تقارب الناقدة العراقية هنا رواية (آهل الهوى) للروائية اللبنانية، من خلال تناول مناخاتها السردية المتقنة والمفارقات التي تطرحها ثقافة الحرب عموماً والحرب الأهلية على وجه الخصوص من اختلاط للأوراق وضياع لقيمة الوجود الإنساني.

هدى بركات وثقافة الحرب

وجدان الصائغ

في الحروب عامة ثمة «جبهة» مكان ناء يتجه اليه المقاتلون وقد لايعودون الى الابد او انهم يعودون مجرد اجداث محمولة، ومع كل هذا لايمكن ان تقارن بالحرب الاهلية التي يتحول فيها المكان المحبب «الوطن» الى جبهة مستعرة فبدلاً من ان يكون الوطن ومرابع الطفولة والصبا ملاذاً للامان ومنبعاً للبهجة فانها ستقترن بمشاهد الموت والقتل والتطهير العرقي والطائفي بما يحمله من بشاعة الابادة والتصفية الجسدية وهو ماهدفت اليه الروائية اللبنانية هدى بركات في روايتها (اهل الهوى) الصادرة عن دار النهار، بيروت 1993، وعبر منطقها السردي الخاص المفعم بالمفارقات. ولعل اولى هذه المفارقات تنبثق من ثيمة الجسد الذي يتماهى من خلالها بطل الرواية وبطلتها استجابة لحالة الوجد التي تجمعهما على الرغم من انتمائهما الى قريتين متناحرتين ابان الحرب الاهلية اللبنانية، تأمل المشهد التالي:

«كان ذلك قبل ظهر يوم احد، مر بي احد الشبان من جيراننا وشرب القهوة معي. كان حائراً في امره فهو مضطر للنزول الى العاصمة وليس في سيارته مايكفي من الوقود. كان البنزين مقطوعاً، لكنه سمع ان محطة في طرف مدخل قريتنا، قد يصلها صهريج قبيل الظهر، وطلب مني ان نذهب معاً في سيارته وننتظر امام المحطة... بينما كنا ننتظر، رأيتها تمر بسيارتها باتجاه قريتها. قلت لصديقي هيا بنا الى القرية القريبة، فمن المؤكد ان في محطاتها بنزيناً، لكنه لم يجرؤ وقال: مستحيل، قد يخطفوننا، او اننا سنتبهدل في احسن الحالات، فنحن لسنا نساء، سيتعرفون علينا لامحالة. ثم سمعنا دوي الانفجارات، رأينا دخان القذائف المتساقطة قريباً منا في الوادي. ادار صديقي محرك سيارته لنهرب لكنه كان ينطفيء قبل ان تقلع. نزلنا من السيارة لنختبيء وراء جدران المحطة ونحن نعلم خطورة انفجارها لدى اول شظية... ثم رأيتها تعود بسيارتها باتجاه قريتنا. لحقت بها صارخاً. فتوقفت. صعدت الى جانبها. ثم صرنا نرى القذائف تنزل على الطريق. بعيداً امامنا. نزلنا من السيارة واخذنا نتسلق الغاب الى يمين الطريق لنحتمي بالصخور العالية. كنت اجرها من يدها جراً لانها كانت خائفة جداً، ولاتعرف اين اتجه بها، كانت تردد: لكن مالذي جرى؟! هبط الليل وكنا لانزال نحتمي بصخرة عالية، كنا نرى القذائف الحمراء تشتبك في السماء، قبل ان تنصب على القريتين وجوارهما، ثم وجدت اني احضنها تماماً، وان رأسها في صدري وحدست انه ليس الخوف وحده(ص 69)».

يحيل المشهد بما يحمله من توتر درامي الى ان شذرتي الجسد والحرب قد اقتسمتا بدقة المناخ السردي فالحرب بماتحمله من تصفية للجسد وحركة باتجاه الغائه، فان الوجد الذي غلف علاقة البطلين جعل افق التلقي يرقب ايقاعات الجسد المنتشية تحت ظلاله. وتتضح المفارقة الثانية من خلال سرد الرواية على لسان مذكر مع ان الكاتب امرأة وتتعمق هذه المفارقة حين يغوص المتخيل ليعكس احساسات الاداء الذكوري ازاء الجسد المؤنث بل ان انتقاء المتخيل الروائي السرد من وجهة نظر رجل زمن الحرب الاهلية يضيء مفارقة اخرى تنبثق من استبطان مكبوتات البطل الذي ظل منشغلاً بمباهج جسده وتحقيق انتصاراته على فراش اللذة، في حين انشغل حشد الرجال في قريته بمتانة اسلحتهم والذود عن حدود قريتهم. «السطوح الصغيرة امتلأت بالرجال الذين راحوا يطلقون بنادقهم، تلك القديمة التي تفقع دخانها في الهواء، وتلك الحديثة الرشاشة التي كانت لعلعتها الطويلة تقطع صوت الاجراس التي راح رنينها ينهمر حاراً حارقاً وسريعاً كاشتعال الكبريت ص141».

