يكتب القاص العراقي المرموق في روايته الجديدة تلك تجربة جديدة مع الغرب، وأوجاع الغربة العراقية في المنفى الألماني، واشتباكاتها مع الأوجاع العربية والأنسانية الأخرى في المنفى، ومع مأساة ألمانية خالصة أنتجها تورط ألمانيا في أوحال الحروب الأمريكية القذرة.

المقهى الأسباني (رواية)

عائد خصباك

الفصل الأول
بات نوري مقتنعا برأي ماريو العجوز، بعينيه الماكرتين، الذي غادر المكسيك في يوم ما قبل أكثر من عشرين عاما لتحط به رياح السفر العاتية في مدينة كولن، فعاش فيها محافظا على طهارة روحه وبراءة أفعاله، تلك التي تعلمها هناك في قريته، حتى انتهى الأمر الى سوء الحال، فلم يعد بمقدوره شراء علبة سجائر كل أسبوع بعد أن كان يدخن اثنين منها كل يوم، ساءت الظروف فاضطر للعمل في محطة قطارات كولن ماسحا قطرات البول الساقطة على ارض حمامها العمومي، من تلك التي تضل طريقها الى القاعدة المثبتة على الحائط في مستوى أسفل البطن، وبعد أن ينتهي من عمله هذا يرجع ليعيش بين أكثر البشر بؤسا ومهانة، في زاوية من زوايا الضواحي المهملة للمدينة، كان مطمئنا أن الهالات السوداء المحيطة بعينيه الماكرتين سوف لا تبعث استغراب أحد هناك، لأن جميع من يدخلون الحمام يأتون في استعجال للتخلص من الضيق الذي يسببه امتلاء مثاناتهم.

لم يضايق الفقر ماريو لإيمانه بأن ليس من العار أن تكون فقيرا ما دام الأغنياء لا يزاحمونك في ما أنت قادم عليه. ترك عمله هذا بعد أربع سنوات في أول فرصة قدمها له أحدهم ليعمل في احدى المطابخ التي تقدم الطعام على الطريقة المكسيكية، فظل هناك أكثر من عشر سنوات مساعدا للنادل والمحاسب والمنظف ولجميع الآخرين، وعندما رقي الى مرتبة أعلى مما هو عليه بدأ الطعام الذي يخرج من بين يديه له طعم عصير الصبار الذي ينبت في البراري المكسيكية، فطرده صاحب المطعم شر طرد، كان من الصعب على أولئك الذين بحث في مطابخهم عن عمل أن يضحوا بسمعتهم، وكان من الصعب عليه أن يعود الى البداية التي بدأ منها لأن الناس في رأيه أخذت تدخل الى الحمامات العمومية أكثر من السابق، وتنثر على الأرض من تلك القطرات أضعافا مضاعفة عما كانوا عليه سابقا، لذلك رأى أن يستفيد البعض من خبراته التي حملها معه عبر البحار، وكان قد أخذها من أجداده، ومن الرجال كبار السن في القرية التي جاء منها، كان يتعرف على طول الشتاء وشدته من كثرة ما يحمل شجر البلوط والسنديان، ويكره كوكب زحل لأنه برأيه ماكر منقبض لا يحب الخير لأحد، ويحب كوكب الزهرة، لاتصافه بالخلق الحسن والبهجة والشهوة واللعب والترف والإنصاف والحلم.

بات نوري مقتنعا برأي ماريو بأنه سيجد علاجه على يديه، وأصبح مثله يعتقد بأن هناك من يمتلك القدرة على تزويده بالطلب الذي ينفع في علاج ما كان يعاني منه، فلا الطب ولا الأطباء بقادرين على ما يمكن أن يوصله الى ما يطلب. أراد نوري أن يعرف منه من ذلك الذي يمتلك القدرة تلك باعتباره ضليعا في رؤية ما لا يراه الآخرون، لكن ماريو راوغ وامتنع الى أن استجاب تحت الإلحاح المستمر، وقبل أن يتكلم طلب من نوري أن لا يأتي على ذكر اسمه لو سأله أحد عن ذلك، فأقنعه أن ذلك سيظل سرا بينهما، وعندما اطمأن اليه ذكر له اسم "ستار" الذي يعمل في ثلاجة الاحتفاظ بالموتى بمستشفى ادواردوس، فهو القادر على تزويده بما طلبه منه، لكن كيف له أن يفتح الباب على ستار في تلك الثلاجة ويطلب منه ما أمر ماريو بإحضاره، ولكي تكون الطريق الى ستار سهلة سأل الكثيرين ممن يعرفهم عنه، فلم يعطه أحد إجابة مقنعة، وعندما طالت فترة الرد قال له ماريو: التأخير ليس في صالحك. وكان لابد أن يذكر أنه لم يجد بعد طريقا اليه، فسأله ماريو: ألست تعمل في وكالة "دي شتيرنه" لتسويق السيارات، أجابه نوري: هذا صحيح. قال له: لكنك لم تسأل ناجي الذي يعمل في الوكالة نفسها عنه. لم يظن أنه سيلف بسؤاله ويدور ليقف أخيرا عند ناجي، لقد تمنى أن لا يضطر في النهاية الى سؤاله هو بالذات، رغم أنه المسؤول عن ورشة غسيل السيارات التي يعمل بها، ربما نوري حذر أكثر مما يجب من أن يتعرف مسؤولا في العمل على شؤونه الخاصة. عليه التوجه إذن الى مكتب ناجي، بعدما أشار عليه ماريو الاتصال به للوصول الى هدفه.

*   *   *

أثناء الفطور جرب نوري الولاعة، اذا اشتعلت وضعها في جيبه وإذا لم تفد معها المحاولات العديدة لإشعال نارها رماها في صندوق الكارتون الذي كان في يوم ما صندوقا لحذاء، اشتراه من محل "الأحذية الطائرة" ليتقي به برد شتاء كولن القارص، في صندوق الكارتون أيضا العديد من أربطة الساعات التي لم يعد بحاجة اليها، صنع بعضها من المعدن على شكل سلسلة أو حلقات متعاقبة وبعضها يشبه أسورة الذهب أو الفضة، وصنع بعضها من الجلد أو البلاستك، واذا كان تحت ضغط الحاجة ومد يده الى ما في الصندوق فان أي واحدة سوف لن تلبي طلبه، لذلك عليه أن يتصرف وبسرعة بعيدا عن هنا، في الحقيقة هذه فرصة جيدة للابتعاد عن المطبخ والشقة، عسى أن يكون طلب ولاعة جديدة فرصة للتخفيف من وحدته، كان وحيدا لكنه طالما قال أن الوحدة مفروضة عليه، استمر في العيش وحيدا والمحيط الذي يجمعه بالآخرين ضيقا.

في بداية قدومه الى المانيا سكن في شقة تتكون من غرفة صغيرة مع ملحقاتها ولم يغيرها بالرغم من مرور ثمان سنوات منذ أن وقّع مع مالك العمارة العقد على إيجارها، وقد ظل بعدها على أمل أن يضرب عليه أحد ما الباب ليفتحها له ويدخل مثل أي ضيف، يجلس وإياه يتجاذبان أطراف الحديث، ولأن هذا لم يحصل، استبدل الضيف برسالة ينتظر أن يبعثها له أحدهم، لكنها لم تصل، هو يعرف تماما أنه لم يكن عنده، لا هنا ولا في الوطن، ولا في أي بقعة في العالم أي شخص له معه علاقة حميمة، يمكن أن يكتب له رسالة. وليكن قال ذلك في نفسه أكثر من مرة، فمن غير الممكن أن يكون عند الجميع أشخاص مقربين يكتبون اليهم رسائل، هذا أمر طبيعي، ثم أن وجود الناس الذين لا علاقات حميمة عندهم أمر ضروري أيضا، كي يفهم من خلاله ان الوحدة أمر صعب. لكنه بالرغم من ذلك ينتظر دائما أن يبعث له أحد برسالة،كان يعرف أنها لن تصل أبدا، ومع ذلك من غير المعقول ألا يجد أحد الأحياء في هذا العالم رغبة في نفسه كي يكتب له رسالة، حتى الناس الذين يعيشون في تعاسة والذين من الممكن أن يبعثوا له برسالة، لا يمكن أن يؤمنوا بتعاستهم المطلقة، لا بد لهم من ثغرة يتنفسون من خلالها، دائما لدى المرء نافذة صغيرة يطل منها على أحدهم، ألم يره أحدهم من الكوة التي ينظر فيها للحياة فيكتب له تلك الرسالة التي ينتظر وصولها. كثيرا ما كان يقف أمام البناية التي فيها شقته، وهي بناية متهالكة من القدم، كان ينتظر ساعي البريد الذي يأتي تقريبا كل يوم في العاشرة، ويتابع حركاته بشغف عندما كان يخرج بعض ما في حقيبته، ويضع للآخرين الرسائل في صناديقهم، ولا يضع له شيئا، يسأله عندها: أما من شيء لي؟

ـ لا، لا يوجد شيء اليوم، ربما غدا.
ـ لو تفضلت بإلقاء نظرة أخرى داخل حقيبتك، أنت تعلم كيف هي الأمور، أحيانا لكثرة العمل أو لكثرة التفكير في الأمور الأخرى ينسى المرء، يخيل اليه أنه لم يعد لديه شيء من الرسائل، وبعد ذلك ينتبه الى أن شيئا ما قد تبقّى، صدقني إن ذلك قد يحدث.

بالفعل قلّب الرجل النظر في الرسائل المتبقية معه، مع أن عينيه تنمان عن شكّه، كان يحاول أن يساعده، ولكن ما الذي يمكن أن يفعله أكثر من أن يقول له: ربما غدا، انتظر أيها السيد.
كان يرى ساعي البريد كل يوم، يراه كل أسبوع، كل شهر ولشهور طويلة، في الصيف أول قدومه الى هنا كان يكشف عن ذراعيه المشعرتين، وفي الشتاء يأتي متدثرا وقد تيبست كفاه اللتان أمسك الرسائل بهما، يراه أحيانا سعيدا وأحيانا تعيسا وأحيانا بلل المطر ملابسه، لكنه دائما يأتي بالرسائل الى الآخرين، ولم يحمل اليه مرة رسالة من أحد. جاء الصيف الثاني و..

ـ أما من رسالة لي؟
ـ لا، ما من رسالة اليوم، ربما غدا.
ـ أرجوك أنظر جيدا.
ـ أنا دائما أنظر.

كان غاضبا من الآخرين، معتبرا أن هذه الرسائل هي له وأنهم أخذوها منه، هو من يجب أن تصل اليه، هو من يجب أن يفض الظرف ويفتحها ويتمعن في كلماتها، مهما كان الموضوع المكتوب، وبأي لغة من اللغات، كثيرا ما كان يجلس ويفكر بالعلاقات التي كونها في حياته، كثيرة ولكن من هم أصحابها، غابت عنه أسماؤهم، فكر كثيرا بامرأة كان يكن لها حبا خاصا قبل أن يأتي الى هنا، لكن هذه تزوجت، وانتقلت الى مدينة بعيدة وأصبح عندها أبناء، فكر بشخص كانت تربطه به علاقة جيدة، وبدا له أنه سيكتب له، حتى أنه اعتراه نوع من الثقة المؤكدة أنه بين ليلة وضحاها سيتسلم منه رسالة، يسترجع فيها الوقت الذي لا ينسى في اعترافاتهما لبعضهما بما وقع لهما في الحياة وفي نقاشاتهما الطويلة، واسترجع من الماضي بعض الوقائع والاحداث، لكنه تذكر أن بعض الأخبار التي وصلته أكدت أنه كان في الجيش أثناء حرب الخليج، وأنه فقد في صحراء الكويت، ولم يعثر عليه أحد، ربما مات. كان يحسد الذين يتسلمون رسائل هنا في البناية التي يسكن فيها، أو في البنايات المجاورة، أو في أي بناية في العالم لأنه هو من تلزمه الرسالة، هم ليسوا بحاجة للرسائل، لديهم عائلات أقرباء وهو لا عائلة له ولا أقرباء. لديهم أصدقاء يستطيعون أن يتواصلوا معهم بالزيارات أو بالتلفونات، أما هو فلا. لم يكتب له أحد رسالة. سأل ساعي البريد: هل وصلني شيء اليوم؟ والجواب كالعادة: لا يوجد، ربما غدا، لا بد أن تصبر، الصبر جميل. صار ساعي البريد أخيرا يتحاشى الوقوف معه، ولا ينظر ناحيته، واذا سأله فانه يرد بتذمر على أسئلته، هذه مشكلة أخرى، فساعي البريد هو من يستطيع أن يأتي له بالأمل.

*   *   *

كان ماريو المكسيكي، الذي يسكن في الدور الثاني من البناية التي يسكن فيها نوري، هزيل الجسم، نزل شاربه الأشيب المصفر، ربما بفعل التدخين على طرفي فمه، وكانت رقبته ذات جلد متهدل تضغط عليها ياقة قميصه. عينه اليمنى مفتوحة دائما على نحو اكثر اتساعا من اليسرى، بها يرقب الآخرين خاصة عندما يدخن غليونه، مرة في بداية تعرفهما ببعض قال له ماريو: أنت تنتظر رسالة؟ قال له: بالضبط. قال: وتريدها أن تصل إليك؟ قال: أريدها. قال: لا عليك، هذا أمر سهل، اترك الأمر لي والحق بي.

تبع نوري الرجل الى أن وصلا الى مرج قريب، هناك طلب ماريو منه أن يركض حول المرج حتى يعرق، بالفعل ركض حتى تحقق ما أراد، مسح الرجل قطرات العرق التي نزلت على الرقبة والصدر والظهر والإبطين وبين الفخذين بمنديل من القماش وسلمها له ليضعها في صندوق بريده، فالرسائل مثل الكلاب في رأيه لها حاسة شم قوية وأحيانا أقوى من أي حاسة، فنزل عند طلبه وألقى المنديل في صندوق البريد. فوصلت اليه رسالة من وكالة "دي شتيرنه" لتسويق السيارات، موافقين على طلب قدمه للعمل في ورشتها، وبعدها جعلته زحمة العمل وطول ساعاته ينشغل عن ماريو وعن ساعي البريد، لقد شعر أن تلك الرسالة لسبب ما لم تعد لها أهمية في حياته، لدرجة أنه عندما وجد في صندوق بريده رسالة في يوم عطلة أسبوعية لم يفرح بها، فلم يعد ذلك يهمه، أخذ الرسالة وجلس في مدخل العمارة وراح يتطلع الى الظرف، ساعتها مر أحد الأشخاص، وكان يبدو عليه البؤس فقال في نفسه ربما هو ينتظر رسالة لم تصل بعد اليه، فأعطاها له.

نعم انشغل نوري عن ماريو لكن علاقته به لم تنقطع، كان يحرص بالسؤال عن أخباره عندما يلتقيان على سلم العمارة، ولقد اعتبر أن الحال الذي وصل اليه والراتب الذي يتسلمه نهاية كل شهر له يد فيه. ولولا المنديل الذي حمل رائحته ما اهتدت شركة "دي شتيرنه" لتسويق السيارات اليه للعمل في ورشتها، لذلك سار اليه هذه المرة يطلب منه العون، فقال ماريو: تريد رسالة أخرى؟

قال: هذه المرة قدمت اليك لأمر آخر، لقد حدثت معي أشياء استثنائية، سأحدثك عن شكل الفتاة ذات الشعر الاحمر التي أتوود اليها في أحلامي. قال ماريو: في أحلامك! قال: نعم وهي تستجيب لي أمام جميع من في هذه العمارة، نسيت معها وحدتي وخجلي، وصرت أمشي في الشوارع منذ أن تعرفت عليها، دافعا صدري الى الأمام غير مبال بما يقوله أحد بشأننا، ساعدني ماريو كي أخرجها من الاحلام، لتضرب على بابي في الحقيقة، أريدها أن تخرج لأنها تتعذب في هذا الأسر، لم أعد أعرف كيف أهتدي الى الباب الذي تخرج منه الي. ماريو، انني أتعذب.

هذا موضوع صعب وشائك، قبل أن أطلب منك أوصافها كاملة، ينبغي، لكي تسير الأمور بالشكل الصحيح، ساعدني في الحصول على ما يضيء الطريق في ليل فتاتك الحالك.

عليه اليوم التوجه الى مكتب ناجي بعدما أشار عليه ماريو الاتصال به ربما يفيده ذلك بشيء، وبحذر شديد سأله عن الطريق التي توصله الى ستار، قال له: تقصد ذلك الذي معه خاتم يزينه حجر من الياقوت الأزرق يدخله في إصبعه فلا يؤثر عليه، ويدخله غيره في إصبعه فترتعد أوصاله حتى ينزعه. ذلك الذي له قلم عندما يمسك به ليكتب فانه يكتب بالحبر، وعندما يمسكه به غيره يكتب بالماء. وأضاف: هذه ليست ضربا من الطلسمات؟ مع ذلك أفضل أن تطرح هذا السؤال على لويزا التي تعمل الآن في مجزرة لذبح الديوك الرومية وتنظيفها، وأحيانا تقطيع أوصالها وتعبئتها في أكياس قبل أن ترسل الى من يبيعونها، كانت لويزا هذه متيمة بحبه قبل أن يتخلى عنها، يمكن أن تفيدك. سأعطيك عنوانه وجرب أن تذهب اليه.

ذهب نوري الى المجزرة التي تقع في قرية "ميرهايم" القريبة من كولن، توحي المجزرة من الخارج أنها بنيت لتكون مدرسه بشبابيكها الكبيرة وأسقفها العالية، كانت الباب الخارجية عريضة تفضي الى فناء واسع، قبل أن يواجه المرء الباب الثانية التي تصغر قليلا عن الأولى، بجوار الباب الخارجية غرفة صغيرة بواجهة من زجاج يجلس خلفه موظف له وجه أحمر مدوّر ضخم، سأل الموظف عن لويزا ان كانت موجودة في المجزرة فقال أنها موجودة، قال له: هل بالامكان مقابلتها، قال: هذا غير جائز لأنها في ساعة العمل، وغير مسموح لها ترك مكانها. شعر انه في موقف صعب، هل يرجع أم ينتظر لحين ساعة استراحتها، ربما لاحظ الموظف ارتباك نوري، فغمغم بأنه لا يعتقد بأن لويزا على استعداد لأن تستقبل زائريها هنا، وعلى كل حال سيتحقق من الأمر الآن. لم يدعه يمر ولم يطلب منه أن يختار مكانا في غرفته الصغيرة ليجلس، بل أخذ بالتكلم مع شخص ما في التلفون كلاما استغرق وقتا أطول مما هو متوقع في حالة مثل هذه، وعندما انهى المكالمة طلب منه أن لا يبرح مكانه، قبل أن تأتي لويزا.

كانت هناك رائحة نفاذة لمخلفات الديوك ورائحة دمها والريش المنتوف، وأصبح على يقين أن لا أحد هنا يستقبل زائرا، انفتحت الباب المقابلة وتوقفت عندها امرأة أشارت له بالتقدم، فأشار له موظف الاستعلامات بالذهاب اليها، فقادته الى غرفة داخل المبنى تقع بابها في أول الممر على الجهة اليسرى، وفي الغرفة كانت أربعة كراس وطاولة وفوقها منفضة سجائر، وأعلى الجدار المواجه نافذة دائرية الشكل. اعتقد أنه فقد توازنه عندما رأى أسنانها الأمامية التي لم يتبق منها غير ما كان يشير الى انه كانت هناك في يوم ما أسنان، كان بعض من ذلك يخالطه السواد، أغلقت الباب خلفه مشيرة له باختيار أحد الكراسي الموجودة للجلوس، وبعدها قالت: على الرحب والسعة، أنا بانتظار ما تريد أن تقول. وقبل أن يبدأ بالكلام استدارت نحو الباب وصاحت بشكل جعل من يجلس بالغرفة المجاورة يسمعها بشكل واضح: اشغل مكاني ريثما أنتهي من هذا الموضوع. وقالت له: هات ما عندك.

قال كما لو أن لهجتها القاطعة طلبت منه أن يخفض صوته: معذرة، لم أرد أن أسبب إحراجا لأحد.
قالت: عذرك مقبول، هل قدمت بصدد أن تأخذ نصيحة في كيفية التعامل مع الديكة الرومية أو شيئا من هذا القبيل؟ قال: هناك من دلني عليك فجئت لأني لم أجد طريقا آخر غير أن أتي الى هنا.
قالت: لا أفهم شيئا.
فضل التعامل معها بحذر والنظر في عينيها مباشرة: استمعي الي، أريد أن أقابل ستار فلقد سمعت شيئا عن علاقتكما ببعض.
قالت: علاقة، مع ذلك المتوحش الجبان، البخيل، الماكر، الحقود، الأحمق الموسوس، الكاذب، ذلك الذي لا يخفى على الشرطة ان الوظيفة التي يشغلها سهلت له التجارة بأشياء ممنوعة، ولقد حققوا معه عدة مرات ومع من تعاملوا معه، لكن أتمنى أن يأتي اليوم الذي يكون فيه خلف القضبان.
وأضافت: كل هذا وتقول أن لي علاقة معه، هيهات! قالتها منفعلة وهي تترك مقعدها.
 يمكنك أن تلقي بسؤالك هذا على التي معه الان، ربيكا ذات الكفين الضخمتين، والأصابع القصيرة الملتوية، تلك التي تغطس في المياه كالضفادع، اذا أطال المرء اليها النظر مرض، واذا لمسها تخلخل وغلظ، لقد التقطها ستار هذا بعدما قضت فترة سباتها الشتوي في المستنقع مع الأفاعي الخبيثة وما يأوي الى جحر.
خيم سكون قطعه صوت لشاحنة تصاعد صوت محركها قبل أن يتوقف، أعتقد أنها كانت تستمع للصوت، لذلك أحس أن الفائدة من هذه المقابلة ضاعت هباء، لم يكن المكان ولا صوت الشاحنة ولا المرأة ولا ما تحدثت به أشياء واقعية، قال معتذرا: أنا آسف.
قالت: ظننت انك تعرف هذا.
كرر اعتذاره وهو يقف مضيفا: لا أريد أن أتعبك.
قالت: لا عليك، أحيانا يسأل أحدهم عن هذا الاسم.
تصنع عدم السمع وهو يقول لها: وداعا.
فتح الباب وخرج وعندما أصبح في الممر عادت رائحة الديوك المذبوحة تملأ أنفاسه، سمعها تقول: كن حذرا.
كان على وشك أن يعدها بأنه سيستفيد من ملاحظتها، وفي آخر لحظة شعر أن ذلك غير مطلوب منه.

في اليوم الثاني كان في الورشة يعمل على تغيير زيت محرك احدى السيارات، عندما جاء أحدهم قائلا له أن امرأة تقف خارج الورشة تسأل عنه، فأخبره أنه حالما ينجز العمل الذي بين يديه يخرج لها، وبالفعل كانت تقف بجوار احدى السيارات التي تنتظر دورها في الدخول الى الورشة، وقد تابعت قدومه اليها في المرآة الجانبية للسيارة، وما أن توقف قريبا منها حتى رفعت رأسها اليه متصنعة الدهشة لمفاجأته لها، كانت تضع نظارة ملونة وتربط شعرها من الخلف بمنديل، وبعد أن ألقى التحية قال لها: كنت قد طلبت رؤيتي.

قالت بصوت خافت: لابد أنك تتساءل من أكون؟
ـ وأنا سامع لك.
ـ أنا كارين لينتس، قالت ذلك كمن تعلن عن سر، أنت لا تعرفني ولكن أنا من سيدلك على ستار، وأنت تعرف الى أي شئ أرمي بكلامي.
تحاشت المرأة مقدار الدهشة التي بدت على وجههه، وكان مصيبا عندما قال لها: نعم، هل لنا أن ندخل الى مكتب المشرف على العمل، سيكون الكلام هناك أفضل.
قالت: دعك من ذلك، أنا فقط جئت أوصل لك رسالة.
ـ هات ما عندك.
ـ عرف ستار أنك تريد رؤيته.
تعمد أن يكون صوته منخفضا أكثر مما يجب وهو يقول: ما كان عليك أن تزعجي نفسك وتأتي الي بنفسك، لدي رغبة في الحديث الى ستار، لكن ليس في موضوع محدد.
ـ هذا يتوقف عليك. ثم توقفت عن الكلام قبل أن تتابعه.
ـ هل يدفعون لك جيدا هنا؟
ـ نعم بشكل ما.
ـ هذا ما توقعته، عمل شاق كما أرى.
وأصدرت بعض الإشارات غير المفهومة، خلال هذا الصمت القصير، ارتفع صوت الماء من ورشة غسيل السيارات، ثم قالت مؤكدة على كلامها: هو ينتظرك في مقهى "برج برلين" التي تقع في شارع "أودن تالر" خلف قاعة الرياضة يوم الأحد، الرابعة بعد الظهر.
سأل مستفهما: كيف عرف انني سألت عنه؟
تستطيع أن توجه هذا السؤال اليه، أنا مجرد رسول يوصل رسالة، وأتمنى أني قمت بها على أتم وجه.
ومدت يدها تصافحه مودعة، كانت قوية وهي تشد على كفه، وقبل أن تذهب ألقت نظرة فاحصة على السيارات التي تصطف في الساحة، وهزت رأسها بطريقة لم يفهمها نوري. هل كانت تحييه بها؟ أم هي مقتنعة أن ما كانت تراه في الساحة حاز على إعجابها؟
لم يبد على نوري أنه فهم مغزى الزيارة، وقد ظل لفترة ما قبل الظهر كلها في شك أن ذلك كله لم يكن غير ضرب من الخيال، لكن فيما بعد تقبل الموعد كما لو أنه أمرا واقعا، وعليه المضي فيه الى نهايته، لقد طرد من ذهنه فكرة أن ستار عرف مكانه عن طريق لويزا، أو عن طريق ناجي فهذا افتراض بعيد. على كل حال، من هو ذلك الشخص لكي تكون له تلك المواهب المتعددة!

في الرابعة من يوم الأحد ذهب نوري الى "برج برلين"، لم يكن الوصول الى المقهى صعبا، كما أنه لا فكرة لديه عن الطريقة التي يمكن أن يتعرف بها على ضالته، عندما دخل المقهى وجدها تنقسم الى قسمين، فيما بعد المدخل كان مخصصا للجلوس أمام البار، والمكان هنا ضيق، ويبدو كأنه قبو، البار طويل والكراسي العالية تصطف أمام البار، وخلف الكراسي ممر يؤدي الى العمق، الى القسم الذي يستخدم كمقهى، الجدران مبطنة بلوحات إعلانية عن بعض أنواع البيرة وعن شواطئ بحار جميلة تحيط بها الكثير من أشجار جوز الهند العالية التي كانت تميل قليلا الى الشاطئ، اختار أحد المقاعد العالية التي لا مسند لها ليجلس وهو يحيي الرجل خلف البار، ثم صمت قليلا ليبدو لطيفا وبصوت هامس قال: أنا على موعد هنا مع أحدهم، اسمه ستار، تعرفه؟ لكن الرجل صمت قليلا وأجاب: لن أقول لك نعم، لأني غير متأكد، ولكن يمكن أن تدخل (وأشار بيده) وتسأل عن شيفر الذي يرتدي واحدة من القبعات المكسيكية العريضة، وهو سيعطيك الجواب لو شاء. قال له حسنا، لكن لماذا القبعة داخل المقهى؟ أجاب: لا أدري اسأله، سيعطيك الجواب.

كانت هناك خمسة من براميل البيرة ملتصقة بالحائط ثلاثة في الأسفل واثنان فوقها، طلب من الرجل أن يملأ له كأسا من أحدها، وبينما كان البائع يملأ الكأس سار متمهلا الى الداخل، باتجاه الرجل صاحب القبعة، والذي كان يلعب الورق مع ثلاثة آخرين، وقال له: معذرة، انني أسأل عن ستار؟ لم يبد الرجل اهتماما بالسؤال حتى فاز على خصمه، قائلا دون أن يبذل عناء في النظر  الى الخلف حيث يقف نوري: سيأتي، عندما وعدك بالمجيئ معنى ذلك أنه سيأتي. شكر الرجل وعاد أدراجه الى البار، ليجد كأس البيرة في انتظاره، وعند الرشفة الأولى حاول العثور على كارين لينتس، تلك التي جاءت الى ورشة العمل، لكن لم يكن لها أثرا، انفتح الباب لهبة ريح خففت من ثقل الرائحة في المكان، وما أن أنزل الكأس أمامه حتى سمع من يهمس في أذنه بكل لباقة: أنا آسف، جئت متأخرا.

ـ أستار أنت؟ سأل بإيماءة تقدير واضحة. أجاب مبتسما: أنا هو.
ـ هل أطلب لك شيئا؟
تردد ستار في الإجابة، كان له وجها مليئا بالبثور وعينان جاحظتان وأسنانه ناصعة البياض كانت لافتة للنظر أكثر من البثور.
ـ يمكننا أن نحتسي كأسينا بعيدا عن هنا.
ـ كما تريد. قالها من دون أن يسأل عن ذلك المكان البعيد عن هنا. وأثناء مغادرتها المكان تصنع الرجل وراء البار بعد أن تسلم الحساب البحث عن شيء حتى لا يودعهما.
وفي الخارج قال ستار: الحقني بسيارتك؟
ـ ليست معي سيارة.
ـ كان ستار يستمع الى الإذاعة التي تبث الأغاني، بينما قاوم نوري طرح الكثير من الأسئلة التي كانت تدور في رأسه، وبين الحين والآخر ينظر الى ستار ثم يعود الى صمته، وكان موقنا ان لا قيمة لأسئلته ان لم يطلقها، قال له: سألت عنك في المقهى ذلك الذي يضع على رأسه قبعة كبيرة.
قال: لا عليك به، يدعي أنها صنعت في المكسيك.
ـ اذا أردت أن أقابلك ثانية، هل أجدك في المكان نفسه؟
ـ لا أحضر الى هناك إلا بناء على اتفاق.

في هذه الأثناء دخل بالسيارة في شارع جانبي، وأمام بناية علقت على واجهتها لوحة منيرة كتب عليها (عش السناجب) طلب ستار منه أن يترجل ويتبعه، صعدا الى الشقة التي تقع في الدور الثاني، كان دائما يسير خلف ستار، فتح الباب، واجتاز الممر الذي لم يكن فيه غير مشجب لتعليق الملابس، جلسا في الصالة حول مائدة تكاد تكون مربعة الشكل، كانت الشقة مكونة من غرفتين وحمّام، وفي هذا الحمام كانت هناك امرأة تستحم، لأنه سمع صوتها ممزوجا بصوت الماء النازل من الدش يقول: أظن أن العطش قد أخذ منكما الشيء الكبير. قال ستار: ظنّك يا ربيكا في مكانه، لا تتأخري علينا لو سمحت. وما هي الا لحظة، وقبل أن يتكلما بأي شيء، جاء بزجاجتي بيرة وثلاثة أكواب وضعها على المائدة بطريقة آلية، قال ستار: انضمي الينا بعد أن تنزعي مخلفات السحالي التي تجمعت على جسمك.

لم يعلق نوري على ما سمعه رغم أنه أبدى دهشة، قال ستار: كنت قد سألت عني لويزا في المكان الذي تنتف فيه ريش الديكة الرومية؟

ـ سألت عنك كثيرين لكي أصل اليك.
لكن لويزا غير أولئك، ربما اشتغلت هناك لأنها تحب أن تقطع الأشياء، ومثل الديكة التي تلف أوصالها في الأكياس كانت تلف الملاءات والملابس، عندها أن المنشفة تصبح في غاية الكمال عندما تتمكن من النظر من خلال نسيجها، أمر لا يمكن احتماله. الآن اعرض أمرك، لكن قبل ذلك دعني أقول ما أعرفه عنك، وبعد ذلك نقرر معا فيما إذا كانت الحلول ممكنة للمشكلة التي أنت فيها أم لا، عمرك ثلاث وثلاثون سنة، غير متزوج.

ـ هذا صحيح.
ـ جئت الى المانيا قبل ثمان سنوات، تعمل في وكالة شتيرنه لتسويق السيارات. وقبلها تعرضت أكثر من مرة للطرد من غرفتك لأن الأعمال المؤقتة التي عملت فيها خذلت توقعاتك، وتريد مني الآن أن أزودك بما طلبه منك ماريو المكسيكي.
ـ كمية من الشعر الأحمر.
ـ من أولئك الذين لهم شعر أحمر ولاقوا حتفهم لسبب من الأسباب.
ـ بالضبط.
ـ وقد جاءت بهم المستشفى ليأخذوا مكانا لهم في ثلاجة انتظار الموتى حيث أعمل، ريثما يأتي من يطالب بهم.
ـ أنت تعرف كل شيء.
ـ لقد ذهبت الى ماريو لأنك تعلم أن الطبيعة ترسل للمرء إشارات كتلك التي يراها في الاحلام، ولكن إن لم يفهمها ضاعت منه الفرصة.
ـ لكن فهم الاشاره وحده لا ينفع ان لم تزودني بذلك النوع من الشعر، وأنت قادر على ذلك.
ـ لتحرق بعضها كل ليلة الى أن يتحقق المطلوب. ولكن، هذا يكلف الكثير، تعرف أنا لست وحدي والأمور ليست كما تتصور، وأعداد ذوي الشعور الحمر قليلة مقارنة بغيرهم.
بدأ الظلام يخيم على الغرفة فأخذت طابعا غامضا، كان الصوت يأتي من الناحية التي فيها الحمام، صوت ماء قوي ينزل في حوض، قال ستار: تشبه ربيكا كائنا برمائيا، أنها تملأ الحوض الآن لتغطس فيه، وهذا من أعاجيبها.
ومن هناك سمع نوري نداء أو صوتا يشبه رنين جرس: أرجوكما ابقيا على حصتي ريثما أخرج. قال ستار: لا تخافي حقوقك محفوظة، الى الآن كل شيء في مكانه.
ثم الى نوري: هل صحيح أن إدارة العمل عندكم تريد الاستغناء عن بعض العمال في ورشة العمل؟ أجاب: ربما.
قد يقع الاختيار عليك.
وأضاف: وقد يقع على فوراتيس زميلك.
قال نوري وقد أزعجته هذا الابتعاد عن الموضوع: ماذا سأقول لماريو لو سألني؟
مع أن ماريو هذا شخص لا أعرفه وليس لي أي دافع للتعرف على أمثاله، ولكن اخبره سيكون الشعر الأحمر معك عندما يصل الى الثلاجة من له المواصفات المطلوبة
ـ وكيف يتم التسليم؟
ـ ليس صعبا الوصول إليك.
وبعدها قام ليغادر، سمع صوت الماء ثانية قادما من ناحية الحمام، كان ذلك بالنسبة له أثرا خلفته وراءها، قال بصوت عال: وداعا ربيكا.
سمعها تقول: لا شك، سنرى بعضنا في يوم ما أو.
ـ نعم سنرى بعضنا دون شك.
وقبل الذهاب الى المنزل عرج على المحل الذي يبيع الخبز والعديد من أنواع المعجنات، وقد فاجأه هناك وجود لويزا في المحل فقالت له أنها رأت "ستار" في مقهى نابليون قبل أكثر من ساعة، تعجب من كلامها، إن كان ذلك صحيحا فمن ذلك الذي اجتمع به؟
وبعد أن تسلم كل منهما طلبه حاسبا البائعة قبل أن يفترقا.

الفصل الثاني
هذه ثالث مرة هذا اليوم يستوقفني فيها أحد ليسألني ان كانت معي ولاعة، وهذه هي المرة العاشرة وربما أكثر التي أعبر بها عن أسفي لأني لا أحمل ولاعة، أقول المرة العاشرة لأني اكرر أسفي للمقابل أكثر من مرة، ليس لأني أشك في سماع المقابل لأسفي لذلك أكرره، بل لأني أعرف حاجة الشخص الذي سأل الشديدة للولاعة التي لولاها ما سأل، لذلك تضامنا معه أكرر الأسف أكثر من مرة، وأحيانا كنت أريد أن أضيف الى أسفي جملة أو جملتين مثل، أنا لا أدخن لأنه يصيب ميزانيتي بالخلل، أو انني مثله أدخن لكن في المناسبات، أو أشياء أخرى من هذا القبيل. المرة الأولى كانت وأنا أفتح باب محل الملابس المستعملة الذي أعمل فيه لإحدى الزبونات لتخرج، وعندما أصبحت في الخارج أخرجت من علبتها سيجارة وسألتني ان كان معي ولاعة، المرة الثانية كانت عندما ذهبت الى دائرة البريد لأبعث بعض الرسائل من تلك التي كانت السيدة فروزة، التي تدير العمل، تملي بياناتها وترسلها الى الجهات ذات العلاقة بطبيعة العمل، كنت أنا دائما من يقوم بهذه المهمة، ولان دائرة البريد لم تكن بعيدة فاني كنت أقطع المسافة مشيا على الأقدام، وقد حدث هذا اليوم أن استوقفني أحدهم وكان يعلق سيجارة بين شفتيه ليسألني السؤال نفسه،أما المرة الثالثة فقد حدثت بعد أن عرضت للسيدة كنت أراها من حين لآخر والتي وقعت أثناء ما كانت تعبر الشارع مثلي استعدادي لمرافقتها إلى بيتها فطريقها هو طريقي نفسه، فمدت لي ذراعها على الفور لأعينها على الوقوف مرددة: لقد رأيتك من قبل. كان كعب حذائها قصيرا، وكانت نحيفة بشكل ما وسألتني ان كان معي ولاعة وعندما أبلغتها أني لا أحمل ولاعة عادت بالسيجارة الى حقيبتها ولم تدخن.

بعدما انتهى وقت عملي في مخزن الألبسة المستعملة الذي يعود الى الصليب الأحمر، ودعت فروزه المشرفة على المخزن. كان أملي أن أرافقها الى شقتها وأظل معها كما هي العادة، لكن بسبب موعدها مع طبيب الأسنان غيّرت برنامجي فتوجهت لزيارة ستار في شقته آملا أن أمضي السهرة عنده، وهي لا تبتعد كثيرا عن المكان الذي أعمل فيه، لم أتصل به لابلغة بقراري، لأني أعرف أني سأجده في شقته في مثل هذا الوقت. بعد مغادرتي الشتراسن بان بوقت قليل، وبينما كنت أسير باتجاه شارع يوهانيس الذي يوصلني الى شقته استوقفني صوت مكابح سيارة الأجرة التي وقعت أمامها السيدة العجوز، على إثر ذلك طارت من يدها مظلتها فوق خطوط العبور، فانحصرت آراء الواقفين أمام ما حدث في أن سائق السيارة التي كادت أن تدهسها هو السبب، لم يكن الضوء الأحمر يسمح له بدخول ميدان فلهايم بلاتز، أراد السائق أن يدخل، لكن في اللحظة الأخيرة كبح اندفاع سيارته، فوقفت السيارة في مكانها بينما السيدة وقعت على الأرض من هول ذلك الصوت الذي سمعته.

الانطباع الذي خلفه هذا الحادث هو أن المعيشة في ألمانيا أخذت تزداد سوءا يوما بعد يوم، وإن الأجانب فيها، وهذا السائق واحد منهم، تجاوزوا الحد المعقول في تهورهم، و أنهم يخالفون قانون السير وغيره من القوانين لأنهم من بلدان أخرى لا تعير أهمية لذلك، هذا إذا كان لهم قانون ينظم المرور أصلا، وكثير منهم يزاحمون أبناء البلد على اشغال أماكن العمل.

نظرت السيدة حولها دون أمل، وتطلعت إلى أطراف أصابعها التي بانت من قفازين أسودين أدخلت كفيها فيهما. وصلت سيارة إسعاف بعد دقائق لكنها لم تسمح للرجلين اللذين نزلا منها برفعها على نقالة، وأوضحت لهما وللجميع حولها أنها على ما يرام، ورجت من كل شخص الذهاب إلى حال سبيله، طلب أحدهم من سائق الإسعاف إيصالها إلى منزلها في 23 شارع فولف شتراسه ويطلق على المبنى اسم "عش السناجب". وقال أيضا: أعرف هذه السيدة، ولقد أوصلت إلى مسكنها مرة سجادة اشترتها من المحل الذي أعمل فيه، وبعد أن فرشت السجادة وأخذ البيانو مكانه في زاوية من الصالة فوق السجادة، كافأتني بدعوتها لي للاستماع الى مقطوعة من عزفها، وبالفعل استمعت قبل أن أغادر.

لكن الذي لا يعرفه هذا الرجل هو أني أعرف هذه المرأة أكثر من معرفته لها، وأنا ذاهب مثلها في الاتجاه الذي يقودها الى الشارع الذي فيه البناية رقم 23 والتي يسكن فيها ستار، وشقتها التي في الدور الأول تقع تحت شقته مباشرة.

بعد أن كررت لها اعتذاري عن الولاعة التي لا أحملها قالت لي: قبل أن يحدث معي هذا الذي كنت شاهدا عليه كنت متطلعة الى مشاهدة مسرحية غنائية في قاعة صغيرة قريبة من هنا، وبعد أن وضعت ورقة العشرة أورو على مستوى حنك قاطعة التذاكر الجالسة في قفصها، قالت أنها ستعطيني تذكرة جلوس في الصف الخامس، على الفور عرفت أن ذلك تصرف معاد مقصود من قبلها، فالعرض يوشك أن يبدأ، ولم يكن هناك في القاعة أكثر من عشرة أشخاص، فلماذا تعطيني تذكرة تجعلني أجلس منعزلة وحدي في الصف الخامس؟ لم تكن هذه القاعة تعجبني لأن كراسيها تصدر أصواتا عند جلوس أحدهم، أو أثناء تحركه في مكانه، لكن أفضلها على غيرها لأنها قريبة وأصل إليها سيرا على الأقدام. قامت قاطعة التذاكر وأغلقت ستارة المدخل لئلا أمعن النظر إلى الصالة، في هذه الأثناء أخذت ورقة النقد وأرجعتها إلى محفظتي، وأنا أقول لها وداعا سآتي إلى هنا فيما بعد، وأضافت: لو كنت دخلت إلى تلك القاعة ما حدث الذي حدث لي، لكن صوت الكراسي لا أحتمله عندما أكون أنا المستمعة، ولا أحتمله عندما أكون أنا من يعزف. قلت: أحيانا أستمع لعزفك على البيانو عندما أكون في زيارة لصديقي الذي يسكن فوق مسكنك. فقالت يسرها أن أستمع لعزفها متى رغبت.

كانت هذه أول مرة أتبادل معها الحديث، لم يحدث سابقا أن جمعني وإياها حادث ما، رغم أني رأيتها مرات عديدة عند مدخل المبنى وأنا ذاهب الى ستار أو خارج من عنده، ورغم أني بسببها اختلفت مع ستار مرات عديدة، فهو يكاد يفقد عقله عندما كانت تضرب عليه السقف طالبة منه الكف عن إزعاجها بما يصلها من أصوات، وكانت كثيرا ما تفعل ذلك، وهو يعتبر أن ضربها عليه لا يعلن الا عن سوء نظرتها المسبقة له، وأحيانا يسمعها تقول: كفوا عن الضجيج واتركوني أشتغل، وهي برأيه ليست أكثر من أنها تدعي الانشغال بتأليف شيء ما أو قطعة موسيقية، فأقول له: لكنها تعزف على البيان،و وقد تكون الأصوات الصادرة هنا تشتت عليها تركيزها.

وهل نحن طيور نرفرف بأجنحتنا عندما نتنقل من مكان الى آخر في الشقة، ثم أنها لا تحتاج الى كل ذلك الهدوء، هي تستطيع أن تجلس متى شاءت الى البيانو، وتعزف ألحانا أو مقاطع موسيقية لأولئك الذين تعلق صورهم على الجدار في صالتها، موزارت أو غيره، وهذا لا يحتاج منها الى كل ذلك التركيز، لقد أعادت عزف المقطوعات نفسها مئات المرات، المفروض وهي تعزف تلك المقطوعات التي حفظتها عن ظهر قلب أن تضرب مفاتيح البيانو وهي مغمضة العينين، كما يفعل ذلك غيرها.

كنت أعرف أنها كل يوم، وربما في اليوم أكثر من مرة، تجلس الى البيانو، تبتسم في صمت وتقدم تحياتها للصور العديدة المؤطرة المعلقة على الجدار أمامها، إحدى الصور كانت لمعلمتها التي علمتها العزف، والتي كانت مجنونة بحبها للموسيقى، وترسخ هذا الحب في نفسها عندما ماتت تلك المعلمة قبل أكثر من ربع قرن، وأوصت بالبيانو أن يكون لها، وكانت الصور الأخرى لكبار الموسيقيين القدامى، صورة لبيتهوفن وأخرى لموتسارت وشتراوس، شوبرت وفاجنر، باخ وبرامز، فاجنر، شومان، بروكنر، هايدن.

أتذكر بكل وضوح انني كنت عند ستار قبل أيام وقد كانت ربيكا حاضرة، انها ضربت علينا سقفها بعصاها مرات عديدة، طالبة الهدوء من الذين فوقها، وبعد ذلك قال ستار لربيكا: هل بمقدورك أن تقومي بعمل ما يجعلها تبرك على الأرض بقية حياتها كالفقمة، قالت ربيكا: لم يعد عندي شك واحد في أني أعرف تنقلاتها في الشقة كما هي الآن لأنها هي نفسها كما في كل يوم، أنصتوا من فضلكم، أنا الآن أراها بوضوح، لقد عملت لنفسها القهوة، وبعد قليل قالت: لقد صبتها في فنجان، حملته الى حيث البيانو لتأخذ منه رشفة هناك، إنها تنظر الى صورة موتسارت، هل تسمعان مفاتيح البيانو التي ضربت عليه لتكرر عزف احدى مقطوعاته. وبعد فترة قصيرة قالت، انتهت المقطوعة، نهضت الآن متوجهة الى النافذة لتقف عندها، ولكن ها هي تعود الى البيانو، لتكرر المقطوعة ذاتها، قال ستار: هل هذا يستحق أن تضرب علينا سقفها؟ قالت: الذنب ذنبك، عليك أن تريها ما أنت تخفيه، العب معها بالنار التي كنت تلعب بها مع الناس.

