في هذا النص القوي العميق الذي يقع على تخوم الشعر والنثر والتحليل الحضاري، يكتب لوكليزيو بشجاعة مقاتل ورؤيا عراف أو نبي شهادة الدامغة على الحضارة الغربية الحديثة التي أصبحت الحرب قوة داخلية فاعلة في حركيتها.

الحَـرب

ترجمة أميرة الزين

جان ماري جوستاف لوكليزيو

نان باشا ككاك إِللاريمونّا.
لاكا لاراتا ككاك ـ شاسا.
روراكك إِنتي هوششيموننا.
تِكسيمويويتا ككانسشاسا.
هينانتين رونا كوساشِك...
تعويذة طقسية

إن الوظيفة العدوانية للإنتحار عند شعب الماتاكو مؤكد. إنهم ينتحرون ليهددوا، وليعبروا عن عزمهم على عقاب من يكرهونه. الفرد ماترو

تخلصوا من الجنس البشري
هنري أ. فلينت جينيور  

تستمع الصبيّة بياتريس بي إلى لِعان السيد س: ليسمع من له أذنان، ففد حانت اللحظة التي يجب أن نقول فيها كل هذه الأشياء.

تموت الحركة والضوضاء، تتوقف كل الآلات، وفي الصمت أستطيع أن أكتب ما أعرفه من كلمات، ربما كانت آخر الكلمات. هذا الذي يطلب المعرفة تَخشّبَ كما الشجرة، وتجمّد بصرُه. سكنه الخوف، حجّر عضلاته وأحاله إلى تمثال. وهذا الذي يطلب العلم انصرف عن الهذر واشاح بأذنيه عن الأغاني والموسيقى الناعمة. في مطابخ الأبنية التي تشبه زنزانات الإسمنت تلغو أجهزة التلفزيون، تلغو بدون توقف. وها أنا أيضا أشيح بأسماعي عن لغوها، ولا أرى على شاشاتها إلا الملايين من النقط الزرقاء الدقيقة وهي تتحرك من اليمين إلى الشمال.

وحيدٌ الآن، وحيدٌ مع كلامي، أحاول أن أثقب جدار الزنزانات الفولاذي.

أقول الحقيقة، لا الكذب. فمنذ سنوات وأنتم لا تسمعون من حولكم إلا صراخ الحق. لكنكم رفضتم أن تستمعوا إلى صوته، وكنتم صمًا وعميانا. أوصدتم الباب على الفكر. ولهذا فقد فات الآوان، وهاأنتم تدخلون معي في ملكوت الأشباح. كل ما حولكم كان يدلكم على الطريق، ولكنكم رفضتم أن تنظروا إليه. ويل لهذا الكلام الذي لم يقنعكم. وويل لذلك الذكاء الذي عجز عن تبصيركم بوجه الحق. لا شك أن الكلام لم يعد كلاما، صار قرقعة تصدرها آلات مجنونة. لم تكن الكلمات هي الكلمات بل مجرد حشرات مجنونة ترقص في الضوء. كانت هناك آلاف اللغات، ملايين اللغات، فكل فرد كان يتكلم بلغة خاصة: زعيق وضوضاء وضجات عبثية عقيمة. كان أَوْلى بكل امرأة تلد أن تقتلع لسان وليدها، وكان حقا عليهن أن يبعجن طبلة آذانهم علهم لا يخونون الحقيقة. لكنهم ولدوا بألسنة وآذان، وعاشوا قرونا في الضوضاء والزعيق. طارت كلماتهم العبثية فوق الأرض كسحابة من جراد تحجب نور الشمس وتُصحّر الحقول. راكمت العاصفة غيومها وبروقها قرنا بعد قرن، وها قد بدأت تفعل فعلها. كل الطاقة موجودة هناك في الدائرة المعدنية اللون المعلقة فوق العالم. إن هذا الكلام لا يقال جزافا، فنحن لا نصخب ونضج كل هذا الصخب والضجيج من غير أن نخاف ـ بعد السفر في دوامة الكريستال ـ أن يرجِعَ الصدى المهولُ فجأة ويصعق الآذان. إنني أعلم أنه سيرجع، وأسمعه يأتي، ولا أستطيع صده ولا رده. وليس هناك من يستطيع. إن نقمة الأشياء، نقمة الصخب والضجيج تنهض بإعصارها في السماء، فليهرب من يستطيع الركض والفرار، وليسمع من له أذنان.

هؤلاء الدهماء اخترعوا الجَمال. شيّدوا المعابد المتعجرفة التي تتحدى المكان والزمان. وعلى مدى القرون الطويلة خلقوا أبراجهم الحجرية وصروحهم الإسمنتية، خلقوا كاسحات الأمواج التي تمخر البحار، خلقوا طرقاتهم الإسفلتية التي تشق الصحاري. صنعوا ذلك كله. اخترعوا الزجاج العاكس المسلوب العمق، الأسوار الشاهقة التي ينبض لونها بالضوء والحياة، المرايا ـ الشطآن الصخرية التي تحطمها حصاة واحدة؛ تقذفها يد واحدة، فتحولها إلى هشيم. وهناك في داخل هذه الأقفاص أودعوا ثرواتهم، أودعوا الكنوز الخارقة، أودعوا الجبال من مسحوق الذهب والحجارة الكريمة. لم تكن هذه الكنوز إلا جبالاً من الجثث وأنهارا من الدم. وقرنا بعد قرن كان الدهماء المغاوير يبنون آلاتهم بمحركاتها الوهاجة ودواليبها وأوصالها المعدنية. كانت القوى مكسرة ومحشورة في مراجل البخار الهائلة. النسغ الناعم يتدفق من الشجر، والأرض كانت مبقورة، وأنهار الوحل ضلت مجاريها. العمل والجهد في كل حدب وصوب يدبان على قدم وساق.

سوف أخبركم بما أرى، وإنها لرؤيا فظيعة مخيفة كمنظر العظم تحت الجلد. رؤيا بعينين تخطان رسمهما الهذياني على النوافذ وصفائح الإسمنت. هذه رؤيا لا أشاهدها بمجرد عينين بل بملايين الأعين المشرعة. عدسات التصوير مصوّبة على المشهد ومفتوحةُ السجف. سأحاول أن أقول ما يراه الناس ولو كان في ذلك موتي. كلمات كثيرة تطير في كل اتجاه. كيف أثقب ضباب الحشرات؟ سأحاول، سأحاول. في عمارات الإسمنت مسجونةٌ هي الثروات، وفي المخازن الكبرى ينتظر الطعامُ. أرى أطنانا من اللحم والرز والفواكه والسكر والملح. وفي قلب علب الحديد الأبيض يسبح الطعام في دمه. يلقي الضوءُ جسده على جبال الطعام ويمنحها بريقا خارقا. يتدفق ورق «السولوفان» لمعانا باردا. تحتفظ لفافات البلاستيك بمذاق الطعام، وفي قناني الزجاج يسيل الزيت الأصفر. كل الثروات محبوسة في علب الألمنيوم داخل المخازن البيضاء، وليس هناك من يستطيع الوصول إليها.

إنها بعيدة جدا عن الفم، تشع بغموض مثل الكواكب المنيعة.

الجوع ينهش البطن. نسمع ضجة متواصلة في مكان ما داخل الأرض، دويا لا يتوقف. هذه ضجة الجوع. تتكسر الأنظار على الواجهات. وعبثا ترمي الأنظار نبالها على بريق المعلبات. يتقدم المد البشري أمام المخازن على شكل زوابع طويلة، يخنقُ المد دائرته ببطء. يستند بيديه على الواجهات والأبواب. كم سيدوم ذلك؟ كم سيجاهد الجوع والشهوة؟ تسيل دوامات النهر المتلاطم على مدى الجدران البيضاء. وهاهي التشققات الأولى تبرز. هاهي تركض على الجص وتنتشر بسرعة هائلة على طول أعمدة الإسمنت. انهارت واجهات البنايات الجديدة، وتحولت النوافذ إلى ثقوب سوداء تتسلل منها الحياة.

