن زياد، لينشر كتاب الله في الربع الإسباني كله.
وتدخل السيد محمد شكري مخاطبا الوكيل العام للملك:
ـ سيدي، إذا سمحتم، فإنني أدعو الشيخ أبا حيان للإقامة في شقتي، إلا إذا كان لكم رأيٌ مخالفٌ!
أجابه الوكيل العام:
ـ إن الشيخ أبا حيان سيحل ضيفاً على وزارة العدل، وليس على الخواص، فالرجل في حاجة إلى راحة كاملة.
وتدخل وكيل الملك مخاطباً رئيسه الوكيل العام:
ـ هل تأذن لي يا سيدي أن أحجز له جناحاً في فندق "المنزه"؟
ـ لا أبدا،ً أنا أفكر في إقامة "السراب" فهو فندق آمن، ثم هو مطل على المحيط الأطلسي، بحر الظلمات كما سماه أبو حيان واستهوته مروجه، فهناك سيكون في منآى عن كل مضايقة، يجب أن يخصص له أجمل جناح مشرف على البحر، وأن تفرد له حراسة خاصة، إنني سأصحبه بنفسي إلى الفندق، بعد أن أتصل بالسيد وزير العدل لأطلعه على هذا الحدث السعيد.
صمت قليلا وأضاف:
ـ آمركم جميعاً بأن يدفن هذا السرّ في مكتبنا هذا، وأن لا يتسرب إلى علم القضاة أو المحامين أو غيرهم، فالشيخ أبو حيان يجب أن يستريح، وكل ما يتعلق بشخصه من طلبات وغيرها يجب أن أعلم به حفظاً لسلامته وراحته، فأنا المسؤول الوحيد عنه إلى حدّ هذه الساعة!
وتدخل محمد شكري موجها كلامه إلى الوكيل العام:
ـ رأيك يا سيدي عين الصواب، وحبذا لو أذنت لي أن أبسط لك بعض ما تناقلته الأخبار عن حياة أبي حيان.
حرك الوكيل العام رأسه موافقاً، دون أن يقوى على إخفاء امتعاض لاح على محياه، فأضاف شكري:
ـ أبو حيان، لا يحب الأضواء ولا تستهويه حياة البذخ، وهو من الأدباء القلائل الذين كتبوا التاريخ الباطني المسكوت عنه في بغداد، تماماً مثلما فعلت في مؤلفاتي "الخبز الحافي" و "السوق الداخلي" و "وجوه"، حيث أرّخت لحياة المهمشين والمنبوذين والحشاشين من ساكنة طنجة وتطوان والعرائش، ومثلما كتب مؤلفا كاملا ذم فيه صديقيه الوزيرين ابن العميد والصاحب بن عباد، انتقاماً منهما ورداً على إساءتهما له، عرَّضت أنا كذلك بالشاعر محمود درويش رداَ على إساءته إليَّ، بل أيضا ألَّفتُ كتاباً مستقلا خصصته للهجوم على الكاتب الأمريكي بول بولز، الذي أقام طويلا في طنجة، فضحت فيه نواياه الاستعمارية السيئة، إذ كان يحب المغرب دون المغاربة.
هكذا كانت حياة أبي حيان، شبيهة بحياتي، فكلانا لم يتزوج وكلانا عاش منبوذاً من قِبَلِ أقربائه وبني قومه، كما نشترك في خصوصية حمل هموم المسحوقين والمهمشين والتعبير عنها، كما نلتقي في كون الاعتراف بقيمتنا الأدبية جاء من لدن الآخر الغرب الأجنبي، وليس من لدن بني قومنا.
وقاطعه الوكيل العام:
ـ إلى أين تريد الوصول بالضبط؟
ـ أرغب في مجالسته بحكم ما نشترك فيه معاً.
ـ أيها السيد محمد شكري، شتان بين ما تفكر فيه وما هو واقع الحال. إن الشيخ حلَّ ضيفاً على ساكنة الأرض قاطبة، جاءنا معطراً بعبق التاريخ الإسلامي العربي في طراوته التي كان عليها منذ عشرة قرون، إن انبعاثه حياً بيننا بعد هذه المسافة الزمنية الطويلة، لظاهرة فريدة محيرة للألباب، أما علمه وفكره وفلسفته، فتلك أشياء ثانوية تأتي في مقام آخر، وقد نطلع عليها في كتبه أو على لسانه مباشرة، وليس على لسانك أنت.
قبل أن ينتهي الوكيل العام من حديثه، استسمحته في الرد على محمد شكري وقلت أخاطبهم جميعاً:
ـ لم يسبق لي البتة أن سجّلت التاريخ الجواني المسكوت عنه في بغداد، ولا في غير بغداد، ولا عاشرت المنبوذين والمهمشين، أو عبّرت عن همومهم في أي مؤلف من مولفاتي، ويكفي على سبيل المثال العودة إلى كتابي "المقابسات" الموجود أمام السيد الوكيل العام.
وأشرت بيدي إلى الكتاب وأنا أقول:
ـ إن لم يكن قد طَالَهُ التزوير، ففي هذا المؤلف مثلا، قمت ببسط آرائي الخاصة لأطلع الناس على القضايا الفكرية التي تستغرق اهتمام المثقفين في بغداد، وهي قضايا تتعلق بالمسائل والأبحاث الفلسفية والمنطقية والاجتماعية والدينية، وتبرز صورة من التعاون بين مثقفين منتمين إلى ملل دينية مختلفة، مسلمين ونصارى ويهوداً وملاحدة ومجوساً، يتحاورون ويتقابسون العلم والمعرفة في جو من التسامح والود، أشرت إلى آرائهم وعقائدهم دون أن أهمل أسماءهم، وهم جميعاً شخصيات سامقة، فلاسفة ومناطقة، دون أن يوجد من بينهم جميعا منبوذٌ أو مهمشٌ واحدٌ.
وأنا أتحدث، رمقت وكيل الملك يمسك بكتاب "المقابسات" ويتصفحه، وكأنه يريد التأكد مما قلته، فاسترسلت في حديثي:
ـ أما عن صديقَيَّ الوزيرين ابن العميد والصاحب بن عباد رحمة الله عليهما، فقد أشرقت الشمس وغابت، وأشرقت وغابت مدة خمسين عاماً على هجومي عليهما، وهذا معناه أني كنت في طور الشباب الأرعن، لكن أيامنا ما انفكت أن عادت إلى صفائها الأول، بعد تلك الخصومة التي استغرقتنا عامين لا أكثر، فعدنا لنصير كما كنا، خمسة أصدقاء كأصابع اليد الواحدة، أنا وابن العميد وابن عباد والخوارزمي وبديع الزمان الهمذاني، تجدد صفاؤنا، فأصبحنا إذا لم نجتمع في قصر ابن عباد، اجتمعنا لدى ابن العميد في قصره بحي الكرخ على دجلة.
بعد أن أنهيت كلامي، وقف وكيل الملك وخطا نحوي، فصافحني وهو يكرر اعتذاره لي، بادلته التحية، ودعوته إلى الجلوس في مكانه.
في هذه اللحظة، انتصب الوكيل العام واقفاً وقال لنا:
ـ أيها السادة، أشكركم جميعاً، وأعلن عن إنهاء الجلسة.
فأسرع السيد محمد شكري يقول لي:
ـ سيدي أبا حيان، إني أتوق إلى مجالستك، فهل تأذن بزيارتي لك في فندقك؟
ـ ليس اليوم، وليكن بعد أن أنال قسطا من الراحة.
غادرت المحكمة في موكب الوكيل العام، وأنا أحس صداعاً في رأسي وتصدُّعاً في مفاصلي، فكرت في أني لو أملأ رئتي بهواء نقي فقد أستعيد بعض عافيتي، كما فكرت في حاجتي الماسة إلى العزلة، إلى أن أخلو إلى نفسي علَّني أقوى على التفكير في مصيبتي هذه الجديدة، فلم يعد لديَّ شكٌّ في أني فعلا قفزت على أكثر من عشرة قرون، يا له من واقع مرٍّ صادم! فبعد ليلة واحدة أستيقظ لأجد عشرة قرون قد وَلَّتْ! كل من قابلتهم يؤكدون هذه الحقيقة! لكن كيف لي أن أجعل عقلي يستوعبها؟ كيف لي أن أعزّي نفسي في وفاة "نهاوند"؟ وهل توفيت حقّاً؟ يا إلهي، لا أقوى على التفكير في ذلك، كانت مناي وملاذي الأخير، كانت إحدى طيات هجرتي بعد أن ضاق بي المشرق بافتقادها، ولعلني من أجلها بقيت على قيد الحياة. ترى ماذا كان مصيرها من بعدي؟ هل استعادها ورثة ابن العميد؟ هل منعوها من السفر إلى غرناطة؟ أم ترى سافرت فظلت تنتظرني كل يوم جمعة في حدائق جنة العريف؟ من أين لي أن أعلم بوقائع مرت عليها قرون! إن عظام الوزير متلاشية في التراب، وورثته كذلك. وخلاني في بغداد وفاس، ورفاقي في رحلة الأندلس، كلهم اليوم يرقدون عظاماً نخرة بعد أن طواهم الرّدى! من يدلني على ما حل بهم قيد حياتهم، وعلى بغداد العباسية، والأندلس الأموية، وعلى بيتي في الرُّصافة على دجلة، وبيت الوزير أبي الفتح بن العميد في الضفة الأخرى بحي الكرخ، وحفلات اللهو والسمر، والمحاورات الفكرية في بيت الوزيرين، كل شيء صار طعاماً لديدان القبور، بعد أن مضى بهم ركب الأيام، إلاّيَ، أنا الأوحد الأبقى من كل بشر تلك الحقبة الزمنية، كأنني إبليس من نار، وهم آدميون من تراب، ليتني قضيت في ذلك الزمن البائد، دون أن أتعرف هؤلاء القادمين من المستقبل، أو بالأحرى، الذين عدت إليهم من الماضي، ماذا يجمعني بهم غير الشكل البشري والشبه الآدمي، هل أنا قادر بعد هذا الانحدار في عمري على أن أتجانس معهم، وأنصهر في عاداتهم وحضارتهم؟ يستحيل! سأكون أضحوكة بينهم، دمية ناطقة تَسْتَدر الشفقة وتثير الذهول، إن الإنسان لا يستطيب العيش إلا في زمانه وثقافته ومحيطه.
تذكرت كيف كنت أدعو الناس في مجالسي إلى طرح وساوس الماضي، ومخاوف المستقبل، وعيش الحاضر فحسب، جلبا لاعتدال النفس. أنا القائل بهذا، لكن، هل أقوى اليوم على عيش الحاضر فحسب؟ وأي حاضر، أهذا الذي ابتليت به في طنجة أم هذا البغدادي المعشش في ذاكرتي بأناسه وأماكنه وروائحه؟ فكلاهما لدي حاضر، لا يجب أن يكون إلاّ حاضراً راهناً، وإن كان مُجزّأً إلى زمانين، تركت أحدهما في العراق منذ عشرة قرون، ولحقت بثانيهما في المغرب بعد عشرة قرون، أنا أعيش إذن الماضي والمستقبل في زمن يطلق عليه الحاضر، وعليّ أن أسميه بالحاضر، وأن أعيشه بتوافق بين الظاهر والباطن، لكن التوافق لا يكتمل إلا إذا أوتي صاحبه نور العقل وقبس النفس، فكيف لي بجلب نور العقل وقبس النفس أمام ما أنا عليه من حيرة وقلق وتمزق داخلي وغيابي حتى وأنا في حضوري؟
يا إلهي، عليَّ أن أعلن عجزي عن استيعاب حضارتهم، أن أجهر به أمامهم جميعاً، فالتظاهر بالعجز في موضعه، كالاستطالة بالقدرة في موضعها، أنا القائل بهذا في حاضري البغدادي، وأؤكده بعد عشرة قرون في حاضري هذا الطنجي المغربي، إنما ليس ترفاً فكريّاً، كحالي في بغداد، بل كواقع حسي ملموس، كحالي اليوم في طنجة، فشتان ما بين الكلام عن قبض الجمر وقبضه حقيقة، إذن أنا عاجز، عاجز عن اتساقي وتجانسي معهم، وكذلك مع نفسي، أحس بأني أقرب إلى الشبح مني إلى بني الإنسان، ليتهم يدركون هذا، من أين لهم أن يدركوه، وهم يقولون عن انبعاثي إنَّه خبر سعيد، إنه ضيف حلَّ على ساكنة الأرض قاطبة.
انتشلني الوكيل العام وأنا غارق في بحر همّي، وقال لي:
ـ سيدي الشيخ أبا حيان، إن هذه العربة التي نركبها تسمى "سيارة" وهي اختراع عمره حوالى مائتي عام، تجري بسرعة تفوق ركض الحصان عشرات أضعاف المرات، فمسافة الطريق التي يسيرها الإنسان على ظهر الدابة أو مشيا على قدميه مدة أسبوع كامل، تجتازها السيارة في ساعات، أقصد في أقل من يوم واحد.
سكت قليلا وسألني:
ـ كيف كنتم تقيسون الوقت في العراق؟ هل تقيسونه بالساعة؟
أجبته:
ـ إن قياس الوقت على الأرض اختراع عراقي منذ العصر البابلي. وحضرتني سورة يونس في القرآن الكريم فرفعت صوتي مرتّلاً:
ـ "هو الذي جعل الشمس ضياءً، والقمر نوراً، وقدره منازل، لتعلموا عدد السنين والحساب، ما خلق الله ذلك إلا بالحق، يفصل الآيات لقوم يعلمون، إن في اختلاف الليل والنهار، وما خلق الله في السموات والأرض، لآيات لقوم يتقون" صدق الله العظيم.
ـ آسف سيدي، نسيت أني أتحدث إلى فقيه عالم.
ـ أستغفر الله.
أجبته.
أحسست بإنهاك غشيني وأنا أعتمر مقعدي في الجانب الخلفي من السيارة، ولذلك لم أحفل بما كان يشير إليه الوكيل العام من معالم المدينة، أو أبنيتها المرتفعة في السماء، فالتفاتي إلى ما يوجد عن يميني أو عن يساري، يصيبني بالدوار، لذا ظل بصري منخفضا، أو مصوبا إلى الطريق أمامي، لكنني حين أخبرتهما بحالتي هذه، أوقف الوكيل العام السيارة في لمح البصر، فرستْ وكأنها استجابت لإرادته الخفية، ودعاني إلى الجلوس بجانبه، بينما انتقل وكيل الملك إلى الخلف، فعادت العربة تسير بنا في طريق ملتو مرصوص ناعم، شبيه بنهر آسن، وعلى جانبيه تدفقت أشجار قصيرة، واستقامت أخرى فارعة الطول، ما فتئت أن فسحت المجال لعشب بري أخضر غطى أديم الأرض على اليسار، وبحر أزرق شاسع امتد على اليمين، فنبهني وكيل الملك إلى أن أنعم النظر في الشعاع المتساقط على صفحة مياه البحر، ترسله الشمس المحتضرة، قبل تلاشيها بين أفق السماء والبحر.
وقال لي:
ـ إنه المحيط الأطلسي، بحر الظلمات كما كان يسمى قديماً.
فسألته عما يوجد خلف هذا البحر، إن كانت له نهاية، فأسرع الوكيل العام يجيبني:
ـ توجد قارة تسمى أمريكا، وقد اكتشفت منذ حوالَى خمسة قرون، أي في تاريخ مغادرة العرب للأندلس، بعد أن سقطت في يد النصارى.
تلقفت هذا الخبر وكأنه حجرٌ ألقي به فوق رأسي، وقاطعته دون أن أدعه يسترسل في مرده.
ـ تقول سقطت في يد النصارى! ألم تعد الأندلس عربية مسلمة؟
أجابني بمنتهى السكينة، وكأنه يخبرني بشروق الشمس أو مَغيبها، دون أن يدري أنه أوقد ناراً في رأسي وصدري:
ـ الأندلس ضاعت، تساقطت إمارة بعد إمارة، كان آخرها غرناطة.
ـ يا إلهي، أكاد أجن، لا أستوعب هذا الخبر، الأندلس تعود إلى العجم؟!
فتدخل وكيل الملك:
ـ إن الخبر ليس جديدا، فقد راحت الأندلس منذ خمسة قرون، ورحلت بعد سقوطها أجيال وأجيال، فمن ليس له اهتمامٌ بالتاريخ، لايعلم أن الأندلس كانت ذات يوم مسلمة عربية، فلماذا ياسيدي هذا الحزن؟
ـ إنكما لا تدركان وقع هذا الخبر الصاعق على نفسي، فقد كان يقيني أن بلاد الإسلام تتسع وإذا بها تنكمش.
سرحت مفكرا ثم أضفتُ:
ـ إن حكايتي مع الأندلس تعود إلى خمسين عاماً، إذا استثنينا العشرة قرون، فمنذ أطلعني صديقي الوزير الصاحب بن عباد على كتاب "العقد الفريد" لابن عبد ربه الأندلسي، وأنا لا يغمض لي جفن توقاً لملاقاة أهل الأندلس، وعاماً بعد آخر صار اهتمامي يزداد بأخبار وأشعار وموشحات وفقه وعلم أهل هذا البلد، أذكر أن صديقي الصاحب بن عباد حين اطلع على كتاب "العقد الفريد" قال عنه في حضوري: "هذه بضاعتنا ردت إلينا"، فقد كان يظن أن الكتاب يشتمل على شيء من أخبار بلاد الأندلس، فإذا به يستغرق أخبار بلاد المشرق، وهذا دليل يؤكد المحبة المتبادلة بين أصحاب الأرومة العربية الواحدة من المشرق إلى المغرب، نكتب إعجاباً بكم وبأخباركم، وتكتبون إعجاباً بنا وبأخبارنا، لكن أن تضيع أجمل أرض عربية إسلامية، فأنا أحتاج لوقت كثير لاستيعاب هذا الواقع!
وتذكرت العراق، فأسرعت بسؤال عنه:
ـ ويحكما، ألا أخبرتماني بما حلّ بالعراق؟ ألا يزال خلافة إسلامية، أم إن العجم انقضوا عليه هو الآخر، فمسِّح أو مجِّس؟
أجابني الوكيل العام:
ـ اطمئن يا سيدي، العراق مازال أرضاً عربية إسلامية، من أغنى بلاد المعمور، لو أحسن حكامه تدبير خيراته.
ـ الحمد لله، الحمد لله، لكن هذه الأندلس العروس الضائعة، سيصيبني خبر فقدانها بالخبل، تبّاً لنزوات الحكام، والله ما ضاع هذا الفردوس إلا بسبب الشتات والاستبداد!
عليَّ أن أقرأ عن سقوطها، وعن كل ما استجدَّ ببلاد العرب، منذ أن أوليتُ ظهري بغداد في عام 400 هجرية إلى اليوم، عساني بذلك أحقق البقاء عاقلا على قيد الحياة، وعساني أعثر لنفسي على بعض السلوى، أتعرّف فوقي من أسفلي، ورأسي من قدمي، فإني من فرط الضباب المحيط بعقلي وبصري، بماضي وحاضري، لم أعد أتبين شيئا.
فالتفت الوكيل العام نحوي، وبنظرة قاتمة قال يواسيني:
ـ بالله عليك يا سيدي، إذا كنت لا تقوى على تقبل واقعك هذا وأنت المنطقي الفيلسوف المؤمن بالله، فمن يا ترى يتقبله؟
توقفت بنا السيارة في ميدان فسيح منير تتوسطه بِرْكَة ٌبنافورة يتصاعد ماؤها عالياً مرتعشا مثيراً للدهشة، فأخبرني وكيل الملك، ونحن نترجل من السيارة، بأننا في مدخل فندق السراب، لكنني كنت أستجمع أفكاري لأرد على نصيحة الوكيل العام، فقلت أخاطبه قبل أن نهم بالدخول إلى الفندق:
ـ أشكرك على نصيحتك بأن أتقبل أمر واقعي، إنني فعلا أسعى في تحقيق ذلك، لكن فعل القبول أو الرفض، إذا كان مصدره العقل، فإن هناك فعلا آخر يصدر عن النفس، ولا يتحكم فيه العقل، ولعل أبسط ما يمكن أن أمثل به، هو ما عبّر عنه الخليفة الأموي عبد الرحمان الداخل، حاكم قرطبة، حين بعث إلى أخته في الشام قائلا:
أيها الراكبُ المُيَمِّمُ أرضي 
اِقْرَ من بعضِيَ السلامَ لِبَعْضي
إن جِسْمي، كما تراه، بأرضٍ
وفؤادي ومالِكِيهِ بأرضِ
قدَّرَ البَيْنُ بَيْنَنا، فافْتَرقْنا
وطوَى البَيْنُ عن جُفُونِيَ غَمْضِي
قد قضى الدَّهْرُ بالفِراقِ عَلَيْنا
فَعَسى باجتماعنا، سوف يَقْضي

إذا كان هذا العظيم الشجاع، الجامع بين السيف والقلم، يشكو من داء الاغتراب والنوى، فما عسى أن يفعله فقير مثلي، فقد الأحبة والخلان، هرب عنه الزمان والمكان.

(9)

ظلا ينظران إليَّ دون أن يفوها بكلام، فتقدم نحونا رجل في مقتبل عمره، قصير القامة، أنيق الملبس، سَمْح الوجه، تغمر محياه بشاشة امتزجت باحترام وتقدير لنا، فقال له الوكيل العام عني:
ـ إنه الشيخ "أبو حيان التوحيدي".
صافحنا واحداً واحداً، فذهب يقيني إلى أنه لا يعرف شيئا عني، خاصة بعد أن سألني إن كنت أحمل حقائب أو متاعاً، فأشار إليه الوكيل العام وهو يقول لي:
ـ إنه السيد عبد السلام، صاحب "السراب".
فعرفت أن مالك الفندق، خرج لاستقبالنا، بناء على موعد سابق مع الوكيل العام، إذ بادره بالقول وهو يدعونا لنتقدمه:
ـ أعددت لضيفكم الشيخ، أجمل جناح مطل على البحر، قصي عن الضوضاء، وبإذن الله، سوف يكون مبتهجاً بإقامته.
التحق بنا رجل يحمل في يده مفاتيح، لم يبادره أحد منا بتحية، ولا بادرنا هو بها، ففهمت أنه أحد الخدم في فندق السراب.
وفكرت في أن ازدراء الأسياد للفئة الدنيا لم يطرأ عليه تغيير منذ عشرة قرون.
سرنا يتعقب خطانا الرجل المُزْدَرَى ملفوفا في صدرية بيضاء، وسراويل سوداء، كأنه قط فارسي مطيع وأمين، فمررنا بحديقة حفَّت بها دور بيضاء، وتوسطتها بِرْكَةٌ شاسعة يتلألأ بها ماء شديد الزرقة، فكان على بصري أن يتوقف صوب المنحدر عن يميني، لينعم في زبد أبيض يفصل سواد البحر عن رمل الشاطئ، إنه الموج، صخبه الرتيب وصل إلى أذني، مثلما امتلأت خياشيمي برائحة الطحالب والفطريات، إنها رائحة شاطئ ثغر أصيلا نفسه، حين سرت على يابسته رفقة صديقي المرحوم "أبي عصيد"، البحر وحده ظل كالأبد، مستريحاً بصخب موجه، وروائح نباتاته العطرة.
ليتني كنت أفهم لغة البحر لأسأله عما حل بالدنيا خلال هذه القرون العشرة ونيف، أدرت في رأسي حسابا عن المدة التي بقيها العرب في الأندلس، فوجدتها تقارب ثمانية قرون، إنها ليست بالوقت الهين، فضحكت من نفسي ساخراً منها على هذا التحول، فبعد أن كنت أعد الوقت بالساعات أو الأيام أو حتى بالشهور، أصبحت أعده بالقرون، لكن إصغائي لهدير البحر بلسعات برده، أوقف نفسي عن الإبحار في الكآبة، وراقني الفندق الذي تمطى فوق ربوة ساجدة للبحر، لكن حكاية ضياع الأندلس، ظلت مطرقة تدق رأسي.
أدخلنا صاحب الفندق إلى سكن يسع قوما من الناس، توقد أضواؤه وتطفأ بمجرد لمس أزرارها، لم يكن ليخطر بخلدي جماله ولا رونقه، ولا فكرت في أني ذات يوم، سأكون من ساكنيه، فقد حسبته هدفا لزيارة جاءت من قبل الفرجة عليه ليس إلا، لكن، حين أبلغني الوكيل العام أنه مخصص لإقامتي بمفردي، أصابتني دهشة مباغتة لم أقو على إخفائها.
صار يدلني على محتوياته، هذه قاعة جلوس تفضي إلى شرفة استراحة مطلة على البحر، وهذه غرفة نوم بنوافذ مشرعة على البحر، وتلك غرفة أخرى لا تقل رونقا عن أختها، وهذا حمّام به قبر مرمري في بياض لبن المعز، وبجانبه مِيضأَةٌ مثيرة للاستغراب، وتلك معدات للحلاقة وقصِّ الشعر ومَشْطِهِ، وصنابير ماء يتحول وفق إرادتك من بارد إلى دافئ إلى ساخن. فقاطعت شروحاته وأنا أكاد أنفجر من الضحك:
ـ يلزمني تلقي دروسٍ لأعرف الاغتسال في هذا الحمام الخيالي.
ارتفعت أصوات الجميع بعَدْوى ضحكي، فتذكرت بأن صدري لم يعرف انشراحاً منذ أن استيقظت من سباتي في مغارة مدينة المنقب بالأندلس، قلت لهم والضحك يستبد بي:
ـ لأفترض أنني تمكنت من غسل بدني في هذا التَّابوت الأبيض، فبماذا أدثر نفسي وأستر عورتي وأنا لا أملك سوى ما أرتديه من أسمال رثة، تعاف الأنوف رائحتها.
فعمت قهقهاتنا من جديد أرجاء الحمام.
قال لي الوكيل العام وهو يجفف ما بعينيه من دمع ابتهاجه، ونحن نغادر الحمام:
ـ بعد لحظات ياسيدي، سيلحق بنا أحدهم يحمل لك ألبسة لتنتقي ما يروق لك منها.
قلت له وأنا أوزّع نظري بين شخوصهم:
ـ أسيكون لي مثل ما ترتدونه؟ شريطة أن يكون لباساً سائداً بين عامة الرجال؟
ـ طبعاً طبعاً، إنه لباس عام، يرتديه الرجال في كل بقاع الأرض، بما فيها العراق.
لم أقو على حبس ضحكي، وأنا أخال نفسي ملفوفاً في هذا اللباس الشبيه بما كان يتزين به الغلمان والجواري في حفلات اللهو والغناء بقصور الخلفاء والوزراء، ما إن أخبرتهم بما خلته عن نفسي، حتى دوت الصالة بالقهقهات.
لم أتوقف عن الضحك، وأنا أشير بيدي إلى قطعة ثوب متدلية من عنق السيد عبد السلام، صاحب الفندق، وشبَّهتها بحبل المشنقة، وأنا أسأل عن لزومها، وإن كان لها دورٌ في درء السحر أو الوقاية من عين الحسود أو من البرد أو الحرارة.
فأجابني الوكيل العام:
ـ لم أكن أظنك يا سيدي الفقيه العالم على هذا القدر من المرح والدعابة.
فقلت أرد عليه:
ـ أشكرك، وأخبرك بأنني بعد معاشرتي لخلان فاس، ولأصدقاء قصر كتامة ولأصحاب ثغر أصيلة، أصبح يقيني أن المغاربة من أظرف المسلمين وأخفهم روحاً، لكن، لله دَرُّكَ، لم تجبني، ما الغاية من حبال المشنقة هذه؟ وأشرت إلى الأثواب المتدلية من أعناقهم.
فأجاب ضاحكاً:
ـ إنها للزينة لا غير، وتسمى "ربطات العنق".
سكت قليلا وأضاف:
ـ وهي ابتكار أوروبي.
فأسعفه وكيل الملك شارحاً:
ـ حضارة أوربا هي السائدة في هذا القرن، فكراً ولباساً و غيرهما، والأندلس امتداد للقارة الأوربية، صانعة هذه الحضارة.
كاد تذكيري بالأندلس، هذه الهاربة من بين أصابع اليد العربية يصعقني، فيدرأ عن نفسي مرحها، لكنني استبعدتها عن ذهني وحصرت تفكيري في غرابة ابتكار "رباط العنق"، فسألت الرجال مازحاً:
ـ لعله ابتكار نسائي، أوحى به الحبل الذي تقاد به الدواب، أو تلجم به. إنما أود لو أعرف إن كانت المرأة تتزين به هي الأخرى.
فضحكوا وأجمعوا على النفي.
وأضفت:
ـ هذه قرينة على أن "ربطة العنق" من ابتداع المرأة، وذلك لتحكم به قبضتها على عنق الرجل متى شابهما نزاع.
عَمَّ الضحك من جديد، فاستأنفت بسط تداعياتي بذات السخرية المغلفة بالجد:
ـ إن المبتكر مثلُ الفيلسوف، تفكيره في الأصل مجرد رجع أو استجابة لحاجة تمليها الضرورة المادية أو النفسية، أو هما معاً، والمرأة حتى تُذِلَّ الرجل ابتكرت له هذه الربطة القريبة من شكل الأفعى، لزينة عنقه ظاهريا، أما في سرها فلغايات أخرى، أضعفها تشبيهه بالحيوان.
ظل جو المرح هو السائد إلى أن دخل رجل محمّل بعدد من الألبسة والأحذية، في قياسات مختلفة، حتى يتسنى لي اختيار مقاسات تناسبني.

