يقدم الباحث التونسي المرموق في هذه الدراسة/ الكتاب إضافة حقيقية للفكر الفلسفي وتفكيكا عميقا لفكر فيلسوفين من أكثر فلاسفة القرن العشرين تأثيرا. كاشفا أكذوبة ديموقراطيتهما، وتهافت فكر بوبر وعنصريته كجذر لفكر المحافظين الجدد، وتخبط هايديجر وتبريراته لما لايمكن تبريره.

فيلسوفان ديموقراطيان

مارتن هايدغر و كارل پوپر

محمد المزوغي

ـ الجمع بين الأضداد:
في المُلتقى العالمي للفلسفة الذي عُقِد بمدينة اسطنبول، ألقى الفيلسوف الإيطالي جانّي فاتيمو (Gianni Vattimo)، مُحاضرة بعنوان استفزازي (كلام فاتيمو) "هايدغر فيلسوف الديموقراطية" (1). وللتدليل على ديمقراطية هايدغر فإنه أجرى مقارنة بين أفكار شيخ الليبرالية كارل ور (Karl Popper)، من خلال كتابه "المجتمع المنفتح وأعداؤه"، وبين أطروحات هايدغر انطلاقا من محاضرته "نهاية الفلسفة ومُهمّة الفكر". وقد اعترف فاتيمو، منذ البداية، بأن الجَمع بين مفكر مثل كارل ور مشهور بتعصّبه للنظام الّليبرالي، وبين فيلسوف كاره للديمقراطية مثل مارتن هايدغر هو من الخلف بمكان «خصوصا وأن هايدغر لا يَبدو، طبعا، مفكرا ميّالا إلى الديمقراطية (2)».

أين يَكمُن التوافق بين ور وهايدغر؟ يقول فاتيمو بأن «الأسباب التي حرّكت ور لمناهضة أفلاطون هي نفسها، وبالأساس، الأسباب التي حرّكت هايدغر في صراعه ضدّ الميتافيزيقا (3)». فاتيمو يعترف، مرة أخرى، بأنه يُفكّر في صُلب المفارقات ويلتجئ إلى ما أسماه بالعنف التأويلي (violenza ermeneutica)، وهذا العنف التأويلي مُتأتٍّ، أساسا، من تقريبه بين مصطلحات ومفاهيم تبدو، للوهلة الأولى، بعيدة كلّ البعد عن بعضها: مثل عبارة ور "مجتمع منفتح" بـ "حدث" (Ereignis) الهايدغارية. ولطمأنة القارئ الرّيبي يقول: «إننا لا نخون أغراض ور ولا هايدغر، على الرغم من أنه لا أحد منهما يقبل بهذا العنف التأويلي الطفيف».

فاتيمو يؤيّد موقف ور النقدي من أفلاطون حين يرى فيه أحد الأعداء الخطرين للمجتمع المنفتح، ذلك لأنّ أفلاطون، كما استقرّ عليه ور وأتباعه، لديه «تصوّر مَاهَوي للعالم (4)(concezione essenzialista del mondo)». وطبقا لهذه النظرة فإن كلّ ما هو واقعي يَخضع لقانون مُعطَى كبنية ثابتة للوجود، وبالتالي فإن المجتمع ذاته عليه أن يَنصاع إلى ذاك التصوّر الماهوي. وبما أن الفلاسفة فقط هم الذين يَستطيعون تَعقّل ذاك النظام الدائم للأشياء، فإن مُهمّة قيادة المجتمع تعود إليهم بالدرجة الأولى. هذه المهمّة التي يزعمها الفلاسفة ـ اليوم العلماء وأصحاب الإختصاص ـ مرتبطة شديد الإرتباط بالإقتناع المبدئي التالي: ألا وهو أنه بالنسبة للفرد والمجتمع ينبغي عليهما أن يتطابقا دائما مع نظام مُعطى موضوعيا يَصلح أيضا كمِعيَار (Norma) أخلاقي، الوحيد الممكن. فاتيمو، على لسان ور، يُمعن في المفارقات والاستفزاز، يقول بأن هناك مبدأ محوريا في الحقل التشريعي مفاده أن «"السلطة، وليست الحقيقة، هي التي تسنّ القوانين" (auctoritas non veritas facit legem)»، هذا المبدأ ـ يضيف فاتيمو «كان دائما عُرضة للنقد العقلاني ذي النفس الميتافيزيقي». فالعقلانيون، حسب هذا الطرح، يتعاملون مع أمور السياسة بذهنية علمية، راغبين في التوصل إلى حقائق الأشياء، لكن هذا هو الخطأ الأكبر الذي يداهم الممارسة السياسية، في رأي فاتيمو، ذلك لأنه «كُلّما أولَجنا مطلب الحقيقة في السياسة، هناك تبدأ أخطر أنواع الاستبداد (autoritarismo)، أي الإنغلاق الذي حذّر منه ور (5)». 

1 ـ السلطة والحقيقة بين القدماء والمحدثين:
أطروحة ور ـ فاتيمو التي ترى أن السلطة وليست الحقيقة هي مبدأ التشريع، مقبولة إلى حدّ ما. فعلا، لا أحد يُنكر أن السلطة الشرعية هي التي تسنّ القوانين، والأمر يَنبغي أن يكون كذلك. لكن السلطة ليست هي بالإرادة العمياء التي لا همّ لها سوى الحفاظ على سيادتها وإعادة إنتاج ذاتها باستعمال كل الوسائل حتى اللاأخلاقية منها، بل يجب أن تكون محكومة بالعقل ومُقيّدة بمبادئ العدل والحقّ. المبدأ الذي أشاد به فاتيمو، لا يتقدّم بالإنسانية في سبيل التحرّر، ولا يُوفر الشروط الموضوعية للحكم الرشيد، وقد يَمنع حتى الطموح في التغيير. إنْ أُخِذ على حرفيّته، دون تمييز وإيضاحات إضافية، فإن هذا المبدأ يعيدنا إلى القرون الوسطى لأنه يبرّر الأمر الواقع، ولا يعترف إلاّ بسيادة الأقوى، إضافة إلى أن مبدأ من هذا القبيل صالح فقط كذريعة لكلّ الأنظمة الشمولية الدكتاتورية التي لا ترى نفسها مُجبَرة على التقيّد بمعايير الحقيقة والحكمة.

يجب التذكير، على كل حال، بأن القولة التي أوردها فاتيمو جاءت في كتاب الليفيتان لتوماس هوبز، وبالتحديد في الفقرة 21 من النص اللاتيني. حيث قال: «في السياسة الواقعية، تأويل قانون الطبيعة لا يعتمد على العلماء وكتاب الفلسفة الأخلاقية، بل على السلطة السياسية. التعاليم يمكن أن تكون صحيحة، لكن السلطة وليست الحقيقة هي التي تُصدِر القوانين (6)».

أمّا بخصوص أفلاطون، فما كتبه ور هو كاريكتور أفلاطون، لقد أصبح النقد العشوائي لهذا الفيلسوف شبيه بالرياضة الروحية التي يتعاطاه الكثير من المفكرين المعاصرين. وبسبب هذا المنحى الجدالي فإن التطاول على أفلاطون أخذ يتجذر في أذهان المفكرين بجميع مشاربهم، وأصبح أفلاطون هو حجرة عثر يجب إزاحتها قبل أي تنظير سياسي (7). أحد أتباع ور، الفيلسوف والسياسي الإيطالي مارتشالو بيرا (Marcello Pera) رئيس مجلس النواب في حكومة برلسكوني السابقة، عدوّ حتى الموت للمسلمين، ومنظّر صراع الحضارات على شاكلة المحافظين الجدد، أعلن أمام جمع من الشباب أن فلسفة أفلاطون هي فلسفة الاستبداد والديكتاتورية، وأن أفلاطون هو أخطر مفكر على الديمقراطية (8).

هذا هو الإرث الذي تركَه صاحب المجتمع المنفتح لأتباعه، لا أعرف أحدا منهم تملّص من تهجمات ور على أفلاطون، أو حتى ناقش أطروحاته بجدّية، كلّهم يكرّرون تهجّماته ويسردونها كذا على حرفيتها دون نقاش. فَهُم يتهمون الفيلسوف اليوناني بأنه عدوّ الليبرالية، ومنظّر للمعتقلات النازية، وهو الذي لم ير في حياته نازيا ولا يدري ما الليبرالية. لكن، في حقيقة الأمر، ور سقط في نفس الشناعات التي نسبها (لفّقها) إلى أفلاطون، يكفي تتبّع مساره الفكري، ورصد مواقفه السياسية كي نتحقق من ذلك.

الحصيلة السلبية التي استخلصها من تأويلاته لأعمال أفلاطون يَرسمها ور على هذا النّحو: «لقد رفض سقراط الإخلال باكتماله الشخصي. لكن أفلاطون، مع كل صرامة تنظيفه للواجهة، كان مدفوعا نحو طريق أخلّت باكتماله في كل خطوة أقدم عليها. كان مدفوعا نحو التهجّم على الفكر الحرّ والتوصّل إلى الحقيقة، دَافَع عن الكذب، عن المعجزات السياسية، المحرّمات، نزع الحقيقة، وفي النهاية، العنف الشرس. ورغم تحذير سقراط من كره البشر وكره العقلانية، فإن أفلاطون كان عديم الثقة بالإنسان ويهاب البرهان العقلاني. وعلى الرغم من كرهه للطغيان، كان مدفوعا لرؤية الطغيان كمساعد مُمكن والدفاع عن الاجراءات الأكثر استبدادية (9)».

كل هذه السلبيات التي لفّقها على كاهل أفلاطون حاضرة في ور سواء من خلال سيرته الذاتية أو من جهة تنظيره الفكري السياسي: اكتماله الشخصي أصابه الخلل في كثير من جوانبه سواء بتناقضاته أو بولاءاته السياسية المشكوك في نزاهتها، تهجّم على المثقفين اليساريين المخالفين لنهجه السياسي، رفَضَ أن يكون العلم مُوصلا إلى أية حقيقة ثابتة، المعجزات السياسية يؤمن بها أكثر من أي فيلسوف آخر، أعني الليبرالية الشرسة واقتصاديات السوق، أما الدفاع عن الكذب فيمكن إرجاع هذه التهمة عليه لأنه أنكر أبسط الحقائق العلمية التي أثبتت التلازم السببي بين التصنيع والتلوث البيئي، لديه نوع من كره للبشرية، أعني عنفا تجاه كل من يتجرّأ على نقد أفكاره أو رَفضَ الانزواء تحت راية الليبرالية الاستعمارية، يَهاب البرهان العقلاني لأنه أنكر أن تكون نظرية التكذيب خاضعة هي بدورها للتكذيب، أخيرا إذا أبدلنا كلمة الطغيان، التي اتهم بها أفلاطون، بكلمة حرب، فإننا سنحصل على صورة قريبة جدّا من مواقفه إزاء السياسة العالمية وحروب أمريكا: على الرغم من كرهه للحرب، كان مدفوعا لرؤية الحرب كمساعد ممكن والدفاع عن الاجراءات الأكثر حربية.

إن ثراء فلسفة أفلاطون، وتنوع آرائه، وتطوّر مواقفه، أو حتى تناقضها لهي دليل على أن فلسفته ليست بالقالب الجاهز الذي يمكن تصنيفه في خانة مغلقة نهائيا، بل تنمّ عن ديناميكية فكر باحث ومُجدّد. أفلاطون لم يكن بالصورة السلبية جدا التي رسمها له ور والدليل على ذلك أنه عارض فكرة نزع الحقيقة عن التشريع، واعتباره حكرا على السلطة بما هي مالكة وسيّدة لأسباب القوة. هذا المنعرج التسلطي لم يكن خفيا على أفلاطون، لقد ذكره في محاورة الجمهورية على لسان تراسيماخوس، أحد محاوري سقراط الذي قال: «إن العدل ليس شيئا أكثر من مصلحة الأقوى ، (الجمهورية، 338 س)». لكن أفلاطون يَقف بشدة ضدّ سياسة الأمر الواقع هذه، لأنه إذا كانت أسباب المصلحة والقوة هي التي تؤسس للتشريع والحكم، بعيدا عن أي تقويم خلقي، أو إلزام قيمي، فإن مفهوم تقويم السلطة، معارضتها، نقدها أو ترشيدها سيفقد من مشروعيته أصلا. وعلى هذا الأساس فمن غير المستبعد أن يصبح التشريع مجرد نزوات شخصية فُرضت كقوانين، تختفي فيها الالتزامات المدنية، أو تصبح رهن الظروف المتغيّرة لمالكي السلطة. ولتفادي هذه المنعرجات وانعكاساتها السلبية على أصول الحكم فإن أفلاطون نصح بأن يؤول الحكم، ليس لأي شخص اتّفق، بل لمَن تتوفر فيه شروط الحكمة والعقل: الفيلسوف الذي تَحرّر من أوهام الظاهر، وسما بنفسه فوق ظلال الأشياء الزائلة، لا ينبغي عليه أن يَبقى في سماء التجريد، عليه أن ينزل إلى عالم الممارسة والغوص في الواقع الاجتماعي. ولا يجب عليه أن يتذرّع بنخبوية تفكيره، وبأن تلك المجموعة غير جديرة بمكانته، ذلك لأنه هو الوحيد الواعي بأن «القانون، لا يهدف إلى أن يجعل أية طبقة واحدة تستأثر بالرخاء، بل يهدف إلى نشر الرخاء على الدولة كلها، وأن يُوحِّد المواطنين إما بالإقناع أو بالضرورة ، بحيث إنه يجعلهم يتقاسمون مع الآخرين كل مساعدة يقدر أن يمنحها للمجموعة، ويشكلون بدورهم أناسا متساوين، لا لأن أي واحد يُسمح له بأن يمارس ما يشتهي، بل لكي يتمكّنوا من توثيق عرى الدولة معا(10)». الفلاسفة، إذن، لا يجب عليهم أن يبخلوا على المجتمع بعِلمِهم، أفلاطون يقول بأنه هذا مطلب عادل، بل يجب إلزامهم بتقديم الرعاية وحسن الإدارة للآخرين. يجب على الفيلسوف أن ينزل إلى دنيا الواقع (الكهف) ليَنظمّ إلى بني جنسه، وبهكذا عمل فإن صاحب العقل النظري، يُقشّع أوهام الناس ويحرّضهم على الفضيلة، لا كما هو الشأن في المدن الأخرى، حيث يتصارع فيه الجميع «لأجل السلطة».

الدولة التي يكون فيها الفيلسوف حاكما، هي «أقل الدّوَل طموحا. إنها الدولة الأفضل دائما ومحكومة بالهدوء». حكّام المستقبل، ينشدون العدل ويَرومون حسن التنظيم، ويحكمون «بالفضيلة والحكمة، التي هي بحق بركات هذه الحياة». أما الحكم في حدّ ذاته فهو مسؤولية أمام المجموعة، وليس الهدف منه الاثراء الشخصي وتكديس الأموال على حساب الصالح العام. في مجتمع أناني متفسخ كهذا فإنه سيختفي النظام والناس «سيقتتلون على المناصب، وسيكون التشاجر المدني والأهلي الذي سينشأ بينهم دمارا لهم وللدولة كلها(11)».

ما الشيء الذي نأخذه على هذا الكلام؟ أين هو التسلّط والطغيان؟ أليس من الأحسن أن نأخذ العبرة من كلام أفلاطون في هذه الفقرات من الجمهورية، ونتفكّرها مليا؟ وكأن أفلاطون يصوّر لنا إحدى نظم الحكم المعاصرة في بلداننا العربية، حيث تستأثر قلة قليلة من الناس بالحكم وتستغل مناصبها لكي تستثرى على حساب الصالح العامّ.

ولكن الأخطر من هذا هو أن المبدأ الذي ذكره فاتيمو، لا يؤول فقط إلى الاستبداد في الداخل، بل إنه يُشعل نار الحرب في الخارج. السلطة التي تشرّع دون أن تأخذ في الحسبان مطلب الصدق والحكمة، تبرّر أعمالها ضدّ الشعوب الأخرى طبقا لمصالحها الخاصة ولكمية القوة التي تمتلكها. وحتى بخصوص هذه النقطة فإن مفكري اليوناني كانوا مدركين للمعضلات التي تنجرّ عن هذا الطرح، وحدسوا المآزق الأخلاقية التي تنبع منه. فالأحداث التاريخية تثبت، بما فيه الكفاية، أن مالكي القوّة برّروا دائما استبدادهم تجاه الشعوب الأخرى عن طريق ذاك المبدأ المصلحي الذي يُقصي من الأساس مطلب الحقيقة والعدل. المؤرّخ اليوناني ثوقيديس يروي لنا حدثا تاريخيا على شكل حوار مأساوي دار بين الأثينيين وأهل ميلوس: الإمبريالية الإثينية خيّرت أهل ميلوس بين الإذعان أو الإفناء، لكن أهل ميلوس اعترضوا بأنهم يعتقدون في فضيلة العدالة وفي أيمانهم الورع بأن الآلهة العادلة ستحمي الضعفاء. لكن الأثينيين ردّوا بأنهم لا يَقلّون وَرَعا منهم، ولا يأمرون أو يفعلون أي شيء يُخرجهم عن المعتقدات السائدة حول الالهة، أو يتنافى ورغبات الإنسان ذاته. وبالتالي فإن مبدأهم هو هذا: «نحن نعتقد، طبقا للضرورة الطبيعية ، أنه لا يحكم إلاّ الأقوى (12)»، ثم أضافوا قائلين، حسب ما رواه ثيوقديدس: «نحن مُقتنعون بأن هذا ما تَفعله الآلهة، أما بخصوص الإنسان فهو أمر بَيّن بذاته. نحن نستخدم هذا القانون دون أن نَزعم بأننا كنا السبّاقين في إرسائه، بل تقبّلناه وهو جاهز ونتركه صالحا إلى الأبد».

هذه هي التعلّة الوحيدة والثابتة التي يقدّمها الأقوى: إنه يُبرّر عنفه عن طريق أعمال الإله، أو عن طريق قانون طبيعي ضروري.

ولنأخذ صفحة واحدة من صفحات السياسة لأرسطو، كي نرى مدى راهنيتها ومدى صدقها ومطابقتها للواقع حتى وإن كانت عليها مسحة أخلاقية. يقول أرسطو في المقالة السابعة من كتاب "السياسة" بخصوص أفضل الدساتير والقواعد التربوية التي ينبغي أن تفعّل في المدينة: «التسلّط على أجوارنا هو في نظر البعض من الناس ظلم صارخ إذا كانت السلطة مُنفّذة على وجه الاستبداد، وعندما تكون السلطة قانونية فإذا انقطع التسلط عن أن يكون ظلما فذلك لكي يصير عقبة في طريق السعادة الشخصية (...) والبعض الآخر يرى أن سياسة التسلّط والاستبداد هي الوحيدة القادرة على تحقيق السعادة. ولذلك فإن غاية الدستور والقوانين الهيمنة على الشعوب المجاورة... إذا كان للقوانين غرض أوحد فإنه دائما التسلّط. وعلى هذا ففي سبارتا وفي كريت فإن نظام التربية العامة ومجموع القوانين لا تُوجّه إلاّ إلى الاستعداد للحرب. وكل الشعوب التي لديها القوّة للهيمنة على الآخرين، تَضَع القيمة الحربية في أسمى مكانة، كما هو معمول به لدى الفرس والسيتيّين والتراقيين والسلتيين. وعند بعض الأمم هناك حتى قوانين تشجّع هذه الفضيلة، مثلما هو الأمر في قرطاج حيث يُقال بأن المرء له الحق بأن يتزيّن واضعا من الحلقات عدد ما شهد من الوقائع(13)».