الجَمال مفزع، يرتدي درعا أسود طافحا بالشرر. الجَمال مسربل بالحديد والجلد مثل الساموراي. إنه وحيد في كبد الصحراء الرملية كالجَدِّ الأول للهراقلة. الإنتصار. الإنتصار دائما وأبدا. هذا ما يسعى اليه الجَمال. كل أسلحته وخناجره مشحوذة. كل تروسه معدة. وهذا هو الحشد المجهولُ ينقضّ عليه. لا أريد أن أعرف من سينتصر. لا أريد أن أرى شيئا. غير أن القوى الجارفة تتدفق من المغارات بدون توقف، تنهال من أبواب الكاراجات، تملأ الدروب والطرقات بآلاف من الدواليب والمصابيح والأجنحة التي تتقدم وتسحق. لقد أفلتت الطاقة من مصاهر الحديد، وهاهي تنقلب على نفسها بعد مسيرة طويلة. كفى! كفاني نظرا إليه! كفاني استماعا! فأنا لست بشىء. أنا مجرد فم بكلماتٍ يصنع جُمَلهُ عشوائيا. وها هي الكلمات تستحيل إلى سكاكين تسعى مع الساعين إلى القتل والتدمير. ثمة أصوات أخرى من حولي ومن فوقي. حبقوق، ميخا، عاموس، عوبديا، يوئيل «نادوا بهذا الأمم. قدسوا حربا، أنهِضوا الأبطال. ليتقدم ويصعد كل رجال الحرب. اطبعوا سِكاتكم سيوفا ومناجلكم رماحا. ليقل الضعيف بطل أنا»؟

ناحوم «ويل لمدينة الدماء. كلها ملآنة كذبًا وخطفًا. لايزول الإفتراسُ. رعدة السّوط وصوتُ رعشة البَكرِ، وخيلٌ تخبُ، ومركباتٌ تقفز، وفرسانٌ تنهضُ، ولهيبُ السيفِ، وبريقُ الرمحِ، وكثرةُ جرحى، ووفرةُ قتلى، ولانهاية للجثث. يعثرون بجثثهم. استقي لنفسكِ ماءً للحصار. أصلِحي قلاعَك. ادخلي في الطين، ودوسي في الملاط. أصلحي الملبنَ. هناك تأكلك ِنارٌ، يقطعك سيفٌ يأكلكِ كالغوغاء. تكاثري كالغوغاءِ، تعاظمي كالجراد. أكثرتِ تجارك أكثر من نجوم السماء. الغوغاءُ جنحت وطارت. رؤساؤكِ كالجراد، وولاتكِ كحرجلة الجراد الحالّة على الجدرانِ في يوم البرد. تشرقُ الشمس فتطيرُ ولايُعرفُ مكانُها».

أرميا:«أحشائي أحشائي. توجعني جدرانُ قلبي. يئن فيَّ قلبي. لا أستطيع السكوتَ. لأنك سمعتِ يانفسي صوتَ البوقِ وهتافَ الحربِ. بكسرٍ على كسرٍ نودي لأنه قد خربت كل الأرض. بغتةً خربت خيامي وشققي في لحظة. حتى متى أرى الرايةَ وأسمعُ صوتَ البوقِ، لأن شعبي أحمق. إياي لم يعرفوا. هم بنون جاهلون وهم غير فاهمين. هم حكماء في عمل الشر ولعمل الصالح ما يفهمون. نظرتُ إلى الأرض وإذا هي خربة وخالية، وإلى السموات فلا نور لها. نظرت إلى الجبال وإذا هي ترتجف وكل الآكام تقلقلت. نظرت وإذا لا إنسان وكل طيور السماء هربت. نظرت وإذا البستان برية وكل مدنها نقضت من وجه الرب من وجه حمو غضبه. اهربوا يابني بنيامين من وسط أورشليم،واضربوا بالبوق في تفوع، وعلى بيت هكاريم، ارفعوا علم نار لأن الشر أشرفَ من الشمال وكسر عظيم».

يقولون السلام السلام، ولا سلام.

إنني أصغي إلى كل هذه الأصوات التي ترسم إشاراتها المصنوعة من النيون في الليل. وحقا، لاسلام. إن القوى الأجنبية مستعدة للتدفق. إنها متحفزة، وتكاد الآن أن تنقضّ. إنها قوى لاإنسانية ولدت في قلب الفولاذ، داخل الآلات الإنفجارية، في الحجر، في النار، في الجحيم المهول المرصوص في أعماق الأشياء. آلاف القوى في كل حدب وصوب. هذا جلدُ البشرِ بساطٌ رخوٌ يخترقُه المخلبُ والرصاص والنابُ المقوّس. هذا الجلد البشريُ الدافىء الناعم لسوف تصهره النيران. المسايل الصخرية جاهزة لسواقي الدم، وصحاري الرمل أشرعت مفاوزها على شكل ورق التنشيف. لا تنتظروا. هيا اهربوا، وليس من مفر، فقد فات الآوان. أوصدت الأبواب. أطفئت الأضواء. وأظلم كل شيىء.

انتهت الألوان. ومن المستحيل وجودُ الألوان. الزرقة المتعددة للهاوية، الخَبَالات الخضر، أرجوانات اللذة، القهوائيات الميتة، ولؤلؤ العيون، التحليقات السمر المذهبة، السماوات البيضاء، آه البيضاء! سهول الوحل، وانهيارات الدم، كل الألوان ستَسوَدّ. كل الألوان سوداء. أسمِعتمْ، سوداء! لأن الأرض مجرمة.

كان الدهماء البلهاء يسكنون في الحرب، ولم يعلموا. كانوا يظنون أن الحرب أجنبية. تشتعل بعيدا بعيدا في بلاد منسية، في غابات متوحشة، بل في أعماق أودية منكوبة على أطراف الأرض. يظنون أن الحرب مثل دوي العاصفة يلعلع على الطرف الثاني من الأفق. وكان لديهم متسع من الوقت ليحصوا شعور نسائهم، وينظموا المراثي في كلابهم الميتة.

ولكنهم كانوا يعيشون ضرام الحرب، يعيشون في حدقة المذبحة هم ونساؤهم وكلابهم. تتكون حولهم الزوبعة الهائلة يوما بعد يوم، والقوى النكراء تصطرع وتتخاصم، قوى ترغب في قتل النظر وإماتة الفكر. الغابات شائكةٌ بالكهرباء، والمدنُ بقضِّها وقضيضها أنقاضٌ من الحجر المستسلم لجاذبية الأرض. إنها تصفع بعوارضها وقضبانها الفولاذية، تلطم، تنبح في الآذان، تعض العيون، وتهشم الأنوف. غريبة هذه المدن الغريبة بجدرانها الساحقة. قَتلة، قَتَلة، قتلة، كلهم قتلة، الجدران، الجص الناعم، صفائح الذهب الخام تصرّ فوقه الأظافر. قتلة! تتدفق نحوي كل الأشياء، تتموج الأحجام، تمتلىء بالدوار وتغيّر أشكالها. تخسف الزوايا، ثم تتقبّب، ثم تخسف، ثم تتقبب بدون توقف، وتمطر الإنعكاسات. تغلي الأصوات في مواسير الأرغن، ثم تنفجر. وفي قلب المخازن البيضاء تُضرِمُ الأشياءُ حقدَها، وترد المرايا نبالَ النظرات. تولد الكلمات في أعماق الحلقِ مكسوة بالإبر والأحناك، تتدفق الكلمات بلا انقطاع. تخرج من صفحاتِ الكتب، من أشرطة التسجيل، من الأسطوانات ومن عتمة قاعات السينما، تخرج وليس بينها كلمة واحدة لها معنى السلام أو الحب.

يبني الدهماء أسوارهم وسجونهم، يغلقونها على أنفسهم. بشر بدون أرواح. يرفعون جدرانهم الشاهقة، أبراجهم، أهرامهم، ثم يضيعون في المتاهة الجديدة، ثم تقترب الجدران من بعضها ببطء! يرسم الدهماء الحمقى طرقاتهم من طرف الأرض إلى الطرف الآخر، ثم يموتون مسحوقين، يشعلون أنفسهم بعود كبريت واحد في لهب مجنون، وحريق وقاد. الحذار! خطر! خطر... ولكن ما ذا بوسعي أن أقول وقد نشأت في اللهيب؟

الويل لي كل الويل لأنني فرد ولأنني أريد أن أكون ألفاً. ليس لصوتي معنى؟ ماجدوى صوتى في وجه الجيش؟ سيُداس على جسدي، وستُسحق حنجرتي. إن صرخة واحدة لاتساوي أكثر من حرشفة في جلد الثعبان.

ها ألمح العاصفة تتقدم بكل جمالها وأبهتها. وها أنا في قلبها وتعصف بي. لا أعرف إلا ما يدور، إنني لم استشرفه ولم أحلم به. لم أختبىء في قلب حُجرةٍ صماء بدون نوافذ لأشرب التونغا tonga، لا بل عشت في الفَلا، وفتحت عيني على وسع الضوء وأصغيت لكل أنواع الضوضاء. ذلك واضح وجلي. فهاهي طبقات الجو الأولى تنقشع لحظاتٍ قبيل الإنفجار. والسماء تربَدّ، وها أنا أرى علامات الصاعقة البيضاء حيثما يتوجه النظر. ثمة ما يتقدم. ثمة ما اخترق القارات والقرون وهاقد وصل. ثمة ما ينفذ بسرعة الرعشة من جلد آلاف الأجيال وهاهو أمامنا.

الذين حدثوكم عن السلام والوئام كانوا أنفسهم في حومة الوغى، وكانوا يخافون الإفصاح.