(10)

بعد أن استعادتني الحياة، وصحوت من نومي، هرولت مسرعاً إلى النافذة، أزحت ستارتها وأشرعت بابها، فاستقبلني شاطئ فسيح بهيج، هو الشاطئ ذاته الذي كنت قد تنسّمت رائحته بالأمس، وتذكرت الألبسة التي كانت موضوع سمرنا، فعرَّجت على الصالة لأجدها في مكانها، أقمصة وبذل وأحذية وربطات عنق وجوارب وغيرها، فضحكت من نفسي على الأسماء الغريبة التي كان عليَّ حفظها وكأني أتعلم لغة جديدة، ارتديت سراويل وقميصا أبيضَ ثم انتعلت حذاءً أسودَ لامعاً، ووقفت أمام المرآة الكبيرة، أتفرج على نفسي، لاحظت أن كثافة شعر ذقني قد زادت عن المعتاد، ماذا لو قمت بِقَصِّ شيء من هذا الشعر؟ أو اقتلعت اللحية من جذورها؟ فكرت مليا، فنزعت القميص عن بدني بعد أن فتحت أزراره وتوجهت إلى الحمام، أخذت المقص وشذبت اللحية وهذبتها، ثم تذكرت كيف أن الوكيل العام وجميع مرافقيه، بل كل من قابلتهم في طنجة، كانوا حليقي الوجه أملسيه، فلماذا أستثنى منهم؟ أغاية الدين أن يحتفظ الرجل بلحيته؟ تساءلت في نفسي، وأنا أبلل لحيتي وأدعكها بالصابون متّبعاً إرشاد وكيل الملك، حين دلني على كيفية الحلاقة، لكنني أبقيت على شاربي مؤجلا إحفاءه إلى يوم آخر، وبعد أن عدت لارتداء القميص، وقفت أمام المرآة الكبيرة الرابضة في الصالة، فكدت أقع أرضا من شدة الضحك على نفسي، فقد جرّدتْ حافة الموسى محياي من كل صفات الوقار والورع، بقيت زمناً أمام المرآة أنعم النظر وأعيده مدققاً في قسمات وجهي، فقد بدا لي كأنه وجه شخص آخر قريب من وجوه المغاربة وشبيه بمخلوقات القرن الحادي والعشرين الميلادي، لقد أعجبت بنفسي حقاًّ، سرني أن أبدو كهلا عوض الشيخ الذي كنته.
إن القسمات الحقيقية لوجه المرء، لا تتبيّن إلا بعد أن يزيل لحيته.
تذكرت الوزير الصاحب بن عباد، قبل أن تسوء علاقتنا، أي قبل أن أكتب مؤلّف "مثالب الوزيرين"، الذي خصصته لذمه هو والوزير ابن العميد، فقد كنت في ذلك المساء، في ضيافته بقصره الفاخر، رفقة الصديق "بديع الزمان الهمذاني" حين رد بروحه الماكرة على دعوتي إلى الابتكار والتجديد للخروج عن المألوف الآسن، فيما لا يخالف الشرع، وقال لي:
ـ لِمَ لا تُحْفِي لحيتك ابتكاراً، مادام الفعل لا يخالف الشرع؟
فعلّق "بديع الزمان الهمذاني" تزلّفاً للوزير:
ـ إن اللحية سنّها أشرف المخلوقين محمد رسول الله (ص)، وإزالتها معصية لا تُغتفر، إلا بالتَّوبة والعدول عنها.
فأسرعت بالرّد:
ـ إن الرسول قد سنّها من باب الإجازة عرفاً مشتركاً بين الأقوام، من مسلمين ونصارى ويهود ومجوس، وإن إحفاءها ليس ابتكاراً ولا بدعة، ولا تدخل في باب المعاصي، صغيرها أو كبيرها، والدليل هو أنه لم يأت فيها وعيد، وإذا سلمنا تجاوزاً أن إزالة اللحية من المعاصي فستكون من الصغائر، وعلى رأي المعتزلة، فإن الصغائر تغفر بتجنب الكبائر، أي أن المعاصي الصغيرة، يستحق غفرانها بتجنب المعاصي الكبيرة.
كنت أعلم أن الوزير الصاحب بن عباد شغوف بأراء المعتزلة، وهو في سرّه على مذهبهم، لكن ما إن أكملت قولي حتى استوى في مقعده، ونادى على الجارية "رباب"، وهي من أجمل جواريه، لا يحضرها سوى في المجالس الخاصة الضيقة، امرأة كاملة، أسيلة، ظريفة الأنف، ضيقة الفم واسعة العينين، كحيلة الشعر، ناصعة البياض، سلّمها قدح نبيذه، وأشار عليها أن تملأه، وخاطبنا:
لستما مختلفين في الرأي، لكنكما لم تكملا شرحه، فكما قال أبو حيان. إن الصغائر إذا اقترفت من مجتنبي الكبائر، كانت مغفورة، وهو قول حق، لكنه ناقص، ذلك أنه إذا اجتمعت الصغيرة والصغيرة من ذات الشخص المجتنب للكبائر، فإن معصيته تصير من الكبائر، كالرجل الذي يسرق درهماً على انفراد، ودرهما على انفراد، ثم آخر وآخر، فإن فعله يكون من الكبائر، ومن ثَمَّ فإن الشخص يؤخذ بالذنب، إذا تاب عنه وعاد إليه.
دارت هذه الحادثة في ذهني وأنا أقف أمام المرآة في إقامتي بـ "فندق السراب"، فكرت في المعاصي الصغيرة التي أرتكبُها تباعاً، فقد أزلتُ لحيتي التي كانت محور النقاش مع الوزير الصاحب والهمذاني، منذ أكثر من عشرة قرون، وأنا اليوم في طنجة أعتزمُ قَصَّ شعر رأسي تمثلا بالمغاربة، وهي معصية ثانية، ثم إني أتعمد أن أظل عاري الرأس، من أية عمامة أو عقال، وهي معصية ثالثة، ويعلم الله ما قد أرتكب من الصغائر، لكنها أبدا لن تصير من الكبائر، فقد أصبتُ وأخطأ المعتزلة، رحم الله الصاحب بن عباد والهمذاني وجميع خلان بغداد، من سبق ومن لحق بهم، وأخص منهم جاريتي العزيزة "نهاوند"، فيا ليتها كانت برفقتي في عزلتي المغربية هذه، لتدفئ وحدتي، وتسهم برأيها في وجهي الحليق إلا من شارب يغلب عليه بياض الشيب.
لاشك أنها استحضرت أوقاتنا البهيجة وهي تترحَّمُ على روحي، واهمة أنني صرت في عداد الأموات.
الحقيقة أنَّها لم تكن واهمة، فقد كنت فعلا ميتاً، من يختفي كل هذا الدهر، لا يمكن أن يكون إلا ميتا.
لكن الموتى تفارق أرواحهم هياكلها، تغادر إلى الخلود الدائم المتصل الأزلي الأبدي، الذي لا أول له ولا آخر، أما روحي، فهي دون شك بقيت مثلما بقي جسدي في تضاعيف العاجلة، دون أن يطرأ عليهما أي تغيير، فكل ما حدث لي، هو أنني بقيت طيلة عشرة قرون مختفيا محتجباً عن العالمين العاجل والدائم، وليتني اطلعت على ما كان يحدث فيهما أو في أحدهما، لكن لا هذه ولا تلك.
إن من طبيعة الإنسان جنوحه إلى أن يعلم ما يحدث في غيابه، ولو بعد قيامه من مجلسه وهو على قيد الحياة، أحرى لو يعلم ما سيؤول إليه بعد وفاته، لكن لا على هذه ولا على تلك، فلم يتسن لي أن أطلع على سوى ما يموج في ذهني، على ماضي البعيد الحزين المليء بالضيق والحاجة، وبالكرب والشدة، لكن مع ذلك أحن إليه حنين الإبل في نجد.

(11)

سمعت نقراً على الباب، أسرعت لفتحه، فوجدت رجلا في مقتبل عمره، أسمر البشرة داكنها، ترتسم على محياه بشاشة محببة، تتدلَّى على صدره ربطة عنق غامقة اللون، شبيهة بإحدى ربطات عنقي التي لم أتزّين بها بعد، حياني بأدب جم وانحناءة من رأسه وأخبرني:
ـ إن السيد الوكيل العام يقرئكم السلام، ويخبركم بأنه يوجد في استراحة الفندق مع السيد وزير العدل وآخرين، وسوف يزورونكم بعد أن تنتهوا من فطور الصباح.
لعله تحقيق جديد مع قاضي القضاة، أو وزير العدل، كما يحلو للمغاربة أن يسموه، قلت في نفسي، وفكرت في هؤلاء المغاربة الذين أصبحوا ينتهكون اللغة العربية بطريقة فجة، إذ يخاطبون شخصاً مفرداً بصيغة الجمع، تصورتُ ما قد يكون رد سيبويه أو السيرافي، لو كانا قد علما ما سيصيب اللغة العربية من تحريف وهما على قيد الحياة.
تداركت سهوي عن الرجل الواقف أمامي، ودعوته إلى الدخول، لكنه اعتذر بانشغالات له، شارحاً أنه مستخدم في "فندق السراب"، شكرته وطلبت منه أن يبلغ السيد الوكيل العام، أني في انتظاره متى شاء، وأوصدت باب الإقامة.
بعد لحظات، عاد النقر على الباب، فهرولت مسرعاً لاستقبال الوكيل العام وقاضي القضاة، لكنني حين فتحت الباب فوجئت برجل يجر مائدة مزدانة بأصناف مأكولات، تكفي نفرا من الناس، دعوته إلى الدخول وأنا أسأله إن كانت مخصصة لضيوفي القادمين، فضحك وأكَّد لي أنها لي بمفردي، ولأتناول منها ما طاب لي. ألقيت نظرة سريعة على المائدة، فلم أميّز من محتوياتها سوى الرغيف والماء واللبن والبيض، فسألت الرجل قبل أن ينصرف عن باقي الأصناف، وأنا أشير إليها، وأخذ يدلني مستغربا جهلي لها:
ـ هذا شاي أخضر، وهذه قهوة، وهذا عصير برتقال، وهذا جبن، ثم رفع بصره نحوي وخاطبني:
ـ إذا احتجتم إلى شيء آخر فنادوني، اسمي محمد العربي.
وأجبته:
ـ أنادي من النافذة؟
ضحك في ذهول، وأشار إلى قطعة جماد فوق المائدة بجانب المرآة:
ـ اطلبوني بواسطة التلفون، على الرقم تسعة.
شكرته وانسحب.
جلست، وسحبت المائدة المتحركة نحوي، فشربت كل السوائل باردها وساخنها، ثم ألقيت في أحشائي بالرغيف والجبن والبيض، إلى أن أتيت على كل شيء، فبقيت الأقداح والأطباق فارغة، فكرت إن كان يصح لي غسلها أو ترك أمرها لصاحب الفندق، لكن ما دامت الإقامة تتوافر على ماء متصل لا ينقطع إلا بإرادتي، فَلِمَ لا أتولى تنظيفها، وهو ما حدث.
بُعَيْدَ لحظات، عاد النقر على الباب للمرة الثالثة، هرولت لفتحه، وأنا أجزم بأن الطارق، هذه المرة، لن يكون إلا الوكيل العام، وفعلا أصاب جزمي. رحبت بالرجال الأربعة، وصافحتهم واحدا واحدا، ودعوتهم إلى الدخول، تناثروا فوق أرائك مريحة، دون أن يتوقف لساني عن الترحيب بهم.
بادر الوكيل العام قاضي القضاة بالقول:
ـ والله يا معالي الوزير، لم أتعرّف شيخنا أَبَا حيان، حين فتح لنا الباب، إلا بصعوبة، فبعد أن أزال لحيته انتقص عمره عشرين عاماً إن لم أقل ثلاثين!
شكرته في حياء، وأنا أخزن في ذاكرتي كلمة معالي الوزير، مقرراً أن أخاطب الوزير أنا أيضا بهذا الاسم، وذلك حتى أضيِّق من هوة اختلافنا حول المفاهيم والألفاظ، فاختلاف معاني الألفاظ أمر يضيق له صدري ويربكني أكثر مما يربك محاوري، فعزمت على أن أجعل حواسي متيقظة لالتقاط ما استجد في اللغة لدى المغاربة.
كان معالي الوزير قد اتخذ مكانه قبالتي وجها لوجه، رجل أبيض البشرة ممتلئ الوجه، بشوش خجول، أملس المحيا إلا من شارب كث غلب عليه بياض الشيب، وقد ارتدى ربطة عنق غامقة مخططة بالبياض، وراقني أن يكون هو ومرافقوه الأربعة شبيهين بمستخدمي "فندق السراب"، يرتدون جميعاً بدلا وأقمصة، وربطات عنق وأحذية، دون أن يتميز الوزير عنهم بعمامة من حرير أو خنجر من فضة وذهب وماس، أو غير ذلك، ففكرت في أن الفوارق بين الفئات الاجتماعية، ولو ظاهرياً على الأقل، قد انتفت وتلاشت.
استمر الوزير في أحاديث عابرة لبقة، حول الطقس وموقع مدينة طنجة الجغرافي بين بحرين، خلته يتربص للزج بي في امتحان يكشف له حقيقتي، لكنه ظل بريئا من تخميناتي، بل عبّر لي عن سروره الأبلغ بلقائي والتحدث إليَّ، ووعد أن يمدني بمؤلفات تطلعني على ما طرأ من تحولات في التاريخ والعلم والفكر، خلال العشرة قرون الأخيرة، ثم تدارك وكأن الغيب كشف له ما كان يموج في خاطري، إذ قال لي:
ـ إن الكتب قد ترهقك، لذا أقترح أن أبعث لك بشخصية سامقة في الفكر والتاريخ، لسد الفجوة التي تفصلك عن الحاضر، هناك بكل تأكيد مستجدات في العلوم والفكر، لكن بالنسبة لنا نحن العرب عموماً، ستكتشف بنفسك أننا مستهلكون ومجترّون لعلم وفكر غيرنا أكثر مما نحن منتجون له.
وسألته:
ـ من تعني بغير العرب؟
ـ أقصد الغرب المسيحي، فمنذ النهضة التي عرفها قبل خمسة قرون ونحن ظاهرة لأبحاثه واكتشافاته، ويكفي إخبارك بأنك أنت شخصيا أديب الفلاسفة، وفيلسوف الأدباء، العالم المنطقي النحوي "أبو حيان التوحيدي"، قد وقع التنبيه إليك، وإلى مؤلفاتك من لدن الغرب قبل العرب، وممن أتذكر من المستشرقين الذين سبقوا إلى اكتشاف قيمتك، المستشرق "لويس ماسينيون"، الذي بحث في سيرتك ليكشف لنا الشيء الكثير عنك، والمستشرق "مارجليوت" الذي كان أول من انتبه إلى مؤلفاتك، والمستشرق "آدم ميتز" الذي ألف كتابا علميا دقيقاً في "الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري"، فأفاض في الإشادة بقيمتك العلمية.
وعدت إلى استفساره:
ـ من هم الذين سميتهم بالمستشرقين؟
ـ الاستشراق علم قائم بذاته، كعلم المنطق والفلسفة وغيرهما، وأصحاب هذا العلم، غربيون مسيحيون، تعلموا لغتنا، فبحثوا في تراثنا القديم، كظاهرة مستقلة عن تراثهم، فترجموه واعتمدوا بعضه مصدرا لبناء فكرهم وحضارتهم.
لم أخف إعجابي بهذا الوزير الشاب، ذي الثقافة الواسعة، فصارحته بذلك، مستحسنا مبادرته بإسعافي بشخص يطلعني على ما استجد في غيابي، فقال:
ـ أود إخبارك بأنني استمتعت حقاً بكتابك "الإمتاع والمؤانسة"، ومازلت أستحضر منه بعض النوادر والفكاهات، كما قرأت بعض الدراسات عن مؤلفاتك، ومما رسخ في ذهني أنك تجمع بين متناقضين هما، فلسفة التشاؤم، وفلسفة الفكاهة، فهل حقاً تجمع بينهما؟ كيف يمكن في نظرك للشخص أن يجمع بين هذين المتناقضين؟
أجبته بصدق وحماس:
ـ إنني مندهش يا معالي الوزير، ذلك أن الاستفسارات نفسها التي وجهت إليَّ من لدن الأصدقاء في بغداد، أجدها توجه إليَّ من جديد بعد عشرة قرون. إنني لم أكن أتوقع أو يخطر بذهني، أن مؤلفاتي ستحظى بالقبول، وتصمد كل هذه القرون، هذه حقيقة أندهش لها اليوم، ويكفي حجة على ما أقول، أنني كنت قد أضرمت النار في كتبي لعدم جدواها، وذلك لكوني لم أظفر منها بما كنت أنشده من موقع فكري أو أدبي، فقد عشت حياتي كلها أعمل وراقاً وناسخاً لكتب غيري، مقابل دراهم كانت تسد رمقي بمشقة.
ظلت عيون الحاضرين جاحظة مشرئبة تتأملني، فأضفت قائلا:
ـ أليس ما أعلنه مفارقة مدهشة؟ ما علينا، ولأعُدْ إلى سؤالك، إن ما قيل عن جمعي بين فلسفة التشاؤم وفلسفة الفكاهة لا أنفيه، فالتشاؤم المنثور هنا وهناك في مؤلفاتي، كان مجرد صدى لتجاربي وخبراتي، لوّنته بمزاجي الخاص، دون أن أتخذه مذهبا على غرار فلاسفة التشاؤم، ولا أحد يجهل أن الإنسان أشقى المخلوقات، وأن انجذابه نحو الفكاهة، حاجة طبيعية للتنفيس عن شقائه، والترويح عن نفسه، فكلنا نجمع بين المتناقضات، لأننا جزء من الطبيعة التي تجمع بين الليل والنهار والحرّ والبرد، لكنني لم يسبق لي أبداً أن مزجت الجد بالهزل، والهزل بالجد، في ذات العمل الواحد، كما فعل الحاجظ، وإذا رجعت إلى مؤلفاتي كـ "الهوامل والشوامل" مثلا، أو "الإشارات الإلهية" أو "الصداقة والصديق" فستجدها عاكسة لتمزقات داخلية عشتها، أو لإحساس بالغربة والحَيْرة، أو خيبة أملي في الناس،. أما إذا عدت إلى مؤلفات لي أخرى، كـ "الإمتاع والمؤانسة" أو "النوادر"، فستجدني أؤكد بها قيمة الفكاهة في حياة الناس، وضرورة تذوق النفس للفرح والهزل وحتى المجون، وذلك درءاً للشقاء الإنساني الطبيعي.
ما إن أنهيت كلامي حتى انتصب الوزير واقفاً وانحنى عليَّ ممسكاً برأسي، يريد تقبيله، فحاولت أن أثنيه وأنا أستغفر الله، إنما بدون جدوى، إلى أن عاد إلى مقعده وخاطبني:
ـ أصارحك أيها العالم الجليل، بأن تقبيلي لرأسك ليس احتفاء بمجيئك إلينا من عمق التاريخ، بقدر ما هو تقديرٌ لقيمتك الفكرية النادرة، فأنت من القلائل، ولربما الوحيد من المفكرين المسلمين العرب، الذين يجمعون بين السموق في الأدب والسموق في الفلسفة والمنطق والنحو والفقه والحساب، حتى لقد قيل عنك، وهو أقل ما قيل، إنك "فيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة"، وغيرها من الأوصاف الكبيرة.
وكانت المفاجأة حين سألته:
ـ إلى متى يا معالي الوزير، سأظل سجين هذه الإقامة الجميلة، كطائر في قفص من ذهب؟
لم يقو الوزير على إخفاء ما غشى محياه من حيرة وارتباك، فصوَّبَ نظرة حادة إلى مرافقيه، كأنه يشهدهم على انكشاف سرّ ما، أو يستنجد بهم ليسعفوه برأي ينقذه من ورطة وقع فيها، لكن ضيوفه كانوا أكثر حيرة منه، إذ تبادلوا نظرات مبهمة أوعزت لي بأن في صدورهم أمراً يخفونه عني، لكن الوزير بدَّدَ مخاوفي حين أجابني بصدق الرجال:
ـ إنني أيها الضيف العزيز الغالي لم أتوقع منك هذا السؤال، ذلك أنه لم يخطر ببالي أن يكون لك إحساس بالمضايقة إلى درجة الظن بأنك سجين، ولا أخفيك سراً إذا ما أخبرتك بأن لا أحد من رجال الدولة سواي يعلم بوجودك، أو له دراية بقصتك هذه المحيرة، وأنا شخصياً، حين أطلعني السيد الوكيل العام عليها، ظللت وقتاً من الزمن بين المصدق وغير المصدق.
بالله عليك، رجل ينبعث حياً بعد أكثر من ألف عام انقضت على وفاته، أو لِنَقُلْ على سباته أو غيابه، فمن ذا الذي يقوى على تصديق مثل هذا الخبر؟
هكذا في أقصى حالات الحيرة والذهول بقيت على اتصال تلفوني مع السيد الوكيل العام، ولزمتني الحالة نفسها وأنا في منزلي، إلى درجة صرت معها أفكر مع نفسي بصوت مرتفع، وكأنني ممسوس، مما جعل زوجي تصاب بالفزع، وتتهمني بالجنون، لكنها أعذرتني بعد أن أطلعتها على واقعتك هذه المربكة للعقل، وفي الليلة ذاتها، أي ليلة أمس، رجوت ثلاثة من مساعدي في الوزارة أن يحضروا إلى منزلي لمزيد من البحث والتقصي، وهؤلاء السادة هم: المفتش العام والكاتب العام ورئيس مديرية الشؤون الجنائية، الحاضرون معنا الآن، وفي أول الصباح أسرعنا بالقدوم للتعرف إليك، هذا كل ما في الأمر.
وتدخل المفتش العام:
ـ سيدي أبا حيان، إن إقامتك التي تراها سجنا، هي من أرقى فنادق طنجة.
وقبل أن يضيف شيئا، قاطعه الكاتب العام للوزارة:
ـ لعل الشيخ أبا حيان يعني بالسجن، حالته النفسية كالعزلة أو الاغتراب، وليس المكان.
فابتسمت للرجل كناية عن موافقتي، وأنا أستمع إلى الوزير الذي شرع في حديثه وهو يبتسم في وجهي:
ـ لم يعد لي أدنى شك في أنك "أبو حيان التوحيدي"، الحقيقي، ولذلك فإنني لأول مرة، سأطلع السيد الوزير الأول بصفته رئيس الحكومة المغربية، على هذه الواقعة.
واتسعت ابتسامته إلى أن قاربت الضحك حين أضاف:
ـ إني أعلم مسبقاً بأن السيد الوزير الأول لن يقتنع إلا بصعوبة لخبرك هذا، وقد يشبهني بالهدهد، حين زف نبأ ملكة سبأ إلى سليمان حجة على تغيبه، فأنا أيضا تغيبت عن المجلس الحكومي المنعقد في هذه اللحظة في الرباط، تحججت بمرض وهمي افتعلته حتى أزورك، وأتعرفك، وأتزود بمعلومات عنك ومنك شخصياً، وسأحظى حقاً بشرف كبير، وأنا أقدم للحكومة تقريراً عن هذا الحدث الجميل.
وتدخل رئيس مديرية الشؤون الجنائية موجها كلامه إلى الوزير:
ـ إن الشرطة القضائية يا معالي الوزير، وبدون شك، قد أبرقت إلى مديرية الأمن الوطني في الرباط، بهذا الحدث، ذلك أنها أول من تولى التحقيق مع الشيخ التوحيدي.
وتدخل الوكيل العام للملك موضحاً:
ـ إني أعرف بالمستوى الثقافي لرجال الشرطة القضائية في هذا الإقليم، فمن أين لهم أن يعلموا أنه سبحانه وتعالى، يحيي العظام وهي رميم. ذلك أنهم في ملخص ما كتبوه في محضر تحقيقهم، أن شخصا مجنونا يدعى "أبا حيان التوحيدي" يزعم أنه من مواليد القرن الرابع الهجري في بغداد، وقد ألقي عليه القبض في حالة تلبس، بجنحة الهجرة السرية، إنهم يجهلون اسم "أبي حيان التوحيدي".
وقاطعه الوزير:
ـ إني أتفق معك، فلا علم لمدير الأمن بهذا الخبر، كما لا علم للوزير الأول نفسه، فقد أجريت اتصالا بهما هذا الصباح، مما يؤكد عدم انتباه الشرطة لـ "أبي حيان التوحيدي"، وبذلك سيكون للقضاء شرف وميزة السبق إلى التعرف إليه.
والتفت نحوي مضيفا:
ـ إن انبعاثك يا سيدي أهم حدث في هذا العصر، فإذا كان علماء ومثقفو العالم قد سوّدوا آلاف الصفحات البيضاء، احتفاء بالذكرى الألفية لوفاتك، فكيف يا ترى سيكون ابتهاجهم وحفاوتهم بانبعاثك حياً ـ إنني يا سيدي، ويا شقيقي الأكبر، ويا والدي الروحي المتمنى ـ ولتسمح لي أن أخاطبك بهذه المشاعر الصادقة، إذا ما سئلت يوما عما استفدته في وزارة العدل، فسيكون جوابي: جلوسي إلى "أبي حيان التوحيدي".
ذكرني هذا الظرف بأصدقاء فاس وقصر كتامة، فقد كان وداعي لهم مؤثراً، ترك لدي انطباعاً محموداً لن تمحوه السنون. إنه حال المغاربة قاطبة، فهم يزجون المحبة إلى كل وافد مشرقي، وكأنهم ورثوا ذاك الحنين الفياض، الذي حمله معه عبد الرحمن الأموي إلى غرناطة، وقصتي معهم إن كانت جذورها تنسحب إلى جوف التاريخ، فإنني لا أزال أتظلل بأغصانها، في فندق السراب بمدينة طنجة.
وتدخل الكاتب العام للوزارة مخاطبا الوزير:
ـ في وسعنا يا معالي الوزير أن نرتب لشيخنا أبي حيان زيارات لبعض مناطق المغرب، حتى لا يحس السأم ببقائه في طنجة:
ونظر نحوي يستطلع رأيي، فأجبته:
ـ رغبتي أن أزور بغداد.
من جديد، نزل الخبر عليهم كسيف قاطع، فأضفت أعلل رغبتي:
ـ إنني عراقي مولدا ونشأة وعيشا، وحنيني إلى بلدي لا يضاهيه حنين، فمن حقي أن أزوره، إلا إذا كان هناك اعتراض!
رد الوزير:
ـ أبدا أبدا، لا اعتراض لأحد على رغباتك، فمن حقك زيارة العراق، وغير العراق، إنما بعد انتهاء الحرب، فلعلك على علم بأن العراق يتعرض لحرب مدمِّرة!
أسرعت بسؤاله وقد أفزعني الخبر:
ـ حرب في العراق؟ مع من نتحارب؟
أجاب الوزير موضحاً:
ـ قُلت إن العراق يتعرض لحرب، ولم أقل يتحارب، ذلك أن دولا غربية بزعامة أمريكا، طمعاً في ثروة النفط، افتعلت خرقه للشرعية الدولية، فشنَََّت حرباً عليه لتستأثر بهذ الزيت.
انتفض عقلي لغموض وهول ما سمعت، فقلت مستفسراً:
ـ لم أفهم مدلول عبارة الشرعية الدولية، ولا كلمة النفط، فماذا تعني بهما؟ ثم إن العراق أكبر خلافة إسلامية عربية، وهو محاط بجيران مسلمين، فأي موقف اتخذه الجيران؟
أجابني الوزير بهدوء، وكأنه غير معني بما يحدث:
ـ ما عاد العراق كعهدك به، خلافة إسلامية لا تغرب عنها الشمس، إنه في عصرنا هذا مجرد قطر صغير، محاط بأقطار متناثرة هنا وهناك، في نزاع دائم فيما بينها شأن أطفال الحيّ.
صمت قليلا وأضاف بالهدوء نفسه:
ـ الموضوع معقد جدا. إنه شبيه بما حدث بين إمارات الأندلس قبل ضياعها. فالبلاد العربية اليوم، أمست كنظيرتها الأندلس، تحتمي بالأجنبي، أو تؤازره ضد بلد عربي آخر. والعراق نفسه في عصرنا هذا الذي نعيشه، وبدعم من أمريكا التي تدمره اليوم، خاض حرباً شعواء مع جارته إيران. سأبعث إليك كما وعدتك، بمن يطلعك على كل مستجد يغيب عنك، وما يهمنا في هذه الساعة، هو أن السفر إلى العراق محفوف بمخاطر حقيقية.
توقف الوزير عن حديثه، دون أن يوقف نظرات صوّبها نحوي، كأنه يقيس بها درجات قناعتي، وبالرغم مما كان يعتمل في داخلي من قلق وحيرة، فقد حركت رأسي مبدياً قناعة ملتبسة، مما جعله يبتسم ويضيف:
ـ مادام غيابك عن العراق قد استغرق عشرة قرون وثلاثة وعشرين عاماً، فلا بأس إن زاد بضعة أشهر أخرى، إلى أن يهدأ الوضع.
خيمت فترة صمت قصيرة، فتداعى إلى ذهني محمد شكري، وتذكرت طريقته المسلية فيما يبسطه من أفكار بصوت حاد مرتفع، دون أن أنسى أنه كان المطلع الوحيد على بعض مؤلفاتي، العارف بأني كنت قد أضرمت النار فيها، ولن أجد غيره مؤنسا لي في هذه العزلة المضطربة. قلت هذا في نفسي، وسألت الوكيل العام إن كان بمقدوره دعوته لزيارتي، بعد أن يرحل معالي الوزير.
لكن ما إن سمع الوزير اسم شكري حتى انفجرت حنجرته بسؤال باغت به الوكيل العام:
ـ من أين هذه العلاقة بين الشيخ أبي حيان ومحمد شكري؟
أجاب الوكيل العام في شبه ارتباك:
ـ لا تجمعهما يا سيدي أية علاقة، كل ما حدث أن السيد وكيل الملك، وأثناء التحقيق التمهيدي مع الشيخ أبي حيان، استقدم محمد شكري ليستأنس برأيه في كتب الشيخ.
ـ من أين لشكري أن يمتلك رأيا في مؤلفات الشيخ أبي حيان حتى يُبديه؟
تساءل والغضب يتسلق وجهه، لكن لا أحد تجرأ على إجابته، فأضاف برنة تقل حدة عن سابقتها:
ـ التحقيق يكون سرياً، سترى كيف سينتشر هذا الخبر غدا صباحاً في أكثر من صحيفة.
فقال له الوكيل العام:
سبق يا سيدي أن أصدرت أمري إلى الحاضرين أثناء التحقيق، بكتمان سر هذه القضية.