لكن أرسطو يستنكر هذه القوانين الحربية التي تُعلي من شأن الصراع وتربّي الشباب على روح النزاع «حسب المرء بعض لحظات من التدبّر ليجد غريبا أنّ أفعال رجل الدولة تتمثل في التنظير لسبل اخضاع وسيادة الشعوب الأخرى، سواء أرضيت بذلك أم لم ترض. كيف تكون لائقة برجل السياسة والمقنّن الاشتغال بغاية ليست مطابقة حتى للقانون؟ إنما هو مخالف للقوانين ليس فقط التسلّط (الهيمنة) بالعدل، بل حتى التسلّط بالظلم، ومن الممكن فرض القوّة ضد العدل(14)».

إنّ فرض القوّة دون احترام القوانين ومبادئ العدل، هو من الغرابة بالنسبة لعقل منطقي مثل عقل أرسطو إلى حدّ أنه عندما يقارنه بمنهج العلوم الصحيحة يحدس البون الشاسع الذي يفرق بين اعتباطية رجل السياسة الحربي الذي يستغل كل الوسائل، وخصوصا القوة العمياء، لكي يفرض سلطته، وبين العالم الذي يتقيد بمنهج الحوار والإقناع: «ليس في تطبيق العلوم الأخرى شيئا من هذا القبيل. فالطبيب والملاح لا يفكران في اكراه أحد، لا من الأول على المرضى الذين يطبّبهم ولا من الثاني على الركاب الذين يقودهم».

الطاغية الذي يعترف فقط بمنطق القوة هو، حسب أرسطو، إنسان متناقض لأنه يفعل للآخرين ما يكره أن يُجرى عليه: «ولا أحد منهم يخجل من التصرّف إزاء الآخرين بما يعتبره بالنسبة إليه ظلما وضررا. إنهم يبحثون عن نظام عادل في حقهم، ولكن في علاقتهم بالآخرين لا يكترثون أبدا بالعدل(15)».

كم هو راهني هذا الكلام. وكم ينطبق على الحالة التي نحن عليها الآن. هكذا بجرّة قلم قسم أرسطو أولئك الذين يرغبون في اشعال الحرب ويُجنّدون لذلك شعوبهم عن طريق اختلاق الأكاذيب وأوهام المخاطر، ويستمعون إلى أقوال الديموغاجيين الذين ينصحونهم بإدامة الصراع والتملّص من أي قانون أخلاقي يُلزم رجل السياسة على قول الحق وفعل العدل.

وعلى أساس مبادئ أخلاقية من هذا القبيل، فقد أدان أرسطو قوانين اليونان وقال بأن المدن التي تتباهى بتسامي قوانينها والمشرعين الذين رسموها، لم يروموا البتة جعل أنظمتها موجهة إلى أغراض سامية ولتحقيق أشرف الفضائل، بل إنهم مالوا إلى ترسيخ تلك الفضائل العملية المنفعية والصالحة فقط لاشباع الأطماع. وقد انظمّ إليهم المنظرون السياسيون، مروّجين لنفس تلك الأفكار، مادحين دستور سبارتا، مفتونين بالغاية التي قصدها المشرّع، والذي عن طريق القوانين يصبو إلى الهيمنة على الآخرين واشعال فتيل الحرب(16). يقول أرسطو بأن أطروحات هؤلاء الساسة وأذيالهم من الديماغوجيين، قابلة بسهولة للنقض نظريا، كما أنها دُحضت وبان فشلها على أرض الواقع.

أعود إلى أفلاطون، وأقول: حتى وإن سلمنا جدلا بأن بعض آراءه، إن أُخذت على حرفيتها، فقد تستثير فينا مشاعر الحيرة والإرتباك، إلاّ أننا من خلال نصوصه نستطيع أن نحدس أنه ربما هو نفسه قد تملّكته تلك المشاعر وعمل على مراجعة آرائه ونقدها. أفلاطون الذي تفطّن إلى الجانب الطوباوي من عمله، لم يتوان من توجيه نقد لاذع للجمهورية. يقول في محاورة طيماوس (19ب ـ س) بأن انطباعه قاده إلى النتيجة التالية وهي أن الأشخاص الذين صوّرهم في "الجمهورية"، يبدون له على شكل حيوانات جميلة، لكنهم مصابون بالعطالة، وبالتالي فإنه يشعر بالرغبة في رُؤيَتهم يتحرّكون في مُعتَرَك الحياة. في طيماوس أيضا سقراط يسأل أحد محاوريه (كريسيا) أن يَقصّ عليه ملاحم أثينا التي حدثت فعلا في الأزمان الغابرة، على عكس تلك التي هي موضوع أقوال وافتراضات (21أ)، وفي نهاية القصة يقول كريسيا مُعمّقا الهوة التي تفصل بين ما حدث وما يجب أن يحدث قائلا بأن خطاب "الجمهورية" ينتمي إلى نظام الأسطورة بينما أعمال أثينا العتيقة تنتمي إلى مجال الواقع التاريخي (26س8 ـ د1).

التنظيم الإجتماعي الشيوعي كبارديغم سياسي، اعتبره أفلاطون للمرة الأولى في محاورة النواميس بأنه نموذج مستحيل (746 س 1) «على الرغم من أن أفلاطون ـ كما يقول أحد الدارسين ـ كان قد نَفَى بشدّة، صفة الإستحالة عليه(17)». ذاك النموذج الإشتراكي لا يصلح إلاّ لجَمع من الآلهة أو لأبناء الآلهة (739 د)، لا ينطبق على الإنسانية، لأنه يفوق متوسط أخلاق الناس الموجودين في الواقع. وبالتالي فإن من واجب المشرّع أن يختار نهجا ثانيا يقترب، بقدر المستطاع، من الأفضل، آخذا في الحسبان الظروف الموضوعية التي يعيشها الناس، ومعترفا بحق الملكية الفردية وخصوصية العلاقات العائلية.

ولكن حتى إن غابت علينا انتقادات أفلاطون الذاتية ومراجعته لمشروعه الطوباوي، فبإمكاننا أن نعود إلى تلميذه أرسطو، الذي سبق نقّاده المحدثين بألفين وخمسمائة سنة، والذي نقد اقتراحات صاحب الجمهورية بخصوص العائلة والمشاعية، قائلا بأن هذه الأشياء مستحيلة التحقيق في الواقع (السياسة، 1061أ 14).

كان على ور وأتباعه أن يُثمّنوا، على أقل تقدير، الجوانب المشرقة من فلسفة أفلاطون الإجتماعية، مثل نقده للنظام الديكتاتوري، وموقفه التقدمي من المرأة الذي اعتبره البعض أعزّ ما تملكه الأفلاطونية ومفخرتها منذ القديم. الفيلسوف الأوحد في العصور القديمة الذي تَكلّم في النساء بطريقة يمكن أن نعتبرها تقدّمية هو أفلاطون، وقد جاء ذلك في الكتاب الخامس من "الجمهورية"، إنها من الجدّة والتفرّد، إلى درجة أن أرسطو وصَفَها بالغرابة والنشاز (السياسة: 1264ب 4 ـ 6). ولكن في حقيقة الأمر أفلاطون نفسه كان قد أشار إلى ذلك في معرض خطابه حول المرأة قائلا بأن أطروحته هذه «تَخرق العادات الموروثة إلى حدّ أنها تبدو "حمقاء" مضحكة (الجمهورية 425أ 7)». إلاّ أن ملاحظته هذه لم تمنعه من التشبث بفكرة أن الرجال والنساء، نظرا لأنهم يشتركون في نفس الطبيعة، لديهم نفس الواجبات وبالتالي يجب أن يَتلقّوا جميعا نفس التعليم (الجمهورية، 452ي 7 ـ 8)، وبَعد ـ يتساءل أفلاطون ـ أين هو الشيء الأحمق في هذا؟ أين نحن من خَرق العادات والتقاليد؟ ألم تتغيّر العادات عبر الزمن؟ إن العادات التي لا تصمد أمام العقل مآلها الضمور والاندثار.

المسألة، بالنسبة لأفلاطون، تكمن أساسا في إمكانية أو عدم إمكانية أن تكون الطبيعة الإنسانية الأنثوية قادرة على تقاسم كل المهامّ، أو البعض منها، مع الجنس المُذكّر. إذا كانت المرأة لا تختلف بالطبع عن الرجل، فإن مهامهما لا يختلفان، والمرأة لم تُجعل لكي تَمكث في المنزل وتَكتفي بالإنجاب وتربية الأطفال. والدليل على ذلك أن أنثى الكلاب قادرة مثل الذكور أن تؤدي نفس مهامّ الحراسة. يقول أفلاطون بأن القوانين التي يقترحها، خصوصا بشأن المرأة، ليست ضدّ الطبيعة بل إن قوانين المؤسسات الحالية ونُظمها هي التي تُضاد الطبيعة. إذن المدينة التي يُنظّر إليها أفلاطون هي مدينة المساواة بين الجنسين، حيث يدخل فيها النساء كعنصر فعّال، كقائدات وسياسيات وقاضيات، لأن «القضاء هو أيضا مشترك بين النساء والرجال (الجمهورية 460 ب 9 ـ 10)».

لم يجرأ أحد على قول شيء من هذا القبيل في العصور القديمة، وللتأكد من ثورية الموقف الأفلاطوني يكفي مقارنته بآراء فلاسفة قريبي العهد منا كانط ونيتشه مثلا. لكن التراث الأكاديمي القديم سار على هديه وتقبّل هذه الفكرة الجريئة الناشزة في ذاك العصر، ودافع عنها بكل اقتناع وحزم. والمثال على ذلك هو ابرقلس في تفسيره لجمهورية أفلاطون. فبَعد أن استعرض آراء سقراط في الكتاب الخامس من "الجمهورية" قال: «حتى في هذا الشأن فإن أفلاطون قدّم اعتبارات مطابقة لنظام الأشياء، لكن البعض من أولئك الذين جاؤوا بعده، على الرغم من قولهم بأن الذكر والأنثى ينتميان إلى نفس النوع، وعلى الرغم من أنهم عرّفوا الكائن الإنساني بأنه نوع واحد لا يتجزأ، فإنهم شَتّتوا الفضيلة ، واحدة للرجال وأخرى للنساء، هكذا يرى المشائيون(18)».

إلاّ أنّ هناك فيلسوفا مشائيا واحدا، اخترق الحظر المشائي وانضمّ إلى أطروحات أفلاطون بشأن هذه النقطة بالذات، أعني الموقف من المرأة، وهو الفيلسوف العربي ابن رشد. النساء والرجال يشتركون في نفس الأفعال الإنسانية، وقد تكون النساء أكثر حذقا في بعض الأعمال «كما يُظنّ ذلك في فن الموسيقى العملية، ولذلك يقال إن الألحان تبلغ كمالها إذا أنشأها الرجال وعملتها النساء(19)»، ثم يضيف ابن رشد ملاحظة قيّمة تصف الحالة الدونية التي تعيشها المرأة في زمانه: «وإنما زالت كفاية النساء في هذه المدن (مدن الأندلس) لأنهن اتخذن للنسل دون غيره وللقيام بأزواجهنّ، وكذا للإنجاب والرضاعة والتربية، فكان ذلك مبطلا لأفعالهنّ (الأخرى). ولما لم تكن النساء مهيئات على نحو من الفضائل الإنسانية، كان الغالب عليهن فيها أن يشبهن الأعشاب. ولكونهنّ حملا ثقيلا على الرجال صرن سببا من أسباب فقر هذه المدن. وبالرغم من أنهنّ فيها ضعف عدد الرجال، فإنهن لا يقمن بجلائل الأعمال الضرورية، وإنما يُنتدَبن في الغالب لأقل الأعمال، كما في صناعة الغزل والنسج، عندما تدعو الحاجة إلى الأموال بسبب الإنفاق، وهذا كله بيّن بنفسه(20)». لم يَقل أحد ـ على حدّ علمي ـ مِن المفكرين العرب أو اللاتين، في عصر ابن رشد شيئا من هذا القبيل، فالمرأة اعتُبرت دائما تابعا من توابع الرجل إن لم تكن مخلوقة من أحد أضلاعه.

نحن لا نَعبد الفلاسفة ولا نزكّيهم على الإطلاق، لكننا أيضا لا نريد أن نَظلمهم أو نُشوّه أفكارهم، أو نتعسّف على نصوصهم. فعلا، هناك أشياء جارحة لمشاعرنا الإنسانية نجِدها عند أفلاطون وأرسطو، وعلينا ألاّ نتناساها، أو نخفيها. وربما يمكننا أن نطلب لهم المعاذير للبعد الزمني الذي يفصلنا بهم ولطبيعة المجتمع العبودي اللذان كانا يعيشان فيه.

وكأني بأفلاطون، حين حديثه عن المفكرين الملحدين، يشبه نوعا ما أحد المتزمتين المعاصرين لنا الآن الذين لا يقبلون بالالحاد كخيار شخصي حرّ، وينادون بدولة دينية. أفلاطون في محاورة النواميس يستشعر ـ مِن وجهة نظره ـ "مخاطر" الفلسفة المادية على الأحداث من الشباب الذين يعتنقون الإلحاد، ويرفضون الإعتقاد في ألوهية الأجرام السماوية، ويرون أنها مجرّد تراب وأحجار غير قادرة على العناية بالأشياء الإنسانية(21). هذه الأفكار بحدّ ذاتها، يعتبرها خطرة على الدولة والسلم الاجتماعي. لقد ربط أفلاطون الاستقرار السياسي واستتباب الأمن بالمعتقد الديني السائد في محيطه، وبالتالي فإن كل من يحاول زعزعة تلك المعتقدات أو نقدها هو عدو للدولة. الفلاسفة الجدد يُعلمون الشباب أن وجود الآلهة، ليس بالأمر اليقيني، بل هو من وضع الفن ونواميس الدولة طبقا لاتفاق المشرعين، ولذلك فإن هذا المعتقد نسبي لأنه يختلف باختلاف الأماكن والأزمان، كما أنها نسبية كل المعايير والقيم الأخلاقية. الماديون يقولون إن مبادئ العدل لا توجد في الطبيعة على الإطلاق، بل إن البشرية، نظرا لأنها في صراع مستمرّ، تُغيّر على الدوام من قواعد العدالة، وبالتالي فإنها تشريعاتها وقوانينها صالحة فقط لفترة معينة ولظروف محددة لا تتعدّاها. لقد قالوا للشباب إن الحق الأعلى هو القوّة، وعليهم أن يَحيوا طبقا للطبيعة ويسودوا الآخرين، دون الخضوع إلى أي نوع من أنواع السلطة، وبهذه الطريقة ـ يقول أفلاطون ـ فقد أوقعوا الشباب في العقوق، ومن هنا نشأت الفتن وعمّ الشغب. هذا المنعرج الإجتماعي يسميه أفلاطون زيغا وأخطاء مدمّرة لمقومات الاعتقاد الديني والتعايش الإجتماعي.

الحلّ الذي يقترحه أفلاطون لمداواة هؤلاء الملحدين هو اقناعهم بأن نسقهم الإلحادي مبني على مقدمات فاسدة، وعلى تقديم وتأخير معاكس لترتيب الأولوية. إنهم يَتَوهّمون أن السبب الأول لنشوء كل الأشياء وفسادها، ليس هو السبب الأول بل إنه السبب الأخير، ويعتقدون أنّ ما هو السبب الأخير هو الأول. ولهذا فقد أخطؤوا في تصورهم لطبيعة الكون والآلهة. المادة في نظام الطبيعة هي ثانوية أما الروح، التي هي كائن ذاتي الحركة، هي التي تسيّر العالم وترعاه. وهذه الروح ليست واحدة بل اثنين: تلك التي تفعل الخير وتلك التي لديها القدرة على فعل النقيض. الأولى، عندما تتلقى العقل الإلهي بحق فهي توجّه الأشياء كلها نحو العدل والسعادة. أما الثانية، تلك التي تتزاوج مع الغباء، فإنها تفعل عكس ذلك تماما.

الخلاصة هي أن الآلهة موجودون، وأنهم يعتنون بالبشر، ولا يغفرون الظلم أبدا، حتى وإن عمد أحدهم إلى استمالتهم بالصلوات والقرابين. أفلاطون يُبرر فورته ضد الإلحاد لأسباب مدنية أخلاقية، ويقول بأنه تكلّم بشدّة ضد أولئك الأشرار، خوفا من أن يفعلوا ما يروق لهم ويعملوا طبقا لتصوراتهم بشأن الآلهة.

المشكلة الكبرى هي أن أفلاطون حينما يَمرّ من النقاش النظري إلى المجال التشريعي العملي ضدّ من لا يؤمن بآلهة المدينة فإنه يقول كلاما قاسيا لا يمكن إلاّ أن يجرح إنسانية الفيلسوف المسالم. إننا لا نناقش هذه النقطة، ونتعجّب أو نأسف، مع ناقدي أفلاطون، كيف استطاع بكل راحة بال أن يُدمج تلك القوانين القسرية واللاإنسانية في محاورة فلسفية: الاستتابة لمن كَفَر بالآلهة، الجَلد في الساحة العامة، السجن التأديبي، القتل ورمي الجثة خارج أسوار المدينة دون دفن، كل هذه القسوة لا مبرّر لها، مهما كانت طبيعة الجناية، ومهما كانت نبالة الأهداف المرغوب تحقيقها.

الفلاسفة اليونانيون، وخصوصا المتأخرون منهم، أعني تحديدا أفلاطون وأرسطو، يُنقدون لا لأنهم نَظّروا لحقيقة ثابتة أو لإمكانية معرفة العالم، أو لتَثبيتهم مُثلا وقيَما تتعالى على الواقع الظرفي والمُتزمّن، بل لبعض أفكارهم التي لا تتماشى مع حِسّنا الإنساني المعاصر، مثل تقسيمهم الهرمي للإنسانية بين يونانيين، هم الأحرار بحقّ، ولا يونانيين هم العبيد بالطبيعة. وحتى في هذه الحالة فإنه لا يمكن التعميم، لأنّ أرسطو ذاته، في كتاب "السياسة"، ذكر جمهرة من المفكرين الكونيّين في عصره عارضوا تأبيد حالة العبودية ودعوا إلى وحدة الجنس البشري والمساواة بين الجميع أمام الطبيعة.