حين تلتقي الجيوش ستنفجر الأرض. وربما لن تقع الواقعة بعنف، بل لربما تقع في غفلة وسلاسة عذبة. ويزحف الدمار مثل نار تلهب عسلوجا بعد عسلوج، أو مثل شعلة منتصبة في وجه الشمس آلافا من الكيلومترات، شعلة تنهش وتهشم حتى الأغوار. أكره الذين يتباهون باسمهم. ليس الجنون مستغربا، والحقد صناعة البشر. إنهم يدمرون بعضهم بدون علم. دمار يتم في هذه اللحظة. تأملوا ما حولكم. انظروا إلى الحرب المشتعلة. أصغوا وأصيخوا للحرب تزحف في الطرقات والمطارات والأبنية الناصعة، تزحف في الخنادق، في الساحات حيث أهملت آلاف السيارات، أصغوا إلى الحرب وأصيخوا اليها تزحف فوق بحر الإسمنت. إن لها أسماء انتصارات خلابة، أسماء طنانةً Super Parking, Videostar. The Animals, Molybdène, Acier, Zeiss, Chrysler, Flaminaire, Honda. إن لها أسماء قتالة. وهذه حركاتها الإسمنتية والحديدية أضرحة، وهذه مخازنها الهائلة التي تتألق فيها قلاع حصينة مغلقة المعابر. أدخلُ الرواق الأبيض الكبير، أمشي على البلاط البلاستيكي حيث يتداعى الضوء، وأبحث عن أعمدتها الأربعة لألغمها بقنابلي الأربع. تترقرق الفضة، وتترقرق المياه في الأحواض وفي الفُسقيّات الفسيفسائية، ماء بللوري رقراق أصفى من الهواء وأحلى. ولسوف تغمر مياه الأحواض النساءَ المستلقيات فيها، تغرقهن، ثم تمتلىء بنوافير الدم. يتسرب الغاز من المواسير، ويطفو فوق الشوارع كالضباب. أما الرئات المتآكلة فتتلوّن بلون الشحم.

أقول لكم ثمة أشياء بلانهاية، والدهماء المتهالكون انهارت قواهم. ثمة ثروات لاحصر لها، ثمة ضوء لاينتهي، موسيقى موسيقى. ثمة مالا ينفد من كلمات وصفات وظروف وأسماء وفاعل ومفعول. ثمة حركة لاتدرك. اللون الأحمر محتدم يسربل السماء من كل أطرافها. وحمراء هي الظلال. كيف العيشُ هنا في حمّام الدم، وأنا لم آمل إلا الأزرق، بل حسبي الأخضر؟ الزعيق نبال تخترق الريح، ولكنه أكثر فتكا من النبال. الأصوات الغائرة لا تنفكّ ترجّ الأرض، تُصدع الجدران. وفي القلاع المؤلَّفَة الشبابيكِ تلتهم الوحوش النكراءُ لحم البشر وتقرض الورق، وتطلب المزيد. وفي كل يوم تمطر الكلمات في الطريق، كلمات مستحدثة، وجرائم مستجدة. ومع كل ثانية تزداد الصور داخل الجماجم حلاوة وتزداد عددا. أما الحركة فإنها كذلك مع كل ثانية تبتلع السرعة. وحيثما وجهت الطرف تعلو رافعات الورشات، وترتفع مترا، ثم مترا. وهناك في الجبانات قبور تشبه قاطرات السكة الحديدية. اليوم، حطت الغيوم ومزقتها هامات واقيات الصواعق. الليل أبيضُ من النهار مخردق بملايين ال?ولتات. وتحت الأرض تجرف المجاري أنهارها القذرة نحو البحر القذر. تلتهم الأفواه أطنان الدسم والجبن وأطنان اللحم والخبز والفواكه المعلبة. قطيع المواشي على أبواب المسالخ سيل لا يتوقف. تدك الآلات الهضاب، وتبقر الإنفجارات الجبال، وتريق أحشاءَ الرمل والطين. إنها الحرب الأبدية، حرب كل الأزمنة وحرب كل الأمكنة؟ لماذا، بل كيف يتوقف كل ذلك مادامت الأيدي تصنع ما تدمره الأحشاء؟ كيف نوقف الكلمات، نعيدها إلى قشورها الصماء حيث اللغة كل اللغة حياة أو موت؟ آه، كل ما على هذه الأرض منذور للإنفجار. لقد ظلت هذه الأشياء على مدى القرون مشدودة، مكبوسة، مخنوقة، محبوسة. على مدى القرون ظل إكسير السعادة حبيسا خلف حاجز من زجاج، الزجاج في النور، النور منداح في حلقات الهواء، والهواء في قبضة اللانهائي الثقيلة. حول العمارات البيضاء، حول جبال الذهب والطعام يُحدِّق البشر وينتظرون. كثير من الأطفال ينتظرون، يبحلقون بعيون تقدح شهوة وضغينة. وأمام الأحواض المترعة بالماء الأزرق ينتظر الرجال والنساء مسربلين بالغبار، ينتظرون لحظة الشرب. يلمع السكر والملح والزيت في أعماق المخازن. ينحت الضجر والجوع موجا بين الحشود المتدافعة على الأبواب. وعما قليل سينفجر الزجاج الرقيق تلقائيا ولسوف تسيل البضائع فتسحق الأفواه والعيون. إن الجمال يعرف كيف ينتحر حين يتباشع.

ياللوفرة ما أعظمها، وياللجرائم ما أكثرها. هذا هو السخام الأسود في الروح يأكلها. السخام القاتل يولد في مدن الصفيح وفي مدافن العظام. أنتم تتنفسونه دائما وأبدا. كان في دمائكم يوم كنتم في أحشاء أمهاتكم. كل جرعة من الماء تشربونها، وكل لقمة من الطعام تأكلونها تزيد أجسادكم سما. ويوم فتحتم أعينكم أول مرة كان حاضرا: الصحراء بلا نهاية، العنف، البشرة المجعدة المدموغة بالندوب. ولكنكم أردتم نسيانه مهما كان الثمن، بذلك رميتم كلماتكم، عشوائيا، وبحثتم عن المنافي، مغارةً، امرأةً، طفلاً، أيَّ شيء. ولكن سدى ومحالا. فنحن لا نرحل. نحن نبقى. الإنسان آلة بين الآلات الأخرى، للقتل والنهب والدمار.

ياهُووو! إني أحدثكم، أقول لكم إنني مضطر إلى إغلاق عيني على أعماقي، وويل لمن اضطرني إلى ذلك! ماذا جنيت؟ وماذا وُهبتُ وأُعطيتُ لأغيّر العالم؟ ألم يكن أولى بي أن أقتل المرأة التي حبلت بي، لبطا في أحشائها وركلا، لعلي أبدا لا أرى النور؟ وعبثا، فقد قضي الأمر وراء حولي وطولي. إنها لعنة الأغلال المفاجئة. وقضي الأمر. فالحرب مشتعلة منذ قرون، وقد بنت معابدها ومدنها المجرمة، وأقامت جدرانها من حجر وبرونز معجونين بالعنف.

لم أكن يومها في الوجود، وكانت أمي خالدةً، وأنا أتدحرج بابهام في مجاهل دغل. كنت مطواعا أنتظر، مسكونا برغبة رياضية athlétique جديدة تشق لحياتي دربا دمويا. كنت أرتقب حرائق العالم ولي وزنُ الرصاص. أستشعر بتنميل الأمل يدب في أطراف العضلات، ومنذ تلك الطفولة الهرقلية وأنا أنطلق، وأحيا حتى نهاية الشوط. ثم رأيت امرأة تقترب. كدت لفرط جمالها أعتقد أن ليس على هذه الأرض من يعيش غيرها. كانت تسير وحدها في درب الإسمنت، في غمرة العنف والفوضى ولم تكن تراني وهي تسير الهوينا، ودون عناء، كأنها تجري على عجلات وتشق الهواء والضوء. الشمس تشعل فوق جسدها ألقا مجنونا، يحرق شعرها وملابسها. كانت تقترب مدرّعة بالنايلون والحديد، صامتة تضرب الأرض بكعبيها القاسيين، بينما كانت ساقاها الطويلتان دائبتين في عبور الفضاء، وعيناها الشفافتان منارتان تخترقان عينيّ. ذات مرة رأيتها عرضا وهي تبتعد، وأدركت أن فيها كما في غيرها قوة سحرية، قوة لا أستطيع فهمها أبدا. كانت تعلن من غير اكتراث أن العنف جميل، وأن كل ما عليها عاجلا سوف ينفجر. لم أستطع أن ألحق بها أو أن أكلمها، لا هي ولا غيرها. لم أستطع أن أقتلها، بل انتابتني قشعريرة خاطفة وحمّى. لقد أدركت أن هذه المرأة هي الصورة الجامحة للحرب، وأنها هي التي تجتاح ساحات الوغى حين تضرم الحرب. جلدها معجون بلحمها كأنة الدرع. أما ملابسها فتبدو جلدا ثانيا لا تنفذ منه المياه. كانت تسير نحو الخطر وهي تقدح شررا، كأنها سيارة جديدة مرفوعة الزجاج،. فليتحدث إليها من يعرفها. ليبقر بطنها وليقرأ أحشاءها الدخانية. إسمها بي بي Bea B أو Beauty Lane. وتسمى كذلكBothrop Atrox فمن يعرف عنها أو عن غيرها شيئا ليتكلم. لعلها ماتزال تحتفظ في جسدها بجهاز الحرب، ولعلنا نستطيع اقتلاعه. تكلموا! تكلموا! وليس من يتكلم. كل يوم، كل سنة ألتقي جسد Bothrop Atrox اللماع وهو يتجه نحو الطرف الآخر من الدهليز. ويضع أجنّته من الديناميت وقطن البارود. لابد من توقيفها، لابد من اقتلاع جلدها وإنفاذ الهواء والماء في جسدها. غير أن الهواء غائب، والماء محبوس في المواسير والصنابير. كو Kû! إسمعي يا كو! يامسلتقية في آلاهيي Alahiyi. أوه أيتها المرأة الفظيعة. هناك في آلاهيي تستجمين، أوه أيتها المرأة البيضاء أبدا لا يشعر خدنك بالوحشة، يابديعة الحسن. أبدا لايشعر خدنك بالوحشة. لقد أرشدتني إلى سواء السبيل، ولن أعرف حزنا بعد اليوم. وضعتني هناك على المحجة البيضاء، في حدقة الأرض، وسأبقى منتصبا فوق الأرض. أبدا لا يشعر خدني بالوحشة. بديع الجمال أنا. وضعتني في المنزل الأبيض، وسأدخله حين تدب فيه الحركة. أبدا لا يشعر خدني بالوحشة، وصدقا أنني لن أحزن، لقد شئتِ وقضي الأمر.

