تكشف المحاضرة التي ألقاها أدونيس في جامعة كولومبيا أثناء الاحتفاء بالذكرى الخامسة لرحيل إدوار سعيد والتي كان مقررا أن يلقيها الراحل الكبير محمود درويش عن فداحة خسارتنا في درويش، فقد كانت تلك المحاضرة فضيحة لا تليق بذكرى المفكر الفلسطيني الكبير. هنا يقدم أستاذ في كولومبيا تحليلا لها.

أدونيس واستجداء نوبل في جامعة كولومبيا

الإساءة إلى ميراث أدوار سعيد ومداهنة الرجل الأبيض

أسعد أبو خليل

يروي الأديب، الصديق، سنان أنطون عن الشاعر الفذّ، محمد الماغوط، قولَه عن أدونيس: «بدو نوبل». هذا القول على بساطتِه وإيجازه يلخّصُ أحسنَ تلخيص مواقفَ أدونيس على امتدادِ العقود الماضية. وأدونيس مقلّ شعراً في السنوات الأخيرة، وهو منصرف إلى ترداد أفكار ومقولات ليست من الجدّة أو الإبداع في شيء. ولو كان أدونيس مطّلعاً على النتاج الاستشراقي والأكاديمي، لتبيّن له أن معظم ما يردّدُ ويكرّرُ عن العالم العربي وعن «تخلّفِه» قيلَ ويُقالُ في المحافلِ الصهيونيّة وفي ما بقي ـ وانتعشَ بعد 11 أيلول ـ من الاستشراق الكلاسيكي. ومناسبة الحديث عن أدونيس هي الكلمة التي ألقاها قبل أسبوع في جامعة كولومبيا في نيويورك. وكانت عائلة الراحل إدوار سعيد قد اختارت الشاعر محمود درويش، لكن وفاتَه المُفاجِئة أدّت إلى دعوة مستعجَلة ـ من دون علمِه ـ لأدونيس في سبيل سدّ الفراغ. والكلمة نُشِرَت في جريدة «الحياة» (عدد 28 أيلول، 2008)، حيث يَنشر أدونيس كلامَه الإنشائي المُنمَّق والتبسيطي ـ لا بل الابتدائي ـ عن الحريّة. إذ إن أدونيس يحبُّ الحرية، أوّاه. وكلمة أدونيس مُعبِّرة لأنها مُوجَّهة إلى الرجل الأبيض المُجتمِع في جامعة كولومبيا، وهي تلخّص مسعى أدونيس لنيل جائزة نوبل التي لم تشغلْ محمود درويش، مما يُفسّر استمرارَ إبداعِه ونموّه على مرّ السنين. ودعوة أدونيس لتكريم سعيد هي مثل دعوة سمير خلف لنقد الاستشراق.

جائزة نوبل تفسدُ الآداب التي تتأثّر بها. لم نُشفَ في العالم العربي من عقدة العالميّة منذ ظهر عمر الشريف (المَنسي كليّاً في الغرب هذه الأيام مما يفسّرُ عودتَه إلى الثقافة العربية التي كان يسخرُ منها في سنواتِ تَوَهُّجِهِ الغربي التي لم تطُلْ) في فيلم «لورنس الجزيرة العربية». أصبحت الصحافة العربيّة (واللبنانيّة بصورة خاصّة) مهووسة بعقدة العالميّة. وكلما رقصت راقصة في الغرب، أو عزفَ ضارب إيقاع في الغرب، انحبست أنفاسُ الجماهير العربيّة بانتظار دعوة رسميّة من الرجل الأبيض. ونذكر أن الصحافةَ العربيّة تحرّقت شوقاً وأملاً في السبعينيات لأن هنري كيسينجر ـ الذي كان من المحظيّين الأميركيّين الذين تلقّوا اعتذارات وليد جنبلاط في جولاتِه الأبرامزيّة ـ أبدى إعجاباً بهزّ وسطِ وأطرافِ نجوى فؤاد أثناء زيارة مكّوكيّة. ولبنان كان أكثرَ تحرّقاً من غيره بسبب لوثة «العبقريّة اللبنانيّة». ولم يكن العالم العربي يشغل نفسه بجائزة نوبل قبل الستينيات. كان الأدباء العرب منصرفين (ومنصرفات) إلى الإنتاج دون الاهتمام بجوائز الرجل الأبيض، وخصوصاً أن لجنة نوبل (مُكوّنة من رجال محافظين) لم تكن تلتفتُ نحوَ الشرق... ما عدا إسرائيل التي حاز كاتبها شمويل أغنون الجائزة (أو نصفها)، أي قبل بكيت وبابلو نيرودا وسولجنتسين طبعاً، لم يحظَ أغنون بالتقدير النقدي العالمي، وإن كنا نتوقع أن يتنطّح تطبيعيّو «الحياة» و«الشرق الأوسط» (حيث يكتب الصهيوني الليكودي عادل درويش الذي أسس أخيراً لوبي للدفاع عن مصالح إسرائيل في الصحافة البريطانيّة ـ ويسألونك عن الدلائل إلى التحالف الاسرائيلي ـ السعودي) للدفاع عن كتابات أغنون وتصويرها أجمل ما كُتب.