أما هي فقد عادت الى البيانو لكنها لم تستطع مواصلة الجلوس فقامت الى النافذة وبعد قليل عادت الى البيانو، لقد جاء دور بيتهوفن، نظرت اليه بتقدير ومحبة قبل أن تعزف له شيئا، بعد ذلك في تلك الليلة كنا قد خرجنا أنا وهو وربيكا الى مقهى نابليون، لنترك العجوز وقد شغلها هايدن حتى منتصف الليل، وقد أخذت فنجان القهوة الثاني ثم الثالث، وبين منتصف الليل والواحدة صباحا لم تفعل أكثر من النظر الى الصور الشخصية المعلقة والوقوف عند النافذة محملقة في النجوم، ومن حين لآخر تذهب الى البيانو وتعزف واقفة أنغاما متقطعة على لوحة المفاتيح وكأنها تبحث عن فكرة ما، لكن الفكرة ما زالت بعيدة المنال، فقامت الى النافذة، متوسلة العون من السماء على تدوين صفحة واحدة من تأليفها، وأن تبقى خالدة كما كتب أصحاب الصور هؤلاء آلاف الصفحات. لكن الوقت تقدم كثيرا وهي غير قادرة على الصمود أكثر، هي الآن متعبة ومحبطة ومستنفدة وعليها أن تذهب الى فراشها بانتظار ما يأتي به اليوم التالي. وقد نامت قبل أن أذهب أنا الى شقتي ويرجع ستار مع ربيكا الى شقته.

عبرت مع السيدة العجوز الميدان الصغير إلى الجهة الأخرى وتوقفنا عند مقهى "سالزبورك"، فكرت: كان من الأفضل لها أن تكون على سرير في المستشفى تحيط بها الممرضات بطريقة لطيفة، يسألنها عن اسمها وأسماء من تعرفهم، وعن أي نوع من الزهور تفضل، وأي الأغاني والموسيقى تسمع، الجميع يشدون من عزمها وهم يزيلون عنها الألم بحقنة أو ضمادة. أردت أن أقول لها ربما الأمر يستدعي دخول هذا المقهى لتأخذ بعض الراحة، قالت: لا أظن أني بحاجة لذلك. وبينما كنت أنظر من خلال زجاج واجهة المقهى الى مجموعة من العمال قد تحلقوا أمام البار، وآخرون توزعوا منفردين على الطاولات، حدثتني بما أصبح لها مجرد ذكرى بعيدة، بعدما هجرها زوجها فلم تعد تعرف شيئا عن حياته الخاصة. كانت مفاجأة غير سارة لها عندما قرأت نبأ وفاته قبل فترة في إحدى الجرائد، فعرفت أنه مات في كندا، لم يكن لديها أي علم عن مكان إقامته قبل ذلك، فبعد سنة من انفصالهما تكونت له اسرة ثانية، استمر معها إلى أن فارق الحياة، لم تحتفظ من حياتها تلك الا بمجموعة من الصور التي أخذت في مناسبات متفرقة، صورة فالدمار ابنها في حفل عيد ميلاده الخامس، وأخرى عندما أنهى مرحلة دراسته الابتدائية، لقد ارتحل الآن إلى مكان آخر لتأخذ منه التجارة جميع وقته، وصورة لانستاسيا ابنتها وقد سقط لها واحد من أسنانها اللبنية، وصورة أخرى أثناء تخرجها في المعهد الطبي، وهي تراها من فترة إلى أخرى بعد أن تزوجت وهي الآن في بيتها بمدينة لايبزك.

كنا نسير عندما عبرنا واحد من المتسكعين، ظهر لنا وهو يحمل زجاجة خمر بان أعلاها من جيب داخلي، وصل الينا صوت نفير من مركب كان يمخر عبر الراين قريبا من جسر تسوو، كنا نسير على هذا النحو، عندما لاح لي جزء من بناء كنيسة شتفتس أصبحت تتحدث عن الحياة التي أصبحت لا تطاق، وعن هدايا عيد الميلاد القريب، وعندما دخلنا شارع الكسندر شتراسه سألتني مرة أو مرتين عن مهنتي وتطلعاتي، وما فشل منها وما نجح، لكن قبل مباشرتي بالرد تعود إلى الحديث عن نفسها، وعن أحب المقطوعات التي تحب أن تعزفها.

كنت أسير كما لو أني أخذ بيدها خلفي برقة، فكرت برد فعل ستار لو رآنا معا بهذا الشكل الذي كنا عليه،لا شك أنه سيعتبر ذلك ضربة محبطة لمشاعره، وقبل أن ندخل في شوتسن شتراسه حدثتني عن دعوتها لرفيقات عرفتهن في أوقات متفاوتة وأناس يستمعون للموسيقى ويقدرونها جيدا، في مثل هذه الدعوات وقبل أن تبدأ بالعزف تحرص على تهيئة أباريق الشاي والقهوة، وقطع الكيك وأنواع الحلوى، لقد حدثني ستار عن مثل هذه الدعوات التي كانت تقيمها، وبرأيه أنها لا تعوّل عليها كثيرا، لأنه لم يعد يهمها سواء كان من دعتهم يتحدثون فيما بينهم أحيانا أثناء عزفها أو يبدون رأيهم في أشياء كثيرة، الذي يهمها فعلا هو أن يشدون على يدها، مبدين استحسانهم قبل أن يودعونها. لمعت عيناها بفعل الضوء الساقط من فوق، أثناء ذلك اهتز جذعها كأنها تريد أن تطلق نغمة في الهواء. صدرت مني حركة ربما فسرت ذلك أن رحلتي معها انتهت عند هذا الحد، فضغطت على ذراعي وسمعت صوت تنفسها، قلت: هل كل شيء على ما يرام؟

ـ بالتأكيد وأنا معك.
لكن الذي أوشكت على قوله هو أن لها شكلا سيكون أكثر تعبيرا عندما تتقدم قليلا في المقعد الذي تجلس عليه الى البيانو قبل أن تعزف، عندما تفرد جسمها حتى تستقيم في جلستها قبل أن تنحني ثانية على لوحة المفاتيح، يلوح أنفها مدببا أكثر أثناء ذلك، عندما تضرب مفاتيح معينة وبعد سبع ثوان، تضرب مفاتيح أخرى وبعدها تسمع أحدهم يسعل، ثم صوت احتكاك بعود ثقاب، لا يهم، في نهاية العزف ستهز رأسها تحية لهم. كنا قد خلفنا شوتسن شتراسه ودخلنا شارع فولف ولم يبق أمامنا غير مسافة قصيرة نصل بعدها المبنى رقم 23. وما (عش السناجب) إلا لوحة تركها صاحب مكتب العقار، الذي كان يشغل الشقة المجاورة لها في مكانها منتقلا إلى مكان آخر. رأيت مجموعة من الفتيات الخارجات من المتاجر وهن غارقات في لجة من الضحك والحديث بصوت عال، كن يتدافعن عندما توقفن أمام المدخل، خيل لي أني أسمع عزفا على البيانو كالذي أسمعه أحيانا عند وصولي هنا، ربما كان ذلك بفعل العادة لأن التي كانت تعزف ليست في شقتها الآن. عندما دخلنا توقفت عند باب شقتها، وهناك انطفأ نور الممر، لكنه عاد بعد ثوان. قلت: لا شك انك مرهقة وعليك الخلود إلى الراحة. ثم صعدت الى شقة ستار مسرعا.

كان ستار في الشقة، قبل أن يفتح لي الباب سمعت صوته يتحدث مع ربيكا. قال وهو يتطلع الي: يمكنك أن تخلع الحذاء وتضع قدميك على المدفأة اذا كنت تشعر بالبرد، وخذ بعضا من هذا. ودفع لي بزجاجة. لم تعد ربيكا ترافق ستار كثيرا هذه الأيام، وهو غير مرتاح لوجودها معه، مع أنه يصرح لي بغير ذلك، هو ليس مثل الناس جميعا عندما يروق لهم شيئا ما يقولون مباشرة أنه جيد أو مقبول، وأشياء من هذا القبيل، وإذا لم يعجبهم يقولون "شايزة" الكلمة التي يرددها الألمان معبرين عن خيبة أملهم في أمر من الأمور، ربما يظن غيري ممن يسمعه أنه غير جاد في تعبيراته، لكني أفهم وضعه هذا، ونحن نختلف في هذا الموضوع، فلأن مقهى برلين يرتادها الكبار في السن ممن لا يعجبه رؤيتهم فإن لها برأيه الزواحف السود وما يأوي إلى جحر الأرض من الفأر والخنافس، أما مقهى بونابرت التي يفضلها على جميع المقاهي ففيها برأيه القوة الغازية والريح التي في الفؤاد لأن من يجالسهم هناك هم من الشباب والفتيات الجميلات، وأغلب علاقاته مع الفتيات تبدأ من هناك، وقبل ربيكا كانت فانيسا، وقد أمضى بصحبتها فترة أكثر من شهرين قبل أن ينتهي بها المطاف الى ممارسة البغاء بالقرب من محطة فرانكفورت الرئيسية.
مرة تناهى الى سمعنا عزف السيدة التي تسكن تحت فقال ستار: انها تضرب على المفاتيح كما لو كانت وسط حقل مزروع بالفلفل والزعرور والرمان الحامض. وأضافت ربيكا: وأثمار شجرة العفص أو الخروع أو التين الحامض.

قال ستار: لنا الهند والحبشة والجبال التي لا تنبت، ولها جبال الألب وما بين الراين والدانوب.
كانت ربيكا قد دخلت الى الحمام، وعندما خرجت كان شعرها يقطر ماء، فجلست بيننا تجفف شعرها على حرارة المدفأة، وأثناء ما كانت تفعل ذلك قال ستار لها مشيرا الي: قولي له كيف كان يسير معها حول ميدان فيلهايم بلاتز. لم تقل ربيكا شيئا، قال: هل كنت تغني لها (رفرفي بجناحيك، الرذاذ يتساقط)؟ قلت: أظن أنها مكسورة الجناح.
قال: كان عليك قبل ذلك تركها على رصيف أي شارع، بدل أن تصحبها الى باب بيتها.

رفعت ربيكا من صوت الأغنية التي كانت تعرض في التلفزيون وأخذت تهز جسمها وتتقافز مع العزف المتسارع، وقام ستار الى المطبخ باحثا عن شيء ما في الدولاب الذي فتح بابه بعنف، وأقفله بعنف، تبعته الى المطبخ وهناك قلت له: هل تعرف أنها عندما تقوم من عند البيانو لتذهب الى النافذة، فأن النجوم التي تنظر اليها من هناك تبدو لها أشبه بنوتات موسيقية كثيرة جدا مثبتة في السماء. في هذه اللحظة سمعنا الضربات التحذيرية تحتنا، فصاح ستار يا الهي، عادت الى طبيعتها العدائية، لم أعد أحتمل.

كنت أعرف أن فكرة ربما تخرج بين حين وآخر من أعماق وعيها فتسرع الى البيانو لكي تمنحها الحياة، لتترجمها الى جملة موسيقية أو لحن، لكن كما يبدو كانت تفعل ذلك بلا طائل، تلاشت الفكرة وابتعدت عنها، وفي أحيان أخرى كانت تدع أصابعها، وهي جالسة الى البيانو، تتجول كما اتفق لترى ما اذا كانت ستسيل من بينها روائع كما سالت من بين أصابع موتسارت، لكن لا شيء أبدا، لم يأت الإلهام وبقي خيالها هامدا مثل كل يوم، واذا ما ظهرت بالصدفة فكرة واضحة وجميلة، اكتشفت أنها ليست الا صدى من قطعة موسيقية ألفها شخص آخر، عندئذ تنهض متضايقة وتأخذ العصا لتنقر على السقف تطلب من الذين يسكنون فوقها أن يخففوا من ضوضائهم التي تحبط معنوياتها، وتجعلها غير قادرة على التركيز. تفعل ذلك وهي تقسم أنها ستهجر الموسيقى، وتذهب لتزرع البطاطا في مزرعة أختها، لكنها بعد عشر دقائق، تعود للجلوس الى البيانو وعيناها مشدودة الى صورة موتسارت لتعزف إحدى مقطوعاته.

كنا نتحدث غير آبهين لمرور الوقت عن الأبراج والمعادن النفيسة وعن أمريكا التي تحشد جيوشها قبل أن تبدأ حربها في العراق، وتحدثنا عن أشياء أخرى. سمعت ربيكا بعض من ذلك وسخرت مما نحن فيه، فقال لها: أنت بالذات اسكتي، من جديد أخذت تهز أطرافها على صوت الموسيقى العالية فعادت الضربات من جديد، كل ضربة منها كانت تصيب ستار بالفزع، أخفضت ربيكا صوت الأغنية فصاح محذرا: لا تفعلي ذلك، هذا يجعلها تمادى اكثر في تعذيبنا. توقفت الضربات وما لبثت أن عادت ثانية ثم توقفت، بعد ذلك بخمس دقائق قال ستار: سكوت أرجوكم حتى نعرف من يطلع درجات السلم في مثل هذه الساعة. توقف صوت الخطوات عند باب الشقة، قال: سنسمع الآن يدا تضرب الباب. بالفعل كانت هناك ضربتان على الباب، قفزنا جميعا من أماكننا لكني أنا الذي فتحت فوجدت السيدة أمامي منفعلة، قالت: قل لصاحبك أنه لا يستطيع أن يجعلني أكره البيانو، لا يستطيع أن يجعلني أبحث لي عن مزرعة لأزرع فيها البطاطا بدل أن أعزف، هيهات أن أنفد له ما يريد، قال ستار: بعضهن يشبهن الفانلة، ينزعها المرء متى اتسخت، أو هن أشبه بعود تنظيف الأسنان، يرمى بهن بعيدا متى انتهى المرء من استعماله. عادت تقول وهي تنزل السلم: لن أترك البيانو وأزرع البطاطا.

بعد أن أغلق ستار الباب قال: لا تصدقوها، لا تعرف زراعة البطاطا ولا زراعة شيء آخر، وحتى لو زرعت البطاطا فإنها ستكون من النوع الذي لا تشتري الكيلو منه بسنت واحد.
قالت ربيكا: على فكرة، يجب أن نشتري بطاطا غدا فليس لدينا حبة واحدة.
لم يجبها ستار، دفع نفسا طويلا وهو يقول: يجب أن أخرج، هذا أفضل لي. قالت ربيكا: نخرج معا جميعا. قال: ـ لا، أنت بالذات لا.
قالت: يا لك من أحمق وأنت في معطفك، أحمق وأنت تلعب ألعاب الحواة.
قبل أن يخرج قال: سأذهب إلى مقهى بونابرت.

قمت بحركة كما لو كنت أغلق عليه طريق الخروج قائلا له: لا داع لأن تقول ذلك لربيكا. في هذه الأثناء تركت ربيكا مكانها، وعندما وصلت إليه رفعت كفها ولطمته على خده، تقهقر إلى الخلف فاصطدم رأسه بالحائط، قال: مع ذلك لا أريدك منك أن تلحقي بي. وخرج من الشقة. قالت ربيكا: لم يخرج الى المقهى الا ليعرض على من يجلسون هناك ألعابه التي تعلمها وهو صغير، عندما كان في المدرسة التي في بلادكم.

ـ أية ألعاب تقصدين؟
مرة في احتفال مدرسي وقف ستار ينظر الى ذلك الرجل الذي حظر الى المدرسة لعرض أشياء تجعل الطلبة وجميع الحاضرين يهتفون له من الإعجاب، فهو قادر على إخراج الأرانب من وراء ظهر المدير، والأفاعي من جيب أحد المعلمين، والسحالي من حقيبة أحد المتفرجين، فيصعق الجمهور من الإثارة، وفي المرة الأخيرة قبل أن ينهي استعراضه جعل دبا صغيرا يخرج من بين أصابع يديه، ثم يضغط على الدب من طرفيه فحوله الى آلة أوركوديون، فانفجر الناس مصفقين وهو معهم، آنذاك قرر أن يتبع ذلك الرجل أينما ذهب ليأخذ منه العلوم التي تعلمها في هذا الشأن، وخفة الأصابع التي يلعب بها ضاربا عرض الحائط بكل التحذيرات التي كان قد تلقاها من المدير والمعلمين وأهله والناس الذين يعرفونه والناس الذين لا يعرفونه، لأن هذا الطريق الذي سار فيه هو طريق المارقين، لا تودي به الا الى الهلاك. وذات يوم، بعد أن انتهى من تناول طعامه في أحد المطاعم، وحانت ساعة دفع الحساب، مد يده الى جيبه ليخرج النقود، لكنه أخرج بدلها سنجابا أحمر، فلم يفزعه هذا الاكتشاف، بالعكس أدهشه وأدهش الحاضرين ممن كانوا في المكان، واعتبروا ذلك عرضا جيدا قد تم بالتعاون مع صاحب المطعم، الذي تلقى الإعجاب هو أيضا على هذه المبادرة الحسنة التي لم يفعلها مطعم آخر في المدينة، وسأله صاحب المطعم: كيف تفعل مثل هذه الأشياء؟ ولم يستطع أن يجد تفسيرا، ودون أن يوجه له أسئلة أخرى عرض عليه أن يعمل عنده مقابل أجر مغر، وهكذا بدأ من ذلك الوقت عمله وهو تسلية الزبائن بما كان يقوم به من أفعال، ولم يرحب صاحب المطعم بواحدة من ألعابه وهي أن يقدم للمشاهدين أشياء يسحبها من جيبه الداخلي، ورأى أن هذه الطريقة قد تجلب المزيد من الخسائر مستقبلا، فسرحه من العمل.

لكن واحدا من أولئك الذين يبحثون عن من لهم مثل تلك القدرات، كان مطلعا على قدراته، عندما عرف أنه غير مرتبط بعمل مع المطعم، قال له تعال اعمل معي فعمل معه، وقد كان ذلك الرجل يهدد به عندما كان يفرض إتاوات على بعض التجار في سوق المدينة ومركزها التجاري، فهو قادر أن يجلب الخراب على ذلك التاجر بواحدة من ألعابه، لكن بعد فترة عندما وصلت شكوى أولئك الى مسامع من كانوا في قيادة أمن المواطنين، ألقوا القبض عليه، ولم يخرج من السجن الذي زج فيه الا بضمان أن لا يعود الى ألاعيبه الشريرة. وبالفعل لم يعد الى ذلك الا في حدود ضيقة جدا، ويمكن القول أنه كان يفعل ذلك في دائرة الأهل والأقرباء وحفلات الأصدقاء، ولكن حدث مرة أن عاد ثانية الى ألاعيبه، وفي حفل كان يحضره أحد المسؤولين في الحزب الحاكم أخذ يخرج من قفا المسؤول هذا خنافس وفئران، ضحك الناس أمام هذا الذي يحصل أمامهم، وبدافع أن المسؤول شعر أنه أصبح أضحوكة أمام الآخرين، وهو الذي له الهيبة أينما حل، قرر أن يلقى ستار عقابه على أفعاله، وفي الليلة نفسها وصل ستار خبر أن ذلك الرجل أعطى أوامره بإلقاء القبض عليه بتهمة الإهانة التي وجهها للحزب، من خلال أهانته لعضو مهم في الحزب.

ولأن ستار يعرف ما ستؤول له الأمور لو وقع بأيدي من سيأتون لإلقاء القبض عليه، فإنه اتخذ الخطوة الحاسمة بالتخفي والتنسيق مع من يأخذ بيده ليعبر به حدود العراق، والسير بالطريق التي ستوصله الى أوربا، لكنه عانى كثيرا في الدول التي مر بها. في تركيا عمل في سيرك، وكان مدير السيرك يرقبه وهو في أشد حالات السخط، إذ لاحظ عدم مبالاته بتحية الجمهور وخاصة الأولاد الصغار أثناء الحفلات الصباحية، فطرده ولكن بالنقود التي تجمعت معه وصل الى هنكاريا، ومع ازدياد شهرته هناك أصبحت حياته لا تطاق، وبمساعدة بحار عجوز وصل الى ألمانيا على ظهر المركب الذي كان يمخر عباب نهر الدانوب الى جنوب ألمانيا، جلست ربيكا على الاريكة ساهمة بعد أن انتهت من كل هذا الذي روته قالت أنها سمعتها من ستار مرات ومرات. كان الهدوء يسيطر على المكان آنذاك، ربما كانت تستمع الى نداء قلبها بالذهاب خلفه الى مقهى بونابرت مهما كلفها ذلك من ثمن، وربما كانت تستمع للأنغام المنبعثة من بيانو السيدة التي تحت، كان عليها أن تعرف أن ستارا مشغول بأشياء كثيرة غيرها، وحتى الليلة تعرف جيدا انه لم يخرج الا بسبب استغاثة وصلته من مقهى بونابرت، لكن ماذا عليها أن تتوقع غير ذلك، كانت حمقاء عندما علقت الآمال على أنهما سيمضيان الليلة معها، وحتى لو لحقت به الى مقهى بونابرت سيبدو لها رجلا غريبا يثرثر ويسلي المجموعة التي تجلس معه بألعابه، هو سعيد بعمله هذا، بينما يتركها جالسة في مكانها كأنما هي شيء ما عاد بحاجة اليه من أحد.

قلت لربيكا على أن أذهب، وأضفت: وماذا ستفعلين؟ قالت سأتدبر أمري، ودعتها وخرجت، كان الوقت متأخرا، عليّ أن أخلد الى النوم لأذهب صباحا الى العمل.

الفصل الثالث
في متجر بيع الملابس المستعملة الذي أعمل فيه والتابع للصليب الأحمر، التقيت فروزه لأول مرة، فهي التي تشرف على سير العمل في المحل، وهي سيدة ألمانية تجاوز عمرها الأربعين عاما بثلاث أو أربع سنوات، كانت تفرض احترامها على الجميع، وقد أصبح الكثير من الزبائن أصدقاء لها ومعارف تودهم ويودونها، وتسأل عن أخبار بعضهم اذا انقطع عن المجيء فترة طويلة، ويسألون عنها اذا دخلوا الى المحل ولم يجدوها. ولأن المحل يبيع بأقل من أسعار السوق فالكثير من الذين يترددون عليه كانوا من النساء المتقدمات في السن، أغلبهن من المهاجرات الروسيات ومن بلدان أوربا الشرقية، تعودت على سير العمل هناك بعد معاناة، كنت أخشى ما أخشاه أن تظهر علامات الضجر على وجهي أو تصرفاتي في طبيعة التعامل معهم، لأن ذلك سيكون سببا في طردي من العمل الذي لم أحصل عليه الا بعد أن ضاقت عليّ السبل، أعمل كل أسبوع خمسة أيام وكل يوم ثمان ساعات أو عشر وأحيانا أكثر من ذلك، وهكذا. كان أملي في بداية عملي هنا أن يكون هذا مجرد بداية، بعدها أستطيع العمل بحسب المؤهل الذي حصلت عليه عندما أنهيت الدراسة في أحد معاهد إدارة الأعمال التابعة لجامعة بغداد، وربما يأتي يوم أستطيع أن ألفت أنظار أحد في الصليب الأحمر بعملي المتفاني وينقلوني من هذا العمل إلى أحد مراكز الصليب الأحمر الأخرى لأعمل في أحد أقسامها، بعيدا عن الملابس ورائحتها، كل يوم أقول سيأتي ذلك اليوم وهو ليس ببعيد لكن لحد الان لا أمل يلوح في الأفق، أجلس بباب المحل أستقبل النساء الداخلات وأودع الخارجات، أفتح لهن الباب وأغلقه خلفهن، أغلبهن يحببن أن أرشدهن إلى ما هو أفضل من غيره من الثياب، وأغلبهن يحببن أن يأخذن رأيي فيما ارتدينه من ثياب للتجربة. وبعضهن يقلن لي على سبيل المداعبة: ما رأيك شريف؟ أقول وأنا أدقق في التفاصيل: جميل. تقول: لا أقصد الثوب بل الذي تحته.

نعم، لا يجدن ضيرا في قول ذلك بل ويطلبن رأيا صريحا مني أحيانا، لكني والحق يقال لا أتكلم معهن داخل المحل إلا في حدود العمل، وخارج المحل عندما التقي إحداهن في شارع أو مكان ما أعدها أني سأجد من الملابس ما لا يليق الا عليها. كما أني داخل المحل لا أكف عن توزيع الابتسامة، التي هي من ضرورات العمل، عليهن، وهن أمامي داخلات أو خارجات. وقبل انتهاء ساعات العمل أجمع ما تناثر على الأرض من قطع القماش وأعيد ترتيب الملابس ووضعها في أماكنها وأنظف المكان. وتغادر المرأة الموجودة في غرفة جانبية التي يتحدد عملها بالجلوس خلف ماكنة خياطة، وهي مكلفة بضبط الملابس المباعة اذا كان احداها بحاجة إلى التعديل أو التقصير أو التطويل، وهي سيدة لبنانية اسمها منى عبد المجيد، أم لبنت اقترب عمرها من السبعة عشر عاما وصبي عمره 13 عاما، وهي ترتدي الحجاب وتغطي رأسها منذ أيام الطفولة التي قضتها في لبنان، على اعتبار أنه ضرورة لها كمسلمة متدينة، لكن بعدما قدمت إلى ألمانيا بدأت تفكر أن تستبدله بآخر يبدو عمليا وزاهيا في الوقت نفسه كالذي ترتديه عندما تأتي إلى عملها هنا، فهو يؤدي وظيفة الكثير من الدبابيس الآمنة التي تحتاجها لغطاء الرأس التقليدي، وفي الوقت نفسه يغطي عنقها وشعر الرأس والأذنين.

لم تكن علاقتي بها الا علاقة العمل في المكان نفسه، أحيانا أتبادل معها حديثا عابرا عندما يسمح الوقت، دائما كنت أشعر أنها تعاني من مشاكل، وكان بودي أن أنصت اليها وهي تتكلم، لكنها لم تبح مما في نفسها بشيء، كانت حائرة دائما ومنشغلة، واذا لم تكن منشغلة تتعمد أن تبدو بهذه الصورة، لئلا تعطي فرصة لأي شخص للدخول معها في حديث، يخيل الي أنها بدون حجابها أكثر عفوية مما هي عليه، ولم أقل لها في نهاية يوم العمل أكثر من أني آمل أن يكون الغد لها يوما افضل. وعندما تغادر تبقى فروزه فترة أطول لتعمل جردا بالحساب اليومي، هي مسؤولة عن المحل أمام مسئولها الأعلى الذي يأتي للتدقيق في الحسابات مرة كل أسبوع، ولا يبقى في المحل أكثر من الوقت الذي يحتاجه لذلك، إنها تعيش في واحدة من الشقق الثلاثة التي في الطابق الأعلى فوق المحل، بينما يشغل الشقة الأخرى رسام من صربيا اسمه ميلان، والشقة الثالثة تستعمل كمخزن للمحل ومفتاحها مع فروزه.

بعد أن يخلو المكان إلا من كلينا تجلس فروزه وراء المنضدة هادئة الى أن تنتهي من جرد الحساب اليومي تماما، بعد ذلك أصحبها إلى شقتها في الأعلى، وقبل أن تدخل تضرب جرس الباب على ميلان لتعيد عليه الاقتراح الذي طالما كررته عليه وهو أن يزودها ببعض رسوماته لتبيعها له على بعض الزبائن الذين يقدرون الرسم من دون أن تأخذ عمولة على ذلك، لكن الباب لم يفتح فتقول: على كل حال هو الذي يخسر في هذا العرض اذا لم يوافق. وفي الصالة بعدما تجلس على الأريكة، تنظر إلي وأنا جالس أمامها خلف الطاولة، أصب لها كأسا من النبيذ الاحمر الذي تفضله، وأتهيأ لسماع القصة التي لا تمل من إعادتها عليّ أبدا، تأخذ رشفة من الكأس كأنما تريد أن تنشط ذاكرتها وتقول: قلت لك سابقا أننا عائلة صغيرة لا شغل لنا في السياسة، ولا أمل لنا في السياسيين، لكن زوحي مات بعدما قبضوا علية في احدى محاولات هربه من المانيا المقسّمة قبل سقوط جدار برلين، قتلته الشرطة السرية وتصرفوا بجثته على أنه خائن للبلاد.

وبعد سقوط جدار برلين انفتح الفضاء أمامي، صحبت ابني الذي كان عمره وقتها عشر سنوات وقدمنا إلى الجانب الآخر من ألمانيا لنبحث عن مستقبلنا فيه، ذهبت به أول الأمر إلى هامبورك، فمكثنا فيها سنتين قبل مجيئنا إلى كولن لنستقر فيها نهائيا، هنا بعد سنوات دخلنا في السياسة، أمريكا تعلن حربها على طالبان في أفغانستان، وأنا التي لا دخل لها في هذا الموضوع أقع فيها، اختار ابني الدخول في الجيش، قلت له جميل أن تفعل ذلك، عمل مناسب لشاب قوي تفور في عروقه الدماء، لكن لماذا يأخذون ابني لأداء خدمته العسكرية في أفغانستان، فبدل أن يبقى هنا في بلده يخدم في العسكرية، أو يعمل بالتأهيل الذي حصل عليه في النجارة، شاءت الأقدار أن يكون وسط حرب ليس له فيها شئ، وليس لي فيها شيء أيضا غير ابني، قبل أن يذهب لم أكن أعرف أين تقع أفغانستان على الخريطة، ولا أعرف بأي لغة يتخاطب الأفغانيون، قلت له: اعمل أي شئ لتبقى هنا، فالشظية التي تنطلق باتجاه عينك أثناء قطع الخشب أو تعديله أو نشره هي غير الشظية التي تأتيك في الحرب، شظية الخشب على افتراض أنها تصيب عينك وتتلفها، يمكن أن تنظر بالعين الثانية، لكن الشظية الأخرى لا تترك لك أي مجال للاختيار، هل تستطيع أن تعيش برأس آخر عندما يهشم انفجار قذيفة رأسك. فيقول لي يا أمي أفهميني جيدا، لا تنظري للجانب غير الجيد في الصورة، أستطيع هناك أن أجمع من النقود في سنة واحدة ما يعادل خمس سنين هنا؟ فأقول له: ليست النقود كل شئ عندما يأتون بصندوقك ملفوفا في العلم هل تنفعك هذه المكاسب السريعة؟ فيقول: يا أمي، عليك بالقليل من الصبر، وكل شئ سيكون أفضل مما أنت وأنا عليه الان، يجب أن يندحر أعداؤنا في الحرب هذه، هكذا قالوا لنا، هم ضد الديمقراطية ويريدون أن ترجعوا عجلة التاريخ الى الوراء، وأنا أسهم في أن أوقف هذه المحاولات من أجل الناس هناك، وفي الوقت نفسه أكسب المزيد من النقود.

ليست من أجل الناس هناك فهم لم يستنجدوا بك أو بأحد، وليست من أجلنا نحن لأننا في عالم وهم في عالم آخر. وليست من أجل أن تكسب المزيد من النقود، لأن هؤلاء الذين يعطونك النقود ليسوا بهذا الغباء، لو كانوا يفكرون بك لأعطوها لك وأنت هنا.

ـ لكنها الحقيقة، انظري الى صورة العالم وهي تتغير، تابعي ما تنشره وكالات الأنباء في هذا الشأن، استمعي للمعلقين على الأحداث التي تجري هناك، شاهدي الصور التي تعرضها وكالات الأنباء، أقرئي الصحف.
ثم تهز رأسها مرددة: آه منك، عنيد كالبغل، لقد حشوا رأسه بكل هذا الهراء، لقد تركني هنا وحيدة.
التقطت منها الجملة الأخيرة لأني رأيتها خير مدخل لتغيير الموضوع، ولأعرض لها ما كان علي أن أقوله، ليس من أجل أن أخفف عنها وانما لكي أبوح بما في نفسي:
ـ أنا أيضا وحيد يا فروزه وأحتاج إليك.

قلت لها ذلك مرات عديدة من قبل، لكنها لا تصغي، في المرة الأولى التي قلت لها ذلك كنت أسعى يائسا الى فرصة لأقول لها ذلك، غير أني لم أستطع الحيلولة دون الشعور بالأسف على أني قد جعلت عبارتي أبعد ما تكون عن الوضوح، ربما بحشرجة مخنوقة صادرة من جوفي، كأنما يقولها شخص مصاب بالربو، علق البلغم عنده فلم ينفعه أنه بلع ريقه أكثر من مرة ليجعل الطرق سالكة لصوته، ليست فروزه امرأة سهلة، وأخشى أن تفهمني خطأ، وأكثر من أي شيء آخر خشيت ألا تدرك ما قلته، غير أنه من حسن حظي أنها كانت قد سمعته، ولأنها سمعت ما قلته على وجه الدقة، الأمر الذي يجعل التكرار غير ضروري فأنها لم تعلق أكثر من كيف لنا أن نلتقي يا شريف، أنت على هذا الجانب من الشاطئ وأنا على الجانب الآخر، أنت رجل غير عاقل يا شريف. لكني بعد ذلك قلت لها ذلك مرات ومرات، أما اليوم ربما وجدتها مناسبة لكي تقول لي:

ـ هناك واحدة من النساء التي تتردد الى المحل معجبة بك وتريد أن تسمع منك مثل هذا الكلام.
ـ من هي؟
ـ أولغا شترافسكي.
لم أحب لهجتها وهي تقول ذلك، كأنما تريد أن تقول اياك أن تقول لا، قلت:
ـ أولغا، أعرفها،عمرها أكثر من أربعين سنة.
ضحكت قائلة:
ـ لكنها تحبك يا عزيزي.
ـ وما ذنبي أنا، أنا أريدك أنت.
ـ لكن عمري أكثر من أربعين سنة أيضا.
ـ معك الأمر يختلف، أنت فروزه التي تشغل تفكيري.
ـ أنا لا أنفعك، ابحث لك عن غيري، والا فانك لا أكثر من شخص مجنون، أنا لا أنفع، الذي أريده لا يريدني أو هو يتهرب مني، والذي يريدني لا أريده.
ـ تقصدين ميلان!
ـ ميلان لا يريدني أن أبيع لوحاته، لئلا يكون بيني وبينه ما يساعد على اقامة علاقة ما.
ثم قالت: من الصعب أن أشرح لك.
وجذبتني من شعر رأسي مداعبة، واضعة إياه على صدرها، وهي تقول: يا عزيزي شريف لا تغضب مني.
ـ أنا أريدك لي.
ـ هكذا الحياة تلعب بنا كما تشاء، أنت تريدني وأنا لا أريد، أنا أريد ميلان وهو لا يريدني، ألا ترى مثلي أن هناك أشياء غير مضبوطة في هذا العالم، وبحاجة للضبط.

كنت قد تعرفت على ميلان من خلالها، على أنه رسام ألوان مائية، فنان مرهف وحساس، وهي فخورة أن لها جار له مثل تلك الموهبة، فمثله كما قالت لا يمكن للمرء أن يغض عينه عنهم، مرة كنت حاضرا عندما دعته فروزه لشرب القهوة عندها في الشقة بعدما انتهى وقت العمل، وكانت تلك أول مرة ألتقي بها معه، وقد حدثني عن ألوانه والأشكال التي يختارها، فأبديت رغبتي بمشاهدة بعض ذلك، حينها أخذني وحدي الى شقته فوجدت نفسي بين أكوام من الكتب والأوراق المبعثرة على الأرض وأدوات للرسم وغيرها للحفر على الخشب وأشياء أخرى، بعض الأواني مرمية في فرن الطباخ وقد تجمع الشحم فيها وأخرى تحت السرير الذي لم يرتب بعد، في كل مكان علب التربنتين وأنابيب للألوان الزيتية، أكواب فيها ما تبقى من الشاي والقهوة وقناني نبيذ فارغة، وكان هناك كيتار مركون في أحد الزوايا. تجولت بين ذلك كله، وما أن كادت جولتي تنتهي، قال لي أنه سبق أن جمعتنا منضدة واحدة في مقهى نابليون وكان ستار حاضرا أيضا، قلت: هل تعرفه؟ أجاب ومن لا يعرفه؟ وسألني هل جرى لك ما جرى له في بلده قبل أن يصل الى هنا؟ قلت: ما الذي جرى له؟ قال: مرة اشترى ستار حذاء وقام بلفة في جريدة الحزب الحاكم من دون قصد. وفيما بعد جاء رجال الى بيته وأدخلوا رأسه في كيس أسود واقتادوه الى مكان مجهول، وبعد حبسه في غرفة انفرادية لعدة أيام أخذوه للتحقيق، ثم تبين أنهم كانوا يترصدون حركاته وتنقلاته وسكناته، وكيف لف الحذاء في الجريدة تلك، ولم يضعه في شيء أخر، والسبب لماذا لف الحذاء بالجريدة تلك وليس بشيء آخر لا علاقة له بالسياسة، في ذلك اليوم عرف أن الجريدة تلك شيء مقدس، وقد سألته:

ـ ولماذا هي مقدسة؟
ـ هي مقدسة لأنها تنشر صورة الرئيس المقدس، وبما أن صورة الرئيس تنشر كل يوم، فالجريدة مقدسة، لهذا السبب هرب من العراق وجاء الى ألمانيا.
وسألني: هل الجريدة التي تنشر تلك الصور كانت سببا في مجيئك الى ألمانيا؟
ـ وأخذ بالضحك عاليا دون أن ينتظر مني جوابا.
ـ بعد ذلك صادف أكثر من مرة أن التقينا عند مدخل البناية، وآخر مرة رأيته فيها كان مضطربا لم يقف معي للسلام ففكرت أنه محق في تصرفه ذاك، لأنه رسام وأن الأفكار والألوان تشغله أكثر ما يشغل الناس تفكيره، انني أتفهم مثل هذا الوضع.

فرغت زجاجة النبيذ بعد ساعة فنهضت فروزه متثاقلة لتجلب من الثلاجة التي في المطبخ شيئا نأكله، ولكنها سرعان ما اندفعت في البكاء بعدما وضعت ما عندها على المائدة بيننا، ارتبكت وأنا أراها بهذا الشكل لكني صحبتها إلى الحمام لتغسل وجهها، كانت تجهش بالبكاء ولم أتركها الا بعدما تأكدت أنها رجعت الى حالتها الطبيعية، فأرجعتها لتجلس الى مائدة الطعام، قالت: في أحيان كثيرة ينتابني شعور جميل بأنني أنتزع من الطبيعة مساحة صغيرة تجمعني ذات يوم مع ميلان لكن، هذا لا ينفع، لا ينفع أني معجبة به أشد الإعجاب، ليس السبب أني امرأة تركها ابنها وحيدة تلعن حظها وسافر الى أفغانستان، ليقاتل الأشباح في المغارات والوديان السحيقة، لو كان هذا السبب لاخترتك أنت، أو ربما لا أختار أحدا لا أنت ولا ميلان، مفضلة ما اعتدت عليه في بيتي من بعض أشكال التسلية والمتعة في قراءة المجلات ورعاية بعض النباتات البيتية، أو أربي قطا أو كلبا، ألاعبه ويلاعبني، أبحث في الانترنيت وأتابع برامج التلفزيون، وغير ذلك من الوسائل التي تمتص بعصارة سهلة الهضم فائض الوقت والطاقة والكآبة. هذا بعد العودة من العمل الذي يأخذ النهار جميعه، لقد غالبت دائما مشاعر الوحدة ودعمت في نفسي صورة المرأة غير القابلة للكسر، لكن وأنا بهذه الصورة فأنا لا أخشى أن أفقد الاثنين، ميلان الذي لا يريد أن تكون له علاقة بي، لا يريد أن يتبادل معي الزيارات والهدايا وسرد الذكريات، لا يريد أن أساعده في بيع لوحاته، ماذا تظنه يريد بي غير القضاء علي، دعني أضرب الباب عليه ثانية ربما رجع الى شقته الآن. وبالفعل خرجت وضربت الباب ولم يفتح لها أحد، ضربت ثانية بإلحاح ولم يفتح أحد، قالت لي: ماذا سأفعل الآن؟هل تحب أن تخرج معي، أريد أن اشتري هدية لابني أرسلها له بمناسبة عيد ميلاده القادم، لم يبق غير أقل من نصف شهر وهي مدة بالكاد تكون كافية ليتسلمها. وبعد نصف ساعة خرجت معها الى أسواق وسط المدينة.

الفصل الرابع
لم تكن السيدة منى عبد المجيد قد عملت بعد في محل الملابس المستعملة التابع للصليب الأحمر عندما اتجهت إلى محل القبعات الذي تديره التركية زهرة يعقوب، كان ذلك قبل عامين، هناك قالت لها: أنا لست خياطة محترفة، ويمكن أن أكون كذلك عندما يزداد إقبال الزبونات على ما أخطط لعمله الآن، وأنا لست مصممة أزياء، ولكن كل ما أريده هو أن أفعل شيئا لغطاء الرأس يبدو عمليا وجذابا في الوقت نفسه، بحيث لا يبدو للنساء المحجبات كالحجاب التقليدي، هل يمكن أن تساعديني في ذلك؟ وجدت زهرة يعقوب ذلك الطلب غريبا بعض الشيء، فلم يسبق أن طلبت منها إحداهن مثل هذا الطلب، لكن قبل أن تجبها سألت: لماذا جئت اليّ أنا بالذات لأساعدك في موضوع مثل هذا، قالت لها: استطيع أن أذهب الى غيرك، لكني سمعت أنك كنت بصدد تأسيس اتحاد للنساء يكون مركزا للقاء النساء المسلمات وتأهيلهن في مدينة كولن، فيه برامج طموحة تتضمن الاستشارات النفسية والتربوية وحلقات دراسية حول مواضيع اسلامية، ولا يسمح للرجال باجتياز عتبات المركز لكي تأخذ النساء حريتهن كاملة دون حاجة إلى الالتزام بارتداء الحجاب، في هذا المركز تتبادل الداخلات إليه الآراء حول الحياة اليومية وهن جالسات في الكافتيريا الصغيرة المريحة التي خطط لها أن تقدم البيتزا الطازجة، وأنواع الكيك والبيتي فور والعصائر بأسعار مشجعة، كما أنه بالامكان التسلي بلعب البيلياردو أو تنس الطاولة، لأن العديد من الأمهات المسلمات لا يسمحن لبناتهن بالذهاب إلى بيوت عائلات أخرى الا برفقتهن، هذا بالنسبة لمن يرفضن الاستفادة من مؤسسات الشبيبة الالمانية لقضاء وقت الفراغ.

قالت زهرة: تعلمين أشياء جيدة عني، لكن الذي ربما لا تعلمينه أنه ما سبق لي أن تعاملت مع الحجاب الاسلامي على الرغم من أن هذه المدينة فيها الكثير من المحجبات العربيات والتركيات ومن المسلمات من البلدان الأخرى، وعلى الرغم من قيامي ببعض الخدمات الخاصة لبعض النساء الخاضعات للعلاج الكيميائي من اللواتي أردن تغطية رؤوسهن بعد أن تساقط شعرهن، الا اني أكاد لا أعرف ما تريدينه، أوضحي لي طلبك لو شئت.

طلبي يتحدد في إيجاد جواب للسؤال التالي: من أنا في نظر نفسي كمحجبة، وعلى أي صورة أقدم نفسي للعالم الخارجي؟ من هنا أريد أن أبدأ عملي.

ـ لا يمكن أن نتحدث بهذا الموضوع هنا وعلى هذه الصورة، يجب أن نتفق على موعد يجمعنا معا لوضع أسس سليمة لمثل هذا الطموح.
ـ لو قلت التعاون المشترك بيننا يكون أفضل.
ـ حسنا، التعاون المشترك بيننا، هل عطلة نهاية الأسبوع التي تصادف يوم غد، موعدا مناسبا لك، سأفتح المحل من أجل هذا اللقاء، وسأقفل بابه علينا عندما تأتين في الساعة الثانية عشرة.
ـ قبل هذه المقابلة حاولت السيدة منى عبد المجيد أن تجد ممولين لمشروعها، هاهي خمس سنوات مرت ولم يحصل هناك أي تقدم، كانت تريد أن تنظم عددا لا بأس به من ورشات العمل، دائما كانت آمالها تفضي إلى اقامة معارض وحفلات عروض أزياء وكان الغرض من ذلك أن يعبر عالم المرأة الخارجي عن تصوراتها، لم يكن يعجبها تصميم العباءات السوداء الدقيقة الشفافة التي تظهر من تحتها فساتين ضيقة تبرز مفاتن الجسد لأنها تستفز المشاهد لها للتلصص على ما تحت تلك العباءات المرصعة بتشكيلات الشذر المعدني البراق، مثلما هو موجود في بلدان الخليج العربي، هكذا يتم تحويل الحجاب إلى عناصر زينة لمفاتن المرأة.

في اليوم الثاني وفي الموعد المحدد استمعت الى زهرة تقول لها: ما نرتديه هو لغة كونية، هو جلدتنا الثانية التي نتمكن من خلالها إرسال إشارات باتجاه العالم المحيط، لكي نتوصل إلى تعبيرات نقول فيها للآخر من نحن، ينبغي أن نولي اعتبارا للألوان، مثلا: علينا أن لا نجعل الطالبات المحجبات يغدون خاملات ومنغلقات، وسرعان ما يفقدن تلقائيتهن، على المرء أن يفعل شيئا من أجل أن يرتدي شيئا يريده هو، ولا يرتدي ما هو مفروض عليه.
فيما بعد تمخض البحث والنقاش بينهما الى التوصل الى غطاء رأس محايد لا يثير ردود أفعال عنيفة، وعرضت عليها زهرة تسعة موديلات من الأغطية مختلفة الألوان والأشكال، يشبه بعض منها قبعات شارلستون والبعض الآخر قبعات نورديك فيلت، وكانت السيدة منى متحمسة لذلك الذي توصلت إليه مع هذه المرأة التي ازدادت بها وبقدراتها إعجابا، لأن هذه التخطيطات التي أمامها في رأيها تلبي حاجة المرأة المسلمة التي تطيع أمر الدين لها بتغطية الرأس والعنق والأذنين. إن معضمها يشبه قبعات التزلج التي تراها أحيانا في بعض البرامج الرياضية التي تعرض سباقات التزلج على الجليد، أو القبعات التي يتدلى منها جزء يغطي الأذن ويمكن وضعه بسهولة حول الرأس دون الحاجة لاستعمال الأزرار أو السحابات، أما قطعة القماش فيجب أن تكون مطاطية مثل الجيرسيه أو الفليت، وصار الاتفاق على أن سعر غطاء الرأس هذا يبدأ من 50 يورو ويتم إعداده حسب الطلب، واتفقتا على لقاء أخر وأعطت كل منهما رقم تلفونها الى الأخرى.

في ذلك اليوم وبعدما رجعت منى من ذلك اللقاء، عاد زوجها من المقهى مبكرا على غير عادته وعيناه تنذران بالشر، وهو يقول لها: أعرف أين كنت، لأنك تعرفين أن الذي قمت به خطأ، لم تذكري اسم زهرة التركية التي كنت عندها أمامي مرة.

ولم تسأله ان كان هو من راقب تحركاتها، أم أوصل له هذه المعلومة أحد أصحابه، مع ذلك فضلت الدفاع عن زهرة، لأنها شعرت أن دفاعها هذا دفاع عن نفسها.

ـ كنت أطلب العون على أمور تخص المشروع الذي أخطط للقيام به، ثم انها امرأة ذات أفق واسع، وتنظر للأمور بعين متفهمة.
ـ هذه المرأة تشارك الكفار الذين هنا بالإساءة إلى الاسلام، انها تلعب بالنار عندما تجاهلت وبإصرار منها التقاليد الإسلامية ذات التاريخ الذي امتد من زمن الرسول والخلفاء الراشدين إلى اليوم، والا فكيف تخطط بإمامة المصلين في صلاة الجمعة.