وتجد هذا المعنى يتكرس في المقتطف الآتي: «لم تكن اسلحة كثيرة في القرية، وكانت في اكثرها اسلحة قديمة وبدائية بعد ان اخذ الشباب الى الجبهات ماكان صالحاً منها، لكن الرجال نظفوها بتأن، ووضعوها على مقربة دون كلام كثير عن جمال الاسلحة والمباهاة بها ص143». بل انك تجد بطل الرواية يمارس طقوس القتال على انثاه (المعشوقة/ الخصم) فمن القتل المعنوي المتمثل في ارجاعها عن قرار عودتها الى زوجها واهلها في قرية الخصم بطريقة مهينة «حين لمحتني على جانب الطريق، اسرعت سيرها باتجاه الحاجز، استغربت كثيراً ناديتها، باسمها، واتجهت صوبها فركضت. راحت تركض دون ان تلتفت اليّ. انتبه لها كل الناس العساكر والمدنيون والمشاة اذ لا تسمح حركة العبور الهادئة المنتظمة باي اشارة يمكن ان تكسر ايقاعها او تبلبل الامن المحسوب كدقات القلب. وجدت نفسي اركض انا ايضاً اليها. كأني اريد ان امنعها من الركض او ان امنع عنها رصاصة توقف حركتها المجنونة... وقبل العساكر بامتار وجدتها مازالت تركض اليهم هرباً مني. فهمت انها تهرب مني، سمعت خرطشة السلاح باتجاهها وباتجاهي، قلت للعسكري اوقفها فهذه المرأة تريد الهروب، توقفت على الحاجز مباشرة، كنت ما ازال بعيداً عنه بضعة امتار، توقف الجميع وراحوا ينظرون الينا، قالت للعسكري: اريد ان امر فبيتي هناك. وهذا الرجل قد خطفني. كأني لم أسمع، لم افهم، وصلت الى العسكري وسألته ماذا تقول هذه الـ... المرأة؟ قال العسكري اعطني اوراقك؟ اعطيته اوراق هويتي وقلت له هذه زوجتي، تريد الهرب الى عشيقها، قالت له: هذا الرجل خطفني، واريد ان اعود الى اهلي. اعطيك اسماءهم فاتصل بهم، اخذنا العسكري الى الخيمة قريبة في ميدان سباق الخيل. طلب منها اوراقها. لاتحمل اوراقاً لانها تنوي الهرب، قلت له، ثم طلبت ان اكلمه على انفراد. انتحينا بعيداً عنها. رجوته ان يفهم وضعي. ويجنبني فضيحة اضافية فهي زوجتي وتود الهرب الى حيث عشيقها في المنطقة الاخرى. قلت له ماذا عساني افعل بامرأة ولماذا اخطفها. قلت له باني كنت استاذا في مدرسة شهيرة انهارت بفعل القصف، قلت باني لست مسلحاً ولا أخطف النساء، سميت بعض اقربائي البعيدين من الزعماء، قلت له ان اراد ان اصف علامات مميزة في جسمها، قلت له تعرف مايصيب النساء احياناً، وكيف يتصرفن لينغصن علينا عيشنا، قال خذ امرأتك وامش الى بيتك كان الله في عونك. رحت اليها لففت شعرها على معصمي جيداً، وقلت هيا الان الى البيت. نظرت بهلع الى العسكري، لم تتخابط معي، تبعتني باذعان ادهشني لكني لم اترك شعرها، دفعتها داخل السيارة وخبطت الباب. انتظرت قبل ان اطلع الى مقعدي لارى ما اذا كانت ستحاول فتح الباب ناحيتها والهرب ثانية فلم تفعل. راحت تتسلق السلالم من نفسها، كأن شيئاً لم يكن، فتحت الباب فدخلت لاهثة، جلست على المقعد، فلبثت واقفا انظر اليها، ظلت جالسة دون حراك تنظر في الحائط قبالتها، دون حراك في الحائط قبالتها... ص154». الى القتل الجسدي الذي اطل برأسه منذ استهلالة الرواية «بعد ان قتلتها، جلست على صخرة عالية... اغمضت عيني طويلاً حتى هدأت انفاسي وانتظمت، تراخت مفاصلي، وانسابت اعضائي بعضها الى بعض واتصلت... تمددت على الصخرة، وتبين انها ملساء ناعمة كفراش وثير تتبع انحاءات جسمي وتوسع لها، فتحت عيني على قمر كبيروواطيء... كانت سماء نيلية منفوخة بنجوم فجة كثيرة وشديدة الاشعاع كانها انفجرت لتوها... اقوم الان عن الصخرة وامشي... امشي خفيفاً طائراً». بل انك تشهد تمجيداً لطقوس القتل واعلاء لشأن الذات القاتلة «ان من لم يقتل لايعرف... ان من لم يقتل يظل فريسة اوهامه، فريسة عذابه وبحثه المضني عن الخلاص العجيب وتنقضي حياته كلها كما تنقضي حياة ذبابة المزابل. تدور مكانها.. وتتخم باسئلتها الفارغة، وتموت دون ان تحدث ضجيجاً في الهواء ص9». وانتقالها ـ هذه الذات زمن الحرب ـ الى مصاف القديسين «عرفت حين قتلتها ورأيت اني قتلتها، اني شربت روحها، اني شربت ملاكها فصار فيّ، انفتحت لي السماء، والفضاء وانفتح جسمي، عرفت اني قديس، وان جسمي هذا قد بدأ صعودي البطيء ولكن المحقق، وانهم اذ سيفتحون ذات يوم قبري فلن يجدوني. لن يجدوا سوى رباطاتي مفككة، وكفني فارغاً.. وسوى نساء يدلقن الطيب على التراب ويركضن فرحات مبشرات بغيابي.... اني افور وافيض على العالم الرضيع كحليب مبارك، افيض ولا انقص، ولاسبيل الى انقاصي، فقد منحت الغفران. النعمة. امشي خفيفاً طائراً. افتح ذراعي كيوحنا واغني ويخرج ذهب كثير من فمي. اغني مبشراً باسم الرب الذي عرفت. الرب الذي لمست وعانقت، امشي، واغني عالياً، ولا التفت ورائي حيث تركتها عند رجمة الحجارة، ذلك اني موقن انها لم تعد هناك. انها فيّ او انها صعدت الى السماء. ص10».