لكن جائزة نوبل باتت تُعطى، وإن لماماً، إلى شعوب العالم المتخلّف (بنظر الرجل الأبيض في لجنة نوبل) وهذا الجود عزّزَ آمال الطامحين في عالمنا العربي ـ الطامعين برضاء الرجل الأبيض. وبدأ سعي أدونيس وراء نوبل، وبدأ في إعادة بث المُستهلَك والمُبتذَل من أفكار الاستشراق التقليدي. لكنّ معرفة أدونيس بالإنتاج الأكاديمي وبتراث الاستشراق سطحيّة إلى درجة تجعله غيرَ قادر على التمييز بين ما أصبح مقبولاً وما أصبح مُستهجناً بالمعيار الأكاديمي الغربي.

وسعي أدونيس بدأ وتجلّى في كتابه (أو أطروحته) «الثابت والمتحوّل». حصل أدونيس على أطروحته عندما كان اسماً شهيراً، ولا ندري إذا كانت الأسماء الشهيرة تذهب إلى الحصص الدراسيّة، وتقضي الساعات الطوال في مكتبات الجامعة، ما عدا طالب الدكتوراه، رستم غزاله، لأن أستاذَه المُشرف، حسان حلاق (الحريري الهوى) وضّح أن غزاله استحقّ ـ يا محسنين ومحسنات ـ الشهادة عن جدارة، لكن حلّاق لم يوضّح ما إذا كان التلميذ غزاله يحضر إلى الجامعة بمرافقة أمنيّة مكثّفة. والأطروحة، كما نُشرت، لم تتعرّض لنقد أكاديمي صارم من الأستاذ (المستشرق) المُشرف، لأنها نُشرت بهناتها. ولم يتوقّف أدونيس منذ السبعينيات عن إعادة عرض أفكاره الاستشراقيّة المبتذلة التي لا تلقى الاستحسان إلا في الأوساط اليمينيّة وفي الأوساط الصهيونيّة. أما في الأوساط الليبراليّة، فأفكار أدونيس مُحرِجة في بدائيتها الأكاديميّة، وهي تنتمي إلى عصر كانت فيه الأنثروبولوجيا الغربيّة تتكلّم عن «العقل المتوحّش» أو عن «العقل العربي».

الاستشراق واللهاث وراء نوبل
بدأ أدونيس كلمتَه أمام الجمع في جامعة كولومبيا بإظهار معرفتِه ـ أو هكذا ظنَّ ـ عن الفن والأدب في الغرب. فحشرَ حشراً كلاماً عاماً عن غوته. لكن أدونيس استفاض فحدَّث الجمع المحتشد عن عازفة الفيولنسيل المشهورة «يو ـ يو ما». لم نرَ وقع كلام أدونيس على الجمهور. لم يدرِ أدونيس الذي كان يزهو بمعرفتِه بالأدب والفن الغربيّيْن أن «يو ـ يو ما» هو رجل، لا امرأة. وفاته، وهو الذي يكتب كلمات إنشائيّة مُرّة المذاق عن الحرّية (كمن يكتشف الأدب الرومنطيقي في سن الصبا للمرّة الأولى)، أن يذكرَ معركة الحريّة في قلب جامعة كولومبيا. لم يذكرْ أدونيس حرفاً واحداً في كلمتِه عن محنة الأستاذ العربي الفلسطيني في جامعة كولومبيا، الصديق جوزف مسعد. ومحنة جوزف تتحدّث عنها الصحافة الغربيّة، لكنها فاتت انتباه أدونيس. قامت الصهيونيّة الأميركيّة بحملة غير مسبوقة للتضييق على مسعد، من أجل طردِه من الجامعة، لا لافتقاره إلى الشروط الأكاديميّة، بل بسبب جرأتِه في مقارعة الصهيونيّة وفي نقد الاستشراق. لكن كتابات مسعد الأكاديميّة تتعارض وتتضارب مع الإرث الاستشراقي الكريه، الذي يعيدُ إنتاجَه أدونيس. ما معنى كلام أدونيس عن الحريّة إذا تمنّعَ عن الدفاع عن حريّة أستاذ، وفي جامعة كولومبيا بالذات؟ لكن الكلام العام عن الحريّة في القرن الحادي والعشرين لا معنى له إذا لم يقترنْ بالدفاع عن الحريّة المحدّدة. لا، لا يتطرّق أدونيس في كلامه العام والإنشائي عن الحريّة إلى حريّة جوزف مسعد الأكاديميّة، أو إلى حريّة المدوِّن السعودي فؤاد الفرحان أو إلى حريّة مجلة «الآداب» في التعبير (بعد الدعوى المُقزِّزة لفخري كريم). كان أدونيس في كلمتِه منصرفاً إلى ما هو أهم. كان غارقاً في محاولة يائسة للتقرّب من الرجل الأبيض (الصهيوني).