كانت السيدة منى قد سمعت بمثل هذا الكلام عن زهرة، لكن ما الذي يمكن أن تجادل به زوجها الذي لا يريد أن يسمع شيئا في هذا الخصوص، كان الذي قاله هو العصارة التي توصل اليها من كلام كثير في هذا الشأن، هي فضلت السكوت لأن الكلام معه لا يأتي بنتيجة، تستطيع أن تقول له أن هناك اختلافات في المذاهب الدينية عما اذا كانت إمامة المرأة في الصلاة مسموحا بها حتى بالنسبة للنساء أنفسهن وهذا يعود إلى سبب ما في تاريخ الثقافة، هي قد سمعت وقرأت أنه في عهد النبوة قامت المجموعات النسائية بالصلاة معا على أن تؤم إحداهن الصلاة. لقد سمعت شيئا عن أم ورقة التي حفظت القرآن غيبا، وكانت عالمة هامة بإمامة الصلاة في أهلها، وكان لها مؤذن ينادي المؤمنين للصلاة، وهكذا تبوأت أم ورقة مهام الإمام دوريا إلى أن توفيت في عهد الخليفة عمر. فهل معنى ذلك أن المرأة قادرة على أن تؤم الصلاة في نطاق العائلة فحسب، وليس للملأ علنا؟ أم أن هذا يعني أن المرأة قادرة مبدئيا على الإمامة في الصلاة على أن يتوفر لديها، كالحال مع الأئمة الرجال، بعض الشروط اللازمة كالكفاءة وقبول عامة المؤمنين والمؤمنات لها كونها على استعداد لتبوء هذا المهمة؟ وكلمة إمام كما تفهمها هي قيادة جماعة من الناس بالمفهوم الديني.

لم تحاول أن تستفهم من زوجها لأنها تعرف أنه لا يستطيع كما لا يستطيع غيره من هؤلاء الذين يجلس معهم في المقهى أو الذين يلتقي معهم في المسجد التركي وقت صلاة الظهر أو العصر أو في صلاة الجمعة، أن يفتي بما هو شرعي أو غير شرعي في الإسلام. ولكن الحوار بينهما لا يوصل الى نتيجة تذكر، ومع أنها لم تتكلم أخذ يهددها بمنعها من الخروج من البيت إن التقت بها مستقبلا، ومن ناحيتها، لقد ازداد إعجابها أكثر وأكثر بشخصية زهرة الأخرى التي لم تكن تعرفها قبل ذلك اليوم، المتعلمة الطموحة، خريجة قسم العلوم الإسلامية بمعهد الاستشراق بجامعة كولن، والتي لأنها لم تجد عملا مناسبا لها في شهادتها، قامت بفتح ذلك المحل بعدما تلقت الدعم وبعض المساعدات من أعمامها وأخوالها المقيمين في ألمانيا.

ولكي توصل منى فكرتها فيما بعد إلى الأخريات من اللواتي يزرنها في البيت، أكملت واحدا من التصميمات التي أخذتها من زهرة، فكانت هي بعد لقائها ذاك بثلاثة أيام أول من استبدلت غطاء رأسها إلى غطاء بديل، في عصر ذلك اليوم بالذات أحاطت بعض النسوة السيدة منى التي كانت تجلس خلف ماكينة الخياطة في صالة شقتها، كانت نيروز الكردية العراقية قد صحبت معها ابنتها التي في سن ميساء بنت السيدة منى، وكانت سعاد السورية قد صحبت ابنها معها فخرج ليمضي الوقت مع ابن السيدة منى، أما مديحة اللبنانية فقد جاءت دون مرافقة من أحد، كانت الراحة والثقة بالنفس تعبران عن حالهما في وجه منى وقد ارتدت ذلك الغطاء، اذا تكلمت حطت الآلفة على المكان، السيدة القصيرة الممتلئة للزوج الفارع الذي يكبرها بأكثر من خمس عشرة سنة، والتي ترعرعت في احدى قرى بنت جبيل بلبنان والتي أكملت تعليمها الابتدائي ولم تواصل الدراسة بعد ذلك، الى أن تقدم لخطبتها رجل كانت عائلته تسكن قرية من قرى طرابلس في الشمال، لا يعرف أن يفك الخط العربي إلا بالكاد، ميزته الوحيدة أنه كان يعيش بألمانيا، وهذا الأمر ليس بالقليل لظروف فتاة مثل منى.

*   *   *

كانت منى عبد المجيد من بين جميع أفراد عائلتها أقلهم أهمية، فالفتاة تعتبر عندهم عانسا إن لم تكن متزوجة وهي في العشرين، وتعتبر زائدة عن الحاجة وهي في الأربعين، وما أن تتجاوز عمرها الستين حتى تكون قد أصبحت من الانضباط والنظام بحيث لا يحتاج الى أي ضبط من الآخرين أو تقنين، لأن خط حياتها أصبح مرسوما ولا يمكن الخروج عنه بأي حال من الأحوال الى أن تودع الحياة. كانت في الثامنة والعشرين من عمرها، لم تعرف أبدا ولا لمرة واحدة متعة الشعور بأهميتها من قبل أي شخص في العائلة، ولا يعني ذلك أنها كانت فردا لا قيمة له بين الآخرين في البيت، بل على العكس، كان متوقعا لها بحكم العادة أن تأخذ على عاتقها الأعمال الأكثر متعة والأكثر مللا. كانت تغسل ثياب الرجال المبقعة بالعرق والمتصلبة بوحل الحقول ووسخ الأجسام المثابرة على العمل الشاق. وفي فصل قطف الزيتون لم تحظ ببهجة أخذ القرار ولا مرة واحدة، فيما إذا كان هذا النوع من الزيتون يصلح أن يكون مخللا، وذاك سيباع في السوق، ولم تكن تشارك في حدث مهما كانت فيه درجة الإثارة. كانت تجلس أحيانا في الزاوية مع الأطفال، وتنزع النوى من الخوخ بعد قطافه دون توقف، مثلما تنزع الأوراق الخضراء التي في الأغصان عن حبات الزيتون.

لم تتعمد العائلة معاملتها بهذا الشكل كنوع من العقاب لسبب ما ارتكبته، لا، هي ابنتهم وأختهم، اذا مرضت يرعونها واذا طلبت شيئا أحضروه لها مع أن طلباتها بسيطة ومحددة، واذا طلبت فلا تطلب من أي شخص، ولكن أن يسمعوا منها رأيا فهذا بعيد، لهم الرأي والمشورة وتقرير المصير وغير ذلك، بالنسبة لها لم تكن مستاءة من تلك المعاملة بل كانت تستوعبها وتعتبرها غير مقصودة، كما هي متوقعة لفتاة فاتها قطار الزواج وتعيش عالة على غيرها، لم تكن تجرؤ على القيام بشيء دون استئذان، لهذا كانت تتجه بقلب واجف نحو سيدة المنزل التي هي زوجة أخيها لتطلب منها شيئا، ولها أن تلبي لها ذلك أو لا، فقد كانت واقعة تحت رحمة مزاجها، وكانت تحاول إخفاء ألمها الذي كان ينفذ الى قلبها لدى سماعها نداء شقيقها بأن تذهب الى الحمام لتساعد الطفل ابنه في قضاء حاجته، يسرها أن تفعل ذلك لكن لا على سبيل أن لا يعكر شيء راحة زوجته. في الشتاء عندما كان الجميع يلتفون حول الموقد يتناولون الكستناء المشوي ويناكدون بعضهم البعض في ذكر ما وقعوا فيه من أخطاء، كانت تنكمش في زاوية من الغرفة سعيدة اذا ما مضت السهرة هكذا، بدل أن تطلب منها زوجة أخيها أن تفعل من أجلها كذا وكذا، وهي تنفذ ليس لأنها مخلوقة جبانة، بل لا تريد أن تحدث مشاكل.

وللعلم كانت طيبة معها أحيانا وأحيانا فظة، ولم تكن منى تعرف بالضبط متى تكون في هذه الحالة وليست في تلك لتستطيع أن تتعامل معها بالشكل المناسب. مرة اكتشفت بالصدفة بواسطة قريبة لهم حطت رحالها عندهم في زيارة دامت عدة أيام، كانت تعرف ضرب الإبر ولف الضماد، ورأتها كيف تضرب وتلف، هذه القريبة غيرت من حياتها بعض الشيء، سألت منى الضيفة عن أسرار تعلم تلك الصنعة التي تملكها، فأعطتها ما يجعلها تباشر ذلك فورا، وعندما رأت أنها أجادت في التطبيق طمأنتها الى ممارسة العمل ولكن بحذر، وكانت بدورها تبتهج عندما تنجز شيئا من هذا القبيل وتجد استحسانا عليه، بدأت تمارس ذلك في حدود ضيقة، وكان قلبها يقفز فرحا بعدما تنجز شيئا وينظر اليه الآخرون بعين الإعجاب، وكان ذلك مبهجا لها خاصة عندما قالت زوجة أخيها مرة عندما قامت بنفسها في معالجة جرح ابنها الذي تعثر على حافة جرف صخري: يا الهي،هل أنجزت ذلك بنفسك فعلا؟ فتقول وهي مرتبكة: نعم.

وفي اليوم الثاني دعت زوجة أخيها بعض النسوة لتخبرهن شيئا عن عملها فطلبت منها إحداهن أن تعطي إبرة لطفلها وستدعو لها بالتوفيق، لأنها ستغنيها عن الذهاب الى المستوصف الطبي البعيد، وأثناء ما كانت تقوم بعملها لم تنظر لها تلك المرأة نظرة متشككة، بل وجدتها حقا قادرة على مساعدتها. كانت تبكي سعيدة جراء المعاملة اللطيفة التي قوبلت بها وعزمت الا تستغلها، فقد كانت تقوم بالأعمال المنزلية بإخلاص دون أن تهمل واحدة، لكن جو عالمها تغير مع حادث كان قد جرى لها، مرة ضرب أحدهم الباب، كان ذلك قبل الظهر بقليل، وعندما فتحتها وجدت رجلا طلبها بالاسم فقالت له: أنا هي، فقال الرجل وقد ظهر عليه ارتباك واضح كما لو كان في موقف أحرجه، أن هناك طفل داسته أرجل حصان الشيخ عبد الغفور الهائج، وهو يحتاج أن تعطيه هذه الإبرة. وأراها لها في كفه. قالت: وأين هو الآن؟ قال: هناك ليس بالبعيد، قرب منزل الشيخ عبد الغفور. قالت: أنا أعرف البيت، ذلك الذي في طرف البلدة في هذا الاتجاه، قال بعدما رأى إشارتها: نعم، وأنا أخصه بالقرابة. قالت: إذن سآتي معك ولكن عليك أن تنتظر حتى يأتي أحد من أفراد عائلتي ليرافقنا الى هناك. قال: ننتظر والطفل في خطر! ألا ترين أن أي تأخر قد يكون خطرا على حياته.

قالت: لكنك لست من سكان البلدة ولا أستطيع أن أرافقك، قال: إنها دقائق معدودات تعطيه الحقنة وتعودين الى بيتك وأذهب أنا الى حال سبيلي فقد تأخرت هنا كثيرا. لقد قاومت نفسها كثيرا في أن لا تذهب معه لكن عباراته كانت صريحة في عرض المشكلة، وما عليها الا تلبية الواجب، فربما تكون حياة الطفل في خطر لو تأخرت. عندها ستندم طول حياتها فوافقت. كان الطريق بين البيوت خاليا، لا أحد يلعب من الأطفال ولا أحد من الناس الداخلين الى الطريق أو الخارجين منه، فاستغربت هذا الوضع واضطربت دقات قلبها، وفعلا لم تكن غير خمس دقائق على أقل تقدير سار الرجل أمامها وسارت هي خلفه، حتى عثرت على الطفل في المكان الذي أشار له قرب منزل الشيخ عبد الغفور الذي كانت أمامه سيارة واقفة في أجمل صورة، قال الرجل انها تعود له، كان وضع الطفل سيئا وحرجا، لكن عندما أعطته الحقنة وشدت له الرباط واعتنت به قام من مكانه على مهل، ثم أخذ يجري أمامها الى أن ابتعد، قال لها الرجل: شكرا لك، كم أدفع لك لقاء خدماتك؟ قالت: لا، أنا لا آخذ شيئا مقابل أعمال الخير هذه، يكفيني تماثل الطفل للشفاء وذهابه الى حال سبيله.

قال بعد تفكير قصير: إذن ستأخذين هذه بدل النقود.
ومد لها كفه التي كانت تحمل سلسلة مفاتيح، قال:

يمكن أن تأخذي سلسلة المفاتيح هذه. امتنعت قائلة: ماذا أفعل بسلسلة المفاتيح هذه ونحن أناس لا نقفل علينا أبواب بيوتنا في القرية. قال: ربما تحتاجين اليها، أو قد تسافرين الى بلاد بعيدة فتأخذينها معك هناك على سبيل ذكرى هذا الحدث. لكن محاولاتها ذهبت أدراج الرياح، فتقبلتها على مضض. أدهشها أنها رأت ذلك الهلال المعلق بالسلسلة من الحجر الاحمر وعندما رفعت رأسها عنه لم تجد الرجل، فاستغربت من اختفائه السريع هذا من أمامها، ربما توارى في منزل الشيخ عبد الغفور، أو ذهب بالسيارة التي كانت واقفة هناك، لأنها اختفت أيضا. رجعت الى البيت فوجدت العائلة تسأل عنها، وقد كان طعام الغداء مهيئا والجميع على أهبة أن يمدوا أيديهم اليه، سألها والدها عن غيابها فقالت أنها مجرد ربع ساعة أنقذت فيها حياة طفل كاد يموت تحت ضربات حصان الشيخ عبد الغفور، وحكت لهم حكاية الرجل قريب الشيخ الذي أخذها الى هناك، قال الأب: أولا لم تكن ربع ساعة غبت فيها خارج المنزل بل أكثر من ساعتين، وثانيا أنه رأى ذلك الحصان يعمل في المزرعة منذ الصباح، فكيف تكون قوائمه داست على أضلاع طفل صغير، ثم من هو ذلك الطفل؟ هل تعرفت عليه؟، وثالثا هذا الحجر المعلق بهذه السلسلة نادر وربما هو غال الثمن جدا، فكيف يمكن أن يكون بدل ما يمكن أن يعطيه مقابل زرق إبرة، هذا شيء لا يعقل.

كان هناك شيء حيّرهم جميعا، لذلك دفعتهم جميعا قوة خفية الى استطلاع سر هذا الرجل الغريب الذي كافأها بهذا الشكل الذي لم يحصل لها أو لغيرها من قبل، لذلك تناول الجميع طعام الغداء على عجل وذهب الكبار والصغار الى منزل الشيخ عبد الغفور يسألونه عن قريبه هذا بعد أن سردوا عليه الحكاية بتفاصيلها كما روتها منى، فاستغرب الشيخ كما استغربت عائلته جميعا مما سمعوه منهم، فقال لهم الشيخ، اسمعوا مني ما هو متعلق بي: حصاني وقد خرجت به الى الحقل منذ الصباح ولم أعد به الا وهو معي، وبالضبط قبل أن تصلوا الي، لذلك هو بعيد عن هذه التهمة، ثم أين هذا الطفل الذي تعرض للحادث وابن من؟ ولماذا لم تأت عائلته الي؟ ثم من ذلك الرجل الذي ادعيتم أنه قريبي، للعلم لم يزرني أحد من أقربائي أو أصدقائي منذ أسبوع الا أنتم، هل انتم متأكدون من هذه الحكاية؟ قالوا: وهذا الحجر يا شيخ، من أين جاءت به منى حسب رأيك. تفحصه قبل أن يصدر حكمه:

أنه حقيقة، لا ضير في ذلك، كل منا يلقى نصيبه في هذه الحياة، وهذا من نصيبها.

مرت أيام على هذه الحادثة وذاعت بين الناس في القرية، كما طار الخبر الى البلدات المجاورة، لكن الكثير من الناس وقفوا حائرين من حكاية منى مع الرجل الغريب الذي لا يعرف أحد من أين أتى ولا الى أين ذهب؟ لكن صادف أيام الحادثة وجود شخص اسمه خليل يقيم في ألمانيا، وقد قدم لزيارة أهله في لبنان وللبحث عن امرأة صالحة تكون زوجة له، هذا الرجل طلب المزيد من المعلومات عنها، وعندما تكونت عنده فكرة واضحة عن كونها امرأة مباركة لا شبيهة لها بين النساء، قال لاهله وجدت المرأة التي قدمت من أجلها، فقالوا له: من هي؟ فقال: صاحبة الهلال المعلق بسلسلة المفاتيح، وما هي الا يومين بعدها، قدم الى بيت منى أناس من احدى قرى مدينة طرابلس التي تقع في الشمال، وطلبوها زوجة لابنهم خليل، عندما جاءت لها زوجة أخيها لتنقل لها الخبر هتفت غير مصدقة: هل تعنين فعلا ما تقولين؟ قالت: جهزي نفسك الان فهم يريدون أن يروك، وللعلم العريس يقيم في ألمانيا وهو يريد زوجة له من بلده، وليس من تلك البلاد التي فيها النساء لا يعرفن الحلال ولا الحرام. وعندما خيّرها الأهل هل تقبل به زوجا، قبلت به من دون حاجة للتدقيق في الأمور الأخرى، لأنها رغم عدم خبرتها الجيدة بالحياة حسبت الموضوع جيدا، فوجدته لصالحها، سوف تتخلص من الحالة الاقتصادية المزرية التي عليها البلد، فكل المواطنين اللبنانيين اختاروا لهم أوطانا بديلة أو مؤقتة. فلماذا لا تفعل مثلهم؟ هل هم بأفضل منها؟ هل ينقصها العقل حتى لا تفعل ذلك؟

بعد ذلك بأيام استيقظ جميع أفراد الأسرة فجرا لوداعها، وبينما كانت تتناول فطورها اقترح عليها أفراد الأسرة، كل على حدة، نصائح متضاربة عما يجب أن تفعله في البلاد المسافرة اليها، وأهم شيء أن تحتاط للشتاء وقد حضر، وهو عدو فتأهبي له بلباس سميك وجوارب من الصوف، اتخذي الصوف شعارا، والقطن دثارا فان البرد عدو دخوله سريع وخروجه بعيد، والمهم في الموضوع أن خليل عاد الى ألمانيا وبصحبته المرأة التي أصبحت زوجة له. والرحلة بالنسبة لمنى كانت بمثابة الذهاب الى عالم آخر، لم تبتعد عن المنزل في البلدة الا عندما كانت صغيرة تذهب الى المدرسة، الآن ومرة واحدة تطير عابرة البحار والجبال والسهول والأنهار، أين منزلها الجديد هذا؟ لم تستطع أن تتصور ذلك، وليس عندها فكرة مسبقة عن طبيعة الناس هناك، بأي لغة يتحدثون، ماذا يأكلون. بعد هذه الرحلة بثلاث سنوات عادت الى أهلها في زيارة مرفوعة الرأس، فلقد شقت طريقها في الحياة، وان كان الأمر يقتضي البعد عن الاهل، وأصبح عندها بنت، وتشعر أنها عندهم على قدم المساواة مع الآخرين، أصبحت تشارك أفراد العائلة في مناقشاتهم، وكثيرا ما يأخذون برأيها. وقد طلب من الأطفال في البيت تلبية أوامرها لئلا ترهقها الحركة، لكنها قلما كانت تطلب شيئا. أما الشيء المهم جدا للعائلة فهو أنهم استحسنوا منها تمسكها بحجابها رغم سفرها الى تلك البلاد التي لا يعرفون شيئا عن كيف تستر المرأة نفسها.

*   *   *

لمنى وقت فائض، أرادت أن تشغله بشيء تنفع به الآخرين وتنفع به نفسها بما يأتيها من مردود مادي، كان عندها خبرة في ضرب الإبر ولف الضمادات، فقالت في نفسها لأذهب الى مكتب عمل احدى المستشفيات، لكن هناك لم يعترفوا بالخبرة التي لديها من دون أوراق تدعم القول، وعليها أن تأخذ تدريبا لا يقل عن سنتين يؤهلها للعمل في التمريض، رجعت الى البيت خائرة القوى من هول الصدمة، روت لهم حكاية الطفل الذي أنقذته بعدما داسه الحصان لكن ذلك لم ينفع، عليها أن تتدرب، وقبله ينبغي الحصول على شهادة في تعلم اللغة تؤهلها للبدء، الموضوع يأخذ وقتا طويلا. فكرت بالحصول على تدريب، ولكن في تفصيل الملابس وخياطتها، ولم يأخذ منها ذلك غير ستة أشهر، بعدها اشترت ماكنة خياطة، وبدأت في خياطة الملابس للنساء المحجبات، لأن الملابس لغير المحجبات متوفرة ويمكن أن يجدها المرء في بعض المحلات بأسعار معقولة، ولا يمكن لخياطة مثلها أن تفكر بالمنافسة مع تلك لأنها ضرب من الخيال، أما ملابس المحجبات فهي غير موجودة، وربما المنافسة تكاد تنعدم.

كلما قدمت أولئك النسوة إلى منزلها وجدن زوجها غير موجود، فقد ترك لها عالمها البيتي الصغير، تخيط الملابس للنساء المحجبات، التي لا يمكن أن يجدنها في الأسواق مهما بحثن عنها، وتركت له عالمه المحدد بالخروج من البيت والجلوس مع أصحابه من العاطلين عن العمل في المقهى التركي، يمضي قسما من وقت فراغه هناك، هو في عالمه هذا وهي مع ماكينتها.

وكلما سألنها عنه قالت أنه يأتي دائما بعد أن يخرجن، قالت نيروز: الجلوس في المقهى مع أصحابه أفضل له من الجلوس في الغرفة، قالت الشامية: ثم أننا لا يمكن أن نتكلم على راحتنا ورجل موجود في الغرفة الملاصقة للصالة هذه. قالت منى: اطمئني فزوجي يقول أن ذلك حرام، وهو أصلا لا يقبل أن يجلس في غرفة تصل اليها أصوات النساء. لكن أحيانا يأتي وهن موجودات، فيدخل مباشرة إلى الغرفة ويغلق عليه الباب بعد أن يطلب من ابنه أن يلحق به، قالت العراقية أن زوجها حدثها أن رجلا رأى في المنام يده اليمنى صارت سراجا وهو يسير في ضوئها فاتفق أن عمي بصره وأصبح أخوه يقوده في الطريق. أنا أخشى أي نوع من النار ترى في الاحلام. قالت الشامية: اسأليني أنا عن ذلك، الرعد والبرق يدلان على الخوف، والريح العاصف تدل على الفزع والهلع، والسيول المضرة تدل على الفتن والمحن وأنواع البلايا، تقول العرب من رأى بيته يحترق ضاعت مقدّراته، والنار اذا كان لها شرر ولهيب دلت على القتال، وان لم يكن معها شرر دلت على المرض والخصومة، واذا كان معها دخان أحاط بالمرء الهم والغم من كل جانب، ومن رأى أنه أوقد نارا ليستضيء بها فتح له فيما يقصده ويطلبه، وان أوقدها ليتدفأ بها، نال منفعة من الأمر الذي يقصده.

قالت منى: أن زوجها حدثها أنه جرى للشيخ شرف الدين أمر عجيب في المنام، لقد رأى كأنه جالس وبين يديه ثلاثة سرج موقده، والى جانبه زوجته أم بنيه وهي تنفخ لتطفئ إحداها، فأدركه عليها غيظ شديد، ونهاها عن ذلك لكنها ألحت في النفخ، فاضطرب من الغيظ وقال لها ان أطفأته فأنت طالق، فقامت ونفخت في السرج الثلاثة فأطفأتها، فرمى عليها الطلاق، وقبل ذلك لم يجر على لسانه للطلاق ذكر، ولا حدثته نفسه بطلاقها قط، ولا حدثت نفسها في خلاف أمر أمرها به قط، وكان له منها ثلاث بنين، فاتفق بعد هذه الرؤيا أن مرضت زوجته فماتت، وركب هو السيارة وأولاده الثلاثة على الطريق السريع فمات أولاده بالحادث المؤلم الذي حصل له، ونجا هو مسلوبا من الأهل،. قالت الشامية: الشيخ هذا رجل دين ودنيا وزع جسمه في جسوم كثيرة، بل وزعها على الأجرام السماوية، مثل شجرة واحدة أصلها للشمس وعروقها لزحل، وأغصانها وشوكها وقشورها للمريخ، وزهرها للزهرة، وثمرها للمشتري، وورقها للقمر، وحبّها لعطارد.

كانت تفتن منى ألوان القماش ورائحته وملمسه بين أصابعها، كانت تعطي أذنها للحديث وعينيها على عملها، وها هي الآن تستعد لتفتح الموضوع مرة أخرى أمامهن، تريد إقناعهن وإقناع من سيسمعن مستقبلا بهذا الذي تريد أن تفعله، لم تقل لهن أنها مستاءة من التحامل ضد النساء المحجبات في ألمانيا، وكأنهن حمقاوات أدخلن أنفسهن في أكياس، أو متخلفات عديمات الحس بالحياة، وأنها تشعر أنها مصنفة مثلهن بسبب حجابها:عندما استبدلت غطاء رأسي بهذا الذي ترونه أمامكم، بدأت أشعر أني امرأة لها حياة جديدة، في كل يوم عندما أنهض صباحا أسأل نفسي ماذا أريد أن أرتدي، لأني أستطيع الآن أن أنسق لون الحجاب مع ملابسي.

لكن هذا يكلف الكثير.
ليس كثيرا، تسريحة الشعر في محل حلاقة تكلف أكثر من ذلك. ثم أني لا أنوي المتاجرة بهذه الأشياء، المهم عندي ماذا يجب أن نفعل لتبدو رؤوسنا جميلة للناظر، وليس أن نضع على رؤوسنا ما تعودنا عليه طالما نغطيها.
ـ لكن ربما زوجي لا يقبل بهذا.
وقالت أخرى: كيف أستطيع إقناع زوجي؟
ـ حسب ما أفهمه أرى أنه لا توجد قوانين تحدد لنا ما هي الأشياء التي نضعها على رؤوسنا.

بعد أيام من ذلك ذهبت إلى محل القبعات وقد سألتها زهرة صاحبة المحل عن الأمور وكيف تسير معها فقالت: ردود الأفعال متحفظة لحد الآن فالضوابط الاجتماعية قوية جدا قي المجتمعات المسلمة هنا حتى عند الفتيات الصغيرات. واللواتي أعجبتهن فكرة التعبير عن أنفسهن، لم ينفذنها لأنهن قلقات بشأن ردود الأفعال من أولياء أمورهن.

ـ هذا النوع من التفكير مازال متأصلا عند هؤلاء الناس هنا، على الرغم من وجود أربعة أجيال من المسلمين في هذا المكان.
ـ كانت منى قلقة جدا، وهي تخشى أن يظهر على وجهها ما يشير الى أنها بدت يائسة، ولا تنظر الى مشروعها بجدية، وهي تجهد أن تشعر زهرة بضرورة أن يبقى التعاون بينها كما سبق أن تعاهدتا على ذلك.

الفصل الخامس
استطاع خليل الذي قدم إلى ألمانيا بعد بداية الحرب الأهلية اللبنانية في أواسط السبعينات بسنتين، بعد ثمان سنوات الحصول على الاقامة الدائمة، وضع جواز سفره الالماني في جيبه مطمئنا الى وضعه الجديد، وعقد العزم بعد أن حمل هذا الجواز بالسفر إلى لبنان ليختار شريكة لحياته، فالأمور لا يمكن أن تبقى على هذه الحال، والنساء من حوله أينما ولى الأدبار، والعمر يمضي، حاول أن يختار له زوجة من بنات بعض العائلات التي يعرفها أو سمع بها وساعده البعض من ذلك، لكن الأمور سارت على غير ما تشتهي السفن، وفي لبنان كان له ذلك، دارت دورة الاختيارات وذهبت الى جنوب البلاد وشمالها الى أن وقعت أخيرا على منى عبد المجيد قائلا لأهله: هذه التي أبحث عنها، فذهب والده وآخرون لخطبتها من أهلها، لقد حمد والده الله لما رآه من نجاح ابنه، أصبح عنده المال الذي غطى به تكلفة مصروفات الزواج كلها، والله يعلم ما عنده هناك في بلاد الغربة من أشياء تضمن له حياته وحياة أسرته، قديما، أيام ما كان خليل صبيا، ضاق أبوه ذرعا به وبفشله المتكرر، فلم يكن يستوعب ما يعطونه في المدرسة من دروس، لذلك لم يكمل المرحلة الابتدائية، وكان يقضي في الصف الواحد سنتين ولولا ذلك ما وصل الى الصف الخامس، وبعدما ترك الدراسة لم ينجح في زراعة الأرض، أو رعي الغنم والماعز، ولم يتقن أية صنعة، فقد كان عابثا لاهيا، ضيق الأفق، محدود الذكاء، ولا يشعر يوما بمسؤولية، أكثر ما كان يفني حياته من أجله هو أن يتوسط حلقات رقص الدبكة والأعراس، ويغني مجانا ودونما دعوة بصوته الذي يعتقد أنه نعمة من السماء نزلت اليه دون أقرانه جميعا، وقد قال له أبوه مرة، اسمع يا خليل لأنك لا تنفع في شيء سأرسلك الى العاصمة بيروت، الى عند قريب لنا لعله بمعرفته ونفوذه يجد لك عملا هناك. وعندما مثل بين يدي قريبه هذا قال له: ماذا تريد أن تعمل وأنت لا تحمل أي مؤهل ولا شهادة، واذا كنت لم تجد فرصتك في القرية الصغيرة النائية فكيف تجدها هنا! قال: كلامك صحيح وأزيد عليه أني لا أعرف أن أفك الخط الا بالكاد، لكن أمل أبي في مساعدتك لي كبير. صمت الرجل، أثناء ذلك نظر اليه والى الهدية التي حملها اليه، وقال: أتذكّر أنك كنت تغني في حفلات الأعراس.

ـ نعم وما زلت.
ـ صوتك جميل؟
ـ جرّبني، اسمعني واحكم بنفسك.

وهمّ أن يبدأ بالغناء، فأشار له ألا يفعل فالمكان والوقت غير مناسبين. ثم أشرق وجهه قائلا:

ـ إذن لا مشكلة، وجدتها.
ورفع سماعة الهاتف متحدثا مع أناس طلب منهم أن يساعدوا قريبه هذا أن يكون مغنيا. وشرح لهم ظروفه بإيجاز شديد. وبالفعل كان له الحظ بتسجيل شريط كاسيت طرح الى الأسواق بزمن قياسي، وكاد نجمه في الغناء يصعد مثل من صعد الذين قبله، لولا أن الحرب الأهلية قامت في لبنان، ولم يعد الناس هناك لديهم الوقت الكافي لسماع صوته، ولا لأجهزة الاعلام لأن تكرر اسمه حتى يسمعه القاصي والداني، ليتعرفوا الى هذه الموهبة الغنائية الجديدة، ولأنه كان سببا في خسارة شركة التسجيل التي تعاقدت معه على طرح صوته في الأسواق، فقد تخلت عنه فذهب الى حال سبيله ولم يذهب الى القضاء لأن الحرب الأهلية قد قامت واختفى القضاء وغيره من الوجود، ليظهر سلاح المليشيات بديلا في الشوارع، التجأ الى قريبه ثانية ملتمسا عونه، فاتصل بناس من معارفه، وبعد أن أنهى المكالمة قال له مبروك كنت تريد عملا فوجدته لك لقد تمت الموافقة على انضمامك الى صفوفهم، إيجاد عمل يدبر منه الانسان قوت يومه أمر صعب هذه الأيام، لكنك قريبي.
ـ لكن هذا الذي أوجدته لي ليس عملي.
ـ أنت رجل بمواهب عديدة، فلو طلب منك أن تلبس ثوب مارلين مونرو وتمر من فوق فتحة يندفع منها الهواء قويا ليتطاير أسفل الفستان الى الأعلى كما حصل ذلك في أحد أفلامها لما ترددت في قبول هذا العمل.

ومع أن الموضوع لم يرق لخليل ولا الطريقة التي سار بها، الا أنه ارتضى الانتماء الى احدى المليشيات، مع ايمانه أن لا علاقة له بما يجري بالبلد، ومعرفته جيدا، وهو الذي لم يدبر حاله في المدرسة، أن الصراع هو صراع على الغنائم وليس من أجل الوطن، وعلى ذلك سيكون هناك ما يدخل في جيبه وهذا هو الأمر الحيوي بطبيعة الحال. وبعد مقابلة بسيطة مع أحد أعوان ذلك الشخص الذي كان على الطرف الآخر من التلفون انتمى اليهم ليكون رفيقهم في السلاح. أسرع بالذهاب الى أبيه في القرية يخبره بما جرى وأنه حصل على عمل في الوقت الذي كان فيه شباب البلد أما بلا عمل أو شدوا رحالهم الى خارج البلاد فارين من الأخطار التي تقف لهم ولغيرهم بالمرصاد، باحثين عن الأعمال هناك. وبعد أن أدلى بما عنده طلب منه المشورة، فقال له أبوه: والله يا ابني حكاية الحرب الأهلية اللبنانية التي انضممت الى واحدة من فصائلها المسلحة تشبه حكاية رجل ومعه كلبه جاء بزق من العسل الى صاحب دكان، بعد السلام عليه والسؤال عن أحواله عرض العسل عليه ليشتريه، فأمسك صاحب الحانوت الزق وغمس إصبعه في العسل يتذوقه ليحدد السعر الذي يشتريه به فقطرت منه قطرة على الأرض، جاء زنبور أحمر وراح يطير محوما حول القطرة ثم حط بجانبها وراح يأخذ منها، وكان لصاحب الحانوت قط أسود وثب على الزنبور ضاربا إياه بقائمته الأمامية، داخ الزنبور وراح يغزل في مكانه مصدرا طنينا عاليا، غضب كلب الرجل من فعل القط، احمرت عيناه ونبح، ثم وثب على القط وعضه عضة ماء إثرها مواء عاليا ممطوطا وقفز هاربا بعد أن وقف شعره.

كاد عقل صاحب الحانوت يطير من رأسه عندما سمع مواء قطه المدلل، ركض الى احدى زوايا حانوته وأمسك عصا غليظة هوى بها على رأس الكلب فنبح بالمقلوب وفر هاربا. جن جنون الرجل صاحب الكلب عندما رأى كلبه قد تعرض لتلك الضربة المؤلمة، فرمى بنفسه على صاحب الحانوت يشده من ثوبه بقوة فانقطعت الأزرار وبانت بطنه المنتفخة، ثم لكمه بقوة فوقع بجانب الزنبور مغمى عليه. صعق جيران صاحب الحانوت فور مشاهدة جارهم مغمى عليه، فركضوا نحو الرجل وانهالوا عليه ضربا بالأيدي وبالعصي فسالت الدماء من بين شعر رأسه وأنفه وأذنيه، طار خبر الشجار هذا الى قرية الرجل صاحب الكلب فتأثر أهلها أشد التأثر ونقموا أشد النقمة، ثم جمعوا أنفسهم وحملوا سلاحهم وتوجهوا الى البلدة كي يثأروا لما جرى لابن قريتهم. واشتعلت الحرب وتعالت الأصوات وغطى الغبار البلدة.

مع ذلك رجع من عند أبيه، نازعا لباس المغني ليلبس بدلة المقاتل، أطال لحيته لتشبه لحية جيفارا وشمر عن ساعده، وعبس وجهه ليبدو وكأنه خلق لهذا النوع من العمل، وبعد اسبوعين عرف كيفية استخدام المسدس والقاذفة وبدأ يشترك مع هذه المجموعة أو تلك في التصدي للمليشيات الأخرى التي وقفت في حراسة حدود مناطقها من العاصمة، لكن الحال قد تغير ويبدو أن نصيحة أبيه قد لقيت في نفسه استجابة بعد هذه المدة التي انقضت، فبعد مرور عام على هذا الحال كان قد وفر لنفسه ما يكفي من المال الذي يوصله الى بلد من بلدان هذه الدنيا، عسى أن يشق طريقه فيها، ومن دون أن يخبر أحدا عن تخطيطه هذا عرف كيف يتسلل عابرا الحدود من دون أن تعرف به مجموعته ولا المجموعات العدوة، وهو يلعن الأسود منهم والاحمر.

لكنه في ألمانيا التي وصل اليها وجد نفسه وحيدا وبلا عمل، لم يستطع أن يقنع أحدا بالاستماع الى صوته الذي كان يصفق له من يحضر حفلات الأعراس في لبنان، كانت المشكلة هي كيف يحصل على ما يسد به رمقه قبل أن ينام، ولو سأله أحد عن مشاريعه للغد، لا يعرف الإجابة، هل يجرب حظه في بلد آخر؟ هل يستمر بهذا الوضع؟ هل يعود ثانية من حيث أتى؟ لا يدري. في هذا الوضع الذي كان عليه التقطه أولئك الذين لا يعرفهم من تلك الأماكن التي كان يأوي اليها، وجدوه لأنهم يجب أن يجدوا شخصا له الميزات التي كانت عنده، ومدوا له يد النجاة، انتشلوه من الهاوية التي سقط فيها، وجاءوا به الى مكان جيد فيه فراش واسع وأغطية جديدة وحمام نظيف، وبعد أن التقط أنفاسه لعدة أيام اختبروا قدراته على الرماية من مسدس، ودفعوا له نصف المبلغ والنصف الثاني بعد التنفيذ، ولم يعد عليه الا أن ينتظر، أخبروه بالمطلوب تنفيذه من دون شرح لأي سبب أو دافع الى ذلك، ومن جانبه لم يسأل، أخذ يتناول الطعام في المطاعم الجيدة واشترى ملابس جديدة. أما هم فقد جهزوا كل شيء، من جانبهم كانوا مكلفين بمهمة يجب تنفيذها بدقة، وإلا ستسلخ جلودهم لو حصل هناك خطأ ما، والمهمة هي تصفية حساب مع شخص تعتبر الجهة التي أرسلتهم وجوده يشكل خطرا يهددها، تتبع هؤلاء ذلك الشخص مدة كافية للتعرف عليه عن كثب ودراسة تحركاته للوصول الى ما هو أكثر ضبطا في الوصول اليه، عرفوا مواعيده والأماكن التي يذهب اليها، كان يفضل ليلة الأحد أن يكون مع زوجته عندما يذهب الى المسرح أو السينما أو الى مطعم، كان الرجل قد عمل جاسوسا للغرب، وتدرج في الصعود الى المراكز العليا في صفوف الحزب الحاكم في ألمانيا الديمقراطية، ولكن قبل أن ينكشف أمره بنهار واحد اختفى من الوجود في برلين الشرقية، ومن ألمانيا الديمقراطية ليعثر عليه هذان الرجلان في مدينة كولن وفق المعلومات التي تجمعت لديهما وبطرقهما الخاصة وبجوازات سفرهما المزورة لتبدأ الخطة التي وضعاها للتخلص منه. وتتلخص الخطة في العثور على من ينفذها بدقة واحكام، ومن دون خطأ، وبالفعل اختبرا هذا اللبناني الذي كان قد تدرب على أنواع السلاح في صفوف إحدى الميليشيات المتقاتلة في بلده، وبعد الاهتداء اليه وجداه ربما أكثر قدرة من أي شخص آخر على تنفيذ العملية، من دون أن يكون لهما ولا لمخابرات دولتهما شأن في هذا الموضوع من قريب أو بعيد، وحتى لو القي القبض عليه فهو لا يعرف من أي دولة هما كما أنه يجهل أسماءهما.

في ذلك اليوم، كان الرجل قبل أن يطلق عليه الرصاص قد خرج مع زوجته الى المطعم الذي اعتاد الذهاب اليه أسبوعيا، وفي لحظة خروجهما متشابكي اليدين من المطعم الذي كانت واجهته على شارع عام مزدحم بالسيارات وقليل المارة يوصل بعد عشرين مترا الى ساحة وبابه الأخرى على شارع جانبي ضيق، أطلق النار مباشرة على مؤخرة جمجمته فسقط على الفور، وفي أثناء التفافه ليجري أطلق النار ثانية للتأكد من موته، أما زوجة ذلك الرجل فقد ارتكبت خطأ السقوط على ركبتيها قبل أن تتطلع الى من قام بذلك العمل، وهكذا فإن كل ما قالته لرجال الشرطة ولرجال الصحافة الذين سألوها أنها رأت رجلا في ملابس سوداء يدخل في عتمة الطريق الجانبي، لم تر وجهه أبدا، وأنها لو كانت قد نظرت الى الأعلى لثوان فقط في لحظة إطلاق الرصاص عليه لتعرفت عليه ولتمكنت الشرطة من الوصول اليه،وقد قبضت الشرطة على بعض المشتبه بهم ولكن لم يستطيعوا تحديد ما اذا كان أحدهم هو القاتل، لأنه كان بدون وجه، وسجل حادث القتل أنه تم من قبل شخص مجهول، وهكذا أصبح هو ذلك الشخص المجهول، وظلت الأرملة التي شهدت قتل زوجها طوال الوقت، تفكر في مؤخرة رأس القاتل التي رأتها، وتفكر في بريق الجاكيت الجلدي عند كتفيه، أثر سقوط ضوء من مصباح وصل نوره الى المكان، قبل أن يبتلعه الظلام.

كان خليل يعرف ما يقال عن عودة المجرم الى مكان الجريمة، فقاوم كثيرا الاقتراب منه، لم يعد أبدا الى ذلك الشارع ولا الى الساحة التي تبعد عن المطعم مسافة عشرين مترا مهما دعته الحاجة الى ذلك. وبعد مرور سنة وأكثر لم يعد يخاف من شيء، لم يشك فيه أحد ومن ناحيته لم ينطق بما يشير الى ذلك الموضوع لأي مخلوق، عندما حصل على النصف الثاني وفق اتفاق على أن يوضع في مكان معين، استطاع الوقوف على أرض صلبة. وهكذا بدأ يقوم ببعض الأعمال بين الحين والآخر، بالشكل الذي لا يستطيع فيه أحد التساؤل عن مصدر المال الذي يدفع منه ايجار شقته وغير ذلك من النفقات. عمل في حلبة سباق، ومرة أو مرتين في نواد ليلية وكان وقتها من باب الاحتياط لا يتكلم مع أي إنسان رجلا أو امرأة، وفي الأماكن التي عمل بها تلقى عروضا للقيام بأشياء مثل نقل بضائع مسروقة، أو تهريب سجائر أو غير ذلك، فلقد بدا الأمر وكأن الناس هناك استشعروا بطريقة ما أنه بالامكان أن يجعل من نفسه متاحا لمثل تلك الأشياء، ولكنه كان يرفض، لدرجة أنهم غيروا كثيرا من فكرتهم عنه، وعده آخرون أنه واحد من الملائكة الذين يتمتعون بالفضيلة والرغبة عن فعل كل ما لا يبعده عن أعمال الخير، كان صعبا أن يصل الى ثقة الآخرين به، فالحصول على ذلك أمرا ليس بالسهل، فيما بعد بدت علاقاته بالناس تبدو على أفضل ما تكون.

الفصل السادس
استيقظت السيدة العجوز من نومها وقبل أن تغادر فراشها رفعت سماعة التلفون، لكنها ترددت وأعادت السماعة الى مكانها، وتركت الفراش متوجهة الى المطبخ، وعملت لنفسها قليلا من القهوة، لعلها تذهب بصداع الليلة الماضية، عادت لتطل برأسها من النافذة لكنها لم تقف وراءها طويلا، عوّلت على أن تأخذ حماما ساخنا يفك الضغط عن رقبتها وصدغها وعينيها، وسيكون بإمكانها العودة الى سماعة التلفون وإجراء المكالمة، لكنها أحست بان الماء بارد أكثر مما تطيق. كانت تحس أن عواطفها متأججة وأنها لا تحتمل التأجيل، وما دامت تعرف ما تريد فان عليها إن تنفذ دون أن ترفع سماعة التلفون. أسرعت ورفعت غطاء مفاتيح البيانو ومدت أصابعها لتضرب فوق هذا المفتاح أو ذاك، بعدها بدأت تعزف شيئا بالهام أصيل، لم تكن تجد مقاومة، كانت أصابعها تستخلص الأنغام بسهولة وتصلها ببعضها وتتقاذفها وكان يمكن القول أن الإلهام كان يمطر عليها نغمات غير مألوفة. كانت أصابعها تستخلص الأنغام بسهولة وتصلها ببعضها، تدفق سحر الموسيقى من قلبها وصعدت من ينبوعها، نسيت أنه كان هناك ما يعكر عليها هدوءها، نسيت التلفون والمكالمة التي يجب أن تقوم بها، نسيت أن تأخذ حبة الضغط التي يجب أن تأخذها، نسيت أن تنظر الى الصور المعلقة، فقط كانت تؤلف، تضرب على المفاتيح وتدون الألحان، لقد تدفقت الأنغام ولم يكد يكون لديها الوقت الكافي لتلحق بها، فعلت ذلك دون التماس فضائل من أحد، استمرت بذلك الى أن أحست أنها أصبحت عاجزة على إضفاء أي جوهر على عملها الموسيقي فتوقفت.

