عد روايتها الأخيرة (إني أحدثك لترى) التي تشكل إعادة نظر جذرية في كتابة الجسد ومفاهيم الذكورة والأنوثة، هاهي الكاتبة المصرية تواصل تفكيك مفاهيم السلطة وتدعو لمواجهة شجاعة مع التخلف والتردي والفساد، وهي تكشف عما آل إليه حال الجامعة المصرية من تدهور.

اضربها صرمة تكسب

منى برنس

عقدت الدكتورة م. العزم والنية وحسمت أمرها، بعد تردد دام لسنوات تردّى فيها حال التعليم من سيء إلى أسوأ، وقررت تقديم استقالتها من عملها كأستاذة بالجامعة. ولم يكن القرار هينا، إذ مبدأيا، ليس لديها مصدر دخل آخر، وهناك حديث عن زيادة مزمعة للرواتب الهزيلة التي يحصل عليها الأساتذة. وثانيا، كلما أشارت إلى موضوع الاستقالة كان الجميع يتهمها بالبطر والكفر بالنعمة في ظل معدل البطالة الذي يتفاقم من سنة إلى أخرى. وثالثا، هي تحب التدريس، تحب التعامل مع الطلبة، وتشعرأن لها تأثيرا ايجابيا ما ولو ضعيفا، وتستشعر اعجاب الطلبة الخفي بها وبأسلوبها في التدريس القائم على المناقشة والحوار، وليس على التلقين والاملاء وما يستتبعه ذلك من قمع لأراء الطلبة الذين يتعامل معهم أساتذة كثيرون باعتبارهم نكرة. هي ترى أن الطلبة يضيفون لها مثلما تضيف هي لهم، وأن هكذا يجب أن تكون العملية التعليمية، في احدى مستوياتها، عملية تبادلية.

لكن الحال هذا العام وصل بها إلى نقطة اللا تراجع، فقد أضيفت إلى محاضراتها الأساسية مواد إضافية كثيرة نظرا لعدم وجود عدد كاف من الأساتذة، المعار معظمهم إلى السعودية والامارات منذ سنوات، مما اضطر القائمون على إعداد الجداول الدراسية إلى دمج شُعب، لا يجوز الجمع بينها للفارق الشاسع في المستوى، وذلك لعدم وجود قاعات كافية، ولتقليص عدد الساعات الأصلية من نحو أربعين ساعة تدريس أسبوعيا إلى النصف تقريبا، كي تتبقى ساعات اضافية للقيام بأنشطة طلابية وأكاديمية ومهام إدارية أخرى تتماشى مع خطة تطوير التعليم! مع العلم بأن الجامعات المصرية خارج التصنيف العالمي. لم يعد هناك مفر إذن، فالدكتورة م. لن تستطيع بأي حال من الأحوال القيام بكل هذه المهمات التي سيتطلب اتمامها، شكليا على الأقل، التواجد في مكان عملها، الذي يبعد عن مسكنها حوالي 300 كم، لمدة أربعة أيام على الأقل. كما لو أنه ليس لديها شيء آخر تفعله في الحياة. وهي أيضا ترفض أن تتحول إلى معلمة في مدرسة ابتدائي، تردد كببغاء معلومات يستطيع أي طالب الآن الحصول عليها من الانترنت.