وكم أساءَ أدونيس في كلمتِه إلى ذكرى إدوار سعيد لأنه أساءَ تفسيرَ دوافعِه السياسيّة. تحدّث عن الفن كأنه مشروع لـ«تجاوز الخلافات السياسيّة والثقافيّة القائمة». لم يكن هذا إطلاقاً هو مشروع سعيد، لأنه أدرك أن الحلَّ السياسي يكمن في إقامة دولة على كل أرض فلسطين (تغيّرَ سعيد في العقديْن الأخيريّن من عمره، إذ إنه نبذَ فكرة الدولتيْن. أذكر أنه قال لي عام 1993 في نيويورك: «أراني أتجه إليكم أنتم، جماعة تحرير كل فلسطين». وتكلّم أدونيس عن «التعايش المتحضّر» ـ يبدو أن أدونيس هنا يتقمّص أنور السادات. التعايش المتحضّر؟! ما معنى ذلك في عصر الحروب والاجتياحات والحصارات الصهيونيّة؟ لا، لم يتقمّصْ أدونيس أنور السادات وحده، بل تقمّص الرجل الصهيوني الأبيض بمصطلحاتِه ومفاهيمِه التي تتناقض مع مصالح العرب، وأهدافهم، ومع الشعب الفلسطيني خصوصاً. حدّثهم أدونيس عن «أمان» إسرائيل و«أمنها». تعوّدنا أن نسمعَ من الصهيونيّة عن «أمن إسرائيل»، لكنّ أدونيس زايدَ (كعادة هؤلاء العرب عندما يتقمّصون الرجل الأبيض في خطابِه) وأضاف عبارة «أمان إسرائيل». يبدو أن «أمن» إسرائيل و«أمانها» يشغلان بال الساعي اللاهث وراء نوبل، وهذا الشغل الشاغل قد يؤدّي غرضَه، ولو بعد حين. ولم ينسَ أدونيس أن يؤكد للرجل الأبيض في جامعة كولومبيا أن الضفة الغربيّة وغزة هما أرض فلسطين، وأن أرض إسرائيل في عام 1948 هل لإسرائيل وحدها. ولكن أدونيس عارضَ المستوطنات كما يعارضها وزراء خارجيّة الدول الأوروبيّة، وبالبرودة نفسها.

لم يكتفِ أدونيس في كلامه هذا بالإساءة إلى ذكرى إدوار سعيد، بل أضاف، حين طالب بضم إسرائيل إلى الشرق الأوسط وجعلِها «جزءاً عضويّاً منه». كم تغيّرتَ يا أدونيس، وكم جلتَ في رحلتكَ الإيدولوجيّة! من داعي القوميّة السورية، إلى متعاطف مع القوميّة العربية، إلى داعٍ لضم إسرائيل «عضوياً» إلى منطقتنا. ماذا عنى أدونيس بالضمّ العضوي، يا تُرى؟ هل هو يدعو لأن يقوم اللاجئ الفلسطيني بمعانقة كل إسرائيلي يراه أو لا يراه؟ والأنكى في ما فعله أنه استقرَّ في موقعه في تقمّص الموقف الغربي من إسرائيل في مصلحة إسرائيل. أوضح أدونيس لجمهوره أن نقده المُلطّف لإسرائيل هو من أجل مصلحة إسرائيل وأمنِها. كم تَغيّرَ العالم العربي!. كانت مجلّة «مواقف» مكرّسة للترويج لذلك «الفدائي الذي خَلَقا، من جزمةٍ أفقا». لكن الكثير تغيّر. بعض شعراء الجنوب تحوّل إلى شعراء قريطم، وبعض شعراء الثورة وكتّابها تحوّلوا إلى شعراء البلاط عند الأمراء والملوك الذين هزّوا أردافَهم رقصاً للترفيه عن جورج بوش.