هل اختفى التقسيم الهرمي للإنسانية؟ هل دخل المجتمع البشري في مرحلة مساواة شاملة، ونبذ فكرة التمييز والعنصرية؟ السؤال موجّه إلى ور وأتباعه. إذا تصفّحنا كتاب "المجتمع المنفتح" الذي اعتُبر مانيفستو الليبرالية وإدانة صارمة للطغيان والتقوقع المنافي للإنفتاح الديمقراطي، فسنجد أفكارا صادمة، ومحيّرة مثل قناعته النّخبوية، وتأكيده على وجود أفراد لهم ميزات عالية ترفعهم على مستوى الناس العاديّين. ولا يُغنِي عنه شيئا القول بأن هؤلاء الرجال الخارقين للعادة لا ينبغي عليهم أن يُطالبوا بامتيازات سياسية خاصة: «أودّ أن أعبّر عن اقتناعي بأن السموّ الشخصي، سواء كان عرقيا أو فكريا أو أخلاقيا أو تربويا، لا يمكن أبدا أن يُبَرِّر مطلب امتيازات سياسية، حتى وإن كان ذاك العلوّ شيئا متحقّقا(22)». فعلا تلك النخبوية هي شيء معاين في الواقع على الرغم من أن «الكثير من الناس اليوم في البلدان المتحضرة يُسلّمون بأن العلوّ العرقي هو أسطورة». ور لا ينقض هذه الأسطورة ولا يودّ معارضتها على الرغم من أن الكتاب نُشر في سنة 1942 حيث كانت تعتمل في صلب ذاك العالم الذي أسماه بـ "العالم المتحضّر" جدّا، أفكارا عنصرية تُروّج لفكرة علوّ العرق الآري على ما دونه من الأمم وحقه في ريادة العالم. ور يَكتفي بالقول بأن ذاك السموّ، حتى وإن افترضنا أنه أمر متحقق على أرض الواقع، فهو لا يُحتّم امتيازات سياسية خاصة. ماذا يحتم إذن؟ «مسؤوليات أخلاقية مُناطة بأصحاب الرّفعة. ونفس هذا الخطاب يُقال على أولئك الذين يَتسامون ذهنيا، أخلاقيا وتعليميا(23)». أما الرأي النقيض، أي رأي الذين يُنكرون أي نوع من أنواع التفاضل بين الناس، ويحاولون التمسّك بمبدإ المساواة اللامشروط فإن ور، كعادته في سلاطة اللسان، يتهجّم عليهم قائلا: «أعتقد أن الادعاءات المخالفة، لبعض المثقفين والأخلاقيين لا تبرهن إلاّ على نقصان الجدّية في تعليمهم، نظرا لأن (تعليمهم) لم يُمكّنهم من الوعي بمَحدوديتهم ونفاقهم (فِرّيسيّتهم) (24)».  

2 ـ إبستيمولوجيا التكذيبية:
أرى أن ور لا يلتقي مع هايدغر في التمسّك بأسس الديمقراطية، بل في العداء للعلوم الصحيحة وللعقلانية الوضعية. لقد أثنى على نفسه مدّعيا بأن الفضل في قطع رأس فلسفة الوضعية المنطقية لمجموعة فيينا، يعود إليه هو بالذات. لكن كثيرا من مؤرخي الفلسفة شكوا في هذه المعلومة، فمعارضته لمجموعة فيينا لم تكن من الجدّة والتفرّد بحيث أنها تستحق هذه الإشادة الذاتية. ومجمل نقده كان مركّزا على منهج الاستقراء، وهو الركن الأساسي في منهجية الإكتشاف العلمي. انتقاداتها للاستقراء أفضت به إلى معارضة أي رأي يقول بإمكانية التوصل إلى حقائق علمية ثابتة، وفي هذا الشأن فإن ور، كما قدّمتُ أعلاه، سقط في نفس الشناعة التي لفقها على كاهل أفلاطون. لقد قال: «أنا أستخدم عبارة الجوهرانية المنهجية لوصف التصوّر، الذي اعتمده أفلاطون والعديد من أتباعه، من أن مهمّة المعرفة المحضة أو "العلم" هي اكتشاف وإدراك الطبيعة الحقيقية للأشياء، يعني واقعها الصميمي أو ماهيتها(25)». ربما يكون هذا هو النص المحوري الذي اعتمده فاتيمو في تحليله أعلاه، وهو في حقيقة الأمر يُصوّر ابستيمولوجيا ور العدمية: ابستيمولوجيا ليست فيها يقينيات البتة، وخالية من مطلب الحقيقة. لقد اعترف هو نفسه بهذا المنعرج الريبي المدمّر وقال: «ثمة اتهام آخر كثيرا ما يُوجّه ضدي...أعني اتهامي بأنني ارتيابي»، لكنه لم يفعل شيئا لدحضه، هذا إن لم يعمل على مواصلة ترسيخه بطرق شتّى. الديناميكية العلميّة لا تَسير بحسب نمط تراكمي، بل هي سلسلة لا متناهية من التكذيبات والتكذيبات المُضادّة، إلى درجة أن تاريخ العلم يغدو كما قال جيمس وارد (J. Ward) «مَقبَرة نظريات علمية(26)». ليس هناك يقينيات البتّة وإنما توجد مشاكل مطروحة للحل لا نخلص منها إلاّ إلى مشاكل أخرى وهكذا دواليك: «العلم يبدأ بمشاكل ذات علاقة بتفسير سلوك بعض جوانب العالم أو الكون. الفرضيات القابلة للتكذيب يقترحها العالم من حيث هي تُقدّم حلولا للمشكل. وبعد ذلك يتمّ نقد التنبؤات واختبارها. فسرعان ما يتم اقصاء بعضها بينما يبدو البعض الآخر أكثر نفعا. وهذه الأخيرة ينبغي اخضاعها لنقد أكثر صرامة ولاختبارات. وعندما يتم تكذيب فرضية اجتازت بنجاح جهازا من الاختبارات الصارمة، يظهر مشكل يُؤمَّل فيه أن يكون بعيدا جدّا عن المشكل الأصلي الذي تمّ حلّه. وهذا المشكل الجديد يؤدي إلى صياغة فرضيات جديدة يتلوها النقد والتجريب مجدّدا. ولا يُمكن أبدا أن نقول عن نظرية بأنها صادقة حتى وإن اجتازت، ظافرة، اختبارات صعبة. إنما يمكن أن نقول، دون أن نجانب الصواب، بأن نظرية حالية تتفوّق على النظريات التي سبقتها، بمعنى أنها تستطيع مواجهة الاختبارات التي كذبت تلك التي سبقتها(27)».

لقد صرح ور، وأعاد تصريحه في العديد من مؤلفاته، بأنه استمد قناعته المعارِضَة لما أسماه بالجوهرانية المنهجية من مطالعته العميقة لكتب الفيلسوف الألماني عمانويل كانط، ومفادها أن القوانين العلمية التي يكتشفها العالم ليس لها وجود في الواقع الخارجي وإنما هي مجرّد إسقاطات لقوالب ذهنية إنسانية على الطبيعة، ولا تكشف فعلا عن الأشياء في ذاتها(28). ولكن حتى في هذه النقطة فإن حُذاق القوم من مؤرخي الفلسفة فندوا ادعاءه هذا وبيّنوا محدودية معرفته بالفلسفة الكانطية، والأخطاء التي وقع فيها بخصوص العلاقة بين نيوتن وكانط(29).

ور يُعارض ما أسماه بالجوهرانية المنهجية، أي تلك النظرية التي ترى أن مهمّة النشاط العلمي هي الكشف عن الماهيات ووصْفِها عن طريق تعريفات ثابتة، بنظرية أخرى في الطرف النقيض منها، أي بما دعاه "الإسمية المنهجية": «عوضا عن إرادة اكتشاف ماهية الشيء الواقعيّة وتعريف طبيعتها الحقيقية، الاسمية المنهجية تضع هدفها في وصف كيفية تصرّف شيء ما في ظروف مختلفة، وخصوصا، معرفة هل هناك انتظام في تصرّفه. بعبارة أخرى، الاسمية المنهجية ترى أن مهمّة العلم هي توفير وصف للأشياء والحوادث التي تقع تحت تجربتنا واعطاء "تفسير" لتلك الحوادث، يعني رسمهما بمساعدة قوانين كلية. وهي تعتمد على نظام لغتنا، وخصوصا على القواعد اللغوية التي تميّز الجُمَل وتبيّن الاستنباطات المستَخرَجة بدقة من مجرد كومة بسيطة من الكلمات، من حيث أنها الوسيلة الكبرى للتفسير العلمي، فالكلمات طبقا لهذا الطرح تغدو وسائل مساعدة مرتبطة بهذه المهمة، عوضا عن أن تكون أسماء ماهيات(30)».

إذن، عوضا عن الأحداث العينية ومحاولة استقرائها عن طريق الملاحظة والتجربة، الباحث عليه أن يكتفي فقط بالوصف التقريبي مستخدما الكلمات المجمع عليها، لأن النظريات العلمية هي مجرد اصطناعات اعتباطية مفروضة من طرف الذاوات العارفة، ومحدودة بنظرتهم للعالم، وهي على كل حال نظريات في طريقها إلى التكذيب، وإن لم تكن قابلة منذ البداية للدحض والتفنيد فهي ليست بنظريات علمية: مجرد استيهامات خارجة عن مجال العلم، وبالتالي فهي إيديولوجيا مثل الماركسية أوالتحليل النفسي أو الداروينية.

إن هذه العدمية النظرية، التي اخترقت تفكيره والتي أدت به إلى التشكيك في مطلب الحقيقة العلمية، هي من بين الثوابت الجوهرية في تنظير ور إلى حدّ أنه سَحبها حتى على الفلاسفة اليونانيين القدامى وقرأ على ضوئها تاريخ الفلسفة برمّته. ثم، كعادته، فإنه تحيّز إلى الجانب الذي يوافق مساره الفكري ويتماشى وخياره اللاعقلاني. لقد أعجبه من سقراط خطابه الذي جاء في محاورة "الدفاع" حيث يقول: «الحقيقة هي أن الإله وحده هو الحكيم، وأنه يقصد بإجابته أن يبيّن أن الحكمة الإنسانية قليلة أو معدومة القيمة. عندما تكلّم عن سقراط، فقد استعمل اسمي على سبيل المثال، كما لو أنه قال "إن أحكمكم هو مَن، مثل سقراط، يعلم أنه بالمقارنة مع الحكمة الحقيقية، فإن حكمتكم لا قيمة لها(31)». أو الأخرى التي أوّل فيها قولة العرافة بأن سقراط أعلم من الآخرين لأنه "يعرف أنه لا يعرف".

لكن هذا القول لا يُبرهن على أن صاحبه يَتبنّى مواقف ريبية تامّة، لأن سقراط يَعلَم الكثير من الأشياء ومتيقن منها، أو على الأقلّ مُتيقن من عدم معرفته (لا آخذ بعين الاعتبار اعتراضات سقراط ضد طبيعيات أنكساغور). المثال المضادّ لور يُمكن استمداده من أقوال سقراط الصريحة، حسب ما أورده عنه أفلاطون في محاورات الشباب، حيث يتبنّى هذه الحقيقة الأولية التي شيّد عليها كل فلسفته: الفضيلة هي العلم. ما كان لسقراط أن يتفوّه بهذا القول وأن يَصمد على فكرته هذه لو أنه فعلا تشبث بمدإ "أنا أعرف أنني لا أعرف". فعلا، لو لم يكن لديه يقين تام بأن هذه الفكرة تُعبّر عن حقيقة أوليّة لأصبحت حياته برمتها كارثة: بما أنه جاهل فهو فاقد للفضيلة، وبالتالي فإنه فاقد لأسباب السعادة. كيف يمكن إذن أن يكون سقراط، مقتنعا بامتلاك كليهما (الفضيلة والسعادة) وهو لا يعرف شيئا؟

أنا متأكد من أن سقراط ليس هو بالصورة العدمية التي رسمها له ور، فهو على الأقل يمتلك حدّا أدنى من اليقينيات التي لم يَتخلّ عنها طوال حياته، والبعض منها كان محدّدا في مسار حياته الفكرية والعملية، مثل اقتناعه الشديد من أنه لا يعرف الأشياء الغيبية، ولكنه بالمقابل فهو يملك معرفة إيجابية مبنية عن قناعة صادقة، ومفادها أن: «الجور والتمرّد على مَن هو أفضل منّي، إن كان إلاها أو إنسانا، هو أمر خبيث وشرّير (الدفاع، 29 ب 6 ـ 7)». وكما يُعلّق فلاسطوس (Vlastos) أحد إختصاصيي الفلسفة القديمة: «هذا المقطع فقط، منظور إليه في جوهره، قد يكون كافيا للبرهنة على أن سقراط يَنسب لنفسه مَعرفةَ حقيقةٍ أخلاقيةٍ ما(32)». لكن ور افتتن بالأطروحة النقيض، أي باعتراف سقراط بالجهل، على الرغم من أن الفيلسوف اليوناني اعتبر حالة من هذا القبيل منبعا للشرّ في الإنسان، وحائلا دونه ودون تحقيق الفضيلة ونيل السعادة.

لقد جعل ور من هذه الأطروحات التشكيكية في قدرة الإنسان المعرفية محور فلسفته، وسنرى كيف أنها أنقذته، في نهاية المطاف، من مفاراقات عَمَلية وسياسية رهيبة. فعلا، حسب رأيه: «حَدسُ سقراط حول لا معرفتنا... له معنى عظيم(33)». ولكن أوّل مَن همّش الحكيم وخرج عن طاعته، هو تلميذه أفلاطون الذي «تَخلّى عن أطروحة سقراط حول عدم معرفتنا، وعن ضرورة التحلّي بالتواضع الفكري، الذي نصح به سقراط. فسواء بالنسبة لسقراط أو أفلاطون، كلاهما يفترضان في رجل السياسة أن يكون حكيما، لكن "حكيما" يعني لكل منهما شيئا مختلفا للغاية. فحكيم بالنسبة لسقراط يعني أن رجل الدولة يجب أن يكون واعيا بلامعرفته، بالنسبة لأفلاطون يجب أن يَتمَرّن بعمق وبأعلى درجة: يجب أن يكون فيلسوفا متمرسا(34)».

إذن، الكل يُرَدّ إلى مواقف شخصية، والنصيحة هي ضرورة التحلي بروح التواضع في ادّعاء المعرفة. فنظرية العلم بالنسبة لور لا ينبغي أن تتموقع في حقل النظر المتفائل، أي تلك التي تزعم قدرة الإنسان على معرفة العالم، ولا هي من باب التشاؤم، أي عدم إمكانية المعرفة إطلاقا، مثاله الابستيمولوجي يكمن بين الطرفين، ولكنه منحاز إلى الجانب الريبي التشاؤمي أكثر منه إلى الجانب المتفائل. لقد عبّر عنه، حسب زعمه، فيلسوف يوناني عاش منذ ألفين وخمسمائة عام، وهو كسينوفان الذي قال: لا نملك أي معيار للحقيقة، أية معرفة أكيدة، ومع ذلك نستطيع البحث، وبمُرور الزمن يمكننا أن نعثر على ما هو أفضل.

كما يلاحظ القارئ، ور يتفادى ذكر كلمة الحقيقة بمعناها الإيجابي، لا يقول بأن بعد البحث نحصل بالفعل على حقيقة ما، بل على ما هو أفضل، لا ندري أفضل من ماذا، وهل هناك معيار موضوعي نقيس به الأفضلية. من الواضح، كما يقول أحد الفلاسفة الإيطاليين، أن باتّباع منهج بحث من هذا القبيل «فإنه لا مكان اطلاقا حتى لفكرة الوصول إلى "اكتشاف" يَخلص إلى معرفة علمية(35)».

لستُ أدري ماذا تُقدّم هذه الابستيمولوجيا من مواساة للباحث، وهل أنها تبثّ في العارف روح الفضول النظري والإقدام على دراسة الطبيعة إن وَضَع في ذهنه مسبقا، أنه متعذر عليه الحصول على حقيقة ثابتة. البديل الوحيد الذي يقدّمه صاحبنا على أنقاض القناعات العلمية، هو الاعتباط الشخصي، أو على أحسن حال التخمين الذي لا يصل إلى نتيجة نهائية. منطوقات الملاحظة، أو ما يمكن تسميته بالقاعدة الامبيريقية التي يُبنى على أساسها أي تنظير علمي، هي نفسها يعتريها الاعتباط «إن قبولنا للمنطوقات الأساسية يترتب عن قرار أو اتفاق، وبهذا الاعتبار تكون هذه المنطوقات مواضعات». وهذه الصفة التي يضفيها على العلم قد شدّت انتباه النقاد الذين رأوا فيها نوعا من التناقض مع المقدمات. يقول شالمرز: «إن الاهتمام الذي يُوليه ور لقرارات الأفراد الواعية، لَيَحمِل عنصرا ذاتيا في تضادّ مع الصفة اللاحقة التي سيخصّ بها العلم واصفا إياه بأنه: "فعل من غير فاعل"(36)».

رغم كل الضمانات التي حاول تقديمها، فإن نتائج الاكتشافات العلمية، بالنسبة لور تبقى، على كل حال، نسبية بل إن العلم ذاته هو بناء وهمي بلا قرار: «إن القاعدة الاختبارية للعلم الموضوعي لا تشتمل، إذن، على أي شيء مطلق. فالعلم لا يقوم على قاعدة صخرية صلبة. فالبنية الجريئة لنظرياته قائمة، إن شئنا، على مستنقع. إن العلم كالبناء المشيّد على أوتاد، والأوتاد مغروزة في مستنقع، دون أن يصل انغرازها إلى حدّ اتصالها بقاعدة طبيعية ما، أو "بمعطى" ما. وإذا كنّا نكف عن غرزها أكثر، فليس لأننا مقتنعون بأنها من الثبات بحيث تستطيع حمل البناء مؤقتا على الأقلّ(37)».

أليست هذه قمّة التشكيك في المكتسبات العلمية؟ ألا تُجهز على قيمة العلم وتفتح المجال أمام جميع أصناف الشطحات اللاعقلانية؟ يكفي مراجعة التاريخ لكي نتأكد من أن أطروحة ور مثلت دائما قارب النجاة لكل التيارات الفكرية المؤمنة، ومنتسبيها من الفلاسفة المسيحيين في عصر انتشار الفلسفة الوضعية التي سادت القرن التاسع عشر. لقد حاولوا التصدي للحقائق العلمية ومعاندة الروح الوضعية المصاحبة لها، لغرض إنقاذ التعاليم الدينية وتأمين ترسانتها الأسطورية من الاندثار النهائي، متحصّنين وراء السفسطة التي ترى أن العلم لا يملك أيّ أساس موضوعي، وقوانينه إما أنها اسقاطات ذاتية على الواقع، أو هي مجرد وصف للظاهر دون النفاذ إلى جوهر الأشياء. ويكفي الاطلاع على أطروحات معاصريه من أمثال بوانكاريه (Poincaré)، ميلهو (Milhaud)، دوهيم (Duhem) وبرغسون وغيرهم حتى نتأكد من ذلك. لقد تفطّن آنذاك الفلاسفة العلمانيون إلى البُعد الجدالي الديني من أطروحات أولئك المفكرين، وجابهوهم على الأرضية النظرية أوّلا، فالعَمَلية ثانيا. وقد انصبّ نقدهم على تصوراتهم للنشاط العلمي، خصوصا الفيزيائي حينما أدخلوا فيه عنصر المواضعة، واختزلوه إلى مجرّد انشاءات حرة لنسق رياضي منسجم لا علاقة له بالواقع الطبيعي. فهذا دوهيم مثلا يقول بأن: «في الفيزياء من المستحيل ومن غير المُجدي لنا معرفة التكوين الحقيقي للمادة. نحن نحاول فقط انشاء نسق مجرد يعطينا صورة عن خاصيات الجسم». لقد أشار آبل راي (Abel Rey) في مراجعته النقدية لأفكار دوهيم أن تعريفاته للطاقة، لكمية الحرارة، للتغيرات الديناميكية، مُقدَّمة من قِبَلِه «كما لو أنها مواضعات مُنزّلة اعتباطيا من طرف الذهن، دون أن يرجع هذا الأخير إلى التجربة(38)».