شعرت الدكتورة م. بالأسى وهي تفكر بكل ذلك، وهي جالسة في كامل تأنقها في سيارة الأجرة تنتظر إلى أن يكتمل عدد الركاب. لكنها لم ترغب في أن يكون صباحها كئيبا هكذا. وضعت سماعة الأذن الخاصة ب ال ام بي 3 ونقرت على أغنيتها المفضلة "لا... لست آسفة على أي شيء" التي صارت شغوفة بها إلى درجة أن أعلنتها شعار المرحلة الآن. أتى بعض الركاب الآخرون واكتمل العدد أخيرا وانطلقت السيارة. فجأة يدير السائق شريط كاسيت ويعلو صراخ ما يشوّش تماما على أغنيتها المفضلة. أبعدت السماعة عن أذنها فاصطدمت طبلة أذنها بزعيق حاد يحض على القتال ومحاربة الكافرين. "يا فتاح يا عليم" نطقت الدكتورة م. بصوت منخفض. نظرت إلى وجه السائق وووجوه بقية الركاب، لا يبدو أن أحدا منزعجا. الصوت حقا يؤلم أّذنيها، والساعة السابعة صباحا، لا يعقل أن تكون بداية الصباح هكذا. هل تدخل في جدل عقيم مع السائق لن ينتهي لصالحها غالبا؟ أم تكتم ضيقها وترفع درجة صوت الأغنية إلى الدرجة القصوى؟ لكنها أيضا تخشى على أذنيها من الصمم، كما انها لا ترى أن من حق السائق أن يفرض هذا الصراخ والارهاب على الركاب. لكن يا الهي! لا أحد يعترض. تتأمل وجه السائق مرة أخرى. ترى أنه وجه بشوش يتحمل التفاوض. تفكر هل تطلب منه مباشرة أن يخفض صوت هذا الكاسيت أم تناقشه. صحيح انها ذاهبة لتقديم استقالتها، لكنها مدرسة بداخلها، وتتعامل مع نفسها باعتبارها نبية، مثل شعراء الحركة الرومانسية، لديها رسالة ودورمع فارق التشبيه والدرجة. تلجأ إلى اللطف الأنثوي! تلمس كتفه برقة أشبه إلى المداعبة، يلتفت السائق اليها، تبتسم له. المصريون، على رأي صديق لها، مهما كانت التكشيرة التي تعلو وجوههم سيبتسمون لك اذا ما ما ابتسمت لهم، في معظم الأحيان. يبتسم لها. تزداد ثقتها بوجهة نظر صديقها. تتسع ابتسامتها وهي تقول له "يسعد صباحك يا أسطى، في حد برضه يبدأ يومه بقتل ودم وصراخ وتوتر كده... عالريق!؟" يتلعثم السائق وتتسع ابتسامته خجلا ويخفض درجة الصوت.

ـ دي خطبة الجمعة...
ـ بس انهاردة مش الجمعة.
ـ أيوة بس الشيخ بيشجع الناس على الجهاد.
ـ ماشي، بس احنا رايحين الشغل دلوقت، ما حدش فينا رايح يجاهد، واللي بيخطب نفسه آعد عالمنبر بيحرض بس، ما راحش يجاهد هو ليه؟
ـ هو بقى شغلته كده...

تشعر الدكتورة م. أنها كسبت هذه الجولة وأن السائق سيفعل ما تود.

ـ طيب وانت شغلتك ايه؟
ـ سواق
ـ وأنا أستاذة في الجامعة، وكل واحد من الركاب دول رايحيين يقضوا مصلحة، صح؟
ـ صح.
ـ يعني انت مثلا هتسيب شغلك وتروح تحارب؟

ضحك السائق بصوت مرتفع، وقال،

ـ لأ أنا هوصل اللي عايزين يحاربوا، بس يدفعوا الأجرة.

ضحكت الدكتورة م. والسائق ويقية الركاب الذين أخذوا يتابعون الحديث من دون تدخل. شعرت الدكتورة بتحسن وفرحت بترطيب الأجواء وبكل دلال سألت السائق:

ـ طيب ينفع يعني تشغل لنا الكلام دة عالصبح، مش كنا زمان بنسمع يا صباح الخير يا اللي معانا، ويا ورد صبّح نهارنا فل...

ضحك السائق ضحكة صافية وأغلق الكاسيت، واستمر النقاش الودي بينهما إلى أن وصلت امام بوابة الجامعة. حيّت السائق
ـ نهارك سعيد

ونزلت من السيارة وهي تشعر بقليل من التعب بعد استهلاك جزء من طاقتها في ذلك النقاش. لكنها مع ذلك تشعر بالفرح لأنها استطاعت إلى حد ما التأثير في السائق. "يجب أن نتكلم وألاّ ننسحب." تقول لنفسها، "هذا هو الحل" تنزعج وهي تلتقط التناقض بين ما تفكر فيه وبين ما ستقدم عليه الان. الانسحاب من الوظيفة!

"استعنت عالشقا بالله." وتدخل الدكتورة م. من بوابة الجامعة الرئيسية، وتستقبلها الغربان السوداء كالعادة، ولا تستطيع ان تمنع نفسها من التعليق الأسبوعي "أقبح مدينة!" توجهت إلى المبنى الاداري، إلى مكتب العميد، واستأذنت في الدخول. استقبلها العميد بترحاب مشوب بالحذر. حيته بتحية الصباح وهي مبتسمة، وناولته استقالتها المسببة.

