ينطلق الشاعر من الوجع والحزن ليبني قصيدته التي يتحول فيها الغراب إلى استعارة شعرية، ويلعب فيها توزيع المفردات على الصفحة دوره في تحديد النقلات، وفي تطوير سردية القصيدة التي تحرص على بنية تتابعاتها وتجاوراتها المختلفة.

الغراب أحلامنا العارية

المهدي عثمان

ثمّة وَجَع يتدفأ فوق أصابعنا ويُفكر فيما يُضيف لحَرْقنا
ثمّة حزْن يَطرق أبْواب أحْلامنا العارية دون أن يفْطن حُرّاس الفوانيس.
ثمّة بَجع نهريّ يغازل قصب الوديان، أين تَرك قميصه يجفّ منْ عَرق السّمكات
ثمّة شيء يُغْمض عيون خُطانا... نتعثّرُ... تَـ
                         سـ
                              قـ
                                  طـ.....
                  ... أحْلام أصابعنا كأسا فتُجْرح ورْدة

ثمّة....
..............
منْذ مليون شتاء
كانت الوردة دمْعا
أوْ بكاء البجَع النّهريّ
كانت الورْدة حُلم النّملة المرْهق
كانت الورْدة أولى الكلمات
كان للأشْجار كُهّان ومعبدْ
قطعوا عُصفورة قُرْبان خوف..
فاسْتحالت ورْدة الودْيان ضوْءا
               واستحال الشّعْر تُبّانا مُزرْكشْ

زمنئِذ لمْ يكن للغراب مُتّسع منَ الخدْش بما يُواري الرّيش المطعون منْ جناحه
زمنئذ لا الشّمسُ اسْتوت على كرُسيّها..
      لا القمر قسّم جُهوده على الجهات..

( ـ هلْ ثمّة جهات؟
 ـ ننْتظر البوصلة).

السّماء لمْ تُسوّي رداءها نهائيّا، ولمْ تُمشّطْ شَعْرَها المجْنون ضفائر
.. فقطْ.. لمّا نامت الأشْجار تسْتأنسُ بالعواء عارية..
     أجْهضتْ موْلودها فكان نجوما

سَجدْنا...
وُلدْنا سُجودا
ولدْنا قفا للمساجدْ
سَجدْنا...
لشمْس الغروب
فكانت معابدْ
هيَ الشّمْسُ ربّ يهبْنا عُواء المناجلْ
جبال عَبدْنا... جِمال (رحيل)
               رياح عبَدْنا... رماح (قتيل).
خبايا... خفايا... عدمْ...
ولم يبْتسم.
لنا ربّنا، ربّما كان صخْرا... غرابا..
ـ غرابا؟
هي الأرْضُ دون اله مهازلْ
............
وهبْ أنّ طيْرا اله..
متى كان ربّ، وما كان طير؟
هَبْ أنّ طيرا كان إله، جناحاه منْ طين...
يُصفّقُ... تسْقط المخْلوقاتُ منْ ريشه.
يُصفّقُ... ينْشرُ الريش على أفْواه الأرْض الجَوعى
يسْتحيلُ أشْجارا خضراء/ زرقاء... حينا.
................................
البيضة الأولى، تبْتسم لدفء الأغْصان البرّيّة.
تخرجُ فراشات يرْغبن في الطّيران
... لكنّ الرّيح!!
يُصفّق الطير ثالثة... يُولد الرّيحُ من حلْم الفراش.
تَطير الرّغْبة فحْل فَراش مهْجور.
هَبْ أنّ طيرا كان إله، يوزّع اللّون على حُلْم كائناته و... يطيرْ
النّملة... حُلم النّملة، أوْسع منْ ثُقْب الأرْض.
أكْبر من دعوة "دجّال" يرتّبُ الكلَم الأوّل.
ينْتظر عصيّ العمْيان، لينْشُر دعوته و... يسيرْ.

حُلم النّملة يغوي فراشة باحتضان لونها
على أنّها توزّعُ رائحة عطْرها على السّوْسنات
   يـ                   
      سـ
         قـ
            طـ...

          ... يسْقطُ فرح منْ أصابع بنيّة السّنْديان.