فمصادرات الديناميكية الحرارية، مبدأ حفظ الطاقة، ومصادرة كارنو (Carnot) أدخلها في تصوراته الفيزيائية كما لو أنها مُستنتَجة تحليليا من هذه المواضعات العامة. المصادرات والتعريفات تنتظم على شكل سلسلة من المعادلات الرياضية ولكن دوهيم، كما يعترض ناقده «لا يُقدّم أبدا ـ ويجب التأكيد على هذا، فهو القاعدة ذاتها للتصوّر العلمي بالنسبة لعالِمِنا هذا ـ التعبيرات الرياضية التي يقترحها على أنها تفترض كمّيات واقعيّة مُستمَدّة من طبيعة الأشياء، كضرورات مفروضة من بنية الموضوع(39)». العلم الحقيقي تردّى إلى قوالب رياضية فارغة أو، كما وصفها راي (Rey)، أصبح مجموعة من الإطارات ذات الأحجام المختلفة لِلَوحات يَضعُها الرسّام على جهة، ريثما يُصوّرها في وقت لاحق(40). إنه أمر غريب أن تؤول مُجمل القوانين الفيزيائية والنظريات العلمية إلى شكلانية فارغة دون أن تأخذ بعين الاعتبار التجربة والواقع الخارجي. فنظرة دوهيم للنشاط العلمي تتنزل في إطار استحداث قوالب صورية يلعب فيها الاعتباط الدور الرئيسي، بل هو مركزها ونقطة تمفصل عناصرها: «المَسلَك المُتّبَع يعتمد فقط على المواضعة، والمواضعة تعتمد على اختيار العالِم(41)». لقد وجد الرجل نفسه في مأزق لأنه قال بأن هذا الإعتباط الذي يلف الفرضيات الأولية لا يعني السقوط في التناقض، إنه اعتباط عقلاني، دون خلف ودون معضلات. لكن الاعتباط موقعه في نقطة البداية، في رأس النسق، من حيث الاختيار الحرّ، فقط بعد الانتهاء من انشاء النسق ذي المقدمات الاعتباطية يُسمح بمقارنة النتائج بالتجربة. إنها مجرد شكلانية رياضية "formalisme mathématique"، هذا هو النعت المناسب لنظريات دوهيم، شكلانية انحدرت إلى مستوى لعبة رموز رياضية خالية من أي مضمون تجريبي. لكن دوهيم يزعم بأن في نهاية هذه العملية، يتم الرجوع إلى الواقع العيني للتحقق، قدر الإمكان، من مدى اقتراب النسق الرياضي المجرد منه. الاعتراض هو: ما المغزى من استحداث شبكة اعتباطية من الرموز المجردة تضاعف مجهود العالم عوضا أن يكتفي بالمرجعية التجريبية؟

قاعدة التكذيب التي استحدثها ور هي خلف لا يفيد في شيء: فعلا لقد أنزل هذه القاعدة المابعدية على تاريخ العلم، بصورة غير مشروعة، بحيث أنه سقط في دور منطقي وخلف زمني. لا يمكن للنظريات أن تُكَذب بكيفية مُقنِعة، لأن منطوقات الملاحظة التي تشكّل قاعدة التكذيب، يُمكن أن تغدو هي نفسها خاطئة في مرحلة تالية. فالمعرفة السائدة في عهد كوبرنيك، لا تسمح بنقد وتكذيب استقرار الأبعاد الظاهرية لكوكبي المريخ والزهرة، ولذلك، فإن التكذيبات المُقنِعة «لا يمكن أن توجد، لكون قاعدة الملاحظة المضمونة التي تتوقف عليها، غائبة(42)». ولو كانت صادقة أطروحة ور في التكذيب، لتخلى العلماء منذ الوهلة الأولى عن حساب التفاضل والتكامل في الرياضيات، إثر النقد المدمّر الذي وجهه إليه باركلي، ولتخلوا أيضا عن نظرية نيوتن، لكونها لا تستطيع تفسير ظاهرة تزحزح مسار كوكب عطارد. بل لو كان التطوّر العلمي يسير طبقا لقواعد بوبر لَما كتب الفيزيائي بُوهر (Bohr) مقاله لسنة 1913، نظرا لأن خلاصته مبنية على النظرية الكهرومغناطيسية لماكسويل. النتيجة التي نستطيع استخلاصها من تاريخ العلم تَذهب رأسا ضدّ مبدأ التكذيب، وهي أنه يُمكن لأي نظرية علمية ما، أن تكون، دائما، في مأمن من التكذيب، وذلك بتحريف اتجاه التكذيب نحو جزء آخر مختلف تماما من أجزاء عقدة مركّبة من الفرضيات(43).

التكذيب محال، كما قال لاكاتوس (Lakatos): فهو اصطناعُ أنساق اعتباطيّة على شكل أَسِرّة بروكوست لإرغام الواقع وتطويعه: إنه صيغة جديدة من التحالف المقدّس بين اللاعقلانية البراغماتية لجيمس (James) وإرادوية برغسون، حتى وإن راوغ صاحبه وأراد الجمع بين الأداتوية، أو المواضعة، وبين ضرورة التجريب(44). في نسق من هذا القبيل، وكما بينّا من قبل بخصوص مُواضعية دوهيم، التجريب لا يلعب أي دور حاسم، فالعامل الأول والأخير هو الإرادة الحرّة والاعتباط الشخصي. هذه الأطروحة تُجمّع في ذاتها كلّ العناصر الايديولوجية التي تقف عليها التيارات اللاعقلانية في الفلسفة الفرنسية، وور تبنّى خلاصتها، وعرَضها علينا كما لو أنه أتى بالشيء الجديد. لم يحدس الأمر على حقيقته آنذاك إلاّ راسل (Russell) الذي لخّص نقده للتيار اللاعقلاني، بقوله أنه بقدر ما تَصعد الإرادة في سلّم القيم بقدر ما تنزل المعرفة. هذه، حسب رأيه، هي أبرز التغيّرات التي طالت طبيعة الفلسفة في وقتنا الحالي.

إن جوهر النشاط العلمي عند ور ـ كما قلت سابقا ـ يَغيب فيه مطلب الحقيقة تماما، ومعيار الفصل بين العلم واللاعلم الذي زعم تقديمه، يبدو، كما وصفه لاكاتوس، أفقر من كل المعايير السابقة. فمعظم العلماء منذ القديم يرون أن غاية العلم هي معرفة نظام الكون، وكل اكتشاف جديد هو لبنة تُوضَع في صرح المعرفة، وخطوة موصلة إلى الهدف أي امتلاك معرفة حقيقية بالعالم. لكن ـ يتساءل لاكاتوس ـ «ما هو هدف "لعبة العلم" عند ور؟» لعبة العلم، كما هو معروف من خلال منهج الاستقراء، مرتبطة شديد الارتباط بالهدف المعرفي وتابعة له. إلاّ أن «في فلسفة ور هذا الرباط يبدو أنه قد كُسِر. فقواعد اللعبة، والمناهج، تَسِير بِأرجُلها إلى الأمام، لكن هذه الأرجُل تتأرجَح في الفراغ دون سند فلسفي(45)». لقد حلّ معضلة الفصل بين العلم واللاعلم بضرب منهج الاستقراء، مدّعيا أن اللعبة، لعبة العلم، خالية من أي هدف، فهي لعبة مكتفية بذاتها، بحيث عوّض الطموح الحقيقي الذي يصبو إلى غرض معرفي ما، بمجرّد الأمل في أن تكون الأشياء على هذه الشاكلة.

منطق الاكتشاف العلمي عند ور هو أن نَتعلّم المنهج ثم بعد ذلك نُزاول البحث العلمي، لكن ـ يعترض أحد المفكرين ـ لو أن هذه السيرورة حَكمَت تاريخ العلم لمَكثنا إلى الآن في عهد ما قبل سقرط نقرأ كُتبهم على ضوء قنديل. أما التكذيب فهو استيهام مصطنع ليس لديه علاقة بتاريخ العلوم: أإن شاهدتُ غرابا أبيض فهل يجب عليّ أن أتخلّى نهائيا عن القانون الذي ينصّ على أن جميع الغربان سوداء؟ كل المفكرين المحدثين اصطدموا بهذه القاعدة التي ابتدعها ور وجابهوه على أساسها: ليس من الضروري أن تؤدي التجارب التي لا تُدعّم نظرية ما، إلى مَحوها أو اضمحلالها بالكامل. فالنظرية تبقى صالحة في حدود معيّنة بحسب التقريبات الأوليّة، والنظرية الجديدة تضمّ تلك السابقة بفرضيات إضافية. فنظرية الجاذبية لنيوتن وقع تكذيبها من طرف النسبية والفيزياء الكمية، ومن أطياف أخرى من النظريات الحديثة، لكنها باقية دائما، ولا أحد يدرس سقوط حجر مستخدما النسبية أو نظرية الكمّ. في مجال نظرية الضوء، التجربة المُكذِّبة يمكن أن تكون اكتشاف التداخل الضوئي سنة 1802، حيث أن هذه الظاهرة لا يُمكن تفسيرها عن طريق افتراض الجسيمات. إلاّ أن هذا التكذيب لم يَدحض تماما افتراض الجسيمات وإلاّ لما أمكن تفسير المفعول الفوتوني ونظرية آينشتاين. السؤال إذن «هل نُكذِّب المُكذَّب؟ أندخل في سلسلة لا متناهيات من التكذيبات والتكذيات المضادّة؟». التكذيب، على كل حال، إن حُمل على مَحمل الجدّ، فسيغدو قفصا سجّانا لعقل الباحث، لا يُساعد أي أحد على التقدّم، فهو شكل من أشكال المُسلمات الميتافيزيقية التي تعوق البحث العلمي الحرّ، لأنها مصاغة على شكل تعاليم عقائدية غير قابلة للمناقشة والدحض، وهذه هي عماد كل المعتقدات الدينية. ور، حسب أحد نقاده(46) ـ يرسم صورة خيالية للنشاط العلمي ويَهجم على كل من لا يشاطره الرأي. ليس هناك نظرية علمية مكتملة ومستنفذة لكل الظواهر. هناك تراكم معرفي وتقدّم مستمرّ يسدّ الثغرات ويزيد من معرفتنا بالعالم: إنها جدلية متواصلة بين مُنظرين رياضيين وتجريبيّين دون أن تكون محصورة مسبقا في بوتقة من المخططات الثابتة. انظر إلى هذه الخدعة في الزعم بأن التكذيب يُفيد اليقين أو شبه اليقين على عكس التحقّق الذي يفيد اللايقين: التكذيب يعني مجابهة اعتراضات لامتناهية في الوقت الذي يكون فيه التحقّق محدودا بعدد معقول من التجارب. يكفي لتفنيد أطروحة ور اعتبار منهجية ماكس بلانك ومنهجية آينشتاين في التنظير الفيزيائي، وإن طبّقنا على منهجيتهما قوالب ور فإننا سندحر كل واحد منهما في كوكب على حدى. لكن التفاعل بين المنهجيتين المختلفتين جذريا كان من الأهمية بمكان ومكّن من اكتشاف قوانين ونظريات علمية وسّعت بصورة رهيبة في نصف قرن من أفقنا العلمي. كوهن يلاحظ بأنه لو وجب التخلي عن كل النظريات العلمية لأجل فشلها في تفسير بعض الظواهر لوجب التخلي عن كل النظريات العلمية السائدة حتى الآن. إنها كارثة نظرية تحمل في ذاتها بذرة كوارث لا يمكن تصوّر خطورتها، لن ندري كيف نتحرّك وما السبيل الذي ينبغي أن نسلكه: أوّل هذه الكوارث وأخطرها هو المنعرج اللاعقلاني الذي يَنجرّ أصلا إما منه أو من ردّات الفعل الأكثر لاعقلانية التي تحاول نقضه. وليس من سبيل الصدفة أن جمهور الليبراليين متعلقين به كمعلّم بارع في ضرب العقلانية وإعادة الاعتبار للميتافيزيقا، وكل ذريعة ممكنة لتأصيل مجتمع منفتح على المتاجرة والصّفقات اللصوصيّة(47).

ابستيمولوجيا ور ليست بالشيء الجديد على الساحة الفلسفية لقد سبقه إليها إرنست ماخ الذي يرى في القوانين العلمية مجرّد اقتصاد في التفكير وبأن الظاهرة التي لا تخضع للادراك الحسي فهي غير موجودة، الشيء الذي أداه إلى نكران وجود الذرّة. العالَم طبقا لهذه النظرة يُصبح لمحات تَظهَر وتختفي دون استقرار، وور عن طريق خطاباته المطوّلة يحاول استعادة هذه الابستيمولوجيا العدمية وفرضها على الساحة الثقافية بالتركيز على سلبيات التجربة المحضة كما فعل من قبله أفيناريوس (Avenarius).

لقد طرح أحدهم على ور تكذيب طلوع الشمس. هل إنني كل صباح أنتظر عدم طلوعها لكي أقول بأن الظاهرة صحيحة علميا لأنها قابلة للتكذيب؟ هذه كارثة حقا، إنها نفق لا يمكن الخروج منه ولا العودة إلى الوراء. هذا هو ور فيلسوف عصرنا، كما يقول أحد الفيزيائيين المعاصرين، إنه مرآة تعكس ذاك الصنف من الشهرة المبنيّة على مجرّد استيهامات وخدعة «انتصار الجهل ومن يختفي وراءه لكي يستطيع القول: "حتى أنا لدي شيء أعتقد به"... تَمَعّنوا بُرهة من الزمن وسترون الاعوجاج الذهني للشخص الذي يقول أشياء من هذا القبيل. إنه نتاج الامبراطورية النمساوية في طور انهيارها، إنه بروز نظام عالمي جديد أفقد ور أرضية صلبة للتفكير(48)». 

3 ـ ابستيمولوجيا مؤدلجة:
المؤكد جدّا هو أن ور يرفض، بل يُدين بشدّة العقلانية المكتفية بذاتها، ويقول بالحرف إن «اللاعقلانية هي منطقيا أرقى من العقلانية اللانقدية(49)»، ولقد توصّل إلى هذه النتيجة عن طريق حفنة من السّفسطة، مُقدّما صورة خيالية لعقلاني لا وجود له في الواقع، أي عقلاني دوغمائي يَرفض مناقشة آرائه أو مراجعتها وتفنيدها. ليس من الصعب جدّا تحطيم نموذج إنسان من هذا القبيل، لأنه معدوم الوجود ولا يعدو أن يكون مجرد وَهمٍ مُختلق كلّه.

والغريب في الأمر أن ور يعمد، في كثير من الأحيان، إلى هذه التقنية دون التفطّن للخلف الثاوي وراءها: أعني نقض كيانات مصطنعة من محض خياله، مثل نقضه لنموذج التاريخانية الخاوية، كما هي خاوية النماذج المثالية التي قال عنها ماكس فيبر بأنها مجرد طوباوية. السؤال هو، هل من المناسب أو من المجدي علميا، أن يُشمّر أحدهم للبرهنة على بؤس شيء طوباوي، شيء لا مَكان له في العالم؟ ليس هناك من وضعية ملائمة ومريحة، كتلك التي يُقدِم فيها شخص ما على دحض أشياء لا وجود لها. لكن الرجل حتى في هذا الشأن، ومع كل التناقضات، فإنه لم يفلح ـ كما حدث له مع أفلاطون ـ وسقط في نفس الفخ الذي أراد الخروج منه: لقد رفض أن تكون كتابة التاريخ لها زاوية مُبجّلة تُرصَد من خلالها موضوعية الأحداث، لأن العامل الشخصي واختلاف وجهات النظر الذاتية متكافئة، وبالتالي لا يمكن دحضها أو تفضيل إحداها على الأخرى بسبب درجة اقناعها. الخيارات المنهجية تعود، في نهاية المطاف، إلى محض إرادة الباحث وإلى رغبته الشخصية في إضفاء التاريخ معنى يختاره هو نفسه. لكن «أليست مفارقة هذه النتيجة (Ma non e paradossale questa conclusione?)» ـ يَصرخ أحد المُفكّرين الإيطاليين ـ «أليست مفارقة أن نقدا للتاريخانية، وبالتحديد في أكمل أشكال تطوّرها التي يريد ور أن يعرضها، تؤول إلى واحدة من أكثر الأطروحات كلاسيكية للتاريخانية، أي النسبيّة المنهجية؟(50)».

تناقضات وخلط منهجي، علاوة على نعوت مُحقرة للفلاسفة مثل وصفه فيخته بأنه ثرثار، وهيجل بأنه مُهرّج(51). ليس هذا فقط، بل عند ور نجد أيضا تنطّعات فلسفية وأخطاء تاريخية تصل إلى حدّ التزوير. لقد قال بأن أفلاطون هو أول من نَظّر للمعتقلات ("النازية")، ثم هجم على هيجل متهما إياه هو أيضا بأنه رأس الديكتاتورية والاستبداد، وبأن الهيجلية هي إحياء للقبلية(52). لكن، علاوة على ضعف براهينه، فإن الرجل حينما يسبح في الوقائع التاريخية، فهو يَغرق في الأخطاء أو العموميات. في كتابه "المجتمع المنفتح" نقرأ أن بَعد اجتياح نابليون لألمانيا «الشعب نادى بإصلاحات ديمقراطية طبقا لتصورات روسو والثورة الفرنسية، لكنه كان يريد اكتسابها دون المحتلّين(53)». من الصعب جدّا ـ يعترض المؤرخ الفيلسوف لوسوردو (Losurdo) ـ التعرّف، من خلال هذا الوصف، على المقاومة الألمانية ضد نابليون، حيث أن أصحابها لم يُفرّقوا بين نابليون والثورة الفرنسية التي اعتبروها منتوجا غريبا عن ثقافتهم، بل سببا لنكبة ألمانيا(54). لكن أشدّها على المؤرخ هو قوله بأن الشعب في ألمانيا ثار ضد أمرائه، وفي الوقت نفسه، ضد الإمبراطور. عن أي شبح ثورة ألمانية يتحدّث هنا؟ ومَن هم الأمراء الألمان المُطَاح بهم؟ المؤرخ يستغرب من هذه التخريجات لأنها، في الواقع، تشويه لحرب التحرير الألمانية (Befreiungskriege)، التي من المفروض أن يكون معروفا جانبها التبريري للحكم البروسي.