أثناء تلك السكينة التي نزلت عليها رفعت السماعة على أختها التي تسكن في ريف قريب تدعوها مع ابنتها للحضور معا اليوم في الساعة الخامسة، سيكون هناك بعض الحاضرين أيضا، ورفعت السماعة على آخرين تدعوهم للحضور عندها، إن لم يكن هناك شاغل يشغلهم. استجاب للحضور قلة من المدعوين كان ضمنهم (شومر) ملحن الأغاني الفلكلورية والمؤلف الموسيقي ذائع الصيت، لم تكن حفلة راقصة فشقتها ضيقة، ولا تستوعب أناسا يرقصون، كانت دعوة لاجتماع الأصدقاء، فيها عندما حضروا لم يطلب منها أحد أن تعزف لهم لحنا، بل هي التي طلبت من شومر بنفسها أن يعزف لحن أغنية (خذي بيدي) التي من تأليفه وألحانه، وما أن طلبت منه ذلك، انحنى احتراما واتجه الى البيانو، وعندما انهى أداءه كانت ابنة أختها آخر من يشك أن شومر الذي رأته يشرب القهوة التي حضّرتها بنفسها، ثم وهو يعزف على البيانو، الرجل الذي كان يرتدي قميصا عاديا بعد أن نزع قمصلة الجلد ذات اللون البني، وكان له شعر رأس طويل مسرّح مربوط من الخلف على شكل ذيل حصان، وله عينان وديعتان، هو شومر الذي لحن أغنية (ثمرة البلوط الساقطة من أعلى الجبل) التي تجعلها تذوب حبا عندما تسمعها، لماذا تمنع نفسها من سؤاله: هل أنت فعلا من رمى علينا ثمرة البلوط لننعم بطعمها كما لو كانت الثمرة المحرمة التي أنزلت آدم من الجنة؟ فابتسم لها ودفع بظهره الى ظهر المقعد ليستريح. أما السيدة العجوز فلم تطلب منها أختها ولا ابنة أختها ولا أحد من الآخرين أن تجلس الى البيانو وتعزف، ومع أنها كانت تنتظر ذلك من أحد، الا أنها بعد عشر دقائق بعد ذلك العزف طلبت من شومر ثانية معروفا خاصا جدا:

ـ اطلبي ما شئت يا مدام.
ـ هل يمكن أن تعزف لنا (حبّة البلوط الساقطة من أعلى الجبل) بدا أن تحقيق مطلبها صعب، لكن ليس عليه، وعندما كان يعزفها اهتزت خصلات شعر ابنة أختها من التأثر. وبعدما انتهى طلب منها أن تعزف لهم شيئا، قال لها ذلك لها بطريقة من كان يريد أن يخلص نفسه من تلبية الطلبات، فانحنت مع ابتسامة خفيفة. بدت أصابعها أثناء العزف رقيقة وهي تميل ناحية البيانو، لم تنتهز أية فرصة لتنظر إلى الانطباعات على وجه هذا أو ذاك، فهذا لم يحن أوانه بعد، مع أنه كان من الصعب تصور أنها تنسى وجود الحاضرين وهي تعزف، لم تقل لهم ما هي هذه القطعة الموسيقية أو من ألفها، لكنها توقفت فجأة بعد ثلاث دقائق ونظرت مستفسرة، "لا تتوقفي" قالت أختها، أنه موتسارت، أليس كذلك؟ اهتزت شفتها السفلى وهي تحملق في فضاء الغرفة، ثم ضربت على مفتاح أو مفتاحين ونهضت واقفة قائلة: أظن أن هذا يكفي. فطلبت أختها من شومر الذي كان قد دخل في نقاش مع المرأة التي بجواره أن يتفضل عليهم في عزف مقطوعة لموتسارت، لكنه اعتذر معلنا أنه مضطر للانصراف بسبب صداع شديد لا يستطيع تحمله.

لا أحد ولا حتى السيدة نفسها نجحت في إقناعه بالبقاء، عرضوا عليه وصفات علاج آنية، لكنه لم يقبل شيئا وأصر على الانصراف، وفور أن صار في الشارع تنفس بعمق وهو يفتح باب سيارته، وتنفس بعمق أكثر وهو يشغلها. بعدما غادر آخر ضيف تمنت، وهي حزينة ويائسة وتشعر أنها مهانة من أقرب قريباتها، أن تقف في طريق الشتراسن بان ليهرس لحمها، لكن لم تقل ذلك لابنة أختها التي فضلت البقاء معها لتنظف الصحون والملاعق وترتب الأشياء الأخرى، وعندما قالت لها والدتها أنها ستنتظرها لغاية أن تكمل ليذهبان سوية، قالت لها لا عليك، لدي سيارتي. بالفعل ذهبت أختها وبقيت ابنتها، فقبلت منها ذلك شاكرة، لكنها عندما سمعت ضجة في الشقة التي في الأعلى ضربت السقف بطرف العصا محتجة قائلة: الويل لهؤلاء الأجانب. جلست بعدها تقلّب النظر فيما حولها، وشربت كوبا من القهوة المتبقية، بعد ذلك لم تطق المكوث في شقتها، فسألت ابنة أختها إن كانت تريد الخروج معها فأبدت لها عدم رغبتها، ثم أن هناك عمل كثير ينتظرها، خرجت لوحدها وأول ما فكرت به هو الذهاب الى وسط المدينة.

*   *   *

كنت بصحبة فروزه عندما التقيت بالسيدة العجوز. اشترت فروزة من المكتبة التي تشرف على ساحة "نوي ماركت" كتابين، الأول خاص بمجموعة من الكلمات المتقاطعة، والثاني يتكون من أسئلة للمسابقات مع أجوبتها ووضعتهما في كيس القماش الخاص بالمشتريات الذي جلبته معها، وعندما خرجنا الى الساحة أشاع فيها الهواء البارد الحيوية، كانت تمشي ممشوقة القوام وبخطى واثقة، كانت تنصت الى كل شيء، العالم يتحرك حولها، الكلاب على اختلاف أشكالها بمعية الناس الذين يتزاحمون في دخولهم للمحلات أو وهم خارجون منها، السيارات التي تعبر أو عربات الشتراسن بان التي تتوقف، كانت تمشي عارفة ماذا تريد راضية على الأغلب، مفتونة بما هو يبعث فيها الحياة، قالت لي: بما أن النزول الى وسط البلد أصبح قليلا هذه الأيام بالنسبة لها، فإنها مناسبة لابد منها لشراء ذلك البسكويت الذي اشترت منه في المرة السابقة من هذا المحل. كان لا يزال هناك بعض الوقت قبل أن تقفل المحلات أبوابها، مالت ناحية المحل، فدخلت معها، واشترت علبة زرقاء اللون، وخرجنا بالحماس نفسه لتقول لي: لابأس من شراء بعض الحلويات من هذا المحل الصغير فجودة بضاعته مضمونة. اشترت نصف كيلو من الحلويات، الا أنها بمرورها بجوار محل بيع النبيذ دخلت اليه متمهلة متلصصة خبيرة عارفة ماذا تريد وهي تنظر في العلامات الملصقة على الزجاجات متمعنة فيها، اشترت واحدة، ومن المحل المجاور المختص ببيع أنواع التبغ وما يخطر بالبال من أنواع الغلايين اشترت كيس تبغ صغير يحمل علامة البحّار فقلت لها: لماذا التبغ وأنت لا تدخنين، ولا تطيقين شم رائحته، قالت: انه مجرد هدية.

وعندما خرجت من المحل التقت بأحد معارفها، كان مجهدا بصورة فضيعة، وسألته عن عائلته فقال لها أن ابنته لم تعد تتصل به منذ سنتين، كانت تعرف عنه كل شيء من أيام برلين الشرقية قبل سقوط الجدار، كنا عند أحد التقاطعات عندما ودعته متمنية له حالا أفضل، وفي الجهة الثانية من الساحة انتظرنا طويلا أمام محل الفطائر، وأمام زجاجة العرض انتقت بدقة وهي تميل الى الأمام وترفع نفسها على أطراف أصابعها مشيرة بسبابتها كطفل الى النوع الذي تريده، وبدت فرحة عندما تفهمت البائعة ما كانت تريده بالضبط، وما كادت تخرج الا وأمسكتها واحدة من معارفها، كانت تلك قد سعت جاهدة أن يسمع صوتها جيدا وهي تقول: لماذا قلّت زياراتك لي. فقالت لها: العمل يأخذ وقتي كله. واتفقتا على موعد، كان واضحا أن حيويتها لم تخفت من اثر التجوال، كنا نسير قبل اللقاء بالسيدة التي تسكن في "عش السناجب"، يا للهول كانت تمشي بين سكتي الشتراسن بان القريبة من الرصيف، غير مبالية بالخطر المحدق بها، وكان الناس ينظرون لها كما لو كانت مجنونة، وإلا لماذا تريد أن يأتي الشتراسن بان ويسير عليها، أسرعت آخذ بيدها الى فروزة حيث كانت واقفة، قالت: أنت ثانية، يا الهي، ثانية أسبب لك الازعاج!

لم أعلق على ما سمعته منها، وقلت للسيدتين: ما رأيكما في جلوس جميل في هذه المقهى، أنا شخصيا أشعر بالظمأ. وعندما جلسنا كانت تتردد في القاعة أصداء أصوات الزبائن الآخرين حولنا، قدمت فروزه بعض الإيضاحات عن طبيعة عملها، وكانت السيدة تهز رأسها أثناء ذلك وهي تأخذ رشفة من العصير الذي طلبته، وعندما سألتها فروزه عن نفسها كلمتها عن بعض الأشياء، ثم عن دعوة كانت قد أقامتها عصر اليوم، حضرها الموسيقار شومر، ألم تسمعي به؟ فقالت: معذرة أنا لا أسمع الا الأخبار التي تنقل الأوضاع في أفغانستان. فسألتها السيدة مستغربة: ولماذا أفغانستان؟ وجدت فروزة وهي تجلس مستقيمة الظهر في مقعدها فرصتها للحديث في هذا الموضوع، الكلام عن ابنها الذي أراد بنفسه الذهاب الى هناك لمحاربة الأشباح، واضعا نصب عينيه ما يقدمونه له في الجيش من راتب مغر، فأخذت تتكلم بصوت هامس يعلو أحيانا ثم لا يلبث أن يخفت، أحيانا تتكسر كلماتها وتكاد الدموع تنزل من عينيها، لكن ثقتها في نفسها تعود ثانية.

كانت السيدة قد شدها هذا الموضوع وكثيرا ما اتسعت عيناها اللتان بدتا تتجاوبان بقوة لما تسمعه فيظهر فيهما الانفعال أكثر من أي قسمة من قسمات وجهها الناحل، كانت بين الفينة والأخرى تشجعها على الاستمرار في الحديث؟ وفي رأيي أن الحماس الذي كانت تتحدث به فروزه هو الذي أثار انتباهها، فرأت فيه قدرا كبيرا من التوتر العاطفي، ربما صعّده عندها ما رأته من شباب الابن ووسامته عندما أخرجت فروزه صورته من محفظتها، وهي تقول: ألا يستحق كل هذا القلق من أجله. فقالت السيدة: يستحق هذا وأكثر. كان بوسعي رؤية ياقة قميصها الأخضر الفضفاض ذا النقش المربع تحت طيات صدر معطفها المفتوح من فوق، وقد بدت يداها اللتان استندتا الى حافة المائدة متوترتين، قالت ذلك وارتعشت شفتها السفلى. لم يكن هناك شك في أنها تفهمت وضع فروزة، بل وربما شكرت السماء التي جادت عليها بفروزة لتنفعل معها انفعالا حقيقيا، وبعد ذلك قبل أن يتم الوداع بيننا جميعا ليذهب كل منا في طريقه، أخذت هي من فروزه رقم تلفونها، لعلها تحتاج اليه في المستقبل تسألها عن هذا الشاب الوسيم الذي أحبت صورته.

*   *   *

لم يخفت حماس السيدة عندما عادت الى بيتها، وعواطفها لم تهدأ، موضوع الام التي ذهب ولدها الى أفغانستان موضوع يحتوي على شحنة من الألم القوي جدا والخوف الدائم من المجهول، عندما عادت الى البيت وجدت ابنة أختها لم تغادر بعد لأنها كما قالت لها أرادت أن تطمئن الى سلامة وصولها، فحدثتها عن تلك السيدة التي التقت بها وسط المدينة فقالت ابنة أختها: لو كانت تلك السيدة كاتبه لكتبت فيه أرق الكلمات، لو كانت رسامة لرسمت مشاعرها على أفضل ما يكون. وعندما سألتها من تكون تلك المرأة، قالت أنها تعمل في محل للملابس المستعملة، في البناية نفسها يسكن رسام من صربيا اسمه ميلان، وقد قالت لي أنها ستحاول أن تؤمن لي واحدة من لوحاته لو شئت بسعر مقبول، قالت ابنة أختها: إنها تعرف ميلان، ذلك الذي يتخذ من المدرجات التي أمام المحطة الرئيسية مقرا له، وقد سبق أن التقت به في العديد من المعارض الفنية، والذي يعجبها فيه،أن له طريقة خاصة في الرسم لا علاقة له بالفن الذي يرسمه الألمان، والشيء الثاني هو ذلك الحدث المهم الذي جعله يشد الرحال ويأتي الى هنا، ولا يستمر في العيش هناك، وجدت السيدة أن الحديث عن ميلان هذا فرصة لإطالة الحديث معها فسألتها عن الحدث المهم.

قالت: عندما بلغ ميلان الخامسة عشرة كان قد أصبح يقضي الليل بطوله في تأمل النجوم وفي النهار ينظر الى اليرقات المعلقة على الأغصان، كان يحب صورها وأشكالها ولا يحبها هي نفسها، وأشد ما كان يهواه هو ملمس فرش الرسم والأحبار والألوان والأوراق البيضاء، ولا يجد شيئا جديرا بالامتلاك الاها، كان والده يعمل في التجارة وكانت أمه هي الابنة الوحيدة لتاجر أحجار كريمة، لكن هذا الجو الذي عاش فيه لم يحجب عنه النظر الى الحياة بالمنظار البعيد عن نظرة مثل أولئك الناس الذين لا يهمهم شيء الا الثراء أكثر وأكثر، فكان على نحو ما حساسا خجولا، يخاف الحشرات والرعد ووجوه الموتى، وعندما بلغ الثامنة عشرة بدأ يرتاد الأماكن التي يأوي اليها الرسامون، وذات ليلة التقى في حانة "البحار الحالم" رساما معروفا وكان الرسام مرهقا من أثر التجوال والعمر الطويل الذي يحمله على ظهره، كان قد سكر ليعيش حالة تساعده كثيرا على رسم المشاعر التي تدخله الى خبايا التكوينات الطبيعية التي لا يمكن أن يراها الا وهو على تلك الصورة، وأفلتت الخمرة لسان هذا الرسام فتحدث في تلك الليلة كما لو كانت الكلمات ألوانا قدّر لها أن تنشر نفسها فوق الرؤوس، وبفضله عرف ميلان جمال وجوه الندماء التي تسبح حولها أبخرة الشراب ودخان السجائر، واندفعت هبة ريح عبر النافذة، ولمع البرق، فراح الرسام يعبر عن إعجابه بلمعان البرق، فكف ميلان عن خوفه من الرعد، وأخيرا حاسب ميلان النادل عن الرسام لأن الرسام لا مال لديه، ولا مكان يأويه. كان أحيانا يقايض رسومه بالأكل أو الشراب، كانت هذه حياته وهو لا استعداد له لمناقشتها مع أحد.

عرض عليه ميلان أن يأويه، فخرجا من البار معا. وفي فناء المنزل لاحظ الرسام التكوين الدقيق لجذع لم يكن قد جذب انتباه أحد الى ذلك الحين وقارنه بامرأة شابه ترخي شعرها ليجف، ودعا ميلان الرسام ليرقد في غرفته، منذ سنوات والرسام يحلم بعمل صورة نصفية لشاب من الزمن القديم يعزف على العود تحت شجرة تفاح، لم يكن هناك شاب يعطي انطباعا لا واقعيا كافيا لكي يصلح أنموذجا له، لكن الرسام تمكن أخيرا من ذلك تلك الليلة، وكان ذلك يعطي انطباعا كافيا باللاواقعية التي هي منهج أخذه على نفسه في تلك اللوحة، وما أن رأى ميلان اللوحة حتى بكى من تأثره. وعند الصباح أخذ ما يكفي من المال ليزود الرسام بعلب الحبر بعد أن ترك تلك اللوحة كجزء من ميراثه هناك، عندما خرج ميلان من البيت أغلق وراءه باب ماضيه، وفتح أمامه باب مستقبله، لذلك استجاب للرسام الذي أصابه الملل من تلك المدينة التي لم تعد الوجوه فيها تثيره، لذلك سلكا معا الطرق التي تقودهما الى الطبيعة، كانت شهرة الرسام تسبقه الى القرى وداخل القصور والقلاع الحصينة، والأماكن التي تأوي المسافرين عند الغروب، ويمكن القول أن الرسام كانت له القدرة على إسباغ الحياة على رسومات وجوه من يرسمهم، كان المزارعون هناك يأتون اليه ضارعين أن يرسم لهم كلب حراسة، كان السادة يطلبون منه أن يصورهم وهم يرتدون ملابس النبلاء، وكان الناس من عامة الشعب يخشونه كما لو أنه كان ساحرا، وقد أسعدته هذه الآراء المختلفة التي سمحت له أن يدرس من حوله تغييرات المشاعر والتقدير.

وراح ميلان يتسول الطعام ويسهر على راحة الرسام أثناء نومه، ويتحين لحظات نشوته لكي يدلك له قدميه، وفي النهار عندما كان الرسام يتصيد المناظر الطبيعية، كان ميلان يجمع الفرش والألوان التي تبعثرت ويضع كل شيء في مكانه، وعندما كانت تصيب العجوز نوبات الحزن كان ميلان يحدثه ويحدثه الى أن ينسى، وفي لحظات السعادة يكون سعيدا لأن الرسام كان سعيدا، وذات يوم بحث ميلان عن مكان ينامان فيه بعد أن قطعا مسافة شاسعة، وبينما راح الرسام يتغطى بقطعة قماش مهترئة رقد ميلان ملتصقا به لكي يدفئه لأن الليلة كانت باردة، وعند الفجر سمعت أصوات ثقيلة تقترب من مبنى المكان وتعالت الهمسات الخائفة لبعضهم، وتعالت أيضا الصيحات الآمرة التي لا تريد من أحد التدخل في هذا الموضوع، فبات نصب عيني ميلان أن الموضوع يخصهما، ولو كان الموضوع يتعلق به لكانت عنده فرصة للهرب للتخلص من شر أولئك، لكن أستاذه لا يقدر على ذلك، ولو فعلها وهرب لوجده من سينظف للرسام فرشه ومن سيعد له الطعام والمشرب، دخل الشرطة بالمصابيح، وانبعثت من أشرس واحد منهم أصوات زمجرة بلا سبب، ووضعوا أيديهم على رقبة الرسام الذي لم يتمكن من منع نفسه من القول أن هذا إسراف في استخدام القوة بحقه، ومستندا الى تلميذه تبع الرسام الجند الى الشاحنة التي كانت تنتظر، وراح العابرون المحتشدون يتهكمون من هذين المجرمين اللذين ربما ارتكبا أفضع الجرائم بحق الإنسانية، وكان الجنود لا يجيبون السائلين الا بتقطيب وزمجرة، يفهم منها أن الموضوع خطير جدا، ونظر ميلان أثناء ذلك لأستاذه فوجده مبتسما غير آبه للقيد الذي يشد معصميه.

ثم وصلوا الى بناية كبيرة تشبه الى حد بعيد قصرا رئاسيا، انتصبت أسواره عالية، وعبر الجنود بوابات قاعات لا تحصى، كان كل شيء هنا يعطي انطباعا بأن الأوامر التي تعطى هنا نهائية، ولا تحتمل الرد أو النقاش، ثم تخلخل الهواء أخيرا وصار الصمت عميقا بحيث لم يكن ميلان يجرؤ أن يسأل مجرد سؤال واحد عن وضع معلمه، وارتعد الواقفون من الهيبة وهم يقفون في القاعة التي لم يريا مثل شكلها من قبل، كان هناك شخص يجلس وراء مكتب وفي يده قلم، ولم يرفع رأسه الا عندما فرغ من الأوراق التي بين يديه، في حين أنه عندما رفع رأسه بدا متلهفا الى هذا اللقاء، وكان وجهه هادئا، وقد وقف الى يمينه شخص ينتظر الأوامر التي تلقى الي،ه وقد بدا مرهف السمع لدرجة أنه لا يريد أن يسمع لسواه أبدا، قال ذلك الشخص بصوت منخفض الا أنه واثق من نفسه: أخيرا التقينا. لم تعد ساقا الرسام تقويان على الوقوف فانهار على ركبتيه قائلا: أنت هنا وأنا هناك، أنت الريح وأنا أسقط ربما من نسمة، أنت لك النهر والجبل وأنا في فندق بائس يأتي الجنود ليقتادوني الى هذا المكان، ولقد أوثقوا معصمي وأنا لم أسبب أي ضرر لأحد.

ـ أنت لم تسبب أي ضرر لأحد.
قال ذلك بنوع من العتاب الشديد، لدرجة أنه لو ترك الأمر لنفسه لتقدم اليه ليمسح على رأسه، وقد توسعت عيناه التي أظهرها انعكاس اللمعان المرصعة على الباب لتبدو كلون النحاس، فانبهر الرسام من ذلك اللون وراح يبحث في ذاكرته اذا كان قد رسم لهذا الذي أمامه أو أي شخص من هؤلاء صورة تصغر من مكانتهم، يستحق عليها أن يعاقب، لكن هذا كان احتمالا بعيدا، فقد تعود أن يرسم معالم الطبيعة في مختلف أوقات اليوم، وتعود أن يرسم الناس في أعمالهم اليومية وفي الغالب الفلاحين في الحقول، أو الحمالين أو المقامرين، ولم يفكر مرة أن يرسم لوحة يوجه فيها انتقادا لأحد، أو يسئ فيها الى شخص أو عائلة، فلماذا جئ به الى هذا المكان؟ سأل الرسام ذلك الرجل بقلب واجف.

ـ أنت تسألني ماذا فعلت بي أيها الرسام العجوز؟
ثم تابع: سأقول لك كلما أردت الخروج الى شرفة القصر لأرى النجوم فأراها أقل جمالا من نجومك، ولذلك آمنت أني كلما أردت التمشي في حديقة أو طريق في مزرعة لا أتمشي الا في حدائقك أو طرقك، لقد حرمتني من النزول لأبقى حبيس هذا المكان، أزين قصري بالصور يأتون الي بلوحاتك، كلما أردت أن أضرب مثلا بعظمة الطبية في البلاد، ضربت مثلا بلوحة من لوحاتك التي تمجد فيها الغسق في المراعي، أو الغروب في الجبال، رسمت الوديان التي تجري في مساربها أنهار العسل، والجبال التي في مغاراتها تأوي الوحوش والوطاويط، لقد تعرفت الى أنواع الأحجار من خلال ألوانك، وان النساء ينفتحن وينغلقن كالأزهار. كلما أردت أن أعرف شيء لا أعرفه استعنت بلوحاتك. كلما أردت أن أستمد القوة من شيء نظرت الى العمال في موانئ لوحاتك، كلما أردت أن أنام مطمئن البال نظرت الى أولئك الذين ينامون قانعين في النزل التي صورتها، هذا بالنسبة لي أنا أستلهم الحياة من ذلك كله، عندما أرى ألوان رسوماتك تشتعل مع الفجر وتشحب مع الغسق، ولكي أتمكن من قراءة المشاعر الحقيقية للناس أتتبع الخطوط التي تتعرج على الوجوه والنازلة على الأعناق، ولكي أعرف بماذا يفكرون أنظر الى عيونهم فأقرأ ما لا تستطيع الكتب أن تمدني به ولكن من ماذا يستلهم أولئك الذين صورتهم الحياة في المقابل؟ ألا ترى مثلي أن في ذلك خيانة للناس إن أنت تركتهم هكذا، أنا ممتن لفضلك،عندما لا يأتي الي النوم أنظر اليها فتنير لي الطريق، لكن الناس لا شك يريدون أن يلقوا اللوم عليك، لأنك خنتهم في هذا الأمر، الا ترى مثلي أن هذا يؤدي بك الى العقاب، بل والعقاب الشديد، الويل لك.

ـ الويل لي، وقد استعنت بي.
ـ لقد جعلتني أعتقد أن لا بحر الا بحرك، ولا سماء الا سماءك، ولا أرض الا أرضك، لذلك قصّرت بحقي.
ـ أنا قصرت بحقك!
ـ قصرت بحقي لأنك قصرت بحق الناس الذين يريدون أن يروا الكمال في من يرعاهم، انك لم ترسمني، لقد رسمت الطبيعة في أبهى صورة، لكنها لا تدافع عنهم اذا هاجمهم عدو، انك لم ترسمني، رسمت الوحوش وجسدت قوتها لدرجة أن الانسان سيخر ساجدا لها، ولكن من سيدافع عنهم لو هاجمتهم تلك الوحوش، الا ترى أنك عندما لم ترسمني الى الان في لوحة تجسد فيها قوتي وتسلطي وقدرتي في الوقوف لصد أي عدوان، هو من مهامك أنت لتخدم الناس مرة واحدة، ولكنك لم تفعل، أظن أنك الان فهمت كيف أنك خنت الناس، لأنك أنرت الطريق لي ولم تنر الطريق لهم. لقد كذبت علي وعليهم، فهذه هي الحروب تشتعل الان في عموم البلاد فالعالم من حولي الان حرائق مشتعلة وأصوات مدافع ودماء تراق، في صربيا وفي عموم البلاد أنت تخاف أن ترسم النسوة اللواتي يبكين لئلا تمسح الدموع الألوان، أو أنك الوحيد الذي تجلس على عرشك في سلام، على الجبال المغطاة بالجليد، في حقول النرجس التي لا تذبل وهو ما جعلتني أفكر كيف سأعذبك، فأنت صاحب السحر الذي جعلتني أكره كل ما أملك، وجعلتني أرغب في كل ما ليس لي، ولكي أسجنك في السجن الكبير الذي لا تستطيع الخروج منه قررت أن تسمل عيناك، لأن عيناك هما البابان السحريان اللتان يفتحان مملكتك.

عندما سمع ميلان هذا الكلام يوجه الى الرسام اندفع الى ذلك الرجل ليوجه اليه ضربه فتصدى اليه حارسان كادا يطيحان برأسه، لولا أن ذلك الشخص منعهما من ذلك، قائلا: سيأتي دور هذا، لقد ساعد الرسام على جعل الناس يعرفونه أكثر مما يعرفوني، فبصق على وجهه، ولم يحتمل الشخص الواقف على يمينه من أن يرى رئيسه يبصق على وجه ميلان ويقف هو مكتوف الأيدي، فاندفع الى ميلان ليضربه بالعصا التي كان يضعها تحت إبطه كعادة العسكريين الذين يكملون بناء الهيبة العسكرية بتلك العصا، فشقت رأسه من الجانب واندفع الدم غزيرا على وجهه وثيابه، ولفت الدنيا برأسه قبل أن يسقط على الأرض مغشيا عليه، فكتم الرسام صرخة كادت تخرج من فمه عندما رأى ذلك وصاح: ما ذنبه، انه برئ من كل تهمة، واذا ما أراد أحد أن يحاسب فليحاسبني أنا.

ـ اسمع أيها الرسام العجوز، جفف دموعك فليس هذا وقت البكاء ولا وقت الشكوى، فلا بد بل يجب أن تظل عيناك مضيئتين حتى لا يحترق ما بقي من نور ضئيل فيهما، فليس الحقد عليك يجعلني أشتهي موتك، ولا التوحش في نفسي يجعلني أريد رؤيتك تتعذب، ليس هذا كل ما لدي لك حسب، لدي مشروعات أخرى تجعلك تترحم على هذا اليوم الذي أنت فيه، ولكن بعد أن تكمل اللوحات الموجودة عندي لترسم صورتي فيها، ارسمني قد وصلت أعلى الجبل أو اجعلني أدور في فلك من الأفلاك، أو أقود الموجات الضالة الى شاطئ الأمان ليطمئن لي الشعب، يا أيها الرسام العجوز أريد منك أن تكرس ساعات الضوء الباقية لعينيك في إنهاء هذه اللوحات، وليس من شك في أن أصابعك التي سترسم بها ستتمكن من أن تكفر عن سيئاتك اليّ، فلا يوجد شك في أن عينيك القريبتين من الفناء، لن تعارض هذا الشيء الذي طلبته منك، فلو رفضت، سأحرق كل أعمالك قبل أن تسمل عيناك، وسيصبح حالك كحال الأب الذي ذبح كل أولاده أمامه واحدا بعد الآخر، لكن فكر أن طلبي هذا ليس الا تعبير عن رأفتي بك، لأني أعرف أن اللوحة هي معشوقتك الوحيدة التي تغار عليها، لذا فأنا سآمر لك من الان بجلب ما أنت بحاجة اليه من الفرش والألوان وكل ما تحتاج اليه، كي تباشر العمل من الان.

وبإشارة منه قدم بعض العسكريين ليأتوا له بما أشار له، وقام آخران بجلب لوحة من لوحاته ليضعاها على حامل، تأملها الرسام ومسح دمعتين سالتا على خديه دون إرادته، وقد ذكرته اللوحة بالمناسبة التي رسمها، وكانت بالفعل ناقصة من وجهة نظره، لأنه في الوقت الذي كان قد رسمها لم يكن بعد قد تأمل على نحو كاف جميع التفصيلات، ولم يكن قد أدرك بعد تلك الأحزان التي تقتحم المرء عند الغروب. أخذ الرسام فرشاة رسم مناسبة وشرع يبسط على السماء غير المكتملة سيلان من الغيوم التي مازالت تحتفظ بالقليل من انعكاسات ضوء الشمس، ومن الجهة اليمنى للوحة رسم ما يعطي انطباعا بأن الريح كانت تدفع الغيوم بشكل سلس، لا يعكر الإحساس بالسكينة التي تسيطر على جو اللوحة، وتحت ضربات فرشاته جلس شخص ما فوق احدى الغيمات تلك، وراحت الريح تنشط لدرجة أن الشخص الراكب هناك أخذ بالابتعاد عن مقدمة اللوحة، وصارت الغيمة كأن لها خفقات أجنحة، ثم صار صوت الريح قويا أكثر وغمرت القاعة التي تناثرت في بعض زواياها العالية بعض الغيمات الصغيرات، لكن الذي حدث في القاعة أن الصمت لف الناس لفا وصار عميقا لدرجة يسمع فيها المرء صوت تساقط الدموع من عيني الرسام، كان الشخص الذي ركب الغيمة له ملامح وجه ميلان، لكن من دون جرح في الرأس ومن دون ثياب مهلهلة بالية، قال الرسام: لا تخف، تمسك الغيمة جيدا لأنها ستأخذك بعيدا عن هؤلاء، أنك حي.

صاح ميلان من فوق الغيمة:

ـ تعال يا أستاذي، مازال هناك وقت لتركب معي.
وحاول ميلان أن يعين أستاذه للصعود الى الغيمة وهو يمد يده اليه، لكن فشل في محاولاته لأن الرسام لم يشأ لنفسه الهروب، وأخيرا لوح بيده مودعا:

ـ أنظر يا تلميذي الى هؤلاء التعساء الذين حولي سوف يهلكون إن لم يكونوا قد هلكوا، ستأخذك ريح اللوحة الى حيث تقيم طيور البحر أعشاشها، أما هؤلاء فسأضعهم في الشعاب السحيقة ليتوهوا داخل اللوحة. وأنزل يده بينما الغيمة تبتعد وتبتعد الى أن اختفت وأشد ما كان يحزن ميلان هو فراق أستاذه. وهكذا وصل الى هنا.
ولكنه قبل أيام، وصله خبر من هناك أن والده قد توفي، وإن التركه التي خلفها صار أغلبها اليه، وهو يعيش الآن في صراع شديد بين أن يرجع الى صربيا وبين أن يبقى هنا.

بدت السيدة متفهمة لما سمعته من ابنة أختها، وأعجبها منها اهتمامها هذا، وأخيرا قالت لها: لقد أزف الوقت. قالت: بالفعل. خرجت، وبقيت وحيدة تفكر، توقفت عند جملة كانت قد قالتها ابنة أختها: أنها ليست كاتبة لتكتب عن ذلك، وأطالت فيها النظر، بعدها قالت في نفسها ولكني موسيقية والجمل الموسيقية قادرة أن تفعل المعجزات، في هذه الأثناء تذكرت أنها لم تقل لفروزة سلمي لي على ابنك في الرسالة التي ستبعثينها اليه مع الهدية، لذلك بحثت عن رقم التلفون الذي أعطته لها، وعندما تمكنت منه اتصلت بها لكن جرس التلفون رن طويلا من دون أن يرفع أحد السماعة، فقررت تأجيل ذلك الى الغد مادامت فروزة لم تصل بعد الى البيت، في تلك الأثناء ضربات عنيفة على السقف. فقالت في نفسها: هذا الأجنبي الأحمق سينغص علي ليلتي.

*   *   *

اهتدت فروزه الى طريق ماريو المكسيكي، بعد أن فارقت أصحابها، أخذت سيارة تكسي الى العنوان الذي كتبته على ورقة ودسته في حقيبتها، والذي أعادته على السائق مرتين في الطريق فأنزلها عند الباب، ما كانت تحتاج للسؤال عنه داخل المبنى لأنها تعرف بالضبط ماذا تفعل، ضربت الباب بأطراف أصابع يدها ففتح لها ماريو متفحصا إياها بعينه المفتوحة وقال لها ادخلي يا فروزه، فدخلت الى غرفة صغيرة فيها رائحة أحست لو انها مكثت فيها خمس دقائق أخرى لقضي عليها. مع ذلك جلست على طرف سرير نومه لأنه لم يكن هناك شيء أخر تجلس عليه. قال: عنواني سهل ما أخطأه أحد. أخرجت كيس التبغ من محفظتها وتمعنت في صورة البحار المطبوعة على الكيس وهي تدفع به اليه: أرجوك ماريو، لقد فعلت المعجزات لغيري، أنظر في حالة ابني الذي يحارب في أفغانستان، أني أخاف من رصاصة تعرف هدفها الى جمجمته أو شظية تقطّعه، أريد منك أن تبذل جهدك في تأمين الحماية له. فقال لها: من يحميه أكبر منك ومني، لكني سأفعل معه ما كان أجدادنا الهنود يستخدمونه أيام ما كان البيض يواجهونهم بالسلاح الناري عندما دخلوا الى البلاد التي جئت منها الى هنا، كان بعض أجدادي يتسلحون بربط نوع من الحجر على زندهم، البيض يرمونهم فتنحرف النار عن أهدافها قبل أن تصل الى أجسادهم.

ـ لكن البيض أولئك أبادوا قبائل وشعوب كاملة بتلك النار التي ما عرفت صغيرا ولا كبيرا، قرأت عن الأمر هذا ورأيته في أفلام عديدة.
ـ تصدقين الكتب والأفلام وتشكّين بما قاله لك ماريو المكسيكي! نعم أبادوا من لم يكن لديه مثل ذلك الحجر، لقد كان من الندرة بحيث لم يكن بمستطاع أي أحد الحصول عليه، كما أن بعض البيض اهتدوا اليه فحموا أنفسهم من السهام الموجهة نحوهم في المعارك، لهذا السبب يكون حضور ابنك الى هنا ضروريا.
ـ كيف أحضره لك وهو على بعد آلاف الكيلومترات!

لا ينفع، سيدة فروزه، لا ينفع، من يريد أن يحمي نفسه يجب أن يقف أمامي لأعرف أي حجر يلائم ربطه على زنده، فتنحرف النار عن مسارها، الحجر أنواع مثل الأشخاص والقبائل، هذا ضروري سيدة فروزة.

بدت يائسة وهي لم تنجز مهمتها على الشكل المطلوب، قالت: سأقنعه أن يأتي معي اليك في اجازته القادمة، طابت ليلتك ماريو.

الفصل السابع
رفعت منى سماعة التلفون وكانت زهرة على الخط، كان ذلك بعد لقائهما معا بيومين، وقد تعرفت على صوتها مباشرة، كان نبرته واضحة ورقيقة في الوقت نفسه، والغرض من اتصالها هو دعوتها للحضور يوم الخميس القادم الى بيتها بمناسبة مجيء عدد من زميلات الدراسة لزيارتها قبل أن يتوجهن الى بلدانهن، فشكرتها منى لاتصالها بها ولدعوتها هذه وقالت لها انها ستحاول الحضور. كانت مترددة، ولقد ظلت طول اليوم والأيام الأخرى تفكر: هل تذهب الى زهرة أم تبحث الموضوع مع زوجها الذي سيمانع من دون أن يعرف شيئا حول طبيعة الأمر، أم تلغي الموضوع من أساسه وتعتذر لزهرة متعللة بأي سبب وينتهي الأمر؟ ظلت الى يوم موعد الزيارة حائرة وقد آن لها أن تقرر، لكن الذهاب الى هناك فرصة لا تعوض، وقد لا تحدث ثانية في حياتها، فأغلب من تعرفهن من النساء لا ينتمين الى عالم المتعلمات خريجات الجامعة. كل اللواتي تعرفهن يتحدثن في اجتماعهن عن تربيتهن للأطفال ومتاعب الأزواج، والحديث عن بعض البرامج التلفزيونية المختصة بإعداد الطعام، وعن أن النظر الى تلك التي تكشف عن سرّتها في الشارع حلال أم حرام، وأشياء من هذا القبيل، تريد منى أن ترى بالضبط كيف تتصرف النساء من غير اللواتي تعرفهن، يخيل لها أحيانا أن الحياة تجري معهن كما لو كن في عالم آخر، هيهات لن تضيع فرصة هذا اللقاء والتعرف على اللواتي تعرفهن زهرة قبل أن تتوجه كل منهن الى بلدها.

هناك تعرفت الى دانتيلا التي من رومانيا وكانت تبدو رائعة وهي في قمة زينتها، مرتدية سترة سوداء وقميصا أحمر أهدته لها سنجاي، هي قالت ذلك أمام للجميع، فوق سروال جلدي أسود، كانت تبدو نابضة بالحياة وهي تتحرك هنا وهناك ولا تمكث في مكان واحد، كانت أمها عضوا في اتحاد الطلبة الرومان في جامعة بوخارست خلال عقد السبعينات المنصرم، وكان لها القدرة على مقارعة الاستبداد. أما هي فقد سارت على الخط الذي سارت عليه أمها التي لاقت أصناف التعذيب من قوى الأمن لكنها لم تمل. غابت زهرة قليلا وعندما عادت هتفت متسائلة في حبور: ما هو رأيكن في شعري؟ الان أفضل أو من قبل أو في رأيكن لا فرق: وألقت بغطاء الرأس الذي كانت تضعه سابقا وسط الجلسة، فتلقفته دانتيلا التي صاحت بإعجاب وأعطته الى سنجاي التي كان شعرها يشع بالبني الضارب الى الاحمرار، ثم تحولن الى منى يطلبن منها أن تريهن شعرها فمانعت، ثم ترددت. بعدها لم تجد سببا واحدا يمنعها من أن تفعل ذلك غير أن يعرف زوجها بذلك، لكن من أين له أن يعرف؟ كل الحاضرات هن من النساء، كل واحدة قصت وسرحت شعرها بالطريقة التي وجدتها مناسبة.

لكن هناك دافع قوي آخر جعلها تقبل أن تنزع غطاء رأسها وهو أن لا تظن واحدة منهن أن تستحي من أن تريهن شعرها لأنه قبيح أو شيء من هذا القبيل، عندما فكت غطاء رأسها وأطلقت شعرها للريح تناقلن الإعجاب به غير مصدقات أن من لها شعر بهذا القدر من الجمال تخفيه عن الأنظار، فامتلأ وجهها بالابتسامة الساحرة، بالنسبة لها شعرت كما لو كان الذي هي فيه الان يحدث لأول مرة، أن شعرها يتنفس من رائحة الهواء الطلق، وربما شعرت للحظة أنه كان يضحك مما هو فيه، لقد جربت كثيرا أن تبقيه طليقا أثناء وجودها في البيت ومع أفراد عائلتها وليس أمام الآخرين مهما كانوا، لكنها لم تشعر بمثل هذا الشعور، وأدخلت أناملها في شعرها تفرق خصلاته، وهزت رأسها فاهتز وأنزلته فنزل، وأبدت دانتيلا استعدادها لأن تعدل من طوله الذي يصل الى منتصف الظهر وأن ترتب قليلا من الخصلات لتنزل متى ما وجدت الفرصة سانحة على الجبهة أو الخدين، لكنها اعترضت هذه المرة بجد، ليس لأنها لا تريد ذلك وإنما ذلك سيفضح تحركاتها هذه عندما تعود للبيت.

بعد ذلك قلن لزهرة دعينا نتناول ما أعددت لنا من طعام قبل أن نذهب لحضور حلقة نقاش حول التغيرات المناخية في العالم، قالت دليلة أنا أريد أن أذهب الى السوق، ولما كن جميعا من بلدان بعيدة عن هنا كما قالت زهرة، وفي منتصف العمر فان التجول في الأسواق فرصة طيبة، وبالنسبة لمنى أسفت كثيرا بعدما تأكدت أن هذا اللقاء بينهن ربما لن يتكرر مرة أخرى بسبب معرفتهن بأن الرجوع الى بلدانهن يعني عودة كل منهن الى عالمها الخاص، إن العودة الى الأوطان تعني بالنسبة الى سنجاي الهندية العودة الى نقطة البداية، كمخلوقات ثانوية تؤدي أدوارا ثانوية، لاتملك الا أن تطيع القوانين السارية هناك، وهي بمجملها قوانين قاسية. لقد حضرن جميعا، أريكا من نيجيريا، والسيدة دليلة الأفغانية التي نزعت الحجاب بملء إرادتها، مونيكا من فنزويلا نجمة أفلام للدعاية والإعلان، التي تطلقت من زوجها ثلاث مرات وتعيش الان لوحدها، والتي كان لها اهتمام شديد فيه الكثير من الفضول بلبنان، لأنه بلد جبران خليل جبران الشاعر والكاتب وقد سألتها: تعرفينه بالتأكيد فقالت منى: بالتأكيد، ولم تكن قد سمعت بهذا الاسم من قبل. كان هناك سنجاي الهندية التي كانت لها القدرة على إشاعة الثقة في من حولها، خلعت سترتها وبدأت الأكل، كان قميصها منسجما مع المكان وموديله يخلب الألباب، والسيدة يانسين من جنوب ألمانيا، لقد أنهين معا دراسة اللغة العربية والعلوم الاسلامية في معهد الاستشراق بجامعة كولن.

وعندما طلبت إحداهن من منى الحديث لم تجد ما تحدثهن به غير ما كان قد وقع لها في القرية قبل المجيء الى هنا، تلك الحادثة التي اكتنفها الكثير من الأسرار والتي انتهت بحصولها على السلسلة التي تحملها معها دائما، وأرتها للمجموعة، كانت تتحدث عن ذلك وهي منفرجة الأسارير وسعيدة، وربما شعورها انها قالت شيئا مفيدا أثلج صدرها، وقد تقبلن الحكاية بتشوق واندمجن معها بشكل لم تألفه منى من قبل، فنظرت إليهن كما لو أنها عرفتهن منذ زمن بعيد. بعد أن استراحت نفسها إليهن، أحبت منهن تصرفاتهن التلقائية، ومن وجهة نظرها أن لزهرة أعدل الأشياء وأتمها وألينها وأحسنها وأطيبها وأسلسلها، لها الزمرد، ولها صدق القول. أما دانتيلا فلها أكمل الأشياء وأشرفها وأشهرها وأكرمها، لها اللؤلؤ وسخاء النفس. ولدليلة أنعم الأشياء وألذها وأجملها، لها أنهار العسل والمودة الصادقة. ولأريكا حرارة أفريقيا والاستدارة واللمعان واللين والتين وكل شجرة طيبة الرائحة، ولها الحرص على أن تملك نفسها عند الغضب. لسنجاي من وجهة نظرها السند والهند والينابيع الحارة والذهب الابريز ولها الذوق والبصر. لمونيكا الياقوت الأحمر والاسورة والخواتم وكل حجر ثمين ولها الشم والسمع. أما يانسين، لها وسط العمر والثبات في كل أمر، كارهة للغش، صادقة للمودة ناعمة لكل إشارة، لها الفطنة والوقار، أما دليلة، مدورة الوجه التي كانت مليحة بسمرتها المائلة للحمرة، فلها كراهية استعباد الناس بالظلم واستعمال الغش، لقد رمت وراءها العسر والشدائد والهموم والحيرة.

واقترحت إحداهن ان يأخذن صورا بالمناسبة فقالت مونيكا ماذا ستفعلين بها في المستقبل عندما تتقدمين في السن غير أن تقلّبين في هذه الصور، تنظرين فيها كما لو كانت مرآة للأوهام، فالأيام لا يمكن استعادتها، والرفقة عقد وانفرط، قالت يانسين: على كل حال الصورة تؤرخ للذكرى، والذكرى نافذة الماضي كما العين نافذة الروح، وراء تلك النافذة تبقى أفراحنا معا ونحن نتناول الطعام الذي لم نذق مثله، ويبقى غطاء رأس زهرة موضوعا على كتفي مونيكا بعدما تخلت عنه تلك الساعة، ويبقى شعر منى لنا وليس تحت الغطاء، هكذا نداعب بعضنا بالعواطف الفائضة في صدورنا، الصور تبقى على ما هي عليه وعمرها لا يتغير.

لم تسمع منى مثل هذه الأحاديث والتعليقات من قبل، خاصة في الاماكن التي تجمعها دائما بنساء قدمن الى هنا بالطريقة نفسها التي قدمت بها كزوجة لرجل يعيش في ألمانيا، قالوا لهن البسن هذا لأنه محتشم، ولا يظهر شيئا من جلودكن فيلبسنه ولا تلبسن ذاك الفاضح المتهتك فيبتعدن عنه، لم تناقش أحداهن وضعها ولم تتجرأ أن تسأل أحدا مجرد سؤال لأنها أصلا لا تريد أن تحمل أسئلة، مرة سمعت إحداهن تقول لزميلتها: هناك نساء من اللواتي لا يرتدين الحجاب ملتزمات بالتعاليم الإسلامية، أكثر من اللواتي يرتدين الحجاب. فأجابتها: اسكتي، لا تقولي ذلك لئلا يسمعك غيري. وقد أفزع منى ذلك، لا تدري لماذا قالت لها ذلك، ما الذي تعرفه هي من التعاليم غير هذه المعتقدات التي نمت معها منذ أن كانت صغيرة.

عندما انتهين من الطعام طرحت مونيكا على من لا تذهب الى الندوة وعلى من لا تذهب الى التسوق فكرة الذهاب الى أحد المقاهي على أن تلحق الأخريات بها، وكن تقريبا متفقات لولا أن منى أبدت ترددها في البداية ثم أصرت عليه، وقد أصابها ذلك بالألم الذي أخذ يعصرها لأنها خافت أن يفسر منها ذلك على أنه نوع من التخاذل، لقد تحدثت زهرة قبل ذلك عن الجدية التي يوليها المسلمون لمفهوم الولاء للجماعة وقد استحسن الجميع منها ذلك ثم تأتي هي وتقف في طريق المشروع الذي طرحوه بهذا الشكل ليناقض ما قالته زهرة، ثم قالت لهم: عليّ أن أغادر لأن لي من ينتظرني. لكن زهرة حدجتها بنظرة: وهل أنت الوحيدة التي لها أبناء في هذه الدنيا؟ كانت تريدها أن تبقى والأخريات أردن منها ذلك أيضا، لكنها غادرت وهي محتارة وحزينة وقد تملكها شعور بالحرمان من أشياء عديدة يمتلكها الآخرون، لم تكمل غير التعليم الابتدائي، لم تر من العالم غير ما هو مرسوم لها بدعوى أنها اذا فعلت غير ذلك خالفت الشريعة التي يسير عليها زوجها، ألم تأت هذه المرأة الأفغانية الى هنا ولوحدها، هل خالفت الشرائع السماوية أو الأرضية؟ نعم يمكن أن تكون مخالفة لها لو كان زوجها من النوع الذي يرى أنها خالفت، إذن الموضوع له علاقة بالرجل نفسه، هو الذي يحلل هذا أو يحرمه، هو الذي يقول هذا أسود وهذا أبيض، ويريد من التي يوجه لها القول أن تؤمن بذلك.