وتذكّرَ أدونيس أن يستشهد بكلمة يقول إنه ألقاها في الجامعة العبريّة في القدس المُحتلّة. لم نكن نعلم بأمر الزيارة تلك. لعلّها كانت سريّة، أو لعلّها زلّة لسان، أو أنها مُختَلقة لإسعاد الحضور. وأجهدَ أدونيس نفسَه في الكلمة لإثبات إنسانيّتِه أمام الرجل الأبيض، فبدا مضحكاً، كما بدا في نهاية كلمته عندما توجّه إلى برنباوم فعانقه، وطبع قبلةً على جبهتِه. بعض من كان حاضراً قال إن المشهد كان هزلياً ومُستهجناً. واستشهدَ أدونيس بمارتن بوبر. لا ندري كم يعلم أدونيس عن بوبر، لكنه نسيَ أن يذكر أمام الحفل الكريم أنه كان منبوذاً بين اليهود في أفكارِه عن دولة القوميّتيْن. وأضاف أدونيس أنه ينتمي إلى الاتجاه الفكري اليهودي. لا ندري ما عناه أدونيس هنا، مع أنه ذكر بوبر وفرويد وسبينوزا. لا ضيْرَ في ذلك. هذا حقّه، لكن الليبراليّة العربيّة تطرّفت في حساسيّتها المفرطة ضد كل أو أي تعبير عما تعتبره إسرائيل «معادياً للسامية». ويجب معاداة اللاسامية لأن قضيّة تحرير فلسطين (كل فلسطين، لا خمسها) هي قضيّة إنسانيّة. والخطاب اللاسامي السوقي (والذي يردُ في الخطاب الأصولي الإسلامي) هو كريهٌ أخلاقيّاً، ويمثّلُ عوْناً جاهزاً للدعاية الصهيونيّة في الغرب.

وهناك أندية صهيونية متخصِّصة في ترجمة كريه الكلام في الخطاب العربي السياسي وتوزيعِه في وسائل الإعلام (الكاتب والمعلّق في الإعلام السعودي، عادل درويش، أسس جمعية ليكوديّة للترويج لمصالح الدعاية الإسرائيليّة في الإعلام البريطاني) الغربيّة. ولكن ليس كل ما يوصف باللاسامية (يجب أن نتوقّف عن تكرار الجملة الغبيّة أن العرب لا يمكن أن يكونوا لاساميّين لأنهم ساميّون، لأن اللاسامية تعني في العرف المتداوَل معاداة اليهود) هو لاسامي، وإن كان بعض معارضي إسرائيل (من النازيّين مثلاً) لاساميّين. لكن الحساسيّة العربية الليبراليّة ضد تعبيرات تدخل في ظنِّهم في الحيّز اللاسامي ذهبت بعيداً، وبعيداً جداً. حتى إن نشرة «المستقبل» السلفي نشرت مقالةً مُترجمة تُروِّجُ للمنظمة الليكوديّة «كامبس وتش» التي ترصدُ أي نقدٍ لإسرائيل في الجامعات. وهناك من يعترضُ ومن يزمجرُ إذا وصفَ فلسطينيٌّ عدوَّه بـ«اليهودي». طبعاً، من الأفضل أن نصفَ العدوَّ بالصهيوني (وخصوصاً أن عتاة الصهاينة هم من غير اليهود، مثل بيل كلينتون وجورج بوش والملوك الهاشميّين في الأردن، بالإضافة إلى السادات ومبارك وبندر وآخرين.) ينسى هؤلاء أن إسرائيل قدّمت نفسَها للعرب والغرب كدولة لليهود، وعليه فإن الفلسطيني (والفلسطينيّة) ليس (بالضرورة) معادياً لليهود كيهود لمجرّد وصفه العدوّ بـ«اليهودي». ومن إشراقات تاريخ القضيّة الفلسطينيّة ـ إلى أن ظهرت حماس ـ أنها كانت حريصة على التمييز بين عدائها للصهيونيّة وإعلان عدم عدائِها للشعب اليهودي. ونذكر أن منظمة التحرير الفلسطينيّة هي التي حمت وادي أبو جميل في بيروت، ولم تتعرضْ الجالية اليهودية في لبنان لاعتداءات (إلا في ما ندر). لكنّ صعود الأصوليّات الشيعيّة والسنيّة في الثمانينيات سعّرَ من حدّة العداء الديني والطائفي، وغيّرَ مضمون خطاب العداء لإسرائيل.