(12)

حلّ المساء، وأنا وحيد في إقامتي، فافترشت وسادة في الشرفة المطلة على البحر، وصرت أرقب الشمس قبل مغيبها، وأستحضر في الآن ذاته هموم الدنيا، اكتسحني يقين جازم بأن وزير العدل يضمر عداء لمحمد شكري، لعل صداقة ما كانت تجمعهما، فانقلبت إلى عداوة، وإلا ما كان ليحتج على حضوره أثناء إجراء التحقيق معي، وينعته بوصف يحط من شأنه.
جعلني هذا أفكر في الصداقة بين العالم والحاكم، تلك التي يستحيل أن تكون متوازنة، إذ من شيم السلطان، الترحيب بالتزلف والاستلذاد بالإذلال، بينما العالم الحق، يدين التزلف ويرفض الإذلال.
تذكرت ما حدث لي مع الوزيرين أبي الفضل بن العميد والصاحب بن عباد، فقد كنت كمن يلقم حجراً كلما استمعت إلى آرائهما، عكس الفقيه "ابن مسكويه"، الذي كان على خلافي، كبير النفس مع العامة، صغيرها أمام الحاكم، قوي الكبرياء مع رفاقه، مسلوبها أمام الوزراء، ما أبصرت عيناي عالماً سخّر عواطفه وأحاسيسه رياء مثل ما فعل هذا الرجل، فقد أوصله تزلفه حدّ إبداء المحبة الصادقة، والإعجاب المنقطع النظير لأبي الفضل بن العميد، لدرجة أنه خصّ كتابيه "تجارب الأمم" و "تهذيب الأخلاق" من أجل إشاعة السمعة الرائعة عن ابن العميد وفترة حكمه، دون أن يرى في ذلك أية نقيصة، وكأنه منزه عن الأخطاء، كل ذلك ليصبح معلماً لولده أبي الفتح، وليظفر بعدها بوظيفة قيّم ومؤتمن على مكتبة بغداد، ولينزل إلى الدرك الأسفل من الإهانة، ليصير نديمه وجليسه في سهراته وملذاته ببلاطه.
يا له من رجل وضيع النَّفْسِ، جرفته تلك الحياة السرابية، ليرتبط بعلاقة أخرى مع الوزير المهلبي، الذي تسلقه كما يتسلق سارق التمور نخلة، فجاوزه ليتسلق نخلة أخرى أعلى وأنضج، هي عضد الدولة، أكبر أمير بويهي، إلى أن حظي برعاية منه جعلته يتصدر قاعة الجلوس في قصر البركة، لا أدري كيف صار ذلك القصر الذي كان متمطياً فوق دجلة، إن لم يكن قد جرفه النهر، فإن الأرض دون شك قد صهرته في باطنها، مثلما غيّبت ابن مسكويه.
أما أنا، فلم أطق إذلال الوزيرين، عافتهما نفسي لتكبّرهما ولتعجرفهما، ولم أفز بسكينتي وتوافقي النفسي، إلا بعد أن تعاليت على مقامهما لأصير أنا المنتصر، وهما الخاسران، وما كتابي "مثالب الوزيرين" إلا حجة قاطعة على أن قلمي كان أبتر من سلطانهما.
ضحكت وأنا أتذكر ما قلته لمسكويه حين أطلعني على ما دونه عن ابن العميد:
ـ لكنك يا مسكويه، لم تشر ولو بطريقة مواربة إلى عشق ابن العميد للغلمان.
فانتزع أوراقه من يدي، وقد اعتلى وجهه غضب شديد ولاذ بالفرار.
أتكون علاقة محمد شكري بوزير العدل المغربي، شبيهة بعلاقتي بالوزيرين العراقيين؟
عدت لأرقب الشمس، كان قرصها قد بدأ يغوص في البحر. فاصطبغ الأفق باحمرار شاحب، مع زرقة أرجوانية داكنة، أضفى عليه خرير ارتطام الموج على اليابسة واقعاً سحرياً، صبغ نفسي بمشاعر أججت حنيني إلى بغداد ونهاوند، وإلى وجودي بعيدا عن زماني ومكاني.
فكرت ُ في الأجيال التي ركبت هذا البحر، أجيال طارق بن زياد، وموسى بن نصير، والشعراء والقراصنة والمغامرين واللصوص، وفكرت أيضا في نفسي حين ركبته في ذلك الزمان البائد. أجل، كنت في كامل انشراحي وتألقي، أُفَقِّهُ رفاق القافلة في العلم والحديث، وأؤم بهم الصلاة، وكأني أحد الأئمة الأربعة، أوخامسهم، دون أن يغيب عن ذاكرتي رجوعي المأساوي إلى مدينة طنجة.
هربت من نفسي إلى تأمل انكسار الأمواج على الشاطئ، بعد أن تأكد لي انفصال تماهي وذاتي. بدت لي كل الأمواج متشابهة، لكنني، بين الفينة والأخرى، كنت أقتنص واحدة تكون غريبة عن أخواتها، فأمثل بها نفسي، هكذا قسراً عدت إلى التفكير في ذاتي، وحاولت من جديد أن أفصلها عني، أقنعت نفسي بأني وذاتي اثنان، وبانفصالي عنها أستطيع أن أجد حلاًّ لعجزها، وأن أنسف بعض ضروب يأسها.فعجزت مرة أخرى.
وبينما أنا كذلك، إذ بجرس التلفون يقطع حبل تأملي، فعدت مهرولاً إلى الصالة، رفعت قطعة الجماد إلى أذني، فوصلني صوت حاد النبرات:
ـ أُنْعِمت مساءً سيدي أبا حيان. أنا محمد شكري في بهو الفندق، أتأذن لي بزيارتك في غرفتك، أم أنتظرك في مكاني؟
ـ تعال إلى إقامتي.
أجبته:
ما إن فتحت له الباب ليبدو أمامي بشعر رأسه الأشعث، حتى جَحِظت عيناه ملتهمتين شخصي، فأدركت أن مظهري أذهله، دعوته إلى الدخول وأنا أقول له:
ـ لاتشرحنّ لي ما طرأ على شكلي، فأنا أيضاً ذهلت أمام المرآة، وأنا أشاهد نفسي بلباسكم هذا.
أشرت عليه بالجلوس، لكنه ظل واقفاً مأخوذاً، كأنه يحاول تفسير حلم مبهم، أو لغز محير، وأعدت الإشارة بيدي إلى المقعد الذي كان يعتمره وزير العدل قبل أن يغادره. فاستوى فوقه، ووضع بجانبه حقيبة جلدية صغيرة كانت تتدلى من فوق كتفه، وظل يحدق في وجهي. ودون أن أكبح ضحكة صدرت عني، سألته:
ـ أتراني أختلف عن بني البشر؟
ـ أبداً أبداً والله، بل أراك شديد الشبه بشاعر عربي أعرفه، اسمه أدونيس، وهو حي يرزق، دعني أشرح لك، عندما رأيتك بالأمس في مكتب وكيل الملك، حسبتك محتالا، أو مجنونا، كنت أكثر من استبعد حقيقتك استناداً إلى نظرية اختلاف الإنسان القديم عن المعاصر. وحتى بعد أن اتضح أمرك، وتأكدت حقيقتك، ظلت هذه النظرية مستحوذة على فكري، شاغلة ذهني، بين الرافض لها والقابل بها، لكنني وأنا أراك الآن، انتهى يقيني إلى خرافية تلك النظرية، وإلى أن الجنس البشري لم يطرأ عليه تغيير منذ وجود سيدنا آدم وزوجه حواء على سطح الأرض.
عدت إلى الضحك وقاطعته:
ـ أأنت على يقين أن آدم تزوج من حواء؟
أربكه سؤالي لوهلة، فضحك وأجاب:
ـ إن المسكين لم يكن له من اختيار، فقد كانت الأنثى الوحيدة في الدنيا، وكان عليه أن يقبل بها رغم أنفه.
ـ هي أيضاً كان عليها أن تقبل به رغم أنفها، فقد كان الرجل الوحيد في الدنيا.
ـ لا شك أن الله أبدعها على أحسن تقويم وبذلك عُمِّرت الأرض بهذه الألوان البشرية.
عدت لمقاطعته:
ـ أمن الضروري أن لا ينصبّ حديثي معكم معشر المغاربة، إلا عن الخوارق أو النظريات؟ أما كان أجدى أن نترك لسجيتنا حديثها فيما يريحها من أمور الساعة؟ كأن تدلني على واقعكم المعيش، أو علاقة أولي الأمر منكم بالرعية، أو أي شيء آخر يبقينا فوق الأرض ويقصينا عن ما تتناقله بطون الكتب؟
ضحك محمد شكري ودسّ يده في جيب سترته، فأخرج علبة صغيرة من الورق المقوى في حجم كفّ اليد وقال لي:
ـ إنها علبة دخان تحوي عشرين لفافة، أستهلك منها علبتين في اليوم، وثمة من يكتفي بواحدة، أو بأقل من واحدة في اليوم. ولعلمك، فهي ليست محرمة، فقد سبق أن أفتى بعض المتزمتين بمكروهيتها، لكنْ سرعان ما أبطل الواقع هذه الفتوى، فانتشر تدخين السجائر انتشار النار في الهشيم. مما جعل أحد الشعراء يقول:
قَالُوا تَعَاطِي الدُّخَانِ قُبْحٌ   
فَقُلْتُ لاَمَابِهِ قَبَاحَهْ
يُصَيِّرُ الْمَرْءَ فِي نَشَاطٍ  
وَفِيهِ عَوْنٌ عَلَى الفَصَاحَهْ
وَلَمْ يَرِدْ بِالْحَرَامِ نَصٌّ
               وَالأَصْلُ فِي شَاْنِهِ الْإبَاحَهْ
تناول من علبته لُفافة ألصقها بفيه، وأوقد في عقبها ناراً، وصار يمتص ما بها بنفسه، ويستخرج من فتحتي منخاره وفمه دخانا ينشره في الفضاء، وقال لي:
ـ إن ما أقوم به يسمى في قاموسنا المتداول بالتدخين، وأنا أدمنه منذ أن كنت في العاشرة من عمري، إنه يساعد مزاجي على الروقان والخصوبة، سترى كيف سيتقد ذهني، وتغمرني حالة إشراق تسعفني بفتوى أو مشروع يبعد عنا السأم، هل تقبل تدخين لفافة من باب التجريب؟
ـ لم لا، مادام الأمر كما تقول، فلأجرب.
وضعت لفافة في فمي، فأوقدها لي بعود ثقاب، وطلب مني أن أدعها تتسرب إلى دواخلي، فامتثلت لأمره، وإذا بسعال مفاجئ يبطش بي حد الاختناق، فانتصبت واقفا وهرولت إلى الحمام، غَسَلت وجهي وحلقي، ثم عدت إلى الصالة، وقبل أن أستوي فوق مقعدي، بادرته قائلا:
ـ بعد هذه التجربة المريرة أعلن لك، بأني والتدخين شيئان متضادان، لتنعم به أنت في حفظ الله ورعايته، أما أنا فإشراقاتي الذهنية لا تحتاج إلى غثيان أو بطش سعال.
لم يكف عن ضحكه، كأن ما ألمّ بي يدعو إلى الانشراح والقهقهة، فعلق مزهواً بعد أن أخذ نفسا من سيجارته:
ـ التجربة الأولى عادة ما تكون مُنفِّرة، كحال تناول النبيذ لأول مرة، فمذاقه مرّ كالعلقم، لكن النشوة التي يحدثها تشفع في إعادة تناوله، ليتحوّل في أفواهنا إلى مذاق العسل.
قاطعته:
ـ لست على مذهب أصحاب القياس، ولا من المتحججين بالضارة النافعة.
ـ لكم دينكم ولي دين.
أكدت لي جملته هذه طبعه الحاد، وأضاف:
ـ أتعاقر الخمر يا أبا حيان؟
لم أجبه، وتعمدت، وأنا أنظر إليه، إطالة صمتي، عله يقدم شرحاً أو مبرراً لدواعي سؤاله، أو يعتذر من الأساس، لكن بعد أن ظل هو الآخر محدّقاً في وجهي وكأنه فقيه يحث تلميذاً على جواب، أَشْفَقْتُ عليه من غروره، وهو في ضيافتي، فأجبته:
ـ ليس مع العامة، ولا مع الدهماء.
انفرجت أسارير محياه، وخاض في الحديث:
ـ كنت ستخيِّب ظني وتصدِمني إن كنت أجبت بالنفي، ذلك أنه ليس من طباع المشتغلين بالفلسفة والفكر الإحجامُ عن معاقرة المدام، ولو من باب التجريب. أما اقتصارك على الخاصة دون العامة، فهذا ما اهتديت إليه أنا أيضا بعد انحداري في الشيخوخة، فقد كانت بدايتي مع المهمشين، ثم ارتقت إلى العامة، ثم ارتقت إلى الخاصة، فخاصة الخاصة، بعد أن صارت مجالس العامة تصيبني بالقرف.
قاطعته:
ـ تزعم أن التدخين يمنحك صفاء الذهن، ويلهمك إشراقا يبعدك عن الضجر والسأم. ترى بماذا ألهمك وأنت مشرف على تدخين ثلاث سجاير؟
ـ لا تتعجل الأمر يا سيدي، فقد كنت بصدد إخبارك بأنني أعددت في ذهني خطة محكمة للتسلل من فندق السراب هذا.
ـ وإلى أين إن شاء الله؟
ـ إلى قلب مدينة طنجة، ألم تسألني أن أدلّك على واقعنا المعيش؟
ـ بلى، سألتك!
ـ إذن علينا أن نغادر الفندق دون أن ينتبه أحد من المسؤولين أوالخدم. وفي المدينة ستقف بنفسك على واقعنا.
ـ افرض أنهم انتبهوا، فهل يعترضون سبيلنا؟
ـ بكل تأكيد، فرجال الشرطة السريون، يطوقون مدخل الفندق، وهم على علم بوجودي معك، فقد تلقّوْا إذنا خاصا من الوكيل العام للملك يسمح لي بزيارتك، أي حتى زيارتي لك كانت متوقفة على إذن الوكيل العام.
ما العمل إذن؟ سألته فأجابني:
ـ ألم أقل لك إنني أعددت خطة محكمة، اسمع، أنا سأغادر الفندق من بابه الرئيس، كما لو كنت قد ودعتك، وأنت ستتسلل من جهة النافذة المطلة على الشاطئ، أو عبر النافذة ذاتها. ستنزل دركات السلم المفضية إلى الشاطئ، وتسير بمحاذاته إلى أن تجتاز منزلاً صيفياً مضاءً يملكه أحد الأمراء العرب، فتعرج يساراً مولياً ظهرك للبحر. بعد بضع خطوات ستجدني في الطريق العمومي صحبة سائق سيارة.
تناول حقيبته، وعلقها بكتفه، وقال لي:
ـ أتمنى أن لا تفشل خطتُنا، لا تنس أن تحمل معك مفتاح الإقامة.
خطا إلى الخارج، ثم التفت نحوي وأضاف:
حاول أن ترتدي سترة فوق قميصك، فقد تكون الليلة باردة.

(13)

كانت الليلة فعلا باردة، سرت فوق رمال الشاطئ المبتلّة، مصحوباً بنسائم عشب البحر، وضوء القمر، وصخب الأمواج، والتوحُّد، والظنون، فانتبهت إلى أنني مغلّف بأحاسيس مضادة، متناقضة، لعلها مزيج من السعادة والحزن، أو من الفرح والكآبة. لقد سبق أن اعترتني أحاسيس شبيهة بهذه، بل استطعت أن أستحضر مكانها وزمانها، فقد كنت في مدينة المحمّرة الفارسية، ذلكم هو المكان، وكنت فتى يافعاً، ذلكم هو الزمان، ليس في هذا أية غرابة، فما أيسر تذكر الأحاسيس حين تعاودنا.
خيل لي أن ريحاً عاصفة تدوي بداخل رأسي، وتغسل ذاكرتي، فتزيح ما تراكم بها من طبقات النسيان، وتفتّقت بصيرتي، لتفرد لي مشاهد لوقائع عينية من حياتي البعيدة، تلك التي كانت في طي العدم، كما لو أني كنت أعمى، فصرت بصيراً.
وانزلق اسمها من لساني، فتوقفت وسط الشاطئ وخاطبت نفسي، ماذا؟ قلت شهربان؟ لفظت اسمها؟ لم أصدق، كيف لي أن أصدق وأنا منذ عشرات السنين، وقبل عشرة قرون، أحفر عن اسمها في ذاكرتي، إلى أن تملكني اليأس وصار يقيني بأنه امّحى إلى الأبد، وفجأة يطفو على سطح ذاكرتي، لتتقشّع معه كل تفاصيل أيامي المنسية.
ازددت وثوقاً من حالتي الخارقة، وفي لمح البصر مرّ سجل حياتي في ذهني.
أجل كنت في ضيافة الحاج عبد الحسين التوحيدي، أعز أقرباء والدي، كان قد أرسلني إليه لأتعلم الفارسية والسيسانية، رجل على قدر من التقوى والعصامية، وحده تولّى تدريس ولديه قواعد العربية والفارسية والسيسانية، وعلوم الدين والحساب، أستطيع أن أتنسم رائحة طيبه المعلوم من عمامته السوداء، أما صوته الجهوري وهو يتلو القرآن، أو يؤم بنا الصلوات، فإني أكاد أسمعه الآن يرن في أذني، وكأني لم أغادر بعد مدينة المحمّرة.
كنت وولديه نتناوب على جلب الماء من العين الرابضة عند سفح الجبل، كان يتولى أحدنا كلّ صباح هذه المشقة، لكنني أعفيتهما منها، وتحمّلتها وحيداً متطوعاً، ليس إيثاراً أو كرماً مني، وإنما لغاية في نفس يعقوب.
كنت أستيقظ مع نسمات الفجر الأولى، فأستر جسدي ببقيري الصوفي، وألف رأسي بما يشبه العمامة، وأسرع لأسابق الريح نحو العين، قبل أن تنقع ماءها حوافز الماشية والدواب.
هناك، كنت أنتظر مجيء شهربان، فتلوح رفقة صبيات كما يلوح القمر مكللا بنجوم في ليلة ظلماء، فأقترب منها ثم أبتعد ثم أقترب، محاولا أن ألفت نظرها إلى وجودي، وتكرر إقبالي وإدباري، فتجرأت وقلت في نفسي، ماذا لو تقابلنا على انفراد؟ لكنني حققت حلمي في خيالي، فلا رقيب على خيالي، أفتح أزرار قميصها وأدعك ما تلمسه أصابع يدي وراحتها، وحين أصطف مع رفيقيَّ وراء عمي عبد الحسين لأداء الصلوات، أدعو الله أن يغفر لي ما تقدم من ذنوبي وما تأخر، وأعود لأحلام يقظتي.
وتحقق ذلك الحلم البعيد المنال، ليس في خيالي، وإنما على أرض العين في سفح الجبل، بين شجيرات الصفصاف والصنوبر والعرعار، ونباتات برية ذات روائح زكية، وكأن كل شيْء أُعد عنوة ليتم مشهداً كنا بطليه.
ما أروع أن تتحول أمانيك إلى معيش حقيقي، إن ذلك شبيه بالشيء النادر الحدوث، لكنه تحقق لدي مع شهربان.
في ذلك الفجر العذري، وجدتها وحيدة تملأ جرتها، وحين تقابلتْ نظراتنا، وابتسمتْ لي، ارتبكتُ وانتفض قلبي، وبكلمات مني، مرتعشة مضطربة، لا معنى لها، لكنها كانت بليغة في إثبات هيامي بها، وبكلمات منها مرتعشة مضطربة، عرفتُ أنها هامت بي، ومثلما سرّها أن أكون عربيا وافدا من بغداد، سرني أن تكون فارسية من المحمّرة.
عند سفح الجبل، صرنا نلتقي كل فجر، نخفي ما نحمله من أواني السقي، مثلما نخفي قامتينا بين الأشجار والنباتات البرية الباسقة، لم أكن أعرف بعد أن اسمها شهربان، لكنني عرفت، بل ونزعت عن رأسها بخنقها لتنكشف لي خصلات شعر فاحم، تدلّت إلى أن خلتها ستصل إلى الأرض، وفتحت أزرار القميص وأنا أنتصب أمامها وجها لوجه، مطوقاً برعشة محمومة.
في تلك اللحظة بالذات، قُدر لي أن أكتشف عذاب متعة تحقيق الحلم.
توقفت في الشاطئ، وفكرت في شكري الذي ينتظر التحاقي به، لكنني فكرت في الوقت ذاته في شهربان، وفي الهوة التي تفصلني عنها، وفي حالتي الخارقة هذه، أيكون طيفها يحوم الآن حولي، فيسعف ذاكرتي باستحضار ما غاب عني.
عدت إلى تلك الأيام في المحمّرة، استحضرت ذلك الطقس الخريفي البارد، حين كنت أنسل من بين الأصدقاء، فأتدحرج نحو الشاطئ، أسير فوق رمله المبتلّ وأصدح بالغناء، أو بترنيمات لأبيات من شعر أبي ربيعة أو جميل بثينة أو كثير عزّة، وأبكي، وأبكي، مستعجلا رحيل الليل لقدوم الفجر، لأقابل شهربان، كنت أعيش العشق الحقيقي، دون أن أعرفه، ولعل مصدر بكائي كان عشقي، أو شدة خوفي من فقدان شهربان.
وها أنا ذا أعاود السير ليلا، على رمل شاطئ مبتل، عارف بأحوال العشق، في زمان ومكان غير زمانه ومكانه، كأني الأزل ينتقل من عصر إلى عصر.

(14)

أوليت ظهري البحر، فظل المنزل الأميري عن يساري، سرت بجواره إلى أن لاحت سيارة واقفة في الطريق، ترجل منها محمد شكري وفتح لي بابها الخلفي، ثم عاد وجلس إلى جوار السائق، فانطلقت بنا السيارة وكأنها حيوان ضخم جموح، تُرسل عيناه شرارة ضوء يحيل الظلام نهاراً.
أراد أن يقول شيئا، فأسكته ليتركني في سرحاني، لكن ما إن ولجنا أبنية مزدانة بالألوان، حتى صار يدلني على معالم لم أُعرها اهتماما، فقد كان ذهني منشغلا بليلة كانت أطول ليالي عمري، تلك التي تأخر فجرها عشرة قرون، لتكون حداً فاصلا بين عصرين.
هل استغرقت تلك الليلة حقّاً عشرة قرون؟
عليَّ أن أصدق قبل أن أطلب من الآخرين تصديقي!
ما إن توقفت السيارة، حتى قفز محمد شكري خارجها، وفتح لي الباب، وخاطبني:
ـ مرحبا بك صديقي أبا حيان في قلب مدينة طنجة، الشارع يسمى "موسى بن نصير" والمطعم الذي سندخله يسمى "الريتز".
عاد إلى صاحب السيارة، سمعته يشكره، ثم رجع حيث أقف، ودعاني لولوج المطعم وهو يقول لي:
بعد أن اتخذت هذا المطعم مقراً لي، جعلت منه ملتقى للمثقفين من معارفي وأصدقائي، أتقبل أن تكون أحدهم؟
حركت رأسي موافقاً ضاحكا، فتقدمني ينزل دركتين لنصير وسط المطعم، انحنيت برأسي مثله محييا ثلاثة أشخاص ملأوا إحدى الموائد. وقف أحدهم وصافحنا، فالتمس شكري منه بأدب جم، أن ينتظر إلى أن يفرغ من أمر له معي، وصار يدلني:
ـ الذي نراه في الزاوية حان صغير، والقنينات المرصوصة فوق الرف أنبذة مغربية.
لم أتمالك دهشتي، فسألته:
ـ خمور تعرض في مطعم علانية؟
ـ ماذا يدهشك في هذا؟ جل البلاد الإسلامية تُسوِّق الخمور جهرا، أما كان في العراق خمور وحانات؟
ـ بلى، هناك حانات من زمن جلجامش، ومنها حانة بغدادية كانت تديرها رابعة العدوية قبل أن تتصوف، أذكر أن أبا نواس كان يؤمها، كما كان يسافر من بغداد إلى حانات خارج مدينة الحيرة، أما الخمور فلا تعرض في الأسواق، بل تباع بطرق سرية، ويقام الحدّ على بائعها ومقتنيها، باستثناء حاشية الخليفة وبطانته.
ـ أنت تتحدث عن العراق قبل عشرة قرون. الأمر يختلف اليوم، دعنا من هذا الآن، وتعال أطلعك على الصور التي تزدان بها جدران المطعم.
تابعت الفرجة على صور تجمعه بأدباء وشعراء وسياسيين. صور عجيبة حقيقية، يكاد أصحابها ينطقون، توقف عند صورة لرجل دمث الملامح، وقال لي عنه:
ـ إنه الشاعر عبد الوهاب البياتي من العراق، قضى نحبه في دمشق منذ سنوات قليلة. لقد ظلَّ صوته رعداً مدوياً، وكان نسرا جريحاً، أعرفه عن كثب منذ ثلاثين عاماً. انتقل بعدها إلى صورة أخرى، وقال لي عن صاحبها:
ـ مناضل معارض عنيد، ابن مدينة طنجة، حكم عليه بالإعدام، لكن رفاقه دبروا فراره إلى خارج المغرب، وبعد عقد ونصف، عاد ليصبح وزيراً أوّلَ، حكايته تثير الإعجاب والدهشة، وقد تفيد في فهم أوضاع السياسة العربية الإسلامية الراهنة.
لم أتمالك نفسي وأنا أنعم في صورة هذا المناضل المغربي، فقلت:
ـ إنه يشبه بالتمام صديقي أبي زكرياء يحيى بن عدي النصراني البغدادي.
أشار إلى مائدة تحف بها أربعة مقاعد منزوية في ركن عند مدخل المطعم، وأخبرني:
إنها مائدتي الموقوفة عليَّ، لا يجلس بها أحد سواي.
أسايره وأستمع إليه، لكنني كنت منشغلا في الوقت ذاته بحال العراق، بعد عشرة قرون من رحيلي عنه. فقد قال لي، إن الأمر يختلف اليوم، دون أن يدري أن جملته القصيرة هذه دوَّختني، وفجَّرتْ في دواخلي بركاناً من أسئلة ستظل أجوبتها غامضة، رغم ما قد أقف عليه من كل مستجد في العراق.
ما كدنا نجلس حول مائدته المفضلة، حتى وقف علينا رجل في مقتبل عمره، خمري اللون، طويل كنخلة لم تثمر بعد، شاربه قصير داكن السواد، محفُوفٌ بعنايةٍ فوق بسمة لا تفارقه:
ـ إنه عبد الحفيظ، النادل القيّم على جميع الزبناء، لكنني أنا مستثنى منهم، فهو يعرف عني كل شيء، نبيذي المفضل، وعاداتي، وأصدقائي، حتى ما تشتهيه معدتي، ولعلمك، فإن معدتي تشبه معدة عصفور، فهي تفضل الشراب على الأكل.
يضحك ويتحدث، ويطلب من عبد الحفيظ أن يأتينا بما لديه، ويسألني في حضوره:
ـ أتجرب نبيذاً مفضلا لدي؟ ودونما اكتراث أجبته.
ـ أريد ماء.
ـ صديقي يرغب في أن يفتتح الجلسة بالماء، اسقه ماء، ذاك شأنه!
قال للنادل قبل أن ينصرف، ورحّب بالرجل الذي سبق أن صافحنا، وأشار إلى شخصي قائلا:
ـ هذا أبو علي، صديق من العراق.
ثم انحنى عليَّ، وهمس لي:
ـ حتى لا ينكشف اسمك، ثم إن الشاعر البياتي الذي شاهدنا صورته، كان يفضل أن نلقبه بأبي علي، أليس اسماً عراقيا؟
حركتُ رأسي بالإيجاب، فعاد إلى رفع صوته معرفاً صديقه الشاب:
ـ إنه عبد القادر، كاتب مغربي متميز، ولعله درس الفلسفة بكلية الآداب، إن لم تخني ذاكرتي!
ـ ليت لي مثل ذاكرتك.
علّق عبد القادر، فضحك شكري وقال لي:
ـ الرجل صادق فيما يقول، ذلك أني أمتلك ذاكرتين، إحداهما ذاكرة الأمي والأخرى ذاكرة المتعلم، وقد لازمتني ذاكرة الأمي إلى أن بلغت سن العشرين، ففي هذا العمر بدأت أتعلم القراءة والكتابة. أما قبل ذلك، فقد كانت ذاكرة الأمي تسعفني في حفظ الأسماء والأرقام والحكايات، لكنني وأنا أمي لم أكن جاهلا، بل كنت أكثر إطلاعا ولباقة من متعلمي هذا الزمن، كنت أقتني مجلات وأُناوِلُها لمن يقرأ لي مقالات منها، في حين أن هناك متعلمين جاهلين، لا يقرأون شيئا.
ضحكنا جميعا.
أحضر النادل قنينة شراب مع أقداح زجاجية مكتنزة، وقنينة ماء خاصة بي، ثم غاب فترة زمنية قصيرة، عاد بعدها يحمل صحونا صغيرة بمأكولات قليلة، لا تكفي لِرَدِّ جوع رجل واحد، زيتون وباذنجان وفجل، وردّاً على ذهولي عقب شكري:
ـ لاتحسبَنَّ هذا أكلا، إنه مجرد مزّة معتادة لفتح الشهية لا غير.
حين صبَّ عبد القادر كأس نبيذه، أسرعت أنا فملأت قدحي بالماء وقرّبته ناحيتي، وكأني بفعلي هذا أعلن رفض شرب الخمر، فابتسم الرجل وألقى في جوفه ببعض شرابه. في تلك الهنيهة دخل المطعم شاب مربوع القد، أميل للبدانة، لم يهاجم الشيب كل رأسه بعد، وقد طفح محياه بطيبة لا تخطئها العين، صافحنا واحدا واحدا، فدعاه شكري مرحبا، وقال عنه:
ـ هذا رجل حلو المعشر، طموح، بدأ حياته مدرساً صغيراً إلى أن أصبح أستاذاً للآداب العربية، اسمه عبد اللطيف.
وأشار إلي، وهو يقول لضيفه الجديد:
ـ أبو علي، أديب وفيلسوف من العراق.
صبَّ كأساً لضيفه وخاطبني:
ـ تأكد يا أبا علي من أنه لا وجود لأحد من العامة في جلستنا هذه.
سكت قليلا، ثم وكأنه لم يُطق صبراً عاد يستفسرني:
ـ إلى متى ستظل تشرب الماء؟
ـ إلى أن يشاء الله، بعد ذلك سأتدبر أمري.
أجبته:
مرَّ زمن شرد فيه ذهني عما كان يروج بينهم من أحاديث، إلى أن استرقت أذني اسم أبي حيان التوحيدي، فتساءلت في حالة استنفار، ظناً مني أنهم بصدد الحديث عن واقعتي:
ـ بالله عليكم، عمَّ تتحدثون؟
أسرع شكري يجيبني:
عن مرارة الاغتراب، وقد استشهد عبد القادر بثلاثة فلاسفة هم "كيركيجور" و "بول تيليش" و "أبو حيان التوحيدي"، صنفهم فلاسفة حاولوا التخلُّص من مأزق الاغتراب النفسي، عن طريق الإيمان بالله.
وأضاف عبد اللطيف:
ـ جعلوا الإيمان ملجأ ومنقداً من الاغتراب.
صمتوا في انتظار وجهة نظري، فقلت لعبد اللطيف:
قد تصدق نظريتك عن الفيلسوفين الأجنبيين، فأنا جاهل بهما، لكن بالنسبة لأبي حيان، فبودي لو أعرف مصدر استنتاجك هذا.
رد عبد اللطيف:
الأمر في بساطة شرب كأس ماء، فبتقليبك لصفحات كتاب "الإشارات الإلهيّة" ستجد التوحيدي ينادي ربه ويناجيه بنبرة صادرة عن قلب خاشع ذليل، متضرعاً، ناشدا التعلق بحبل الإيمان، وذلك دون شك، محاولة منه للفرار من يأسه واغترابه.
فتدخل عبد القادر.
ـ إن ألبير كامي سمّى أمثال هؤلاء بـ "الفلاسفة المنتحرين"، لأنهم رفضوا الصمود، هربوا من مواجهة مصيرهم بالعقل والمنطق، واستسلموا لما وراء الطبيعة، شأنهم في ذلك شأن من يتشبث بالسراب اتقاءً الغرق.
حركت رأسي موافقا،ً مع أني لم أتفق في داخلي مع استنتاجهم السطحي الساذج، لكن ما أدهشني هو اهتمامهم بشخصي، إذ لم يخطر ببالي ولربما ببال من عاصرني، بأني سأظل حاضراً في المشهد الفكري العربي الإسلامي طيلة هذه القرون، عشرة قرون مرت والناس ينبشون في أفكاري وشخصي، دون أن يأخذ موتي سوى جسدي، مع أني لم أكن أنشد المجد كما فعل المتنبي والمعري، لدرجة أني أضرمت النار في كتبي، إذ كان يقيني أني جئت إلى هذه الدنيا في صمت، وسأرحل عنها في صمت، هكذا تعمّدت العيش في الظل، دون أن أسعى إلى سلطان أو مجد، أيكون لأني تمرّدت على صخب الدهماء وعلى الأصوات النشاز؟ سأتعرَّفُ الحقيقة مادمتُ قد عدت إلى الدنيا، لكنني إلى حد هذه الساعة ما أعلمه يقينا هو أنني في حياتي الأولى تلك، لم أكن أعير ذاتي أي اهتمام، ففي إحراقي لكتبي كنت أحرق ذاتي، هذه الذات التي لم تر إلا العثرات بعد العثرات، وإلاّ الاستئناس بالوحشة والقناعة بالوحدة.