لم تألف مثل هذه الاجتماعات، ولا مثل هذه الأحاديث، كل اللواتي التقت معهن كن مثلها تعليمهن محدود، ونظرتهن للأمور غير نابعة من نفوسهن وإنما رسمها لهن آخرون، فلا تتجرأ الواحدة أن تقول رأيها واذا حدث وكان ذلك فما أسهل أن تنكره لاحقا اذا ما استشعرت خطرا من وراءه، لم يعرفن من ألمانيا التي قدمن اليها غير الغرف التي تتنقل بينها في البيت والزيارات المحدودة لبعضهن، والحديث في الأمور الصغيرة التي طالما تحدثن بها كما لو كن في أوطانهن، والذهاب أحيانا الى المحلات للتفرج على الموديلات الجديدة لتوجيه النقد لها، الفارق أنهن يقمن الان في أماكن بعيدة عن الاهل والأقرباء.

كانت منى وهي راجعة الى البيت، تلح في فهم أمر أصبح مثل وسواس في رأسها بعدما استمعت السيدة يانسن وهي توجه الكلام لها في بيت زهرة: لم تقولون مالا تريدون قوله، وتفعلون غير ما تقولون، وأحيانا غير ما تريدون؟ ألا تعتقدين أن مثل هذا الازدواج في النظر أمر يعرض صحة الانسان للخطر؟ حاولت منى أن توضح لها أمورا عديدة لكن تلك الأمور اختلطت لديها فلم تستطع المواصلة. بينما واصلت السيدة يانسين كلامها، قالت لها أن لها جارا من سوريا قال لها أن زوجته تستعد للسفر الى سورية لمدة اسبوعين لتحضر حفل زفاف أختها، وهذا الجار سألها إن كانت لها الرغبة في الذهاب بصحبتها، سيكون الاهل سعداء في استقبالك هناك. وسهل لها الأمور كثيرا فامتلأت بالحماس، وبالفعل أكملت الإجراءات وحجزت معها وسافرت. هناك زارت الكثير من البيوت والجوامع وقد اشترت لوحة مكتوب عليها أسماء الله ومسبحة وعباءة مخملية، وعندما كان يأخذها التعب أحيانا وهي في احدى جولاتها كانت تجلس لتستريح، وغالبا ما يكون ذلك بجانب كومة من الزبالة، وكان هناك الكثير من الناس يجلسون أيضا دون أن يفكروا بتنظيف ما حولهم.

وهناك حضرت العرس في صالة تؤجر للأعراس مقاعدها وكانت الضيافة آيس كريم بالفستق وأشياء أخرى، والعريس موظف في الشركة الأهلية للنقل والعروس معلمة في احدى المدارس التي في القرى، تخرج من السادسة صباحا من بيتها وتتنقل في ثلاث وسائط للنقل وتعود في الرابعة عصرا حذاؤها مثقل بالطين تخلعه سريعا لتلحق صلاة العصر، تلك الليلة ستهدي زوجها غشاء بكارتها الذي لم يمس من أحد، فقد رأت بأم عينيها كيف انتظر أهل العريس في ليلة زفافها الى زوجها المنديل الأبيض ملطخا بدم الغشاء، وهذا ما أثار عندهم الفخر، وقبل ذلك دارت مع السيارات حيث كان الأخ الأكبر للعريس يعمل سائقا في مكتب تاكسي، وقد أقنع رفاقه من السائقين أن يطلقوا زمور سياراتهم نصف ساعة في الشوارع حاملين الأهل والمعارف من الجانبين الى الصالة التي تقام فيها الأفراح، قالت: كانت النساء ترقص مع النساء والرجال مع الرجال في صالة أخرى، رقصت معهن وقد ضحكت الكثيرات من غرابة رقصي لأنه لا يتجانس مع الموسيقى التي كانت تعزف، وصرن يسحبنني الى المنصة المرتفعة المخصصة للرقص، رقصت لأني أردت مشاركتهم فرحهم ونزلت لأتناول الآيس كريم.

وسألت: اذا كانت المرأة عندكم تتسلى من أجل الرجل فلماذا كن يضعن الماكياج الصارخ على الوجه ولماذا يرتدين الملابس التي تكشف أجزاء كثيرة من أجسادهن وليس هناك رجل في السهرة. قلت لها من الصعب أن اشرح لك ذلك وفي الوقت نفسه من الصعب عليك أن تفهميه، وكانت تهز رأسها مصدقة ذلك أو مكذبة، قالت: وعندما انطلقت الزغاريد فجأة بشكل قوي وصاحت احدى النساء: وصل العريس، كانت هي آنذاك وسط مجموعة الراقصات على المنصة، تراكضت النسوة وتناولت كل منهن غطاءها لتضعه على رأسها، وخلال ثوان تحولت الصالة المضيئة بالوجوه الملونة والأكتاف العارية والبطون المرتجفة الى كتل من الأغطية المتراصة جنب بعضها، لقد فزعت، لماذا تركنني وحيدة وسألت أقرب واحدة الي: ماذا حدث؟ قالت: وصل العريس. وفي الحقيقة هززت رأسي متفهمة جهلي بمعنى وصول العريس الى المكان، لكن لماذا وضعن الأغطية والعريس قد وصل. دخل العريس وهو شاب لم يتجاوز عمره الثلاثين، كان خجولا وبرفقته من الرجال اثنين أو ثلاثة، عندما تحرك نحو العروس وبارتباك وسط الناس الذين كانوا يراقبونه من وراء الأغطية، كاد أن يتعثر، بعدها استبدل العريسان الخاتمين من اليسار الى اليمين ورقصا معا تحف بهما الجموع كما لو كانا مخلوقين نزلا من كوكب أخر، رقصا لدقائق ثم خرج مسرعا كمن تخلص من مأزق أو همّ ثقيل، وما أن غاب خارج الصالة مع الذين قدموا معه حتى رمت النساء الأغطية من على رؤوسهن وانطلقن الى المنصة بشوق من بعد طول فراق بأذرعهن المتلألئة بأساور الذهب وحمرة شفاههن القوية وصرخاتهن كما لو كن في غابة.

عندما نهضت منى واقفة لتغادر الجلسة، كان قرارها نهائيا، لقد أحكمت ربط غطاء الرأس جيدا وكن ينظرن الى براعتها وخفة يديها كما نظرن الى براعتها في فكه قبل ذلك، ومن غير أن تنظر في مرآة كانت تعرف بحكم الخبرة والعادة أنه لم يبن من شعر رأسها ولا شعرة واحدة، ولم تكتشف أنها كانت حافية القدمين الا عندما وصلت الى باب المنزل هناك دست قدميها في فردتي الحذاء، قبل أن تعطيهما للريح.

الفصل الثامن
لا أدري لماذا تحدثت مع فروزه عن ربيكا التي قادها ستار مساء أمس الى تحت الجسر، ربما كان يفكر بالقضاء عليها نهائيا، وبعد ذلك رميها في ماء النهر، لكنه عدل عن ذلك واكتفى بضربها عقابا على الوضع الذي كانت تعيشه بعد أن طردها من بيته، فقالت:هناك أشياء عصية على الفهم لأن ربيكا حسب معلوماتي سارت معه الى النهر ولم يقدها. قلت: ربما، هناك أشياء صعبة الفهم، هل أنت معي، صعبة لدرجة أني لم أقل لك ذلك عن ستار سابقا، من قبل أن يعمل ستار في المستشفى، كنت كل يوم عندما أخرج من البيت أرى الكشك القريب من محل إقامتي مفتوحا، دائما يفتح أبوابه في الساعة نفسها، آخذا في حسابه الجرائد التي تصل مبكرة، والطلاب أيضا إذ أنه في الفترة الأخيرة كان قد ضم الى بضاعته الأساسية بعض المستلزمات المدرسية، فقد يصادف أن يكون طالب ما أو طالبة أثناء المرور من أمام الكشك في الطريق الى المدرسة يتذكر فجأة ان عليه أن يشتري قلما أو دفترا أو أي شيء أخر. ونادرا ما كنت أرى السيد ماركوس جالسا بعد عناء وضع الأشياء وترتيبها في محلها، وقد مضى على ماركوس وسابينا تسع سنوات من الزواج السعيد، وقد طلب منها أن تترك عملها في حانة "ساحة السباق" لأنه كما هو واضح لم يكن متحررا بالقدر الكافي مثل الكثير من الرجال هنا، ليتحمل مشاهدة زوجته الجميلة ليلة بعد أخرى عندما كانت تحمل أكواب البيرة الى الزبائن. يقرصها هذا أو ذاك في مؤخرتها عندما تديرها لهذه الناحية أو تلك، وقد بذلت هي مجهودا كبيرا لتلبية رغبته، مراعية إحساسه المرضي بالرجولة. كان الزوج قد أضاف الى تلك الرغبة شيئا آخر يبرر طلبه بتركها العمل، وهو أنه يرى أنها بدورانها الدائم على الزبائن في إلحانه قد يأتي يوم وتجد نفسها في وضع صحي حرج جدا لان من يعملون هذه المهنة دائما ينتهون الى الوقوف أمام عيادات الأطباء علهم يشفون ركبهم التي لا تعينهم على الوقوف، ولان الحياة هي حياة واحدة لذلك فمن المؤسف أن يقضي المرء قسطا وربما هذا القسط طويل، وهو لا يستطيع الوقوف على قدميه بشكل صحيح، وطالبها بأن تكون ركبتيها لها، لأنها أحق بها من أناس لا تعرفهم.

تركت سابينا زوجها يعرض وجهة نظره في الموضوع الا أنه لم يقنعها أبدا، واذا كانت قد تخلت عن عملها لتقف معه في الكشك، فذلك من أجل الحب كما صرحت له بذلك اكثر من مرة، وقد تفهم رأيها وقدره. وكان دائما يستوقفني ليسأل هل صحيح أن عمل الفتاة في بار في بلادنا يسبب لها مشاكل اجتماعية، وهل صحيح أن الفتاة في بلادنا لا تركب دراجة، ولا تمارس بعض الألعاب الرياضية، خشية أن يسبب ذلك لغشاء بكارتها خدشا، وكان يحاججني أنه قرأ في واحدة من هذه المجلات التي في يبيعها في الكشك أن العذرية تكاد تكون شبحا تنسج حوله الأساطير، بدءا من الأحاديث السرية للفتيات المراهقات الى من فاتهن الزواج. ومرات يغير من هذا الحديث ليبين لي على ان اطلاعه واسع، واهتماماته متنوعة، كأن يقول مثلا: أعرف أن الأطفال في بلدك يموتون بالعشرات وربما تريد أن توضح لي أننا هنا في أوربا جميعا مسؤولون عن ذلك، لكن بعد ذلك يعود ويسأل: هل فعلا تنشأ الفتاة عندكم على أن عذريتها هي الهدية التي ستهديها للزوج المنتظر، على أنها رمز للإخلاص، ودليل على قدرتها على حماية نفسها وسمعتها وشرفها وشرف عائلتها حتى ليلة الزفاف. هل فعلا أن غشاء البكارة، هذا الجلد الرقيق في الجسد الكبير يمثل حالة خاصة من الوعي والإدراك تصل الى حد العبء الذي تحمله الفتاة عندكم على كاهلها منذ بلوغها؟ه ل أنه العامل الوحيد طبقا للأعراف والتقاليد الاجتماعية الذي يحدد ما اذا كانت نقية وتمتاز بالعفة والأخلاق الرفيعة، أو ما إذا كانت منحلة الأخلاق، في سنوات ما قبل الزواج؟ هل هو فعلا الدليل الوحيد على عذرية البنت عندكم، ودليل إثبات على أن رجلا لم يمسها من قبل؟ هل فعلا أن الأهل يفرطون في حماية ابنتهم وتضييق الخناق عليها مما يصل الأمر أنه في بعض القرى المصرية والسودانية والإريترية، تقوم الأسرة بإجراء عملية ختان للبنت فور بلوغها، لئلا يكون لديها أية رغبة في ممارسة الجنس؟

هذه الأسئلة وغيرها كان يطرحها علي، الا أني في ذلك اليوم رأيته جالسا الى المنضدة التي في داخل الكشك يحتسي القهوة، ويقرأ في واحدة من تلك الجرائد، ويدخن بنفس عميق، لكن الأمر اختلف بعد منتصف النهار، بسبب من أن زوجته لم يكن لها رغبة مناوبته العمل في الكشك، فسعى الى التوصل بمن يريد العمل عنده لقاء أجر. ولقد وافق على ان يكون ستار هو المرشح لهذا العمل، على أن يعمل في الكشك أربع ساعات يوميا يبدأ من الثانية بعد الظهر. هذه المواعيد بدت لي ثابتة لا تتغير، لكني مع الوقت بدأت أرى السيد ماركوس يجلس دائما الى تلك المنضدة التي في الكشك المخصصة للزبائن. يشرب القهوة ويدخن لدرجة أن من يدخل لشراء جريدة أو أي شيء آخر لا يترك مكانه الى حيث يجب أن يكون، بل يجعل الزبون يقوم باختيار ما يريد ثم يأتي الى المنضدة حيث يجلس ويحاسب على ما أخذ. في ذلك اليوم كان جالسا الى المنضدة كما قلت مقطبا جبينه صامتا مستغرقا في قراءة الجريدة لدرجة أني عندما سلمت عليه، لم يجب لأنه ربما لم يسمعني، وربما لم يرني من خلال الزجاج، كان في قميصه الأبيض وقد خلع سترته الجلدية التي هي محط إعجابه، حينها تساءلت ما هذا الذي عصف بتفكير السيد ماركوس؟ ما هذا الذي كان مستغرقا فيه؟ لا شك أن هناك تغير ما قد حصل.

في ذلك اليوم وجدت السيدة سابينا زوجها غير موجود في الكشك عندما مرت عليه بالصدفة، كان باب الكشك الزجاجي مقفولا، ففتحته بمفتاحها الخاص، وربما توقعت أنه غادر المحل لسبب ما، ولكن بعد ساعة أو ساعتين لم يعد الى الكشك ولم يتصل بها، فاتصلت في البيت وعلمت من ابنها أنه لم يصل بعد، ولم تغادر الكشك الا مع وصول ستار في موعده، وانتهى ذلك اليوم دون أن يبن له أي أثر، ولا في اليوم الثاني. عشر مرات، مائة مرة أمام سابينا ثم أمام الشرطة وبعدها أمام القضاة كنت قد أعدت أقوالي التي لم أغيرها لأني لا أعرف غيرها، والتي تم تأكيدها وتدقيقها مع شهادة كل الذين قد دخلوا الى الكشك في ذلك اليوم لشراء جريدة أو علبة سجائر أو أي شيء آخر، أو الذين مروا صباح ذلك اليوم وشاهدوا ماركوس في الكشك، إن رجلا في الأربعين من العمر لا يمكن أن يختفي هكذا من محل عمله الا اذا كانت هناك أشياء دفعته الى ذلك الفعل، لكن الحقيقة التي أثبتت في كل المحاضر التي سجلت أنه اختفى، وبالضبط بين العاشرة والحادية عشرة، ولم ير أحد كيف اختفى، اختطفته عصابة مثلا، أو رآه أحد يستقل قطارا أو حافلة. كانت الدهشة والذهول ثم الشعور بالضيق الشديد هي المشاعر التي سيطرت على الزوجة، أو ربما على الكثيرين ممن يعرفون الزوج والزوجة. بعد يومين وأنا راجع من عملي وجدت نفسي وجها لوجه مع سابينا، فقالت لي على الفور: ألم تقل أنك رأيته في الصباح وأنت متوجه الى عملك؟

ـ نعم قلت ذلك، وسأقول ذلك دائما.
ـ لكن ألم يفعلها ويبح لك مرة بسر له علاقة بهذا الموضوع؟
ولم تنتظر مني جوابا فقد تركتني وهي تردد: كنت أعرف أنه سيفعلها، الوغد.

وقد ظل الكثير ممن يعرفونه يعتقدون أنه لم يذهب بعيدا، أما سابينا فقد فتحت الكشك في اليوم الثاني صباحا الى الثانية، وكانت على الدوام تتحرك قريبة من التلفون، فربما تتلقى عبره الخبر الذي يقول أن ماركوس مختطفن وأنه بصحة جيدة وان عليها، أن تنتظر اتصالا هاتفيا ثانيا يحدد لها مقدار المبلغ الذي يطلبونه لكي يعيده المختطفون اليها سالما، لكن هذا لم يحدث، وفي مساء اليوم الثالث اتصلت الزوجة بالشرطة لتبلغهم خبر الاختفاء الغامض لزوجها، وعندما أخذوا علما حرروا مذكرة بذلك، لكنهم بدوا أقل انفعالا منها بالحدث، وقد طمأنوها بأنه لم تسجل خلال الساعات الثماني والأربعين الماضية حادثة طريق، أو حادث غرق في نهر الراين أو في بحيرة، وانه لم يكن من بين الذين قتلوا في هذه اليومين، كانوا على قناعة بأن ما حدث ليس سوى هرب من الحياة الزوجية، فالكثير من الأزواج يفعلون ذلك عندما تنتهي حياتهم الزوجية الى طريق مسدود، وانه يجب أن يحدث ما يغير منها، وهذا الذي فعله هو أقل ما يجب فعله بالنسبة لمثل هؤلاء الأزواج اليائسين، وقد سألوها ان كانت له علاقة بامرأة ما من هذه المنطقة أو من المناطق الأخرى، وكان سؤالهم فيه الكثير من المراوغة، أجابتهم بالنفي، ثم بعد ذلك أخذت تجيب بالنفي القاطع كلما وجه لها أحد مثل هذا السؤال، وتقسم وهي تشعر بالمذلة وقد احمر وجهها أنه خلال السنوات التي أمضياها معا لم يبت خارج البيت.

هناك الكثير من معارفه وأصحابه ينهمكون كل مساء تقريبا في لعب الورق بالمقهى التي في نهاية الشارع على الزاوية، وسرعان ما يطلب الخاسر أقداح بيرة للآخرين الذين يلعبون معه، الأمر الذي يجعلهم يشربون دائما بنفس المقدار، أما هو أيام السبت فقط كان يذهب الى المقهى ويجلس على مقربة منهم على طاولة أخرى ويطلب بيرة ويدك غليونه في المنفضة وهو يتأمل اللاعبين، كان أصحابه يحيونه من وقت لآخر، دون أن يرفعوا أعينهم عن الورق، أحيانا يرفع أحدهم رأسه عن الورق ويسأله عن سير العمل في الكشك، فيبطئ هو في الرد، أو لا يرد في كثير من الاحيان، وقبل منتصف الليل يفرغ غليونه في المنفضة، ويدفع حسابه ثم يمد يده بالتحية لكل واحد من أصحابه، ويخرج مودعا صاحب المقهى. ولم يتأخر يوما في فتح باب الكشك صباحا، حتى لو كان يشكو من علة أو داء. مرت أيام ولم يأت، فحضر رجال الشرطة ثانية الى المنزل وفتشوا بشكل دقيق الغرف وزوايا المنزل وفتحوا الأدراج وفتشوا الكشك، وراحوا يجمعون الأدلة، وشهادات الشهود، واستنتجوا أنه رحل عن المنزل والكشك بغير أوراق ثبوتية، بالملابس التي كانت عليه، ليس معه نقود لأنه لم يأخذ من خزانه الكشك شيئا، ولا من حساب الكشك في البنك. والغريب أنه لم يأت أحد ليضيف شيئا الى الموضوع بعد نشر صورته في الجرائد وعلقت على الأعمدة، وأطر الاعلانات العامة.

نأتي الان الى ستار، بعد غياب ماركوس بعدة أيام، أعلنت سابينا ارتياحها لوجوده، لأنها لولاه لما استطاعت ان تفعل شيئا، لقد مد لها يد المساعدة لدرجة أنه حل بدلها ليعمل من الصباح الى المساء، كما حل مكان ماركوس في البيت، لأن ستار لم يعد يذهب الى بيته، لقد سار الأمر سريعا كما لو أن ستارا وسابينا ينتظران اختفاء ماركوس ليدخل الى البيت ويخرج كما يشاء. كان ستار فرحا بعمله هذا، ويبدو كأن الدنيا قد تفتحت أمامه، فبدا منشرحا أكثر مما يجب ومنفتحا على الحياة التي كان ماركوس غير منفتح عليها، وقد عاملته سابينا بلطف شديد، فبادلها المشاعر بمثلها وربما أكثر، وتمكن من إقناعها بإجراء تعديلات مناسبة على الكشك وتعديلات في البيت شملت ألوان جدران غرفة النوم والغرف الأخرى، وبدأ يغتنم فرصة عطلة نهاية الأسبوع ليأخذها في جولات الى الضواحي وأحيانا أبعد من الضواحي، وأحيانا يأخذها في جولات في غير أوقات عطلات نهاية الأسبوع، ومع أن بعض الناس استنكر منها أن تفعل ذلك وأمر زوجها لم يحسم بعد، لكن لم يقل لها أحد ذلك وجها لوجه، لكنها سمعت من يقول: لقد تمكن هذا الأجنبي بألاعيبه الخبيثة من الوصول الى هدفه. بالنسبة لسابينا رفضت اعتبار ان زوجها قد مات، كما رفضت فكرة أن أحدا اعتدى على حياته، كان ذلك أمرا مستبعدا من تفكيرها، فكل الدلائل تشير الى أنه اختفى فقط، ولقد تعاملت مع المسالة من واقع أنه رحل، وما دام أنه أراد ذلك، فلم تحاول أن تعرف أين رحل، كانت كثيرا ما تشعر بالغيظ منه أكثر من الحزن عليه.

بالنسبة لي كنت على يقين من أنه كان يحوم حول المكان ليعرف ما آلت اليه الأمور بعد غيابه، وربما يأتي يوم ويظهر فيه من جديد، وفكرتي هذه لم تأت من فراغ لأنه في مرة طلب مني سائق مرافقته الى المكان الذي يريده لأساعده في نقل بضاعة الى سيارته لقاء أجر، وبالفعل ذهبت معه، وبينما كنا نجمع البضاعة لتحميلها قال لي السائق لا تتعب نفسك أكثر، يمكن أن تأخذ بعض الراحة وتجلس هناك لتناول مشروب ما وسيأتي من يحل مكانك، بالفعل ذهبت هناك، وبينما كنت أحتسي القهوة دققت النظر في الشخص الذي أراد أن يحل محلي، الا أنه غير رأيه وعدل عن ذلك وولى الأدبار، ربما لأنه أرادني ألا أراه، ولأن المكان معتم بعض الشيء فلم أكن متأكدا أنه يشبه السيد ماركوس، حينها تركت القهوة وأسرعت، لكن للأسف فقدته، وعندما سألت السائق عن معرفته به قال: إنه مجرد شخص عابر، أحب أن يمد يد المساعدة، الا أنه غير رأيه في اللحظة الأخيرة، وبسرعة لا أدري بعدها أين اختفى، قلت له:

ـ هل تتصور، لقد تخيلته ماركوس الذي اختفى من الكشك قبل أكثر من ستة شهور.
ـ يبدو أنك لست على ما يرام، ماركوس غادر المنطقة.

لكن إجابته لم تهدئ من روعي، وقد أحيا السائق شكوكي أكثر عندما مال علي في طريق العودة ليقول: أرجو أن لا تذكر شيئا من ذلك لأحد،فهذا ربما سيثير مشاكل على المرء الابتعاد عنها. واحتفظت بهذا السر لنفسي، لكني بعد ذلك كلما ذهبت لتلك المنطقة لسبب أو آخر، لا أتمكن من منع نفسي من التوقف والبحث بفضول في أرجاء المكان علّه يظهر لي.

مرة كنت في حفل تكريم جار لي دعاني لحضور حفل تكريمه، أكلت كثيرا حينها وشعرت أني يجب أن أتقيأ، فذهبت الى الحمام وتقيأت، وكاد يغمى علي، وبينما أنا عند المغسلة، وقد أفرغت معدتي وكنت تقريبا فاقد الوعي، خيل الي أني عندما رفعت رأسي لمن يمد لي منديلا أنه ماركوس، وأبعدت الفكرة من رأسي لأني كنت في حالة يرثى لها. ومرة كنت في مسبح شتوي برفقة ستار وسابينا، وحدث أن قفز صبي من أعلى القفاز فغطس في الماء ولم يخرج فأسرع أحد الرجال للغطس وراءه ليخرجه من أسفل الحوض، وكان الناس قد تجمعوا حول الصبي ولم يدقق أحد في شكل من أنقذه، كنت قد لمحت شخصا يشبه ماركوس، وربما لم يكن أحد غيره، ذهبت الى حيث كان الصبي لكنه اختفى فجأة، سألت ان كان المنقذ عاملا في المسبح فكان الرد أنه من الناس الذين لم يرهم أحد من قبل. طبعا ستسأليني عن ذهابي الى هناك برفقتهما، وقد فاتني أن أذكر أنها بدأت تدعوني ربما بضغط من ستار لأمضي بعض الأمسيات في بيتها، وكنت ألبي تلك الدعوات عن طيب خاطر، وهناك في البيت كانت تناقشني بما كان زوجها يناقشني به من قبل من مثل: ما الأمر الذي يجبر بعض الفتيات على إجراء عمليات تسمى بإعادة الغشاء الذي فقدته أو إعادة العذرية التي أصبحت عمليات شائعة ورخيصة التكلفة ولكن بصورة سرية. فكما سمعت يقوم عدد من الأطباء بها في عياداتهم في بعض الدول العربية، أو في بيوت متخصصة لذلك بمنتهى السرية والتحفظ لأنها غير قانونية، الا ترى أن الزواج عندكم مبني على غير الصراحة والوضوح؟ قال ستار: تستطيع مثل هذه العملية أن تنقذ الفتاة التي أجريت لها العملية من الموت المحقق، اذا ما خاضت علاقة عاطفية وندمت عليها، تريد أن تبدأ حياة جديدة، فهذه العملية هي الملاذ الأخير لحمايتها من نظرات المجتمع، وحماية سمعة عائلتها. وقد تقول: ربما لا يرى الطبيب هذه العملية خداعا من جانب المرأة للرجل، حيث أن الكثير من الرجال هم الذين خدعوا الفتيات اللواتي جئن لإجراء العملية لديه بالنفاق والكذب وادعاء الزواج، حيث أن المشكلة الحقيقية تكمن في الكذب والنفاق. هناك التباس كبير في هذا الموضوع، فالشاب الذي كان السبب في فقدان فتاة ما عذريتها يكون أول شخص يرفض الزواج من فتاة ليست عذراء.

فيما بعد أصبحت مثل هذه الموضوعات تشغلها كثيرا، لدرجة أنها أصبحت تحاكم ستار بعدما أصبحت لا أميل الى الذهاب اليهما كما لو أنه السبب في سن مثل هذه القوانين، ومرة قالت إنها تريد السفر الى بلاد عربية، ولتكن مصر لتتعرف على مثل تلك الأشياء عن قرب، لكن الحقيقة كما اتضحت فيما بعد هي غير ذلك. وهي أنها بدأت بتصفية بعض أمورها، مثلا الكشك، كانت تبحث عن شخص يشتريه وطلبت مني مساعدتها في إيجاد شخص، وقد ساعدتها بنية سليمة وقلب صاف من دون أن أسأل عن نواياها وتخطيطاتها من وراء ذلك، وقد التقيت حينها بأحد المعارف وفاتحته في الأمر عسى أن يعرف أحدا يشتري الكشك، فقال أنه على استعداد لذلك واتفقنا على موعد أجمعه بها، وانتهت عملية البيع والشراء بيسر شديد. بعدها وجد ستار نفسه من دون الكشك، ومن دون السيارة التي تملكها، وفور تحررها من ارتباطها بالكشك، سافرت الى القاهرة في سفرة جماعية لقضاء إجازة، وعندما سألتها لماذا القاهرة، قالت أنها تريد أن تراجع بعض أحداث التاريخ، ذلك الذي تعلمت منه البشرية الشيء الكثير، بالفعل سافرت، لكنها غيرت قفل الباب عند مغادرتها الشقة، وعندما أراد ستار الدخول الى الشقة اكتشف فعلتها. فعاد الى شقته الأولى وهو يلعنها، أو اذا دعت الحاجة كما قال هو يكشف المستور أمام من يهمه الأمر، وبالنسبة لي لا أدري الى الان ما المستور الذي يريد أن يكشفه ويقصم ظهرها به لأنه لم يبح به.

وعندما عادت من سفرتها اتصلت بي ولم تتصل بستار، وطلبت مني الحضور الى بيتها، بعد انتهاء العمل ذهبت اليها وفي ظني أنها تريد التوصل الى صيغة ما تجمعها مع ستار، أو تنهي علاقتها به نهائيا، كان يبدو عليها الراحة التامة بعد هذه الرحلة، بعدما فتحت لي الباب قالت، عدت اليوم فجرا من القاهرة وأنا بعد تحت تأثير العديد من الانطباعات والمتناقضات القصوى لهذه البلاد. اختارت لي المكان الذي أجلس فيه بالقرب من طاولة فوقها العديد من المجلات والتحف التي عادت بها، قالت: في اليوم الثاني وأنا في القاهرة وقعت في يدي مجلة وكان فيها حسب ما ترجم لي، رسالة وعظية حول القوانين الصحيحة المتعلقة بلباس المرأة، والى جانبها صورة لعارضات نصف عاريات في صفحة الأزياء والموضة، وعندما سألت أحدا حول ذلك، أجابني بكل هدوء "هذا هو مجتمعنا" مجتمع منقسم على نفسه بهذه الطريقة، وممزق على هذا النحو.

ثم أن هناك الفوارق القصوى، كنت كما لو أني أتنقل بين بلدان مختلفة، وليس داخل بلد واحد، لكن في الوقت نفسه التقيت بعناصر نسائية من مرتبة راقية، لهن قوة الشخصية ما يجعلني أنطوي على شعور بالخجل أمامهن. ثم هناك الطرف النقيض، المرأة المسحوقة، لقد أوصلني بعضهم الى مناطق رأيت فيها النساء لا تعرف من السماء غير الجزء الضئيل الذي يتراءى لهن داخل جدران باحات بيوتهن، لا يغادرنها البته الا في المناسبات التي تمنحها لهن الاحتفالات العائلية المرتبطة بالظروف، انني على قناعة أن ذلك أمر غير قابل للاحتمال، عندما علمت أن أحد الرجال المسنين الذين يجلسون في المقهى الذي في الحارة يقول: أن النسا ء اللواتي لا يرتدين الجوارب السوداء عند خروجهن من المنزل حتى لو كانت درجة الحرارة تصل الى الأربعين سيكون مصيرها الجحيم. الا ترى معي أن هذه متناقضات محيرة؟ قلت: أن المشكلة الكبرى التي يعاني منها الناس أن الذين أخذوا قسطا من التعليم يجدون أنفسهم بعيدين بشكل ما داخل مجتمعهم الخاص، وهؤلاء لا يولون اهتماما للملايين التي تعج بها البلاد، انهم على درجة من الفقر والجهل والبعد وهذا ما يعمق الهوة التي تفصل بين الناس،قالت: وهنا يظل الوحيدون الذين يمدون يدا للناس هم من أمثال ذلك الذي يجلس في مقهى الحارة ليملئوا الفراغ.

أردت الدخول في موضوع ستار، فسألتها ان كانت قد ذهبت اليه أو اتصلت به فلم تجب، واستمرت كما لو أنها لم تسمع مني ذلك: في رحلتي رأيت تأثيرات بلدان الخليج تتجلى بطرق مختلفة لدى الأغنياء عما هي عليه لدى الفقراء، الأولون يشيدون في الضواحي فيلات عامرة، أما الآخرون فيجلبون من تجربة عملهم في بلدان الخليج نمط حياة يعبر عن نفسه بالأساس في المظهر الخارجي لزوجاتهم.

في شهر أغسطس كل الفنادق الفاخرة هناك حجزها السواح الخليجيين وبعد أمسية في فندق من الدرجة الأولى توصلت الى قناعة بأن الانحطاط الذي ينسب عادة للغرب يكرع الناس منه هناك بلا حساب أو تحفظ، ولكن يحلو السهر في الأحياء القديمة والمقاهي مفتوحة لوقت متأخر وأصوات غناء هنا وهناك وضحكات عالية والطعام أشكال وألوان، ورائحة في الجو وعربات الشواء الزجاجية على نواصي الشوارع، أمامها مقاعد ومناضد، وكان البعض من أهالي المدينة يأتون بزوارهم من الأجانب في عربات فارهة لقضاء السهرة هناك، وبعد أن يأخذوا جولتهم في الأحياء ويتنقلون ما بين المقاهي يقفون أمام احدى عربات الشواء لتناول عشاءهم، أحيانا يرفض صاحب العربة في شهامة أخذ مقابل، وهو يقول لمن قدم معهم: ضيوفك ضيوفنا، يكفيني مجيئكم. ويواجه بالنظرة الصارمة من ذلك الرجل الذي يترك النقود على المنضدة ويمضي.

كان قد لفت انتباهي مجموعة من القبعات الموجودة على كرسي قريب منها، وعندما لمحت نظرتي تلك قالت: لقد جئت بها معي. قلت: لقد رأيت مثلها في محل خاص بالقبعات هنا في كولن تديره امرأة تركية. قالت: نعم، اسمها زهرة، لكني لا أحب أن أشتري من المحلات التي يديرها الأغراب.

الفصل التاسع
من بين كل العاملين في وكالة "دي شتيرنه" لتسويق سيارات فولكس فاكن الألمانية، كان لناجي مكتب خاص به، طبعا إذا استثنينا مكتب الإدارة والتسويق، وهو مكتب فخم يقع في الدور العلوي من المعرض، يقودك إليه طريق من الرخام ينتهي بردهة انتظار، بعدها يأتي المكتب، السيد هوردن باخ هو الذي يدير شؤونه بمساعدة السيدة أنجليكا شولتز، أما مكتب ناجي فهو ملحق بورشة العمل في الطرف البعيد من الساحة، لكنه مستقل عنها، تطل نافذته الخلفية على فناء موحش لا يطرقه أحد. ربما كلمة "مشرف الساحة" المعلقة على الجدار بجوار باب المكتب قليلة بحق ناجي، فهو فضلا عن تحديد الاحتياجات اللازمة للساحة، مسؤول بشكل مباشر عن قيادة السيارات بعد إنزالها واحدة بعد الأخرى من الشاحنات التي قدمت من المصانع، وتحديد أماكن وقوفها وفقا لنظام خاص يتعلق بنوع السيارة وموديلها إلى آخر ذلك، ومسؤول أيضا عن إنجاز الخدمات الضرورية للسيارات ما قبل البيع، فإذا بهت لمعانها بسبب الغبار الذي تراكم على معدنها وزجاجها فانه مخول بقيادتها إلى قسم الغسيل في الورشة، ثم يرجعها بنفسه بعدما أصبح لونها زاهيا براقا، يفعل ذلك أيضا عندما تكون هناك حاجة لفحص زيت المكابح أو عندما يكون ضبط معيار الهواء في أحد الإطارات ضروريا. وهو مسؤول أيضا عن إنجاز خدمات ما بعد البيع، يأتي صاحب السيارة إلى مكتب ناجي الذي يقوم بدوره في تسجيل وصولها وتحديد موعد الاستلام، ثم يقود السيارة إلى الورشة لتكشف وتعاين وتضبط وفق برنامج مطبوع وجدولة مسبقة تم عليها الاتفاق بين البائع والمشتري، وفي الوقت المحدد تكون السيارة جاهزة تنتظر صاحبها الذي قدم في وقته إلى مكتب ناجي. إذا شحت عند عامل ما إحدى الأدوات الاحتياطية أو أي شيء آخر جاء إلى مكتب ناجي ومعه ورقة طلب خاصة سجل فيها حاجته، وما هي إلا دقائق معدودة يكون الطلب بعدها بين يديه، هكذا يسير العمل بالنسبة له، علاقته دائمة ومباشرة مع عمال الورشة، بعضهم يقول أنه ضد أن ترفع الكلفة بينهم وبينه، لكنه يدافع عن نفسه قائلا إن ذلك غير حقيقي ومكتبه مفتوح لكل من ضاقت بهم السبل، لكن كما يعلم من يقدر مثل تعليمات العمل في كل مكان أن مردود العلاقات الشخصية في هذا المجال مردود سلبي وربما يؤدي إلى نتائج وخيمة, فهذا نوري الذي يعمل في قسم غسيل السيارات ابن بلده والذي يقدر مثل هذه الرابطة، لكن هل لمثل هذه الرابطة وهما بعيدان عن الوطن تأثير في غض النظر عن بعض أخطائه، قطعا ل، في الورشة هو لا يختلف عن العامل اليوناني أو البولندي أو غير ذلك، يتصل العمال به وهو بدوره يتصل بالسيد هوردن باخ، ينقل إليه على الورق ما تم تحت أشرافه إلى تلك الساعة، ويتلقى بدوره التعليمات والطلبات منه، في كثير من الأحيان، وفق ما تقتضي الضرورة يغادر مكتبه وينتقل إلى هذا المكان أو ذاك، لكن متى أردته تجده واقفا أمامك يسمع منك وعنده الجواب عن كل طلب، يخيل إليك أن رجلا بحركته وتنقله، بالصورة التي هو عليها، قادر أن يقفز فوق الحواجز، يخدع نقاط التفتيش إذا كان لذلك حاجة، يجري وينتشر لدرجة أن المرء يمكن أن يعد ذلك موهبة،شئ ما يتوفر عند غيره، يفعل كل شئ لكنه مع ذلك يشك أن إدارة مكتب التسويق راضية عنه الرضى كله، على كل حال ما على ناجي إذا ما دعت الضرورة إلا النقر بإصبعه على زجاج باب المكتب الذي كتب عليه بمستوى النظر وبحروف بارزه ساعات وأيام دوام المكتب، بعد ذلك يدخل، والذي حدث بعد أن فتح الباب الزجاجي قبل استراحة الظهيرة وألقى بالتحية، كان السيد هوردن باخ مشغولا بمحادثة السيدة يوهانيس، لمس ناجي الدفء المريح في هدوء المكتب الذي تشرف نوافذه على محطة "زود كولن" العالية بمستوى أعلى الجسر الذي من تحته تمر السيارات، في تلك اللحظة مر واحد من قطارات الشحن بحمولته المغطاة بالمشمع المندّى اللامع، كان السيد هوردن باخ يتحدث مع مساعدته الجالسة وراء المكتب المقابل له، يخبرها من دون أن يشغله الحديث عن مواصلة النظر إلى شاشة الكمبيوتر على مكتبه بأن قرار تسريح فوراتيدس من العمل أصبح نهائيا.
قالت: بالمناسبة، سمعت أن اليونان التي قدم منها فوراتيدس فيها أجمل الشواطئ.

وبدا أنه لم يسمعها وهو يقول: ليس هناك أي خيار آخر، وهذا يعني أن إجراءات تسريحه من العمل يجب أن تتم على أساس أن اليوم هو آخر يوم عمل له معنا.

بعد ذلك تفاجأ بوجود ناجي واقفا بالقرب من مكتبه، وربما أزعجه أن شخصا من خارج المكتب استمع لما قاله، بدت عليه علامات الامتعاض وهو يسأله إن كان يحتاج الى شئ، أجابه على الفور بطريقة من يريد أن يدفع عن نفسه تهمة أنه لم يكن متلصصا ولا فضوليا، وقد دخل المكتب بشكل أصولي بعد أن نقر زجاج الباب بإصبعه وألقى بالتحية، فماذا يمكن أن يفعل أكثر من ذلك، على كل حال، قال أنه يطلب منه النظر في الاحتياجات المدرجة في الورقة التي يحملها.

أجابه: ضع الورقة على المكتب ولا تنس من فضلك أن تغلق الباب عندما تخرج.

تمنى ناجي لو أنه لم يستمع بالفعل إلى كلام السيد هوردن باخ، لو أنه تأخر في الدخول عليه دقائق معدودات ريثما ينتهي منه، ومع شعوره بنوع من تأنيب الضمير إلا أنه توجه مباشرة إلى الورشة، وإلى قسم غسيل السيارات، وليس بعيدا عن زميله وأبن بلده توقف، أشار له أن يترك ما بيده ويأتي إليه، فقال له بصوت عال لأن صوت الماء الذي يضرب بين دواليب السيارة المرفوعة على الحامل كان يحدث ضجة: هل أترك ما بيدي فعلا، أم الأمر لا يحتمل التأجيل إلى فترة استراحة الغداء هناك في صالة الاستراحة؟ كان الماء قد ضرب وجهه فاحمر من شدة البرد، وقد أصاب البلل مشمع غطاء الرأس ومعطفه الواقي من تسرب الماء، وراح يرفع يده بعد أن خلع قفازه ليمسح ما علق على جبهته وعينيه، في الوقت نفسه كان يحرك شفتيه ليلعق شيئا مملحا، وعلى الفور نقل إليه خبر تسريح فوراتيدس اليوناني من العمل، بصوت خافت وبحذر شديد وهو يقلب النظر حواليه، ومع كل هذه الحيطة من جانبه إلا أن هناك ابتسامة اصطادها نوري تصعد إلى ثغر ناجي مرة أو مرتين.

ـ ربما أقلق ناجي أن رأى رد فعل نوري لم يكن بمستوى الخبر الطازج الذي أسمعه إياه، فقد ظل واقفا غير مكترث، يتطلع في وجهه، سأله: ألم تسمع ما قلت؟ هل أعيد عليك الخبر؟
ـ المشكلة هي أني لا أدري بماذا أجيب وأنا قد سمعتك، وماذا أفعل وأنت أمامي بهذا الشكل.
ـ ألم أفعل شيئا جيدا عندما نقلت إليك خبرا لا يعرفه أحد غيرك بعد؟
ـ أقصد، ما أريد قوله لك لا علاقة له بتسريح فوراتيس من العمل أو بتسريح غيره.
ـ ليس الأمر بيدي، إذا كنت تشير إلى ذلك، ولا علاقة لي بالموضوع، أكثر من علاقة شخص سمع شيئا يريد نقله إلى شخص آخر عزيز عليه.
ـ لقد كنت تنقل لي الخبر بقسوة طبقات الصدأ التي بنتها الأيام طبقة فوق أخرى.
ـ ربما أستحق كل ذلك منك لأني فضلتك على الآخرين، ولم أذهب به إلى غيرك.
ـ اذهب حيثما شئت ولكن ستنقل الخبر وأنت تقلب النظر حواليك، هل كنت تحمد الله أثناء ذلك أن من جرى له ذلك هو "فوراتيدس" وليس أنت؟ ستنقل الخبر وأنت تحاول أن تخفي تلك الابتسامة التي تطلع إلى ثغرك رغما عنك، تجاهد أن تخفي دفقة من الفرح لم تغب عني، رأيتها كائنا حيا، جلادا قاسيا في يده سوط.
ـ اسمعني جيدا لئلا تتمادى أكثر في الكلام، إذا كان لك القدرة على المواجهة، قل للسيد هوردن باخ بعد أن يصدر القرار من مكتب الإدارة بأن القرار غير عادل وباعث على السخرية عند بعضهم، ولا أريد التحدث عن فوراتيس بالنيابة عنه.
ـ غير عادل! نعم، لكن هذا شأن السيد هوردن باخ أو غيره ممن يرون هذا الإجراء يدخل في صالح العمل، هم أدرى من غيرهم بمثل هذه الموضوعات، أنا لا ألقي باللوم على أحد منهم ولكن، أنا متأكد، أن السيد هوردن باخ عندما يسلم ورقة التسريح عن العمل لمن يعنيه الأمر فإن مثل تلك الابتسامة التي طلعت إلى ثغرك لا تطلع على ثغره، مع ذلك سأحذره.
ـ لا تنس أن الذي سرح من العمل هو ليس أنت.
ـ سوف لا أحذره فقط، سأقول له بأني سأترك العمل أيضا.
ـ أتظن لو كنت أنت من ستقطع صلته بالعمل، سيكون رأي فوراتيدس مثل رأيك؟
ـ لن يدخل هذا في حساباتي، والموضوع لا يتعلق بفوراتيدس كما تعلم.
ـ أظنه يتعلق بالكرامة المجروحة وسائر هذا الهراء، إنس ذلك، لكن لا يهم أن تذرف دمعة أو دمعتين مستقبلا على أعشاب نمت فوق جدث هذه الذكرى، كلما لامست قلبك، ارم عواطفك بعيدا عن هذا مكان العمل.
ـ سأقدم استقالتي من العمل، وهذا قرار نهائي.
ـ هناك المئات ينتظرون مثل هذا العمل يحلون محلك، أنت تعرف هذا وتعرف أنك لست مؤهلا لأن تقول كلاما كبيرا، دع مكتب التسويق فهو الذي يعرف ويقدر مصلحة العمل أفضل من أي طرف آخر، أما نحن فعلينا أن نعرف كيف نشق طريقنا في هذا البلد من دون أن تصيبنا النائبات.
ـ سأفعل ما قلته لك وأغادر دون عودة.
ـ وأنا أعيد عليك أن أي خلل في مفاصل العمل سوف لا يحدث، سيشغل المكان أحد غيرك فورا، وإذا أنصفك أحد في المستقبل وتطرق الى سيرتك، فربما يذرف دمعة على جدث ذكراك.

قبل انتهاء يوم العمل، تم كل شيء بشأن فوراتيدس، أرسل السيد هوردن باخ بطلبه، رآه الجميع يغادر الورشة ويأخذ طريقه إلى الدور العلوي، ولم يغب أكثر من خمس دقائق، عاد بعدها وهو يحمل ورقة، وخلال الوقت القصير الذي أمضاه في مكتب الإدارة والتسويق، أكد السيد هوردن باخ له وباختصار شديد أن أداءه في الفترة التي أمضاها عاملا في الورشة الملحقة بمعرض دي شتيرنه للسيارات كان جيدا، وأنه سيحصل على شهادة خبرة فيها نقاط تحسب لصالحه، ستصله بالبريد على عنوانه في ظرف أسبوع، وأنه يتمنى له الحصول على عمل أفضل من الذي كان فيه، وعندما كان فوراتيدس يغير ملابس العمل بعد عودته ليخرج دون عودة، كان ناجي يراقب تحركات نوري ويدرس ردود أفعاله، وهل سينفذ ما وعد به، ومثلما غادر فوراتيدس الورشة بعد نهاية يوم العمل، غير هو ملابسه وغادر الورشة مثل كل يوم.
توجه نوري مباشرة إلى شقته، لكنه لم يستطع المكوث فيها بعدما قلب في أحداث اليوم واحدا تلو الآخر، ربما كان كورنيش الراين المكان المناسب لتنشيط الأفكار أكثر من غيره، فذهب إلى غايته، وظل هناك إلى التاسعة. كان الجو باردا جدا وقد انحسر ضوء النهار والضباب ازداد كثافة، أعمدة المصابيح ألقت بضوئها المهتز على الرصيف المبلل فشجعه ذلك كله على طلب زجاجة بيرة بين فترة وأخرى من كشك قريب من مقعده المواجه لمجرى النهر، جاءت احدى الفتيات وطلبت منه أن يعزمها على زجاجه فاعتذر، كان أجهل الناس من أن يقترب من حسناء، أو يتودد اليها وعندما لاحظت رد فعله تركته على الفور، كانت لا تعرف أنه معجب غاية الإعجاب بالجمال الأنثوي ومتعلقا به، وكثيرا ما كان يستغرق في أحلام اليقظة وهو في حجرته مستعرضا الأشكال والوجوه التي رآها من قبل مضيفا عليها صورا من الملاحة والفتنة تفوق الواقع، وبينما كان ذهنه في هذه الحالة من النشاط، أثر فيه حلم كان قد رآه تأثيرا غريبا، عن جمال أنثوي أخّاذ، كان من قوة تأثيره بحيث عاوده المرة تلو المرة مطاردا إياه في منامه بالليل وملازما لأفكاره بالنهار، وقصارى القول أنه صار مولعا بهذا الطيف واستمر ذلك تقريبا من قبل أن يقابل أن يبحث الأمر مع ماريو المكسيكي ثم طالبا المعونة من ستار بشهر أو شهرين الى اليوم، الى درجة أصبح معها هذا الطيف، واحدا من تلك الأفكار الثابتة التي تقود صاحبها الى التعب والإجهاد.