تتلقّفه عشْبة، لئلاّ تَجْرَح خدّاه... فيبْتسمُ.
في البدء كان الطّير... كان الطّينُ.
"هذا طينك... طينك
قدْ أفْسَق فيه الوعْيُ سنينا"(1) .
ـ يُصفّق الطّير رابعة...
تبُول السّماء حليبا، لا لون ولا طعْم، برائحة السّمك والأشرعة.
كان الماء... كان الموج... ويفْتحُ الصّخْرُ فخذيْه على آخرهما.
يسْتقْبلُ دمع السّمكات بشهْوة.
ترْكض البهائمُ والقوائمُ، وفراء الثّلْج إلى الأطْلسيّ، لئلاّ تحْبل بالنّقْمة.
تتلقّى الصّخْرة سِياط الموج على النّهْد.
... تتلقّى نطفات الماء الخاثر بالقبلات.
تشابكت الصّخْرات بأصابع من كلْس، كيْ تحْبل من الموج.
ولمّا كان المولود صخْرة "ايزولد"(2) تراجعت النطْفة للعمْق، وأرتفع الثغاء.

ـ دون الصّخْرة... ماذا يدْفع " ايزولدْ " لعكْس الإنـ
                           حـ
                               دا
                                ... ـر؟

ـ دون الصّخْرة ما أصابعنا ؟
ـ دون الصّخْرة... يبْقى الوهمُ!!
  وأصابعنا تلْعقُ عانات الشّموع الموقَدة في الزّوايا.
..............................................................
(هذه الصّخْرة ما أكثر الجهد بها... ما أكثر حروف الوهْم والتّكْفير).

مُتْعَب... مُتْعب... مُتْعب...
جُهدنا مُتْعب
مُتْعب جُهدنا
مُتْعب عزْمنا
متعِب كلّ ما يُتْعب الرّغْبة
أو يُواري خُطانا تَعبْ
هلْ أتاكمْ حديث العنبْ؟؟
..................
ربّما صار طيني تعبْ
*  *  *
هارب... هارب
أو هارب
أو هكذا ينْبُت التّعبُ
يهْربُ منْ ماذا؟ إلى أين؟
متى؟
ثمّ كيف؟

ـ يهرب الطّين من التّعب إلى العنب.
ـ يهرُب الظلّ من أقْدام القصب الرّاسخ في المجْرى.
ـ يهْرُب المجرى من مجْراه.. من مأواه.. من صُور ستُعلّقُ لاحقا على الخرائط
ـ يهرب المجرى منْ صُلْبِ "العدنانيين"... من جيوب "المرابيين"...
  من أكياس  "العلويين" المحْمولة كالتّعب على ظهور الفاتحين.
ـ يهرب المجرى من... إلى... العبْريين.
  أو لا يهرب العبريون !!

*  *  *

ـ أوّل الهاربين وآخر الهاربين، المجرى.
ـ أوّل الفاتحين وآخر الفاتحين، المجرى.
ـ أوّل القادمين وآخر الفارّين، المجرى.
ـ أوّل... و آخر... المجرى...
ـ ثمّة أشْياء كثيرة تهربُ.
ـ ثمّة مجْرى يهْرُب من خِصْر قصب الخيزران.
ـ ثمّة ضحكة تهْرب من أقدام النّخل الحافية.
ـ ثمّة...

تَهربُ النّيران من الغفران 
                                        يَهربُ الغفْران من الأحْبار(3).

يلغّ الغُفران ذئبا في فم شجرة قُطعتْ نعْشا.
تـ
   سـ
        قـ

طـ... الأشْجار على الأشْجار...
...تنْتفض الأجْنحة
تفرّ السّماء إلى أعلى لـ... نزْداد طولا

تَبتّلْ... تبتّلْ... بُتولا
فإنّ السّماء الأُفولَ
وأنّ التّراب البقاء
وطينا يشدّ الجذور
... تَفرّسْ...
... وحاذرْ...
ذئاب الهُروب
وسجّلْ بأنّ البقاء الرّسوخ
................
هوَ الملْحُ أرْسخْ...
وأبْقى
أقلّ أُفولا

Madiov@voila.fr
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ـ مظفّر النوّاب.
(2) ـ ايزولْدْ: آلهة الشّعراء من تصوّر الشّاعر.
(3) ـ الأحبار: رجال دين من اليهود.