(15)

انتشلني شكري من ذهولي الداخلي صارخاً:
ـ أنت غائب عنّا يا أبا علي، لا تشاركنا الشراب ولا الكلام، ولا حتى الاستماع.
ـ معذرة، فقد كنت شارداً في هموم الدنيا، إنما صدقوني بأني أريد أن أستفيد. فعمَّ تتحدثون؟
أجاب عبد اللطيف:
ـ مازلنا نَنْبُش حياة أبي حيان الذي قهر اغترابه بلجوئه إلى مرساة الإيمان، محاولا التصالح مع ذاته. فما قولك وأنت من بلد أبي حيان؟
دققت النظر في وجوههم جميعاً، وأنا أعتزم دحض ما أجمعوا عليه، فقلت لهم:
ـ لم يلجأ أبو حيّان إلى الإيمان لقهر اغترابه ومصالحة ذاته، فهو لم يكن غريبا عن ذاته حتى يصالحها، بل كان متوحداً معها، فقد نشأ مسلما مؤمنا، وانتهى مسلما مؤمنا. إن اللجوء إلى الشيء لا يكون إلا من خارجه أو من نقيضه، كحال الملاحدة حين يهربون من القلق إلى الثبات، أي إلى الإيمان بالله، وأبو حيان لم يكن ملحداً، فإذا كان قد انتقل من إيمان ضعيف، بعد أن تقدم به العمر وخبر الحياة، إلى إيمان أقوى، وهو ما أفصح عنه في آخر مؤلفاته "الإشارات الإلهية"، فإن ذلك ليس هروبا ولا لجوءاً ولا اكتشافا جديداً للإيمان، فأحرى أن يكون انتحاراً، كما زعم فيلسوفكم النصراني كَمْ كُمْ أو كِمْ كَمْ، لا أذكر اسمه، ولعله مات منتحراً.
فأسرع عبد القادر يقول:
ـ ألبير كامي، لا تقل لنا يا أبا علي إنك لا تعرفه، فهو كما تقول، قد مات منتحراً يقيناً.
فتدخل شكري وسألني:
وما قولك في اغتراب أبي حيان؟
ـ الرجل في مسير حياته كلها لازمه إحساسه الشديد بالغربة، مثلما لازمه إيمانه الشديد بالله، ولا تنافر بينهما، ذلك أنه لم يكن مسلما عادياً، بل كان مسلما قويا متمكنا من كل علوم عصره، لدرجة أنه ألف كتاباً أسماه "الاكتفاء بالحج العقلي إذا ضاق الفضاء عن الحج الشرعي"، فأحدث بلبلة في المجالس العلمية بين مؤيد ورافض ومتردد، وذهب في قوله إلى أن أعمال القلوب فوق فرائض السنة، وهي أفكار جريئة لا يستطيع تناولها إلا مسلم عالم، قوي ببراهينه وحججه، أما ظاهرة اغترابه، فلا يمكن فصلها عن عصره، أتعلمون بما اتسم به عصره؟
صمت الجميع منتظراً ما قد أضيفه، فتابعت حديثي:
ـ في عصر التوحيدي، عانى أهل الفكر والعلم من الإحساس الشديد بالعجز والإهمال والفاقة، تولى جلهم أعمالا وضيعة لسد رمقهم، فجاء ما كتبه التوحيدي عن الاغتراب، صدى يمثل روح ذلك العصر، وبإيجاز كان عصر التوحيدي القمّة ثقافياً والهاوية سياسياً.
في الحقيقة، كان بودي أن أعرف موقفكم من آراء أبي حيان مفكراً وأديباً وفيلسوفاً، وليس مغترباً فحسب، وكأن الرجل ما عرف في حياته سوى الغربة.
حرك عبد اللطيف رأسه بين الموافق والمتردد، فأشرت له بيدي أن يقول ما لديه، فقال:
ـ لاشك أن رجحان صفة الفيلسوف كانت غالبة عليه، وهي التي أبرزت بطريقة لافتة ظاهرة الاغتراب لديه، ذلك أن الفلسفة في جوهرها، ترتبط أساساً بالاغتراب، بل هي نتاجه. ومن ثمة، فإن أي حديث عن فكر أبي حيان، لا يتسق إلا إذا وقع التطرق إلى اغترابه الوجودي الفلسفي الذي تثوي خلفه كل كتاباته، ولعله لهذا السبب كان يكثر من العزلة والوحدة، شأنه شأن غيره من الفلاسفة الكبار، فالإبداع الفلسفي هو نتاج موقف عزلة، نتاج مسافة بين الفيلسوف والواقع.
لم أطق صبراً، فقاطعته مضطراً:
ـ يا سيدي عبد اللطيف، ما كانت الفلسفة نتاج عزلة، ولا نتاج مسافة بين الفيلسوف والواقع، وكأنك تريد أن تقول إنَّ الفيلسوف هو ذلك الرجل القابع في برجه العاجي، يتأمل الحياة من بعيد.
لِنَبْقَ عند أبي حيان، فهذا الفيلسوف الأديب، لم تكن عزلته مادية واقعية، بل كانت عزلة نفسية سامية داخل دائرة الواقع، أي أنه كان يتأمل الواقع من داخله، يعبّر عن تجاربه الحية، وعن أحواله النفسية كما هي في صيرورتها، بعبارة أدق، كان يمارس التفلسف بوصفه تجربة معيشة.
اسمحو لي، لا أريد أن أطيل عليكم، لكن، ألا ترون معي أن ما وصلنا عن أبي حيان لا يتعدى بعض مؤلفاته؟ إنني أتساءل، وأسألكم في الوقت ذاته، إن كنتم تعرفون أحداً ترجم له أو أدمج حياته في كتاب أو رواية، أريد أن أعرف منكم؟
ردّ عبد اللطيف:
ـ حديثك أستاذي أبا علي مقنع جدّاً، فقد جعلتنا نحس بأننا تلاميذ في حضرة فقيه متمكن، وكما في علمك، فإن الكتابة عنه جاءت بعد أن تلاشت آثاره، لذلك فإن جميع ما قيل عن حياته متضارب، يقوم على الاستنتاج والترجيح والتخمين، فلا أحد أكد يقيناً حياته البيولوجية، كأن يكون من أصل عربي أو فارسي، تزوج أم جار عليه حب امرأة، فكره الزواج، إنه نفسه أهمل الحديث عن ذاته، مما يؤكد أنه لم يكن يطمح في بقاء أعماله بعد مماته. وما إحراق كتبه إلا تأكيد آخر على إحساسه بلا جدوى الطموح.
فتدخل عبد القادر مضيفاً:
ـ إن الإحساس بالإحباط يقتل الطموح فِعْلاً، وقد عرف عن أبي حيان، أنه عاش حياة الإحباط واليأس والاغتراب.
ـ حافظ، حافظ، قنينة أخرى مع كأس ويسكي مضاعف.
قال شكري، والتفت نحوي:
ـ بالله عليك، يا أبا علي، شاركنا يا أخي كأس شراب، إنه لديكم في العراق من عصير التمر، ولدينا هنا من عصير الكرم، وشتان بين مذاق التمر ومذاق العنب، أكرر عليك للمرة الضائعة في العدّ، أننا في جلسة خاصة لا يشاركنا فيها أحد من العامة.
ـ صمت قليلا وأضاف:
ـ من تقاليدنا في المغرب، أن لا يَرُدَّ الضيف هدية مضيفه.
لم أعرف كيف باغتني الضحك، ولا كيف حرَّكت رأسي رافضاً.
فوضع الكأس أمامه، وقال بخيبة فضحتها حنجرته:
ـ ما شئتَ لا ما شاءَ شكري.
ظل شكري في ذروة حبوره، إذ أخذ يضرب بشدة على ظهر عبد القادر، مفجراً فرحاً صبيانياً، إلى أن منعه الرجل من مواصلة ضربه، فتناول كأس مدامه، ورشفه في جرعة طويلة، ثم أعاد قدحه إلى مائدته وخاطب صديقيه:
أستسمح أبا علي إن أنا أفشيت سرّاً خطيراً مدهشاً.
أفزعني قوله، هذا رجل أحمق، بعد أن لعبت تعاويذ الكؤوس برأسه، سيقدم على فضح سرِّي لأصير من جديد موضوع تساؤلات، أنا في غنى عنها، قلت في نفسي.
لكنه أشار بيده يطمئنني، وقال:
ـ هناك مخطوط أثري فريد، عبارة عن سيرة ذاتية كتبها أبو حيان التوحيدي قيد حياته، عثر عليه مؤخراً في بغداد، وقد شاءت الظروف أن يطلع عليه صديقنا أبو علي، فإذا رأى أننا أهل لسماع شذرات من هذا المخطوط، فسنكون له من الشاكرين.
ملأ ثلاثة أقداح لصديقيه ولنفسه، وصمت ينتظر ردي.
أثارت عيونُهم جميعاً أسئلة خفية ظلت معلقة تستطلع حقيقة الخبر من كذبه.
لم أعرف بماذا ابتليت، فالرجل بطريقة مواربة يريدني أن أتحدث عن نفسي، وكأني أبو علي يتحدث عن أبي حيان.
ياله من مأزق، إنَّ حياتي تخصني وحدي، ولا معنى لأنشر تفاصيلها على آذان أناس لا تربطني بهم سوى صلة مجلس شراب عابر.
لكن شكري، وكأنه اكتشف ما يموج بداخل رأسي، قال:
ـ حياة أبي حيّان، ليست ملكاً عينياً موقوفاً عليه، أو على ذويه أو بلده، إنها من الشأن العام المشاع بين الناس، تراث إنساني مشترك بين جميع الأمم.
كلام جديد، لكنه حق ومنطقي، رفعتُ كأس الماء وألقيتُ به في حلقي، وقلت لهم:
ـ لا وجود لمخطوط أثري عن سيرة أبي حيان، لكنني أعلم عنه أشياء قد لا تعرفونها أنتم.

(16)

توقفت عن إتمام حديثي، بعد أن فاجأني محمد شكري بانتصابه واقفاً على رجليه، مرحباً بامرأتين وقفتا على رؤوسنا، وهو في حالة ارتباك، يشير تارة إلى مقعدين فارغين، ويطلبُ منّا تارة أخرى أن نفسح المجال لهما لتشاركانا المائدة، وفي الآن ذاته كان يسرد أسماء الجميع ليتعرف كل منا اسمَ الآخر، دون أن يذكر وجه قرابته بالمرأتين.
لعلهما زوجاه أو شقيقتاه! قلت في نفسي، وأنا أتحسر لمعرفة نوع هذه العلاقة، ودون إرادتي، انتفضت في مقعدي من هول ما شاهدت، فبعد أن أوقد لهما لفافتيهما بعود ثقاب، صب لهما كأسي نبيذ، فتناولتاه، وتجرعتاه، وكأنهما رجلان لا يختلفان عن الرجال في شيء، لكن الأغرب من ذلك، أن لا أحد غيري أثاره هذا المشهد.
إنهما جاريتان، قلت عنهما في داخلي، لكن شكري أبلغ السيدة السمراء، وتدعى صوفيا، بأنني أديب وفيلسوف من العراق، وقال لي عنها بالمقابل:
ـ إن السيدة صوفيا روائية باللغة الفرنسية.
حركت رأسي مبتسماً، لكنني في الحقيقة لم أفهم شيئا، إذ لم أقو على مزج امرأة تعاقر الخمر جهرا، براوية للأحاديث الشريفة!
وبعد برهة زمنية اهتديت إلى التسليم بالأمر الواقع متعللا بالفارق الزمني الذي قلب العالم رأساً على عَقب، فبعد هذه المسافة الزمنية، لم يعد غريبا أن أرى الشمس تسطع من مغيبها، وتغرب من حيث مشرقها.
جلست صامتا مسكونا بهواجس ظلت تُناوشني، فارتأيت أن أسلي نفسي بهذين المخلوقين اللذين اقتحما مجلسنا في بطن الليل، استرقت النظر إلى المرأة الداكنة السمرة المسماة صوفيا، إنها لا تتشبه بالرجال سلوكاً فحسب، بل مظهراً أيضاً، فقد قصّت شعرها العاري، وتزيّنت بقميص وسراويل ضيقة، حتى في عنادها لم تختلف عن الرجال، فقد أمرها شكري أن لا تخلط أحاديثها بالفرنسية، إلا أنها تمادت في غيها دون أن تعبأ بأمره، ثم بطرف جفن استرقت نظرات أخرى نحو "ماريا"، فراقتني أنوثتها، إذ كشفت عن ساقين ناعمتين بيضاوين، اعتلتهما تنورة قصيرة زاهية بلونها السماوي، بشرتها بيضاء وشعرها فاحم، أرسلته وراء ظهرها، لو لم أكن متعلقا "بنهاوند" لتمنيتها زوجا ثانية لي، سحر خاص بعينيها العسليتين، جعلني أتحاشى إطالة النظر إليها، فإلى تلك اللحظة لم أكن أعلم بعد درجة قرابتها من شكري.
كل شيء كان يطوقني بالدهشة والغرابة وبأسئلة كثيرة طرقت رأسي، فشغلتني دون أن أجد سانحة لأستفسر عنها.
كنت أبدو وكأني أستمع إلى أحاديثهم، لكنني في الحقيقة كنت أستمع إلى ما تتناقله نفسي من هواجس، تلك الهواجس المرتبطة بحضور المرأتين الغريبتين في مجلس واحد معنا، فقد كانتا تتحدثان وتعاقران الشراب كالرجال تماما، لا فرق بيننا وبينهما إلا ما تميزتا به من نعومة البشرة.
صارت الجلسة تمنحني نشوة تذكي أحلام يقظتي الموغلة في أعماق التاريخ.
وخطر لي أن أشاركهم الحديث، فتوجهت بسؤالي إلى صوفيا:
ـ سيدتي، عمن من الفقهاء تروين الأحاديث؟
حملقتْ في وجهي مستغربة، وكأني فهت بكلام غامض، فأسرعت أعيد سؤالي بصيغة مغايرة، وأنا إخال لهجتي قد عاقتها عن فهمي، والتبس الأمر عليَّ حين حركت رأسها يمينا وشمالا، وأشرعت عينيها تأكيدا لعدم فهمها، لكنني لم أتخاذل، بل توجهت إلى شكري، أستفسره بصريح العبارة:
ـ ألم تقل عن السيدة صوفيا إنها راوية، أم تُراني خانتني أذناي؟
تأملني برهة، ثم أجابني مبتسماً، وكأنه تدارك الموقف:
ـ كنت أعني روائية لا راوية، و "روائي" كلمة حديثة يقصد بها من يقوم بكتابة نصوص حكائية من نسج الخيال.
ثم فجأة، افتعل نوبة من الضحك، وخاطب مرافقيه:
ـ مزاح أبي علي لا يفهمه إلا خاصة الخاصة من الأدباء العراقيين، فقد أراد بأسلوبه الماكر إصلاح خطأ وقعت فيه، إذ قلت عن صوفيا راوية عوض أن أقول روائية، لكنني نجحت في الرد عليه بأسلوبه الماكر ذاته، أليس كذلك يا أبا علي؟
حركت رأسي موافقاً وأنا أحس بهم يتنفسون الصعداء، وأكثرهم صوفيا التي سايرتهم في فهم ما لم تفهمه.
لولا نباهة شكري وشطارته لافتضح أمري، قلت في نفسي، وقد تأكد لديَّ أن أكذوبته البيضاء قد انطلت عليهم جميعهم، ففكرت في أن لا أشاركهم بسوى أحاديث عابرة احتراساً من وقوعي في حُفَرٍ جديدة، لكن السيدة صوفيا أربكتني بسؤالها الذي فاجأتني به:
ـ كم لغة تتحدث يا مسيو علي؟
فأسرع شكري يشرح لي:
ـ إن كلمة مسيو فرنسية، وتعني السيد.
أحكمت تسجيل الكلمة الجديدة في ذاكرتي، وأدرت سؤالها في رأسي، وأنا أنظر إلى شكري، عله يسعفني بجواب يقيني زلة لسان جديدة. وبعد أن طال صمته، أجبتها:
ـ إضافة إلى لغتي العربية، أتحدث الفارسية والسيسانية والكرديّة. كما أنّني مُلِمٌّ ببعض أسرار اللغة البيزنطية والمسمارية والبابلية، وأنت سيدتي، كم لغة تتحدثين؟
فتدخل شكري يجيبني:
ـ اللغة الفرنسية هي ورقة توتها الوحيدة، فهي غير متمكنة من صياغة جملة عربية واحدة بطريقة سليمة.
خلت أن كلام شكري سيغضبها، لو لم تضحك وتقول:
ـ تلك حقيقة، وأنا سعيدة بها.
أما عبد اللطيف وعبد القادر، فكلما هَمَّ أحدُهما بفتح فيه، إلا وأسكته شكري، ليستأثر وحده بالحديث، ومثلما تنتقل جرادة من مكان إلى آخر، ظل ينتقل من موضوع إلى آخر، معلنا غبطته بكلِّ فكرة تصدر عنه، وسألني:
ـ أتعرف معنى لاسم صوفيا؟
فعلا لم أعثر على تفسير له، فقلت:
ـ لعله اسم مصدره الصوفية!
ضحك وهو يمسّد شعر المرأة، وكأنه سيمتدحها، وقال:
ـ اسم هجين، تنكر لأصله العربي "صفية" ليتشبه باسم لاتيني مسيحي، مثله مثل اسم ماريا، الذي هو "مريم" في أصله العربي.

(17)

رفع شكري قدحه وأمر الجميع بالصمت، وخاطبني:
ـ سوف تصادف نماذج كثيرة من أمثال صوفيا وماريا، رجال ونساء يشتركون في كونهم ضحايا، وإذا عرف السبب بطل العجب!
ـ لم أفهم!
قلت له، فابتسم وتجرأ على تناول سيجارة من صندوق "صوفيا" المختلف عن صندوقه، وقال لي:
ـ المغرب، هذا البلد الأمين، ظل نصف قرن رازحاً تحت جميع أنواع الاحتلال الفرنسي، لكنه لم يذعن، فثقافته، بالمفهوم الشامل، بقيت متراصة ومستنفرة، إلى أن أُعْطِيَ اسْتِقْلاَلَه، وهنا بدأ العجب.!
وقاطعه عبد اللطيف:
ـ لم أكن أعلم أنك محلل سياسي، إن كلمة "أُعْطِيَهُ"، هي الكلمة الحق.
ـ لست محللا سياسياً. أنا أنقل الواقع، وأعري الضحية والجلاد، فأنا رجل مخضرم، عشت عقديْن ونصفاً في ظل الاحتلال العسكري، وأزيد من أربعة عقود في ظل الاحتلال الثقافي.
وتدخل عبد القادر قائلا:
ـ أشاطرك الرأي، فقد خرج العسكري من الباب، وعادت ثقافته من النافذة، أهذا ما تريد قوله؟ املأ قدحي أيها العبقري!
ـ لا، لن أسقي أحداً قبل أن أنهي حديثي. ولعلمكم، عفواً، ولعلم صديقي وضيفي أبي علي، أعلن له، بأنني في مسير حياتي الطويلة العريضة، والتي كلما تقدم عمري، إلا وبدت لي قصيرة، أعلن عدم انتمائي في السابق والحاضر لأية هيئة سياسية حزبية، وبأني أمقت الحزبيين، الشيوخ الكبار البهلوانيين، حروف الجر وليس النكرات المجرورات، فهؤلاء اغتصبوا طفولتي وسرقوا كهولتي، لتكون النتيجة، أن صوفيا أصبحت سعيدة بجهلها تركيب جملة واحدة مفيدة بلغتها الأم، هكذا يبطل العجب.
والآن، سأملأ أقداحكم لنشرب نخب مآسينا، لنشرب على شرف عظمة حروف الجر، تلك التي انتصرت على إصابة المجرور بالكسر.
رفع الجميع كؤوسهم إلى السماء، فتساءلتُ عن السبيل لجعل هذه الجلسة تقصر أو تمضي بسلام، فقد فسدت أو كادت، فبسبب الكؤوس التي لعبت برأس شكري، لم أجد معنى لخطبته، ولا معنى لمجالستي شبانا صغاراً في مقام شراب، ولا معنى لوجود حريم غريب مشاع بيننا، ولا معنى لإرغامي على انتحال شخصية أديب عراقي، بل لا معنى لأن أظل كل هذا الوقت معلقاً فوق مقعد، وأنا المعتاد على افتراش البساط أو السجاد أو الأرض العارية، لا أن أتسلق الكرسي وكأني في حضرة حاكم.
تملكني ضيق مشوب بحزن وأنا أتحسس نفوري ممن يحيطون بي، فكان علي أن أستحضر أصدقاء فاس، فهم أيضا مغاربة، لكن الحال معهم كان مختلفا،ً كان لبعضهم مجالس شراب، إنما تلك كانت قليلة ومحاطة بسرية تامة، تتخللها موسيقى مغربية خالصة، عربية وأمازيغية ويهودية، كانوا يفترشون سجاداً يسمونه زربية، مطرّزاً بألوان زاهية، حيث تُفْرَدُ لكل شخص منهم وسادة مطرزة ليتكئ عليها. وتتوسط الجلسة مائدة خشبية ذات أرجل قصيرة يسمونها "طيفوراً"، توضع فوقها قوارير من قش أو مرشات فضية يتطيبون بما بها من رحيق الورد أو الزهر، أو غيرهما من أرحقة نباتات ذات روائح زكية.
لقد عَلِقَ بذاكرتي من أشربتهم "الصَّامت" و "الماحية"، يحتسونهما في قدح واحد يدار عليهم بالتناوب فردا فردا، ويسمون القدح القشي "غرّافاً".
ما ألذ تلك القعدات، وما أدفأها! فمن كثرة انتشائي بها، ونفوري من قعدتنا هذه، يزداد يقيني بانتمائي إلى الماضي، إلى ذلك الجيل من أصدقاء فاس وبغداد، إلى زمانهم وثقافتهم. ولذلك، فلو أني الرجل نفسه الذي حضر هناك ويحضر هنا، فإني لست الشخص ذاته الحاضر هنا. أيكون الرجل هو حمولته النفسية والوجدانية في زمن واحد؟!
لعل مرد اشتداد غربتي إلى أني ابن ذلك الزمان الذي مرت عليه عشرة قرون. فلو أن الأمر يتعلق بالمكان وحده، لخفت وطأة هذه الغربة، و لتقلّصت حدتها، ولو إلى نزر يُبقي لنفسي بريق أمل، ويشيع فيها حلم عودتي إلى بيتي في الرصافة، وإلى خلاني في بغداد.
لكن، أمام هول ما أنا فيه، فلا أرى لي سوى مخرجين، كلاهما مرّ، تحمّلٍ أو جنونٍ.
وأعادتني السيدة صوفيا إلى صخب الجلسة، بسؤالها الموجه إلينا جميعا:
ـ مارأيكم في تغيير هذا المكان؟
فأسرعت أجيبُها:
ـ أتمنى تغيير الزمان، لا المكان وحده!
ضحكوا جميعهم متوهمين بأني أمزح، لكن محمد شكري فطن إلى قصدي، إذ خاطبني وقد بَدَا عليه وهن الشراب من خلال حنجرته:
ـ الزّمان من أعقد قضايا الإنسان وأخطرها، وقد قام علماء، أكثرهم غربيون، بتسويد آلاف الصفحات عنه، لكنه ظل لديهم بدون علاج، إشكال محيّر، يُصيب بالجنون ولا يصاب، يَقهر ولا يُقهر.
وهمست إلى شكري ونحن نتهيأ لمغادرة المطعم:
ـ لن أقوى على الذهاب إلى مكان آخر. أفضل العودة إلى إقامتي.
ـ المكان الآخر نَادٍ ليلي، به موسيقى وغناء وبنات ليل.
ـ لا، لن أقوى.
ـ لك ما أردت.
أجابني شكري والتفت إلى مرافقيه يخبرهم برغبتي في العودة إلى فندقي، فمدوا أيديهم لأودعهم واحدا واحداً، لكن صوفيا لم تكتف بمصافحتي، بل مالت نحوي وطبعت على وجهي قبلة، ثم تبعتها ماريا وفعلت الشيء نفسه، قبّلتاني أمام الملإ وهما تضحكان، دون أن تثيرا أي تساؤل أو تعليق من رفاقنا، أما أنا، فمن كثرة ذهولي أحسست باحتقان الدم في شراييني.

(18)

في طريقنا إلى إقامة السراب، ونحن نمتطي صهوةَ السيارة البيضاء، ظلت المرأتان تشغلان تفكيري، فطلبت من شكري أن يكشف لي سرهما، لكنه بجوابه المقتضب، وكأنه يحتج على طلبي، زادني غموضاً على غموض، إذ أجابني بالحرف الواحد:
ـ إنهما مجرد صديقتين لا أكثر!
أربكني جوابه حدَّ الفزع، لكنني دون إرادتي، انتزعت منه ضحكاً عالياً، حين تساءلت بصوت مسموع:
ـ تتصادقان والرجال، دون أي اعتبار للشيطان؟
وسألته:
ـ وما الذي يضحك في هذا؟
حاولت أن أرصد ملامحه من خلال ضوء متقطع ترسله أعمدة الإنارة، فاتضح لي أنه يضحك في سره، وخاطبني:
ـ حين أدركك الصباح يا أبا حيان، بعد نومتك الأندلسية في القرن الرابع الهجري، كان العالم قد خطا إلى الأمام مسافة عشرة قرون، لكنك على ما يبدو، لم تقم وزنا لما استغرقته هذه المسافة من تغييرات، وإلا ما كنت لتسألني عن المرأتين هذا السؤال، إنك تريد أن يتصرف الناس وفق منطق زمانك، هذا مستحيل!
ـ أنا سألتك عن حكاية المرأتين، وليس عن كيف يجب أن يتصرف الناس.
 قلت. ولذت بالصمت. بعد فترة زمنية، استعذبت التفكير في حركة السيارة التي جعلتني أحس بما يشبه هدهدة المهد، ولعلني غفوت لحظات قبل أن أنتبه إلى أن الرجل منشغل بشيء ما بين يديه، وحين أوقد سيجارته عرفت أنه كان يبحث في محفظته عن صندوق سجائره، فتذكرت أن التدخين يساعد مزاجه على الروقان. إنه بعد سيجارة واحدة سوف يبوح لي باسرار المرأتين، وصدق حدسي، فقبل أن يأتي على سجارته الأولى، انفطرت حنجرته تعلن استعداده للبوح:
ـ لا شك أن سلوك صوفيا وماريا أوقعك في حيرة من أمرك؟
ـ إنه لكذلك.
أسرعت أجيبه برنة من ينشد سماع المزيد.
فزاد:
ـ لا بأس، ولو أني سأعرض بإيجاز ما قد يتطلب مني ليلة كاملة من الشروح.
 كانت أعمدة الإنارة قد اختفت، فبدا إلى جانبي شبحاً، لكنني من خلال هبوط حاد في نبرات حنجرته، أدركت أنه ثَمِلٌ.
ـ إن تصرفات صوفيا وماريا في مطعم ريتز، مرتبطة برياح التغيير التي لم تشملك، أكرر للمرة الثانية أن العالم أثناء نومك العميق، شهد حروبا وثورات واختراعات واكتشافات، كظهور الطائرة والإنارة وموانع الحمل واختفاء الأندلس، وأشياء أخرى كثيرة ومتنوعة، فكان من الطبيعي أن تولد عادات جديدة وقيم جديدة ومفاهيم جديدة ورؤى جديدة.
لم أطق صبراً، وهو يكرر برتوب كلمات بعينها، وكأنه يخاطب أَبْلَهَ أو شخصاً انبعث من العصر الحجري، فقاطعته:
ـ من يجهل تأثير الزمن في سلوك البشر؟ كل الحضارات منذ سومر وبابل والأندلس وغيرها، كانت مصادر لعادات وقيم لم تكن موجودة، أو هي كانت موجودة في مخيلة الإنسان، إلى أن دعت الضرورة إليها، فتعرفناها. كل هذا أعرفه وأحقه، لكن سؤالي الضيق اقتصر على حكاية المرأتين اللتين قبّلتاني أمام الملأ في مطعم ريتز، وشاركتانا مجلس الشراب، وتقول إنهما صديقتان لك، وكأنهما والرجال سواء بسواء، هذا تحديداً ما سألتك عنه.
ما إن أتممت قولي، حتى توقفت بنا السيارة في وسط الطريق، فخاطبني شكري:
ـ إننا بجانب القصر الأميري، على مقربة من فندق السراب، وسأرافقك عبر الشاطئ إلى إقامتك، وإن اقتضى الحال، أتممت ما تبقى من الليل في ضيافتك.
ترجلنا من السيارة، فطلب شكري من السائق أن ينصرف.
واستقبلتنا رائحة البحر بهواء ينعش العظام، وارتفع في السماء بدر منير في كماله، كشف أديم صفحة البحر، ولمعان بياض أمواجه، مثلما كشف ملامحنا وتعثر خطواتنا فوق رمل رحب استدار حولنا، فصرخت بأن البحر أشد مخلوقات الله روعة وسحراً. انحرفنا يمينا فامتدت أعمدة الإنارة خطاً واحداً مسرعاً من حدائق المنزل الأميري إلى فندق السراب، لكنها بدت أمام شعاع البدر قناديل باهتة محتضرة، فانتشلني شكري من هيامي، وقال لي:
ـ نظريتك القائلة إنَّ الاختراعات تنام في ذهن الإنسان، أعجبتني.
ـ أخبرني أولا بحال المرأتين.
قاطعته في عجلة من أمري، وأمسكت بذراعه أحثه على الابتعاد عن حدائق القصر، والاقتراب من الشاطئ، فضحك وأشعل سيجارة أخرى، وقال لي:
ـ أجل أجل، أعرف أنك مفتونٌ بالبحر، لِنَدْنُ منه إذن، إنما قبل أن أحدثك عن السيدتين دعني أصارحك بأن مقدمتي عن التغيير الذي أصاب سلوك البشر كان مصدرها اقتناعي بجهلك للمرأة، وبصفة خاصة نساء هذا العصر، فقد عرف عنك عدم مخالطتك للنساء، وباستثناء ما سمعته منك في المحكمة عن علاقتك بالجارية السيدة نهاوند، فإن جل الباحثين في سيرتك أجمعوا على خلو حياتك من المرأة، ولذلك سقت تلك المقدمة.
قهقهت وهرولت محاولا الابتعاد عن موجة اكتسحت الشاطئ، فغمرتني لأغوص وسط بركة ماء بارد بلغ ركبتي، وحين التفتت إليه، وجدته مُقَوَّسَ الظهر من شدة الضحك، وقد تراجع إلى الخلف ركضا في رشاقة نورس حقيقي، واستمر في ضحكه والموجة تنساب بين قدمي، عائدة إلى البحر بعد أن أنهت مهمتها.
ـ أنت ابن الصحراء، وأنا ابن البحر، وإلا لكنت عرفت أن تنجو من البلل، عليك بانتزاع حذائك وحمله في يدك. فهو حذاء جميل.
قال وهو يقهقه بصوت مرتفع.
 أنا أيضا غمرتني نشوة فرح طفولي، فأجبته دون أن أكف عن ضحكي:
ـ أفخر بانتمائي إلى الصحراء، مثلما أفخر بأني ابن بغداد، أكبر حاضرة في الخلافة الإسلامية، لكنني عشت كذلك في مدن ساحلية، في البصرة وفي المحمّرة الفارسية. إلا أن أمواج شواطئنا أكثر رقة ونعومة وانسياباً من أمواج شواطئكم. أخبرك بهذا لتضيفه إلى معلوماتك الناقصة. ألم تقل إنك أرّخت لحياة المهمشين، لتؤرّخ أيضا لحياة الهامشيين، أو بالأحْرى لمن صار في زمانك هامشياً.
ـ وأنت أيضا أبا حيان، لتضف إلى معلوماتك، بأن أسوأ ريح تهبّ على طنجة نسمّيها "الشرقي"، بينما نسمي الريح التي يحملها إلينا بحر الظلمات "الغربي"، وهي تسربل مشاعرنا بالنعومة والانتشاء.
ودون أن يتوقف عن ضحكه، أضاف:
ـ نحن معاً معلوماتنا ناقصة، إنك محظوظ يا صاحبي، فهذا النسيم الذي يلفح وجوهنا هو ما نسميه "الغربي"، أما ريح "الشرقي"، فإنك لا تقوى على مقاومة إزعاجه لحظة واحدة.