وفي موضع آخر يواصل ور قائلا بأن «القوميّة الحديثة كانت، رغم غرابتها، في الفترة الوجيزة قبل هيجل، معتَقدا ثوريا وليبراليا»، لكن هيجل هو الذي قاد القومية إلى مجال الشمولية. هذه لخبطة واضحة، يكفي كما يقول لوسوردو، أن تكون لدينا معرفة حتى سطحية بالتاريخ السياسي لتلك الحقبة، لكي ندرك أن الأشياء هي في الطرف النقيض. في فترة المقاومة ضد نابليون، الحركة القومية، رغم مشروعية أهدافها، كانت تحمل عنصرا رجعيا من خلال معارضتها لقيم الثورة الفرنسية، والإعلاء من شأن القرون الوسطى والجرمانية القديمة، إضافة إلى مشاعر الكره الضغين للفرنسيين الذي وصل إلى حد العنصرية. ولم تكتسب الحركة القومية طابعا ديمقراطيا ثوريا إلاّ في العقود اللاحقة. يكفي استحضار ثورة 1848 التي اندلعت على أساس التحركات القوميّة في ألمانيا، وإيطاليا، وهنغاريا. إذا سايرنا حكم ور، فإنه يجب علينا شجب الثوري روج (Ruge) في ألمانيا، وبعده ماتزيني (Mazzini) وغاريبالدي (Garibaldi) في إيطاليا وآخرين غيرهم، أي الحركة الديمقراطية القومية في تلك الفترة، واعتبار ملك بروسيا، إمبراطور النمسا، وتزار (Zar) روسيا ديموقراطيين ومعارضين للاستبداد.

هذه ليست مبالغة، يؤكد لوسوردو، بل هي التتمّة الضرورية لتفكير ور، الذي يرى أنه من الواجب التخلص نهائيا من "القبليّة" الثاوية في الحركة القومية، والتأكيد بكل وضوح أنه ليس الشعب هو الذي يحدد الدولة، بل إن الدولة هي التي تحدّد الشعب. فعلا، الشعب حسب ور هو «عدد من الأشخاص يعيشون أو ولدوا في دولة ما(55)». لكن، من وجهة نظر تاريخية، هذه هي الحجة التي تشبث بها الشوفينيون الألمان حتى بعد 1848 لكي يرفضوا استقلال بولونيا، وبعد سنة 1871 لرفض حق الحكم الذاتي لسكان ألزاس ولورين في فرنسا. «برَفضه لمفهوم الشعب الذي، بعيدا عن أن يشكّل واقعا تاريخيا ـ ثقافيا، يتم تحديده فقط عن طريق الدولة، ور يُبدي نزعة "دولية (statalismo)" أخطر من تلك التي يَعيبها على هيجل(56)».

لكن المآخذ على ور لا تنتهي عند هذا الحدّ، وقد عدّد لوسوردو نزرا من الأحكام والتحليلات الأخرى الواردة في كتاب "المجتمع المنفتح" والتي وصفها بأنها "متهوّرة (stravagante)": منها مثلا حينما استشهد برسالة لفيخته، تَحدث فيها عن لقاء بين آدم مولر ونابليون. لكن هذه المقابلة لم تحدث إطلاقا. إمبراطور الفرنسيين يجهل وجود هذا المثقف، وهذا المثقف هو بدوره ما كان يرغب في مقابلة رجل يعتبره عدوّ المسيح. لقد خلط ور بين آدم ميلّر والمؤرخ يوهانس فون ميلّر، ومن المحتمل أنه لم يفهم معنى تصريح الإنجليزي أندرسون حول منشأ القومية في بروسيا بحيث أنه نَسبَ إلى المفكّر السياسي آرند في الفترة السويدية مشاعر مناهضة للجرمانية. لكن في حقيقة الأمر، الوثائق تثبت أن آرند هذا وبالتحديد في الفترة التي قضّاها بالسويد (كما يترائى من خلال رسائله إلى فيليب شفيرين) مشغول بالدفاع عن كرامة بلاده ضد الإحتلال الفرنسي والخونة الألمان المتعاونين مع المحتلّ. آرند يخجل، ليس من كونه ألمانيا، بل من كون ألمانيا تمّ اخضاعها بالقوة من طرف نابليون، وهو شيء لا دخل له بمشاعر مناهضة للألمان.

ور ينسب أيضا إلى كلاوسفيتس الأطروحة الشهيرة التالية وهي أن "الهجوم هو أنجع وسيلة للدفاع"، إذا كانت فعلا شهيرة هذه الأطروحة فإنه من النافل الإحالة على النصوص. لكننا لا نعثر إطلاقا عند كلاوسفيتس على أي أطروحة من هذا القبيل، بل إننا نعثر على عكسها، أي أن جيشا يحارب فوق أرض بلده للدفاع عن استقلاله له في صفه امتياز ستراتيجي. وبهذا المعنى فإن «حالة الدفاع هي شكل من أشكال الحرب أقوى من الهجوم».

وحتى عندما لسنا بحضرة أخطاء تاريخية وأحكام متهورة فإن ور يعمد إلى تقنية انتزاع الأفكار من سياقها التاريخي. لوسوردو يقول بأن ور وضع على حساب النزعة الحربية لهيجل الإشادة باختراع البارود، والتي في الحقيقة لها معنى مناهض للفيودالية وبالتالي فإن قبل هيجل كان قد أشاد بها كتاب فرنسيون مثل كوندرسيه إلخ، في الوقت الذي أدان فيه هذا الإختراع كتاب رومنطيقيون لديهم حنين للعهود القديمة، أو مُتَغنّين، مثل شليغل، بالفرسان الألمان وبحسّهم الفردي وشجاعتهم، التي لم يقع تكتيلها والقضاء عليها إلاّ باكتشاف الأسلحة النارية(57)

4 ـ نقاط الإلتقاء بين الفيلسوفين:
لقد أسقط ور نظرته العدمية هذه على مسار الفلسفة اليونانية، كما قلتُ سابقا، وقرأ تاريخيها على أساس أنه تراجع عن البذرة الأولى التي زرعها الفلاسفة السابقون لسقراط. وفي هذا المجال يلتقي هو وهايدغر في نقطة موحدة، أعني النظرة إلى تعاليم الفلسفة اللاحقة على أنها ديناميكية تقهقر، وانفصال عن مواقف كانت رائدة وسبّاقة في ابداع نظريات متقدمة، وهذه الحقيقة توصّلا إليها هما (ور/ هايدغر ) في القرن العشرين.

في كتاباته الأخيرة عمد إلى التلطّف نوعا ما بأفلاطون حينما اكتشف أن هذا الأخير في محاورة "طيماوس"، نفى اليقين العلمي عن المباحث الطبيعية واعتبر القوانين المستمدة منها، في أحسن الحالات، مُجرّد آراء شبه حقيقية، خالية من اليقين العلمي وغير معبرة عن حقيقة الأشياء في ذاتها(58).

لكن بعد سقراط وأفلاطون، لم يَبق من المدافعين عن حصون العقل، والمتفائلين بالعلم البرهاني وإمكانية التوصل إلى حقيقة ثابتة في ميدان البحث الطبيعي إلاّ أرسطو. لقد دَشن هذا الأخير قطيعة كبرى في المسار السّوي للفلسفة اليونانية، بحيث أنّ نظرته الابستيمولوجية تعكس، من الزاوية العلمية، صورة أفلاطون بالنسبة إلى سقراط، في الحقل السياسي. ور، بعجرفته المعهودة، يُصرّح بأنه لا يحبّ أرسطو، والسبب الأساسي هو أن أمير الفلاسفة «يَدّعي بأنه يعرف: يَعتقد بأنه مكتسب لعلمٍ، لمعرفة علمية قابلة للبرهان. هذا هو السبب الرئيسي الذي جعلني لا أحبّ أرسطو: ما كان بالنسبة لأفلاطون فرضية علمية أصبح عند أرسطو علما، معرفة برهانية. ومن ذلك الوقت غدا هذا التصور مُتَقاسَما من طرف أغلبية فلاسفة العلم الغربيين(59)».

لكن بالنسبة لور هذه أكبر خطيئة اقترفها أرسطو في حياته، أي ترويجه لفكرة أن الإنسان يستطيع الوصول إلى علم يقيني وبمقدوره، عن طريق ملكاته العقلانية والتجربة، أن يكتشف قوانين ثابتة ونهائية للطبيعة «لقد قطع أرسطو مع ذاك التراث المعقول الذي يرى أننا نعرف النزر القليل(60)». هذه هي مساوئ فيلسوف العلم أرسطو، ولذلك فإن وصف الشاعر الإيطالي دانت (Dante) لأرسطو بأنه «مؤدب العارفين»، حتى وإن كان صحيحا، فهو لا يجعله يستأثر باعجابه «لأن المعرفة، بالمعنى الأرسطي، ليست في الواقع متاحة للإنسان(61)». ما المتاح لنا إذن؟ أضغاث حقائق، مجرّد حثالة هزيلة من التخمينات القابلة للدحض والتكذيب في أي وقت، الرجل لا يملّ من تكرار هذه الحقيقة العظيمة التي عبّر عنها فلاسفة اليونان القدامى: «كسينوفان وسقراط (وأفلاطون أيضا، فيما يخص اشكاليات العلوم الطبيعية) هم على صواب حينما صرّحوا "بأننا لا نعرف، نحن نُخمّن فقط"... أرسطو كان بالفعل أول دوغمائي حقيقي ـ وحتى أفلاطون، على الرغم من أنه كان دوغمائيا في السياسة، لم يكن كذلك في الابستيمولوجيا (62)». الحل الأقوم، لتجاوز هذه الأزمة ـ وهو حل هايدغر أيضا ـ ضرورة العودة إلى فلاسفة ماقبل سقراط وإحياء عقلانيتهم النزيهة المتواضعة، على عكس عقلانية أرسطو المتعجرفة التي قضت على العلم النقدي الذي ساهم هو نفسه في تشييده.

غريب جدّا أن يتعامل الفيلسوف الحديث، أو أي مفكر ليبرالي مع الفلاسفة بمنطق الكره والمحبّة، أو أن يُقيّم أعمالهم بحسب قُربهم أو بُعدهم من نموذجه المعرفي. كان عليه أن يكتفي بمناقشة أرسطو على الأرضية الفلسفية البحتة وأن يترك مشاعره الشخصية، من كره ومحبّة، في قرارة نفسه. أعترف بأنه أمر مُخيّب للآمال أن يُصرّح هذا الرجل، دون الشعور بخطورة أحكامه المسبّقة، بكُرهه لأرسطو فقط لأن هذا الأخير اعتقد بإمكانية التوصّل إلى معرفة الكون. فهذا الحكم هو من النّشاز إلى حدّ أننا نستغرب من مأتاه، وفعلا لو لم يكن هذا الكلام صادرا عن فيلسوف مثل ور لما توقفنا عنده، ولما ألزمنا أنفسنا عناء مناقشته ودحضه.

يكفي لمحاججة ور وتفنيد آرائه في هذا المضمار، الرجوع إلى تاريخ العلوم منذ نشأتها الأولى عند اليونان حتى عصرنا الحاضر. إن عقلا عظيما مثل عقل أرسطو، على الرغم من وسائل القياس البدائية التي كانت متاحة له، تمكّن من كشف أسرار الطبيعة بشغف لا مثيل له. فاكتشافاته جلّها كانت نابعة من ملاحظة مباشرة للظواهر الطبيعية، ومن تطبيق عيني لمنهج الاستقراء. ولذلك فإن أرسطو يُعدّ بالفعل الرائد الأكبر في ابتداع تلك المقاربة العلمية للظوهر الطبيعية التي مَكّنت الإنسان من القطع مع النظرة الأسطورية للطبيعة. الدليل المفحم على ذلك هو قراءة كتبه، يكفي الاطلاع على أي مبحث من بحوثه العلمية، خصوصا البيولوجية منها، حتى يُصيبنا الذهول، من الدقة والصرامة العلمية التي تميز بها عقل هذا الرجل. وما كان لأرسطو أن يُقدم على مباحث وعرة ومضنية لو أنه وضع في ذهنه أننا غير قادرين على معرفة الطبيعة وأن الانتاج العلمي لا يتيح تراكما معرفيا متواصلا من جيل إلى جيل، بل بمجرد محاولات يمكن الإطاحة بها في أي وقت كان. التوجه الابستيمولوجي لبوبر يسعى إلى تحييد عامل التراكم التجريبي وإخراج الاستقراء من مجال البحث العلمي.

العالم الذي ينتهج منهج الاكتشاف على طريقة ور، أعني طريقة الفروض الاعتباطية، لا يتحقق في حياته من شيء، وبالتالي فإن النشاط العلمي لا يؤدي إلى أي اكتشاف لحقيقة يمكن أن يَركن أليها أو يُعلمها بصدق، كل شيء سراب ونحن متيقنون فقط من لاعلمنا الدائم. أقول: لو كُتب لهذا الصنف من التخمين أن يسود في التاريخ لما أنتجت الإنسانية علما ولما راودتها فكرة الذهول أمام الظواهر الطبيعية ولأفضت إلى حالة من البؤس الفكري لا مثيل لها. فعلا، لِمَ الكتابة والبحث والتنقيب، ونحن مضروبون في العمق بحالة من الجهل الدائمة؟ ما الذي يرغمنا على التنظير في السياسة ومحاولة إصلاح الأوضاع الإجتماعية إن كانت السياسة تخضع، مثل العلم، إلى مبدأ الافتراض الاعتباطي؟ لن يتجرّأ أي أحد في هذا العالم أن يقول شيئا عن يقين، بل أن يَلتفتَ إلى ظواهر الطبيعة لدراستها ومحاولة التعرّف على قوانينها.

لكن من حسن حظ الإنسانية أن وُجد رجل مثل أرسطو الذي مَدحه ابن رشد وسمّاه مثالا أوجدته الطبيعة لكي تُظهر الكمال الإنساني. أودّ أن أتصوّر بوبر في القرن الرابع في أثينا، حيث لا تقنية ولا علوم متطورة إلاّ ثلّة من الناس المجتمعين في موزيوم (متحف) يبحثون في الظواهر الطبيعية ويتناقشون حول المُثل والأعداد الطبيعية، والطب والفلسفة. أتصوّر دخول أحد عليهم والقاء خطبة من خطب ور يُنبؤهم فيها بأنهم متوهمون، وبأن علومهم لا تصل إلى جوهر الأشياء، وهي مجرّد استيهامات ذاتية قُذفت هكذا على العالم الخارجي. ربما لا يستغربون كثيرا من هذا الرأي لأنهم يعرفونه جيدا منذ زمان، منذ أن شكك السفسطائيون بإمكانية التوصل إلى علم يقيني بالأشياء، ومنذ أن ركّز الخطباء على ضرورة الالتزام العَمَلي المباشر، ونبذ التكوين النظري البحت، لأنه يطوّل الطريق المؤدية إلى السياسة المدنية. فالمصلحة العملية المباشرة هي أرقى وأكثر فعالية من أي تنظير مجرّد.

لكن أرسطو مقتنع بأن أعظم فعالية إنسانية هي الكشف عن قوانين الطبيعة، والخروج من حالة الجهل والحيرة التي تكبّل الذهن البشري وتسجنه في حالة قصور دائمة. في "الحث على الفلسفة" أرسطو يدافع عن مثال التعليم الأكاديمي، ويَرُدّ على ذرائعية مدرسة أيزوقراطس قائلا بأن «مَن يبحث في جميع أشكال العلوم عن نتيجة مغايرة لها، فهو يَجهل تماما الفرق المبدئي بين ما هو حسن وما هو ضروري (...) إن الشيء لا نريده دائما لأجل شيء آخر، وهكذا إلى ما لا نهاية: يجب أن نتوقّف عند نقطة ما. فعلا، إنه من السخف أن نبحث في أي مكان عن منفعة مغايرة للشيء ذاته، وأن نتساءل: "ما المصلحة التي نحصل عليها؟" و "ماذا يفيدنا هذا الشيء؟" في الحقيقة، مَن يتكلّم هكذا، كما قيل سابقا، لا يُشبه بالمرّة من يَعرف الجميل والخير ولا من يعرف السبب والسبب الإضافي (63)».

لقد سار أرسطو على هدي مبادئ التعليم المعمول بها في الأكاديمية، ضد الموقف الذرائعي السفسطائي الخطابي، وفاق الجميع من حيث الفضول النظري والغوص العميق في دراسة الطبيعة. وقد كانت بحوثه مرتكزة على منطلقات تجريبية، أعادت تثمين أهمية الواقع الخارجي، واعتباره، لا كظلال لواقع مُتعالٍ، بل كواقع جدير بأن يُدرَس لذاته. ولذلك فإن أهمية العالم الخارجي تأتي في الصدارة، والادراك الحسّي هو المرحلة الأولى التي بدونها لا يمكن أن نعلم شيئا، فهو الشرط اللازم لتحصيل المعرفة كما يؤكد على ذلك في قولته الواردة في "الحس والمحسوس (445 بـ 16 ـ 17)": «العقل لا يعقل (العالم) الخارجي دون الإدراك الحسي(64)». ليس هناك كمال آخر للإنسان خارج المجال النظري، وليست هناك فضيلة، أو متعة، أو علّة كافية للوجود تتعالى على المعرفة النظرية، وبالتالي فإن دراسة الكون، في جميع تمظهراته، مُبَرّرة مبدئيا من خلال هذا الطموح النظري الأخلاقي العظيم.

العالم المنظور هو المعطى الأولي الذي يجب الإنطلاق منه، الإدراك الحسي هو الآلة التي بها نعاين الواقع مباشرة ونستنطقه، وأخيرا بعد الملاحظة المتكررة لنفس الظاهرة في نفس الظروف، بإمكاننا التعميم واستنتاج مبادئ وقوانين كلية تصوّر الظاهرة كما هي. إن بحوث أرسطو البيولوجية لهي مثال ناجح من تطبيق عيني لهذا المنهج الذي انقض عليه ور دون أن يقدّم بديلا معقولا أو ناجعا(65). لقد أتاح هذا المنهج التجريبي لأرسطو إمكانية دراسة الطبيعة الحيّة بجميع أشكالها وتمظهراتها، وقام بتصنيفات لأنواعها وأجناسها، بطريقة، وصفها أحد الدارسين، بأنها كانت «جدّ مُنسجمة ومكتملة بحيث أنها لم تُزَعزع لمدّة عشرين قرنا(66)». إنّ إسْهاماته العلمية وتصنيفاته، مثل تقسيم الحيوان إلى فِقري أو "دموي" وغير فقري أو "لادموي"، قد صَمَدت لمدة ألفي سنة، ولم تضمحلّ حتى أمام زحف العلم الحديث. والدليل على ذلك أن علماء الطبيعة المحدثين حينما عرض لهم الإطلاع على أعمال أرسطو الطبيعية، لم يتوانوا من تثمينها والإشادة بها، واضفائها مكانة تضاهي الاكتشافات الحديثة. لقد اعترف العالم الفرنسي بوفون (Buffon)، من القرن الثامن عشر، بأن كتاب "تاريخ الحيوان (Historia Animalium)" لأرسطو: «هو أفضل ما حققنا في هذا النوع (من العلوم)(67)» وقال بأن الحيوانات التي وضعها على ذمته الإسكندر، يبدو مِن خلال كتابه أنه كان يعرفها بصورة أفضل وأشمل ممّا نعرفها نحن اليوم. ثم أضاف، دون أن يخشى تعريض نفسه للتّهكّم، أن الأعمال الحديثة في تاريخ الحيوان على الرغم من اكتشافاتها الجديدة، لا يمكن أن تعلو على مصنفات أرسطو. بعد اطلاعه على محتوى كتاب أرسطو اعترف هذا العالم الفرنسي بكلّ حماسة قائلا: «إن مصنّف أرسطو، ظهر أمام عيني كفَهْرس استُخرج بكل عناية، من آلاف الكتب المملوءة توصيفا وملاحظات من جميع الأنواع، إنه المختصر الأكثر علمية الذي لم يُنجَز أبدا، إن كان العلم فعلا هو تاريخ الأحداث. وحتى إذا افترضنا أن أرسطو استمدّ من جميع كتب عصره ما أودعه فيه، فإن مُخطّط الكتاب، توزيعه، اختيار الأمثلة، صحّة المقارنات، وحضور ذاك النوع من الثّنيَة في الأفكار التي أسمّيها بالسّجيّة الفلسفيّة، لا تتركنا نشكّ طرفة عين في أنه كان هو نفسه أثرى من أولئك الذين استعار منهم(68)».