شرب الزجاجة متذكرا أثناء ذلك ناجي، وبالضبط عندما كان يحاول أن يخفي ابتسامته، ليس في الخبر الذي نقله إليه أي باعث على ظهورها، لذلك لابد أنها تخفي معنى، في تلك الابتسامة التي لمحها أصبح ناجي شخصا غريبا كما لو أنه لم يعرفه من قبل. أصوات ناقلات البضائع كانت تقطع عليه أفكاره وهي تسبح ضد مجرى الراين باتجاه الجنوب، كل شئ كان يدفعه إلى التذكر، كان في السادس الابتدائي وليس في معرض السيارات، في مدرسة الرشاد للبنين عندما استجاب المعلم لطلب أحد التلاميذ، وقد حمل معه كاميرا لأخذ صورة للذكرى تضم جميع طلاب صفه، لا ينسى أنه جلس على ركبتيه في المقدمة معه صاحب الكاميرا وأربعة أو خمسة ممن فضلوا الظهور في المقدمة، وراءهم صفان من الطلاب، لكن لا يدري لماذا اختاره المعلم ليقول له: قم أنت. فقام، قال له: أترك مكانك وارجع إلى الصف الأخير. واستبدله بآخر وضعه في الصف الأمامي. يذكر حينها أنه امتلأ حنقا وألما، ليس على المعلم، فلا علاقة له بما أحس به، رغم انه كان السبب الأول في ذلك التغيير في المكان، ولا على الطالب الذي سارع غير مصدق نفسه بالجلوس في المقدمة، لأنه امتثل لإرادة وأمر المعلم، وإنما على طالب آخر لا شأن له بالموضوع، لا هو مثله طلب منه المعلم الانتقال إلى مكان آخر، ولا تربطه به علاقة.

هذا الذي كان يقف هناك التفت إليه، ورغم أن الالتفاتة تمت بسرعة، إلا انه لمح تلك الابتسامة التي حاول ذلك الطالب إخفاءها، كان لها معنى، وإلا لظهرت مثل تلك الابتسامة على وجهه في الصورة واضحة وفي مكانها تماما متفائلة بما تنتظره في المستقبل. هل كانت بمثابة رد فعل من إحساس دفين أنه قد نال من شخصه عندما أرجعه المعلم إلى الخلف؟ أو هي الرضا من أن الذي نقله المعلم للخلف هو شخص آخر غيره، لكن لو هي بهذا المعنى لكان من الجدير به توجيهها للمعلم عرفانا بالجميل أو شاكرا له صنيعه. لا فائدة، ربما من العناء أن يمضي به الوقت هكذا وحيدا والأفكار تذهب به بعيدا في هذا الجو الذي يزداد برودة كان كل شيء في هذا المكان يساعد خيال المرء على الجنوح. لتقترب تلك التي في خياله منه أكثر هذه الساعة، لكن لا فائدة، عليه أن يعترف بأن السيد هوردن باخ رجل عملي ويحسب للأمور ألف حساب، يفهم في أمور كثيرة، لكن ربما يجهل تماما كم هي المسافة بين مدينة كولن هنا في المانيا وبين مدينته في العراق، بالتأكيد هذا ليس من شأنه.

*   *   *

توقع ناجي أن يأتي نوري صباح اليوم الثاني وهو يلوح بورقة الاستقالة، لكنه لم يرها ولم ير أي ورقة في يده، عندما وصل نوري إلى الورشة توجه إلى دولابه الخاص، وغيّر ملابسه بملابس العمل مثل كل يوم، بعدها باشر العمل على الفور، وخلال الساعات التي أعقبت ذلك لم تصدر منه تجاه ناجي غير مشاعر باردة وتجاهل لشخصه، فإذا ما سأله عن أشياء لها علاقة مباشرة بطبيعة عمله كانت الإجابة مختصرة، تقاس بميزان دقيق. وجد ناجي صاحبه ضاربا الاعتبارات كلها عرض الحائط، أين هي العلاقة المشتركة في العمل مثل كل يوم؟ وهل نسي ما كان خارج وقت العمل، إذا ما كانت هناك فرصة لتمضية بعض الوقت معا؟ ولو سال أحد ناجي عن السبب الذي جعل صاحبه يتصرف بهذا الشكل لأجاب: إنه بدون شك يحمّل الأشياء أكثر مما تحتمل، وإذا كنت قد أخطأت في شئ، أقول له: هل أخطأت في مد يد المساعدة إليه عندما وصل إلى ألمانيا قبل أربع سنوات؟ هل أخطأت عندما كنت سببا في حصوله على عمله هذا؟ هل أخطأت عندما أزوده بالأخبار بين وقت وآخر أولا بأول؟ قد أكون في كل ما فعلته قد أخطأت، لكني كما ترى لم أصل إلى مستوى من يهدد بكلام كبير ثم بعد ذلك يظهر أنه لم يكن إلا مجرد أوهام مجروحة، ألم يهدد بالاستقالة؟ أين هي والنهار يكاد ينتصف الآن؟ ثم أن مكتب الإدارة والتسويق ليس ببعيد، لماذا لم يقل للسيد هوردن باخ أن قرار تسريح فوراتيدس غير عادل. لكن ذلك كله لم يقله إلى نوري. لم يجلسا معا في صالة الاستراحة عندما انتصف النهار، لكنه اكتفى بسؤاله وبطريقة مهذبة وهما يخرجان من الصالة إن كان سيقدم ورقة الاستقالة أم لا؟ قال نوري أنه سيقدمها في أقرب فرصة، مذكرا إياه أن تقديم الورقة أو عدم تقديمها هو أمر خاص به.

بعد أسبوعين خطط ناجي للقاء صاحبه عند الطريق المؤدي للورشة، بين صفين من السيارات المركونة على الجانبين، بعد انقضاء ساعة الغداء، وعندما تم له ذلك قال: مر أسبوعان على ما جرى، وكل يوم أتوقع منك أن تخرج ورقة الاستقالة من جعبتك وتقدمها إلى مكتب الإدارة والتسويق، هل حصل أي تطور في الموضوع؟ سمع الجواب بعد ذلك وكان فيه مسحة من أمل لا تخفى: ما زالت لدي النية في الكتابة وسأقدم الورقة في الوقت المناسب. مع ذلك كان ناجي يشعر ان صحة نوري ساءت واعتل خياله حتى أصبح له عالمه الذي عزله عمن حوله، فسيطرت عليه فكرة أن قوة خفية باتت تهدده وتسعى للإيقاع به في شراكها وتدميره ربما كانت صادرة عن قرين أو روح شريرة، وقد أخذت هذه الفكرة تؤثر على مزاجه السوداوي، فنتج عنها معظم الآثار السيئة كالهزال والبلغم والغم والميل الى الابتعاد عن الآخرين الا للضرورات، وانتهى الى أن افضل علاج له هو أن يأخذ له إجازة يقضيها بعيدا عن هنا، أراد أن يقترح عليه ذلك ولكن هو أعرف بحاله.

بعد ذلك بأسبوع سأله ناجي عن الاستقالة، بدون شك أنه كان يريد بذلك أن يستفزه، أجابه أنها ينبغي أن تكون خالية من الأخطاء وذلك يحتاج إلى مراجعة لبعض الكتب في اللغة الألمانية وبعض القواميس، بعد هذا الجواب وأجوبة أخرى مماثلة أصبح ناجي واثقا أن موضوع الاستقالة لم يعد واردا. فكان بين فترة وأخرى يغمزه بأشياء لها علاقة بهذا الموضوع، كأن يقف ناجي أمام العمال قائلا لهم أن يوم غد سيكون مشحونا بالعمل، عدد السيارات التي تنتظر الدخول إلى الورشة يفوق عددها في الأيام السابقة، ثم يلتفت إلى نوري وبصوت يجاهد أن لا يسمعه أحد غيره يقول: إن لم تقدم غدا ورقة استقالتك وكنت معنا سوف لا تجد فرصة تلتقط بها أنفاسك. كان ناجي قد مر بتجربة زواج لم يكتب لها النجاح وربما هذه التصرفات التي يبديها هي من تأثير تلك العلاقة.

*   *   *

لم تستطع سعاد الوصول الى كولن الا بعد معاناة وانتظار طويل، لم يكن الأمر سهلا بالمرة، نعم كانت خطوبة ناجي لها ومن بعدها الحصول على عقد الزواج أمرا سهلا للغاية قام به أحد أخوة ناجي وكيلا عنه، ولم يستغرق ذلك وقتا، لقد رتب أهله الأمر بكامله على أحسن ما يرام، هم الذين اعجبوا بها وتصرفوا معها كما لو كان ناجي حاضرا من شراء حلقة الزواج والأساور الذهبية وبعض الملابس، كانوا دائما يقولون لها اختاري هذا ولا تختاري ذاك لأن ناجي يفضل هذا، لكن الانتظارات الطويلة والإجراءات المتخذة في السفارات لتسهيل مهمة دخولها الى تلك البلاد هو الأمر الصعب، كان العالم يغلي بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وتعالى غليانه أكثر عندما كانت أمريكا تعد قواتها لإسقاط حكومة صدام في العراق، لذلك كان لزاما أن يدقق في أي اسم ورد على لائحة من يريدون السفر الى الغرب، حتى لو كان ذلك لأسباب كالتي تجمع بين زوجين. عندما وصلت، كانت تلك هي المرة الأولى التي رأى فيها ناجي حقيقة شعرها النازل على كتفيها وقوسي حاجبيها وأنفها وشفتيها، كانت نعمة من نعم السماء نزلت عليه، وهو في هذه الغربة التي لم يستطع أن يجد فيها زوجة له من العائلات العربية المهاجرة. والحقيقة أنها كانت أجمل كثيرا من الصور التي وصلت اليه منها ومن أهله، لا يكفي القول أن الروح بثت في تلك الصور عندما نزلت من الطائرة وفي حقيبتها عقد زواجها منه، لا، الأمر أكبر من ذلك بكثير، الذي دفعها للمجيء هو أن الشخص الذي أرادها له زوجة يحمل الجواز الالماني، وله عمل مستقر وشقة في منطقة قريبة من الراين، لا تدري أين تقع في كولن لكن ستتعرف اليها جيدا ولن يفوتها منها شارع أو درب.

لذلك عندما نزلت في مطار كولن قالت له فورا خذني الى شارع مولن باخ، وفي الشقة كما في خارجها أراد ناجي أن يعطي للأسبوعين اللذين أخذهما اجازة زواج فيها نفحة من عبق لا تنساها سعاد، مع أن حركاته معها وهو يقلد بها العشاق الذين يراهم هنا في كل مكان تحتاج الى الحبكة أكثر، كان أثناء تلك اللحظات، يتذكر عمله حتى عندما يكون في مطعم أو سوق أو حديقة أو فوق جسر على الراين، يتصرف معها كما لو كانت عاملة في الورشة فيطلب منها أن تفعل هذا، ولا تفعل ذلك، لكن سريعا ما يعود الى وضع العاشق فيتحدث معها برقة ويمسح على أناملها، أو يرفع خصلة مالت قليلا على الجبهة، كانت ترى في ذلك كله أملها وقد قبضت عليه، فهي لم تشاهد مثل ذلك كله من قبل، لم تشاهد الشتراسن بان يدخل في نفق تحت الأرض، ولا بناء مثل كنيسة الدوم القريبة من المحطة الرئيسية بأبراجها العالية التي تكاد تصل الى السحاب، ولا مثل أولئك الرسامين المنتشرين هناك تحت الأبراج، ولا الناس يأكلون بالشوكات والسكاكين بمثل ذلك اللطف، حتى أصواتهم لها رنين مختلف ووقع ساحر. وفي المساء عند التاسعة أو بعدها يرجعان الى الشقة في الشتراسن بان رقم 9 يكملان فيه سهر ة في الفراش ما سمعت بمثلها من قبل، ولا رأتها في الأفلام التي احتفظ بها ناجي في أحد الأدراج، لكن هذا لم يدم الا اسبوعين، بعدها بدأ يحدثها عن الورشة وهو معها في الفراش، ويكلمها عن الألوان التي يحب أن تلبسها، الأزرق الذي في موديل مرسيدس العام الفائت، هو اللون المناسب كذلك الرمادي في سيارات BMW الرياضية هذا العام يتلاءم مع سمرتها، فبدأت الحياة تأخذ شكلا جديدا وبدت الشقة كبيرة عليها عندما كان ناجي يذهب الى عمله وتبقى هي وحيدة الى بعد الرابعة.

لكن هي الان في كولن وعليها أن تحيا كما الناس هنا، من منهم يقضي نهاره في البيت مثلها؟ ذهبت الى الأسواق وأمضت فيها ساعات وعرجت على الحدائق، لكنها كانت تعود وهي غير سعيدة، وعندما كان يعود كانت هي منهكة ويتناول طعام الغداء بينما هي أمام التلفزيون. هذه الحالة لم ترق له، هناك شيء ما غريب شاب تصرفاتها، فبدأ يعنفها لكن ما يلبث أن يهدأ ويقول لها حسنا لك الحق في ما تفعلين لكن اعملي حسابك أننا سنكون معا في عطلة نهاية الأسبوع، بالفعل كانت تلك العطلات لها طعم مختلف عن بقية الأيام. وعندما يعودان في آخر النهار تكون لهفتهما الى بعضهما كما لو كانت مثل اليوم الأول الذي تقابلا فيه، لكن ماذا بعد ذلك؟ عرف اللعبة، كلما رأى علامة من علامات سأمها يقول لها انتظري عطلة نهاية الأسبوع، لكن الحال لم يدم طويلا. أصبحت تخرج ولا تنتظر عطلة نهاية الأسبوع تلك، يقول البعض أنها عرفت طريقا قادها الى كنيسة الدوم التي لم تفرغ من الناس والسواح يوما، يقال أن درجاتها الخشبية التي مر عليها أكثر من أربعمائة عام هي التي شدتها في الداخل، كانت تصعد درجاتها الأربعمائة راكضة ولا تتوقف الا عندما لا تكون هناك درجة أخرى فتقع على فسحة الأرض في الأعلى كما لو كانت مغشيا عليها، لم يكن يهمها أن تنظر الى المدينة من فوق، تظل تلهث من فرط الجهد الذي بذلته الى أن يعود تنفسها الى وضعه الاعتيادي، وتظل تمسح عرقها وتفحص صوتها، ما عادت الأسواق تهمها ولا شارع مولن باخ ولا الحدائق الغناء، يقول البعض أنها كانت تصل الى الكنيسة قبل ظهر كل يوم فتغير حذاءها بحذاء رياضي قد حملته معها، ليساعدها في القفز على الدرجات دون معوقات، كان الناس الذين يتمهلون في صعودهم عندما يسمعون صوت الصعود السريع من الخلف يفسحون الطريق لها، كما لو كان حق من حقوقها وهم قد اعتدوا عليه، فتجتازهم من دون أن تكون هناك فرصة ليقولوا لها شيئا، وفي أعلى البرج كما في كل مرة تجلس منهارة من التعب، ولا جاء في بالها مقدار ما قطعته مقاسا بنظرتها الى الأرض من ذلك العلو.

لم يأت في بال ناجي ولا مرة واحدة أنها كانت تفعل ذلك من وراءه، يقال أنها لم تأت على ذكر ذلك مرة معه، وعكست وجهة نظرها في مشهد من مشاهد المدينة من فوق. في يوم عطلة نهاية الأسبوع قال لها تهيئي للخروج، البسي ثوبك الأقحواني المغسول بندى الفجر ذلك الذي في سيارات الأوبل، بالفعل لبسته لكن، عندما نزلا الى الشارع أراد أن يمسك أصابعها فقالت: لا سأذهب في طريقي وأنت في طريقك، لا أريد أن أستمر معك أكثر من هذا. اعتبر ناجي أن ما سمعه نكتة أو مزحة، لكنه رأى نظراتها تقول ذلك أكثر من كلماتها، كان في حيرة من أمره عندما غادرت وعندما اختفت كان لا يدري أين سيبحث عنها، لم يعرف لها مكانا تذهب اليه ولا صديقة تتصل بها، يقال أنه تناهى الى سمع ناجي أن ستار كان يصعد الدرجات معها في كنيسة الدوم بالاندفاع نفسه الى القمة، ولم يتخلف مرة، كانا في الأعلى معا على الأرض الخشبية يعرقان ويلهثان من شدة التعب، فيمسح لها عرقها بمنديله وتمسح له عرقه بمنديلها. ويقال أن ستار وجدها وهي ضائعة فلعب معها لعبة الرجل الذي لا تستطيع منه فكاكا، فأخذها الى بيته ليعرف منها ملابسات ما حصل عله يستطيع الوصول معها الى حل، يقال أنها مكثت معه أسبوعا وقالوا اسبوعين أو ثلاثة، بحث ناجي عنها في كل مكان. عندما وصله نبأها مع ستار عرف طريقه اليه، ولكن ستار كان كما قالوا قد دفع بها الى مأوى آمن، مكان كانت احدى الجمعيات الخيرية قد أنشأته وقامت بالإشراف عليه للمطلقات أو اللواتي لا مأوى لهن، بعد أن تعرضن للطرد من بيوتهن نتيجة خلاف عائلي. ولكنه لا يقبل المكوث فيه أكثر من خمسة أيام، بعدها على صاحبة الشأن أن ترتب وضعها في مكان آخر، وهناك، في المأوى، يقال، تعرفت الى لويزا وعن طريقها تعرف ستار الى لويزا، بعد هذه الأيام الخمسة اختفت سعاد، لم يكن اسمها مدرجا في لائحة في دوائر الشرطة أو المستشفيات، وكلما تتبع ناجي أثرها كان ينتهي في مسالكه، إما عند مجزرة الديوك الرومية حيث تعمل لويزا، لكنها لم تكن هناك والعجيب أنها لم تدخلها، أو عند كنيسة الدوم التي لم تصعد درجاتها من بعد اختفائها، أو الى منطقة عالية على الراين، لم ترم نفسها هناك لأن جثتها لم تطف.

الفصل العاشر
كانت الحركة خاملة في محل الألبسة الجاهزة، والجو شديد السوء، لم تكن حركة البيع جيدة كما هو متوقع، لم تأت السيدة منى عبد المجيد الى العمل، ولم تتصل لتخبر عن سبب عدم مجيئها، قبل نهاية الدوام انصرفت فروزه الى شقتها التي في الدور العلوي، وطلبت مني اللحاق بها عندما أنهي أعمالي بالكامل وأغلق المحل، كدت أفرغ من ذلك حين سمعت نقرا على زجاج الباب، التفت فرأيت السيدة منى عبد المجيد تقف وراءه، فأسرعت اليها، كان وجهها شديد الشحوب، وقسماته تعبر عن ما حصل لها، كادت تقع مغشيا عليها عندما دخلت فأسندتها بذراعي لأجلسها على أقرب كرسي، قالت بصوت متقطع:

حصل ما كنت أخاف أن يحصل.
ـ اهدئي قليلا واخبريني.
في هذه الأثناء أقبلت فروزه وأسرعت بوضع كفها على جبهتها فوجدتها باردة، مع ذلك ذهبت لتحضر لها كوبا من الماء مقدرة أنها يجب أن تبل ريقها قبل أن تتكلم:
ـ منى، هل أنت بخير؟
فتحت عينيها متمهلة وهي تقول في ألم:
ـ كنت أعرف أن ذلك سيحصل في يوم ما.
قالت فروزة: تكلمي منى.
ـ يوم أمس قال لي زوجي أنه لم يعد له بقاء هنا. بعدها اعتذرت فروزة راجعة الى شقتها.

أنا أعرف زوجها، وأعرف المقهى التي يرتاده، فقد رأيته أكثر من مرة هناك: إنه يصفى أموره هنا وقد باع قسما من أثاث البيت، أعرف أنه يخدعني، كلما باع شيئا أقول له لماذا تفعل ذلك فيقول لأنه أصبح قديما، غدا آتيك بواحد غيره جديد، باع التلفزيون والستلايت وجهاز الفديو والمسجل الذي ندخل فيه الشريط ومسجل السي دي وباع الأدوات الكهربائية الأخرى، واحدة بعد الأخرى.

وأجهشت بالبكاء:

باع ماكنة الخياطة مع أدواتها، كان ذلك يوم أمس، رجعت الى البيت وعندما لم أجدها، ما قدرت على السكوت، قلت له كل شيء الا ماكنة الخياطة، أنت تقضي علي. لعن تلك الماكنة واليوم الذي اشتراها فيه، واليوم الذي سمع فيه تلك الحادثة التي وقعت لي في القرية، لعن اليوم الذي جاءت فيه ابنتنا الى الحياة، أنا أعرف أن الماكنة تلك سببت له مشكلة كبيرة ليس لأنها تجمع النساء حولي، والنساء تتكلم في كل شئ، الكلام الذي يعجب والكلام الذي لا يعجب، ويطلبن أن يبقى التلفزيون مفتوحا ليرين فيه الحلال والحرام على القنوات العربية وغير العربية، لكن لأنها السبب في تعرفي الى زهرة التركية التي هي في رأيه شيطان برأس ملائكي. عاد الصمت من جديد، استعادت منى شيئا من قوتها بعد راحة قصيرة، رجعت نظرتها هادئة، لا أدري تلك اللحظة وأنا أرى استدارة وجهها وصفاء بشرتها، أنها كانت ذات جمال لا يدركه الا من يتمعن فيه، اندهشت لهذا الإدراك المفاجئ، وتعجبت كيف لم أدرك ذلك من قبل! قلت لنفسي: غبي، دائما نتائجك تأتي متأخرة عن أوانها، تباحثت مع فروزة فيما بعد عن اختيارها لي لتقول ذلك. اذا كانت تريد أن تعطي سببا لتغيبها هذا اليوم فيمكن أن تقوله لك فروزه، أو تستطيع الاتصال تلفونيا وهذا أمر عادي جدا، كل منا يستطيع أن يفعله وقتما شاء، كانت فروزة تستمع من دون أن تعطي رأيا.

سألت منى: وماذا بعد ذلك؟ قالت: كل شئ إلا ماكنة الخياطة، طلبت منه أن يرجعها لي، اليوم بالذات، وإلا فلا مكان لي في البيت، فقال لي اسمعي أنا الذي جئت بك الى هنا وأنا الذي استطيع أن ارجعك الى بيت أهلك في لبنان متى أشاء، لكنه عاد بعد قليل واعتذر عما بدر منه من أشياء هو خجل من انه تلفظ بها، وقال أنه سيشتري لي ماكنة خياطة بماركة أفضل منها، ثم مد الي بظرف فقلت له ما هذا؟ قال نقود الماكنة هدية مني، خذيها اشتري هدايا لأفراد عائلتك. فقلت له: وما هي المناسبة لشراء الهدايا؟ قال: فكرت أن نمضي الاجازة في لبنان، اسبوعين ونرجع، جميعنا يحتاج لهذه الاجازة. لآ أحد يحتاجها، قلت له، البنت عندها مدرسة والولد أيضا وأنا لم أشك لك طول الفراق مع الأهل.

ـ ربما كان يريد بذلك أن تعود المياه الى مجاريها.

وقفت فجأة ثم خرجت مسرعة، ولم أتحرك لأغلق الباب خلفها، وقفت حائرا لا أدري ما أفعل قبل أن تصيح فروزه من فوق: أقفل المكان وتعال الى فوق، أريدك بسرعة. وهناك قالت لي: لا يريد ميلان أن يسمع مني، لا يريد أن أخطو ناحية الأسرار التي يحتفظ بها، لكني أعرفها وبالتفصيل، قلت له يا ميلان تعال نجلس عندي أو عندك لنتحدث عن أجمل وصول لشخص الى ألمانيا، وهو وصولك. ولم يشأ أن يسمع مني كيف أنه قطع كل تلك المسافات متخفيا الى مدينة كولن، أرجوك يا شريف قل لي لماذا لا يريد ميلان أن يسمع مني؟ قلت: لا عليك هاتي ما عندك أنا أسمع. قالت: أنا في حيرة، أنت لا شأن لك ومستعد أن تسمع، وهو من يخصه الموضوع لا يريد أن يسمع.

قلت مداعبا: وماذا عن وصولي أنا الى كولن؟

ـ يا عزيزي أنت لم تذهب الى الغابة لتجمع الفطر، لم تر الذي رآه ميلان حتى أتحدث عنك، ميلان ترك أجمل ما في الحياة ليأت الى هنا، أليس في هذا شيء من تدخل القدر، أليس من المحتمل أنه ترك كل شيء هناك لألتقي به، أليست هذه قصة مشوقة ومسلية، احكم عليها بنفسك بعد أن تسمع أن ميلان عندما بلغ الخامسة عشرة طلب من والده الذي كان يملك غابات شاسعة ورثها عن آبائه وآباءه عن أجداده كهدية بهذه المناسبة أن يصحبه معه عندما يريد أن يجمع الفطر، كان والده يذهب مع مجموعة من أصحابه في مثل هذا الموسم كل عام الى الغابة ليجمع الفطر، عندما تدفعه الرطوبة من باطن الأرض، فضلا عن جمع أشياء أخرى مثل الزعتر والكراويا، قال: أريد يا أبي أن أشاركك هذا الذي تقوم به وأن أتعلمه لأني عندما لم يعد بمقدورك الخروج الى الغابة سأفعل ما كنت تفعله، فقال له والده: لقد أصبت، لقد علمني آبائي وحان دوري كي أعلمك، وصادف أن القمر في اليوم الثاني كان بدرا، وأن الغيوم قبل ذلك أنزلت أحمالها فكان المطر غزيرا، لذلك صحبه والده في اليوم الثاني فكل شيء مهيأ لخروج الفطر من باطن الأرض، كان فرحا لأنه لم يسبق له القيام بمثل هذه التجربة، وكان معجبا بالطريقة التي يجد فيها والده الفطر، والطريقة التي شرح بها له عن كيفية تجنب الفطر السام رغم جمال ألوانه أو كبر حجمه، وكان يطرح على والده أسئلة عديدة تخص هذا الموضوع، ويتلقى إجابات مقنعة وتفسيرات لم يسبق له أن سمع بها، وسارا هكذا، أكثر من ثلاث ساعات، فقال والده: يكفي هذا لهذه المرة، لقد توغلنا كثيرا.

ولما كان ميلان قد تميز بالشجاعة والذكاء قال: لماذا لا نصل لأبعد مما نحن فيه الآن؟ ولم يشأ الوالد أن يخيب ظن ابنه به فوافق، وبالفعل تغلغلا حتى وصلا منطقة كانت فيها الأشجار كثيفة والظل داكنا لدرجة أن بعض الفطر تصعب مشاهدته على الأرض الا بالكاد، كان هو يسبق أباه، وقد شعر أن البلل بلغ أعلى حذاءيه، بل ونفذ الماء الى القدمين، لم يكن منهكا ولا خائفا فما دام هناك المزيد من الفطر ذي النوع الجيد فلا بأس من التقدم، وفجأة توقف مشغول البال من أجل ملاحظة شيء ما يظهر ويختفي على مسافة منه، وبالرغم من أن سرعته في السير متوسطة فان ذلك الشيء كان يسير أيضا بالسرعة نفسها، حريص كل الحرص على أن تبقى المسافة نفسها، والأب الذي كان يسير خلفه نادى عليه أن لا يتوغل أكثر من ذلك، والأهم أن يغتنما الوقت للوصول في العودة الى أطراف الغابة قبل هبوط الظلام. ثم بعد ذلك:

ـ ميلان ماذا بك وأنت واقف هكذا، ألم يعد بإمكانك أن ترى الفطر مثلي؟
ـ أبي تعال أنظر.
جاء الأب ونظر في الاتجاه الذي أشار له الابن ولكنه لم يلمح شيئا.
ـ هناك شيء أسود يظهر بين الحين والآخر وأنا أتقدم، الا تظن أنه يتعقبني.
تفحص الأب المنطقة تلك جيدا، وفجأة لاحظ الابن أن القلق والخوف تسللا الى وجه أبيه.
ـ ماذا جرى يا أبي، هل وصل الأمر معك الى هذا الحد؟
ـ أني ألوم نفسي وأتمنى لو أني لم أنصت إليك وآتي بك الى هنا، تلك التي رأيتها ماكرة جدا وحاقدة، ولأسباب لا يعرفها أحد تختار ضحيتها، لكن ما أن تختارها حتى تتعقبها طوال الحياة اذا اقتضى الأمر، الى أن تتمكن من الوصول اليها، الأكثر غرابة في هذا الأمر هو أن لا أحد استطاع رؤيتها غير ضحيتها المقبلة.
انك تحكي حكاية لم أسمع مثلها يا أبي.
ـ لم يعد مجال للشك من أن اختيارها وقع عليك، وكلما كنت في مكان قريب من هنا فلن تدعك تنعم بالراحة، أنصت الي يا بني، سأعود بك فورا الى المنزل ولا تضع في حسابك العودة الى الغابة مهما كان السبب، عدني يا بني أن لا يخطر جمع الفطر في بالك مرة أخرى.

عادا الى البيت وقد ظل الكرب ملازما للأب وظل ميلان في اضطراب شديد بعد الحادث، ومع ذلك ظل يلمح، اذا ما أراد الذهاب في نزهة أو في زيارة لأحد، وأحيانا عند الذهاب الى مدرسته، من بعيد على مسافة مائة متر تقريبا شيئا ما يبرز له بين الحين والآخر، يتحرك ببطء ومصر أن يلازمه أينما تحرك، دائما يكون نفسه ذلك الذي لمحه في الغابة، وعندما جاءت لوالده فكرة إرساله الى مدينة لا غابات توجد بجوارها ليتابع فيها دراسته، أو هي تبعد عن الغابات مسافة عدة كيلومترات نفذها على الفور. ولبعض الوقت انشغل ميلان هناك في تلك الأوساط الجديدة ولم يعد يفكر في ذلك الموضوع، غير أنه عندما أنهى دراسته وعاد الى البيت عاد التفكير فيما رآه سابقا، غير أنه اعتبر الأمر سطحيا، ومن المؤكد أن كان عابرا ولا يحتاج لهذا القلق كله، لكنه ما أن وصل الى أطراف الغابة حتى رآه بعيدا عنه بالمقدار نفسه، فاضطربت دقات قلبه إذ لاح له، فآثر الرجوع، عندئذ تحول هذا الكائن العدواني الذي يقتفي آثاره الى ما يشبه الوسواس، يحدث أن يستيقظ في الليل ويستبد به القلق، نعم هو في بيته ولكنه مكان ليس بآمن، هكذا مضت السنوات وميلان يعيش هذا الواقع اللئيم، عرف أثناء هذه الفترة كيف يجسّد هذه الوساوس في رسوماته على خير ما يرام، فاستفاد من عتمة الغابات في لوحاته ومن رطوبتها بعد أن تسقط الأمطار، كان يرسم وهو يدرك أنها تواصل الانتظار هناك على بعد مائة متر من باب البيت ربما، وميلان الفنان الطموح، عندما أراد أن يتخلص أولا من ذلك الواقع المؤلم ويبتعد عن ذلك المكان، أبدى رغبته أن يكون أقرب الى الأماكن التي يطور فيها فنه وقدراته الشخصية، طرح على أبيه رغبته في الذهاب الى ألمانيا، والى مدينة كولن بالذات، فلقيت تلك الرغبة منه التأييد والترحيب.

الفصل الحادي عشر
كان لميلان، قبل أن يعرف فينسيا، حياته الطبيعية في مدينة كولن، لكن عندما عرف فينسيا اختلف الأمر، جاءت فينسيا الى حيث يجلس ميلان واختارت مكاناً ظليلاً يطل على الميدان تجلس فيه، فى آخر صف المدرجات العلوي، حينها بدا جزء واسع من الساحة أمام محطة كولن ساطعاً، والجو آنذاك قد أعطى انطباعاً بأن كل شيء فيه غير واقعي، وإن كان حقيقياً إلى آخر حد، الناس من حوله وبناية المحطة والدوم الكنيسة التاريخية العريقة والعتيدة. فى اليوم الأول الذي قدمت فيه إلى المكان شعر ميلان وهو يراها بتوهج داخلي لم يخف عنه، وفى اليوم الثاني وصلت الى المكان بالوقت نفسه وتنقلت فى أكثر من مكان، ظن ميلان أنها استراحة تطلبها قبل أن تمضى الى داخل مبنى المحطة، وفى اليوم الثالث كانت البوادر المتلهفة لرؤيتها لا تقبل شكا من أحد، بدأ في تسجيل مشاعره تلك على الورق، كانت تخطيطات بقلم الرصاص وبغيره، لكنه شعر أن ذلك كله لا ينفع فطوى الأوراق، وغادر مكانه ليختار مكاناً مجاوراً لها.

هي فى حدود الثانية والعشرين، أصغر منه بخمس سنوات تقريباً، ربما لم تلفت انتباه أحد غيره، لكن بالنسبة إليه، وهو يراها تقلب صفحات المجلة التي بين يديها، كانت عودا من ثقاب اشتعل للتو، لا، ما اللهب المتوقد ذاك إلا فى مشاعره هو، عندما جلس قربها، عرف كلاهما بعد وقت قصير من تعارفهما أن الأمر معهما سيكون أكثر من مجرد كوميديا بلهاء باتت معروفة لدى الكثيرين ممن يجلسون هنا فى علاقاتهم مع بعضهم، إن علاقتهما معا لن تنتهي بمجرد أن يفترقا، فى هذا اليوم تبادلا التخطيط لرحلة سوف تغمرهما بنعم لم يحصلا على مثلها من قبل. أعطته رقم التليفون الذي يطلبها فيه إذا شاء وعنوان إقامتها ربما يحتاجه لأمر ما، خلاصة ذلك كله أنها كانت صدفة لم يمر ميلان بمثلها عندما وصلت فينسيا إلى عنوانه الصحيح، عندما وضعت خلفها شارع مول هايمر، واختارت مكاناً على المدرجات، عندما طلب منها أن تضع المجلة التي بين يديها جانباً لكي يكون الكلام بينهما فيه الكثير من الصدق حتى لو كان من دون كلمات.

لم يكن لفينسيا أصدقاء فى كولن، مر على وصولها إلى هذه المدينة أكثر من شهر ولم تتعرف إلا على أناس هم فى الأصل أصدقاء لأمها، يلتقون يومياً، كانوا إما مسنين، يعاني أغلبهم من أمراض الشيخوخة أو عزاباً يمارسون أعمالاً غير محددة ربما بنظرهم أن تلك الأعمال ذات فائدة، أناس غير فعالين، يهمهم كثيراً تلك الجلسات المطولة التي يقضونها معا، يدخنون السجائر، يشربون الكثير من الشاي والقهوة، وقد يتبادلون الأنخاب، يتكلمون فى كل موضوع ويضحكون أحياناً دون سبب. لو كانت فينسيا تعرف أن حياتها فى ألمانيا ستكون بالشكل الذي وجدته ما استجابت لنداءات أمها المتواصلة فى أن تترك كرشتينا التي كان لها فيها أشياء كثيرة وتأتى لتلحق بها، كان لها أقرباء وأصدقاء وكثير من الناس الذين تعرفهم، وكانت لها حياتها الخاصة، لكن دائرة أولئك أخذت تضيق أكثر فأكثر كلما سافر أحد منهم خارج البلد أو لقي حتفه. كانت أمها هي صاحبة الشقة فى منطقة دويس دورف رقم 21 فايدن شتراسه، وأول ما سكنت فيها بدأت تتصرف بشكل غير متوازن فى إدارة المال الذي حملته معها، حيث لا يقارب دخلها تغطية نفقاتها الكثيرة، إنها من الناس الذين ينحل عزمهم إذا حرموا ممن يرعى شؤونهم ويدير أعمالهم، وذلك راجع إلى الوضع المالي الجيد الذي كان عليه زوجها، فبعد أن تزوجته بعدة سنوات استطاع أن ينتقل بعائلته الصغيرة المكونة من زوجة وولد وببنت إلى منزل فيه حديقة واسعة ملحق بها إسطبل للخيل وملعب تنس.

كان عنده من يلبى طلبه وهو جالس فى الحديقة ليأتي له بإبريق الشاي أو فنجان القهوة، أثرت هذه الفترة فى حياتها تأثيراً كبيراً حتى أصبحت قاعدة حياتها يتلخص فى اعتقاد راسخ بأن الجيد والجميل هو المرادف للغالي والثمين والأنيق والأرستقراطي، وأن الرخيص هو البشع والوضيع النتن والصعب والدنيء، أصبح كل شئ فى الأكل والشرب واللبس راجعا إلى روح الإنسان جميلاً وبشعاً وفق هذا التصور، لذلك أعدت ما قامت به عملاً ضرورياً بعدما تركت زوجها وحده يواجه عاصفة إفلاسه، بعدما دارت رحى حرب الصرب ضد الشعوب التي اجتمعت معهم فى دولة يوغسلافيا السابقة. فأخذت ما وقع بين يديها قبل أن تأخذه الريح، هربت بالمال إلى ألمانيا لتستقر فى كولن لاجئة من هول الحرب الدائرة هناك، وقبل ذلك بعثت بابنها الى أمريكا يتابع تعليمه فى إحدى المدارس، أما ابنتها فينسيا فقد تركت مدرستها الداخلية باهظة التكاليف لتكمل تعليمها فى سلسلة من المدارس الرخيصة، لعجز أبيها عن دفع الرسوم، بعد ذلك توفى الأب فقيراً بائساً حزيناً على ثروة ضاعت منه وأسرة انفرط عقدها. ظلت والدتها تتصل بها تطلب منها اللحاق بها أو اقتفاء أثر أخيها إذا وجدت منفذاً لأمريكا، كانت الأوضاع التي هناك تقلق الأم لأنها جعلت ابنتها فى حالة تنقل دائم بين منزل جدتها لأبيها وجدها لأمها.

لكن الذي جعل فينسيا توافق على الرحيل أخيراً والالتحاق بأمها، هو أن الوضع فى البلد كان ينذر بالتفجر في أية لحظة بعد أن هدأت الأوضاع، وبات المتهمون بالتطهير العرقي يبحثون فى مخلفات مجدهم الضائع عن ما يخرجهم من وراء القضبان فى محكمة الجزاء الدولية الخاصة بيوغسلافيا السابقة. خارج سكن والدتها كان لفينسيا فرصة لدخول المكتبة فى محطة كولن الرئيسة، تقضي فيها وقتاً تتصفح فيه الكثير من المجلات الأسبوعية والجرائد اليومية، وأحياناً تشترى بعضها وتخرج من المحطة لتختار مكاناً تجلس فيه على المدرجات فى الساحة المقابلة كما يفعل كثيرون غيرها ذلك. أخذت فينسيا مكاناً لها فى الظل وبدأت فى تقليب الصفحات، بالنسبة لها إن الأشخاص الحقيقيين هم الذين بسبب اهتماماتهم يكونون نجوماً متلألئة فى سماء الناس جميعاً، من مثل أولئك يدخلون فى سباقات مع بعضهم بالزوارق والسيارات، نجوم غناء، يعملون فى برامج تلفزيونية مشهورة، أصحاب دور أزياء أو عارضات فيها، من أولئك الذين كلما فتحت واحدة من هذه المجلات التي تتكدس فى المكتبات، رأت صورهم فيها، لكن، مع ذلك، تبادلت مع الشاب الذي غادر مكانه وعرفت فيما بعد أنه من صربيا، وجاء ليجلس قربها، مختلف الأحاديث، لم يكن ذلك الشاب بنجم لامع ولا هو بشهاب ثاقب، لكن العلاقة بينهما تولدت سريعاً. فى اليوم الأول من تعارفهما رافقته فى المشي على طول كورنيش الراين، مستسلمة لمداعباته وهمساته، وأثناء ذلك سمعته يقول لها أكثر من مرة، لقد أصبحت شيئاً مهماً فى حياتي. فى لقائهما الثاني قال لها إنه لم يعد يطيق فكرة مفارقتها. واستجابت له عندما دعاها لتمضي بقية السهرة فى سكنه. هناك وجدت نفسها بين أكوام من الكتب والأوراق المبعثرة على الأرض وأدوات للرسم وغيرها للحفر على الخشب وأشياء أخرى، بعض الأواني مرمية فى فرن الطباخ وقد تجمع الشحم فيها، وأخرى تحت السرير الذي لم يرتب بعد، فى كل مكان علب التربنتين، أنابيب لألوان الزيت، أكواب فيها ما تبقى من الشاي والقهوة. عندما دخلت فينسيا إلى سكنه قالت مستغربة: هل أنت بصدد الانتقال إلى مكان آخر أم ماذا؟

ما الأمر، هل الأشياء غير مرتبة!
ـ غير مرتبة! هل يجب أن تترك الشاي في الكوب تحت سريرك؟ وهذه الأشياء، لم أر مثل ذلك، ماذا لو زارك ضيف؟
فوجئ بما سمعه منها:
ـ مثل كل فنان، يجب أن تعرفي، عندما أستغرق فى صياغة عمل لي، أنسى مثل هذه الأمور، أكاد أفقد اهتمامي بها.
ـ سأحاول تنظيف هذه الأشياء.. أين وضعت سائل التنظيف، والمكنسة الكهربائية، والأشياء الأخرى التي تساعدني لوضع كل شئ فى مكانه.
قال: لا أصدق، هذه أول مرة تدخلين سكني، وتريدين أن تفعلي كل ذلك، هل جئت إلى كولن كي تفعلي هذه الأشياء.

لم تجبه، لكنها قضت وقتاً لتكمل ذلك على أتم وجه، وعندما رأى المكان نظيفاً ولامعاً ومرتباً أراد أن يقترح عليها أن تنقل أغراضها وتأتى للإقامة معه، ولكنه أجل ذلك إلى الغد عندما عزمت على المغادرة فور انتهائها من العمل. وتركها تذهب على أمل اللقاء غداً فى الثالثة على المدرجات نفسها.

فى اليوم الثاني عندما مر على الموعد نصف ساعة، ترك ميلان مكانه وتوجه إلى أقرب تليفون عمومي، وضع قطعة النقد فى الفتحة المخصصة لها وطلب رقمها، لا بد وأن أم فينسيا منشغلة الآن ويزعجها كثيراً أن يتصل بها أحد من غير معارفها تليفونياً، لكن لا بد من الاتصال، رن جرس التليفون فى الشقة التي تقع فى 21 فايدن شتراسه، تركت والدة فينسيا لابنتها حرية التصرف فى أمور حياتها كيفما تشاء، فهي لا تمنع ابنتها من اختيار ما تريد، لكن عندما سمعت ذلك الصوت فى التليفون يسأل عن فينسيا، سألت عن اسمه، أجابها أنه ميلان. ولكي تتأكد قالت: ميلان الصربي؟

سألها: ما هذه «الصربي» التي تقولينها. نعم أنا قدمت من بلغراد، منذ خمس سنوات، وإقامتي هنا فى كولن.
لم يكن متأكداً كلياً من سماع صوتها خافتاً، تكلم نفسها، أو تكلم شخصاً آخر قريباً منها قائلة: لماذا شاء القدر أن يلاحقهم الصرب إلى هنا، وبالتحديد إلى حيث تقيم. بعد ذلك قطعت الاتصال.
بعد ساعة، أنجز ميلان تخطيطاً لوجه فينسيا، بدت فيه آسفة لعدم حضورها إلى الموعد، حزينة لأنها لم تأت، أنجز لها تخطيطاً آخر تدعوه فيه للحضور إلى بيتها، فقام عازماً على تنفيذ ما طلبته. فأخذ أول باص يوصله الى هناك.
فتحت الأم له الباب ودعته للدخول غير مرحبة، ولم تدعه للجلوس، تركته واقفاً بينما قالت له: أليس من الأفضل أن تترك لها رسالة؟
ـ أريد أن أراها، لقد أحضرت لها أشياء، ستعجبها.

وأفرد أمامها بعض الأوراق كانت مطوية، لكن الأم ألقت عليها نظرة سريعة وغادرت المكان لتعود ومعها ابنتها، خفق قلبه بشدة عندما رآها أمامه، لم يسبق أن رآها جميلة لهذه الدرجة حتى فى مخيلته، تراجعت شجاعته وارتبك وخطا خطوة إلى الوراء بدلاً من التقدم إليها. أما هي فقد آثرت الكلام دون أن تعطيه فرصة الإجابة أو التعليق على ما يسمعه، دخلت فى موضوعات كثيرة لكنها تجاهلت موضوع الموعد الذي أخلفته ولم تعطه الوقت لكي يذكرها به، وعندما وجد فرصة قال لها: أحضرت لك تخطيطاً. قالت: تخطيطاً، ماذا تقصد؟

قلب فى مجموعة الأوراق التي كان يحملها فى ملف وأخذ منها اثنتين، كان مظهره، آنذاك تعساً وتمنى لو لم يحضر، اقتربت منه لتعاين التخطيطين، الأول يصورها أميرة متكئة على إفريز شرفة تطل على حديقة وذيل ثوبها الموشى بزخارف كثيرة يستقر على درجات السلم المؤدي الى الحديقة، ورأسها الصغير لا يكاد يقدر على حمل تاجها المثقل بالأحجار الكريمة الزرقاء وباللازورد وبالمرجان، ترفع بيدها اليمنى كأسا وهي تلقي نظرة باردة ليس فيها شفقة على سجين موثوق اليدين والقدمين الى وتد، يقبع تحتها في الحديقة على وشك أن يطاح برأسه.