(19)

أشرت له بيدي أن نستأنف مسيرنا بمحاذاة الشاطئ، فاستجاب، ومشينا دون أن أخلع حذائي المبتلّ وأمسك به في يدي، وكأني لا أملك سواه، ورفعت رأسي إلى فندق السراب أمامي، وقد بدا بأضوائه المرتعشة مارداً يحرس البحر، ولمعت في ذهني قَوْلَتُه عن جهلي بالمرأة، فأردفت بصوت عال حتى لا يبدده صخب الموج:
ـ تعرَّفت نساء كثيرات عربيات وفارسيات، ولي فؤاد خفق وهام وعشق، وذاق طعم الغرام وهَدَّهُ الوجد والبعاد، هذا البحر أحضر لي تفاصيل من حياتي كانت في طي العدم، كنت في حوالى العشرين من عمري، غض الإهاب، حين همت بأول صبية فارسية.
ـ ياسلام! ماذا كان اسمها؟
سأل شكري، وأرخى أذنيه لسماعي، وفي عَجَلَةٍ من أمري، وكأني أمتحن ذاكرتي لأتعرّف ما قد تستعيده من تفاصيل تلك الأيام البعيدة المنسية، أو لربما كنت في حاجة إلى البوح، قلت:
ـ كان اسمها شهربان، ومعناه بالعربية نور القمر.
ـ يا سلام!
صرخ شكري، ورفع نظره صوب القمر، فأسرعت أقول له:
ـ من أجل ماذا تتمثَّل بين الحين والآخر بكلمة ياسلام، ماذا تعني بذلك؟
ـ ألا تردّدون هذه الكلمة في العراق؟ إنها تقال في كل البلاد العربية، وتفيد التعبير عن الإعجاب أو الإنبهار.
ـ ما علينا، قد تكون الكلمة من التعابير المحدثة. بيت القصيد أنني وشهربان تواعدنا أن نَظَلَّ على وفائنا إلى أن نتزوج، كنا نلتقي خلسة عند غبش الفجر في الجبل، أو بعد أن يرخي الليل سدوله على المنحدر أو الشاطئ، وبعد أن صارت شهربان دنياي ومناي. ولعلني كنت قد صرت دنياها ومناها، ودون شائبة عكرت صفونا أو خصومة أفسدت هوانا، اختفت مرة واحدة مثلما يختفي القمر في ليل حالك الظلام، فرحت أبحث عنها دون كلل ولا ملل، حتى غلب على ظني أحد أمْرَيْنِ، إما أن السماء رفعتها، وإما أن الأرض ابتلعتها، إلى أن بلغني أن أحد الكهول من آيات الله، ضمها إلى حريمه زوجا رابعة، وهاجر بها إلى مدينة قُم، وأترك لك تخيّل ما أصابني من غم، وما لحق بي من كدر وتعاسة.
ـ ألم ترتبط بَعْدَ شهربان بامرأة أخرى؟
ـ أبدا لقد صار النحس يلاحقني، ليظل الفشل حليفي، نحن مسيرون ياشكري لامخيَّرُون. فكل شيء مخطط له في لوح محفوظ بمشيئة الله، قبل أن نولد، ثم بالله عليك، كيف تسألني إن كنت قد ارتبطت بامرأة أخرى، وأنا أحدّثك عن حبّ حقيقي كنت أكنّه لشهربان؟
ـ أقصد بعد زواجها من غيرك. وبعد مرور الزمن، ألم تفكر في الزواج؟
ـ "وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى"، صدق الله العظيم، أذكر أني كدت أقدم على الزواج مرتين، في المرة الأولى بمدينة شيراز الفارسية نفسها، وكنت قد تخطيت الأربعين من عمري، كان الجرح الذي تركته شهربان في فؤادي قد أخذ يلتئم. الحقيقة أنّني لم أفكر في امرأة أخرى، لكن الواقعة بدأت على يد صبي فارسي كنت أعلمه مهنة الوراقة، وأفقهه في علوم اللغة العربية، مقابل توليه شؤون بيتي، كان نجيبا مريدا ودوداً، تلك حكاية أخرى. الشاهد أن هذا الصبي النزق، أخبرني ذات يوم أن أرملةً من جيرانه توفى عنها بعلها، وتركها في ريعان شبابها، وكرر على مسمعي الخبر مرات، دون أن يكف عن الثناء عليها، ووصف مفاتنها وخصالها، ورشّحها زوجاً لي، مما جعلني أشك في أمرها وأمره، إذ ظننته مُرْسَلاً من قبلها، فاشترطْتُ مشاهدتها قبل أن أفكر في العقد عليها، وحين استدرجها لزيارتي بوصفي عالما صوفيا، وجدتها مليحة ناعمة، فاستفسرت عن أصلها وفصلها، وقررت أن أزفها إلى نفسي مستندا إلى حديث رسول الله (ص): "اختاروا لِنُطَفِكُمْ فَإنَّ الْعِرْقَ دَسَّاسٌ"، ذلك أني كنت على علم مسبق بصلاح أشقائها، ويا ليتني كنت أسرعت بخطبتها قبل أن تحل الكارثة.
أخذ شكري نفسا عميقا. واستوقفني ممسكا بذراعي، وسألني:
ـ أية كارثة؟ أتزوجها غيرك؟
ـ ليت غيري تزوجها، فقد حدث ما هو أفظع من ذلك، ترددتْ على بيتي بضع مرات، وتواعدنا على الزواج، ولأني لم أكن أتوافر على ما أرتديه من لباس لائق يرفع من مقامي أثناء الخطبة، انشغلت بحياكة وخياطة تكةٍ وغلالةٍ وبَقيرٍ وشملةٍ، ثم كوفية وعمامة في بياض اللّبن الحليب، دون أن أهمل قدمي، إذ ابتعت نعلين على مقاسي.
في خضم انشغالي هذا، قام أحد الوشاةـ لعنة الله عليهـ فأبلغ أحد أشقائها بأنها تزورني خلسة في منزلي، فما كان من هذا الشقيق، صونا لعرض عائلته، إلا أن انقضَّ عليها كحيوان شرس، وبعد أن سفك دمها، ألقى بجسدها الغضّ في جوف بئر على مشارف المدينة.
أمسك شكري رأسه بِكلتَا يديه، وصرخ:
ـ يا للكارثة. إنها حقا مأساة! ماذا فعلت بعد ذلك؟
ـ لم أكن على علم بما حدث، إلا بعد أن زرت والدها، وأنا في أوج تألقي ووثوقي من نفسي، فقد جلست إلى الرجل معرّفا بشخصي في ارتباك وحبور لا يدركه إلا من أقدم على خطبة امرأة خفق قلبه لها، فأرادها حرثاً له. وغادرت منزلها كليم الفؤاد، لأجهش بالبكاء، كامرأة ثكلت أعزّ من تحب.
ـ وهل كان لا بد من ارتداء لباس أنيق كي تخطبها، مع أن علمك خير ما ترتديه؟
ـ إنها الأصول ياشكري، فلباسك يرفعك قبل جلوسك، وعلمك يرفعك بعد جلوسك.

(20)

حرك رأسه استحسانا لجملتي، وقال لي:
ـ أسايرك الرأي، أنا واللهِ متفق معك، فموضوع الأناقة دوّخني أنا أيضا منذ سنين، ولا أرى بأساً في إخبارك بأن أقوى ما حفَزني على الكتابة، هو إعجابي برجل أنيق، كان محل ترحيب واحترام من لدن زبناء مقهى كان يرتاده، ودفعني فضولي لأستفسر عمّن يكون هذا الرجل، فقيل لي إنه كاتب. فقررت للتو أن أكون كاتبا، ما أخبرك به سبق وأن أعلنته في أحد كتبي جهراً، ذلك أن الأناقة لا تتجزأ، فالأنيق في كتاباته وثقافته، لا بد أن يكون أنيقا في سلوكه ولباسه.
وأخذ يضحك بصوت مرتفع وكأن مساً قد أصابه.
ـ ماذا يضحكك يا شكري. أجبْني؟
توقف بعد أن ابتعد عني خطوتين، وهو يمسح عينيه من دموع الضحك، فقال لي:
ـ أضحك على ما سببته لي من تعاسة، فقد جعلتني أتألم، وحين انتبهت، وجدت أن السيدة توفيت منذ قرون، أكثر من عشرة قرون، فحتى لو كنت تزوجتها، أو عاشت مائة عام دون زواج، فقد كان عليها أن تكون في العدم. إنَّ الحزن عليها في وقتنا هذا أمر مضحك، وإذا أردت الحقيقة، فإني أضحك أيضا من الفرح. من سعادة قصوى تغمرني.
ـ أية سعادة تقصد؟
لم يجبني، ألقى بين يدي بحقيبته، وجرى يواجه الأمواج إلى أن ولج البحر. لم أعرف بماذا ابتليت، هناك بكل تأكيد غاشيةً غشيته، أو جنّيٌّ شقّ صدره فدفعه إلى الانتحار، وتبعته يهدّني الهلع:
ـ شكري شكري، لا تكن مجنونا، ارجع ارجع!
دون أن يتوقف صراخي، وقفتُ والماء يعلو ركبتي، وداهمتني موجة تكسّرت فوق صدري، فكادت تلقي بي أرضا لتجرفني إلى داخل البحر، فتراجعت إلى اليابسة، وأنا أشاهد شبحه يغوص ثم يطفو فوق الماء.
بعد برهة زمنية، وقد أوشك صبري على النفاذ، خرج الرجل المجنون وهو يرتعش من البرد. أنا أيضا كانت ركبتي تصطكّان من البرد أو الخوف، أو من هجمتهما معا.
ـ ماذا بك ياشكري؟ لماذا ولجت البحر؟
لم يكف عن الضحك وهو يخلع سترته وقميصه، فخلعت أنا أيضا سترتي نصف المبللّة ووضعتها على كتفيه لتمنحه بعض الدّفء.
ـ من شدة فرحي دخلت إلى البحر.
ـ عن أي فرح تتحدث يا هذا؟
في ذروة حبوره وضحكه، أضاف:
ـ إنه التفرد بمعرفة أسرار أبي حيان، وعشقياته، وخيباته، ومنزلته الرفيعة في هذه الدنيا.
أزال حِذَاءَهُ، ورمى به بعيداً في جوف البحر، ثم كوّم سترته وقميصه، ولوّح بهما في البحر ذاته. وواصل حديثه متفلسفاً:
ـ إن القدر الذي حرمك من الزواج، هو نفسه الذي أبقاك حياً لتنعم برغد العيش والحياة. القدر سيعوِّضك ما فاتك في زمانك ذاك البعيد. كل نساء العالم سَيُرِدْنَ التّعرف إليك، سوف يجتمعن حولك كالنّحل ويرتمين على قدميك كالذباب. هلْ هناك سعادة أكبر من هذه؟ إن هذا مسطرٌ في اللوح المحفوظ قبل أن تولد. كان عليك أن تعرفه بمجرد علمك بعودتك إلى الحياة، لكنك لم تنتبه إليه. أنا لا أعرف كيف نتحجج نحن البشر بمبررات لشقائنا، ولا نتحجج بها عن سعادتنا، إنما قل لي، إنك لم تحدثني بعد عن المرأة الثانية!
ـ أنت رجل أحمق، هيا بنا إلى الفندق قبل أن يزهق البرد أرواحنا.

(21)

همست لشكري:
ـ إني أحس بانجذاب نحوها، يخيل إلي أنها أصابت مني الفؤاد، ليس بقصائدها الشعرية، إطلاقاً، وإنما بأطرافها كامرأة.
انحنى على كتفي، وأحاط فَاهُ براحتي يديه، كي لا يسمعه غيري، وأسرَّ في أذني:
ـ إنها حقاً جميلة، وشاعرة جيدة.
ابتسم وهو يعتدل فوق مقعده بجواري، وتابع انصاته لما تلقيه المرأة من شعر.
ـ شاعرة ليست ولابد، لكن أنوثتها صارخة، قلت في نفسي.
ظلت الأعناق مشرئبة نحوها، إلى أن توقفت، فاهتزّ المكان بالتصفيق.
رمقت شكري يتسلل وسط الحشد مندفعاً نحوها، وقد علّق محفظته على كتفه، في حين كانت هي تنشر ابتساماتها على من أحاط بها من مريدين، أولئك الذين ما أن انتبهوا إلى قدوم شكري حتى أفسحوا له المجال ليصل إليها، مؤكدين بارتباكهم مقامه الأثير لديهم.
بقيت في مكاني أرعى الوجوه والحركات، فدقَّقْتُ النظر في نوافذ كبيرة مستطيلة، ذات زجاج سماوي، تتدلى على حواشيها ستائر زاهية الألوان، ثم انسحب بصري إلى جدار، زيّن بصور لمناظر بهية، وآخر طرّز بزخارف ونقوش ارتفعت إلى سقف الرّدهة، فتدلت ثريات ضخمة بمصابيح صغيرة نحيفة، صعب عليَّ عدّها.
لا، ليس هذا فندقاً كما قال شكري، بل هو قصرٌ خليفيٌّ بحق.
راقني أن أكون نكرة وسط هذا الحشد من الناس. فلا أحد تعرّفني أو انتبه إلى وجودي.
فكرت في القصائد الشعرية التي هزّت القاعة بالتصفيق، تلك التي لم ترقني منها قصيدة واحدة، ولا صدرٌ ولا عجزٌ. فقد كانت أقرب إلى الترسّل منها إلى الشعر، غاب عنها الوزن، وغابت الموسيقى، فافتقر البيت الشعري إلى وحدته الإيقاعية، وإلى استقلاله التام، وامتد إلى بيت لاحق، ربما هي تجهل التّضمين، أو لعل شعراء هذا العصر تخلوا إرادياً عن نظام العروض كما كان عند الخليل.
تذكرت صديقي أبا نصر الجوهري، ومطارحاتنا الفكرية المستفيضة عن مؤلفيه "عروض الورقة" و "كتاب الصحاح المعروف"، فلو كان حاضراً واستمع إلى هذه القصائد، لأقام الدنيا ولم يقعدها، كان لا يجامل أحداً في العلم. تُرى ماذا حل بكتابيه التحفتين، أخلدا بعد وفاته أمْ أتلفا واندثرا؟ لابد لي أن أستفسر عن مصيرهما. فما دام أثري قد امتد إلى هذا القرن، فلم لا يكون أثره هو الآخر قد عامله الزمن برفق، فأوصله إلى هذا الوقت.
مددت يدي رداً على تحية عبد اللطيف، وقد فاجأني مبتهجاً مخاطباً:
ـ مرحبا بك أبا علي، أما زلت في طنجة يارجل؟
استولى على مقعد شكري بجواري، وجلس واضعاً رجلا فوق رجل، دون أن يكف عن الترحيب بشخصي، وإبداء رغبته لجلسة أخرى، كتلك التي ضمتنا في مطعم ريتز. ثم انتقل لسؤالي عن مدى إعجابي بقصائد الشاعرة "إخلاص".
قال عنها "إخلاص"، أحكمتُ حفظ اسمها في ذاكرتي، وحرَّكتُ رأسي دون أن اتلفَّظ بكلمة، فقد كانت تخطو في اتجاهنا.
في الآن ذاته حدستُ أن شكري قد حدّثها عنّي، وإلا ما كانت لتتقدمه في خط مستقيم نحوي.
وقفتُ ومددت لها يدي، فبادرتني بالقول:
ـ أعتز بحضورك يا أبا علي، إن العراق موطن الشعر الحق.
ثم التفتت نحو شكري، وأنهت ما كانا يتحدثان بشأنه:
ـ وهو كذلك، بعد ساعتين من الآن.
سارت بنا السيارة عبر الطريق الشاطئي، كان البحر المتوسط عن يميننا، توقعت أن تكون الشمس في هذه اللحظات قد جنحت إلى الغروب في الطرف الآخر من المدينة، حيث بحر الظلمات، تشرق من بحر وتغرب في بحر آخر، أسعدني تعرفي ثوابتَ طنجة، وانعرجت بنا السيارة لتتوغل في بطن المدينة. أكد لي شكري ما قاله لعبد اللطيف من أننا سنتعشى رفقة إخلاص بمطعم ريتز، وأخبرني بأن أمامنا ساعتين كاملتين للفسحة.
كانت العتمة في بداية إطلالتها الأولى، فسطعت أنوار الطرق والمتاجر معجلة بانهزام النهار. بشر مثل تجمعات نمل فَرَّ من ثُقْبِ الأرض، وانتشر يدبُّ على قارعة الطريق. رجال ونسوة وفتيان وصبايا يتسكعون في أمن وسلام.
أخبرت شكري بأن حركة الرجال في العراق تتوقف عند صلاة المغرب، وقد تمتد في بيوتهم إلى وقت صلاة العشاء.
ثم سألته:
ـ أتوجد في عراق اليوم كهرباء، مثل هذه الموجودة في طنجة؟
وحين عاد لضحكته الساخرة، توقعت للتو ما سيقوله.
ـ يكاد العالم اليوم يبدو كله متشابها.
أسعدني جوابه، سرحت أتخيل ليالي بغداد، تلك الموغلة في الماضي، وحالها اليوم مأنوسة بأضواء تسْطع من نوافذ الدور ودكاكين التجار، وتلك المبثوثة ربما فوق حواشي الطريق، أو أركان الحارات. فكرت في زخم ما سوَّدْته يدي من صفحات بيضاء، مسترشداً بضوء شمعة بعد شمعة، أو بقنديل هزيل يكاد يضيء نفسه. لو كان لي مثل إنارة اليوم، لكنت قد ألَّفت أضعافَ ما ألّفت من كتب. إنَّ بغداد اليوم مثل طنجة إذن، تمرق بها سيارات، وتضيئها كهرباء، ولعل الأتربة المتراكمة في كل مكان، وعواصف الغبار المنتشرة كالضباب، اختفت كلّها اليوم بعد أن عُبِّدت الطرق وأضيئت، وتخلَّت المرأة عن الخمار والبرقع، وغدت تجوب الشوارع سافرة الوجه، عارية الرأس، كحال شقيقتها في طنجة.
إذا كان الحال كذلك، فلا داعي لأن أعدّ نفسي منزوعاً من عالم ومقذوفاً بي إلى عالم آخر. الآن فقط أتأكد من أن المغاربة حين يتعرفوني أديباً وافدا من العراق، يتعاملون معي كرجل انتقل من مكان إلى مكان، وليس من زمان إلى زمان.
حين نطق شكري جملته، انتفضت في مقعدي وأنا أحسبه قد قرأ ما يموج في خاطري، إذ قال لي:
ـ القادم من الزمان ليس كالقادم من المكان، شتان ما بينهما من بون.
بعد ذلك انتبهت إلى أنه التقط جملتي حين جهر بها لساني دون إرادتي، وأضاف:
ـ كل مخلوقات الله تسافر في المكان، من سلع وبضائع وأجساد آدمية. إنه سفر تافه ساذج، فالسفر في الزمّان هو الإشكال الحق المحيّر، حبذا لو كشفت لي عن إحساسك الحقّ بهذا الانتقال.
أجبته وكأني أحدث نفسي:
ـ الزمان المتعدّد شرّ متعدّد.
فأسرع يقول في عجلة من أمره:
ـ أرجوك أبا حيان، لا تُعِدْ قول هذه الكلمة، إني أخشى عليك من نفسك.

(22)

اعتدل في مقعده وأشعل سيجارته، وأضاف:
ـ لكي يكون الرجل سوياً، عليه أن يتقبل واقعه، بعواهنه وتقلباته، إن خيراً فمرحبا، وإن شراً فمرحبا أيضا.
ـ قول جميل، لكنه يظل قولا على كل حال.
ـ إنه عصارة تجربة قاسية، ففي شبابي الأول، تعرضت لهزة نفسية بسبب رفضي لواقعي، وكانت النتيجة أنّني عثرت على نفسي مطوحاً بي فوق أحد أسرة مستشفى للأمراض العقلية في قرية مهجورة.
ـ تقول في شبابك الأول، ألك شباب ثان؟
أجابني بغضب حاد:
ـ دعني يا أخي أنهي حديثي، لا تقاطعني، إنك لا تدري إلى أين أريد الوصول، ولْأُجِبْ أولا عن سؤالك المقحم في حديثي، بأني أسمّي الكهولة بالشباب الثاني، والشيخوخة بالشباب الثالث، إن لي مسمياتي الخاصة بي، فهل لديك اعتراض؟
ضحكت وأنا أتظاهر بالإصغاء إليه، فأضاف:
ـ مكثت بالمستشفى زهاء عامين، ولعلني اهتديت إلى علاج نفسي بنفسي، إذ صرت أراوغ واقعي، أوهم نفسي بتقبله، أخلق عوالم خاصة بي، وأسكبها في متون سردية، وبعبارة أدق، صارت الكتابة ملجئي ودوائي، بعد ذلك تحولت لدي إلى احتجاج.
وكأنه استدرك فكرة كادت تضيع، فأضاف:
ليس هذا مهماً، ذلك أن ما كنت أهدف إليه، حين قلت لك بأني أخشى عليك من نفسك، هو أن أخبرك بقصة أهل الكهف، وهي قصة لم تشغلني حين قرأتها لأول مرة، لكنني بعد تلك الليلة في شاطئ المحيط عادت تطرق رأسي وتستبد بتفكيري.
ـ وهل لي علاقة بهذه القصة؟
أجل، لك علاقة بها، بل إنك أحد أبطالها الحقيقيين.
كان يتحدث بثقة وصدق بالغين، مما ولّد في نفسي فزعاً لم أقو على إخفائه.
وسألته:
ـ كيف ذلك؟!
ـ القصة استوحاها صاحبها من آية قرآنية لا أحفظها، لكنه صاغها في قالب حكائي شيّق، وملخصها أن أربعة أشخاص وخامسهم كلبهم، لبثوا نياماً في أحد الكهوف المهجورة، مدة ثلاثمائة عام أو أكثر، وحين استعادوا حياتهم، وجدوا العالم قد تغير عمّا كان عليه في زمانهم، وبالرغم من الحفاوة البالغة التي استقبلوا بها كقديسين، فإن صدمة الزمان الجديد، كانت أقوى على نفوسهم، فرجعوا إلى الكهف، وقضوا به.
إن الآية القرآنية لا تتحدث عن وفاتهم، لكن الكاتب، ليكشف عن رؤيته لإشكال الانتقال في الزمان، وليمنح حكايته بعدا مأسوياً، جعل الرجال الأربعة يفضلون الموت على العيش في زمان غير زمانهم.
سكت ينتظر رد فعلي، لكنني لم أجبه، فقد سرحت أستحضر الآية القرآنية بكاملها في ذهني، وأنا في أقصى وله من يُنتزع منه اهتمامه ودهشته، ثم أضاف:
ـ تلك وجهة نظر كاتب الرواية، وذاك رأيه، أما أنا فأخالفه وجهة النظر والرأي، بل إنّني مستعد أن أتنازل عمّا تبقى من شبابي الثاني والثالث ثمنا لأيام أعيشها في زمان لاحق، أنام مِلْءَ جفوني عن شوارد هذه الحياة، وحين أفتح عيني أجد نفسي في صحوة عصر آخر، مثلما حدث لك يا أبا حيان، ومثلما وقع لأصحاب الكهف، مارنوش ومشيلينيا ويمليخا والكلب قطمير. هكذا ارتأى صاحب الرواية تسميتهم، مثلما ارتأى أن يرفضوا العيش في غير زمانهم. أجل، قد أرفض العيش في زمان ولّى بعد أن تعرّفت مستجدات هذا العصر، لكن، أن أرى ما ستكون عليه الدنيا ولو بعد قرن واحد، فذلك أَحَدُ تمنياتي المستحيلة، ولعلّك تقر بأن لكل منّا تمنياته المستحيلة، أو لنقل أحلام يقظته. إنك تحلم بمقابلة "نهاوند"، أليس كذلك؟
ـ بكل تأكيد!
أجبته، فضحك، وأضاف بين الساخر والواثق مما يقول:
ـ إنها أمنيتك المستحيلة.
خفتُ أن يسخر مني لو صارحته بأني أعيش لأقابلها، فلذتُ بالصمت، لكن قوله، إنها أمنيتك المستحيلة، أربك مخي، حَدَّ أني تمنيت لو كنت مخلوقا وهميا كأحد رجال أهل الكهف الذين حدثني عنهم، واستحضرت الآية القرآنية مرة أخرى، فتأكد لي حقيقة وجودهم، لكن الآية لم تحدد عددهم ولم تشر إلى هلاكهم: "سيقولون ثلاثةٌ رابعُهم كلبهم، ويقولون خمسةٌ سادسهم كلبهم رجما بالغيب، ويقولون سبعةٌ وثامنُهم كلبهم، قل ربي أعلم بعدَّتهم ما يعلمُهم إلا قليل". صدق الله العظيم.
أراحت الآية نفسي، فشتّان ما بينها وبين شطحات كاتب الرواية، حقا، إنها لمعضلة أن يجد المرء نفسه وبدون سابق إنذار، في عالم لم يتوقعه ولم يألفه، ليس به أحبّاء ولاخلان ولا أعداء. فحتى الأعداء قد يحنّ الغريب إليهم أحيانا، لكن الحنين نفسه يتلاشى أمام الهوة الزمنية التي تفصلنا عن ماضينا البعيد، فيحل اليأس بدله، وأي حنين يتبقى بعد موت الأمل؟
قد يحسب المرء باستحضاره مخلوقات تفصلها عنه قرون، أنه يحن إليها، لكنه في حقيقة الأمر لا يحن إلا إلى نفسه من خلالها، هذه تجربة شخصية أعيشها، ثم تذكرت "نهاوند" فسرت في بدني رعشة حنين إليها، مع أنها ابنة ذلك الزمان البعيد الذي تفصلني عنه قرون. ولكن، هل سأحن إليها إن أنا فكرت فيها بمعزل عن ذاتي؟
خفت أن يقطع شكري حبل تفكيري، فتظاهرت بمشاهدة معالم المدينة من خلال نافذة السيارة وهي تسير ببطء، لكنني لم أشاهد شيئا، فقد بقيت مكتفيا بما يستحضره ذهني. فكرت في حنيني إلى "نهاوند"، أَهُوَ حنين صادق حقيقي، أم إن مرده خيط ما تبقى لي من أمل في لقياها؟ ذلك أنها باقية في مكان ما، مثل ما هو العراق باق، وشيراز وفاس، فلعل السبب أن ما يوجد في المكان أبقى وأرسخ مما يوجد في الزمان.
الزمان إذن هو المعضلة، لكن ليس إلى حد تفضيل الموت على الحياة، كما جاء في رواية أهل الكهف المتخيلة، وإلا، لكان آدم قد انتحر حين انتقل من زمن الجنة إلى زمن الأرض، ولكان الشيطان قد حذا حذوه. ولأظل في تجربتي الشخصية، فهل انتقالي من زمن إلى زمن سيجعلني أفضل الموت؟
كان على شكري أن يعيدني إلى واقعي العيني:
ـ ألا تريد النزول، فقد وصلنا؟
لم أعرف كيف توقفت السيارة، ترجلت منها وأنا أحاول أن أبدو ثابتاً محافظا على همّتي واتزاني، فأنا عالم منطقي.
كان الليل مُسجًّى يفوح فيه نسيمُ بحري عليل. بادرت شكري:
ـ يسكنني صفاء ذهني خارق، إني لقادر في هذه اللحظة أن أكتب مؤلفا كاملا.
ـ لتكتبه بعد أن تعود إلى إقامتك، أما الآن فدعني أخبرك بأننا مقبلون على ولوج "باراد"، أجمل مطعم وأروع حان في طنجة، إن لم أقل في المغرب كله، تديره وارثته "ليليان"، سيدة أمريكية مؤهلة لتكون بطلة لرواية باذخة، نحن زمرة أصدقائها ندعوها "ليلي" تصغيرا وتجمّلا.
دفع الباب بيده وفسح لي المجال لأتقدمه. فوجئت بحديقة تظللها أشجار باسقة، ويفرشها سجّاد من عشب أخضر، وموائد بِشَرَجٍ قصيرة تضيء نفسها لا أكثر، وعلى اليسار بعد صعود درجين، رُصَّتْ موائد أخرى، وطوار وأضواء تتلألأ بألوان قوس قزح، دعاني إلى حيث الطوار الخشبي الناعم، وطلب مني أن أعتلي مقعدا للجلوس، بدون متكإ الظهر، وتسلق آخر مثلي.
جاءت "ليلي" مبتسمة ضاحكة، مدّت لي يدها فصافحتها، أما هو، فانحنى على أصابعها يقبّلها بلطف مبالغ فيه، وكأنه ولَدٌ مطيع، ودخل معها في حوار بلغط لا أعرفه.
وبعد أن انسحبت قال لي:
ـ ليلي جاوزت العقد السادس، لكنها تبدو في شبابها الثاني، تحافظ على رشاقتها بالحركة وعزف البيانو ودرء كل ما قد يربك مزاجها. بدأت حياتها خليلة لثري أمريكي، فانتهت علاقتها غير الشرعية بعلاقة شرعية، تزوجها وفارق الحياة، فورثت عنه هذا المطعم وعقارات وأموالاً في أمريكا، لكنها فضلت البقاء في طنجة.
ونادى عليها يطلب شيئا، فجاءته بكتاب أنيق، تناوله وقال لي:
ـ إنه دفتر ضخم للذكرى أعدته "ليلي" لزوارها الكبار، توجد به رسومات لفنانين، وكلمات لسينمائيين وكتَّابٍ وشخصيات من العيار الثقيل، جميعهم مروا بهذا المطعم، لماذا لا تخط به أنت كذلك كلمات، وتوقعها باسمك الحقيقي؟
ـ وماذا عساني أكتب؟
أخذ يضحك حتى كاد أن يسقط أرضاً، وطلب كأساً إضافية لنفسه، وقال دون أن يكف عن الضحك:
ـ أُكتب يا أخي آية الكرسي.
ـ ولماذا آية الكرسي؟
أجابني وهو يواصل ضحكه:
ـ حتى تحجبها الآية من كل سوء.
عرفت أنه يمزح، فضحكت بدوري، وقلت:
ـ بما أنها ليست مسلمة، فسأدع أمر الكتابة لفقيه نصراني، أو لملحد إن كانت ملحدة.
وضحكنا معاً.
أقرُّ بأني أعجبت بتلقائية شكري، فهو يرفع الكلفة من أول لقاء، ويقحم الهزل في وقته المناسب متى أحس برتوب الكلام الجاد.
وقبل أن يطول صمتنا، قال لي:
ـ لم أزر "ليلي" منذ أسبوع كامل، وقد اعتدت أن أمر بها آخر الليل لأتناول آخر كأس، أسميه عكاز الطريق.