لقد ذكَر مؤرّخ العلم الحديث، جورج سارتون، اكتشافا باهرا قام به أرسطو، بخصوص عادات التناسل عند سمك قِطّ البحر، ولم يتمّ التحقق منه إلاّ في سنة 1856، وبقي البحث مجهولا حتى بداية القرن العشرين(69). وفي شهادة أخرى لأحد علماء الأجنّة ومؤرخي العلم الإنجيلز يُدعى هنري لويس الذي، كما يقول سارتون، لم يكن أبدا مُعجبا بأرسطو ولا مُتغاضيا عن عيوبه. لكنه حين وصل إلى كتاب "تكوين الحيوان (De generatione animalium)" لم يستطع كَبح جماح اعجابه وقال: «إنه لَكِتاب فذّ، لا يُماثله من حيث التفكير مؤلف قديم، ولا يُجاريه من المؤلفات الحديثة إلاّ القليل، في تفصيلاته الشاملة وبُعدِ غوره. إننا نجد بعضا من أغمض المسائل في علوم الأحياء تُعَالَج فيه بِبَراعة رائعة، إذا أدخَلنا في الاعتبار حالة العلم في ذلك الزمان. أما أن فيه أخطاء، ومآخذ كثيرة، وشيئا غير قليل من التساهل في قبول الوقائع، فأمر لا يُستغرب، ومع ذلك فإنه كثيرا ما يَرقى في بعض مَواضِع حتى يُساوي مباحث كثير من علماء الأجنّة الراسخين، بل هو يعلو عليها في بعض الأحيان. هكذا يبدو الكتاب لي. والقارئ يَعلم قلّة استعدادي لأن أجِد، في المؤلفات القديمة، المعاني التي وفّاها العلم الحديث، ويَعلم مقدار جِدّي في تصوير آراء أرسطو على وجهها... ولكني لا أكون صريحا إن أنا كَتمتُ الأثر الذي ترَكَته في نفسي دراسة هذا الكتاب. هذا الأثر هو أن جهود القرنين الماضيين من هارفي إلى كوليكر، قد هيّأت البيانات التشريحية التي تُثبت كثيرا من الآراء التي جاء بها ذاك النابغة البعيد النظر. وفي الحق إني لا أجد تحيّة لأرسطو أطيب مِن أن أضع كتابه هذا في صفّ كتاب (Exercitations concerning Generation) لمؤلِّفه الخالد هارفي. وهارفي، مؤسس علم الفيسيولوجيا الحديث، رجل ثاقب النظر، صابر على البحث، ذو عقل علمي جبّار، وكتابه يعلو على كُتب أرسطو في بعض تفصيلات تشريحه، ولكنه من الناحية الفلسفية يُعدّ متخلفا عن كتاب أرسطو، وأقلّ تمشيا مع الآراء الحديثة(70)».

المؤرخ سارتون يتعجّب من عدم تردّد الناقد الانجليزي في رفع كتاب "تكوين الحيوان" لأرسطو «فوق كتاب مواطنه العظيم الذي نُشر في سنة 1651، أي بعد أرسطو بنحو ألفي سنة». ولكن سارتون لم يَكتف بهذا، بل أورد شهادة أحد أعظم علماء القرن التاسع عشر، وهو تشارلز داروين، حيث كتب في رسالة بعث بها إلى الدكتور ويليام أوجل يُبلغه فيها بتسلّمه ترجمته لكتاب أرسطو في أجزاء الحيوان، قائلا: «لقد كُنتُ أقدّر فضل أرسطو استنادا إلى مقتطفات من كتبه اطّلعتُ عليها، ولكني كنتُ أبعد الناس عن إدراك مَبلغه من الإعجاز. لقد كان لينيس وكوفييه مَعبوديّ، على اختلاف في طريق العبادة. ولكنني أراهما الآن ـ إذا قيسا إلى أرسطو ـ أشبه بالطّلبة (...) إنه لم يَدُر بخلدي قط، قبل أن أقرأ كتابك، كيف احتاجت المعلومات التي نراها عادية الآن إلى جهد كبير متواصل(71)». وفعلا تلك المعلومات التي نعتبرها الآن عادية وبيّنة بذاتها تمّ اكتشافها ومعاينتها وتصنيفها وحفظها من طرف رجل يتميز بخاصية مدهشة حقا، ونادرا ما نجدها عند العلماء السابقين أو اللاحقين (ما عدا فلاسفة الإسلام)، ألا وهي الجمع بين أسمى درجات التفكر المجرد والملاحظة التجريبية المباشرة.

لقد أطلق أحد الدارسين المحدثين العنان لحماسته مُتغنّيا بعظمة عقل ذاك الرجل، وقدرته الفائقة على الجمع بين ميادين معرفية في غاية التجريد، والتصاقه في نفس الوقت بالواقع التجريبي، قائلا: «أرسطو مؤسس المنطق، المُنظّر الأول لعلم الأخلاق والسياسة، الناقد الأدبي، الميتافيزيقي الذي تَصوّر الإله كمحرّك أول للكون، لا يتوانى من الغوص التجريبي في الواقع الطبيعي، ويُظهر تحمّسا شديدا في فحصه جنين فرخ الدجاج، يُعطي وِصفة للمحافظة على سلامة الشَّعر، يسخر من هيرودوت الذي قال بأن مَنِيّ الأثيوبي أسود، ويعارض الرأي السائد، حتى عند الصيّادين، الذين يعتقدون أن الأسماك لا تُجَامع. يُمكن القول بأنه فحصَ عن كل شيء، عن الإلهي والإنساني، وأظهر نفس الاهتمام، وبنفس الجدّية، بعلم الحيوان، وبعلم الفلك وبعلم النبات: إن فضوله النظري الذي ليس له حدّ لم يَجد مزاحما له في تاريخ الفكر(72)».

أنا لا أكره ور لأنه ازدرى أرسطو وعلومه، ولا يجب على المفكر أن يقع في شباك عواطفه الشخصية الخارجة عن مجال الفكر الفلسفي البحت(73). كل ما يعنيني منه أفكاره وكتاباته وأطروحاته التي عرضها على الساحة الفلسفية، ومدى انسجامها الداخلي، ومطابقتها للواقع العلمي التاريخي، ولا دخل فيها لمشاعر المحبة أو الكره، أما سيرة حياته كمفكّر فلا يَعنينا منها إلاّ ذاك النزر القليل من المعطيات التي قد تكون لها دورا في نحت أفكاره وبلورة توجهاته السياسية.

العالِم الذي ينتهج منهج الاكتشاف على طريقة ور، أعني طريقة الفروض الاعتباطية، لا يتحقق في حياته من شيء، وبالتالي فإن النشاط العلمي لا يقوده إلى أي اكتشاف يُعتدّ به أو حقيقة يمكن أن يركن أليها ويُعلّمها للآخرين بصدق، كل شيء سراب ونحن مُتيقّنون فقط من لاعلمنا الدائم. أقول: لو كُتب لهذا الصنف من التفكير الرسوخ والثبات في التاريخ لما أنتجت الإنسانية علما ولما راودتها فكرة الانبهار أمام الظواهر الطبيعية، ولَهَوَت إلى حالة من العطالة الفكرية لا مثيل لها. فعلا، لِمَ الكتابة والتنقيب والبحث، ونحن مضروبون في العمق بحالة من الجهل الدائم؟ ما الذي يرغمنا على التنظير العملي أو محاولة إصلاح الأوضاع الراهنة إن كانت السياسة تخضع، مثل العلم، إلى مبدأ الافتراض الاعتباطي؟ لن يتجرّأ أي أحد في هذا العالم أن يقول شيئا على يقين، أو حتى الالتفات إلى ظواهر الطبيعة لدراستها ومحاولة التعرّف على قوانينها.

الليبرالي المتعصّب أدخل الاستياء في قلوب الليبراليين، لأنه نادى في آخر حياته بضرورة فرض المراقبة على البرامج التلفزية، والحدّ من حرية التعبير، وهو أمر يُنافي إحدى الركائز الأساسية من الإيديولوجيا الليبرالية، ألا وهو حرية الصحافة ونزع فكرة الرقابة. الفلاسفة أيضا أصيبوا بخيبة أمل. لقد همّش الفلسفة: دخل في جميع المعمعات الفكرية من الابستيمولوجيا، إلى السياسة، فنظرية العقل، فالتاريخيانية، ثم أخيرا طلع عليهم بنظرية الحرب الدائمة، وضرورة نَشرِ الحرية والديمقراطية عن طريق القوة، والتي تلقفها منه تلاميذه الذين هم الآن يحكمون العالم.

وأظنّ أن الرجل يَسخر من قرّائه، حينما يصف نفسه بهذه العبارات: «بما أنني واحد من آواخر المُتبقين من أتباع العقلانية والتنوير، فأنا أعتقد بالتحرّر الذاتي للإنسان عن طريق المعرفة(74)». أية معرفة هذه؟ وأية عقلانية؟ أرى أن مصطلحات ور لها معانيها الخاصة به هو وحده في أدبيات الفلسفة. فالتنوير الذي يقصده لا يعني التنوير المتعارف عليه، والمَعرفة التي يتبناها تختلف، إلى حدّ التناقض، مع المفهوم المتداول للمعرفة.

وحسب ما قدّمته سابقا، لا يمكن تفادي الرأي التالي، وهو أن ور لا تعزّ عليه المعرفة العلمية الكاشفة والمحرّرة، بل إن التصورات التي يروّج لها هي سحق للمعرفة في معناها الأكثر اجماعا بين المفكرين. وليس من الإجحاف في شيء القول بأن العقلانية التي يتبناها هذا الرجل هي مسخ للعقلانية: فهو يُعرّفها بطريقةٍ صحفية قائلا بأنها «ليست شيئا أكثر من القناعة بأننا نستطيع التعلّم من نقد أخطائنا وأغلاطنا، خصوصا، من النقد المُوجّه لنا من طرف الآخرين، وأخيرا، حتى من الذات(75)». إنه خطاب غريب، هذا إن لم يكن هزيلا، أجرؤ القول، بأنه من صنف خطابات المقاهي، أو خطابات الهواة المبتدئين، لا يرقى إلى المستوى الفلسفي بتاتا. انظر إلى هذا التوضيح لمعنى العقلانية: «الموقف العقلاني يُمكن أن نقدّمه بالصيغة التالية: ربما أكون مُخطئا وأنت مُحقا، على كل حال كلانا يجب أن يتمنّى، بعد نقاشنا، رؤية الأشياء بأكثر وضوح مما كانت عليه من قبل، وعلى أية حال، كل واحد منا يمكن أن يتعلم من الآخر، فقط على شرط ألاّ ننسى أن الأهم ليس مَن لديه الحق، بل الوصول أقرب ما يمكن من الحقيقة(76)».

رجل العلم لا يقبل بهذه العقلانية المتنكّرة لذاتها، ولا يعترف بهذا التواضع العدمي: حينما بعث العالم الإنجليزي ادنغتون (Eddington) في سنة 1919 إلى آينشتاين رسالة يُعلمه فيها بأن التجربة أكّدت ما كان قد تنبّأ به نظريا (انحناء أشعة النجوم في مجال جاذبية الشمس)، لم يَصطدم آينشتاين بهذا الخبر لأنه متيقّن من أن الظاهرة على ما وصفها هو. فلنتصوّر آينشتاين وعلمه وعقلانيته على الشكل الذي رواه ور: ربما أكون على خطأ وأنتَ محق، أو العكس. أليست هذه بالفعل كاريكاتور العقلانية العلمية؟ 

5 ـ من المعرفة إلى السياسة:
لا يخفى على أحد أن الصورة التي رسمها ور للعقلانية وللمعرفة الإنسانية ككلّ، تحمل في ذاتها سمات عدمية تشكيكية(77)». ولكن إن بقيت مغروسة في مجال الابستيمولوجيا البحتة، لما استوقفتنا طويلا، لأنها رائجة ومعروفة في تاريخ الفلسفة. إلاّ أن خطرها الأكبر يكمن أساسا في تأثيرها السلبي على الحياة السياسية، وخصوصا على تصوّر مواصفات رجل السياسة والشروط اللازمة للمسك بزمام الحكم. لقد وصف الفيلسوف الإيطالي فاتيمو موقف ور من رجل السياسة دون أن يتفطّن إلى المخاطر الثاوية فيه، بل إنه عمل على تزكيته وتأهيله. لكن يكفي أن يُعمِل أحدنا حسّه النقدي حتى يحدس مدى خطورة تحاليله السياسية واستتباعاتها السلبية في المجال العملي والتي يمكن استمدادها من صريح أقواله المبثوثة في العديد من محاضراته حول العالم. في إحداها التي ألقاها بإيطاليا، يقول: المستقبل مفتوح، المستقبل يعتمد علينا جميعا، اليوم وغدا وبعد غد. وكل ما نفعله يعتمد بدوره على أفكارنا، وتمنياتنا، ومخاوفنا، وبالجملة يَتوقّف على نظرتنا للعالم، وعلى كيفية تقييمنا للإمكانيات المتاحة لنا في المستقبل. كل هذا يعني أننا جميعا نواجه مسؤولية كبرى، وهذه المسؤولية تصبح أعظم كلما أدركنا «حقيقة أننا لا نعرف شيئا، أو نملك نزرا قليلا إلى درجة أننا مبرّرون في تعريف ذاك القليل بأنه "عدم". لأنه لا شيء بالمقارنة مع كل ما يجب علينا معرفته لكي نأخذ القرارات الصائبة(78)».

أول من تفطن إلى هذه الحقيقة هو سقراط، الذي قال بأن السّياسي يجب أن يكون حكيما، ـ حكيما جدا إلى درجة وعيه التامّ بأنه جهول لا يعرف شيئا. لكن أفلاطون أدخل بدعة في السياسة، حينما قال بأنه يجب على رجل السياسة أن يكون حكيما، أي أن الملوك عليهم أن يصبحوا فلاسفة أو أن يذهبوا إلى مدرسة الفيلسوف، أي مدرسة أفلاطون لتعلّم الجدل الأفلاطوني. لقد خرج أفلاطون عن السبيل القويم الذي خطه سقراط: «القاعدة التي تقول: "رجل السياسة يجب أن يكون حكيما" بالنسبة لأفلاطون تعني أن الفلاسفة المتعلمين يجب أن يستأثروا بالسلطة السياسية ـ ومن هنا إدعاء الهيمنة السياسية من طرف العلماء، المثقفين، النخبة. وفي الطرف النقيض من أفلاطون، نفس هذه القاعدة "رجل السياسة يجب أن يكون حكيما" تعني عند سقراط أن رجل السياسة يجب أن يعرف القليل مما يعرف، وبالتالي يجب أن يكون على غاية التواضع في مطالبه... هذا هو موقف سقراط، هذه هي حكمة سقراط "اعرف نفسك، واعترف لِنفسك بجَهلك"(79)».

أقول، دون أن أتجنى على أحد: هذا الحاكم الجاهل، هذا الحاكم الذي لم يَدخل قط مدرسة الفلاسفة، لا يعرف التاريخ ولا الجغرافيا، ولا أبجديات السياسة، هذا الرجل الذي لا يملك من "فضيلة" إلاّ الجهل، موجود ومُتمظهر أمامنا وهو الفاتق الناطق في العالم الآن، أعني جورج بوش. بعد أن تربّع هذا الرجل على الحكم، البشرية جَرّبت على كاهلها نموذج الحاكم الذي يطمح له ور. والجميع قادر على رؤية المنعرج الذي آلت إليه الأحداث العالمية في يد هذا الحاكم الجاهل، ومقدرته على التسبّب في كوارث قد تؤدي إلى فناء الإنسانية جمعاء.

البداهة السقراطية هي هذه: الجهل هو العدوّ الأكبر للإنسان، والمعرفة العلمية هي المخلص الأكبر للإنسان. أنا لا أعيب على ور آرائه العدمية هذه، بل أحاول مناقشتها وتعريتها، ولكنني أتساءل كيف يَنظمّ مفكر يساري مثل فاتيمو إلى هذه النظرة الرجعية؟ أتعجّب كيف يصادق على أطروحات من هذا القبيل دون أن يرى استتباعاتها، أو حتى يَستشعر مخاطرها العملية المباشرة.

كارل ور يَلتقِي مع هايدغر في نقطة أخرى، ألا وهي التمجيد المفرط للغرب، واستخدام عبارات نابعة من صلب القاموس الشوفيني. وأظنّ أن المُنظّر اليميني المتطرّف هانتغنتون، الذي طلع على الناس بفكرة صراع الحضارات والتي أصبحت الآن حصان طروادة في يد بوش وأتباعه، لم يأت بالشيء الجديد لأن ور كان قد سبقه إليها منذ سنين. فالرجل مقتنع أشد الاقتناع من أن «الحضارة الغربية...هي الأكثر تحررا، هي الأكثر عدلا، هي الأكثر إنسانية، هي الأفضل من بين كل ما عُرف من حضارات عبر تاريخ البشرية كلّه. إنها الأفضل لأنها الأكثر قابلية للتحسين(80)». هذه القناعة متّصلة ودائبة عند ور ولم يتخلّ عنها اطلاقا، بل إنها زادت من حدّتها في سنواته الأخيرة خصوصا بعد تذوّقه نشوة انهيار الاتحاد السوفياتي، وبداية الهجمة على العراق ومنه على العالم العربي الاسلامي. ومَن اطّلع على نصوصه التمجيدية للغرب فكأنه يقرأ افتتاحية ماكس فيبر لكتابه "البروتستانتية وروح الرأسمالية": كل شيء نبَع من الغرب وأفضل ما في هذا العالم، مِن قيم أخلاقية، ومِن علوم نظرية، وتنظيمات سياسية، صَدَرت منه وبقيت فيه. تلك هي الحال أيضا عند ور: «حضارتنا الغربية وحدها هي التي اعترفت على نحو واسع بالمطلب الأخلاقي للحرية الشخصية، بل وحقيقته إلى حدّ كبير، وبمطلب المساواة أمام القانون، وبمطلب الحرية، وبمطلب ألاّ تستخدم القوة إلاّ في أضيق الحدود. هذا هو السبب في أنني أعتبر أن حضارتنا الغربية هي الأفضل حتى الآن... إذا وضعنا كل شيء في الاعتبار، فإنها الحضارة الوحيدة التي يتعاون فيها كل الناس تقريبا لتحسينها، إلى أقصى مدى ممكن(81)».