حين حدقت الفتاة في اللوحة رأتها غريبة ومفزعة، بدأت عيناها باللمعان وشفتاها بالارتجاف، وتدريجيا بدأ الوجهان يكملان بعضهما، ابتهج وهو يقول لها: هذه اللوحة تعكس روحينا.

سألته: والأخرى؟

ـ هذه أنت، دمك يتدفق في عروقها، انظري الى نفسك تتكئين إلى شجرة توت وتحملقين في أشلاء الرجال المبعثرة عند قدميك وقد ارتسم الاعتزاز والرضى على محياك، انظري الى مجموعة العصافير الصغيرة تتقافز بين الجثث مغردة بسعادة وبدا من المستحيل أن يعرف من يشاهد اللوحة فيما اذا كانت تمثل ميدان معركة أم حديقة في فصل الربيع. خاطبها وهو يشير الى اللوحة، هذه اللوحة تشير الى مستقبلك، أما الرجال المتساقطون على الأرض فهم من سيخسرون حياتهم بسببك. صرخت: أتوسل اليك، أبعد هذه اللوحة عني. ولأنها تكهربت بسحرها المرعب أدارت ظهرها الى اللوحة، قال:
ـ لو جئت إلى الموعد لكان أجمل بكثير من هذا الذي أمامك.
ـ اتركهما على المنضدة إذا كنت تريد أن تعطها لي.

تركهما على المنضدة تنفيذاً لطلبها مع الأوراق الأخرى، لم يكن هناك شيء جديد، تبخرت مناشداته لها فى حنجرته ولم يقدر على شئ، قالت الأم: ضع فى اعتبارك أن فينسيا لا وقت لها تقضيه معك اليوم، لأنها مشغولة جداً بتحضير نفسها للسفر ملتحقة بأخيها في أمريكا. نظر إلى فينسيا فهزت رأسها مؤكدة على ما كان سمعه. سرت قشعريرة فى جسده عندما سمع من الأم كلامها ومثلها عندما رأى فينسيا تهز رأسها. عاد من حيث أتى، أثناء ذلك كان كل شيء يؤكد عدم اقتناعه بما سمعه ورآه، لم ينم ليلتها، هل هو طرف فى الموضوع، لماذا لم تكن تريد أن تسمع أنه ما حارب أبداً فى صفوف جيش الصرب، ولا حارب ضدهم، هو ميلان الفنان وليس ميلان الصربي.

فى اليوم الثاني ذهب إلى المدرجات وجلس هناك وحيداً، وعندما طالت جلسته فضل أن يأتي له بزجاجة بيرة يشربها بينما الوقت يمضى ثقيلاً، بعدها أتى بالثانية والثالثة، وقبل أن يغادر وصل به التفكير إلى ابتلاع كمية من الحبوب تكفل بالقضاء عليه، كانت عنده رغبة راسخة عميقة الغور إلى فعل ذلك، لكنه لم يقدم على مثل هذا الفعل لأنه سمع فينسيا تناشده إياك أن تفعل شيئاً أحمق، كفاني ما أنا فيه، بعد ذلك بساعة عاودته رغبة ابتلاع الحبوب فأبعدها مخافة أن يسرع أحد بخبر موته إلى فينسيا، فترمى بنفسها تحت عجلات القطار الذي سيأخذها بعيداً عن كولن، ربما فعل ذلك بينما يكون هو آنذاك قد نقل إلى المستشفى. وأنقذت حياته هناك، وعندما يسمع بما جرى لها يحزن عليها فيرمي بنفسه من أعلى بناية المستشفى، إنه لا يريد أن تتكرر معهما حكاية روميو جولييت.

أخذ الجو يزداد برودة مع قدوم الليل وأغلقت المحلات أبوابها باستثناء المطاعم والمقاهي التي فضل بعض روادها المكوث خارجها. دخل مقهى وخرج من الباب الخلفي، وجد نفسه فى شارع توماس مان فأصبح قريباً من ميدان متحف راين مالر، كان متأكداً من أنه غير واهم فهناك من يتعقبه وها هو يبرز له مجدداً هناك عند إحدى الزوايا، لم ير وجهه جيداً، فقد كان يترك دائماً مسافة تفصله عنه، شعر ميلان بالاضطراب، لذلك تعلق بفكرة زيارة أحد معارفه من الصرب وكان يسكن على مقربة فأسرع يلتجئ إليه، ولم تكن غير خمس دقائق أصبح بعدها بعيداً عن الخطر، عندما دخل الشقة، طلب من صاحبه التأكد من إغلاق الباب جيداً. فاستغرب قائلاً:

ـ ما الأمر ميلان! ما الذي جرى؟
لم يكن الرجل قد رأى ميلان منذ مدة طويلة، والعلاقة بينهما بسبب هذا التباعد، كانت واهية جداً، لذلك لابد من وجود دافع قوى جداً وراء هذه الزيارة، قال ميلان:
ـ هناك من يتعقبني، لم أفعل شيئاً، ولم أخالف القوانين.
ـ اهدأ ميلان، هذا مجرد وهم.
ـ لا، أرجوك أطفئ نور الصالة، وتعال معي ننظر من وراء النافذة إلى الشارع.

بالفعل وجدا من كان ينتظر تحت عمود النور فى الجهة المقابلة، كان رجلاً متوسط الطول، يتميز جسمه بالضخامة، وبمنكبين عريضين. استمرا نحو نصف ساعة يتجادلان فى حقيقة من يكون ذلك الذي أمامهما، أحياناً كانا ينظران إليه، وأحياناً ينظران لبعضهما عندما يحتدم الجدل، بعدها خلا الرصيف من آي أحد من دون أن يلحظا ذلك، كان الليل قد تقدم، والهدوء يعم المكان، طلب منه صاحبه الجلوس، لكنه بعد تفكير عميق فضل الذهاب إلى مسكنه، وغادر المكان، هو يسير على أطراف أصابعه.

بعد ظهر اليوم الثاني أراد ميلان مغادرة المنزل، لكنه غير رأيه بعدما ألقى نظرة على الطريق من نافذة مسكنه الذي يطل على الشارع، فرأى رجلا ينظر باتجاه النافذة التي هو عندها، كأنه يقول له: إما أن تنزل لي أو أصعد لك؟

استمرا وهما فى مكانيهما يرصدان أي رد فعل، لم يكن لميلان الوقت كي يفكر بفينسيا، أو يسأل أمها عبر التليفون عن آخر أخبارها، لم يفكر بشراء مؤونة له قد يحتاجها للأيام القادمة فربما يطول هذا الموضوع، قبل قليل صعدت فروزة الى شقتها، عرفها من خطواتها ولحق بها ذلك الذي يعمل معها في محل الملابس الذي تحت، ضربت عليه الباب لكنه لم يفتح، وبعد فترة ضربت فروزه الباب ثانية، ولم يفتح، بعد ذلك شاهدها تخرج برفقة ذلك الشاب، انقضى النهار.

*   *   *

ضرب جرس التلفون وكانت السيدة فروزة مشغولة لذلك طلبت مني الرد، رفعت سماعة التلفون، كان على الطرف الآخر صوت ضعيف لامرأة، كأنما تسحبه سحبا مع تنفسها الثقيل، قلبته في دماغي فاهتديت الى أنه لمنى عبد المجيد، لقد استمرت في انقطاعها عن العمل، لذلك اضطرت السيدة فروزه طلب عاملة أخرى تقبض أجرها بالساعات بدلها، اتصلت بها فروزه أكثر من مرة فقالت لها منى انها لن تعود قبل أن تنهي مشاكلها.

قلت لها: لم نعد نسمع عنك شيئا؟
قالت: أريد أن أراك.

ـ تعالي الى المحل في نهاية الدوام.
ـ لا بد أن أراك في مكان أخر، ربما رآني أحد هناك فيقطع لي آخر أمل أتعلق به، أنت تعرف ما أقصد.
قلت لها: طبعا، طبعا. وأنا لا أعرف بالضبط ما كانت ترمي اليه، وأضفت: أنا أيضا أفكر في ذلك.
قالت: ما رأيك أن نلتقي في المحل الخاص بالحيوانات بالشارع الموازي لشارع المحل.
إذا كنت تقصدين أن المحل لا يرتاده الذين لا تريدين أن يراك أحد منهم معي فأنا أقترح عليك الآتي، سآخذ الشتراسن بان وسأكون عند مبنى بريد "كالك" عند الثانية عشرة والنصف، بعدها أدخل في الشارع الذي خلفه، شارع هادئ يكاد لا يمشي فيه أحد، هناك مقهى اسمه "فيفا أسبانيا" أنا هناك عندما تدخلينه.

كانت منى شاحبة أكثر مما كانت عليه عندما رأيتها آخر مرة، بدت بشرتها ذاوية وخف بريق عينيها، وهذا ما جعلني أقف مرتبكا أمامها، كنت انتظرها خارج المقهى لأني عندما دخلت ولم أجدها خرجت، لا يوجد في الداخل غير رجل كهل وآخر متوسط العمر يجلس مع امرأة تكبره في السن، وكانت هي مستغرقة في شرح أشياء جعلتها لا تنتبه أبدا الى مرورنا بجانبها لكي نجلس في الزاوية البعيدة بناء على رغبة السيدة منى، وقبل أن نطلب شيئا قالت: اختيارك للمكان عملي جدا خاصة وأنا أجلس في مقهى لأول مرة مع رجل يعتبر غريبا عني، انه يخفف عني الشعور بأن لا أقدم على تصرف غير مقبول مني. بالمناسبة، لماذا "فيفا أسبانيا" هل هو مقهى أسباني؟

ـ لا، المقهى يملكه زوجان سويسريان، وقد سلماه الى رجل تركي يحمل الجنسية الالمانية، وهما يأتيان من سويسرا بين فترة وأخرى لتدقيق الحسابات، وأكثر الزبائن هنا من الإيطاليين، نحن إذن هنا في مكان عام.

"فيفا أسبانيا" مكان عام نعم، لكن عندما رأيتك آخر مرة، ألم يكن محل الملابس المستعملة مكانا عاما، يدخل الناس اليه ويخرجون على الدوام، فلماذا وجه زوجي لي الاتهامات، شتمني وشتم ابنتي وقال لنا. جهزوا أمركم للسفر على الطائر الميمون نهاية الأسبوع القادم، وعندما أيقن أن ما سمعناه كان أمرا لا يعنينا قال: ألا يهمكم رؤية الاهل في زيارة قصيرة! يبدو أن الرحلة أصبحت واقعا، هو يقول أنها اسبوعين، لكن لو قال لك أحد معارفك أنه سيغيب اسبوعين في رحلة وطالت رحلته بعد ذلك، هل ستذكره؟ أقول: هل سيقلقك فراقه؟

أثناء ذلك طلبت من النادل الذي وقف عند منضدتنا شايا بالحليب وطلبت مثله، جاء النادل بالاثنين سريعا، وعند أول رشفة أخذت تحدثني عن احدى العائلات اللبنانية التي أقامت فترة طويلة في الخارج حيث نشأ الأبناء وهم يتحدثون بلغة ذلك البلد في البيت والشارع والمدرسة، كما أن الام كانت تفهم تلك اللغة الى حد بعيد، أما الأب فكان يعيش في عزلة، لم يكن يذهب الى غير المقهى الذي يجتمع فيه أمثاله، كان عاطلا عن العمل وتنتابه أحاسيس شتى منها الذل والهوان، كان يعتقد أنه فقد السيطرة على ابنته التي كانت تكبر مع الأيام وعلى زوجته التي كانت تخرج من دون اذن منه، مع أنه كان يعرف أنها لا تخرج الا لتقضي عملا، لهذا قرر السفر الى لبنان، بلد آبائه وأجداده، كان يظن أنه أوهم العائلة أن الغرض من الزيارة هو قضاء إجازة لا أكثر، أو هي عودة مؤقتة. لكن امرأة قي بيروت تتذكر أن امرأة التجأت اليها مع ابنتها الصبية، هذه المرأة قصت عليها وهي تجهش بالبكاء حكاية عودتهم الى لبنان لرؤية الأهل، الفخ الذي نصبه الأب لهم، وكان هم تلك المرأة أن تعود الى البلاد التي جاءت منها مع أبنائها بحثا عن الأمان، لكن ذلك تعذر عليها لأن جميع جوازات السفر قد دخلت في جب الأب وبات من الصعب أن تخرج منه.

وكانت تبكي بحرقة أكبر وهي تؤكد لها بأن والد الفتاة سيعمد الى قتلها، فقد قرأ يوميات كانت تكتبها ابنته ورسائل فيها رسوم قلوب مدمّاة كانت قد تلقتها الصبية من شاب في مثل عمرها هناك في البلاد التي كانوا فيها، لذلك طلبت منها تلك المرأة متوسلة أن تبقى ابنتها ذات السبعة عشرة سنة معها في البيت، ريثما تجد لها مكانا آمن، ورجتها أن تحتفظ بهذا السر ولا تذيعه الى أحد لأن في ذلك خطر على حياتها. الحكاية لم تنته بعد لأن المرأة بعد أربعة أيام أخذت ابنتها الى خال لها كان موضع ثقة، وبعد ذلك بشهر، ومع كل ذلك التكتم في الأمر والحرص على أن لا يعلم أحد مكانها لقت الصبية مصرعها قتلا، أطلق القاتل عليها الرصاص من الخلف وهي نائمة في فراشها، ولقت أمها مصرعها أيضا لأنها حاولت أن تمنع حصول الجريمة، القاتل كان أبوها الذي ركبه وهم أن ابنته لطخت شرف العائلة بالعار. أكملت منى شرب ما في كوبها: لربما كانت تلك الصبية ما زالت على قيد الحياة لو كانت قد ترعرعت في بيئة تقليدية ولم تذهب عائلتها الى الخارج. لكنها عادت لتقول كما لو كانت تصحح لنفسها خطأ وقعت فيه: لكن ذلك القتل المنسوب الى الشرف لا يقتصر على عائلات المهاجرين وحدها.

وقفت فجأة وهي تقول أنها مضطرة للذهاب، وغادرت من دون أي كلمة وداع.
كانت تلك آخر مرة أرى فيها منى.

*   *   *

غالبا ما كنت أرجع إلى شقتي متأخرا، هناك أفتح التلفزيون وأغلقه وأفتحه وأغلقه، وأتجول قليلا بين الغرفتين الخاليتين الا مني، أعدل أوضاع الصور على الحائط، وبعض الكتب والمجلات على الأرفف، أغسل صحونا، أكلم نفسي في المرآة، يتقدم الوقت هكذا، في الليالي ومنذ أيام بسبب أني لم أذهب الى ستار في شقته أخذ يكلمني في التلفون يسألني هل هناك أخبار؟ أقول له ليست هناك أخبار، وأسأله: من أين تتكلم؟ يقول: من الشقة، فأسأله: من الشقة أو من مقهى بونابرت بصحبة ربيكا قال: ذهبت ربيكا لحالها، كنت قد أبلغتها ونحن في مقهى نابليون أن كل ما بيننا انتهى، لطالما كان ذلك الشيء يداعب مخيلتي، لقد تمكنت بعد إكمال كل الاستعدادات وبعد أن أصبحت مع نفسي مؤهلا أن أقول لها "طريقنا ليس واحدا" قلت لها، لقد صدرت مني الكلمات التي كنت أتطلع اليها وبشغف شديد. قلت: كنت ربما مثل حاكم يصدر أمرا، قال: ليس أمرا بل نداء، كان بمقتضى النطق به أن يشق السماء شقا، لقد كانت كلماتي واضحة لا ارتجاف فيها، ولا لبس في مداخل الحروف. لذلك لم تطلب مني أن أكرر ما سمعته، ومن حسن الحظ أنها سمعت ما قلته على وجه الدقة، في اللحظة التي وصلت كلماتي الى مسامعها عبر ضجة المقهى، اتسعت عيناها اللتان بدتا تتجاوزان بقوة أي قسمة أخرى من قسمات وجهها الذاهل، لم تتذمر ولم تشك وبدا محياها مجردا من أي تعبير، لكن بعد ذلك أخذت تلتقط أنفاسها بصعوبة، ولم تند عنها حركة لالتقاط منديل تمسح به دموعها أو تتمخط. بعد ذلك أخذ يشكو حاله، ثم أتى على ذكر مارتينا، وهي فتاة من أصل روماني كما قال لي، تعمل في صيدلية المستشفى التي يعمل بها. ثم تنهد قائلا: ربما أطلبك غدا، ليكون كلامي خاصا عن مارتينا.

الفصل الثاني عشر
توجه نوري بعد أن أنهى عمله في وكالة شتيرنه الى مركز المدينة لشراء بعض المستلزمات التي يحتاجها في البيت، وهناك من المكان الذي كان يقف فيه وربما على بعد أكثر من ثلاثين مترا لفت انتباهه جمعا من الناس واقفين ينظرون الى امرأة كانت تجلس في مقهى وضعت بعض طاولاتها على الرصيف. كانت تلك المرأة ترقب الجمهور الذي يتحرك هنا وهناك أمامها، وينتهي بها الأمر بأن تخرج من جيبها حماما وطيور البحر فينفجر الناس حولها بالضحك، إذ يرونها كأنما تفعل ذلك دون قصد، وفي كل مرة تفتح فيها كفيها وهي شاردة الذهن تقفز أو تتدحرج أو تنساب منهما أشياء عجيبة، أحيانا تتفاجأ هي عندما تسحب من كم سترتها أشياء شتى بأشكال مختلفة وألوان حارة، وفي النهاية عندما لا تعرف ماذا تفعل أمام كل ذلك تضرب جبهتها بباطن كفها، فقال نوري في نفسه "ربما تكون مثل هذه المشاهد ممتعة؟" وكان ينظر حوله كما لو أنه يريد من أحد أن يرافقه في الذهاب الى هناك، لكن بلا جدوى، وبعد أقل من دقيقة ترك المكان وذهب لقضاء شؤونه.

يحدث أحيانا أن تخرج منديلا لكي تمسح أنفها فتثير دهشة الجالسين بجوارها حين تسحب من جيبها دمية بحجم كبير، وإذا لمست ياقة قميصها دون قصد يخرج منها على الفور طائر من نوع الغراب، وفي مناسبة أخرى وبينما تحاول أن تلتقط ملعقة سقطت على الأرض، تقافزت الحيات خارجة من بنطلونها فيأخذ الأطفال والنساء بالصراخ ويتجمهر المارة، وعندما كان عليها بعد ذلك أن تثبت للشرطة أنها ليست متشردة وان اسمها الحقيقي هو ربيكا، وبقيت هي في مركز الشرطة تحدثهم عن ستار الذي غدر بها، وتستمع الى تعليماتهم التي تمنعها من إطلاق الثعابين في الميادين والشوارع العامة، ولم تعترض وشرحت لهم في حالة من السحر التي تتملكها، والتي تريد من خلال تأثيرها أن تقضي على من سبب لها التعاسة، لأنها أصبحت تستيقظ في الليل من نوم عميق على حركة سمكة كبيرة، كانت تشق طريقها كي تخرج من فمها وهي تضرب بذيلها ذات اليمين وذات الشمال. وعندما أطلقت الشرطة سراحها ربطت معصميها بالسلاسل الحديدية لئلا تفعل بكفيها شيئا ربما يودي بها الى مشكلة، وما أن شعرت بالحاجة الى كفيها حتى أخذت السلاسل تتفكك لوحدها وأصبحت يداها طليقتين تنفيذا لقرار داخلي، أخذت ترش من تقابله بالماء فراح الناس يتحلقون حولها ويتساءلون ان كانت تحمل معها زجاجات الماء، أم كانت المياه تخرج من بين أصابعها بعفوية، وعندما رأوا أن الأمر كان صعبا على التصور وانها لا تحمل أية زجاجة أخذوا يرمون لها بقطع النقود تشجيعا لها.

كل هذه الإمكانات التي عندها التي تستطيع بها أن تسيطر على الحيوان الزاحف والسابح والطائر وأن تفعل أشياء لا يقدر غيرها على فعله لم تستطع أن تفعل شيئا لستار عندما طردها من بيته، لم تستطع أن تغير من إحساسه تجاهها، لم تستطع إقناعه بأنها جديرة به، بالعكس كانت خائفة من المجهول الذي ربما يغدر بها، وهذا ما ضاعف إحساسها بالإحباط فتركت حدود المدينة صباح اليوم التالي، وخرجت بحثا في الجبال عمن يمد لها يد العون، وعندما وصلت الى أعلى جرف صخري يطل على هوة سحيقة، ألقت بجسدها، وكل ما شعرت به وهي تندفع في الفضاء هو إحساس قوي بقرب الموت منها، لكن سرعان ما وجدت نفسها معلقة بمظلة، لكن ذلك كان مصدرا آخر لتعاستها التي تضاعفت، فحتى هذا المصير الذي أرادته لنفسها لم تستطع تحقيقه. وعندما عرف ستار أنه أصبح طرفا في موضوعها أمام الشرطة، عرف أين يجدها، وبالفعل قادها عندما وجدها الى تحت الجسر الذي تعبر عليه القطارات، وهناك ضربها بعنف شديد وعندما سألته ضارعة متوسلة وشاكية لماذا يفعل بها ذلك؟ قال: لئلا تعودين الى أفعالك تلك. ولاحظ الناس في اليوم الثاني أنها كانت تحاول أن تخرج من بين ملابسها أشياء صغيرة لا يراها أحد، ظن الناس أنها مجنونة وبخاصة عندما تلقي في الهواء بهذه الأشياء ضئيلة الحجم فرثوا لحالها.

*   *   *

في اليوم الثاني نزل نوري الى وسط المدينة بعد انتهاء العمل وكان أمله أن يشارك الجمع الذي هناك مشاهدتهم لتلك المرأة، لكنه لم يجد الجمع ولا المرأة، وكرر ذلك في اليوم الذي بعده، وأيضا في اليوم الذي تلاه، وفي كل مرة كان يشعر بالأسف لأنه لم يدقق في وجه المرأة ويلوم نفسه على ما فاته، وكان كل مرة عندما لا يجدها يذهب الى الراين الذي لا يبعد كثيرا يتجول هناك وحيدا، كانت تنتابه الاضطرابات من حين لآخر، كان الجو باردا والسير بخطى واسعة قادر على صهر المشاعر، وبعد ذلك تهدأ الخطى فيتمكن من الجلوس على واحدة من تلك الأرائك الموجودة على طول الرصيف. أخذ نوري يكثر من تلك الجلسات من يوم ما استفزه ناجي في العمل، وكان يتحاشى الفتيات اللواتي يجلسن بجواره بطريقة أو بأخرى.

ـ كانت ليلة هادئة عندما رجع فيها الى مسكنه متأخرا، لكن وميض الرعد كان يضطرب بين فترة وأخرى فوق المنازل العالية بتلك الشوارع الضيقة، وقبل أن يصل الى منزله أجفل مذعورا، إذ وجد نفسه بالقرب من شيء كان مطروحا على الأرض يرتجف، كشفه له بمزيد من الوضوح تتابع البرق اللامع، كانت امرأة لا شك تضع رأسها في حجرها وقد تركت شعرها ينسدل ليغطي كتفيها، توقف عندما رآها مبتلة وقد كان ثمة شيء غير عادي في هذا الأثر المتبقي من كارثة، وقد دل مظهر المرأة على شيء تجاوز المألوف، ها هي تتخبط لا مأوى لها تجلس كسيرة الجناح على حافة هذا الوجود فدنا منها وخاطبها بعطف، وإشفاق،

ـ من أنت أيتها المرأة؟

فحركت شعرها: أنا من كنت أمرر الفيل من خرم الإبرة ومن أظهر قوس قزح في الليل، لكني ضللت طريقي.

ـ ورفعت رأسها اليه متأملة: قد لا يهمك أمري فتابع سيرك. ما أذهله بشدة عندما تطلع اليها أن لها ذلك الوجه الذي لازمه في أحلامه، كان وجها بارع الجمال رغم شحوبه وشيوع الحزن في قسماته، فهل كانت هي! اقترح عليها وهو يدنو منها أكثر، أن يتكفل بإيصالها الى بيتها، فقالت: أنا لا بيت لي، قال: وهل لك أصدقاء؟ قالت: كان لي، أما الان لا أحد. وبكت، فقال لها: لا تبكي. قالت: أبكي لأني أخاف الخنازير البرية والشياطين وشهوات الرجال وأشباح الموتى. قال وهو يضع كفه على كتفها: أنت مبتلة، سآخذك الى سكني، لئلا ينالك شر أو أذى من أحد. وكان لسلوكه الجاد وطريقته الصادقة في الكلام أثره البالغ عليها، وجعلها الإحساس بتلك اليد التي مدها اليها تختلج من قمة رأسها لأخمص قدميها العاريتين، لكنه اعتقد أنها ترتجف من البرد، وأسلمت نفسها لحمايته وعفويته فقاد خطاها المتعثرة الى الدرجات المعدودة التي كان عليهما أن يرتقياها الى سكنه. لقد حملت له عرفانا رقيقا بالجميل، ذلك نفسه حمله لها لأنها مدت له يد العون لكي تعرفه بنفسها وهو الذي بحث عنها طويلا، فلم تعد الان مجرد خيال أو طيف أو وميض يلمع في سماء المجهول.

وفي المنزل أسكرة جمالها الذي يبهر البصر، ويعمل على إبرازه شعر غزير حالك السواد، كذلك عيناها المتألقتين اللتين يطل منهما تعبير غريب هو أقرب شيء الى التوحش، بدا قوامها أمامه مكتمل التكوين والتناسق وكان لمظهرها أشد الوقع في النفس، وكان يرتجف، لكنها اعتقدت أنه يرتجف من البرد، فقالت: المكان بارد، اشعل النار وسرى الدفء، وكان لا يدري كيف يتصرف معها بعد أن تكفل بها، فأخذها لتقرفص معه أمام لهب المدفأة، وهي تبتسم ابتسامة صغيرة مهذبة، معتذرة عن حضورها الذي ربما أتعبه، وكأن سحرا خدر أفكاره وحواسه، اجتاحته نوبة مرح راقصة بعد أن أيقظت فيه أكثر الذكريات معها في الاحلام روعة الى نفسه، حازت تصرفاته على ثقتها، ثم فاز ت بقلبها، ومن الواضح أنها متحمسة مثله فقالت له: كم يكون رائعا أن يخرج المرء من جسده مناديل حمراء وزرقاء، وأن يملأ الليل بالألعاب النارية لتغطي الأرض من طرفها هذا الى طرفها ذاك. وسرعان ما فهم أحدهما الآخر، فغمرهما الافتنان المتبادل فصارحها بعاطفته نحوها وكيف أنها ملأت فؤاده حتى من قبل أن يراها، ومن الغريب أنها تأثرت كثيرا بهذا الكلام، واعترفت له أنها تحس نحوه بمثل هذا الشعور، ومن فرحتها سمعها تشهق في البكاء فهزته تلك الشهقات وأخذ يمسح دموعها دمعة فدمعة وهو يقول: أنت لا بيت لك ولا أهل، ليس لك صديق، دعيني أكن كل شيء لك، أو بالأحرى دعي كلا منا يكن كل شيء للآخر، ها هي يدي وأنا أعاهدك الى الأبد. قالت: الى الأبد. قالت: آنا لك إذن، وارتمت على صدره، فصار كل منهما ملاذا للآخر.

في الصباح التالي، تركها نائمة ليجهز أحلى فطور في المطبخ، وكان يغني ويعمل بعض الحركات البهلوانية، وعندما رجع ليوقظها رآها ممدة على الفراش ورأسها المهشم جفت عليه الدماء، كانت جثة هامدة، فأخذ يصيح ليوقظ الناس في المبنى الذي يسكن فيه، وجاءت الشرطة بعد ذلك، عندما دخل الضابط الى الغرفة ليعاين الجثة تراجع الى الوراء من هول ما رأى وصاح في استغراب: يا الهي، كيف جاءت هذه الجثة الى هنا!

قال نوري: جثة جاءت الى هنا، أيها الشرطي قل كلاما آخر!

هذه التي في فراشك رمت بنفسها من فوق بناية البريد عصر يوم أمس، وفارقت الحياة قبل أن توصلها سيارة الإسعاف الى المستشفى.

اعترت نوري نوبة أخرى من الصراخ المتصل، فحاول الضابط ومن معه تهدئته، وبعد ذلك أخذ ينشج، بعدما سيطر عليه اعتقاد أن روحا شريرة قد أشاعت الحياة في الجسد الميت لتوقعه في شراكها، واستمر ينشج النهار بطوله والليل بطوله، كانت الدموع تحرق عينيه، فضعف البصر لأنه لم يعد يتعرف الى من يكلمه الا بعد معاناة. ثم تولاه ذهول. واقترح الطبيب المعالج في تقريره بنقله الى احدى المصحات.

الفصل الثالث عشر
خرج ستار واثنان كانا برفقته من داخل المصعد وقد أحاطوا بالنقالة يدفعونها أمامهم، قطعوا الممر الذي واجه باب المصعد عابرين الأبواب التي تقع على جانبيه من بينها باب الصيدلية المفتوح، ومن دون أن يقف ألقى بالتحية: يوم سعيد آنسة مارتينا. من داخل الصيدلية تمنت مارتينا يوما سعيدا له أيضا بصوت سمعه ستار جيدا رغم أنه ابتعد عن الباب المفتوح، سمع بعدها أيضا تأكيدها على أنها ستمر عليه فيما بعد، كانت مارتينا قد جاءت الى هذا المكان حديثا، وقد كانت تعمل في مكان آخر. قبل قليل سمعت مارتينا صوت دواليب النقالة خارجة من المصعد، سماع ذلك الصوت يعني أنها ستسمع أيضا صوت ستار بعد لحظات يسلم عليها، كانت تعرف أنه سيفعل ذلك مادام باب الصيدلية مفتوحا، لقد ألفت سماع صوته خلال اليومين الأخيرين، في مثل هذا الوقت وأوقات أخرى أيضا، كل مرة يعني الصوت لها: أنا موجود إذا كنت في حاجة لي، اطلبي مني شيئا وسترين كيف يكون عندك حالا. لم تسأل نفسها لماذا يسلم عليها بالذات ولا يفعل الشيء نفسه مع زميلتها في العمل، من جانبها لم تهتم بهذا الموضوع كثيرا، كما لم تعط اهتماما لموضوع النقالة، ومن هم أولئك الذين ينقلون عليها، ممن فارقوا الحياة، لتأمينهم في الثلاجة ريثما يأتي من يطالب بهم من أفراد أسرهم أو ممن يهمهم الأمر.

طلبت مارتينا من ستار المساعدة منذ أن تعطلت الثلاجة الصغيرة الموجودة في الصيدلية قبل يومين، فلم يعد لديها ما تحفظ فيه العصير الذي تجلبه معها ليبقى باردا، فضلا عن لفائف الأكل الذي تتناوله في استراحة منتصف النهار. لم يسألها ستار هل أخبرت إدارة المستشفى بالخلل الذي حصل أم لا، بل اقترح عليها فورا حفظ ذلك في واحدة من الثلاجات التي تقع في مسئوليته، فغالبا ما يكون بعضها غير مشغول، ريثما يتم إصلاح العطل في ثلاجة الصيدلية أو استبدالها بأخرى جديدة. كان عليها أن تعترف أنها أصبحت تشرب العصير باردا مرة بعد مرة، فكلما سمعت صوت دواليب النقالة شعرت بالعطش، وكلما سمعت صوته سارعت إلى ما يروي ظمأها تشرب منه. هناك شيء آخر، أصبحت تشعر أنها لم تعد معزولة في هذا المستشفى، وكل ملابسها بيضاء، القميص والبنطلون والحذاء، مفروض عليها عدم التحرك إلا بالكاد، فمدير المستشفى كان قد أبدى استعداده لفرض عصى الطاعة على العاملين جميعا بشأن عدم إضاعة أي وقت هو ملك المستشفى إلا في حدود ضيقة جدا، لذلك لم تتعرف إلا على القلة منهم، وهؤلاء لم تتعرف من خلالهم ولو بصوت غير مسموع على تفصيلات من أحداث دارت في المستشفى أبطالها أطباء أو ممرضات أو مرضى كانوا راقدين على أسرتهم في الردهات أو صالات العمليات، سواء من المواطنين الذين يحق لهم الإدلاء برأيهم وصوتهم في صناديق الاقتراع أو من الغرباء، من المهاجرين وطالبي اللجوء من النساء والرجال ممن يتكلم بلغة ألمانية سليمة أو من ينطق بها ركيكة أو ممن لا يتكلم بأكثر من لغته الأم.

بعد عشر دقائق التحقت به في غرفة الثلاجة، فتحت الباب ودخلت، وجدت ستار مرتديا رداءه الأخضر الخاص بالعمل، جالسا إلى المنضدة المستطيلة التي تتوسط المكان يتناول فطوره، استطاعت أن تشم رائحة القهوة مع البخار المتصاعد من الكوب القريب من كفه. كانت هناك ثلاجة في الجهة المقابلة للباب تكاد تصل إلى أعلى قامة المرء فيها ستة عشر بابا، ولكي لا تشغله، أبدت استعدادها لوضع الزجاجتين بنفسها، مدت يدها إلى واحدة من تلك الأبواب تريد فتحها فقال محذرا: لا، هذه مشغولة، أرادت أن تفتح أخرى مجاورة لها فقال: هذه أيضا مشغولة. وأشار بإصبعه: تلك فارغة.

قالت: رقم 7.
أخذ رشفة من الكوب وقال:لا، رقم 5.

طالعها منظر القدمين المتجاورتين، وثمة ورقة صغيرة معلقة بإبهام اليسرى، فيها معلومات عن الذي فارق الحياة، عادت على الفور وأغلقت الباب، قال لها: إذن رقم 7 افتحي هذا الرقم.

وضعت الزجاجتين في تجويفها الفارغ البارد العميق، وعاد كل شيء إلى وضعه السابق. في هذين اليومين كان ستار قد عاش معها قصة هروب عائلتها من رومانيا في أواخر السبعينات، سردت له كل تفاصيل الهرب من بطش رئيس حكومتها شاوشسكو وزوجته ومساعديه في الحزب الذين كانوا على رأس السلطة، كان عمرها آنذاك ثلاث سنوات. عرف منها أنها وقعت في حب شاب قدم من الأكوادور في أمريكا الجنوبية يدرس الرياضيات في جامعة كولن، في الوقت الذي كانت تدرس فيه علوم الصيدلة، حين كانت تذهب إلى سكنه الصغير يترك لها الحمام بعد أن يغتسل دون أن يفكر بتنظيفه، كذلك أواني الطبخ والأدوات الأخرى لتنظفها، من دون قصد أو بقصد كان يريد منها أن تتحرك ولكن خلفه، حاولت أن تستمر معه رغم أن العلاقة بينهما امتدت لشهور عدة، من جانبها بذلت ما في وسعها لتحسين سلوكه، لكنه رفض المساواة كلمته في الموضوع فلم يؤد ذلك إلى نتيجة، وانفصلا عن بعضهما بعد أن أمضيا فصلا دراسيا كاملا معا، حصل بعد ذلك أن التقت به مرة أو اثنتين لكنها حسمت أمر الابتعاد عنه مع أول فرصة عمل توفرت لها في هذه المستشفى.

عرفت من ستار أنه خلال السنوات التي مرت به درس إلى المستوى الذي أهّله للدخول في مركز للتدريب المهني تلقى فيه تعليما مكثفا للقيام بمثل هذا العمل الذي يمارسه الآن. عرف أنها تستمتع بهوايتها كما يحلو لها، في مقدورها أن تستقل سيارتها وتذهب إلى أي شخص، مهما كلفها ذلك من وقت وجهد، من أجل دودة يحتفظ بها لها، أو شرنقة تدلت في نهاية خيط معلق بغصن، لتأتي بها وتضمها مع غيرهن في صندوقها الزجاجي على طاولة في زاوية بغرفتها. كثيرا ما تمتعها مراقبة التغير الذي يحصل في صندوقها يوميا، من دودة تزحف على غصن، إلى شرنقة، ثم فراشة بجناحين رائعين بمختلف الألوان والأشكال والأحجام، شئ رائع وحيوي.

ينحصر عملها في تجهيز طلبات الأدوية التي تقدم للمرضى الراقدين في المستشفى، ومراقبة سير عمليات دخول الأدوية وخروجها من الصيدلية على جهاز الكمبيوتر، وتسجيل الملاحظات والأرقام وهذا يدخل في اختصاصها أيضا. وإذا ما وجدت لنفسها وقتا، تتصل تلفونيا بمن تعرف لطلب مساعدته، من الجيران وغيرهم، قسم منهم يعمل بدراسة النبات أو زرعه، آخرون يعملون في المستودعات أو الأرشيف، طلاب أو طالبات باختصاصات مختلفة، قسم منهم يزرعون أشجارا في حدائق بيوتهم وآخرون يسكنون في أماكن قريبة من الغابات تطلب منهم الطلب ذاته: إذا وجدوا دودة تزحف أو شرنقة تتدلى أن يحتفظوا لها بالغصن أيضا، ومن جانبهم لم يسألها أحدهم عن نوع الأشجار التي تريد منهم أن يفتشوا بين أغصانها، فهم يعرفون أنها تريد منهم الإسهام في موضوع هوايتها. أحيانا كان هناك من يخبرها أنه وجد لها ما تطلبه وأنه يحتفظ بدودة أو شرنقة وربما أكثر من ذلك، كانت تفرح وتشكره وتعده أنها ستمر عليه بعد الانتهاء من العمل، وتنفذ ذلك بالفعل.أحيانا تضطر لأن تعيد على بعضهم ما سبق أن قالته عن قلقها من ندرة الفراشات هذا الربيع، فمنذ بدايته إلى الآن وقد قارب على الانتهاء، لم تر منها الا أعدادا لا تطمئن إليها، إنها تخاف عليها من الحشرات مصاصة الدماء والقراد الذي يلتصق والمبيدات التي لها القوة على الفتك بها، كل ذلك ولم تطلب من ستار إلى هذا الوقت أن يساعدها في هذا الموضوع، ربما لو طلبت منه ذلك سيجد الوقت للبحث معها في أشجار الحدائق والغابات، أثناء الإجازات الأسبوعية أو أيام الأعياد، عن ما تريد أن تودعه في صندوقها الزجاجي. شرانق، بنية اللون ثقيلة تتلاقى على ظهورها خطوط طولا نية تبين انضمام الجناحين والأطراف والمجسات والخرطوم الصغير بينهما والأعضاء التناسلية على بطنها المدبب وبمرور الوقت تخرج منها فراشة بديعة الألوان بالغة الدقة.

كانت تقوم أحيانا في أيام الآحاد بالخروج من المدينة قاصدة الغابات في الضواحي لتتهيأ لها فرصة العثور على أنواع أكثر، كانت تضع بعضها ذاهلة على راحتها وترى بعينيها طيران فراشة الغسق أو فراشة المزاح، فراشة التين، فراشة الضباب أو فراشة القدر. كثيرا ما يحدث أنها بعد الانتهاء من عملها، تخرج مسرعة من المستشفى محاولة الاستفادة قدر المستطاع مما تبقى من ضوء النهار، تقود سيارتها إلى مكان ذلك الذي اتصل بها لأخذ ما كان قد وعد به، كانت تحاول أن تجعل من تلك الساعات شيئا حقيقيا يعطيها شعورا بالراحة التامة مهما كانت النتيجة، كان ذلك يأخذ منها أحيانا أكثر من ساعة للوصول إلى المكان، وساعة أخرى للوصول إلى البيت، سترفع بعد ذلك القماش المشبك عن أعلى صندوقها الزجاجي، لتودع فيه ما قد جاءت من به، كل ذلك يحتاج إلى وقت طويل، تنظر فيه إلى الدود وهو ساكن أو زاحف على الغصن أو يقتات على الأوراق، تراه يتحرك ويقضم بنعومة وظهره أملس وأرجله كثيرة تتحرك جميعها في آن واحد، كان لونه يتطابق مع خضرة الأوراق بشكل كامل، تنظر إلى الشرانق المتدلية بخيوط تكاد لا تراها من أعلى الغصن، أحيانا إذا وجدت فراشة قد أخرجت رأسها من الفتحة الحريرية يأخذها الحماس فتبدأ بالضغط الخفيف على محيط الشرنقة حتى تخرج الفراشة رأسها أكثر، تفعل ذلك بشكل مدرب لو فعله غيرها لقضى على الشرنقة، أحيانا اذا وجدت فراشة كاملة تحررت من شرنقتها خلال النهار وهي بعيدة عنها تأخذها برقة من أسفل ظهرها لئلا تؤذيها، فتضرب تلك الفراشة بجناحيها مرتين أو ثُلاث ثم توقفهما فوقها متلاصقين، وتقوم إلى نافذة غرفتها تفتحها فتأخذ الفراشة تتفحص محيطها بعد أن أصبحت في الخارج بقرونها الاستشعارية كأنها لا تصدق حظها الذي حفظها من السوء وتطير مرفرفة بجناحيها، كان عبير الحديقة التي دخلت فيها والأزهار من كل نوع وابتسامة الربيع في مدينة كولن جعل الفراشة تتوجه وحدها إلى الدنيا دون وجل.

وقف ستار يتحدث معها عند باب الصيدلية، جلب لها واحدة من الزجاجتين اللتين تركتهما معه وقد برد العصير فيها، ومن جانبه قدّر أنها بحاجة إليه بعد أن انتصف النهار، أثناء ذلك دعته مارتينا إلى منزلها ليرى بعينيه الدود والشرانق وكل ما يحتويه صندوقها الزجاجي، ولم تجد لديه مانعا، فطلبت منه أن يحدد لها الوقت فقال لها: في أقرب فرصة، اليوم إذا شئت. اتفقا على الذهاب معا بعد الانتهاء من الدوام. عندما غادر ستار نظرت إلى ملامح زميلتها في العمل، كانت قد اختلجت من دون أن تتحكم فيها وقالت غاضبة: إذا كان يسرك الحديث مع مثل هذا النوع من الناس تستطيعين ذلك بعيدا عن الصيدلية، هنا الأمر مختلف. ثم انفجرت في فورة شتائم على مثل هؤلاء الذين تراهم كل يوم يملئون أماكن العمل والطرقات. قالت لزميلتها: اهدئي، سيكون كل شئ على ما يرام، لن يأتي هنا ثانية لو شئت. لقد أحست أمام زميلتها بالحرج الشديد عندما وضعتها في هذا الموقف.

غيرت مارتينا ملابسها عندما انتهى يوم العمل، لبست بلوزة زرقاء فاتحة فوق بنطلون جينز، ولمت شعرها خلف رأسها وشدته على شكل ذيل حصان طويل ورشيق يهتز مع مشيتها، وفي موقف السيارات انتظرته قليلا قبل أن ينطلقا معا. لم تستأذنه في المرور على أحدهم لتأخذ منه دودة أو شرنقة لأنه لم يتصل بها أحد من معارفها يطلب منها ذلك. رغم أن ستار أبدى عدم ممانعته لو شاءت ذلك لكنها قالت حازمة: لا، سنذهب إلى المنزل مباشرة. تبدو مارتينا سعيدة بهذه الرفقة ومتعجلة للوصول، وما أن خرجت من محيط المستشفى قالت: سترى كيف تفرد الفراشة جناحيها بينما جذعها يئن تحتها لأنه لم يغادر الشرنقة بعد، انتبه للون الجناحين وشكلهما وكيف تنهض بهما وجسمها لم يكتمل بعد. قال لها: أرجوك مارتينا، أغلب هؤلاء الذين يؤتى بهم إلى الثلاجة انتهت حياتهم في حوادث على الطرق السريعة، هذا ما يحدث غالبا، أو بحوادث أخرى يصعب معها إنقاذهم لأن من رافقهم إما وصل المستشفى ومن معه كان في رمقه الأخير، أو كان قد فارق الحياة بالفعل، فالعمليات الجراحية التي يقوم بها الجراحون لا تؤدي غالبا إلى الوفاة، لا كسور العظام ولا إصابات الحروق من الدرجة الثانية ولا عمليات العين والأنف والأذن والحنجرة تؤدي إلى الوفاة، بعض أولئك ماتوا على أرض ليست أرضهم.

قالت: مات أبوها على أرض ليست أرضه تاركا أمها وحيدة الآن في البيت، رحل والدها عن رومانيا مضطرا، وبالقياس لمن لم يخرج يعتبر محظوظا لأنه استطاع إنقاذ نفسه وعائلته من الهلاك، لكن بدأ إحساسه بافتقاد بوخارست لحظة أن داست قدماه الأرض الألمانية، سكنته بوخارست أينما ولى وجهه، قرب الراديو، عندما يشرب النبيذ، عندما يواجه الراين، عندما يرى القطارات تخرج من المحطة، كثيرا ما كان يضرب الأرض تحته ويقول: لا، هذه ليست أرض رومانيا.

مازال ستار يتكلم عن أولئك الذين يؤتى بهم إلى الثلاجة، المشكلة بالنسبة له تتحدد في أسفه على من هم في مقتبل العمر أو فيمن هم أقل من ذلك، عندما يريد أن يحضر مراسم دفنهم في المقبرة لا يستطيع، لكنه لا ينفذ ذلك، رغم أنه اتفق مع ذويهم، وقد أعطوه العنوان والوقت. تسبح مارتينا في أفكارها تحاول ما استطاعت إلى ذلك سبيلا أن لا تستمع إليه: كانت تسمع من أمها الكثير عن رومانيا أيضا، في ذلك الوقت كانت تهتم بهذا الموضوع كثيرا، وتطلب منها أن تتكلم لها عن ذلك أكثر، لكن عندما لم يعد هناك ما يعين أمها على تذكر شئ من ذلك توقفت، هكذا وصل حال أمها بعد أن تفرق العدد الأكبر من عائلتها في بلدان أوربا، ولم يعد لأمها غير ذكريات ضئيلة ومتفرقة وأوجاع غربة ترددها كأثر لماضي مفقود.

قال ستار: تلك التي فتحت عليها الباب في الثلاجة رقم 5، إمرأة مسكينة، بطاقتها تذكر أنها من ألبانيا وأنها هنا في ألمانيا منذ أكثر من خمس عشرة سنة، إن الذي يقلقه أيضا أن أحدا لم يأت لتسلمها لحد الآن، مع أن إدارة البلدية في المدينة تعهدت بأنها سوف ترسل سيارة لأخذها في ظرف يومين، لكنهم لم يوفوا بالعهد، يجب متابعة هذا الموضوع غدا.

بعد عشرين دقيقة أفسحت له طريقا في الدخول إلى المنزل، كانت أمها تجلس على كرسي في الصالة، وقد نأت بنفسها بعيدا، مغمضة العينين وقد سرحت ذراعيها على فخذيها، وحين اتضح لها صوت ابنتها قالت: هل عدت؟ والتفتت لتقبلها مارتينا على جبينها قبلة خاطفة وقالت لستار: هي كذلك، أحيانا تنام وهي جالسة، لقد أدركتها الشيخوخة مصحوبة بما يشبه فقدان الذاكرة، أحيانا عندما تعود إلى المنزل لا تتعرف عليها أمها، قد تخلط بينها وبين كاترينا أختها التي تزوجت في البرتغال أو بينها وبين نيكول أختها التي تزوجت في السويد، وعندما حدث أن جاء معها ذلك الشاب الذي من الاكوادور، ظنته أخي الذي في أمريكا.