اسمعي أيتها المرأة الفولاذية، إسمعيني. أوقفي آلتك التامة ولو للحظة، ولا تقتربي. كلمة. كلمة واحدة منك وتضع الحرب أوزارها. فاصدعي بأوامرك، ثم ارتفعي عندها فوق أعاصير اللحم والدم، ترتفعين في غلالتك النورانية، وتكونين الملكة. لكن ثغرها المرسوم لاينطق. عيناها قاسيتان وراء نظارتيها البولاروييدPolaroïd. العالم من حولها يعصب عضلات بطنه، ويظل ينتج وينتج دائبا، طادرا من ثقوبه السرية تلك الأشياء الجديدة والمواد المجهولة. وترتفع الأكوام إلى السماء، جبال الذهب والجَمال. في كل لحظة تبرز فوق الأرض لماعة بدروعها الألومنيومية، لفافاتها، أزرارها الملونة، سطوحها المُبْلسْتَكة، شبكات خيوطها. آلات، علب. اسطوانات، بَكَر، كلها مصنوعة لها. أطنان البضائع الجديدة داخل المخازن تتبرج في الواجهات. لاتجد لها لحما كافيا، ولا أنوفا، ولا أفواها، ولا عيونا. ليس هناك فكر يحيط بكل هذه الكلمات المتدفقة في الهواء، مع كل لحظة، سربا من الحشرات الصاخبة، ليس هناك طرقات كافية لكل الدواليب.

دائما وأبدا، ليلا ونهارا تتوالد، تتوالد: علب الأناناس، علب لحم الخنزير، الفواكه، الخضار، العطور في علبها الصغيرة المربعة، Onyx, Tabac, Arpège, Old Leather, Chanel, Ma Griffe, والمشروبات الروحية الساحرة الألوان، Drambuie, Misty Isley، والكحول البيضاء، الخضراء، الصفراء، علب الشوكولاهCadbury's, Lindt, Bahlsen, Fry's،والسكر الأبيض بمليارات بللوراته الدقيقة، والتبغ في «مغازل» السجائر، Carmen, Philip Morris, Mekong, Alas, Newport, Camel, Gitanes, W, Peter Stuyvesant, Mar covitch ,Carven A, Krung Thong, Pall Mall كل الثروات مبروزة هنا، أمامي. وبريقها يفقأ إنسان العين! آلاف القوارير الصغيرة المملوءة بالسوائل القزحية، المواسير المكتظة بالأقراص الوردية أو البنفسجية، تلك الألوان التي تخبىء سمومها لتقتل الجراثيم، آلاف قوارير الضغط، آلاف من أقلام الحبر، جرابات النايلون، الأقمشة، الواح الصابون الصغيرة، شفرات الحلاقة،. كلها تلمع ببريقها الوحشي، بألوانها الفاجرة، الجميلة. شواطى هائلة من الورق الأبيض مثل الملح، محيطات من العطور المحمومة، ومسممات الأجواء لقتل الذباب والبعوض! إنني أسير في هذه المتاهة المحشوة بالمواد السهلة الغامضة. إنني أعبر غيوما من الفضة وأطفو على أمواج من السوائل بمذاقها البرتقالي وأعاصير الفقاعات التي تتأجج فيها، كل المواد ترفع ضوضاءها في آن. إنني أسمع غناءها الثقيل يغص بايقاعات مختلفة. إن العالم يتاجر بدمه! في قناني المرطبات المتشابهة، والسوائل المثلجة تتنظر، منفوخا في وجه الكبسولة المعدنية المسنّنة. حتى الأسماء الحية المكتوبة على ملصقات البضائع منفوخة أيضا Pschitt, Schweppes, Coke, Fanta, Barilitos del Doctor Brown!

اقتربت النهاية، فليسمع من له أذنان. وليتذوق من له فم. ولينظر من له عينان، من له جلد وأعصاب. ليفترش الأرض، وليسافر في آلاف الطرقات المتواضعة. الهاوية في كل مكان. الأرواح أكثر من حبات الرمل على شواطىء الري?ييرا السوداء. المحاربون كالذباب، كالجراثيم في قطرة ماء واحدة. وهناك محيطات من هذه القطرات. هذا كله واقع، وينبض بالحياة. المعروضات للمعرفة أكثر من المعرفة، وهناك مفردات أكثر مما في اللغة. الفكر منتشر. الفكر لايحده شيء. الأحلام السرية مرسومة، شديدة الوضوح، مفرطة الظهور. الأسرار ليست في الأعماق، إنها لاتختبىء في المغارات، ولا تتسرب إلى الطرف الآخر من الزجاج كتسرب الظلال.. لا، إن كل شىء يطفو على السطح، يقلب جذوره الكثيرة نحو الفضاء.، وللواقع ملايين العيون. الذين يريدون البحث عن الأعماق، يريدون النظر إلى ماوراء، يريدون كشف الأقنعة كانوا يمضون إلى غزو القلب؛ يثقبون القواقع بمخارزهم، وينظرون إلى الرواسب. وكان ما يطلبونه مخيفا، فما يلمع في أعماق البئر كان دائما هو السطح، «سطح الماء». انتهت الرموز. كتبَ الدغل كل شيىء في مسام أوراقه. كتبت الأفاعي قصة تاريخها الكامل مع البرد والشمس والسم فوق جلودها الملساء.

وأقول لكم أيضا لم نخترع شيئا، فحوض المادة حوض هائل، بلا بداية ولا نهاية، إن المواد تَخلقُ من يخلقُها، ثم تقتلهم. ما أكثر البشر وما أوفر الأشياء. للحياة أقدام لاحصر لها، ولها ما لا عدّ له من المخالب والأنياب المحدودبة والعيون والدواليب المسننة، ولها ما لانهاية له من وجوه التنكر. إننا لانملك ما يسافر بنا وراء هذه التخوم. الأرض لم تعدتطيق هذا العناء. هاهي تنهار، والمدن تتداعى. إنني أرى طرقات تتفجر بعد مرور الدواليب، وأرى واجهات المصانع الحديدية تحترق كأنها الأفران. يختنق الرجال بالهواء المشبع بالعطر، تختنق النساء بمساماتهن المسدودة بالمساحيق والمراهم. إن الذكاء جدار يرتفع كيلومترات ويسحق.. لم يعد هناك وقت لنلقي بأنفسنا تحت عجلات الشاحنة، لنجابهها. الكلمات العملاقة مخطوطة بحروف سمكها آلاف الأقدام، تقتل دائما وأبدا. والجذور تحاصر كتل الحجارة وتنسفها ببطء. ثمة ضوء وافر: أبيض، قاس، يثب من السقوف، ينبثق من الأرض ومن الجدران، ينبعث من السماء، من البحر، من البراكين، إنه يخرب الأرض بدأب، ويضرب الفضاء بفأسه ضربات شديدة. العيون التي تنظر إليه تحترق وتلتهب شبكياتها. ضوء يخترق الجسد لتدمير كل فكر فردي. من يملك نظارات سوداء فليلبسها، هذا الوهج المقبل أقوى من وهج الملحام بعشرة آلاف مرة. سيكون الوهج حادا إلى أن يستوي النهار والليل، وسوف تتراكم الثروات في المخازن حتى تختفي الرغبة وتموت شعوب كاملة في الشوارع جوعا. إن الأشياء الملعونة هنا، مصفوفة في أروقة المخازن الكبرى، قادمة من كل أطراف الأرض، تصرخ بأسمائها: بضائع! بضائع! متلألئة، ناعمة، سريعة العطب، لهّابة، كأنها سحب من دخان. حمراء سوداء، معمقة. إنها هي التي تفكر الآن. إنها هي التي تخترع التواريخ والأديان والعلوم. إنها تتحرك متشابكة متضامّة: Chlorofibre, Rhovyl, Polyamide, Rhodia 100% polyester, acétate, Gama, Kreon de Skaï, fibre acrylique ACSA, Leacril, Dralon acrylique, polyuréthane synthétique, Brinyl polyamide texturé, Masulyne, Mérinovyl, Clévyl, Flanyl, Dropnyl polyamide 66, Terital, Tercryl, Viscose, Fibranne, Crylor, expansé vinyle.