(23)

أخبرني شكري ونحن نهم بمغادرة مطعم باراد، بأننا سنذهب مشياً إلى مطعم ريتز، حيث الأصدقاء في انتظارنا، هلَّلْتُ لهذا الخبر بفرح طفولي، وأنا إخال نفسي أسير الهوينى مكتشفا أزقة وحواري مدينة طنجة. لكن فرحي لم يطل، فما إن انحدرنا في شارع ولي العهد، ثم عرجنا يساراً على شارع موسى بن نصير، حتى وجدنا مطعم ريتز عن يميننا بالمرصاد.
قبل أن ندخل المطعم، همس لي شكري:
ـ لا تلتفت خلفك، فحراسك على خطوات منا!
ـ هم يعلمون إذن بمعاقرتك الخمر، وقد يبلِّغون عنك.
سألته، فدعاني إلى الدخول، وقال لي بصوت خفيض:
ـ لا تكترث لذلك، فلن يجرؤ أحد منهم على حشر أنفه فيما لا يعنيه.
لكن مزاجي تعكّر.
كانت الجماعة جالسة حول مائدة عن يسار مدخل المطعم، في الركن الخاص بشكري، إخلاص وعبد اللطيف ورجلان لا أعرفهما، حاولت أن أدرأ عني الغمّ، فردَّدْتُ بداخلي قول امرئ القيس: اليومَ خمرٌ وغداً أمرُ.
أسرع القيم على المطعم الشاب حافظ، يسعفنا بمائدة، فيما جرَّ شكري مقعداً ودعاني إلى الجلوس، وجاء بآخر لنفسه قبل أن ينهي حافظ ترتيب المائدتين، لتصبحا واحدة.
ملأ شكري أقداحاً مستثنياً كأسي وكأس إخلاص وكأس عبد الإله، وعرفت أن الرجل الآخر اسمه حسن، دقيق الملامح، أبيض البشرة، نحيف، مستقيم الأنف، بَدَا أصغر الحاضرين سنا، لكن عبد الإله هو الآخر أقرب إلى عمر حسن منه إلى أعمارنا.
سألني عبد اللطيف عن أحوال الحرب في العراق، فتصدّى له شكري معلناً رفض سماع أخبار الحرب.
كانت إخلاص تجلس قبالتي، أسعدني وجودها بيننا، كيف لا، وأنا الظمآن لأنثى تروي عجاف سنواتي الهاربة مني، لكن همتي وحيائي جعلاني أتحاشى النظر إليها، بل تعمّدتُ أن لا أجعل نظراتنا تتقابل، إنما رويدا رويداً، صرت أجرؤ على تحقيق رغباتي الدفينة، وذلك بالتنعم فيها، ليس بوقاحة حاشية الخلفاء ورجال السلطة، وإنما بوقار العلماء وعفَّتهم حين يسترقون النظر كلما وجدوا غفلة، أو سانحة محمودة، هكذا كنت، أختزل في نظرة عابرة، ما يقع عليه بصري، فأفرد له في مخيلتي ما تصبو إليه نفسي.
المرأة شابة، ذات بياض ناصع، يميل إلى شقرة في لون سماء الغروب، كل شيء فيها يشدك إليها، ما ظهر بدواخلها وما خَفِيَ، فهي تتجمّل في القليل مما تنطق به، تنتقي كلماتها وتصوغها في تعابير مستحدثة جميلة، وكأنها لا تتحدث، وإنما تنظم نثراً فنياً.
بدت بهمتها وكبريائها وأنفها القصير أميرة بيزنطية بحق.
كيف السبيل لأن أضمها إلى متاعي زوجاً على سنة المصطفى، لكن من أين لي بمهرها؟ أيقبل معالي وزير العدل بأداء قيمة الصداق؟ وقبل ذلك، أتقبلني بعلاً لها؟ فكرت في شخصي، وفي عمامتي التي تخليت عنها، وفي لحيتي التي أزلتها، وشكرتُ لهؤلاء المغاربة بدعهم، فبفضلهم انتقص عمري ضعفه، لأصير في شبابي الثاني، كما يقول شكري!
غابت عني مواضيع أحاديثهم، لكن بعد أن أخرج عبد الإله من محفظته ورقة وأخذ يقرأ مابها، ركّزْتُ انتباهي لسماعه:
أنا المصْنُوعُ/ من تَبْغِي الرَّخِيصِ/ وقَهْوَتي المُرّةْ/ ومِنْ ماءٍ سَمَاويٍّ/ يُرَطِّبُ/ صَرْخَتِي الحُرَّةْ/ ولا أحتاجُ مقبرةً/ تُسَمِّي نَفْسَها/ الشُّهْرَةْ!!
ما إن توقّف، حتى ارتفعت حناجرهم إعجاباُ، وكأن ما استمعوا له يعد شعراً خالصاً:
استرقت أذني حديث عبد اللطيف حين سأل عبد الإله إن كانت القصيدة لإخلاص، فأخبره بأنها لشاعر مشرقي لا يقل سموقا عن إخلاص.
يقولون عن هذا الكلام إنه سموقٌ شعريٌّ، وينسبونه إلى المشرق، هل هناك مشرقٌ عربيٌّ آخر لا أعرفه؟! ركبتني الحيرة، فما كنت أظن أن ديوان العرب سيطوله التغيير هو أيضا، فيقع التخلي عن خاصية الشعر الرائعة، وعن الحكم والتنبؤ والتأمل وكشف أسرار الحياة، وعن مراعاة الوزن والقافية وقواعد العروض، ووجدت نفسي أسأل عبد الإله:
ـ هل ما قرأْتَهُ يصنّف ضمن الشعر العربي؟
استقبل سؤالي بامتعاض، وكأني ألقمته حنظلا، ثم نظر إلى عبد اللطيف وإلى إخلاص، نظرة من يستشهد بأحدهما، وأجابني بكل وثوق:
ـ إن ما أنشدتُه يُعَدُّ من أجود الشعر العربي!
إن الانسحاب من مجلسهم أخف على نفسي من سماع هذه الترهات، فقد صدمني جوابه. في الوهلة ذاتها، انتبهت إلى شكري الذي أشار عليَّ بالصبر، من أين لي بالصّبر وكلامهم مطرقة تدق رأسي. فكرت في أن أدلي بوجهة نظري، لكن الشك حاصرني، إذ خفت أن يكون عامل الزمن قد وَجَّهَ الشعرَ وجهة أخرى تغيب عني، فيبدو حديثي في نظرهم على قدر كبير من السخف. لكن بالرغم من ذلك، لم أقو على الصبر، فقررت مجابهتهم باحتراس، كأن أَستدرجهم إلى أن أقف على ما أمسى عليه الشعر في زمانهم، ووجهت سؤالي إلى عبد اللطيف:
ـ هل تذكِّر ني بما طرأ على الشعر العربي حتى أصبح على ما هو عليه في وقتنا هذا؟
كنت أظن أن عبد اللطيف وحده استمع إلى سؤالي، فتبيّن لي أن الأمر يعنيهم جميعا، إذ لاذوا بالصمت، وظلوا في حالة ترقب لما سيجيب به الرجل:
ـ أنت تعلم يا أبا علي بأن إخواننا في العراق، كانوا سباقين إلى إطلاق مصطلح الشعر الحر، أي تحرر الشعر من القيود القديمة كنظام الشطرين والوزن والقافية. وقد وُفِّقوا في هذه الريادة، ذلك أن للشعر قيمة عليا ترتفع عن الواقع، ومن غير المعقول أن يظل حبيس ستة عشر بحراً، مكرراً نفسه، دون أي تحول. إن كل تجربة إنسانية، بما تحمله من آمال ومعاناة وآلام، تمثل بحراً من بحور الشعر، لذلك كان عليه أن ينفتح على جميع بحور الحياة.
رشف من كأسه وأضاف:
ـ إنّ الشاعرية موجودة حتى في النثر، فأينما وُجِدَ الإيقاع في الكتابة فثمّة الشعر. فلماذا نقيده بالبحور! ولنأخذ على سبيل المثال القافية. ألا ترى معي أنها مرهقة، تجعل الشاعر يضيع في البحث عنها على حساب المعنى والانفعال وغيرهما؟
هو يتحدث وأنا ألعن في سرِّي بني قومي العراقيين، مبدعي مصطلح الشعر الحر، ليتهم كانوا قد سَخَّروا طاقاتهم لمحاربة الطغيان والاستبداد والفوارق الاجتماعية، وتركوا الشعر لشأنه.
وتذكرت ما قالته إخلاص في أول لقاء بها هذا العشي، مِنْ أن العراق بلد الشعر الحق، فأيّ شعر حق كانت تقصد، القديم أم هذا الحر؟ ووجدت نفسي أسألها:
ـ سيدتي إخلاص، أتتفقين مع ما ذهب إليه عبد اللطيف؟
رسمت على محياها ابتسامة خجل، وصمتت للحظة كأنها تدعو الحضور لسماعها، أو لعلها كانت ترتّبُ أفكارها، وقالت:
ـ تلك حقيقة، فمثلما تحررت المرأة من وظائفها القديمة، كخدمة الرجل والإنجاب، كذلك تحرر الشعر الحديث من وظائفه القديمة، ومن العمود والوزن والقافية، فقد تخلّى الشاعر المعاصر عن العِمامة والعقال وركوب الفرس، فاقترب بذلك من الشعر العالمي، وصار يرتدي البذلة وربطة العنق، ويركب السيارة والطائرة. لقد أصبح يكتشف الآفاق، ولم يعد مجرد معبر، وإنما خالقٌ. ذلك أن الحضارة المدنية الصناعيّة حلَّت محل الحضارة الزراعية الرتيبة.
كنت أحس بكل كلمة تصدر عنها خنجراً يُغرز في صدري. فلو كانت تعاقر الخمر لحسبت كلامها هذياناً، لكنها وهي تتحدث بثبات الرجل الفحل، المُقَدِّر لما يصدر عنه، جعلتني أرتاب في الأمر، ربما لم يعد الشعر يحتلُّ مكان الصدارة في الأدب، كعهدي به في زماني، قلت في نفسي. وتذكرت كيف أن الأدب ظل منظوماً طيلة التاريخ، إلى نهاية القرن الثاني، ليستقل الشعر بنفسه معتليا صدارة الأدب، لكن ذلك حدث منذ اثني عشر قرناً. ثم تذكرت مصطلح الشعر المحدث الذي أعلن عنه بشار بن برد وأبو نواس وأبو تمام في أيامي البغدادية، يا إلهي! إنه زمن طويل، كاف لظهور الشعر الحر وغيره، إنما ليس إلى حد التخلي عن بحوره.
في لمح البصر، تناسلت هذه الأفكار في ذهني، لأزداد اقتناعاً بعدم جدوى مناقشتهم في أمور استحدثت في غيابي، ذاك دَيْدَنُهُمْ وهذا ديدني. لكنْ، سيظل الشعر ذو الأوزان الشطرية، في ملتي واعتقادي، هو الشعر الحق الأبلغ في الخلق، والأوفى في التعبير عن حياتهم الجديدة نفسها، بسياراتها وطائراتها وربطات أعناقها.
وانتشلني شكري من حواري مع نفسي، ليرفع الغم عن صدري بقوله:
ـ الشعر الحر صرعة عصرية عابرة لن تطول.
والتفت نحوي مبتسماً وكأنه ينبهني إلى عدم تسليمي بآرائهم، وبعد أن أوقد لفافته، تابع قوله:
ـ جمهور تيار الشعر الحر قليل جدا، مقارنة بعشاق الشعر القديم، لذلك فأنا دائم التساؤل عما سيكون عليه حال الأغنية إن فقدت القصيدة وزنها وقافيتها.
سكت وظل محدقاً في شخصي، فوصلت إليّ رسالته البليغة الصامتة، لتغمرني بنشوة عارمة، زادت نفسي حباً وتقرباً من هذا الصديق، وأحسست بشهيتي تنفتح للكلام. فبعد أن علمت بعمر مصطلح الشعر الحر، وبأن جمهوره قليل، شعرت بأني أقف فوق أرض صلبة، وبأني هناك، وارتأيت أن أبدأ حديثي من حيث توقف شكري. فقلت متوجها بكلامي إلى عبد اللطيف:
ـ الغناء حُلَّةُ الشعر، إن لم يلبسها طُويتْ. ذلك أن الألحان لا تتهيأ ولا تستقيم إلا على شعر منظوم موزون مقفى، فلا يعقل أن نتغنى بكلام منثور.
ألقيت في جوفي كأس ماء، وتوجهت إلى عبد اللطيف متابعا قولي:
لم أفهم في الحقيقة ما قصدته من قولك إنَّ الشعر قيمة عليا ترتفع عن الواقع. ألم يكن الشعر مرتفعاً محتلاً صدارة الآداب منذ العصر الجاهلي؟ أم لعلك تقصد خوض الشعر في العوالم المثالية، وتخليه عن هموم وانشغالات الناس؟ إذا كان الأمر كذلك، فأية قيمة ستظل للشعر إن تخلّى عن هموم العباد؟ ألا ترى في هذا إفراغاً للشّعر من معناه الحقيقي؟ ثم كيف ضاقت بكم بحور الشعر لتتخلوا عنها طمعاً في بحور أخرى مغايرة للعلم والمنطق؟ أليست تلك هي البحور نفسها التي نظم بها القدماء في كل مجالات الحياة، من السلم والحرب والحب والعداء والهجاء، وهي مجالات تستغرق حياتنا إلى يومنا هذا؟
ثم إن الاعتقاد والنوايا واللباس والمطايا، لا علاقة لها بشيطان الشعر، فقد تجود قريحة ممتطي جمل أو معتمر عمامة، بما لا تجود به قريحة راكب سيارة أو طائرة.
ظلت نظراتهم مصوبة نحوي في ذهول.

(24)

كانت عادتي، ألا أتحدث العربية الفصحى إلا حين أكون رفقة صديقي سيبويه، رحمة الله عليه، وربما تكرر ذلك مع غيره من علماء النحو والمنطق والبلاغة، رحمة الله عليهم جميعهم، لكنني مع هؤلاء المغاربة، فطنت إلى أنني أشنف أسماعهم حين أنطق العربية الفصحى بتنغمية الأعراب القحاح في بادية العراق. فحرست ألا أحيد عن هذا السبيل، وأنا أرى نفسي متمكنا من السيطرة على وجدانهم، بل ومن سحق بعض آرائهم في الشعر سحقاً.
هكذا كانوا يصابون بالدهشة والخشوع، دون أن يقوى أحد منهم على قطع حبل تفكيري أو إرباكي بتدخل سمج ساذج، فاستمر حالي على هذا المنوال، وأنا أبسط بنات أفكاري على طريقة مالك، إلى أن تم لي ما أردت.
بعد أن توقفت بمحض إرادتي ورويت نفسي بماء زلال بارد، داهمتني إخلاص بصوتها الأنثوي الخجول:
ـ أعترف لك يا أبا علي، أنه لم يسبق لي أن قابلت أديباً له قوة بلاغتك أو سحر حديثك!
أكملت جملتها وحملقت في وجهي كأنها ذكر وأنا أنثى!
ثم واصلت تجملها بإيقاع مغربي متفرد، كان سمعي قد أخذ يألفه:
ـ إن كلامك مقنع، أقصد آراءك، فهي تنساب وكأنك تتلو من كتاب بين يديك، تراه ولا نراه.
فتدخل عبد اللطيف، مخاطباً جمعنا:
ـ تلك حقيقة، إن الصديق أبا علي لظاهرة، عند كل لقاء يجمعنا، نكتشف سحراً جديداً يخفيه عنا.
خفضت بصري دون إرادتي، ليس حياء من مديح عبد اللطيف، أبداً، بل ضعفاً أمام نظرات إخلاص، ذلكم طبعي منذ يفاعتي. قويا كنت بين الحكام والوزراء، وهشٌّا ليّنٌا أمام الحريم. لكن مع إخلاص، شملني ضعف من نوع خاص، بالغ اللذة، حتى أني لم أجد سبيلا لمقاومته، فبقيت متقد الوجدان، "سبحان الذي يحيي العظام وهي رميم"، لعلني رددت هذا في نفسي، وفكرت في أن الوجد لا عمر ولا إرادة له، فكما أن الصبيّ يتشبث بحاضنه حدّ العشق، يتشبث الشيخ بمن يسقط عليه هواه!
لكن نهاوند كانت لي بالمرصاد، فقد أحسست بطيفها يحوم حولي، أنظر إلى إخلاص فأراها نهاوند لحماً ودماً، لم يكن هذا جديداً، فقد تمثلتها في نساء كثيرات، وأحيانا، ما أن ينتعش وجداني ويتصابى فؤادي، فيرتعش من سحر امرأة حتى تحضر نهاوند، كأنها ربة العشق، مالكة لزمام أمره، فتحول بيني وبين أية امرأة ترومها عاطفتي، ويكون لها ذلك.
استغرقتني نهاوند وإخلاص على مقربة مني، أكان لا بد أن أرحل عن بغداد بدونها؟ هب أننا هاجرنا معاً، هل كانت ستلبث معي في تلك المغارة الأندلسية عشرة قرون؟!
يرحمها الله ويدثرها برحمته الواسعة، إنها اليوم راقدة في قبر مجهول، في العراق أو في الأندلس أو في المغرب، من أدراني؟! أتذكر أن الساحر إبراهيم السوسي أكد على مسمعي أن سحره غير مخالف للشرع، سيحفظ جسدينا إلى أن نلتقي، ولكن، كيف تشملني رقيته وحدي وتستثنى هي منها؟!
أحسست بصوت نذير خفي في داخلي يُسرّ لي، بأن نهاوند قد أصابها ما أصابني، وهي هائمة تبحث عني، فانتفضت للخبر إلى أن تصبَّبَ من جسدي عرق اخترق لباسي، إذن هي مثلي في العاجلة، في مكان ما تبحث عني. إن الأمر لا يجب أن يكون إلا كذلك.
يا إله السموات والأرض! كيف غابت عني هذه الحقيقة؟
سلمتُ بعودتي إلى الدنيا بعد عشرة قرون من غيابي، ونسيت عودتها؟! مع أني أعطيتُ بخنقها لإبراهيم السوسي ليعد رقيته حتى تشملنا معاً، أنا ونهاوند!؟ أين غاب المنطق الذي أتكئ عليه لينير طريقي؟ أين كان عقلي؟
أعادني صوت شكري إلى يقظتي يستفسرني عن دواعي هيامي، فأصابني الارتباك، وسحبت نفساً عميقاُ، ثم أحطت كلتا يدي ببطني وتظاهرت وكأن مغصاً شديداً ألمّ بي.
فكرت بأنه السبيل الوحيد لأبتعد عن مجلسهم، حتى أفكر في أمر نهاوند، فهي بكل تأكيد هائمة في مكان ما تخفي حقيقتها.
اقترحت إخلاص أن أتناول كوبا من الزعتر، مصدقة مرضي المفاجئ، فشرح لي شكري بأن الزعتر نبات بري يغلى في إناء ماء ويشرب، وله مفعول السحر في الشفاء، لكنني انتصبت على قدمي معلنا عودتي إلى الفندق.
ألقى شكري في جوفه بقية كأسه، ووقف إلى جانبي وهو يعلق محفظته الجلدية فوق كتفه، فاعتذرت لإخلاص حين أبدت استعدادها لمرافقتنا، ومددت لهم يدي، فصافحتهم واحدا واحدا، ثم أعدتها لتمسك ببطني متظاهراً بالألم الذي استبدّ بي. كذب أبيض، قلت في نفسي.
سرّني أن يتطوع شكري لمرافقتي دون أن أطلب منه ذلك، فقد كنت في حاجة إلى مؤنس أبوح له بسري، أتحدث إليه بصوت مرتفع عن مصيبتي، هذه المصيبة المحيرة التي تكشفت لي من تحت طبقة الغبار في ذاكرتي.
كان عليّ أن أعلم قبل اليوم بأن الرقية التي أعدّها إبراهيم السوسي تشملنا أنا ونهاوند، وبأننا سنظل في العاجلة إلى أن نلتقي، لكنني من شدة أنانيتي لم أفكر سوى في ذاتي.
ما أن غادرنا مطعم ريتز حتى أخبرت شكري بأني سليم معافى، وبأن مرضي مجرد تمويه لأطلعه على ما يشغلني.
لم يمهلني لأنهي حديثي، بل قاطعني ضاحكا:
ـ إنها أيضاً أبدت اهتمامها بشخصك!
ـ من تعني؟
ـ إخلاص!
ـ يا لك من متسرع متهور، إن ما يشغلني هو نهاوند وليس إخلاص!
أرخى أذنيه لسماعي بذهول، فانسابت مصيبتي على لساني إلى أن أتممت قص تفاصيلها.
ظل فترة من الزمن مأخوذاً، مُقَلِّباً الخبر في رأسه، وخاطبني:
ـ إنها قضية كبيرة، شائكة، تصلح لأن تكون مادة لرواية شائقة، إني أراها فوق مستوى تفكير الإنسان العادي.
صمت قليلا، وأضاف:
ـ من ذا الذي يصدق خبراً مثل هذا؟ جارية تبحث عنك منذ عشرة قرون!؟

أدار رأسه يميناً وشمالاً، وبعينه ارتياب، وكأنه يبحث عن فضوليٍّ أو متلصصٍ يسترق السمع إلينا قال لي:
ـ إننا يا أبا حيان نتحدث وقوفاً في الشارع!
ـ وأين تريد أن نتحدث جالسين؟!
ـ أقترح مطعم "بيرغولا" المواجه للبحر، ودعني أصارحك بأنني صرت في حاجة إلى كأس إضافية تخصب مخي حتى يقوى على استيعاب هذا الخبر الجديد المحير. فبالكاد صدقت قصتك الغريبة، وها أنت تضيف إليها ما هو أغرب! إن هذا يذكرني بالقولة الإسبانية: "كنا أربعة عشر نفراً، فأضافت الجدة مولوداً آخر".
قذف بنا شارع موسى بن نصير، ليتلقفنا شارع آخر فسيح، قال عنه شكري:
ـ هذا شارع باستور.
ثم أخذ يلقي خطبة بعيدة عن موضوع قضيتنا.
ـ باستور، اسم مسيحي لطبيب عالم اكتشف دواء يشفي من داء كان فتاكا، وهو الاسم الأجنبي الوحيد الذي أبقى عليه مسؤولو مدينة طنجة، بعد أن استبدلوا عشرات أسماء الشوارع بأسماء عربية.
كدت أصارحه بعدم أهمية ما يقول، لكنني فكرت في أن تلك طبائع بعض البشر، يقحمون مواضع هامشية في قضايا مصيرية تشغلك، و تظاهرت بالإصغاء. فاستأنف حديثه:
ـ ليتهم اكتفوا بشطب أسماء القادة العسكريين الأجانب، وأبقوا على أسماء العلماء والمفكرين والفنانين الأجانب!
اللباقة تلزم سماعه ومسايرته، لكن شكري صديقي، فقلت له:
ـ لكن لماذا لم يختاروا منذ البداية أسماء عربية لشوارعهم؟!
ـ كانت طنجة مدينة دولية، أي تحت نفوذ الأجانب المسيحيين، وهؤلاء من أقاموا الشوارع وتولوا تسميتها، وبذلك، فإن تغيير تلك الأسماء من لدن المسؤولين الجدد، تحريف وتزييف للحقيقة!
سكت قليلا وأضاف:
ـ ألم تطلعني يا أبا حيان على موعد كان لك مع نهاوند في جنة العريف بغرناطة؟
تنفست الصعداء، إذ أسعدني أن يعود بي إلى قضية نهاوند، فأسرعت بالقول:
ـ بلى، إنه لكذلك، فقد كنا على موعد في جنة العارف!
لكنه أجابني:
ـ هب أن اسم جنة العريف تغير إلى اسم آخر! فماذا سيكون موقفك؟ ألا ترى في هذا تغييراً للحقيقة؟ ولعلمك فإن الإسبانيين بعد أن أخرجوا المسلمين من الأندلس، أبقوا على بعض الأسماء العربية، حفظاً لذاكرة التاريخ، فلماذا نقوم نحن بتزييف التاريخ وإرباكه؟
كان عليَّ أن أشاركه موضوعه، رغم أنف مصيبتي، فقلت له:
ـ أوافقك على ما تقوله الآن، فتلك حقيقة كانت تغيب عني، وأتمنى أن تكون بغداد محتفظة بأسماء أحيائها ومعالمها القديمة!
 كنا نسير في شارع طويل عريض بجوار البحر، مضاء بأعمدة نور لا تحصى، فقلت له:
ـ لنعد إلى واقعنا، في أي بلد يحتمل وجود نهاوند؟
أسرع في خطواته، وكأنه بذلك يطلب مني أن نؤجل الحديث إلى أن نصل المطعم.

(25)