غير أن هذا التماهي مع خطاب الرجل الأبيض في الغرب يدفع البعض في أوساط الليبرالية (الوهابيّة دائماً) العربية إلى استفظاع الإشارة إلى «العدو اليهودي» من جانب البعض مثل حماس، واعتبار هذه الإشارة أفظع من قتل أو جرح الفلسطينيّين يومياً. تغيّرت المقاييسُ والمعاييرُ، وأصبحت هي معايير الرجل الأبيض. ثم لماذا يعلنُ العلماني أدونيس أنه ينتمي إلى الفكر اليهودي؟ هل يعتبر أنه ينتمي أيضاً إلى الفكر المسيحي أو الإسلامي أيضاً؟ وهل نسي أدونيس أن هناك ثابتاً ومتحوِّلاً ـ إذا أردنا استعمالَ تقسيمه الجدانوفي ـ في الفكر اليهودي (والمسيحي) أيضاً؟ صحيح أن المعاناة البشريّة هي معاناة إنسانيّة شاملة يجب أن تؤثّرَ فينا جميعاً، بصرف النظر عن الجنس والعرق والدين، فالفهم العربي للمحرقة (وعدم إنكارِها أو التشكيكِ فيها كما يفعل أحمدي نجاد) هو موقف إنساني وموقف مُعين للقضيّة الفلسطينيّة التي تحتاج إلى الحفاظ على معيار مرهف ودقيق للمعانة البشريّة. فالموضوع أخلاقي وسياسي، لكنّ أدونيس يطالب العرب بقبول لا فقط واقعة المحرقة ـ وهي واقعةٌ لا جدالَ فيها رغم التشويشات الجاهلة لأحمدي نجاد ـ بل واقعة إسرائيل. أي إن أدونيس يعتبر ـ مثله مثل المنظمات الصهيونيّة المتطرّفة ـ أن رفضَ إسرائيل المبدئي (وهو موقف يتشارك فيه معظم أفراد الشعب العربي، لا حكّامهم) هو موقف معاد للساميّة. وأدونيس يشطّ ويسبغُ أوصافاً وفضائل على الفكر اليهودي لا يسبغها على الفكر الإنساني، مع أن «المعايير الأخلاقيّة»، كما سمّاها أدونيس، موجودة في كل فكر الأديان، لكن أدونيس يحتاج إلى إعادة نظر في فكر الأخلاق المُجرّد، كما جاء في كتاب «تاريخ سلالة الأخلاقيّات» لنيتشه ـ لا نزال نحتاج إلى ترجمة دقيقة له. ومن المشكوك فيه أن أدونيس يمكنه أن يعلنَ انتماءه للفكر الإسلامي أمام جمهور جامعة كولومبيا.