اقترب الدمار، وأزفت ساعته. ذلك مكتوب على كل مفترق حين يحتبك البشر. مكتوب أيضا على مدارج الطرق حيث تنطلق الحشرات المعدنية الغريبة بسرعة 120 كلم في الساعة. مكتوب كذلك على أجنحة الطائرات، ومرسوم على الواجهات البيضاء للأبنية المنتصبة، وعلى سلسلة النوافذ القذرة، في المحطات، في المستشفيات، وفي مراكز البريد. إنه مكتوب، ولكن لم يرد أحد قراءته. كانت الإشارات في كل مكان تتنبأ بمجيىء الحرب، ولكن لم يكن هناك من يلتفت إلى هذه الإشارات. كانت الضوضاء، والموسيقى، وأسوار الكلمات والأفكار تتقدم بسرعة فرس السباق. وكانت صفارات الإنذار تدوي في الفراغ، وتشتعل الأضواء الحمراء، وتنقلب اللافتات كلها في لمحة البصر. ومع ذلك تتابع السيارات عدوها على الطرقات، ويشد البشر عقدة مخاوفهم. اقترب الدمار. وهكذا ستقع الواقعة:

في البدء ستظهر علامات في السماء والأرض، وستخترق الغيومَ طائراتٌ مكتومة الصوت سرعان ما تتحطم على الأرض هي و137 راكبا على متنها. تتعرج الأضواء الخضراء على الأفق فتضيىء الأشجار كما المنارة. وتشع الشمس وحيدة في بؤرة الأثير كأنها مصباح كهربائي معلق بطرف شريطه. ولسوف تنداح دوائر الضوء من حولها طوال ساعات، ثم تبرق كل أسطحة الحديد والزجاج. وسوف تخطف الشمس الأبصار، تحرق الجلود والشعور، تجفف البحار والأنهار. وثمة علامات أخرى ستظهر في السماء، غيومٌ لها شكل الفطر، بروق تشفُّ صدوعها المتجمدة المسلوبة اللون، أسراب النورس، أسراب النسور، أسراب من الذباب المستدق. وحين ترون هذه العلامات تيقنوا من اقتراب الساعة. لسوف ينهض البحر بأمواجه، وتضل مياه الأنهار مجاريها. هكذا تكلم «هِواندام Hewandam».

وستظهر علامات أخرى. على الأرض، سوف تظهر للأقطاب الكهربائية فوق السطوح هوائياتٌ تشوّكها، ولن يتوقف الهواء عن الرنين، تخترقه التموجات الغامضة، وبين الجدران الأربعة المخفية ستهرول الكلمات وكل أنواع الضجة والضوضاء كأنها أسراب الوطاويط. وستنتشر في آفاق المدن هالات عملاقة حمراء تضيىء ليلا ونهارا، ولسوف تنفخ غيوم الغاز قبابها المشعشة بالفلور. وستظهر علامات أغرب وأعجب: في الطرقات المعتمة ستظهر حروف كبيرة حمراء على شكل بروق تشتعل وتومض فوق الأبواب والواجهات. تتقدم الكلمة تتبعها الكلمة، ثم تختفي، ثم تظهر. كلمات مرعبة، كلمات مجنونة تنشب مخالبها عشوائيا، كلمات تعلن ما يشبه:

شلاك! سلا! كويك! بو!
ففتششغونغ! رووووو!

وعندها تعرفون الخوف، إذ لن ينجو أحد من هذه الكلمات.

ستظهر علامات أخرى.

على طول الطرقات التي تصل أطراف الأرض ببعضها ستتوقف السيارات، سوداء، تحرق وقودها بضوضاء عظيمة خرساء، وسوف يدوم الزحام سنوات كاملة. تختنق المحركات في الهواء الساخن، والمزامير تمزق السماء بنباح موحد حاد! وستعلو هياكلَ السيارات ظلالٌ مرعبة، وستترك الدواليب بصماتها القاسية على إسفلت الطرقات. أما ماسورات دخان السيارات فستبصق غازها القاتل. الآلاف المؤلفة من هذه المواسير الملتوية المعلقة تحت واقيات الصدمة ستشكل سحبها الزرقاء على شكل ارتجافات متقطعة. ولن يستطيع الهواء تبديدَها. تذكروا هذه العلامات جيدا. وصدقا، فحين تلمحونها ستتيقون من اقتراب النهاية وأن الحرب قد اشتعلت. وليس هذا كلَّ شيىء. إنني أرى تمثال مولوخ بعل Moloch ـ Baal وبطنه طافح بالنار. إن غويايوتا Goyayota لم يمت بعد، وحيثما وجهت طرفك يطوف شبح هينووتوHinupoto وهي تطالب بكاس دمها الأنثى. هذه علاماتهم تنهض من أعماق التاريخ، مع الجريمة والجنون. وكل الأصوات التي نعتقد أنها اختفت ستعود إلينا يوما.

أسمع صراخ كواوتموك Cuauhtémok وكوندوروكانكي Condorcanqui. وأسمع صوتا غامضا يهتف: «حملت بي أمي ليلةَ الآلام. الهواء والمطر كانا مهدي.. ولم يشفق أحد على بؤسي. ملعونة ولادتي. ملعون هذا العالم. ملعون أنا». إنني أسمع أغنيات أخرى، موسيقات أخرى. إنهم يصخبون ويضجون من حولي حتى لم أعد أعرف من أنا. أريد راحة النفس، أريد أن أبقى وحدي. لكن هذا صار مستحيلا. ولابد لكل هذا أن يقع، لابد للجبال أن ترطم الجبال، وأن تقنطر زوابع البشر على أبواب (مخزن) البريزونيك Prisunic سأحاول تدمير الثروات والجمال جميعا لأنها طوفان قاتل. أريد أن أسترد وجهي الأول، أسترجع الصمت، أنسى الإتجاهات التي تشير إليها الأسهم الصفراء الكبيرة على قوارع الطرق دائما. ليتقدم ذوو العقول والأفهام، وليحطموا تلك اللافتات التي ترفع أسماء الحرب. ليكسروا تلك الواجهات، ليحرروا طاقة السيول قبل فوات الأوان. أنظروا إذن. هذه هي العلامات. إنها واضحة بارزة. في أسفل الطرقات هياكل متجمدة أمام الواجهات المهشمة، تنزف ماء وبنزينا. وفي الهياكل أشكال بيضاء غريبة تشبه تماثيل الثلج، أشكال تجمدت في أوضاع مضحكة. وعلى الوجوه البيضاء المقلوبة تجمدت العيون مضغوطة بين ودقات جفنيها. يلتقطون قطعا من زجاج مطحون فوق الإسفلت الأسود، ويصنعون منها عقودا.

أعلمُ أن الحرب اشتعلت. إنني أحد الذين يعلمون. ولهذا أخاف السير على الطرقات. إن علاماتها في كل مكان. كيف نتجاهلها؟ كيف نتعامى عنها؟ كيف نضع قدما أمام قدم؟ وها أنا أقرأ عن مسيرة المعارك في الصحف، يوما بيوم وساعة ساعة. الصور الوقحة تعرض لي وجوها تنظر إليّ؛ وجوها ولدت من وراء شاشة الغاز المسيل للدموع، وجوها تستنجد وتلوّح بكل أطرافها. إنها وجوه لا اسم لها، وجوه من عدم. لاقيمة لتصرفاتها. ما يهم هو العرض المتلاحق للوجوه، وجها يستبدل بوجه. كل واحد يبحث عن الإقناع والهيمنة. جُملٌ تعرض مفرداتها بحروف عريضة، تملأ صفحات الجرائد. جمل بدون معنى ولا تقول شيئا. إنها مجرد كمٍّ من الجمل، جيوش من الجمل، صلوات مدوّخة. America. Is there no room left in the world for. النجدة إبتدأ العد العكسي. مات. القوى الثورية. حادث مريع. Da Nang. Taos.. طبعا، يجب أن لا ننسى أن القاعدة الوحيدة في مادة الحقيقة هي أن نمتنع عن النفي المنهجي، حتى ولو كنا أمام وقائع لها شكل المستحيل. ولسوف نذكر روعة ما قاله جيو Geo.