بالاضافة إلى هذا التمجيد الشوفيني، (وأركّز على كلمة الشوفيني العنصري، لأن ور مرّة أخرى استبق، أو قد يكون قد فتح الباب أمام أرذل أنواع العنصرية التي رأتها أوروبا القرن الواحد والعشرين، كالتي نجدها مثلا عند الصحفية الإيطالية، أوريانا فالاتشي (Fallacci)، التي سَبّت المسلمين وقذفتهم بأفضع النعوت وقالت، مثل ور، بأن الحضارة الغربية هي أرقى الحضارات في العالم)، بالاضافة إلى هذا التمجيد الشوفيني، فإن ور وجد أعداءه، في الداخل، من بين المثقفين اليساريين أو ذوي النزعة الكونية المعادية للاستعمار. وبخصوص هذه النقطة بالذات، فإن الرجل زاد من حدّة انتقاداته وتجاوز، حقا، حدود اللياقة الفكرية والذوق الأخلاقي(82).

العالم الغربي بالنسبة إليه هو واحة سلام، جنّة على وجه الأرض، لكن المثقفين هم أخطر عنصر يهدد هذه الجنّة. لقد زعم ـ بكل اعتداد ـ أن المثقفين تسبّبوا، منذ آلاف السنين (هكذا)، في كوارث مُرعبة، المثقفون كانوا ولا يزالون السبب في التقتيل الجماعي باسم فكرة ما، باسم تعاليم معينة، أو نظرية سياسية مصطنعة(83). بعد الحرب العالمية الثانية صَنَعَ رجلان، وهما تشرشل وروزفلت (يُسمّيهما أبطال الحرب)، عالما جديدا، ولكن الذين جعلوه ممكنا هم الطيارون الحربيون الذين كسروا ألمانيا ودمروا بالقنابل الذرية مدينتين يابانيتين، قتلوا فيهما خلقا كثيرا (لم يُعرّج على الجريمة الأخيرة). إلاّ أن العالم الغربي الجديد البديع، بعد أن استتبّ فيه الأمن وأصبح فيه الرخاء شاملا للجميع «بدأ يَعلو تذمّر المثقفين بإدانتهم لزماننا الشرير، لمجتمعنا، لحضارتنا ولبيئتنا. بدأت المبالاغات اللامعقولة بشأن تدمير وتلويث البيئة، التي قمنا بها لأجل تكديس الأموال(84)».

المثقفون الغربيون (وهو يعني اليساريّين) ـ الذين ما فتئ يكيل لهم، في كل المحافل، من أبشع النعوت ويتهمهم بالكذب والمداهنة وبأنهم كارثة أنثربولوجية ـ لا ينبغي عليهم أن يُنبّهوا على مخاطر التطوّر الصناعي المتوحش الذي لا يراعي النظام الهش للبيئة، والذي قضت الطبيعة ملايين السنين لكي تشكّله في تلك الصورة الرائعة. التلوّث البيئي، الانحصار الحراري، ثقب الأوزون، كلها متأتية حسب علماء الطبيعة من الاستغلال المفرط للموارد الطبيعية، ومن نظام صناعي استهلاكي غربي يفكر في الربح فقط. لكن ور يَجحَد هذه البداهة، ويُنكر الوقائع العلمية مفترضا أن يكون ثقب الأوزون قد وُجد منذ ملايين السنين، وليس لديه علاقة بالتصنيع أو بالتلوث البيئي.

أما بحوث العلماء التي أثبتت بالتجارب ذاك التلازم السببي بين التصنيع والتلوّث فأمره هيّن: يَكفِي تفعيل تصوّره الابستيمولوجي العدمي حتى تُحيَّد نظرياتهم بالكامل: «العلماء المشاهير ليس لديهم الحق دائما. أنا لا أقول بأنهم مخطؤون، أقول فقط بأننا غالبا ما نعرف أقلّ مما نَعتقد معرفته(85)». كل ما يُواسِي به المثقفين والعلماء يُلخّصه في هذه القولة ذات النفح الرّواقي: «صحيح أن الحياة هي دائما في خطر. أعتقد أننا جميعا، سنموت، عاجلا أم آجلا. الخطر حاضر دائما، وهو كذلك باستمرار منذ بداية الحياة، حتى بالنسبة للبيئة(86)». ولذلك فإنه لا مبرر للجزع والتهويل، والمثقفون لا يجب عليهم أن يَنقدوا الغرب أو يدينوا استخدامه للقوة ضد الشعوب الأخرى، وذلك لسبب بسيط وهو أن الغرب يعلو على كل أمم العالم والدليل على ذلك أننا إذا قارنّا الإيديولوجيا الغربية بإيديولوجيا النازية مثلا فسنتيقّن من الفكرة التالية وهو أن «الايديولوجيا الغربية، على الرغم من كل الاستهزاء والأكاذيب التي لُفقت عليها، كانت هي الصادقة. الغرب كان يحارب من أجل السلم، وقد توصل إليه في أوروبا... وتقريبا في كل مكان، مارس فيه الأوروبيون الغربيون تأثيرهم الفعلي(87)».

ألا يخجل من هذه التفاهات؟ ألا يكفّ عن تزييف التاريخ؟ لقد نسي هذا الرجل أن الإيديولوجيا النازية جاءت من الغرب وهو مَوطنها ومرجعها الذي نَبَعت منه، الاستعمار أيضا هو وليد المنظومة الليبرالية الغربية، هذه حقائق عينية يشهد بها التاريخ. لكن بالنسبة لذهنية الليبرالي ور، وخصوصا بشأن هذه النقطة، فإن موقفه يذكّرنا بموقف المراجعين للتاريخ: الاستعمار لا وجود له أصلا، ومَن ينقد التاريخ الاستعماري الغربي فهو عدوّ للغرب (كما قال أحد الساسة الإيطاليين، برلسكوني، الذي سبّ العرب والمسلمين قاطبة).

في خضمّ هذا التفسّخ المسيطر على عقول المثقفين، أعني المثقفين الذين ليسوا بليبراليين استعماريين مثله، تبقى على كل حال صامدة وثابتة الحقيقة التالية: «في الغرب نعيش في السماء، طبعا في السماء الأولى وليس في السماء السابعة بعد. وسماؤنا قابلة لتحسينات عديدة. ليس هناك من سبب للتذمّر منه ووصفه بالرداءة. عالمنا هو أحسن العوالم الذي لم يوجد على وجه الأرض(88)». وفي محاضرة أخرى ألقاها بألمانيا، سنة 1991 اعترف بأنه صُعق حينما زار الولايات المتحدة، (سنة 1950) وكانت زيارته تلك سببا في بث روح التفاؤل فيه. ومنذ ذلك الحين عاد إلى أمريكا عشرين أو خمس وعشرين مرة، وفي كل مرة زادت قناعاته رسوخا، وقناعته المبدئية هي دائما مساوية لذاتها: «نحن نعيش في أحسن العوالم الاجتماعية التي لم توجد في أي مكان من العالم ـ هذا على الرغم من خيانة أغلب المثقفين(89)».

إيديولوجيا المثقفين اليساريين هي العائق الأول، والعدوّ الأكبر للغرب وبالتالي فهي «شريرة أخلاقيا. إنها كذبة بلقاء(90)». أما العبودية التي سادت لمدة أكثر من قرنين من الزمن في البلد الذي يَتغنّى به، فإن هذا الرجل يعارض حتى كتب التاريخ والوثائق التي بيّنت أن الحل الأمريكي للعبودية بعد الحرب الأهلية لم يكن إلاّ حلاّ ظاهريا، كما قال أحد المؤرخين الألمان. هذه الحقيقة التاريخية أفقدته رصانته لأنها تُدمّر مثاله الأعلى في الحياة، الحَكَم الفصل هنا ليس كتب التاريخ، ليس الوقائع الثابتة، بل تجربته الشخصية، التي غدت المعيار الأوحد للفصل بين الصواب والخطأ، ومَكّنته من نكران البداهة «إن تاريخ جامعة أطالنطا (Atalanta) أثر في، على كل حال، كما أثرت في مبادرات عديدة، كنت قد عاينتها شخصيا(91)».

لا نعجب إذن، إذا قوبل جَحده للتاريخ البشع لمؤسسة العبودية، ثم التمييز العنصري الذي تواصل في أمريكا حتى الستينات من القرن المنصرم، من طرف رجل أصبح نبيّ الليبرالية، ومُنظّر المجتمع المنفتح، بنوع من الذهول والاستياء من قِبل المثقفين الغربيين الذين يقفون على أرضية مغايرة لأرضيته الاستعمارية. ولكن هذه التنديدات والانتقادات لم يُعرها أية أهمية ولم يناقشها بجدية كافية، بل استثارت فيه نوعا من السخرية المقيتة. لقد اعترف، بشيء من الاستهزاء أمام جمع من المثقفين الذين كانوا يستمعون إلى مَدحِه لأمريكا وتوريَته الحقائق التاريخية، قائلا: «منذ ثلاث سنوات، في لقاء بهانوفر (Hannover)، حينما دافعتُ عن أمريكا، بما أنها كانت قد هوجمت في محاضرات سابقة، حدثت قلاقل وعَلتْ صراخات تنديد، فغادرتُ المكان متبوعا بجوقة من الصّفير. لقد رأيتُ في ذاك الحدث دليلا على أن مُستمعيّ لم يصبهم الضجر(92)». دعابة سمجة حقا، الرجل معروف بعُنفه اللفظي.

لكن، يجب قول ذلك لأنه صحيح، عجرفة هذا الرجل تجاوزت حدودها وانصبّت علينا نحن العرب، وجميع شعوب العالم التي لا تنتمي إلى الغرب. فخطابه، على الرغم من جميع تطميناته، هو خطاب عدائي حربي، ولا يزيد أو ينقص أي شيء عن خطاب هايدغر، حتى وإن واراه هذا الأخير خلف كومة من الألغاز اللغوية. فلسفة ور السياسية هي هذه: الصراع لا بدّ منه في هذا العالم، ومجتمع كوني بدون صراع هو مجتمع لاإنساني، وبالتالي علينا أن نُعلّق طموحنا الطوباوي في السلم الدائم ونسير في طريق تربيع الدائرة، أي الاعتراف معه «بأن كل رجال السلام كانوا أيضا مقاتلين، حتى المهاتما غاندي كان مُقاتلا: مقاتلا من أجل اللاعنف(93)».

أنا أشفق على هذا الفيلسوف الذي له دراية بكل شيء، بالعقلانية والمنطق والعلوم الصحيحة، كيف انحدر إلى هذا المستوى من التفكير. كيف يجرؤ على تسمية من دعا، بالقول والفعل، إلى اللاعنف والتسامح، مقاتلا. أستسمح أتباع ور للنبرة التي استعملتها في نقدي هذا، وقد يعترضون عليّ بأنني اخترتُ نصوصي بدقة ولم استشهد إلاّ بما يؤيّد تأويلاتي. قد يكون صحيحا، ربما، لا أودّ أن أزكّي نفسي، لكن الحَكَم الأوّل والأخير بيننا هو النصوص. وقد عمِلتُ كل ما في وسعي، حينما تصفحتُ كُتبه، عَلِّيَ أجد أفكارا مغايرة تعمل على التخفيف من حدة آرائه تلك، فلم أعثر على شيء منها. كلّما فتحنا نصا من نصوص ور إلاّ وارتطمنا بنفس الأطروحات، ملاكة حتى التخمة، ومزركشة بأنواع الوجد، ولكن جوهرها يبقى هو هو. لقد قال بالحرف إنّ الإمبريالية هي عبارة «لا معنى لها أصلا»، وهي من اختلاق المثقفين، ويكفي مصدرها هذا كي تصبح مبالَغة أو كذبة سافرة. والسبب في ذلك هو «أن التصنيع لا يعني زيادة التفقير، الشيء بديهي. وحتى في المستعمرات فإن الوضع كان في تحسّن مستمرّ(94)». هذه ليست بالأطروحة الجديدة، لقد رددها كل التيار الرجعي من معتنقي الماركيسة سابقا، برنشتاين وأتباعه(95).

ثم يضيف بأن الهدف الأساسي للسياسة الغربية الراهنة هو تجنّب الصراعات وإحلال السلام، ولكن هذا الهدف صعب التحقيق في داخل المجتع الغربي نفسه لأن «مجتمعا دون صراعات هو مجتمع لا إنساني، لن يكون هذا مجتمعا إنسانيا، إنما هو مستعمرة نمل(96)»، هذا بالنسبة للداخل، أما في الخارج أي، حسب زعمه، في عالم مثل عالمنا الحالي الذي «يوجد فيه أشخاص مثل صدّام حُسين وأشباهه من الدكتاتوريين»، فإن السلم هو هدف بَعيد المنال حقا. ما الحلّ إذن؟ الحل الوحيد هو إشعال نار الحرب الدائمة: «نحن لا يجب علينا أن نَتراجع أمام القيام بالحرب من أجل السلم. في الحالات الراهنة لا يمكن تفاديها. إنه شيء تعيس، لكن يجب القيام به، إن أردنا تخليص العالم. الحَزم هنا له أهمية محدِّدة(97)». لقد قال هذا الكلام في سنة 1992، بعد أن دمّرت أمريكا العراق تدميرا، وأرجعته إلى عصر ماقبل التاريخ. أتَدرون كيف وصف حرب أمريكا على العراق في ذاك الوقت؟ قال بالحرف إن أمريكا أظهرت في حربها تلك مشاعر إنسانية لا مثيل لها.

ثم إنه عن سؤال هل أن الأمريكان يجب عليهم مهاجمة صدّام حسين مرة أخرى، إن كانت هناك مؤشرات تدلّ على أنه يحاول امتلاك السلاح النووي؟ لم يُفعّل مبادئ إبستيمولوجيته الريبيّة لكي يفسح المجال للتثبّت والتحقيق، وإحالة المسألة إلى منظمة عالمية محايدة، بل إنه دون تردّد أجاب: «ليس صدّام فقط. في هذه الحالات قد يكون لازما إحداث نوع من فيلق التدخل السريع للعالم المتحضر».

لقد أدته قناعته الحربية، مرة أخرى، إلى ضرب الحركات السلمية في العالم، كما يفعل الآن المحافظون الجدد، وقال بأنه من الجنون مواصلة الدعوة إلى السلام دون القيام بالحرب(98). ولا ينبغي، حسب رأيه، على المفكرين الغربيين أو غيرهم أن يشكّوا في نوايا أمريكا، أو أن يَنظروا إليها من جهة الدوافع الاقتصادية أو يختزلوا تحركاتها في البعد الجيوبوليتيكي، لأن الأغراض الإقتصادية والهموم الاستراتيجية لا دخل لها بهذا الشأن: خَلاصُنا الوحيد في هذه الدنيا، الآن وفي المستقبل، هو أن نَتماهى بالكامل مع المخطّط الأمريكي وأن نجعل منها المثال الحضاري المطلق في السلم والحرب: «ينبغي علينا أن نلتزم إيجابيا بهذا السِّلم الأمريكي (Pax americana) لكي نجعل منه سِلم الحضارة (99)(Pax civilitatis)». وعلى أساس هذه الاستراتيجية الحربية فإن الرجل أخلص إلى الاستنتاج التالي وهو أن الاستعمار الغربي ما كان عليه أن يَنقضِي مُبكّرا لأنه ترك الشعوب المُستَعمرة لوحدها قاصرة عن إدارة شؤونها بنفسها مثل الأطفال الصغار في الروضة(100).

شيء مذهل حقا. هذه القولة بمفردها هي صفعة في وجه كل داعية للسلام، وهي أيضا تهيئة سيكولوجية لعودة الاستعمار وإضفائه مشروعية تاريخية. والقارئ العربي يستطيع الآن أن يربط سلسلة الأسباب والمسببات التي جعلت الغرب يحتل العراق دون أن يشعر بأي تأنيب ضمير. إذا كان فيلسوف مثل ور يتحسّر على انقضاء عهد الاستعمار، ويصف الشعوب الأخرى بأنها لم تَبلغ سن الرشد بعد، وإذا علمنا بأن هذا الرجل بث أفكاره لمدة عقود في المؤسسات التعليمية الغربية، فإننا لا نعجب إن صَرَخ مبتهجا أحد الصحفيين الإنجليز بعد غزو العراق قائلا: "أخيرا عاد الاستعمار".

لقد بث روح الاستياء والخيبة في الكثير من المثقفين الذين كانوا يعتقدون في حصافة آرائه بشأن الديمقراطية، وتأكيداته على ضرورة الضمانات الدستورية في حق الحريات العامة، إثر تصفيقه للحرب ودعوته لإدامة الصراع مع قوى الشر التي لا تريد الانصياع للسلم الأمريكي. فالرجل لا ينكسر أبدا بشأن الحقوق الفردية في داخل المجتمعات الغربية: «إننا نُفضّل نظاما يضمن الحماية القانونية الكاملة حتى للمجرمين الأشرار، فلا يُعاقبون في حالة الشكّ، ونحن نفضل هذا النظام عن آخر لا يجد فيه حتى الأبرياء الحماية القانونية، فيُعاقبون حتى عندما تكون براءتهم أمرا لا يقبل الجدل(101)». هذا شيء جيّد، وهو من روح الليبرالية ودعامة أي نظام ديمقراطي، لكن من المفروض أن ينسحب على الجميع، وأن يكون مبدأ راسخا غير قابل لأية مساومة. لكن النظام الليبرالي الغربي، كما هو دَأبه، يُدخل استثناءات، ويُقِيم تمييزات، محتفظا بالحق في خرق تلك المبادئ التي أرساها هو نفسه، ومعاملة الشعوب الأخرى بمنطق مغاير يخجل من تطبيقه في الداخل، أعني منطق الديكتاتورية العنصرية. ولو أن ور كان حيا وشهد فضيحة غوانتانامو وغزو العراق لصفق لهذه الاجراءات ولوجد لها، للتّوّ التبرير الفلسفي والذريعة القانونية.

أرى، على كلّ حال، أن مواقفه الحربية هذه لا تتنافى وتنظيره "الفلسفي"، وخصوصا هي في أتم الانسجام مع مجمل أطروحاته الابستيمولوجية: فموقفه المتحمّس، أيّام حرب الخليج الأولى، ودعوته لمواصلة الحرب وتوسيع رقعتها لتشمل الصين أيضا لهي دليل على أن الرجل لا تعز عليه فكرة السلام، وأن مواقفه العدوانية تنبع من صلب فلسفته أو هي ثاوية فيها منذ البداية. وكما قد يحدس القارئ فإن ور بشأن هذه النقطة هو في موقف رجعي حتى بالنسبة إلى أرسطو الذي قال في بعض صفحات كتاب "السياسة" أشياء مرعبة في حقّ العبيد ولكنّه نقدََ الحكومات التي تقوم دساتيرها على الحرب مثل سبارتا، وقال بأن من يُربّي الشباب على روح الصراع فإن مآله الدمار. أمّا القول بأن الشعوب المستعمَرة سابقا تشبه الأطفال الصغار فهذه لم يصل إليها لا أفلاطون، الذي اعتبر المصريين أرقى حضارة من اليونان، ولا أرسطو الذي اعترف بأن الرياضيات نشأت في مصر. ولكن ور وصل إليها لأنه أطلق العنان لتداعياته الحرة وجرّ نفسه إلى المواضع الكلاسيكية للعنصريين والشوفينيين الذين يعتبرون الشعوب الأخرى خليط بدون اسم من القاصرين، أوالغير بالغي سنّ الرشد، أو المعتوهين.