قال: يعني هذا أن على كل شخص، قبل أن يقابلها، أن يعلق ورقة يدرج فيها اسمه وعمره وجنسيته، مثل تلك الورقة التي تعلق في إبهام المتوفى قبل نقله إلى الثلاجة. كأنها خذلت، شحب لونها وعرقت جبهتها رغم أن الجو فيه بعض البرودة، قالت يكفي هذا. لاشك أنه تساءل عن هذا التقلب الذي حصل في وضعها، لقد خرجت من المستشفى وكانت على غير ما هي عليه الآن وقال: مارتينا، أنت في وضع لا يسمح لي بالبقاء، ربما أزورك هنا ثانية على الأقل من أجل صندوقك الزجاجي. لم تكن مارتينا قد تقدمت خطوة في مكانها، على الكرسي المحاذي لها جلست، فسألها: لم تجيبي؟

كانت قد أغمضت عينيها وربما لم تستمع إلى جملته الأخيرة. ولأنه كان ينتظر منها جوابا لم يسمعه اقترب منها وقرب وجهه من وجهها ليستمع إن كان هناك ما تريد أن تقوله، لم تكن على علم بالحركة التي قام بها، وعندما رأت وجهه مواجها لوجهها أجفلت وصاحت: أخرج أرجوك، لا تدعني أرى وجهك ثانية. بالفعل خرج من الشقة من دون أن يناقشها في الموضوع وكانت بحالة مزرية.

في اليوم التالي رأت مارتينا بدل الثلاجة القديمة أخرى جديدة، فتحت بابها ورتبت فيها ما حملته معها من لفائف طعام وزجاجات عصائر، بعد ذلك بساعة سمعت صوت النقالة تخرج من المصعد ولكنها لم تسمع ستار يسلم عليها، ألم يعبر الممر مثل كل يوم؟ لكنها تشاغلت عن ذلك ولم تحاول معرفة إن كان قد مر على الصيدلية أم لا، لم تكن قد تطلعت الى الممر كما تفعل في الأيام التي سبقت. ظنت زميلتها في العمل أن مارتينا أخذت برأيها الذي أعلنته لها بالأمس واضعة حدا لعلاقة غير متكافئة بينهما.

*   *   *

كانت ليلة منيرة بضوء القمر وبعض النجوم تتلألأ أعلى صفي المباني على الجانبين عندما خرج "البريشت" وزوجته (دانييلا) من المبنى الذي يأوي والد زوجته الذي يبلغ الخامسة والسبعين في دار إيواء كبار السن التي يقيم بها، هي ليست زيارة وإنما دعوة على عشاء خاص عمله بنفسه لهما بمناسبة أن الحياة مازال فيها متسع من الوقت، كانا قد وصلا عند العصر، ليقفا معه في المطبخ رغم ممانعته، وأثناء العشاء وقبله استهلك البريشت نصف زجاجة من النبيذ الأحمر، وعندما كان يغادران المبنى بعد أن ودعاه، رأيا رجلا يخرج من باب البناية المقابلة، وفجأة ظهر من المجهول ثلاثة أشخاص بسترات جلدية سرعان اتجهوا اليه وأحاطوا به، وما هي الا لحظة انطرح بعدها ذلك الرجل على الأرض وانهالت عليه ثلاثة فردات من الأحذية، ترفع الى الأعلى لتنزل على الرأس أو الظهر أو الساقين، كانت الأيدي تعمل بإيقاع موزون كما لو كانوا متفقين بشأنه، لكنه كما يبدو إيقاعا ممدودا بنهاية تبدو بعيدة بعدها جثم اثنان منهم على صدره بعد أن قلبوه على ظهره بينما بدرت من الثالث محاولة لتجريد هذا الملقى على الأرض من بنطاله، وهو يلوح بسكين كان قد سحبها من جيب ما، كل هذا الذي حدث ولم يصدر من الرجل الملقى أرضا صرخة استغاثة، ولا من الرجال الثلاثة صوتا، أما البريشت ودانييلا فقد تصلبا في مكانهما وكأن الشلل أصابهما أمام ذلك الذي يبدو مشهدا من أحد أفلام الجريمة، لكن أن يحصل أمامهما في الحقيقة فهذا لم يرياه من قبل! علت صرخة فزعة أطلقها الرجل الساقط على الأرض، ربما بعد أن رأى نصل السكين أمام عينيه لامعا مدركا أن الموضوع معه لا يقتصر على الضرب، وإنما الى ما هو أكبر من ذلك، في هذه اللحظة اندفع الزوجان يصرخان بالرجل صاحب السكين ويطلبان النجدة بصوت يمكن أن يجعل النوافذ التي تنتشر حول المكان تفتح لترى الذي يحصل، على إثرها آثر المهاجمون التوقف ولاذوا بالفرار، ساعد الزوجان الرجل فرفع رأسه إلى الأعلى وبينما راحت دانييلا تمسح الدم عن أنفه وجبهته في الوشاح الذي فكته عن رقبتها، عرفا أنه أجنبي من سحنته، ولم يمنعها ذلك من أن يطلبا سيارة إسعاف بواسطة التلفون الذي كان معهما.

ـ هل أنت بخير؟
قال: لقد أراد ذلك الوغد أن يقطع له خصيتيه.
ـ لا شك أنك تعرفهم واحدا واحدا وإلا لماذا كنت أنت بالذات هدفا لفعلتهم تلك؟
 قال: أحدهم كان يطاردني من أول ما خرجت من عملي بصحبة صديقة لي.
ـ أتمنى أن تقول ذلك للشرطة؟
ـ قد يعقّد ذلك المسألة، ثم أن رسالتهم لي قد فهمتها.
بدا عليهما عدم الفهم، فعن أية رسالة يتحدث، لا شك أن الموضوع برمته قد أثر على ردود أفعاله وجعله غير قادر على التركيز، وبينما كان يتناقشان عن إعطائه الحق في ذلك وهما يتذكران شخصا عزيز عليهما مر بحالة قريبة من هذه قد ظل لفترة طويلة لا يركز وكان عندما يسألانه عن شيء يجيب عن شيء آخر، وبينما هما كذلك وصلت سيارة الإسعاف وأدخلوه اليها محمولا على سرير، وقبل أن تنطلق السيارة به قال له البريشت: هل تريد منا شيئا؟
قال: أرجوكما اتصلا بهذا الرقم. وأعطاهما إياه.

وقد كنت أنا على الطرف الآخر عندما أخبرني الزوجان بالحادث والى أي مستشفى علي أن أتجه، بالفعل لم أتأخر لأنها عندما شرحا لي وضعه شعرت أني ربما لو تأخرت سأجده قد فارق الحياة، لكن عندما وصلت رأيت أن الأمر كان مبالغا فيه، كان ستار في غرفة شاركه فيها اثنان غيره، كان ضرب الأحذية الذي تعرض له باد على احدى عينيه وعلى فكه ورقبته، ولا أدري في أي الاماكن الأخرى من جسمه لأنه كان مغطى، ما أن وضعت كفي على ساعده وقبل أن أقول شيئا دخل شاب عرفت فورا أنه الطبيب، وقف بجانب السرير أمامي ونظر في الأوراق التي قدمتها له الممرضة التي دخلت الغرفة وراءه مباشرة، أزاحت الحامل الذي يتدلى منه كيس المغذي ليسع المكان للطبيب وعدلت من وضع أحد الأنابيب، قلت لأسمعهما: لقد صدرت منه شهقات غريبة. التفت الطبيب الشاب في هدوء التفاته سريعة عندها رأيت القطعة المعدنية المثبتة على صدره وقرأت عليها اسمه قلت له: دكتور فايسمان هل ذلك خطر عليه؟ قال: سأرى ذلك. وتجلى للممرضة وهي تسمع الرد أن الضيوف الموجودين لا نفع فيهم أو لا ضرورة لوجودهم. طلبت مني الممرضة أن أخرج من الغرفة ريثما يتم الانتهاء من معاينة الطبيب. بالفعل انتظرت إلى أن خرجا من الغرفة فتهيأت لي فرصة الحديث مع الممرضة، سألتها: هل سيطول بقاؤه في المستشفى؟ أجابت: أنه من السابق لأوانه أن يسأل المرء مثل هذا السؤال، ثم أن الأطباء هم من يقرروا مثل هذه الأمور. قلت: وكم سيبقى يعاني من الألم؟ قالت أعطيته مسكنا، ثم أن هنالك زرا بجانبه بإمكانه الضغط عليه متى احتاج للمساعدة، نظرت إلى كسرة الكواء في بنطلون الممرضة قلت: هل يكفي هذا؟ فلم تجب وتركتني لتلحق بالطبيب الذي اختفى عن ناظريها.

رجعت الى ستار فرأيت أنه قد فتح عينيه بطريقة من يقول: أنا من يفعل به هذا! قلت مداعبا أشيع جوا من المرح: لطالما سمعت عن الأبطال أنهم اغتيلوا بالسيف، بالخنجر، بالسم، بالرصاص، بأي شيء آخر، لكن بالأحذية، فهذا أمر لم يحصل من قبل، وقد تسجل لمرتكبيها براءة اختراع.

*   *   *

من خارج المستشفى اتصلت بفروزه، كانت في الشقة تستمع للأخبار فربما كان هناك خبر جديد عن أفغانستان، وأخبرتها بما جرى لستار وأين يرقد الآن، بان على صوتها الارتباك لسماع النبأ وقالت سآتي الآن، وإذا كنت أتصل بها من المستشفى فعلي أن لا أغادر قبل مجيئها، قلت: أكلمك من خارج المستشفى، دعك من الذهاب إلى المستشفى ودعينا نتفق على الذهاب إليه يوم غد. فروزه، بما أن يوم غد يوم عطلة ما رأيك أن نكمل حديثنا في المقهى المطل على ميدان "تسولبيشر بلاتز"،؟ قالت: لكنك مدعو على الغداء عندي يوم غد. قلت: غدا يوم آخر، قالت نصف ساعة وسأكون هناك، إلى اللقاء.

في ركن من أركان ميدان "تسولبيشر بلاتز" التقيت مجددا بالمارد الأفريقي الذي يشرب لترين كاملين من الماء وبعد ذلك يخرج لترا دافعا إياه من فتحة أنفه اليسرى، ولترا من فتحة أنفه اليمنى، يخرجهما على لحن حياته البائسة، كأنه وهو يدفع بعنقه إلى الأعلى، يحط الانشوطة حول عنقه الطويل وهو يبتسم، مثل من يموت وهو يسامح كل هؤلاء الذين توقفوا متطلعين إلى عرضه المسرحي ولا يدفعوا له سنتا واحدا مقابل ذلك، يسامحهم كلهم وأنا واحد منهم، دخلت المقهى قبل فروزه بخمس دقائق، ومع أني لا أتردد على هذا المقهى الا نادرا الا أنه يعجبني لأنه يقدم الشيشة، اخترت مائدة قريبة من المدخل، وعندما وصلت قالت: دائما الطاولة نفسها. قلت: ماذا تتوقعين بعد الذي حصل لستار؟ قالت: سوف يختفي من على وجه الأرض لأسابيع قليلة، يعيد فيها ترتيب حساباته. وسألتني: هل يمكن أن تتصور وقع الخبر على مارتينا وهي تسمع الخبر؟

ـ مارتينا هي السبب.
ـ لم أفهم.
ـ هو قال لي ذلك، ربما كانت محط اهتمام واحد منهم.
ـ على كل حال يحتاج الى تنظيم أموره بعد أن يتعافى.
ـ فعلا بعد ذلك النوع من الضرب الذي تلقاه يحتاج الى تنظيم أموره.

وذكرت لها أني أخطأت في بعض الحسابات المتعلقة بمنح مرتكبي الجريمة براءة اختراع ورحت أحدثها عن شجرة الدر قبل مائتي سنة، ظلت تضرب زوجها المعز ايبك بالقبقاب وهو يستغيث ويتضرع اليها الى أن مات.

قالت: مهلا علي، الموضوع الآن يستحق أن توصي لنا على واحد شيشة. وعندما جاء النادل: قالت له: هل الخرطوم معقم والمبسم هل هو طبي؟ وأوصته أن يأتي لنا بفنجاني قهوة تركية.

رشفنا من قهوتنا رشفتين، وقلت بعد أن شددت الأنفاس وتصاعد الدخان، الفرق أن القبقاب مصنوع من الخشب.

ضحكت فروزة في تلك الليلة كثيرا، كما لم تضحك من قبل، قالت لي: لا شك أن وراء ذلك الضحك سر ما. كان الشارع عندما خرجنا من المقهى فارغا على غير العادة، ساكنا كما لو أنه السكون الذي يسبق العاصفة.

*   *   *

قبل أن تدخل الممرضة كان ستار قد دفع نفسه للخلف ليجلس على السرير، وعندما دخلت قامت بواجباتها كاملة، قاست درجة حرارته وسجلتها وقاست ضغطه وناولته بعض الحبوب ليبلعها، وضربته إبرة، فعلت كل ذلك وهو لا يبعد نظراته عنها، كانت امرأة في الأربعين، وقبل أن تخرج قال لها: أنا أعرف يا سيدة هالكه ريشتر أن غرفتك تقع في المبنى الملحق بالمستشفى، حيث تقع غرف غيرك من الممرضات اللواتي ترى إدارة المستشفى ضرورة عدم مغادرتهن مكان العمل إلا في العطل الأسبوعية وبالطبع أثناء المناسبات الأخرى. قبل نصف ساعة استيقظت من نومك، سار الوقت معك بشكل حسن، انتهيت أخيرا من ارتداء الملابس، وبعد أن دققت في بياض البنطلون ووجدته مقبولا وفي الرداء فاستحسنت هيأته، كان عندك نصف ساعة أخرى وهذا ما جعلك مطمئنة أكثر. كانت ستارة نافذتك منسدلة شفافة وناعمة، ومن خلف الزجاج السميك تتخايل بنايات كولن العالية وقسم من برجها العالي، كل شئ يشجع على أن تحضرين لنفسك كوبا من القهوة، ستتركين أمر شعرك تمشطينه بعد ذلك، ستلبس جوربيك اللذين وضعتهما على مسند الكرسي، ستعتنين بحذائك الملقى على جنبه بعد أن دفعته بعيدا في الليل عن سريرك. جلست على طرف السرير وكوب القهوة على المنضدة، وأخذت إحدى المجلات في هذه اللحظة بالذات لو فتحت بابك لألقي عليك تحية الصباح، ستقولين لي من سمح لك بالدخول؟ ربما مثلك لا يسمح بدخول أحد وقتما شاء، بالنسبة لك الغرفة هي المكان الوحيد في المستشفى الذي يتوفر فيه طابع من يسكنها الشخصي،مع ذلك كنت أريد أن أقول: غرفتك ليست مريحة يا سيدة هالكه ريشتر.

ـ هي غرفتي وليست غرفتك.
ـ تلك الإضاءة، كيف تستطيعين القراءة على ضوء المصباح المنضدي، وقد طلع النهار، ألا ترين مثلي أن الضوء الذي يدخل من النافذة أكثر جمالا وفائدة؟
ـ أفضل أن تكون الأشياء في غرفتي كما أريد.

هذا مؤسف سيدة هالكه ريشتر، أين مفرش الأرض بلونه الأزرق الفاتح الذي تفضلينه، وورق الحائط ذاك، لماذا لا تغيرينه بعد أن تهالك من القدم، أليس من المناسب للسرير أن يكون في الجهة الثانية بدل موقعه الحالي؟ وإذا دفعت المنضدة وهذه الكراسي إلى مكان قريب من النافذة ألا يعطي ذلك لمن يدخل الغرفة الإحساس أن المكان صار أكثر اتساعا؟

ـ في الوقت الحالي لا أريد.
ـ امرأة مثلك لها منزلها الخاص في مدينة (ديورن) تستطيع أن تصله بسيارتها الخاصة من نوع بيجو بأقل من ساعة، منزل لا تنقصه وسائل الراحة، وامرأة تعرف ماذا يريد منزلها لأن يكون أجمل منزل، كيف تقنع بأن لا تطل غرفتها التي في المستشفى على نافورة مثل التي عندها في الحديقة؟ كيف لا تكون الستارة التي هنا نازلة من فوق على النافذة كما هو موجود في بيتها؟

كان واضحا أنه لم يعد عندها القدر الكافي من قوة التحمل، فخرجت من الردهة حاملة معها عدتها.

بعد ذلك حدثت هناك تطورات أخرى، عندما عرفت من زميلات لها يسكن مثلها في المبنى الملحق بمستشفى اليزابيث، شيئا عنه، سمعت من واحدة أنه سيعطي لنفسه الحق في أن يفتح دولابها الشخصي بحضورها ليقلب في ملابسها المعلقة، مبديا رأيه في ألوان الفساتين وموديلات الثياب وراحت تلك تجادله، تخالفه الرأي أو تؤيده، لكنها توصلت معه إلى حلول وسطى بهذا الشأن، وقد قالت لها زميلة أخرى أنه طلب منها فتح أحد أدراج دولابها ليقلب في حمالات صدرها ولباساتها وجواربها، ما كان منها ملفوفا بعضه ببعض لأنها تنزعها وترميها في الدرج كيفما اتفق، فأبدى لها انزعاجه من أن تترك مثل هذه الأمور الدقيقة جدا بهذا الإهمال، وقد شكرته لأنه بذل مجهودا لإعادة النظام إلى الدرج وأصبح كل شئ في مكانه الصحيح.

سمعت مثل هذه الأخبار وغيرها، تنقلها إحداهن بشيء من العرفان بالجميل له لأنه أدخل في حياتها هنا في المستشفى بعض الأمل، وقد تتعرض السيدة هالكه ريشتر لسؤال من إحداهن: ألم يفاتحك بفتح مثل ذلك الدرج؟ وكانت واحدة من الممرضات قالت لزميلتها همسا: ومن يقلب في أدراج امرأة عفى عليها الزمن! لقد سمعت ذلك الهمس ففضلت أن تبدو مشغولة بما كان بين يديها.

في الصباح التالي لم يأت ليقلّب في ذلك الدرج. خرجت في الموعد المحدد الى الردهة رقم 8، قاست له الضغط ودرجة الحرارة وفكت عنه بعض الرباطات ثم حقنته بإبرة وأعطته حبة واحدة ليبلعها. وتعمدت أن يطول وقوفها عنده، لكنه لم يأت الى ذكر تلك الأشياء الملفوفة بعضها ببعض.

أصبح مزاج السيدة هالكة ريشتر متغيرا طيلة اليوم، وقبل أن تأوي إلى فراشها في آخر الليل، قلبت في ما كان عندها، فتحت أبواب خزانتها والأدراج، كانت هناك أشياء كثيرة وبألوان متعددة ملفوفة ببعضها، لكن ليست هي من يحل اشتباكاتهن. وفي الصباح تجلس على طرف سريرها يائسة تقلب صفحات إحدى المجلات، والقهوة في كوبها على المنضدة بردت، وأذنها على الممر، متحفزة لالتقاط أية حركة، تقترب من باب غرفتها. وفي الردهة أبدت معه بعض الجفاء لكنها لم تتكلم وظلت لا تكاد تتحرك إلا في حدود ما هو مطلوب منها، وقد بدا لها أن ليس من اللائق ولا حتى من السليم أن يظهر عليها ما يثير شك أحد، أو أن الأفكار قد تذهب بها بعيدا، لم تنزل من عينيها دمعة واحدة ولم يهتز صدرها انفعالا.

بعد أربعة ليال خرج ستار من المستشفى وقد زالت عنه الكدمات وخفت آثار الجروح. ودّع من كان معه في الردهة، ودع الممرضات الحاضرات وأبلغهن أن يوصلن سلامه للغائبة منهن. كانت السيدة هالكة ريشتر حاضرة ولقد تعمد أن يطيل وقوفه معها أثناء الوداع، هي واثقة من ذلك ولكن شاء قدرها أن تبقى من بعد أن غادر ستار المستشفى الجلوس على سريرها صباحا وتترك القهوة تبرد في الكوب وأذنها على الممر. أما في المساء فتقلب ما في الأدراج على السرير ولا تفك اشتباك الأشياء الملفوفة ببعضها.

الفصل الرابع عشر
خرجت فروزه من الشقة، ولم يكن بعد قد وصلها خبر عن ابنها، اليوم هو الأحد، لا محلات تفتح يوم العطلة، كنت قد لبيت دعوتها لتناول الغداء، ذهبت اليها وهناك حضرت فروزه القهوة، وبمواجهة عبقها الحار كانت تفخر بأني سآكل هذا اليوم من طبخها شيئا لم أذق مثله من قبل وربما من بعد، كانت مرحة وراحت تغني أثناء ارتداء ملابسها، وقد قالت أنها مضطرة للخروج كي تلحق سوق الأحد الذي تباع فيه الخضروات قبل أن ينفض، ولكي لا أجلس وحيدا في غيابها أشارت عليّ بعمل بعض الأشياء في المطبخ من باب أن أشغل وقتي، وفي الوقت نفسه أساعدها. بالفعل خرجت هي وقمت أنا الى المطبخ، لكن قبل أن أمد يدي الى أي شيء ضرب جرس التلفون فرأيت من واجبي أن أرفع السماعة، وكان على الطرف الآخر صوت رجل بدا صوته هادئا جدا لكنه متأثر وهو يقول:

ـ هذا منزل السيدة فروزه؟
قلت: نعم، هذا هو تفضل.
ـ هل السيدة موجودة؟
ـ هي غير موجودة، هل تريد مني أن أوصل لها رسالة، أو تفضل أن تتصل بها بعد ساعة وستكون معك على الخط.
ـ أفضل المقترح الأول، أنا فريدريك هاينه من الجيش الالماني في كولن هل يمكن أن تبلغها بأسفنا الشديد للحادث الذي تعرض له ابنها أثناء قيامه بواجبه في أفغانستان، في حادث انفجار عبوة ناسفة كان قد زرعها أعداؤنا على الطريق.
ـ هل جرحه خطير؟
ـ ابلغ السيدة أسفنا لوفاته، وسيصلها خطاب من قبلنا فيه التفاصيل كلها مع موعد وصول جثمانه في طيارة الى هنا، وأي استفسار دوّن رقم التلفون هذا، لتتمكن السيدة من الاتصال بنا، أكرر أسفي، وداعا.

سجلت الرقم، أرجعت السماعة الى مكانها في هدوء، كنت قد ذهلت، كيف أقول لها، أي كلمات تمهيدية أختارها تقودني الى إبلاغها الخبر الذي سمعته، أنا أعلم أن الخبر سيكون عليها وقع الصاعقة، في أثناء ذلك جاءتني فكرة أن أقلب دفتر تلفوناتها ربما يقودني الى شيء، بالفعل أول ما لمحت اسم أولغا شترافسكي ورقم تلفونها اتصلت بها فورا، وكانت هي على الخط، أبلغتها بما سمعته بعد أن اعتذرت لها عن اتصالي لأني تصرفت من وحي ارتباكي من الخبر الذي وصلني وأنا هنا في شقتها والذي لم أحسب له حسابا، قالت: سنكون عندك في أقرب فرصة. قلت: أريدك هنا قبل أن ترجع فروزه من السوق، بالفعل بعد أقل من نصف ساعة سمعت صوت سيارة تقف أمام المبنى، كانوا أربعة صحبتهم أولغا وقد استقبلتهم على السلم، بعد ذلك هرشت أولغا شعرها الخفيف الاحمر، وراحت على الفور تتصل بالهاتف، وسمعتها تقول في السماعة: يا له من صبي مسكين، عشرون عاما أو يزيد قليلا، الحياة كلها كانت أمامه وقد نصحته أن يبقى بعيدا عن لعب الكبار هذا. ثم سمعتها تقول: أنها لا تتجاسر على أن تكون أول من يقول لها الخبر. أما المرأة التي جاءت برفقتها فقد قالت لزوجها الذي يأتي دائما برفقتها الى المحل: يا الهي، لن يتحمل قلبها الصدمة. أما الأخرى التي كانت تضع نظارة على عينيها فقد نصحت الآخرين بعدم التسرع في إيصال الخبر وليكن التروي مطلب الجميع. لكن المرأة الأخرى التي رافقتهم قالت: لكن من أجل فروزه نفسها لا يمكن تأجيل ذلك، أنها أم. قال الرجل: حقيقة لا أدري من أين أبدأ، ربما أنت تقدرين بعد أن تمهدي لها بطريقة ما. في هذه الأثناء عادت فروزه الى الشقة، حاملة كيسا من القماش مليئا بالمشتريات وكانت خطاها مجهدة من المشي ومن الحمل الثقيل، وقد بدت مندهشة من وجود هذا الجمع الذي وصل بدون موعد ولا علم، ثم أنه لم يسبق أن جاءها ضيوف بهذا العدد، ربما في الأعياد فقط، أحيانا كان أصدقاء ابنها يأتون ولكن برفقته، مع ذلك رحبت بهم، وفي الوقت الذي أراد فيه الرجل مساعدتها على تناول الكيس وحمله بدلها الى المطبخ شكرته، لأنها تريد أن تفرغ البسكويت والفواكه التي جلبتها معها في إناءين لتقدمه لهم فقالت أولغا: اجلسي معنا، لن يأكل منه أحد. وعندما أصرت أن تفرغ البسكويت جلبوها من المطبخ بالقوة. لم يكن الجمع قد توصل الى ترتيب معيّن، عندما جلست معهم شرعت تتطلع في الوجوه دون أن تتوقف عن ترحيبها الرقيق بهم.

قال الرجل: ماذا بوسعي أن أقول لك يا سيدة فروزه، نشكر اهتمامك بنا. ونهض من مقعده منفعلا. أخذ حاجب فروزه الأيسر يرتجف وهي تراقب الرجل يدور حول الطاولة، قالت لماذا لا تريدون البسكويت، طعمه لذيذ. كانت لا تزال تبتسم عندما نظرت لي، ثم تجهم وجهها قائلة بشكل قاطع: هل حدث شيء ما لابني؟

قال الرجل: اسمعي سيدة فروزه، الأمر ليس سهلا، لكنك قوية وتفهمين. أطرقت ساهمة، وبعد وقت نظرت لي: هم الذين اتصلوا بك؟

ـ وتركوا رقم تلفونهم.

الان اتضحت الأمور، ابنها رحل، أخذت تجهش بالبكاء، بهدوء كما لو أن دموع عينيها قد تحجرت، لم يعد مجال كي تقول أن ذلك ربما خطأ وعليها أن تتحقق من الخبر. كانت تحبه كثيرا مثل أي أم تحب ولدها العزيز، والجميع كانوا يتفهمون ذلك. ويتفهمون كيف أنها لم تعد تراهم لذلك تركوها تأخذ من الذكرى ما شاء لها أن تأخذ. قالت أولغا: اتركيه ينام قرير العين لأنه ليس مثل بقية الشباب يبعثر الأموال هنا وهناك وحين يصلوا الى الخمسين ولم يعودوا أقوياء كما كانوا وقد فقدوا الأموال التي معهم يضحك الآخرون عليهم. قالت فروزه لطالما حلم بالأماكن التي لم يرها والمدن الرائعة في هذا العالم نيويورك استامبول بيروت لطالما حلم بالنوافذ المفتوحة على الجبال والمدن التي لم يكتشفها أحد بعد. بعد ذلك تحركت نحوي فأخذتها بين ذراعي وأظن أني سمعت دقات قلبها المتسارعة وهي تدس رأسها في صدري.

ترك الابن الوحيد الذي قضى نحبه في أفغانستان أمه منهارة ومحطمة نفسيا، لا تدري ماذا تفعل، تلوم من أو تتهم من، هل السبب ابنها الذي أراد أن يختصر الطرق للعيش بشكل أفضل من الحياة التي لم تلب له سبل العيش كما يريد؟ أم السبب أمريكا التي أسقطت حكم طالبان؟ وعندما رأت أن ذلك لا يكفي لحمايتها بعد ذلك طلبت من الدول الأخرى ومن ضمنها المانيا معونتها هناك، أم السبب يقع على أولئك الذين اختاروا من بين جميع القوات الأجنبية في بلادهم ابنهاّ مهما تنوعت الأسباب يبقى واضحا أن العبوة الناسفة التي زرعت على جانب الطريق هناك نالت من ولدها ولن يعيده شيء الى الحياة، لا هؤلاء الذين حضروا لمواساتها، ولا التوقيع في الرسالة التي تصلها من قيادة الجيش.

كان الصمت خيارها، لم تنبس بحرف واحد، لقد غدت مقتنعة أن الكلمات لا جدوى منها، كذلك الإشارات أو الإيماءات، فان نظرة من شأنها توصيل أفكارها ومشاعرها بطريقة قد يستحيل إنجازها بطريقة أخرى، بالنسبة لي كنت أرى أنه ما من كلمة يمكن أن تقول ما يقوله الصمت. لكن لئن قدّر لها أن تواصله فأنه ما من أحد يستطيع أن يتحدث نيابة عنها، تلك هي احدى تجليات قوة الصمت، الان ها نحن هنا لوحدنا بعد أن غادر الجميع الشقة، فارتجفت شفتاها، مع ذلك لم تقل شيئا.

*   *   *

أغلقت السيدة العجوز الأبواب والنوافذ وجلست الى البيانو وراحت تتأمل في موضوع ذلك الشاب ابن فروزه الذي اختارته الحرب وقودا لها، فلم تستطع أن تستوعب الأمر، ما علاقته بكل هذا الذي يجري لكي يموت هناك، هل لنا عداء مع هذا الطرف أو ذاك من الأفغان، لماذا قتل ذلك الشاب إذن، أليست هي حرب اختارها الأمريكان فلماذا تريد بها أن تضحي هناك بآخر جندي ألماني! خالت أن بإمكانها أن تظل جالسة تتملى الموضوع طويلا باحثة فيمن كان السبب في ذلك، لكن ما علاقتها بذلك كله، ما علاقتها بالسياسة ولعب السياسيين، هؤلاء يقولون أننا على الطريق الصحيح ومن ضدنا هم على خطأ، والسياسيون من الجانب المقابل يقولون اننا على صواب وأعداؤنا على خطأ، الذي لها علاقة به هو الفراق الذي لا يمكن لفروزه أن تتحمله، لقد علمت بالموضوع وكان تأثرها شديدا، أرادت أن تذهب الى فروزه تشد على يدها، ليكن ذلك فيما بعد، الوقت يمر وذلك ليس في صالحها.

كانت مندفعة لعدم ترك فروزه وحيدة في محنتها، التقت معها مرة لقاء سريعا لكنه مؤثر، كانت تنظر الى ابنها في أفغانستان الذي حدثتها عنه كما لو كان ابنها الذي لم تنجبه، كانت تتذكره كل يوم وقبل أن تنام تصلي له كي لا يناله مكروها، لو كان ذلك الابن هنا وناله حادث ما لاختلف الموضوع، ولو كان قد ذهب الى غير تلك البلاد الواقفة على فوهة بركان لما كان تفاعلها مع الأمر بهذا الشكل، لن تترك فروزه وحيدة ولكن كيف؟ ألا يكون تجسيد مشاعرها بالألحان هو أفضل طريقة لذلك، ثم كيف ضاع منها أن الانفعال بالحدث أي حدث يمكن أن يخلق المعجزات الخالدة، والأعمال الموسيقية الخالدة التي تركها الأولون واللاحقون خير مثال على ذلك! أخذت تضرب على المفاتيح دون هدف،تضرب وتضرب، وبالتدريج زالت الغشاوة عنها وبانت اليابسة أمام ذلك المركب الذي لعبت به الأمواج العاتية فتمسكت بالأمل، فصار جزء من روحها يحل في الضربات التي تصدر عن البيانو وكأن كل ضربة تحققها هي ضربة ليست من أناملها وإنما من ضربات قلبها تسري في تدفق النغمات باعثة فيها الحياة.

ما كانت تحس بالوقت، حان وقت الظهيرة فتناولت بعض الطعام الخفيف ورجعت الى البيانو، بعد ذلك جر النهار الشتوي ما تبقى منه نحو الغروب على أنغامها، ظلت أناملها تتابع الضربات بشغف من دون أن تتوقف أو تهدأ، كانت تكتب النوتات وتعلّم عليها وتعدل متى ما كان لذلك ضرورة، ومع أن القمر صار معلقا في السماء لم تكن تشعر أنها أنجزت بعضا مما تريد أن تحققه. حان وقت الاستراحة فجلست تأخذ كوبا من القهوة والألحان تخرج من بين أصابعها ضاربة على الفراغ أمامها، هذا لا ينفع، الضربات يجب أن تكون على المفاتيح مباشرة، قامت على الفور لتجلس ثانية تتابع عملها دون أدنى كلل.

كانت كل جملة موسيقية تكتبها أو نجحت في أن تنجزها تحتاج الى جهد وبين الحين والآخر تطلق تنهده خارجة من الأعماق الى أن بدأت معالم القطعة الموسيقية تظهر بالتدريج، ومع دخول نور الفجر الباهت عبر النافذة الى الصالة تجلت القطعة الموسيقية وقد فضت عنها الأسرار، وعند ذلك تنحت جانبا وبدأت تصيخ السمع لها في هدوء تلك الساعة، لقد عبرت عن جوهر الموضوع. قالت في نفسها: لقد سكبت روحي كلها في هذا العمل، من سيجرؤ على القول أنه مجرد ظل لأحد من هؤلاء المعلقة صورهم على الحائط! عليها أن تدعو الآخرين الى شقتها، وليكن شومر من بينهم وأختها مع ابنتها كذلك وليحضر من يحضر، المهم أن تكون فروزة موجودة فمن دونها سوف لا تعزف بل لا تضرب على أي من مفاتيح البيانو.

*   *   *

ارتدت الام المفجوعة ملابس الحداد واستسلمت للدموع وانعزلت في بيتها لا تريد ممارسة عملها في مخزن الألبسة المستعملة وليس لها رغبة الذهاب الى أي مكان آخر، وأصبحت لا تتحرك من مكانها الا للحاجات الضرورية. قبل ظهر هذا اليوم اجتمع عندها مجموعة من معارفها، كان أغلبهم من المسنين من أصحاب الخبرة، عندما قدموا اليها وجدوها تنتحب فقال بعضهم: يا لها من امرأة مسكينة، الفاجعة كبيرة والا ما تركتها بهذا الشكل. وأثناء وجود هؤلاء لم يبخلوا عليها بالمواعظ. قال من رأى أن التحدث معها أمرا قد يعطي فعله في التخفيف من حالتها: كفي عن البكاء يا فروزه لأنه لا يعيد إليك فقيدك، الموت قدر لا مفر منه، فكلنا ننتظر هذا المصير والفرق بيننا وبين ابنك أنه قد سبقنا اليه، وعليك أن تفتحي نافذة جديدة على الحياة بعد الذي حصل وتأخذي حقك منها قبل فوات الأوان.

استمرت فروزه تذرف الدموع فقال لها بعضهم: اسكتي أرجوك من أجل الفقيد لئلا تقلقي راحته الأبدية.

خرج هؤلاء دون أن تلوح لهم أية بادرة أمل في التخفيف عنها، بعد الظهر جاء غيرهم، أعطوها من النصائح ما قد يخفف عنها، كان الكثير منهم يحاول جاهدا أن يخفي شفقته عليها، لكن فروزه مضت في حزنها فهي في حالة تجعلها لا تستمع لمواساتهم. وعندما خرجوا بعد هذا المطاف قدم اليها بعض العاملين في الصليب الاحمر من الذين يعرفونها جيدا، جلسوا عندها ربع ساعة تقريبا، حاولوا من جانبهم أن يخففوا شيئا عن حزنها بالنصائح وضرب الأمثلة وترديد عبارات المواساة، وبعد أن غادروا بزمن قليل جاءت الى بيتها السيدة العجوز، وأول ما دخلت غرفتها ورأت فروزه مضطجعة على السرير تفتت قلبها واختلجت مشاعرها، كانت مرهقة جدا ومنهكة القوى ومصابة بالإعياء من طول عنائها.

ـ فروزه المليئة بمشاعر المحبة والتسامح أصبحت هكذا؟ تقدمت منها بقلب موجع وعينين كليلتين، وما أن أصبحت قريبة منها قبلتها على خديها وبكل صدق أخذت تذرف الدموع ساخنة، قالت لها: هل سمعت بأم لم تر ابنها من قبل، تلك هي أنا، حينئذ، عندما امتزجت دموعهما معا رفعت فروزه رأسها قليلا وأخذت تمسح الدموع النازلة من عيني المرأة هذه وبنظرة منها رجتها الكف عن النحيب فكفّت، ومع الوقت بدأ حمل فروزه الثقيل يخف تدريجيا، قامت من فراشها وقد شع بريق الأمل في عينيها ومضت الى الحمام لتصلح من شأنها، ثم توجهت الى المطبخ لتعد القهوة وهناك بحثت عن الأكواب والملاعق وأشياء أخرى، ثم عادت لتسمع من السيدة العجوز دعوتها لها للحضور الى شقتها، ما كان بوسعها أن تنقل لها أحاسيسها لأنها مهما كانت لن تكون بمستوى ما سجلته من ألحان، قالت لها: سوف ألغي الدعوة اذا كنت غير موافقة على المجيء. أشارت لها بعينيها أنها موافقة، لم تسألها عن السبب ولماذا يكون وجودها ضروريا الى هذا الحد، وقبل أن تخرج قالت لي: أنت أيضا، لا تنس أنها الدعوة الثانية لك، وعلى فكرة تستطيع أن تدعو أي أحد للمجيء معك.

عندما خرجت قلت لفروزه: كانت تقصد ستار عندما قالت "أي أحد". لكن فروزة نظرت لي نظرة بان الأسف فيها على عدم زيارة ستار في المستشفى. قلت لها: ستار خرج من المستشفى، وأنه يجمع حقائبه لمغادرة البلد فقد شجعه قريب له في بريطانيا أن يفعل مثله فيدخل الى العراق مع دخول الامريكان لها، وقد وعده القريب هذا أن يجد له مكانا معه في مرافق السلطة التي سيشكلونها هناك. وقد سأله ستار غير مصدق: لكني لا أعمل في السياسة. فأجابه: الأمريكان سيعلموننا إياها، المهم كبداية أن تحفظ أناشيد في حب الوطن، وتردد مقولات خذها مني مكتوبة على الورق. وقد قال ستار لي وهو تحت تأثير هذه الأحلام التي ستصبح واقعا في المستقبل أنه بعد عام من هذا اليوم، ربما يحضر لك مندوبا يحمل لك سجادة من الحرير هدية غالية الثمن من عندي، وبعد أن تفحصها تدرك أني لم أكن أمزح، وسأبعث بمثلها للسيدة هالكه ريشتر الممرضة في المستشفى، وبمثلها لكل واحد من أولئك الذين تجشموا عناء خلعهم لأحذيتهم ليضربونه بها فقد أسهموا بشكل أو آخر برغبته في الرجوع الى العراق مع دخول الأمريكان.

الفصل الأخير
في شقة السيدة العجوز حضر جميع المدعوين وكنا آخرهم أنا وفروزه. عندما دخلنا الشقة عند الخامسة في الموعد المحدد. لم تكن حفلة مسائية بقدر ما كانت دعوة الغرض منها الاستماع الى شيء خاص ما كان يعلمه أحد، كان عدد النسوة يغلب على عدد الرجال، وقد سمعت اسم شومر عندما كانت السيدة العجوز تقدمنا لبعض. تعرفت الى أختها وابنة أختها، ربما كانت هي تنتظر أن نستقر في مجلسنا لتقف مستندة بمرفقها الى البيانو قائلة: سأحكي لكم عن طفل اسمه باسكال، ولد ضعيفا في قرية بالقرب من برلين الشرقية، لم تكن أمه تستطيع أن تسد رمقه في كثير من الاحيان لأنها كانت تعيش حياتها يوما بيوم. هذا الطفل وجد نفسه وهو في السادسة أمام محنة أن يستجيب لنداء قلبه أو يستجيب لنداء أمه التي طلبت منه أن يذهب الى الغابات القريبة ليجمع منها ما يمكن أن يساعدهم على العيش كما يفعل الكثير من أقرانه، كان عليه لكي يصل الى هناك أن يمر بحقول وأراضي مسوّرة، ومن وراء أحد الأسوار رأى حصانا خارجا من اسطبله، فأمضى النهار يرقبه وقد أعجب به جدا، وعندما عاد الى البيت قال لأمه أنه لم يستطع أن يجمع شيئا لأنه انشغل بأمر الحصان، فحذرته من أن يعيد فعلته ثانية، فالتمس منها العفو، لكنه في أعماقه كان متأكدا أن ما قاله لها ليس صحيحا. ليلتها عندما خلد الى فراشه حلم أنه حصان، وحينما استيقظ ما كان يعرف بأنه هو الذي حلم بأنه حصان أم أن الحصان حلم بأنه باسكال.

في اليوم الثاني لم يصل الى الغابة لأن مشهد حصانه جعله لا يبارح المكان، وكان على استعداد أن يفعل أي شيء من أجل أن يكون له ذلك الحصان يركب على ظهره، يذهب الى الغابة التي تريد أمه الذهاب اليها، لكن من أين له الحصول على ذلك! صنع له حصانا من الخشب، كان يرفع نفسه فوقه الى الأعلى ويقذف بها فوق ظهره ويلكزه على جانبيه لكنه لم يستجب له، لم يكن حتى مثل خروف أو عنزة. أحيانا يزحف على ركبتيه دون أن يلحظه أحد ليكون في مقدوره الاقتراب أكثر، مادام الحصان غير مصرح له بلمسة ومن هناك ينظر اليه. مع الأيام اقتنع أنه لا يمكن أن يكون له حصان، أذن ما الضير على من مثله أن يلمسه بيده. في ليلة من الليالي لم يكن ثمة أحد في المنزل الملاصق للإسطبل، لربما كان ساكنوه يقضون ليلهم خارج المنزل فما كان من الصغير هذا الا أن تسلل على ضوء القمر ترافقه بعض أصوات طيور الليل وأصوات بعض الحشرات الى باب الإسطبل فهذه فرصته للوصول الى الحصان، وقبل أن يفتح الباب صرخ به صوت يأمره الوقوف في مكانه وعدم التحرك شعر كأنه حيوان وقع في مصيدة، بعد أن أسرعت اليه الكلاب تطوقه، وفي اليوم التالي كان لزاما عليه أن يقف أمام ضابط الشرطة باعتباره كان يشرع بالسرقة، لكن الشرطي كان متفهما لما يفعله الأطفال من حماقات، فأطلق سراحه بعد أن أخذ من أمه تعهدا بعد عودته الى مثل تلك الأفعال، لم تعنفه الأم وكانت مستعدة أن تفدي ابنها الذاهل بنفسها من أجل أن يشفى من الصدمة.

تقلبت الأحوال بهذا الطفل، لكنه نما وأصبح شابا يافعا، صحيح أنه لم يقترب من ذلك الإسطبل ثانية، وصحيح أن المكان الذي انتقل اليه هو وأمه يبعد كثيرا عن تلك القرية القريبة من برلين، الا أن الحصان لم يغب عن نفسه، أحيانا يأتي الحصان الى مخيلته كما لو كانت أمنية من الصعب تحقيقها، وأحيانا يرى ذلك الشرطي يهز له بإصبعه محذرا.

المهم في الموضوع أنه عندما يأتي الى باسكال من يقول نحن من نقدر أن نحقق لك ذلك الحلم، سيكون الحصان بين يديك شرط أن تصغي جيدا لما نريد، وتتفهم أننا نريد مصلحتك أولا، فهدفنا أولا وأخيرا هو ترتيب الأوضاع التي تبعثرت في هذا العالم. قال وقد سرى في رأسه جمال الذكرى: ها أنا أسمع.

قالوا: عليك بالذهاب الى أفغانستان.

قالت السيدة العجوز: لأمريكا صناديق خشب الأموات ومن عندنا الموتى. مات الشاب باسكال بشظية وقبل أن تصله هدية عيد الميلاد من أمه.

سكتت قليلا لتلتقط أنفاسها: يا أحبائي، أقدم لكم فروزه أم باسكال التي بدل أن يصلها رد من ابنها وصل اليها نبأ موته.

صعدت بعض الأصوات: أوه، أم باسكال! لم نكن نعلم! حاولت بعضهن التوجه اليها لمواساتها أو للتعرف اليها عن قرب، لكن المرأة العجوز حسمت الموقف قائلة وهي تجلس الى البيانو ليس الان. وضربت بقوة على أحد المفاتيح ممهدة لنفسها عزف "ترنيمة لفروزه قبل النوم".

لم تكن الضربات على مفاتيح البيانو كشعاع يهبط، بل كساحل يردد أمواج البحر المتكسرة، صوتها كما الجناح يمتد على جانبي الطائر لا يحركهما بل مستجيبا لتيارات الهواء تأخذه الى الأعلى أو تنزل به على حين غرة الى الأغوار،الأصوات كما لو كانت ضباب ينزل في أعماق غابة ولم تكن أبدا بخار ماء حار سقط في بانيو، كما لو أن الأم في المطبخ ترتب الأشياء قبل أن تقلي شيئا في الزبدة، كما لو أن شخصا يفك زر قميصه من عروته أو يفك رباطا في حذاءه، كما لو أن فتاة كانت تطلي أظافرها. واحدا بعد الآخر، ثم تمضي الضربات مسرعة للانتقال الى الحركة التالية، لا تتمايز الضربات تمايزا صلبا جامدا من بعضها البعض، كان واضحا أنها بصدد اقتحام نغمة جديدة لها قوة التأثير قبل أن تدخل في قلب الحدث، بعدها تمضي الأنغام مسهبة قبل أن تصل الى مرحلة تبدأ بها تتخفف من أثقالها، وعندما تصل الى عزف جملة تنهي بها ذلك المقطع يعود النغم الأول منسابا رقيقا كما لو كان طائر الفينيق يعود من جديد بعدما احترق، لقد انتصرت الحياة من جديد ويسير اللحن كما ذلك الجناح على جانبي الطائر الى أن يبدأ بالصعود الى المرتفعات مجددا، وهكذا سار الأمر الى نهاية العزف.

شعرت فروزه وهي تصغي بأطرافها ترتجف وأن الموسيقى التي تسمعها تمس روحها، لم يكن ذلك مصادفة، كان تأثيرها عميقا فقد أخذت كثيرا من رائحة العرق النازل تحت إبطيها، من استغاثة كانت قد سمعتها.

صفق الجميع، فعادت فروزه الى وعيها.

صدرت الرواية هذا الشهر في سلسة (آفاق عربية) عن هيئة قصور الثقافة بالقاهرة.