هاهي العلامات إذن. حشد من العلامات. هذا الصباح رأيت الأعمى الذي يمشي متلمسا طريقه. ورأيت البارحة جنيّة تعبر الطريق. كانت تتقدم مسرعة بشعرها المفضض ومعطفها الوردي. وكانت تدفع أمامها عربة طفل يقعي فيها كلب صغير أشهب. ثم مضت. رأيت الكراهية تشتعل في نظرات سائق يعتقد أنهم اغتصبوا مكان وقوف سيارته. رأيت جدران المدينة تكاد تشهق إلى السماء، جامدة، كأنها بُنيت لتبقى ألف سنة. وفي المخازن تتوجه الأيدي إلى العلب الصارخة الألوان. سمعت صرير الهاتف، ثم رأيت الفم يقترب من ذلك الباكليت bakélite الأسود (الذي يصنع منه الهاتف)، ويصرخ: آلو! كل هذا يعني ما يعني، كل هذا يتماسك بالخيوط والعقد، كل هذا يتحرك وفقا لأمر: الأمر بالتدمير. في كل عشر دقائق تظهر آلة جديدة تشع بمادة الكروم chromes الملمعة. الجديد مدمر. إنه ينتفخ بين الجدران كأنه دخان سيجارة. في كل ثوان عشر تظهو فكرة جديدة، تقاتل، وتملأ الفضاء كما الغاز. لا نستطيع مزيدا من الإنتظار. وليس هناك من يريد أن ينتظر. إن الحركة تلتهم نفسها. وتستهلك ما يتم اختراعه. الويل لكل ما يتحرك. إن كل السرعات تتجه إلى بعضها، وها قد حان موعد المواجهة.

ستكون هناك علامات أخرى كثيرة، لمن يعرف كيف يراها، ولسوف تظهر كل يوم، كل ساعة. علامات تكتب على ميناء ساعات الجدران، على صفحات دليل الهاتف. رموز صغيرة شائكة، أرقام صغيرة تحدد المعالم على طريق الحرب. سنشهد ساعات الهذيان، تتبعها ساعات الإرهاق المضني. سنشهد انفجارات عنف فجائية جدا، مرعبة جدا تكاد تشبه الزلزال الذي تسيل معه الأبنية. وستكون هناك لافتات سلام أكثر تهديدا وهولا كأنها الصحراء تغمر العالم. إسمعوا وعوا: ماذا نعمل حين يستحيل كل مانراه إلى علامة؟

ستكون هناك جميلات مفرطاتٌ في الحسن مضرماتٌٌ للشهوة، نساء عماليق ينتصبن عاريات أمام الجدران لا ترويهن أنهار من مني. نساء غريبات لهن جسد من المعدن وشعور بيضاء وسيقان فارعة ممصوصة في كلسات النايلون المشبكة. إذا رأيتم إحداهن فاعرفوا أن الساعة اقتربت. ستكون هناك مساكن جديدة لهؤلاء النساء، وآلات جديدة. ولسوف تتوهج كتلة الذهب والطعام في انفجارات عيونهن. وتتغطى الأرض بأنسجة ناعمة قزحية الألوان، وتتغطى بمواد من البلاستيك وما يشبه الجلد، لسوف تستحيل الأرض إلى سجاد من الفرو الناعم وتبسق المياه الصافية من الينابيع، ويمتلىء الليل بخطوط زرقاء وحمراء. ثم يأتين، يأتين جيوشا لهن أسماء غريبة مخيفة مثل Ronix, ىve, Bothrobs Atrox, Natrix Natrix. ولسوف يحاولن إنقاذ العالم، فيصنعن من جسدهن الشفاف سورا، ومن أثدائهن متاريس، وستكون بطونهن الساخنة الموشومة بالسرر مثل الدروع. ستجهد أيديهن الناعمة بأظافرها الملونة بالوردي، بالذهبي، بالصدف،أن تمزق، أن تخنق، أن تزيح الخوف. وستعمل شفاههن على النطق بكلمات، بصوت ناعم مشرب بالقسوة. بنتف من الكلمات الغنائية. ولن تكون تلك أفكارا، ولا أحاسيس. إنها مجرد تموجات دافئة تهب بنعومة نحو العدو، وسيكون ذلك رائعا. غير أن العدو بلا آذان، ولا يعرف كيف يصغي لصوت نسائكم.

وستظهر لهن عيون، ليست للنظر أو التمييز، لكنها عيون مبرقشة ينبجس منها الضوء وسوف تحرقكم نيرانها الهادئة داخل أجسادكم، أو لربما تنزلق بينابيعها المتناغمة، ينابيعها الطلقة الهدارة. ولسوف لن تكون هذه العيون مجرد آلات للنظر، أو ثقوب أقفال، أو فوهات مسدساتLuger، لكنها ستكون عيونكم المنفية من محاجرها وهي تنظر إليكم. حين تلمحونهن بالقرب منكم، حين تلتقونهن في الطريق، أو ترونهن فجأة على شاشة السينما ستشعرون أنكم صرتم وحدكم أكثر انعزالا واستفرادا، وتدركون أنهن آخر متراس لكم قبل الحرب. سيراق الدم. وهؤلاء النساء الغريبات مغرمات بالدم، يغسلن أجسادهن الطرية في سواقي الدم، ويقبضن على الثروات الفاحشة بأيديهن. وسوف يرتدين الأقمشة البراقة وينثرن الغبار الذهبي على شعورهن، ولسوف لن يجدن ما يحتجن اليه من ماء وحليب وعطر لغسل سواعدهن وأفخاذهن. وهاهن على كل حال هنا، جئن لاجتياح العالم، نساء هائلات، أطول من الأبنية، ضخمات كما المحطات، ولهن أعين براقة كالشمس، عميقة كالمحيطات. أراهن يخببن وئيدا ويهبطن الجادات بخطى واسعة رخوة ترج الأرض. تنتشر شعورهن في الريح وتختلط بذرات الهواء. تتسلل شعورهن إلى حلقي وتخنقني. لهن أثداء صلبة كدوائر من معدن، ولهن فروج بركانية الحريق. تنشر النعومة سحابتها الجامحة، وتشهق العطور. يتقدم الجمال كأنه جدار سائل يطفح ويتقلب. وليس هناك من يستطيع أن يقول كيف ولدت هذه الطاقة، لا أحد. إنها تنداح متسعة كما تنداح قنبلة الفوسفور، لنقل إنها تنتشر وتحرق كما تحرق قنبلة النابالم. إن للجمال قوة أفظع من الجريمة، لأنه لا يوجد من يستطيع أن يقاوم نظراته المسكرة المنوّمة. لعله الإنتقام المدبّر منذ قديم الزمان، لعله الشهوات التي ترامت على مر القرون، لعله صعقات الهوى ترتكس وتخترق أجساد الرجال. هناك متسع للفكر، متسع للإرتعاش والإختلاج، وفي السماء ضوضاء هائلة تتدحرج. تنفجر المدن المتورمة. وهناك وفرة من الدعة، وفرة من الدعة الملعونة، فالعطور استحالت إلى سموم، واللمسات تقتلع الجلود، وهذه هي اللذة تخترق الجلد ملايين المرات إلى أن تقتلعه اقتلاعا كاملا ويرتفع الصراخ والعذاب.

ثمة وعي كبير. وهذا ما أردت أن أقول. تنطلق من العيون رشقة السهام، طلقات الرصاص المتواترة. هذه العيون في كل حدب وصوب تترصد وتسعى إلى الدمار. إنها تعرف ومعرفتها هائلة، فقد هزمت الآلهة، واخترقت آخر الفضاء. وهاهي نظراتها تعود من الرحلة البعيدة أكثر وحشية وفراغا. إسمعوا: من كانت له عينان فليفقأهما! وليسرع بقطع مغزل النظر، فنظره لم يعد ملكا له.. لقد فات الأوان، فات الأوان. وهاهو النظر يرجع فيشرع بالغرز. وفي أعماق الفضاء البعيدة، وعلى حدود الأرض، لا يجد إلا المرايا الكبيرة. وهاهو يتكسر فوق المفازات التي لا يدرك لها غور، ويتشظى في عشرة آلاف اتجاه، ويقفز من مرآة إلى مرآة، بسرعة تفوق الضوء. وكأن شعاعه برق الحديد المتوهج من قذيفة منفجرة.. إنني لست وحدي، وها أنا أتطاير بسرعة هائلة مع من يتطاير. أرتطم ولا أعرف كيف أنطعن.