نسي أدونيس نفسه في حضرة الرجل الأبيض. تحدّث عن الإسرائيلي كأنه أوروبي، مع أن نصف الإسرائيليّين على أرض فلسطين يأتون من أصول آسيويّة وأفريقيّة. لكن هذا مفهوم، لأن خطاب أدونيس موجّه إلى الرجل الأبيض دون سواه، ربما لأنه معني بتقرير من يحوز جائزة نوبل. وكلامه في ختام كلمته المنشورة في جريدة الأمير خالد بن سلطان يتطرّق إلى موضوع الهويّة وديناميكيّتها. لكن هذه القيمة لا تنطبق على دولة يهودية تعتمد في أساسِها وفي هويّتِها على الدين وحده. أي إن هويّة إسرائيل، خلافاً للدول الديموقراطية ـ ولا ننسى أن قبرص لا إسرائيل هي الدولة الديموقراطيّة الوحيدة في الشرق الأوسط، مع أن الليبراليّين العرب يُقسِمون أن مملكة القهر الوهّابيّة في السعودية تمثّل نموذجاً متطوّراً من المدينة الفاضلة التي شغلت بال الفارابي ـ هي هويّة ثابتة لا متحوّلة. وثبات الهويّة الدينيّة لدولة الاحتلال الإسرائيلي ـ لا شك في أن لذةً وقشعريرةً تنتاباني عندما أستعينُ في الحديث عن إسرائيل باللغة الخشبيّة، لعِلمي أنها تغيظُ مشاعرَ الليبراليّين العرب ـ يعني أن اسرائيل لا تقيم حساباً للعنصر الديموقراطي العددي، وإنها ستبقى ـ في مخيّلة الصهاينة فقط ـ دولةً يهوديّةً حتى لو فاقت نسبة العرب الخمسين في المئة من عدد السكان. وهذا ما عناه بوش ـ العزيز على قلب الليبراليّين العرب، الذي دعا حازم صاغيّة كلَّ العرب إلى «تشرّب» عقيدتِه عن الديموقراطيّة ـ في إعلانه عن دعم أميركا لبقاء إسرائيل دولة ذات أكثريّة يهوديّة. أي إن أميركا ستعمدُ إلى رمي كلِّ مولودٍ فلسطيني خارج حدود إسرائيل إذا أدَّت ولادتُه إلى اختلال الميزان الديموغرافي لغير مصلحة اليهود من السكان.

لا، لم يسهمْ أدونيس في تكريم إدوار سعيد. بل شوّه الإرث السياسي للرجل. لم يتطرّقْ إلى ما تعرّضَ له سعيد من اضطهاد ومن ذمّ وتجريح، ومن تشويه للمواقف. لم يفهمْ مشروع سعيد الموسيقي ـ على علّاته. فلم يعتبر سعيد أن المشروع يهدف إلى «تجاوز» الخلاف بين العرب وإسرائيل، كأن الصراع ـ وهو صراع قبل كل شيء ـ هو نتيجة سوء فهم، أو حاجز سيكولوجي، كما قال السادات. لا. لم يتهاون سعيد في إيمانه بأولويّات شروط تحقيق العدالة في أرض فلسطين، بما فيها حق العودة على كل أرض فلسطين. لكن مشروع أدونيس مشروع شخصي ـ ذاتي لا سياسي. كان من المشكوك فيه أن يكون المدعو الأوّل الذي حالت وفاته دون قدومِه، أعني محمود درويش، قد قال ما قاله أدونيس، رغم خلافي العميق مع مواقف محمود درويش السياسيّة، أو أكثرها. لكن اللهاث وراء نوبل يسلبُ العقول ويفسدُ التوازن.

لأدونيس مقامٌ رفيعٌ في الأدب العربي الحديث. كان رائداً في المجلات الأدبيّة ـ اتفقتَ معها أم اختلفتَ. وله كتابٌ قيّمٌ جمع فيه ما انتقاه من تراث الشعر العربي القديم. «أغاني مهيار الدمشقي» كانت حدثاً في الشعر العربي الحديث: شكلاً ومضموناً. ولأدونيس دورٌ (محمود) في استفزاز المشاعر وخدش الذوق التقليدي، وهذا ضروري في خضم الإنتاج الأدبي. لكن أدونيس شغلَ نفسَه بالسعي وراء نوبل، وقلّلَ من عطائه الأدبيّ. لا ترتفع قيمة الشاعر أو الكاتب بجائزة نوبل. هل هناك من يشك مثلاً في أن طّه حسين أو توفيق الحكيم أو محمود درويش أو بدر شاكر السيّاب أو خليل حاوي أو عبد الرحمن منيف استحقوا نوبل ـ من حيث هي جائزة عالميّة أدبيّة ـ أكثر من نجيب محفوظ وأكثر من... أغنون؟ من المشكوك فيه أن يكون موضوع نوبل قد دار في خَلَد عبد الرحمن منيف أو الجواهري أو حاوي. من الأفضل لأدونيس، لو أنه يتواضع ـ والتواضع ليس من سماتِه ـ وينصرف إلى الإنتاج الأدبي. أما اجترار الكليشهات المبتذلة عن العرب والإسلام، فلن يكسبه إلا مزيداً من العزلة (الأكاديميّة)، وإن فُتحت له أبواب... خالد بن سلطان. لكن التقرّبَ والاستجداءَ اللاهث من الرجل الأبيض يذكّرُ بعنوان لكتاب دوستيوفسكي: «مُذَلّون ومُهانون».

أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كولومبيا

نقلا عن جريدة (الأخبار) البيروتية.