ـ خير؟

سألها. حقيقة الدكتورة م. يسوءها أن تتسبب في مشاكل ادارية لهذا العميد بالذات. فالرجل يتعامل معها بكل ذوق واحترام حتى لو كان ذلك من قبيل أنها "الآخر" كما قال لها في لقاء سابق. وهي قدّرت له ذلك حينها، فأن يتعمل معها باعتبارها "الآخر"، بما يحمله هذا المصطلح من دلالات، أفضل كثيرا من أن يدعو لها بالهداية، وأن يطلب منها تغطية شعرها وذراعيها المكشوفين. وضع السيد العميد الاستقالة جانبا وقال لها أنه مبدأيا لن يقبل استقالة مسببة لأن ذلك سيستدعي تحقيقا قانونيا. الدكتورة م. معتادة على ذلك فكثيرا ما تم تحويلها للشؤن القانونية التي تنتهي تحقيقاتها بحصولها على جزاءات مختلفة من جراء رفضها لقبول أوضاع ترى أنها خاطئة. لكن الأمر هذه المرة مختلف، وهي تعرف ذلك.

ـ ايه المشكلة؟

سأل العميد في وجود بعض الأساتذة والاداريين.

ـ مش عاجبني النظام.
ـ انت أصلا برة النظام، هو حد بيشوفك.
ـ ما تشوفش حاجة وحشة يا دكتور...

وتبتسم ابتسامة دالّة جدا، ويضحك الموجودون دون تعليق باستثناء أستاذ عائد لتوه من السعودية، وقد أطلق لحيته دون أي تشذيب لتصل إلى صدره، فيما هو مفترض أنه سُنّة. نظر اليها بتأفف شديد واستغفر الله. استغفرت هي الأخرى في وجهه. ثم استأنفت الحديث فيما يخصها.

ـ الحقيقة، أنا قدراتي محدودة وما قدرش أدرس كل المواد والساعات دي، تعبت وعايزة أستقيل.
ـ سيبك من موضوع الاستقالة دة، انتوا هتاخدوا زيادة 1200 جنيه في المقابل.
ـ مش عايزاهم.

تسمع همهمات عدم تصديق واستغراب من الموجودين وترى نظرة تعجب على وجه العميد.

ـ انت أول واحدة ترفض الزيادة، ومع ذلك انت حرة لأن دة بالتعاقد.
ـ أول واحدة، آخر واحدة، الزيادة اللي هتذل الواحد دي بلاشها. الموضوع تحول إلى ما يشبه السخرة.
ـ يا دكتورة، احنا بنحاول نلاقيلكو طريقة لزيادة المرتبات، وفي نفس الوقت بنشتغل على جودة التعليم.
ـ يا دكتور، جودة تعليم ايه لما كل الموضوع منصب على تسكين جداول، ومش مهم بنقول ايه بقى في المحاضرات. حضرتك عايز تسكن جدول عالورق وأنا عايزة أدرّس بشكل جيد وعلى قد طاقتي.
ـ لأ طبعا احنا عايزين شغل بجد.
ـ بس حضرتك دة تعجيز. أولا أنا مش هاجي الأربع أيام، ثانيا أنا مش سوبر وومان عشان أدرّس كل المواد دي.
ـ بس زمايلك واخدين نفس عدد الساعات ان ما كانش أكتر.
ـ حضرتك، أنا أول محاضرة هشتغل بطاقة 90%، تاني محاضرة ممكن 70%، تالت محاضرة بالكتير أوي 50%، بعد كده هبقى بخرّف. وأنا الحقيقة بحترم نفسي وبحترم الطلبة اللي بدرس لهم.
ـ ما اختلفناش يا دكتورة...

تقاطعه الدكتورة م.

ـ لأ مختلفين يا دكتور... أنا ما بسترزقش من الجامعة.

يفاجأ العميد بردها وتتردد شبه ابتسامة حائرة على شفتيه في الوجه الذي وجم فجأة. يعم الصمت المكتب. تنتبه الدكتورة لذلك وتلتفت حولها لتجد ما يشبه "سهم الله نزل على وجوههم." فتستكمل وهي تشعر أنها في موقع قوة، وهذا حقيقي، إذ لا يستطيع أحد أن يمسك عليها زلة.

ـ أنا لا ببيع كتب، ولا ملازم، ولا مذكرات، ولا بسرّب امتحانات، لا بدرّس برة الكلية، ولا بإسم الكلية، ولا طلعت مهمة علمية ولا بعثة، ولا حاجة أبدا غير المرتب الهزيل دة اللي كان بيتخصم منه لحد وقت قريب.

وتسكت فجأة إذ تنتبه إلى أنها نهضت من على الكرسي وأخذت تتصرف كمن يلقي محاضرة بشكل تقليدي جدا أو كمن يلقي بخطبة. لا يلحظ أحد بالطبع ما تفكر به، فهم معتادون على هذا الالقاء الذي عادة ما تحاول الدكتورة م. عدم الوقوع في فخه. ولكن ها هي تنزلق فيه. يسعف الموقف الذي بدا مسرحيا بعض الشيء تدّخل احدى الموظفات التي تحب الدكتورة م. لوجه الله قائلة،

ـ والله الدكتورة دي ما فيش زيها، والطلبة بيشكروا فيها.
وتبدأ تعليقات وهمهمات بين الحضور لا تعني الدكتورة م. في شيء. هي تريد انهاء هذا الموقف بسرعة وأن تغادر، فتلتفت الي العميد الذي أخذ ينظر اليها بشيء من العجب والتقدير في نفس الوقت.