هي الحرب تفجأ الدنيا كلها بالعنف. هي الصمت حين يختفي، وهي النوم حين يُفتقد. هي المدن المحترقة في الليل وفي النهار. هي الآلات التي تفتح صماماتها وتغلقها بدون توقف، 12 الف دورة في الدقيقة، عشرون مترا في الثانية، 30 الف مرة تزايدا،، ضعف سرعة الصوت (2 ماك) وسرعتها الجاذبية 6، وبترها واحد من الفين، الفصل، الفرم، التقطيع، السحق 106، النجم 12 الف درجة، القوة 10 آلاف ميغاجول megajoul عمياء، الدفق الضوئي لشموسها 100 ألف «فوتphot» عمياء، الحث في حقلها المغناطيسي 800 ألف «غاوس gauss»، وهي الهاوية حيثما نظرت، الهاوية، الهاويات تخترق العالم. ملايين الرجال، الأطفال، النساء، الجرذان. كلها تتخبط، وأرى حشرها يتقدم على طول الطرقات. أسمع الصرخات الخافتة تنطلق من حناجرها بحدّة. أين المفر، العالم صحراء غاضبة، صحراء سوداء طويلة الحُبُك. أين النوم؟ غدا لن يبقى سوى لغة واحدة، سوى فكرة واحدة. إنني أتحسس أوصال الإعصار المندفع بقربي. حين تهب الريح ستعرفون أن الساعة اقتربت، وأننا عاجزون لا نستطيع حراكا. حين يصبح الكل هائجا عنيفا مطلق الحيوية. هذه هي إذن. فمن يقوى على زخم الحياة؟

قريبا تنفجر المدن، وتُحرِق بلمحة البرق قرونا من الطاقة والتفكير. لسوف يلمع في قبة الأفق ضوء أحمر، ولسوف ينهض بغيمته التي تشبه ميدوسا. لا تظنوا عندها أنه غروب مثل كل غروب. هانحن في الأتون المتوقد، وهاهي الحرارة الملتهبة ترتفع درجة درجة! هاهو الضوء يوسع من شعاعه ويسكب دفقه من فوهة لا نراها، يقتلع الحواجز ويخترق الأبواب المصفحة. تحترق النظارات السوداء فجأة على وجوه الأطفال وترصّع السلولوز الذي يغلي في المحاجر. احترقت الألوان، وعما قريب لن يبقى إلا البياض الهائل والسواد المخيف. لم يكن ضروريا اختراع آلات التصوير، فهاهي تنتقم، وقدأصبح العالم مسطحا ناعما مشلولا بشعا. التصقت الألبسة بأجساد النساء، والتحم النايلون والحرير بالخلايا الحية. هذه الشعور الحمر صارت لهبا، ودخلت رائحة الخزامى والياسمين في المسام. إنها تختنق. أطلقت السيارات المستديرة عنفها، وهاهي تندفع على طول الطرقات التي لا تنتهي. تسعى إلى القتل، وليس لها من هدف سوى القتل. على أجنحتها سكاكين مسنونة طويلة، وتشبه دواليبها السوداء حنك الحيتان في بورت جاكسونPort Jackson.

وفي المخازن، تنفجر البضائع. البضائع الفاخرة اللماعة، البضائع الجديدة تحطم زجاج الواجهات وتتدفق، المعلبات الحادة الزوايا تشق الجماجم. وشظايا القناني تقص الرقاب. الحشود تعبر سكرى بالنهب، ثملة بالطعام. المصارف تحترق مثل مستودعات الحصاد. جبال من فئة العشرين دولارا ترتفع في الساحات، والرجال يروونها بالبنزين، ثم يرمون عليها أعواد الكبريت. أطنان الوثائق تنزع من الأقبية وتفترش الطرقات بأوراقها القديمة الممزقة، الكتب، كل الكتب تُلقى في أفران عملاقة، والمداخن تلفظ سيولا من السخام. كل كلام الفكر التافه المطبوع بحروفه الدقيقة السوداء على الصفحات المرقمة يحترق، كتب التوراة، الروايات، القواميس، كتب الطبخ، كتب التاريخ، الأطلس، المؤلفات الفلسفية، البيانات، الخطب الدعائية، القصائد الطويلة اللانهائية التي تتحدث عن لون السماء، لون البحر، لون العيون الخضراء لامرأة تدعى رزواليند ليند Rosalind Lind. أردتم أن تكتبوا، أردتم تجميد أفكاركم على صفحات الكتب البيضاء، وهاهي الكلمات تغرقكم وتخنقكم. هاهي تزحف إليكم في سحب من الذباب، تلتهم شفاهكم وأعينكم. أردتم أن تتجاهلوا حقد الذين يموتون من الجوع مجانا، أردتم تشييد امبراطوريات للفكر،هكذا، أبراجا حديدية شاهقة تنتصبُ بأعجوبة، ولم تفكروا فيما كان ينتظر في الخفاء. إن جيوش الخدم تتمرد. هاهم يجوبون المدينة ويهدمون الأبنية.

ثمة أموال طائلة، في كل مكان. التجار يراكمون كنوزهم قرنا بعد قرن، لقد اشتروا كل شىىء، وباعوا كل شيىء: الأراضي، القطعان، الغابات. النساء، الأطفال. وعلى موائد التجارة في بطن الأبراج الإسمنتية المصفحة، باعوا كل ماهو موجود، كل ماينبض بالحياة. باعوا الحروب، باعوا جثث الجنود، باعوا الأهواء والرغبات والأحلام. كنزوا ممتلكاتهم الشاسعة، وبنوا قصورهم المحصنة بالإسمنت، واخترعوا مدنا وسراديب. باعوا القنبلة التي تمزق والضمادة التي تعالج. منهم جاءت اللعنة وتدفقت دائما من قلاعهم. كذلك باعوا اللغة نفسها، وصنعوا كلمات بأحرف شاهقة كالجبال، وكفروا الأرضَ بالورق والحبر من أجل أن يهيمنوا ويسيطروا ويغلبوا. وهاهي اللعنة ترتد عليهم، لأن قواهم أفلتت من أيديهم. إن المحلات التجارية الكبرى، المحلات البيضاء، سريعةُ العطب وسط سهول مواقف السيارات. يكفي قليل من الديناميت تحت أعمدتها الأربعة، وإذا هي غبار. شرارة تقدح تحت مستوعادتها، عود من الكبريت يلقى به في أحواض النفط، وإذا هي تحترق حتى القلب. فليتقدم من معه عيدان الكبريت. إن هذه العيدان تحسن شيئا آخر غير إشعال أطراف السجائر.

الطرقات والساحات الخاوية يجوبها مايشبه الباصات السوداء، ينزل منها أحيانا رجالٌ بوجوه قاسية، يتسكعون في الطرقات، وعليهم خُوَذٌ من المعدن الأسود ونظارات وواقيات من الغاز. إنهم مدرّعون بالجلد والحمّالات ورباطات الذقن. عليهم ملابس رسمية سوداء تلمع في الضوء وفي قبضاتهم حراب كبيرة من المطاط المسلّح، ويحملون بنادق رشاشة ومسدسات أوتوماتيكية. إنهم يتقدمون بصفوف متراصة رافعين تروسهم، وجزماتُهم تدوس الجثث التي قتلتها حرابهم. يهرولون على الطرق المعبدة من حين لآخر، يهرولون بين السيارات التي تحترق ويضربون كأنهم يضربون في الفراغ، كأنهم يحاولون تكسير المياه بعصيّهم. حين ترون هذه الجيوش في الطرقات فاعلموا أن الأبنية والمخازن ستهتز من قواعدها، واعلموا أن الكلمات ابتدأت عودتها المدمرة إلى الرؤوس البشرية، واعلموا أن الثروات ابتدأت بالإنفجار. حين ترون رجالا مسربلين بالسواد يركزون رشاشاتهم على الشرفات ويفتحون النار فاعلموا أن الحرب التي أحدثكم عنها قد اشتعلت! حين ترون طائرات الهيلوكبتر تحلق فوق المدينة لتلتقط أجساد الضحايا، وتحملها إلى حيث تحرقها فانكم لن تستطيعوا عندها أن تتحدثوا عن نعومة الحياة، عن الأضواء، عن الحسن والجمال، بل: الحرب! الحرب!