سرنا صامتين إلى أن ولجنا مطعم "بيرغولا". صعدنا بضع درجات، فبدت لنا صالة رحبة نصف مغطاة، ملأتها مقاعد وطاولات، وأشرفت على شاطئ ذي رمال بيضاء، امتد إلى أن انبطح لأمواج البحر. كان المشهد مثيراً لحواسي، خاصة وقد جعلت أشعة الإنارة ظلامه نهاراً مضاء جعلني أستحضر تلك الليلة العجيبة، ليلة الاحتفالات بعرس الخليفة "القادر بالله"، حين تزوج سكينة ابنة "بهاء الدولة البويهي"، فقد كانت الأضواء تسطع من عشرات المراكب فوق دجلة، وأخرى تزيّن الحارات والأزقة، جاعلة ليل بغداد نهاراً بهيجاً يأخذ بالألباب.
في تلك الليلة البغدادية المضاءة، وشهوتها تداعب عواطفي وتسربل أحاسيسي بدفء جارية ترقب عودتي، بقيت ساهراً رفقة صديقي بديع الزمان الهمداني إلى موقت آذان الفجر، كنا بحي الكرخ على ضفة دجلة، أنشده مما يستحضره ذهني من نسيب وغزل القدماء، ويسمعني من أطايب مقاماته الجديدة، وحين نصمت للراحة، تتناقل إلى مسامعنا مواويل بدوية حزينة، تصدر من مركب على مسافة منا، دون أن ينقطع صدى لأهازيج غنائية يحملها نسيم النهر. كان عرسا بحق، استقدم له الخليفة مغنين جواري وغلمانا من الهند وفارس ومصر، فتوزعوا بين قصر الخليفة وقصر والد العروس وقصور الوزراء ودور الحاشية وكبار رجال الشرطة.
حدث ذلك منذ حوالى عشرين عاماً أو أقل. أجل، أتذكر العام بالضبط، سنة ثلاثٍ وثمانين وثلاثمائة هجرية، ونحن الآن في عام ثلاثةٍ وعشرين وأربعمائة وألف، وأقول منذ حوالى عشرين عاماً! يا لسخرية القدر!؟ ورسى بصري في اتجاه واحد، على الميناء نفسه الذي استقبلني مهاجراً سرياً، تذكرت شرطة طنجة وكرم ضيافتها تلك الليلة، فقد كانت أتعس ليلة في حياتي. أصوات منفرة تصدرها بواخر تغادر الميناء وأخرى تحل في رحابه، لم أغظ طرفي عنه، فقد كان على مرمى حجر مني. ولعل الضوء البعيد هناك، كثير الغمز، أقيم عنوة ليرشد المراكب إليه، أما الضوء الآخر المقام للغاية نفسها، فقد سبق أن تعرفته وزودت بمعلومات عنه في إقامة السراب، إن مصدره محتجب عني، لكنه لا يكف عن إرسال برقه بين لحظة وأخرى طوال الليل.
لا أنكر نشوة التنعم في انعكاس إشارته الضوئية في السماء و على صفحة مياه البحر دون أن تخفت أنفاسه. لعله من أعجب اختراعات بني الإنسان وأغربها، لكنه لم يشغلني عن التفكير في عرس الخليفة ولا في نهاوند، ولا شغلني عما يستحضره ذهني مما كان قد مرَّ بي أيام شبابي في شط مدينة المحمرة بفارس، فقد كنت مولعاً بالمقارنة بين الصحراء والبحر. كنت أرى الصحراء عراء ملتهباً وودياناً شاحبة يطاردها الجدب، فتذكرت الرمال الساخنة تحرق قدمي الصغيرتين الحافيتين إلى أن ينسلخ بعض جلدهما، وكنت أرقب البحر في مده وجزره، وأستكمل من رأسي أساطير وأسرار سردها بحارون من مدينتي المحمرة والبصرة، فتصحبني في نومي، تؤرقني أو توقظني مفزوعاً، مكسواً عرقا.
وبقيت على تلك الحال، إخال الصحراء صادمة، والبحر ملهم، إلى أن أوضح لي الزمان بأن كل ما يصدم يلهم، فتساوت لدي الصحراء بالبحر.
كدت أضيق بصمت شكري، فهو لا يفتح فمه إلا ليتجرع كأساته، مما جعلني أخرجه من صمته بسؤالي:
ـ إن نهاوند تبحث عني، فما السبيل لأعثر عنها أو لأجعلها تعثر عني؟!
نهش في شعر رأسه، وأجابني بصوت خفيض:
ـ ما دليلك أنها تبحث عنك؟
ـ دليلي بصيرتي، ثم إني أستند إلى قناعتي ولا تهمني قناعتك، هب يا رجل أن ما أقوله هو عين الواقع، وفكر معي في وسيلة توصلني إليها.
ـ لك ما تريد.
نطق كلمته بتكاسل، ودسّ في فيه سيجارة أوقدها بيدين مرتعشتين، وقال:
ـ إن أقصر السبل إلى نهاوند أن تعلن عن وجودك، أن تجعل الصحافة والإعلام يتحدثان عن انبعاثك بعد عشرة قرون من غيابك، والجملة الأصح، بعد عشرة قرون من موتك! ولربما قد تستمتع بلقاء السيدة نهاوند. لكن يقيناً سوف لن تستمتع بالجلسات الهادئة في الأماكن التي ارتدتها أو في تلك التي لم تتعرفها بعد!
أهرق كأسه في جوفه، وسافر ببصره بعيدا نحو البحر، ثم نحنح مهيئا صوته للحديث، وكأنه سيحسم الموضوع برأي لا يُردُّ له أمر، وقال واثقاً من نفسه:
ـ بإشهار وجودك، سيرتبك العالم كله. سيصبح خبرك حديث الناس في كل بقاع الأرض، شمالا وجنوبا، شرقا وغربا، بين المصدق والمرتاب والنافي. سيسعى آلاف البشر إلى الظفر بمشاهدة هذا المخلوق العجيب الغريب القادم من القرن الرابع الهجري. فئة منهم ستقول عنك المهدي المنتظر، وفئة أخرى ستعتبرك ساحراً أو جنياً. سيتزاحم على رؤيتك الصحفيون والأدباء والسياسيون والفضوليون، إنها ضريبة الشهرة، أعني جزيتها. ومن يدري، فقد يجرأ أحد المجانين على اغتيالك، لمجرد الحسد، أو ليشاركك شهرتك.
قاطعته:
ـ ألهذا الحد وصلت أهميتي!؟
ـ أجل إلى هذا الحد! بل إلى أبعد مما تتوقع! فإذا كنت أنا محمد شكري، الرجل البسيط، كتبت مجرد كلام جريء عن مسير حياتي، وعن وجوه صرفها القدر في طريقي، أتعرض لمضايقات مزعجة، من لدن الخاصة والعامة، فما بالك بأبي حيان التوحيدي، مبدع أمهات الكتب في الفكر والمنطق والفلسفة؟ وأكثر من ذلك، فإن الحياة استعادته من بعد موته بعشرة قرون!؟ إني لا أرى فائدة في إشهار وجودك، وإلقاء نفسك في مكاره من أجل امرأة جارية عشقتها!
لم أطق سمع بقية خطابه، فعجلت بالرد عليه:
ـ لتصمت يا شكري غفر الله لك. إن ما تقوله قد يوافقك عليه رجل من العامة، تطغى ذاته على ما عداها، أما أنا أبو حيان التوحيدي، لن أخلع نهاوند بمباهج الدنيا وكنوزها، إني استرخص كل مخلوق لا يخفق قلبه بالحب، ولا أرى نفعاً يرجى من رجل يصدُّ محبوبه لقاء كسب مادي، فأحرى مخافة الشهرة والعزلة! إنك قطعاً لم تُكتو بنار العشق، ولا ذقت طعم خمرته!؟
اعتدل في مقعده، واشرع عينيه وكأن كلامي أفاقه من غيبوبة طويلة، وخاطبني:
ـ أكاد لا أصدق ما تسمعه أذني! أبو حيان صاحب الإشارات الإلهية، المتخذ من التصوف قضيته الكبرى، تحوّله جارية إلى عاشق مستهام، تنزع عنه بردى الورع والتقوى، وتلبسه عباءة قيس بن معمر.
ضرب كفّا بكفّ وهو يتأملني، وتابع خطابه:
ـ إنك أيها الفقيه السلفي كنت متسقاً مع نفسك في بغداد، حين لم تذكر كلمة عشق واحدة في جميع مؤلفاتك، ولا أشرت إلى أية امرأة في جميع ما كتبت. واليوم في طنجة، تضع نهاوند في كف وما عداها في كف أخرى، تعلن استرخاصك لكل مخلوق لا يخفق قلبه بحب امرأة. المحيّر، أنك عالم، فقيه، متصوف! يا لسخرية القدر! أنا حقا لا أفهمك!
ابتسمت استخفافاً برأيه، وأوجزت جوابي في جمل مبتورة:
ـ ما تبرمت من الورع والتقوى، ولا قايضت ديني بأية امرأة. فأنا الشخص ذاته بماضيه في بغداد و بحاضره في طنجة. ما حدث هو أنني أبحث عن امرأة سكنتني، جزما مني بأني أيضاً سكنتها. فأنا مخلوق بشر قبل أن أحمل باقي الصفات، أنا مسلم يا شكري. أعمل لدنياي كأني أعيش أبدا وأعمل لآخرتي كأني أموت غدا، وإذا كنت تراني قد عدت للبحث عنها بعد فراق دام عشرة قرون، فذلك بالنسبة لي لا يتعدى بضعة أشهر، هي ما استغرقه سفري من بغداد إلى طنجة، أما عزوفي عن التدوين عنها أو عن أية امرأة غيرها فلا يدعو إلى أي استغراب، ذلك أن معاشرة المرأة واقع عيني بديهي، وتدوين البداهات لدى العلماء والفقهاء ثرثرة منفرة، غير مستحبة. فأن يخفق قلب الرجل بحب امرأة أو يشقى للظفر بقلبها لا يضيف إلى الكتابة الأدبية أو الفلسفية قيمة جديدة، فتفسير الواضحات من المفتضحات. ولعلك تذكر ما أعلنته في حضرة الوكيل العام للملك من أن جنس الشعر وحده ما يستوجب تخصيصه للنظم عن المرأة.
قاطعني هازئاً:
ـ وجهة نظرك قديمة، بالية، مضحكة، ربما كانت مقبولة قبل عشرة قرون، أما في عصرنا هذا فلم يعد هناك ما يحدّ من حرية الكتابة. فمثلما يحق لنا أن نتحدث يحق لنا أن نكتب. ثم إن المواضيع الأدبية عموما، نثراً كانت أم شعرا، ما عادت قيمتها في جوهرها، وإنما في كيفية تناولها، أي صار الشكل مرجحاً على الجوهر، ولربما لهذا السبب تداخلت الأنواع الأدبية وتمازجت لتصبح نوعا واحداً، يطلق عليه الكتابة ذات الشكل الجديد.
انتفضت في وجهه:
ـ يستحيل أن أقبل بهرطقة كلامية كهذه، تمزج الشعر بالنثر كمن يمزج القمح بالشعير، تتذوق الشكل قبل الجوهر! ما سمعت عن أحد أطربه شكل قصيدة قبل جوهرها! إنكم باجتهادكم هذا تقدمون العربة على الحصان.
أخذ يضحك وقاطعني:
ـ إنك لم تدعني أنهي حديثي يا أبا حيان. طيب، لأزودنك علما بأن الشكل أصبح هناك، دون أن يظل مقتصراً على المجال الأدبي، بل امتد ليشمل أنواع المعرفة كلها. صار سمة مهيمنة على جميع أمور حياة هذا العصر، حتى العدل لم ينج منه، تصور العدل! وعلى سبيل المثال، إذا أقدمت على بسط تظلمك على القضاء، يلزمك وجوبا اعتماد شكلٍ محددٍ حصراً تحت طائلة بطلان حقك، فقاضي هذا العصر صار مثل الناقد الأدبي، يقوّم الشكل قبل الحق، وكم من حق ضاع بسبب شكلي تافه.
ـ وأين منكم قولة علي بن أبي طالب ما ضاع حق ورائه طالب؟
ـ صارت سنبلة فارغة!
ـ يا إله السموات والأرض، خفّف عن مخلوقك ما ابتليته به. أرجوك يا شكري أن تصمت، فما عدت أتحمل سماع مثل هذه الأخبار، إن عصركم هذا لعصر مجانين بحق.
أراد أن يضيف شيئا، فأسكته بإشارة من يدي، وقلت له:
أنت تربكني يا شكري، لعلك تقصد بالشكل والجوهر، اللفظ والمعنى؟
ـ تماما، ذاك بالضبط ما قصدته، فالشكل هو اللفظ والجوهر هو المعنى، وقد أصبح اللفظ في عصرنا الحالي مرجحاً على المعنى.
ـ شخصياً قد لا أتفق معك، ذلك أن ترجيح اللفظ على المعنى هو بمثابة ترجيح الجسد على الروح. فاللفظ كالجسد، عارض متغير فان. أما المعنى فهو كالروح، خالد لا يتبدل. ولذلك قيل في زماني السابق "إن الشعر تجويد للمعاني"، ذلك أن الشاعر وحتى العالم أو الفيلسوف، هو الذي يجيد التقاط المعنى، فتأتي بعد ذلك طريقة تجويدها.
بدا غير مقتنع بوجهة نظري، وقبل أن يتحدث أضفت قائلا:
ـ أفهم أنكم صرتم في هذا العصر تجمعون على ترجيح اللفظ على المعنى، هذا أيضاً ليس بالشيء الجديد، ففي عصري السابق وُجد من قال بهذا. أذكر أن الجاحظ عليه رحمة الله، قال ما معناه، إن المعاني ملقاة على قارعة الطريق، يلتقطها المسلم والنصراني والمجوسي، لكن الحرفية تكمن في كيفية صياغتها، وهو قول في ظاهره يبدو وكأنه يرجح اللفظ على المعنى، لكنه في عمقه ليس كذلك.
ابتسم شكري وهو يوقد سجارته وتلمظ رحيق كأس صبّها في حلقه، ثم تطلّع إلى سقف الصالة وكأنها ستمده بما يعتزم الردّ به، وخاطبني:
ـ أنت أيضا أربكتني يا أبا حيان، فلم أعد أعرف من منّا على صواب! طيب إني أفكر في أن أطلعك على آخر مستجد في النقد العربي.
قال ذلك ورفع بصره مرّة أخرى إلى سقف الصالة، فاستعجلته:
ـ هات ما لديك، إني أثوق لمعرفة هذا المستجد.
ضحك، وانخرط في الحديث:
ـ قبل خمسين عاماً إن لم تخني ذاكرتي، كان المشتغلون بالنقد، يضعون في المرتبة الأولى الكاتب قبل نصّه، فقد كان الكاتب أهم من النص الذي يكتبه، بعد ذلك توحّدت الآراء على استبدال الكاتب بالنص، ليصبح النص أكثر أهمية من الكاتب، هذا التفضيل للنص، لم يدم طويلا، فقد قام أحدهم من معشر منظري الغرب المسيحي، ودعا إلى ترجيح التلقي على النص، أي عدم جدوى النص دون قارئ. ضحك وأضاف:
ـ ما قول الأديب الفيلسوف القادم من القرن الرابع الهجري، أزهى عصور ثقافة العرب؟
بالرغم من الكؤوس التي صبها في جوفه، أحسست به في كامل قناعته بما يقول، فارتأيت أن أعود به إلى موضوعنا مخافة فساد جلستنا، فقلت له:
ـ إن التلقي، ومنه الإصغاء كأحد مدلولاته، ليس مفهوما جديداً وافداً على الفكر العربي، فقد كان موجوداً في بداية العصر العباسي، وكانت لنا مطارحات بشأنه.
أوقفني بإشارة من يده، فخلته سيشكرني على حصافة رأيي، إلا أنه فاجأني بما لم أتوقعه منه، إذ قال:
ـ عليَّ أن أكون صريحاً معك، فقد أخذت تربكني حقا، كل مستجد أطلعك عليه، تنسبه إلى تاريخك البعيد، لم أعد أعرف إن كنت تتعمد ذلك أم أن مثقفي هذا العصر يجهلون تاريخ ثقافتهم؟
قاومتُ غضبي، وقلت له:
ـ أنت الأعلم يا شكري بأنني لم أقرأ كتاباً واحداً منذ القرن الرابع، وأن إلمامي بالتلقي والإصغاء يعود إلى أيامي البغدادية، بل إني على أتم استعداد لأتحدث عنه ساعات وساعات، ولعلمك فإن الإصغاء كان حجر الزاوية في أدبنا العربي منذ أزيد من عشرة قرون.
أمسك بقنينة نبيذه وملأ قدحاً صبّه في حلقه، وقال لي:
ـ منذ أن التقينا وأنت تزج بي في معضلة وراء معضلة دون استراحة.
إني بصراحة لا أطيق الصنف الجاد من البشر لأكثر من ساعة، فقد تخليت عن مهنة التدريس لهذا السبب، وكذا عزوفا عن سخافة منطق المدرسين، وأنت تجاذلني بمنطقهم.
أحسست بالغضب يتسلق صدري، لكني في ذات اللحظة صرت أقاومه، مكثفا إرادتي لدرء استفزازه. أنا لا أُستفز إلا بإرادتي، رددت ذلك في نفسي وخاطبته بهدوء مفتعل، وأنا أكتم غيظي:
ـ لكنك يا شكري أنت الذي اختار الحديث عن المفاهيم المستجدة في الأدب، ومن يطرق الباب عليه سماع الجواب.
ـ لكنك أطلت الحديث في أمور عقلانية لا تناسب المقام.
ـ ما العيب في ذلك وأنت من اختار المقام؟
ـ الحلم والوهم وحدهما يناسبان مجالس الشراب.
ـ لا تنسى أن الإكثار منهما، مضاف إليهما الشراب، يؤدي إلى الجنون.
ـ مرحبا بالجنون، من كان دون جنون يُرفض من زمرة المبدعين. أتعرف أنني أثناء كتابتي لروايتي "الخبز الحافي" كنت في حالة جنون، فاستُقبلت الرواية بترحاب منقطع النظير، وعندما أتبعتها بكتاب "غواية الشحرور الأبيض"، وكنت في أوج التعقل، لم يلتفت إليه أحد.
أحسست أني أجالس شخصاً غريبا عني، أكيد أن الرجل أصيب بلوثة عقلية، أو لربما جنونه طغى على تعقله، فلا معنى أن ينقلب مزاجه من أقصى درجة الوداعة إلى أقصى درك الوقاحة. تذكرت كيف كان يضرب على ظهر عبد القادر بشدة وقسوة دون أدنى سبب، وكيف ولج البحر في الهزيج الأخير من الليل، بعد أن ألقى بحذائه وسترته في وسط الأمواج المتلاطمة.
أشياء وتصرفات خرقاء صار ذهني يستحضرها، إلى أن قال لي:
ـ إني أتقبل بشغف أن تحدثني عن علاقتك بنهاوند، فالظرف الذي جعلك تتعرف إليها يدعو إلى الدهشة. أهديت الوزير كتباً فأهداك جارية، يا لها من حكاية جميلة. في زماننا الحاضر لم يعد الوزراء يملكون جواري، أوهم يملكونها بمسميات أخرى، عشيقة أو صديقة.
لم أجبه بشيء. كان ذهني مشتتاً، تتزاحم به أفكار تتلاطم كأمواج بحر الظلمات. أفكر في إعلان البحث عن نهاوند لتدفئ فراشي، وأفكر في مزاج شكري الشاذ، وأفكر في تمالك نفسي التي لو لم أتق شرها لكنت ألقيت فوق رأسه بكل ما فوق المائدة، وانسحبت من دائرته إلى الأبد.
من جديد فاجأني وهو يضحك:
ـ إننا نحن العرب جميعا نعيش حياة مركبة، حياة انفصام. ندعو إلى السلف الصالح صانع النكسات والمآسي ونستلذ التبعية للغرب المسيحي. أنا لست مع هذا ولا مع ذاك، لا مستقبل يرجى من العودة إلى الوراء، ولا فائدة ترجى من قطف ثمار لم نشارك في زرعها.
أخذ يضحك حتى خلته مجنونا حقاً، ثم تحامل على نفسه لينتصب على قدميه، وأخذ يحوم حولي متابعاً ضحكه:
ـ أنت أبا حيان، تنتعل حداء عصرياً وتتدلى على صدرك العراقي ربطة عنق صممت في الغرب، وتخفي عظامك داخل بذلة فاخرة، فوق قميص غربي ناعم، إنك لا تختلف عن المشارقة في شيء، بل عن العرب عامة، ولست الوحيد القادم من القرن الرابع الهجري، فجميعنا قفزنا على عشرة قرون، استبدلنا ركوب الجمل والحمار بركوب الطائرة، دون أن نسهم في صناعتها. لكننا نبرر ركوبها بحرق المراحل.
توقف عن ضحكه وأخذ ينعم في وجهي وأضاف، لكنه هذه المرة نطق بمودة فضحتها حنجرته:
ـ إني أفسر صمتك برفضك لشخصي، أرجوك أبا حيان، لا تغضب مني، أكن لك مودة حقيقية، لعلي في حالة سكر، لكن عرضي وافر، وأنا في الوقت ذاته في كامل قوتي العقلية، ذلك أن سكري مثل جنوني لا يستغرقني سوى لحظات. عليك أن تشكر القدر الذي جمع بيننا، فلو كنت صاحبت غيري، ما كنت ستحظى بالاطلاع على حال ما نحن فيه، أقصد ما يعتمل في دواخلنا. لنكف عن الوهم والجنون.
لاحظت أنه ساه عن سماعي، فتوقفت عن الحديث. مرت فترة صمت دون تواصل بيننا، وعلى صدى صوت نسوي أدرت رأسي ملتفتا خلفي، فألفيت حشداً من بشر ملأ حيزا كان فارغاً، نسوة ورجال تكدسوا فوق مقاعد كتجمعات النمل، وازدانت موائدهم بأشربة ومزات وقهقهات، وانقدح خاطري إلى أن إحداهن في حالة سكر طافح، فقد طغى صوتها على ضجيج المقهى.
انتبه شكري إلى غيابه عني، فخاطبني بمودة:
ـ معذرة أبا حيان، فقد سهوت عنك، انشغلت بأم كلثوم.
لم أفهم شيئا، أو بالأحرى حسبته منشغلا بالبنت السكرانة، وتساءلت مع نفسي كيف عرف أن اسمها أم كلثوم إلى أن قال لي:
ـ أم كلثوم، سيدة الطرب العربي وتدعى كوكب الشرق، وهي الآن تغني قصيدة لأبي فراس الحمداني.
أدخلني شرحه في دهليز مظلم، فبادرته بالقول:
ـ إنك زدتني غموضاً، أوضح رعاك الله!
ضحك وقال:
ـ الصوت المسجل الذي نستمع إليه الآن، هو للفقيدة أم كلثوم، وقد سطع نجمها في الغناء العربي، سطوع نجم المتنبي في سماء الشعر العربي، أما القصيدة التي تشدو بها، فهي للشاعر أبي فراس الحمداني.
لم أقو على كبح ذهولي، ليس إعجابا بالموسيقى أو صوت المغنية فحسب، وإنما أيضا بقصيدة أبي فراس الذي لحق بي إلى القرن الرابع عشر الهجري، وأرخيت أذني لأذوب في رقة معاني شعر أبي فراس، وهي تنساب في حُلَّة من أنغام العود والدّف والصنج: أراك عصي الدمع شيمتك الصبر، أما للهوى نهي عليك ولا أمر.

(26)

حين أحس بي شكري مشدوداً إلى السماع، سألني:
ـ حبذا لو أعرف مدى تقبلك لهذا النوع من الغناء، وهل أصلا تفهم في الغناء.
أسكته بحركة من يدي إلى أن انتهت السيدة من غنائها وقلت له:
ـ لا تنسى يا شكري أني كنت صديقاً لجهابذة علماء الموسيقى في عصري، كأبي نصر الفارابي وأبي الفرج الأصبهاني، وبهذه الأصابع التي تشاهدها، قمت بنسخ جميع كتب الفارابي، كـ "الإيقاع" و "الموسيقى الكبير" وكذا "أصل العلوم" و "إحصاء العلوم"، وجميعها في علم الموسيقى واللحن، كما نسخت وحفظت "كتاب الأغاني" لصديقي المرحوم أبي الفرج الأصبهاني.
عاد يقول:
ـ أعرف أنك موسوعة، لكني لم أسألك عن الجانب العلمي في الموسيقى وإنما عن تذوق الألحان.
قاطعته ضاحكاً:
ـ أزعم أني أفوقك تذوقاً للألحان، وذلك لأني أحيط بعلم الألحان النظري من جهة، وبتذوق ما يهز منها مشاعري تطبيقا من جهة أخرى. فعلى سبيل المثال، إذا وقع خطأ في العزف أو في أحد الإيقاعات، فإني أكتشفه في الحال، ولعلمك فإني كنت مغرماً بعزف إبراهيم الموصلي وشقيقه إسحاق، وكذا بتلميذهما زرياب الذي كنت أنوي اللحاق به في الأندلس.
نظر إليَّ باستغراب، فأضفت قائلا:
ـ أتعلم أن العود بعد أن كانت له أربعة أوتار من الحرير، أضاف له زرياب وتراً خامساً، أسماه الأوسط؟جعله تحت المثلث وفوق المثنى، واتخذ مضراب العود، الريشة من جناح النسر، بدلا من قطعة الخشب، وجعل عوده بحجم عود إسحاق الموصلي، لكنه أخف وزناً بمقدار ثلث وزن عود الموصلي.
ستقول هذه معرفة، لكن صدقني أن صوت علية بنت المهدي وطريقة أدائها للغناء، كانا ينتزعان مني مشاعري ودهشتي ويسموان بي إلى أعالي السماء،كان صوتها في صفاء السيدة صاحبة أغنية أراك عصيَّ الدمع ومواصفاتها.
أصابت الدهشة شكري، فقال لي:
ـ من يصدق ما تقوله؟ من سيصدق أن أبا حيان يعرف عن الموسيقى والألحان أكثر مما يعرفه مثقفو عصرنا هذا؟
وقلت له:
ـ أصارحك يا شكري بأن أبا ناصر الفارابي إلى جانب العالم والصوفي كان مغنيا وعازفاً مبهراً، كان يعيش بداخله العالم والفنان متلازمين. وإذا كان الفيلسوف الطبيب أبو يوسف الكندي قد سبق الفارابي إلى التأليف الموسيقي، معتبراً الموسيقى فرعاً من الرياضيات، ووسيلة لشفاء المرضى، فإن الفارابي استوعب علمه وفاقه في أمر الأصوات والأنغام والتآلف، وزاد عنه اطلاعاً على ثقافة العجم. أذكر عندما كنت أنسخ كتابه "الموسيقى الكبير"، اكتشفت أن غايته من تأليف هذا الكتاب كانت بسبب ما وجده من نقص وغموض في كتب الإغريق، عليه رحمة الله الواسعة. نعم الرجل، تعاشرنا في السنوات الأخيرة أنا وهو وابن مسكويه دون شائبة، إلى أن سرنا في موكب حزين نعيده إلى التراب.
أنا أتحدث، وهو يحملق في وجهي مأخوذاً، إلى أن قال لي:
ـ هل تحفظ لحناً للفارابي أو الأصبهاني؟
ـ أحفظ لهما ألحاناً كثيرة، لكني لم أغني منذ زمن طويل.
ضحك وقال:
ـ أرغب أن تسمعني مقطعاًً من أغاني ذلك العصر، لا يهمني الصوت، أرجوك أبا حيان.
ـ لكن الغناء لا يستقيم إلا بالموسيقى.
ـ ليس بالضرورة، فأنا أريده بدون موسيقى.
ـ لكني أشترط حضور الموسيقى في الغناء، فالعلاقة بينهما ليست وشيجة فحسب، بل هما واحد في لبوسين، وبذلك حرَّمتُ على نفسي الغناء دون آلة موسيقية.
ـ معنى ذلك أنك تجيد العزف؟
ـ علماً وعملا.
ـ طيب، إذا جئتك بعود، هل تغني؟
ـ ليس وسط هذا الضجيج.
التفت خلفه يستطلع من في الصالة، وخاطبني مزهواً:
ـ لم يعد صحبتنا سوى أربعة أشخاص، وفي وسعي أن أخرسهم جميعهم.
ابتسمت له موافقاً، فنهض مسرعاً، غاب زمنا قصيراً إلى أن عاد يحمل آلة عود، ناولني إياها ثم خطى إلى حيث الأشخاص الأربعة، وهمس لهم كلاما لم أسمعه فتوقفوا عن أحاديثهم.
في تلك الأثناء، كانت آلة التسجيل قد كفّت عن بث موسيقاها، فأطبقت السكينة على المكان، ولم يعد يُسمع سوى هدير خفيف لأمواج تنكسر على شاطئ البحر.
داعبت أوتار العود قليلا، وقلت لشكري:
ـ إن العود الذي اعتدت عليه في بغداد وغيرها، كانت به ست أوتار فردية، أما هذا، فبه أحد عشر وتراً.
امّحى الفرح من وجهه، وقال في كآبة:
ـ إذن لن تستطيع العزف!
ابتسمت وطمأنته:
ـ سأعزف أنغاماً شجية، فلا شيء تغير في العود، سوى أن كل وتر أصبح مزدوجاً، باستثناء الوتر السادس، فقد ظل منفرداً، فبدونه لا يمكن تحقيق الغاية اللحنية على مستوى الصندوق الرنان.أي بطن العود.
ابتسم شكري وحرك رأسه مشجعاً، فأخذت أداعب كل وتر وأنا أشرح له علمي:
ـ هذا العود مُدَوْزَنْ على مقامات أندلسية، عليَّ أن أقوم بتحويله حتى يصير مدوزناً على المقامات المشرقية القديمة، ليتسنى لي أن أسلطن عليها.
بعد لحظة تمكنت من دوزنة العود، وخاطبت شكري:
سأسمعك أغنية من أغاني عُليَّه بنت المهدي.
وبعد أن عزفت المقدمة اللحنية، أنشدته جاعلا كل نغمة تتماه مع كل كلمة أنطق بها،
لَبِّ الهَوَى كُلَّمَا دَعَاك 
وَلاَحِ في الحُبِّ مَنْ لَحَاكَا
مَنْ لَامَ في الحُبِّ أَوْ نَهَاكَ 
فَزِدْهُ في غَيِّكَ انْهِمَاكَا

إنْ لَمْ تَكُنْ في الهَوَى كَذَاكَا 
نَالَ لَذَّاتِهِ سِوَاكَ
أغني وأرقب في الوقت نفسه تسرب الناس إلى قاعتنا، ولعل مستخدمي مطعم بيركَولا أنفسهم صاروا ضمن أولئك الناس.
ما إن ختمت وصلتي حتى دوت الصالة بالتصفيق المتواصل، فارتمى شكري عليَّ مقبلا رأسي ويدي وقد اغرورقت عيناه بالدموع، وخاطبني وهو في أقصى حالات الانفعال:
ـ أنت أعظم فنان في هذا العصر، بالله عليك أبا علي، كيف سمحت لنفسك بالتستر على هذا الكنز الفريد؟ إن صوتك يخفي سحراً أخاذاً يهز النفس ويبهر العقل.
لم أقل شيئا ولا حتى أطلت الابتسام، كي لا أبدو مزهواً بنفسي، بل عدت أداعب أوتار العود، مستأنساً بتقسيم على الطبقة الصوتية الخفيضة، إلى أن حضرتني تلك الأغنية التي كنت أعزفها بعد أن ودّعتُ نهاوند في بغداد.
واكتنفني شعور حاد بالأسى على فراق نهاوند، فأدركت أن تعبيري في أداء الأغنية القادمة سيكون صادقاً، لأن عاطفتي كانت فياضة، وبذلك سأغني بفن وذوق وسأستميل قلوب سامعي.
واندفعت أعزف وأغني:
أَسْتَوْدِعُ اللَّهَ في بَغْدَادَ لي قَمَراً
بالكَرْخِ مِنْ فَلَكِ الأَوْزَارِ مَطْلِعُهُ
وَدَّعْتُهُ وَبِوِدِّي لَوْ يُوَدِّعُنِي
صَفْوُ الحيَاةِ وأَنِّي لا أُوَدِّعُهُ
أعدت أداء الأغنية ثلاث مرات، لسببين اثنين، أولهما استجابة لرغبة الحاضرين وقد أفاض بعضهم في الإشادة بحسن أدائي، وحسبوني مطربا حديثاً قادماً من العراق، وثانيهما استجابة لإلحاح شكري الذي تحدث عن موهبة استماعه وتذوقه. فقلت له:
ـ بدون المتلقي لا قيمة للمغني، فلكي تحصل لذة الطرب لا بد من توافر صدق صوت المغني وحسنه، ورغبة المتلقي في الاستماع والتقبل، وأنا أتفق معك، فالموهبة كما تكون للمغني تكون للمتلقي.
ناولته العود، لكنه رفض وأصر على الاستماع إلى أغنية أخرى، فتعالت الأصوات تؤيده.
ابتسمت، وخاطبت شكري بصوت خفيض:
ـ لا بأس، سأختم هذه الليلة بأغنية كانت مفضلة لدى صديقي ابن فهم الصوفي القاضي، كان رحمه الله، إذا سمعها هاج وأزبد، وتعفَّر شَعْرُه، وهي من شعر أبي ربيعة.
احتضنت العود وعزفت مدخلا موسيقياً من مقام لحن الأغنية نفسها، وذلك حتى أجعل الآذان تعتاد جو المقام، ثم عرجت على اللحن الخاص بالأغنية من غير أن أترك لأحدهم ذرة إحساس بانتقالي من زمن موسيقي إلى زمن موسيقي آخر، بل سرت كطائر مفرد مغرِّد محلِّق في سماء صافية رحبة.
وانسابت القصيدة تنفذ في شرايين الموسيقى، وكأنهما جسد وحلة لا يليقان إلا ببعضهما.
أنيرِي مَكَانَ البَدْرِ إِنْ أَفَلَ البَدْرُ
وَقُومِي مَقَامَ الشَّمْسِ مَا اسْتَأْخَرَ الفَجْرُ
فَفِيكِ مِنَ الشَّمْسِ المُنِيرَةِ نُورُهَا
وَلَيْسَ لَهَا مِنْكِ المَحَاجِرُ والثَّغْرُ.

(27)