ـ يا دكتورة ساعدينا في انقاذ الموقف، في عجز في عدد الأساتذة.
ـ عفوا يا دكتور، دي مش مشكلتي، مقدرش أساعد على حساب نفسي.

يتبرع أحد الزملاء من قسم آخر بتعليق

ـ يا دكتورة ما تبقيش أنانية.

رمقته الدكتورة م. بنظرة معناها

ـ وانت مالك.

استأنف العميد حديثه،

ـ طيب الحل ايه؟
ـ الحل ان الكلية ما توافقش على تجديد اعارات الأساتذة اللي بقى لهم عشر سنين برة.

هز العميد كتفيه بما يعني أنه لا حول له ولاقوة. فاستمرت الدكتورة،

ـ أو تعيّن أعضاء تدريس جدد، أو تنتدب.
ـ التعيين بياخد سنتين، وما حدش عايز ييجي منتدب.
ـ طبعا لأن الجامعة بتدفع ملاليم ما تكفيش حتى حق المواصلات، لكن لو حضرتك دفعت مكافآت مجزية من تحت أي بند من بنود الميزانية، هييجوا.

ـ يا دكتورة اللايحة والقوانين...

تقاطعه الدكتورة م. لأنها تعرف جيدا بقية الحديث.

ـ اللايحة اللايحة اللايحة... هي نص مُنزل! ما نغيرها.
ـ ما احنا جبنالكو زيادة وانت اللي رفضاها.
تضطر الدكتورة م. أن تعلن رأيها صراحة بالانجليزية
"sorry I am not going to prostitute myself."
صمت. وجوم. كهربة في الجو.
يبلع العميد ريقه بصعوبة ويقول،

ـ العفو يا دكتورة.

و بعد فترة صمت لم تعرف الدكتورة م. ما الذي يجب عليها فعله الآن، تكلم العميد ثانية،

ـ اختاري حضرتك المواد اللي عايزة تدرسيها، اكتبيها لي في ورقة.

تفاجأ الدكتورة م. بهذا العرض غير المتوقع، وتنظر إلى العميد باندهاش.

ـ احنا عايزين نريحك يا دكتورة ونحل الأزمة.

الحقيقة لم تتوقع الدكتورة م. هذا الانقلاب في المواقف، واذا رفضت هذا العرض السخي، ستتهم بالتعنت وعدم التعاون. تطلب ورقة وقلما من العميد وتكتب أسماء المواد التي ترغب في تدريسها وعددها أربعة. تناول الورقة للعميد. يقرأها ويراجع أصل المواد.

ـ يا دكتورة ما ينفعش أربع مواد بس، خدي كمان مادتين تلاتة.
ـ هو ايه اللي خدي مادتين تلاتة، هما اتنين كيلو بامية؟

ضحكات مكتومة.

ـ يا دكتورة، حضرتك تقدري تدرسي أكتر من كدة،
ـ لأ أنا مقدرش
ـ حاولي تتعاملي مع الموضوع على انه تحدي ليكي.
ـ يا دكتور أنا مش جاية أحارب، أنا جاية أدرس، واذا حضرتك هتعجّزني، يبقى بلاش خالص. همشي، واذا رفضت الاستقالة هنقطع عن العمل لحد ما ترفدني.

وصل الكلام إلى نهايته القصوى، ولم يعد لدى الدكتورة م. أي كلام آخر تضيفه، فهمّت بالانصراف.

ـ أوكي يا دكتورة. المواد اللي انت عايزاها بس، خلاص كدة، مرتاحة.

لا تصدق الدكتورة م. أذنيها.

ـ لو حضرتك موافق بجد، خلاص.
ـ اتفقنا. هنعيد تعديل الجدول.
ـ مرسي يا دكتور جدا.

وصافحته بحرارة بأن شدّت على يده التي حاولت الافلات من التلامس الضاغط.

تخرج الدكتورة م. من الكلية وهي مزهوة وفرحة، وتخرج لسانها للغربان. تذهب إلى موقف سيارات الأجرة العائدة إلى القاهرة، وتبحث عن السائق الذي ركبت معه في الصباح، وجملة واحدة تتردد في رأسها، "اضربها صرمة تكسب."