وهدى بركات بهذا المشهد المتكيء الى الذاكرة العقائدية تشغل مفارقات شتى زمن الحرب فتكون البطلة الموؤدة على صخرة الابادة العرقية مريم مجدلية جديدة تجعلنا قبالة ضحية (مدنسة/ مقدسة) في آن واحد كما يكون القاتل فينقاً جديداً.

وهي مفارقة تذكرني بمفارقة اعجبتني حين وجدت هدى بركات تتماهى مع بطلها لتدين بصوت ذكوري الانوثة حين ترسم لها صوراً كاريكتورية زمن القصف والابادة المبرمجة، تأمل الآتي: (لكن النساء يعرفن ان الحروب التي تخلى منهن الشوارع وتمكنهن وتزيد من سيطرتهن على البيوت، البيوت التي لاكهرباء فيها ولا مياه وتلك التي فقدت جزءا من هيكلها تصير مسرحا اكثر طواعية لسلطتهن، اذ تسهل فيها اعادة التنظيم ويأخذ كل تغييير مشروعيته على ارض صلبة، وحين يصير البيت مكان الاحتماء الوحيد، تترك النساء الرجال يخرجون على كيفهم، رابضات على يقينهن من العودة والحاجة البدائية للاحتماء، يصبحن اكثر تساهلا في مد الحبل الى الشارع وفي الحراسة. ص134).

وثمة مفارقة تنبثق من طبيعة المكان حين لاتجد العلاقة المدنسة الا المدرسة ملاذا لهتك المحظور العقائدي والاخلاقي، تأمل ألاتي: «لم نبق وقتاً طويلاً في المدرسة حيث انزلونا، قلت انها امرأتي، لم يطلب احد اوراقها، اعطونا فراشاً وبطانيتين وزاوية كان فيها عائلة. نصبنا شرشفاً اخضر حول فراشنا، لم تحبنا العائلة لاننا لم نتكلم مع احد، لم نرو حكايتنا، لم نذهب معهم للمطالبة بالماء والاحتجاج على فساد المواد الغذائية التي كانت توزع علينا. كذلك لاننا تدبرنا ماء واغتسلنا مرتين، كنت اسدل الشرشف الاخضر، احضنها، اضع رأسي في رقبتها واتنفس. في الليل كنا نصعد الى سطح المدرسة حيث كان يسهر كثيرون في برودة الليل، الفها بالبطانية، امسد قدميها بكفي حتى تدفأ. نبقى على سطح المدرسة حتى يخلو، احيانا قبيل الفجر، لاقبلها كثيراً، لانزع ثيابها عنها. ص75».

مما لاشك فيه ان الذاكرة المعجمية للمدرسة تحيل الى ذروة القيم المعرفية والثقافية والتربوية الا ان هذه الذاكرة تتهشم تحت مطرقة الحرب لتكون وكراً للمدنس واللاشرعي. خلاصة القول، إن رواية (اهل الهوى) للروائية اللبنانية هدى بركات قد عكست عبر مناخاتها السردية المتقنة المفارقات التي تطرحها ثقافة الحرب عموماً والحرب الاهلية على وجه الخصوص من اختلاط للاوراق وضياع لقيمة الوجود الانساني حين يصير هدفاً طازجاً لخروقات الرصاص الحي وتحت مظلات ملونة بالتطهير العرقي او الطائفي او... وهدى بركات تلامس عبر ادواتها السردية ذاكرة المكان الجريح لتوثق احداثا دامية التهمت وجوه الاحبة لتترمد بغيابهم كل الابعاد الحضارية والثقافية التي تغلف ايديولوجية القتل والدمار، وتعلن ـ عبر اشتباك ترميزي متقن ـ عن خسارة كل الاطراف. 

ناقدة عراقية