لعل الحرب لاتشتعل إلا في أعماقي. ولعل شيئا من ذلك لا يوجد في هذا العالم. لعل القوى التي أحدثكم عنها لم تشهد الوجود. ثمة ضوضاء ترتفع من حولي، وضجيج يعلو حتى أني لا أفهم شيئا. بالأمس رأيت مشهدا غريبا في كل تفاصيله وكل خطوطه ونقاطه. ثمة صخور سوداء، صخور حمراء، صخور صفراء وخضراء وبيضاء، على حافتها كان البحر بكل أمواجه المتلاطمة. والحقيقة أنني لم ألمح علامات الحرب في كل ما شاهدت. كان ذلك بعيدا جدا عن أحلامي، في الطرف الآخر من الأرض، ينعم بسلام عظيم أخرس. لم يكن ثمة ما، أقصد: ثمة ما يهدد أو يُمزّق. ربما كانت تلك هي رؤيا العالم من الطرف الآخر للحرب، وربما لأجل ذلك لم نلمح علامات (الحرب). العاصفة مرّت، وكانت قد هبّت على هذه الأماكن الهامدة فلم تجد ما تدمره. رأيت كثيرا من هذا. وأتمنى لو أنكم ترونه، كما تراه عيون كلب، لاترجون منه شيئا ولا تنتظرون. كذلك رأيت الفتاة التي تنتظر الباص، عيناها هادئتان لاتكادان تتحركان بين صفوف الأهداب. يسيل أمامها نهر مجلجل من السيارات والشاحنات، فلا تأبه به ولا تكترث، بل تنظر إلى أبعد ما تستطيع لترى القبة الخضراء وهي تنحدر نحوها وتحمل في مقدمتها فقاعة صفراء، وفي وسط الفقاعة هناك الرقم: 9.

تلك بروق السلام والصمت بين السحب. تضيىء السماء كل ثوان عشر بدون ضجة ولا ديدبان، تضيئها برسوم مفرطة في الغرابة والنعومة والبياض. هذه بروقي أنا، تلمع في داخلي، وتخترقني برقا برقا. إنها كالدفء في عز البرد، أو كالبرودة في سعير القيظ. ولربما تشتعل الحرب من جرائها، لا المذبحة. إنها تلطف العنف وتسبح في تياره.

هذه هي الأشياء التي أحبها، أسردها للمرة الأخيرة:

الشجر
الأعشاب
الحصى
شعر النساء
عيون الحيوانات
نقر المطر على سطوح الفولاذ
وميض إشارات السيارات
خزف تونالاTonala
حنفيات الماء البارد
عجقة الليل
وميض الدفء
السجائر بدون «فلتر»
هرم النكيه Palenqué
البرتقال
العنكبوت
الأبراج
مونيه أوم le Menez Hom
الصبيات اللواتي ينتظرن الباص
الصحارى
المصابيح الكهربائية
الـ

إنها بروقي التي تخترق الليل. لكنني أعلم أنها تجرف معها كتلة العنف، والمال، والكراهية. من أجل هذا لا أريد بعد الآن أن أقرأ قصائد تتحدث عن الأضواء، قصائد تنسى العالم كُرمَى لامرأة، عصفور، قمحة. بالأمس شاهدت هؤلاء الأطفال العرب الثلاثة يلعبون في الغبار. يلعبون ويصخبون، ولما كان الوقت صباحا قلت لهم «Sbah el Kheir». توقفوا، ونظروا إليّ، لكنهم لم يردوا التحيّة، فمضيت.

ورأيت في يوم آخر كلبا معفوسا على الطريق، والكلاب الجائعة تلتهمه.

رأيت مكتوبا في رسالة:

«لا أعلم إذا كنتُ أستطيع أن أنفخ الحياة في الصورة، لكنني أذكر أنني كنت ذات يوم على موعد عابر داخل بيت في مدينة. وكان النزول والصعود ممكن التخفي بحيث لايطاله النظر. كانت الواجهة، الجدران الداخلية، السلالم والأبواب رمادية. في كل طابق من هذا البناء الشاهق وفي كل غرفة يتحاببون. عند الدخول تؤخذ منهم الجوازات، وترد إليهم عند الخروج. موسيقى واحدة ومشروبات واحدة في كل غرفة. وعلى المرء عند الخروج أن يجتاز دهليزا لانهائيا يطل على فناء داخلي بدون نوافذ. خرطوم فيل. الباب يفتحُ تلقائيا ويغلق تلقائيا. ذلك اليأس الذي انتابني في تلك الدار مازال يطاردني. إنه مَثلُ الهروب الرائع عند كثير من الرجال والنساء».

كل هذا. أتعقلون؟ كل هذا! كل هذه الأمور التي تحدث دائما وأبدا وتغمرني. كل هذا من دواعي الحرب، ذلك لأن الحياة فقدت قدرتها على الإستمرار، ولأنها تدمر الجدران. الجمال، الرقة، الألم، الحب ـ الشغف، الشفقة، الحقد، الاستهتار، ومشاعر أخرى ما أكثرها. إنها تتطاوح بين الجدران، وتبحث عن منفذ، عن شباك، عن سرداب أو ثقب. إنها تتكاثر، وتتقطع. موجات هائلة، ارتعاشات كبيرة، مَدّ من الحمّى والظنون. انفجارات دائمة تصدر من هذه الفوهات، والحمّى تغلي ناشرة ًمطاويها. كل هذه الكلمات، هذا الصراخ، هذه النداءات: «أحبك!»، «أريد!»، «ليَمتْ!»، «ليعش!»، «اشربوا!». «أعتقد أن!»، «كُلْ!»، «إنني!»، «إشترِ»، «دّخّن!»، «استثمر!»، «أحلمُ بـ!»، «هذا لي!»، «إقتله!»، «إقتله!»، «إقتله!»، كل هذه الإنفجارات التي تِرجُّ الهواء، هذه النجوم الناريّة، هذه الأفعال المدمرة الطاحنة المنتشرة، هذا الخلقُ المستمرّ، الجديد، التقدّم، المال. لم أعد استطيع المقاومة. وليس ثمة من يستطيع. لن يبقى أحد على قدميه. الحركات، الضجيج. الأضواء. الطعام يُزدَردُ في الحلق، والمذاقات اللذيذة تُحرَق وتُلاك. إن الرسوم المجنّحة تُحلّقُ فوق الرؤوس، والأشكال التي تبز بعضها جمالا تتدفق من آلات المصانع بمعدل مئة شكل في الثانية. هاهم العبيد يعملون ليلا نهارا لدفن العالم، والأفكار بضائع من بللور أو فولاذ. الأفكار هواتف سوداء. الأفكار تكذب. الكلمات تتلاطم وتنفجر في كل الإتجاهات، كلمات تسعى للتدمير، كلمات تخترق الآذان وتجعلكم مجانين.

أصيخوا لي أيضا واسمعوا. لعل الحرب لا تشتعل إلا في أعماقيّ، لعلها شعور آخر بين المشاعر الكثيرة، شعور سافل يسعى إلى تفجير قنبلته بين الأذرع والسيقان. ولعل كلماتي مجرد ضوضاء جديدة، أو لعلها قليل من المعلبات في بسطة البيع الهائلة، تلتقطونها وترمونها في كشكولكم، ثم تتوجهون إلى صندوق المحاسبة الثالث، فتتجشأ الآلة الحاسبة قليلا ثم تبصق لكم ورقة الحساب الصغيرة وقد كتب عليها:

12 حرب
06 العالم عبث
10 كل شيء على ما يرام
24 ذات يوم سنتحرر
04 لعنة السيد س
56 المجموع

ربما أننا نموت حتى لا تنهار الأرض تحت الأقدام، وربما أن كل شيىء سيستحيل عاجلا أم آجلا إلى صحراء، وربما أن هذا قَدَرٌ محتوم.

ولكن إذا افترضنا أن الحرب لا تشتعل إلا في أعماقيّ، فهذا يعني أنها في أعماق الآخرين. لقد رأيت كل هذه العلامات من حولي، وفهمت أن فكري ليس الفكر الأوحد في هذا العالم، وأن مفردات لغتي ليست الوحيدة التي تقال. لم أستطع أن أرى ما لابد لي أن أراه لأنني أحتاج إلى مليون عين..

إذا رأيتم معي هذه العلامات، كل هذه العلامات فاستعدوا للدمار والإبادة، فلا يفلّ النار إلا النار. زيدوا سرعة آلات الإختراع إلى أن تتحطم، وألقوا بكلماتكم الطبلية العملاقة ودعوها تنافس الرعد. عندما تتفجر المخازن، وتدلق أنهار الطعام، وعندما يهراق الدم ويسيل على بلاط اللنوليوم linoléum، وعندما يتلاحم الكذب ببعضه لتنهض عليه عمارة الحقيقة، وعندما يتقدم العنف، والكثير الكثير، وعندما لا يُقتل البشر بالحراب ولا بالمسدسات الرشاشة بل تقتلهم جدران بيوتهم، وعندما يموتون مقصوفين بأشعة شاشات التلفزيون.. عندها قد يحل السلام. لا أقصد سلام ما بين الحربين، ولا قناع السلام الذي يخفي تحته قتلنا وجوعنا، بل سلام الطبيعة الراكدة حيث دارت الحرب.. أو كما أقول».

هذا النهار، حيث يشتعل القيظ والبياض، ونصغى، على تخوم الأفق، إلى بشرة الجو وهي تتساقط فوق مدينة الجشع.

ترجم النص عن الفرنسية
أميرة الزين وراجعه منير العكش
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) ـ هذه المقاطع التي وضعناها بين هلالين استعارها لوكليزيو من «العهد القديم». وقد عمدنا إلى نقلها حرفيا من طبعة «جمعية الكتاب المقدس»، بيروت 1951.