اتصل شكري بسائق السيارة، واقترح أن يرافقني إلى فندق السراب في الجبل، فأومأت برأسي موافقاً.
ونحن نهم بركوب السيارة، قدمت رجلي اليمنى على اليسرى وكأني سأجعل السائق خلفي، ثم استدركت خطأي فعدت لألج السيارة بشكل سليم، فضحك وقال لي:
ـ تبدو كأنك أنت السكران!
ضحكت بدوري، وقلت له:
ذاك كان حالي مع صديقي الناسخ ابن عدّي النصراني، هو يشرب وأنا أسكر عوضه، وكانت بطنه صغيرة مثل بطنك، لكنها قاحلة كالصحراء، لا ترتوي أبدا.
أقلعت بنا السيارة، وكمن يخاطب نفسه بصوت مسموع قال:
ـ عليَّ أن أنتظر إلى صباح غد لأتأكد!
وقبل أن أستفسره عن الشيء الذي يريد التأكد منه، أسرع مضيفاً:
ـ أتأكد إن كان ما عشته هذه الليلة واقعا عينياً أم مجرد لدغة حلم.
لم يكف عن الضحك، وهو يضيف:
ـ لو أنك أخبرتني سابقاً بأنك تجيد العزف والغناء لصدقت نصف الخبر.
ـ وما هو النصف الآخر الذي لم تصدقه؟
أخرج من قرابه صندوق سجائره، ألصق بفيه واحدة وأقفل نافذة السيارة عن يمينه كي لا تطفئ الريح عود ثقابه، فأتم له ما أراد، وخاطبني:
ـ مشاهدتي بأم عيني عزفك وغنائك، هي النصف الآخر من الخبر.
فتح نافذة السيارة ليتسرّب دخان سيجارته إلى خارجها، والتفت نحوي يخبرني:
ـ إني يا أبا حيان مستهام بالغناء، عاشق للأصوات الجميلة وللعزف الرفيع، أدخر في منزلي تسجيلات متنوعة لأهم المطربين والعازفين عرباً وعجماً، لكنني هذه الليلة وأنت تحلق بي في ملكوت الفن الراقي، جعلتني أقزّم كل ما أتوفر عليه من تسجيل.
أرجو أن تثق بي يا أبا حيان، فقد دوّختني، أحياناً كان يخيل لي وأنت محتضن العود، عازفاً منشداً، أن أقواما من الجنَّة مختفية عن الأنظار تنظم عزفك، أو هي مختبئة بين ثنايا الأوتار، وأنت تستنطقها فردا فردا، وجماعات جماعات. انه السحر بعينه. لعل سباتك الطويل في تلك المغارة الأندلسية عتّق صوتك مثلما يعتق الخمر الأصيل بعد أن يرقد لأمد طويل في مخزن هادئ منعزل؟ هكذا والله صوتك، مسكر كالخمر المعتق، أين منك مطربي هذه الأيام؟ إني لا أدري ما قد يحدث لبني البشر حين يكتشفوا عذوبة صوتك وسحر عزفك!
اكتنفني زهو فطري، وأنا أستمع إلى شكري يشيد بمهارتي في العزف والغناء، لكني لم أدع تثمينه يوقظ غروري، أو لربما لا مسه خفيفاً. ومن باب الدعابة، كدت أحتج على تشبيهه لصوتي بالخمر، لكنني عدلت عن رأيي خشية إقحامي في نقاش يحصد ما تبقى من ليلتنا القصيرة، فيضيع مني مخططي للبحث عن نهاوند.
ووجدت نفسي أصارحه، دون أن أزيغ عن سياق الحديث:
ـ عندما كنت أعزف قصائدي وأنشدها، كنت أستحضر نهاوند وأخاطبها، كنت أحس أنها تسمعني وتراني، فأغني لها، وأشاهدها وحدها وهي تشير عليَّ بيدها لأعيد هذا المقطع، أو لأكرر هذه الجملة الموسيقية الحزينة. ولكن، حين تشتد تصفيقاتكم وتتعالى أصواتكم، أستفيق على واقعي، وأدرك أنها قصية عني وأني أغني لجماعة من السكارى ومستخدمي الحان، فيتضخم حال وضعي النفسي المأزوم بالاغتراب، فأسكبه في القصيد المغنى نفسه، وأعود لاستحضارها.
أنيري مكانَ البدر إن أَفلَ البدرُ
وقومي مقامَ الشمس ما استأخرَ الفجرُ.
إنها القصيدة نفسها التي كانت تستهويها، فلا تمل سماعها مرات ومرات.
السيارة تلتوي بين منعرجات الجبل على مشارف بحر الظلمات نحو إقامتي، وشكري بعد أن أنصت في ذهول لما صارحته به، قال لي:
ـ إذا كان وراء كل مبدع شيطان، فأنت وراءك شياطين.
سكت ينتظر ردي، وحين لم أجبه، أضاف:
ـ صدق المعاصرون متناولوك بالدرس إذ نعتوك بأديب الفلاسفة وفيلسوف الأدباء، لكنهم أغفلوا الحديث عن علمك بالموسيقى والغناء، ربما لأنك لم تتحدث عنهما في مؤلفاتك، ولا القدماء أشاروا إليهما على ما أظن!
هو يتحدث، وأنا مأخوذ بجمال الليل، وعبير بحري بارد، يتسرب من نافذة السيارة المفتوحة على يميني، فانتبهت، وأسرعت بالقول:
ـ إني أجهل ما قيل عني بعد وفاتي، لكن ما أعلمه عن نفسي، أني سوَّدت أوراقا لا تحصى عن علم الموسيقى والغناء، وعن ليال في الإمتاع والطرب كنت سيدها، ويقيني أنها لم تنجو من قبضة النار مع غيرها من مؤلفاتي، وإني لأخال أن ما وصلكم منها، لا يمثل سوى نزر قليل مما تبقى محفوظاَ لدى خلاني.
ظل شكري مشدوداَ لما أرويه عن نفسي، فأضفت قائلا:
ـ إن ما يهمني اليوم هو مصير نهاوند، وأريدك أن تساعدني في البحث عنها.
أدار برأسه نحوي، وقال محتجاً:
ـ نهاوند نهاوند، ألا تحاول نسيانها، إنها بعيدة عنك مسافة عشرة قرون، يستحيل أن تظل على قيد الحياة.
اعتدلت في جلستي، وصرخت فيه:
ـ عن أي استحالة تتحدث وأنت تشاهدني حياً أرزق، إن الذي استعادني للحياة من جديد، قادر على استعادتها من جديد.
قاطعني:
ـ لو أن الأمر كما تقول لعمّ خبرها العالم بأسره. اسمع يا أبا حيان. إنك عملة ثمينة فريدة، وفي حياتك الجديدة هذه، سوف تلتقي بنهاوندات، إن مجرد إعلان وجودك، حدث فريد في تاريخ البشر، سيجعل نساء الدنيا تتسابقن إلى الظفر بالتعرف إليك.
قاطعته:
ـ ما كنت زير نساء حتى أسخر علمي لاستمالة النساء. أنا مكتف بامرأة واحدة ساقها القدر في دربي، فاصطفيتها عن بقية نساء العالم، وحبي لها ليس حاجة عضوية تنشد الإشباع حتى أسعى إلى أخريات. إنني في سني وتجربتي وثقافتي تخطيت مرحلة الانجذاب الجنسي إلى ما هو أعلى وأسمى.
ـ تريد القول بأنك عاشق عذري؟
ابتسمت مدركاً أنه لم يفهم ما أرمي إليه، فأجبته بصيغة تهكم، سائلا إياه.
ـ أتدرك حقيقة الحب العذري؟
صدرت عنه ضحكة متغطرسة وكأني سألته عن لون الماء، وأجاب مزهواً بعلمه:
ـ الحب العذري واضح كالشمس، فهو حب مثالي، مأساوي، يرجح بطلاه متعة الروح على متعة الجسد، فيرتبطان بعلاقة تشوبها العفة والطهارة إلى غاية حصول الزواج. إنه واقعك أنت مع نهاوند، أتريد مزيداً من الشرح؟
لم أقو على كبح امتعاضي، فقلت له:
ـ إني لا أسعى إلى الزواج من نهاوند، فهي أصلا زوجي، ثم إنك لم تصب في شرحك، بل كررت ما سال الحبر عنه في الكتابة والكلام، أي نقلت ولم تجتهد، وليتك نقلت ما هو مفيد. ولعلمك يا شكري، فإن العاشق العذري رجل أناني، مريض، شهواني، يبالغ في حب نفسه، متوهما أن ذلك الحب هو لمعشوقته.
قبل أن أسوق له أمثلة على ما أقول، قاطعني محتجاً:
ـ الآن دخلت في الهرطقة، تنفي الحب العذري من أساسه، تنفي قصة جميل وبثينة وقيس وليلي وعروة وعفراء، لا، لا، إنك أنت من ابتعد عن الصواب.
أسرعت بالرد:
ـ دعني أنهي رأيي وقل بعد ذلك ما شئت، ثم إني لا أنفي قصص من ذكرتهم من الشعراء. غير أن ما يستمد من قصائد جميل، أنه لم يكن يحب بثينة بقدر ما كان يحب نفسه، ولا كان يرغب في الزواج منها أصلا، وإلا، ما كان ليتغزل بها في أشعاره علانية وهو المدرك لتقاليد قبيلته التي تمنع زواج من يشبب بالمرأة التي يريدها زوجاً. فلو كان جميل قد أحب بثينة وأراد الزواج بها، لكان كثم حبه عن الناس، لا أن يقوم بإرادته الحرة ليعرقل زواجه، متحديا أعراف قبيلته وتقاليدها، مفضلا أن يظل عاشقاً على أن يصبح زوجاً، وإذا كانت بثينة تحبه وترغب في الزواج منه، ما كانت لتتباهى بعشقه وتعلنه أمام رفيقاتها. فليس صحيحاً ما يًنسب للحب العذري من العفة والطهارة وتفضيل متعة الروح على متعة الجسد. فأي متعة روحية يحسها رجل يختلي بامرأة في عصمة غيره، إن لم تكن متعة جسدية.
ـ دعني أهزمك ولو مرة واحدة يا أبا حيان، إنما بالله عليك، قل لي، في أي خانة تصنف حبك لنهاوند؟
ـ ليس من الضروري أن نصنّف عواطفنا في خانات، وكأنها أراء في الشعر أو الموسيقى. بالنسبة لي، أحب نهاوند وكفى، فبعد أن اتخذتها زوجا، وعرفتها، وعاشرتها، عشقتها فلم أطق فراقها.
ـ ألم يكن جمالها سبب عشقك لها؟
ـ جائز، بيد أن في الحب دوما إبهام، فما يراه المحب بعينيه قد لا يراه الغرباء بأعينهم، ولعل رأيي هذا يقترب من رأي صديقي الجاحظ الذي قال: "إن العاشق كثيراً ما يعشق غير النهاية في الجمال، ولا الغاية في الكمال، ولا الموصوف بالبراعة والرشاقة، ثم إذا سئل عن حجته في ذلك لم تقم له حجة".
هكذا هو حبي لنهاوند. ولعلمك يا شكري، فإني أميل إلى تصديق المقولة الشائعة بأن في حياة كل رجل امرأة واحدة.
ضحك وأخذ يردد الجملة نفسها، وطلب من السائق أن يتهمل في سيره، وقال لي:
لا داعي لمزيد من الشرح، أنا أشاطرك رأيك.
سرح يفكر، وكأنه يبحث عن شيء غاب عنه، وقال:
ـ أنا أيضا من طينة من تصدق عليهم تلك المقولة، فالمرأة الأولى التي استقر حبها في قلبي ظلت الأخيرة، وغيرها كثيرات، لكنهن مررن كالسحب الصيفية البيضاء.
فتح نافذة السيارة وألقى بعقب سجارته خارجها، وسألني:
ـ هل ترغب في سماع قصة حبي الأول، تصور أني لم أبح بها لأي شخص، ولم أكتب عنها شيئا، لكني في هذه اللحظة تتفتح شهيتي للحديث عنها، قد يكون حنيني لتلك الأيام أو شوقي إليها، أو لعل اقتناعي بحصافة رأيك في الحب هو الذي يدعوني لأحدثك عنها.
ـ هات ما لديك يا شكري، أسعد لسماعك.
نطقت جملتي بمودة لا تخطئها الأذن، فمن غير اللائق أن أطلعه على مكنونات قلبي، ولا أن أمنحه وقتاً ليبوح بلوائع عشقه، فقال:
ـ بدأت حكايتي مع زبيدة منذ حوالى ثلاثين عاما، لا، أكثر قليلا، فقد كنت حديث الالتحاق بمدرسة المعلمين في تطوان. آه زبيدة.
غمره الضحك إلى أن انخرط في السعال، وأضاف:
ـ أتعرف ما يضحكني؟
لا أعرف!
أجبته، وصمت قليلا ليطلعني على مصدر ضحكه.
ـ بالطبع لا تعرف، يالسخرية القدر، ضحكتُ من نفسي، إذ صرت مثلك، أتحدث عن عشق قديم كاد الزمان يتلفه. ما علينا، كانت زبيدة قد جاءت إلى منزل والدي لتحضر حفل خطبة شقيقتي مليكة، معناه أنها إحدى صديقات أختي. في تلك السويعات من ذلك المساء التطواني البعيد، وقبل أن يقع بصري عليها، كنت قد اتخذت مكاني فوق مقعد خشبي شاغر دون إرادتي، فقد كان قصيراً وبدون متكأ للظهر، لكن ما أن لمحتها وانتبهت إلى وجودها على خطوة مني، حتى تأكد لي بأني ما كنت لأختار غير ذلك المقعد.
وغمرني زهو الشباب وأنا أطوف بعيني أستجلي وجوه النساء الحاضرة في الحفل، هذه عبوس ذات وجه مستدير كوجوه الفلاحات، وتلك شبيهة ببقرة عجفاء، والأخرى أقرب إلى رجل منها إلى امرأة، إلا زبيدة، كانت بأنوثتها تثير الدهشة، تشدك لتتملى فيها رغم أنفك، لها عينا ظبية مشرقتان ضاحكتان، صوبتهما نحوي لتجدني متلبساً بالتفرس فيها، أزاحتهما عني وانشغلت بلا شيء.
إنها الخطوة الأولى، قلت في داخلي، وستليها خطوات أجرأ، وانشغلت بتقويم نفسي، هل أنا قادر على استمالتها، وحسبي أني أيضاً كنت شاباً وسيماً ذا مركز اجتماعي أحسد عليه، كنت طالبا في مدرسة المعلمين.
كان على غير عادته يتحدث ببطء شديد، وكأنه يرتجل حكاية يسردها لأول مرة، فاغتنمت لحظة توقف خلالها متذكراً، وسألته:
ـ أتحسد لأنك طالب علم؟
ـ بل أحسد لأني أتقاضى راتبا شهريا، وأنا بعد أخطو نحو العشرين من عمري.
أجابني، وأضاف:
ـ قبل أن ينتهي الحفل وتغادر زبيدة المنزل، أقسمت جازماً بأنها سمكة في شبكتي، فقد همست لي مرتبكة:
ـ سأترك عنواني لدى شقيقتك مليكة.
وقبل ذلك، وبالرغم من أن الظرف لم يتح لنا وقتاً لنتبادل أحاديث مسهبة، فقد سربتُ عبر أذنها، جملة تختصر مؤلفا كاملا في العشق، وهمست لي بمؤلف كبير ضخم في الهوى، مختصر في جملة قصيرة.
تملكني الضحك انتشاء بأسلوب شكري السجي وسألته في عجلة من أمري:
ـ ماذا قلت لها، وماذا قالت لك؟
ـ أنت التي كنت أبحث عنها قبل أن أولد، لن أعشق غيرك.
صرختُ بهذه الجملة مرتين حتى تلتقطها أذن زبيدة، ذلك أن الحاضرات كن يرددن أغنية مع صوت الراحل "محمد فويتح" المنبعث من أحد التسجيلات، وفي غمرة تعالي تلك الأصوات النسائية، صرخت بدورها تجيبني:
ـ اطلب عنواني من مليكة، واكتب لي:
منذ تلك اللحظة وأنا أذوب عشقاً في تلك الأغنية، كلما تناقلت إلى أذني إلا وتناقلت معها تلك الأصوات الصافية لأولئك النسوة الحاضرات في الحفل، ممزوجة بعبق العطور والأضواء، ودهشتي، وفرحي، وقلبي الصغير ينشغل، لأول مرة، بشيء لا يوصف، يسمونه الحب الأول.
وأخذ يردد مقطعا من تلك الأغنية باللهجة المغربية:
قولولي مالُه غَيَّرْ حالُه... قولولي مال الاشقر آش جرالُه
توقف عن الغناء وكنا قد اقتربنا من فندق السراب، فعدت اسأله:
ـ ماذا بعد ذلك، كيف التقيتما؟
ـ لم نلتق، أو بالأحرى التقينا بعد عشرين عاما، قال ذلك وسكت. كانت السيارة تلتوي بنا بين منعطفات الجبل، بطيئة في حركتها، وكان ضوء القمر الساقط على صفحة البحر أخاذاً مثيراً لشجوني، فمزقت الصمت بسؤالي:
ـ لم أفهم شيئا، ألم تراسلها؟
ـ أبداً، بقيت أنتظر أن تحصل أختي على عنوانها أياما طويلة، ثقيلة، وكأني في انتظار يوم القيامة، إلى أن حلّت الصدمة الأولى.
أسرعت بسؤاله:
ـ أي صدمة؟
ـ رفضت أن نتعارفا.
أجابني، ثم تابع حديثه:
ـ بعد أيام أخرى وقلبي تنهشه النار، عادت أختي تخبرني بأن زبيدة تزوجت، وسافرت لتقيم في مدينة سبتة المغربية السليبة.
توقف وكأن بحنجرته غصة، ثم أضاف برنة حزينة:
ـ أبا حيان، لا تقلل من شأني فتخلع عليَّ حكما كالذي أصدرته على العشاق العذريين، ذلك أن حبي لها ظل عذرياً مثالياً، دون أن أطلع عليه أحدا، لا أخفيك أني حاولت أن أنساها، لكن أي نسيان،.ففي كل لحظة، كنت أجد نفسي منشغلا بها، أهرب منها إليها، فاستسلمت لقدري. صار حلمي تعويضا لواقعي، أغمض عيني أو أتركهما مشرعتين، فأخال نفسي فارساً مغواراً أمتطي جواداً مروضاً يركض بي إلى حيث زبيدة، فأنتشلها من أحضان زوجها بعد أن أغرس في صدره سيفي، وأهرب بها بعيدا إلى منزلي في جبل درسة المطل على بيوت تطوان، ثم أخال أشياء أخرى، وهكذا دواليك، إلى أن التقطت أذني ذات يوم، حكمة تقول: إن المرأة تنسيك في الأخرى.
هللت لهذه الحكمة، وهمت باحثاً عن امرأة تنسيني زبيدة، تلغيها من وجداني، تطردها من أحلامي. التقيت بالمرأة الأولى، وبالثانية، والخامسة، ولا واحدة زاحمت زبيدة، فزادت قناعتي بأني كنت أفتش عنها في كل امرأة أتعرف إليها، دون أن أجدها في امرأة واحدة، فعاد مركبي لمهب الريح. فقدت سيطرتي على شراعي. صارت تتقاذفني نساء الليل واحدة لأخرى، وحانات طنجة تعتصرني واحدة بعد أخرى.
شكري يروي سره، وأنا أرخي أذني لسماعه في أقصى حالات اهتمامي، فقد كنت أحس صدقه في كل كلمة ينطق بها، واسترسل في سرده:
ـ في تلك الأيام كنت قد عُينت مدرساً في طنجة، لكني لم أقو على التدريس بسبب محنتي وكأساتي، فأُسندت لي مهمة اقل عناء، معيد في الإدارة. لن أخفيك أبا حيان، أنني في تلك السنوات الأولى من عملي انكببت على القراءة، لأكتشف بعد ذلك متعة الكتابة، إنك أعلم مني بحالها، فأنت الكاتب المقتدر، تدرك كم هي مستعصية، إن لم تمنحها نفسك لن تمنحك نفسها. هكذا، صرت أقيم الليل وأقعده في كتابات تمرينية، إلى أن راكمت قصصا ومسرحيات وروايات لم أفرج عنها جميعها، لكنني بما نشرته منها أكسبني مصالحتي مع ذاتي، حقق لي سلطة ونفوذاً لم يتكرم عليَّ بهما أحد، ولا يستطيع أن ينتزعهما منّي أحد. أصبح لي موقعي في جغرافية الإبداع، إلى أن قيل عني، الكاتب المؤرخ للمهمشين، هذا رأيهم وليس رأيي. المفيد أني ما عدت اقرب الشراب إلا ليلا، أومن حين لآخر نهاراً، إلى أن قابلت زبيدة. أجل التقيت بها، لكن بعد أن كان الصيف قد ضيع اللبن، وصارت شمسي في منحدر غروبها، هي أيضا بالرغم من أن الزمن عاملها بمودة تُحسد عليها، لم تنج من قبضة فصل الخريف، فقد جاءتني بكاهل مثقل بكمشة أولاد، تجر وراءها خيبة زواج فشل في أيامه الأولى، وقفتْ أمامي تعاتبني:
لماذا لم تراسلني، فقد ناولت شقيقتك عنواني مرتين؟
ـ سألتني دون مقدمات وكأننا لم نفترق سوى أمس، وبإرادة مشلولة انبرى لسان حالي يحثها على إعادة السؤال، متمنيا أن تكون أذني قد أخطأت سماعها.
تلك كانت الصدمة الثانية، أن أعلم أن شقيقتي من حال دون تحقيق سعادتي. خطأ فادح، أو تافه، بالنسبة لي اليوم سيان. إنما لولاه لكنت ربما شخصا آخر، ولكانت زبيدة امرأة أخرى، أتستوعب ما أقوله يا أبا حيان؟
ـ إني معك قلبا وقالبا، يالمضاضة ظلم ذوي القربى! إن ذلك كان مكتوبا في لوحك قبل أن تولد.
أجبته، فعاد يضيف:
ـ ليتني ما علمت بذاك الخبر، فقد وصل بعد فوات الأوان. كان أثقل مما أتحمل، تصور، مجرد خطأ يرتكبه شخص يُحوّل مجرى حياتك الهادئة إلى شقاء دائم.
كنا قد وصلنا إلى فندق السراب، وكان الأفق يعلن انهزام الليل.

(28)

فتحت عيني، فوجدت الظلام يخيم على غرفتي. لعل نومي كان ثقيلا فجمعت بين النهار وجزء من الليل. فكرت في آخر ليلة قضيتها مع محمد شكري، بدت لي بعيدة وكأن شهوراً مرت عليها فغيبت بعض تفاصيلها عن ذهني، قد تكون مجرد حلم. لا أدري!
حاولت أن أغفو ثانية، فلم أحس بأدنى رغبة في النوم، امتدت يدي تبحث عن مفتاح الكهرباء، لم تجده في مكانه، فكرت في أنه كان على يميني، أعدت الكرة للمرة الثالثة والخامسة دون جدوى. داهمني بعض القلق، بعد أن اتضح لي أني أفترش الأرض ولا وجود لسريري، لا وجود أيضا لوسادتي. مسَّدتُ وجهي بيدي لأتحقق من وجودي أنا أيضا، فازداد ذعري، إذ حسبته وجه رجل آخر لم يقرب الحلاقة منذ شهور أوسنين.
اشتد نبض قلبي، وارتفع هديره إلى أن وصل أذني، تشتت ذهني. أسئلة كثيرة تزاحمت، فانحبست في داخلي. أغمضت عيني وسط الظلام علني أسترجع رشدي، لا يُعقل أن ألقي بجسدي فوق سريري وأنام، فأصحو لأجد نفسي أفترش الأرض، وتطول لحيتي، وكأني لم أحلقها منذ سنين.
أأكون بداخل قبري؟ من أين لي أن أدري! رفعت يدي لألمس سقف قبري. لا، هذا ليس به سقف.
لعله قبر ضخم يسع قامة رجل واقف أو ممدد.
تحاملت على نفسي إلى أن انتصبت واقفا، ففطنت إلى أني خائر القوى. بصعوبة أقف على رجلي. أرسلت يديّ في كل اتجاه دون أن يعترضني سقف أو جدار، لكن قدمي تعثرتا بقطعة قماش صلب حسبتها وسادتي أو جزءاً من سريري، وحين انحنيت لألتقطها تبيّن لي أنها سرج حصان، وبجانبها قطع حديدية لم تكن سوى ركاب سرج الحصان.
من جاء بها إلى غرفتي؟
لم أفهم شيئا، أو بالأحرى أجّلت أن أفهم.
لكني حين تعثرت رجلاي بالخنجر، وتحسست مقبضه وغمضه والحجرين الماسيين المرصَّع بهما، تطاير صوابي من شدة ذعري.
لم يبق ما يمكن تأجيله، باغتتني أجوبة متخفية تفضح ما احتبس في داخلي.
صرخت مستنجدا بإله السموات والأرض، عسى أن يدرأ عني كابوس هذا الحلم، فأنا لست في المغارة بل في غمرة وهم الحلم.
عفى الله عن المغارة منذ أن أخرجوني منها، وأركبوني الباخرة العملاقة محاطاً بحارسين، وكأني من قطاع الطريق.
كل شيء كان واضحاً جلياً. مفوضية شرطة الميناء، الحاج ابراهيم ضابط الشرطة الممتاز ذو العينين الصغيرتين المطلتين من وجه طويل بشارب ممزوج بالشيب، والشرطي البدين المكرش الذي جرني من قفاي كأنني كلب، والآخر النحيل أصفر الوجه من تولى تدوين محضر استنطاقي. لا لست في المغارة. إني في حالة حلم عابر سأصحو منه قريبا، سيكون لي معه شأن.
جرجرت رجلاي خطوات باحثا عن منفذ أغادر منه الغرفة، سأكسر بابها حتى وأنا في حال الحلم، لكن جبيني ارتطم بأحد الجدران لينبهني ألمي إلى صحوي، إلى أنني حقيقة قائمة في أقصى حالات وعيي وإرادتي وشعوري، في كامل إحساسي بالألم والخوف والقلق والتذكر.
إذن، لا غبار على حقيقة وجودي في المغارة بمدينة المنقب، سرج حصاني وركابه وخنجري وثيابي يشهدون بذلك، ولكن، لمَ لا أكون بأحد السجون؟ نقلني القضاة إليه أثناء نومي، وأحضروا أغراضي من المغارة! كل شيء محتمل الوقوع.
أن أكون سجينا بداخل حجرة في أحد السجون، محتمل جدا، إنما أن يتولى القضاة حبسي دون محاكمة، فهذا بعيد الاحتمال، لكن الشرطة يمكنها ذلك، ولو من قبيل الانتقام، فهي الوحيدة التي لم يقنعها دفاعي عن نفسي، فبعد أن أحالتني على القضاء متلبساً بجريمة الهجرة السرية، تلقت أمراً بحراستي والحفاظ على سلامتي من كل مكروه وأنا أقيم في أضخم فندق في البلد! شيء يدعو إلى الارتياب، على الأقل من وجهة نظرها.
لا، لا يعقل أن أكون في المغارة، فأغراضي كوسائل إثبات على وجودي في المغارة لن ترجح على شهود عيان عاشرتهم في طنجة، وما شاهدته وما خبرته. أعمدة الكهرباء المبثوثة على جوانب طرق معبدة. فندق السراب المطل على بحر الظلمات. دركات ثلاث تفضي بك إلى داخل مطعم ريتز في شارع موسى بن نصير. أخرى تصعد بك إلى مطعم بيركولا المواجه للميناء والبحر الأبيض المتوسط. هناك في الصالة المشرفة على البحر، قمت بدوزنة العود الذي جاءني به شكري، وأنشدت الحضور أحلى أغاني عُليَّه بنت المهدي البغدادية، آه عُليَّه! إنها من جيلي، ضمتنا مجالس عامة وأخرى خاصة رفيعة. غنت لنا وغنينا في حضورها أنا وصديقي أبو ناصر الفارابي، لكن ابن مسكويه الحاضر دوما، لم يكن له في الغناء بالرغم من إجادته الاستماع، تلك حكاية قديمة حقيقية، أما ما يشغلني الآن فهو أيام طنجة، تلك التي تتماهى بين الحقيقة والحلم، هل يمكن أن تكون مجرد حلم؟
في مطعم بيركَولا، ارتمى علي شكري مقبلا رأسي ويدي، اغرورقت عيناه بالدموع وهو يخاطبني:
ـ أنت أعظم فنان في هذا العصر.
في تلك الليلة ذاتها، بعد منتصفها، والسيارة تختال بنا في طريق الجبل الملتوي، أسرّ لي قصة حبه الأول، تلك الحكاية المثيرة التي لم يبح بها لأحد غيري.
إذن عشت في طنجة، واقع يشهد به وكيل الملك والوكيل العام ووزير العدل نفسه، من أين لي بهؤلاء الشهود؟
أعياني وقوفي، فتهالكت على الأرض، جلست القرفصاء، وهمت مفكرا، زكمت أنفي رائحة رطوبة عطنة، هي الرائحة ذاتها الموجودة بالمغارة القديمة. عدت لأقف على قدمي، ودلفت بين أرجائها باحثا عن منفذ بها، فلم ألمس سوى ما لمسته في المغارة السابقة، أتكون هي ذاتها؟ بماذا يمكن لي تفسير عثوري على نفسي بها مرة ثانية؟
أيعقل أن أُحمل من فوق سريري بفندق السراب بطنجة ويُلقى بي داخل مغارة لا منفذ بها في مدينة أندلسية نائية؟
إما أني عشت في طنجة حقيقة وعودتي للمغارة حلما، وإما أني لم أغادر المغارة أبدا فتظل أيام طنجة حلما!
ذلكم هو المنطق القويم، هو ما يدل عليه سرج حصاني الذي حملني من فاس إلى طنجة، وخنجري الذي رافقني من بغداد إلى هذه المغارة في الأندلس، وسراويلي وثيابي ولحيتي الكثة الطويلة، بمعنى أني لم أغادرها منذ أن ولجتها بإرادتي لأستريح بها ليلة واحدة.
لا يُعقل أن أنام عشرة قرون، لا يعقل أن يعيش المرء حاضرين في زمانين يبتعدان عن بعضهما عشرة قرون!
الآن، ولو أني كنت في حالة حلم، أتفطن إلى سبب رفض المغاربة تصديق قدومي إليهم من عصري العباسي البائد، أنا نفسي لم أقبل بذلك!
إن الحقيقة الصارخة القاسية هي التي أواجهها هذه اللحظة، هي استيقاظي في المغارة بعد نومي بها ليلة أو ليلتين، ولربما قام أحدهم بسد منفذها فبقيت محاصراً بداخلها.
أما صحوتي السابقة وخروجي من المغارة فقد كان مجرد حلم، تماماً مثل أناس طنجة، فلم أتعرفهم سوى في الحلم.
من يؤكد لي حقيقة وجود رجل يدعى محمد شكري مقيم في طنجة؟
إنه شخص هلامي من الشخوص الحاضرة في الحلم، وبالرغم من ذلك فإن مرافقته أدفأت أيامي وليالي، وكأني عاشرته حقيقة!
ما يؤكد أن ما حدث كان حلماً، هو قوله ذات ليلة إن الحضارة الحقة تأتي من وراء البحر، من لدن الغرب المسيحي، ونحن العرب مجرد مستهلكين لها، الغريب أني صدقت ذلك!
أتذكر في السياق نفسه، جواب وزير العدل بعد أن سألته:
ـ من تعني بغير العرب؟
ـ أقصد الغرب المسيحي، فمنذ النهضة التي شرع فيها قبل خمسة قرون، ونحن ظاهرة لأبحاثه واكتشافاته، ويكفي إخبارك بأنك أنت شخصياً أبو حيان التوحيدي وقع التنبيه إليك، وإلى مؤلفاتك من لدن الغرب قبل العرب.
يا لضعفي الإنساني وهشاشة عقلي في غمرة الحلم، فقد سلمت بهذه الأخبار وهي تنافي المنطق!
من يصدق أن من كان وراء اكتشاف قيمتي العلمية والفكرية ونبه إلى مؤلفاتي هو الغرب المسيحي؟ مهزلة! بهتان!
أما الشخص الآخر وكيل الملك، أحد الشخوص الهلامية في مشهد الحلم، فقد توغل في الهذيان، حين زعم أن الأندلس سقطت في قبضة النصارى إمارة إمارة، خرافة، لدغة أحلام! هذيان حقيقي!
أحمدك يا ذا الجلال والإكرام، أن ما وقع كان مجرد حلم، وأن الأندلس مفخرة العرب لا تزال عدوة مغربية عربية إسلامية منبثاً للعلماء والأدباء والشعراء، إنها هناك، مثلما العراق الحبيب قوة شامخة هناك.
أي معتوه هذا، سيخطر بباله تعرض العراق للدمار والنهب؟ ومن قبل من؟ من لدن دولة غير موجودة! أوجدوها في حلمهم وسموها أمريكا! أو بالأحرى أنا من استنبطها في حلمه، أنا من خلقهم جميعا في حلمه! يا لخرافة أحلام المغارات!
من يقوى على هزم خلافة إسلامية عربية مسيّجة بأشقاء مسلمين عربا؟ دولة عمرها كما قيل في الحلم، خمسمائة عام، تهزم العراق، منبع حضارات الدنيا من سومر إلى حضارة الإسلام؟ خرافة، هراء، كلام قيل في لحظة لا وعي!
استقمت واقفا وخطوت إلى الأمام ورجعت إلى الخلف، ثم عدت فجلست على الأرض وأنا لا يشغلني سوى هذا الحلم.
لكن الأحلام لا تتداعى بهذه التفاصيل الصغيرة الدقيقة الواضحة، وكأنها الواقع المعيش.
لعل الأمر يتعلق برؤية وليس بحلم. أحداث الرؤى ترسخ في أذهان أصحابها دون أن تتباهت أو تتلاشى كالأحلام.
بكل تأكيد هي رؤية حقيقية، من تلك التي يخص بها الله عباده من الصفوة الصالحة الزاهدة في الدنيا.
ألم أكن زاهدا في حياتي العراقية والإيرانية؟
لكن الآخر الموجود بداخلي يلح أن أعتبرها مجرد حلم، ذلك أن الرؤى غالبا ما تتحقق، وإذا ما كتب لهذه أن تنفذ إلى الوجود فتتجسم واقعاً عينياً، حينذاك سلام على الأندلس، سنغادرها لتصبح حضارتنا في خبر كان، سنتحول إلى قبائل مستضعفة، بشرا، حيوانات ترعاها حضارة مسيحية جديدة، لا لا لن تكون رؤيا، أنا في صف الآخر الموجود بداخلي، أقول معه، أن من يملك ذرة منطق، لن يصدق أنها رؤيا، لن يصدق أننا العرب مصدري العلم والوعي سنصبح منقرضين، ظاهرة لتجارب غيرنا، أبدا أبدا، ليست رؤيا، ليست عالماً ممكنا، إنها مجرد حلم عابر منفلت، حلم مضحك، يدعو إلى الشفقة!
إني في المغارة الأندلسية، ليس لي من مؤنس سوى أحلامي، حلم طنجة كان متنفسي الوحيد لأظل حيا، أما ما يحدث في الواقع، هو أن خلاني المغاربة في انتظاري يبحثون عني، سوف يهتدون إلى مكاني، وسأنضم إليهم لنكمل رحلتنا إلى غرناطة المسلمة العربية، سنتبارى في سرد أحلامنا، فجميعنا أقمنا في مغارات يشبه بعضها البعض.
آه نهاوند، الحبيبة البغدادية الغالية، لا ريب أنها في طريقها إلى غرناطة تنفيذا لاتفاقنا، سألتقي بها صباح يوم جمعة في جنة العريف، سأقص على مسامعها تفاصيل حلمي المغربي، وكيف تعرفت إلى محمد شكري ونبأ ضياع الأندلس، وتعرض العراق للدمار والنهب، ستضحك مثلي.
لكن حتى ألتقي بها، عليَّ أن استجمع قوتي لأعود إلى قرع الجدار.
ياله من حلم غريب!
بحثت عن خنجري، أمسكت به وطفقت أقرع الجدار وأصرخ، لكن لا أحد انتبه إلى قرعي أو سمع صراخي، فاستبدلت بخنجري سرج حصاني، نزعت الركاب عنه وصرت أقرع به ذا الجدار وذا الجدار، محدثا ذوياً يخترق سمع الأصم، لا أتوقف إلا بعد أن يكلَّ مثني، وأعيد القرع والصراخ مرات تضيع في العد، إلى أن صار يقيني بأن هذا الجحر المسكون بالظلام والأحلام، سيكون لا محالة قبري.
بعد أن استسلمت لقدري، وسقطت على الأرض ناطقاً بشهادتي، ذوى في أذني صدى لطرق من الخارج، بعد لحظات تأكد لدي الطرق بوضوح لا لبس فيه، ففاضت عيني بالدمع إعلانا عن ولادتي من جديد، إذن أنا حي أرزق. وقفت، وعدت لأقرع الجدار وأصرخ:
ـ أنا أبوحيان، أغيثوني.. أغيثوني.