هذه النزعة الحربية التي اخترقت تفكير ور تأتي من بعيد، وتمتدّ جذورها حتى الحرب الباردة وأزمة أسلحة الدمار الشامل، حيث عبّر عن المسألة بطريقة أذهلت المفكرين آنذاك. في معرض حديثه عن مهمّة العلماء ودورهم التربوي في المجتمع الليبرالي الغربي قال: «الشيء الوحيد الذي يمكن لأغلبيّتنا أن تفعله، هو على حدّ رأيي، تَقبّل الوضعية (كما هي)(102)». ومن يطمح في التغيير فهو مصاب بالجنون: «أظن أنه من غير المفيد أن يبدأ الملايين من المواطنين بالوعي بضرورة فعل شيء ما بخصوص القنبلة: من حيث أنهم قد يكونون لامسؤولين وغير قائمين بواجباتهم كمواطنين إن فعلوا شيئا لتفادي الحرب النووية. بل أعتقد بجدّ أن شعورا من هذا القبيل (أصنّفه شخصيا في عداد الهستيريا) يمكن بحق أن يجعل خطر الهجوم النووي أقرب منالا». العلماء لا ينبغي عليهم أن يجتاحوا مجال السياسة، يجب عليهم أن يكتفوا بميدان اختصاصهم، ولذلك فإن الأولويات المطروحة الآن هي «التقليل، إلى الحدّ الأدنى، من الخطابة العلموية». إن خطورة هذا الموقف بادٍ للعيان إن قارناه بموقف معاصره برتراند رسل الذي جعل من الالتزام بنزع السلاح وبتأمين عالم خال من النزاعات المسلحة سببا للالتزام المدني الغير قابل للتفريق بينه وبين نشاطه العلمي.

لكن ـ كما أعرب أحد المفكرين الإيطاليين ـ «من الصعب لا أقول فقط السماح، بل إلتزام الهدوء على الإطلاق (برودة الدم، "sangue freddo") أمام الأطروحات التي صرّح بها ور(103)». وذلك لأربعة أسباب عدّدها الكاتب كالتالي:

1. ليست صحيحة، أو بالأحرى ليست صحيحة ولا مُبرهن عليها تماما المقدمة التي ترى أن القرارات السياسية هي دائما متخذة من طرف السّاسة: الشيء الذي لا مماراة فيه هو أنه حتى إن تحققت على الأكثر وانتشرت على صعيد واسع، فهذا لا يسمح (إن طبّقنا ابستيمولوجيته المعادية للاستقراء) بأي تعميم كلّي، لا يجوز أن نَعرض وضعيّة لها منشأ تاريخي محدّد ومن الممكن تغييرها، كما لو أنها مُقدّرة، ، وخصوصا لا يُبرّر الضرب المحايد ـ الملتبس الذي قدّم به ور هذه الوضعية. فهي من قبيل من يعتقد بعدم امكانية تغيير الأشياء لأنها طبيعية وبيّنة بذاتها.

2. مفهوم "واجب المواطنين" الذي استخدمه ور وقدّمه كما لو أنه بديهي، هو في حقيقة الأمر غامض إن لم يكن ملتبسا. لكن الطبيعة متعدّدة المعاني وذات البعد الإشكالي العميق لهذا المفهوم تُبرهن، على العكس من ذلك، على عدم وجود مدلول موضوعي للمفهوم مستقلّ عن سياق تاريخي معيّن أو معيار مسبق. من الواضح أن أغلبية البراهين الوريّة مؤسسّة على فكرة تُحاكي تلك التي قدّمها فيبر (Weber)، مهمة المواطنين (Beruf) من حيث واجبهم الاشتغال بشؤونهم الخاصة الجزئية وعدم الخوض في مسائل سياسية عامة. من يرفض هذه الفكرة فإنه لا يستطيع أن يُجاري ور في استنتاجاته. يكفي الوقوف على أرضية مغايرة والانطلاق من الفكرة النقيض، أي اعتبار مهمة المواطن الالتزام الواعي بكل جهد لابعاد شبح الصراع والحروب النووية.

3. إنه «جارح وظلامي وصف أولئك الذين لا يتصرّفون مثل ور إزاء مسألة الحرب النووية بأنهم هستيريون». فبِغَضّ النظر عن المسألة المطروحة للنقاش، استعمال مفهوم مرَضي (باثولوجي) لنعت موقف مخالف يبدو، ليس فقط مجحفا، بل عجيبا ومباغتا من طرف منظّر للحوار المتمدّن والحرّ، المحترم لكلّ المواقف.

4. الأطروحة التي ترى أن المواطنين، وخصوصا العلماء المختصين يجب عليهم «أن يقوموا بعمل جيّد في نطاق مجالهم الخاص»، من النافل التأكيد ـ يقول المفكر الإيطالي ـ على أن هذه تمثل التنظير الأكثر وضوحا لمهمة (Beruf) أي مواطن، المفروضة من طرف المجتمع الرأسمالي للإندماج بأقصى فاعلية في دورة الانتاج. فكما لوأنه قال: "علينا ألاّ نفكر في المشاكل التي تفوق مداركنا، التي لا تعنينا مباشرة والتي ليست لدينا الخبرة التقنية الكافية لفهمها ومجابهتها. فلنُفكّر بالأحرى في أن ننتج: ممنوع الكلام، الشغل فقط". إن الاقتصار على المهمة اليومية الخاصة، كما يراها ور، وتحقيقها على أحسن وجه، يمكن ويجب أن تصلح للتنافس السلمي مع الماركسية. هكذا يستوي الأمر وتتقشع كل الالتباسات الممكنة: سواء العمل الفكري المباشر أو اللامباشر كتحريك وإرشاد لنشاطات الآخرين من طرف العالم يُدمَجان في نطاق صراع إيديولوجي ـ سياسي: العالم مثل الجميع هو جندي له مهمته الخاصة التي لا يحيد عنها.

ولا ينبغي أن نعتقد بأن استخدام هذه العبارات الحربية خارجة عن محلّها في السياق الراهن (الثمانينات من القرن المنصرم). لقد آن الأوان للكشف عن المعنى الحقيقي لعبارة "تنافس سلمي" بين الليبرالية الرأسمالية والماركسية. إن مثل هذه العبارة تدلّ على استراتيجية تبنّتها عن وعي القوى العظمى لحجب مآزقها، وذلك بمواصلة سياسة التنافس في أشرس صوره، دائما على حساب رخاء المواطنين أو على كاهل أطراف ثالثة خاضعة لهيمنتها واستغلالها من أجل مجابهة التكلفة الباهضة لهذا "التنافس السلمي"، وفي غالب الأحيان تعمد هذه القوى إلى إثارة النزاعات المسلحة وإدارتها مباشرة أو بالنيابة في مناطق أخرى من العالم. من الطبيعي أن فيلسوفا مثل ور كان عليه أن يجري فحصا نقديا معمقا قبل أن يتفوّه بأشياء من هذا القبيل. لكن الرجل، وهذا شيء يؤسف له، لم تصل أدواته النقدية إلى حدّ تشريح مفاهيم وأفكار وأساطير مهيمنة ومتجذرة في الوعي الليبرالي الغربي. لو أنه فعلا استخدم أدواته النقدية بفاعلية كافية لتردّد قليلا قبل أن يدحر مهمة العالم في مجرّد إيضاح الوسائل اللغوية المستعملة، والتقبلّ برضاء لقرارات الساسة إزاء المسائل العامة والاندماج في دورة الكفاح المُغرم في صفوف الرأسمالية الغربية.

ور نبيّ كذاب (falso profeta)، هكذا لقّبه الفيلسوف الإيطالي دومينيكو لوسوردو. لقد زعم بأنه يكفي القليل، النزر القليل من المعايير الأخلاقية لتحقيق السلم والوئام بين البشر. يكفي اتباع قواعد أخلاقية متاحة للجميع: «إحدى أهم الوصايا العشر تقول: لا تقتل! إنها تحوي في ذاتها تقريبا كل الأخلاق. فالطريقة، مثلا، التي صاغ بها شوبنهاور أخلاقه هي فقط امتداد لهذه الوصية الهامة جدّا. أخلاق شوبنهاور هي بسيطة، مباشرة، واضحة وتقول: لا تؤذي أحدا ولا تضرّ بأحدا، ساعد الجميع بقدر استطاعتك». جيّد، لكن، يعترض لوسوردو، هذه الوصية تبخّرت في أوّل فرصة شهد فيها ور على أرض الواقع حربا دائرة (حرب الخليج الأولى)(104). بل هناك أكثر، فخلاص الإنسانية هو هدف يُبرِّر بالكامل الإلتجاء إلى العنف والحرب (هذا الأمر يذكّرني بالنبي الكذاب الجديد، العفيف الأخضر، الذي كتب: إنّ تحرير العراق من كابوس صدام يَستحق حربا). الموقف الذي كثيرا ما عابه ور على فلسفة التاريخ الماركسية، زاعما بأنها شمولية ومتعصبة، مروّجة لنبوؤات كاذبة ها هو ذا يتبناه بحذافيره وبصورة علنية، حينما يدعو للحرب ضد ما أسماه بالدول الإرهابية بما فيها الصين. «إذن الحملة الصليبية من أجل الحرية والديمقراطية ـ يُعلّق لوسوردو ـ تُعلَن كسلسلة متواصلة من الحروب التي، نظرا لصيغتها الإيديولوجية، تأخذ صبغة شمولية (حرب شاملة)(105)». هذه الفكرة ليست بغريبة عن مُنظّر النازية كارل شميت ومدرسته، الذي يرى في السلم الدائم طوباوية، وأكثر الهندسات الإجتماعية تدميرا. دعوات ور إلى تبني السلم الأمريكي، أو إدانته للهندسة الإجتماعية، لفلسفة التاريخ، للإنسان الإيديولوجي لم تعمل على وقايته من العنف، ولم توفر له وصفة لحل النزاعات. «ور الذي يخطّ قائمة مهيبة من المسؤوليات المناطة بالمثقفين، سيُوضَع هو نفسه في قفص الإتهام من طرف المؤرخ المستقبلي. هذا المؤرخ الذي ربما سيتساءل عن العلاقة بين التبنّي المتحمّس ودون تحفّظ لحرب الخليج (والحظر) والاستتباعات المأساوية على المواطنين في العراق(106)». 

6 ـ ديمقراطية الأستاذ ور:
يمكننا أن نُوجّه كل أصناف النقد والمعارضة لفلسفة ور، ومن وجهة نظر فلسفية يمكننا الاختلاف معه في جلّ مواقفه العلمية واستتباعاتها السياسية، ومع ذلك فلا يمكننا التشكيك في قدرة ور كأستاذ جامعي على تربية العديد من الطلبة على حبّ الفلسفة والغوص في اشكالاتها بجدّية. وبالتالي ينبغي، في هذا الإطار، الإشادة بتصرفاته ذات البعد الديمقراطي المنفتح. قد يكون هذا هو الملجأ الأخير لمُحبّيه وأتباعه، إن اقتنعوا بالمعضلات الخطيرة التي تصيب في العمق مجاله التنظيري. إلاّ أنه حتى من هذه الزاوية فإن منهجه البيداغوجي مُعَرَّى، وطريقة معاملته الطلبة عرضة لكثير من التساؤلات التي استوقفت العديد من زملائه. فالرجل كان، بشهادة أصحابه، صعب المراس، متعجرفا مع أقرانه وطلبته على حدّ سواء. كانت لديه مقدرة لا تُضاهى على زرع الرعب في قلوب مستمعيه ومحاوريه: ور، مثله مثل فيتغنشتاين، عنيف ومتعصّب لآرائه ومفرط في الإعجاب بنفسه، ذو نزعة تسلّطيّة(107). استراتيجيته في التحاور مع الآخرين، وصفها أحد المعجبين هكذا: «عوضا أن يُهاجم الخصم في نقاط ضعفه الثانوية، فهو يُقوّي، عن قصد وبعناية فائقة، أطروحته لكي يحطّم النقطة الأساسية منها». حينما قابلته لأوّل مرة، اعترفت الفيلسوفة الانجليزية ماجي (Magee) بأنها قد صُدمت «بِعُنف فكري لم تَر له مثيلا من قبل. كلّ شيء يُدحر إلى أبعدِ ممّا يُجيزه النقاش...هذا يعني عمليّا إرادة قهر الأشخاص. كان هناك شيء من الحنق في الطاقة التي يُسيِّرُ بها هجماته على الخصم: الإصابة الدقيقة والمناسبة، مثل اللهيب، تبدو وكأنها شعلة أوكسيجينية (108)». لقد شيّد بنيانه الابستيمولوجي على أساس مبدأ التكذيب، واعتبر أي نظرية علمية غير قابلة، مبدئيا، للخضوع إلى مبدأ التكذيب مجرّد نظرية وهمية، لكنه رفض من الأساس إجراء هذا المبدأ على نظريته. وقد ذهب أحدهم إلى أن "المجتمع المنفتح وأعداؤه"، كان من الأجدر أن يُسمّى "المجتمع المنفتح حسب واحد من أعدائه".

تصرفاته الشخصية كانت متعجرفة إلى حدّ أنها أذهلت زملاءه في الجامعة. الأستاذ ج. واتكنس (Watkins)، اعترف بأن ور، من وجهة نظر فكرية، طاغية استبدادي: «في الدروس التطبيقية مثلا، هناك حالات شهيرة حيث يُعلِن فيها أحد الطلبة عنوان بحثه: "ما هي س؟" ور يقاطعه مباشرة: "الأسئلة من نوع ما الشيء؟ هي خاطئة تماما ومُضلّلة". هكذا لا يذهب الطالب أبعد من العنوان(109)». برنارد ليفين، أحد الكتاب المعجبين بور، أبدى نفس الانطباع: «ذات يوم في درس تطبيقي، عبّر أحد أصدقائي عن رأيه بصطلحات مشوّشة، فما كان من الحكيم الكبير ور إلاّ أن عبس وقال باقتضاب: "لا أفهم عمّ تتكلّم"، لكن زميلي المسكين ارتبك وأعاد طرح القضية. "آه ـ تنهّد المعلّم متعجبا ـ فهمتُ الآن عمّ تتحدّث، يبدو لي حماقة"».

وفي شهادة أخرى لأحد طلبته الأمريكيين ـ عن حادثة وقعت لطالب آخر لم يكن أسعد حظا من السابق: راوغ سؤالَ ور، غيّر من وجهته تحت هرسلة الأستاذ، أحال إلى شهادة الحاضرين، تلكأ، أخيرا طلب منه ور مغادرة القاعة، لكنّه رفض، فما كان من الأستاذ إلا أن قام، جذبه من رقبة قميصه ورماه خارج الفصل(110)

الشهادات والاعترافات الشخصية تسترسل بلا هوادة: المستمعون لمحاضرات ور يُصيبهم الرعب فقط من محاولة إلقائه مجرّد سؤال، أما الذين حدث لهم واستشهدوا بأقواله خطأ، فهو يُقيّدهم على العَجَلة ويُنكّل بهم حتى يَبوؤوا بإثمهم ويُذعنوا صاغرين لإرادته، حينها وحينها فقط يقول الحكيم، بكلّ سادية: "الآن يمكننا أن نصبح أصدقاء". كانت لديه نزعة قاهرة إلى إشعار طلبته بأنهم حشرات عديمة القيمة، لا يفقهون شيئا، وجاهلون بخبايا الفلسفة. كارثية طريقته في التدريس: أغاسي (Agassi)، أحد مقرّبيه، يصفها هكذا: كل درس من دروسه يبدأ بتألّق وينتهي بحقارة، لأن ذاك المَعتوه (أحد الطلبة) اقترف خطأ جسيما، ومن حينه يَتدَحرج عليه الأستاذ ور كجُلمُود صَخر، مُحوّلا جوّ الوئام إلى قتامة، وقالبا الوضعية رأسا على عقب(111). ومن المتوقّع والحال على هذه الشاكلة أن يهجر الطلبة دروسه وينفضّوا من حوله، وفعلا الأمر كان كذلك: لورد داهرندورف (Lord Dahrendorf) سوسيولوجي ألماني قال بأن الطلبة الإنجليز الذي كانوا غير معتادين على معاملتهم بتلك الطريقة المهينة، كفوا عن التردّد على دروسه.

أما زملاؤه في التعليم فهو، كعادته، يتصرّف معهم كديكتاتور وبكلّ صلافة. الرياضي إيفور غينس (Ivor Grattan-Guinnes) كان يذهب لاستماع دروسه، لكنه اعترف يوما ما قائلا: «صراحة، تصرفاته بدت لي مُرعبة. لم يكن مشجعا للطلبة، لأنه كان يعرف الكثير ويضغط بمعرفته هذه عليهم. وكيف كان يشتم مساعديه من الأساتذة أمام طلبة مثلي! هناك شاب لَبِق اسمه ج. ويزدوم مُهتمّا بالتحليل النفسي، ور يعمد إلى سبّه دائما على أعين الطلبة: "أوّاه، لدينا هنا أحد الهائمين بالفرويدية". عجيب أن يتكلّم شخص مثله هكذا أمام الطلبة».

الفيلسوف الليبرالي لا يُبدي أية عاطفة وغير مستعدّ للتنازل أو فتح باب التواصل، فقناعته الراسخة هي أنه على حقّ، وأفكاره هي الطريق المستقيم ومن حاد عنها، ولو قيد أنملة، فإنه سيُطحن في مَكَنَتِه الجهنمية. الفيلسوفة دوروتي إمّيت (Dorothy Emmet) جرّبت على كاهلها مفعول تلك المَكَنَة: لقد استضافته في إحدى الليالي، بعد صدور كتابه "المجتمع المنفتح وأعداؤه"، كانت «دعوة خطِرة على تلك المرأة(112)». لقد زعم ور في كتابه أعلاه أن تعليم "الجمهورية" لأفلاطون في المدارس العامة يعني تحويل الشباب إلى فاشستيين، لكن من سوء حظ هذه الفيلسوفة أنها كَتَبت مراجعة تدافع فيها عن أفلاطون، مُبرئة ساحته من تهمة الفاشستية. حينما حضرت المرأة لمرافقته أوّلا إلى مكان انعقاد ندوة فكرية، هجم عليها مباشرة، دون تردّد وبشراسة مفرطة، واستمرّ كذلك ولم ينقطع إلاّ حين تناول العشاء صحبة جمع من الأساتذة. ثم عند وصولهما إلى منزلها، أعاد الكرّة وقالت بأنه «واصل تهجماته عليّ وشتمي حتى غاية منتصف الليل، حينها أحسستُ بالتعب الشديد واقترحتُ الانسحاب».

الرجل لا يقبل النقد، وهو مستعدّ لمُجَافاة أي أحد من تلاميذه السابقين أو حتى الفلاسفة الذين تجرّؤوا مرة واحدة في حياتهم على وضع فكرة من أفكاره موضع شكّ. إمري لكاتوس (Imre Lakatos) أحد طلبته القدماء، اقترف جرما عظيما حينما عمد، في مقال له ورد في كتاب جماعي مخصّص لمناقشة فلسفة ور، إلى أثارة بعض الشكوك حول منهجية ور في رسم الخطّ الفاصل بين العلم واللاعلم، وعبّر عن تحفظاته إزاء ادعائه تقديم الحلّ الأقوم لمشكلتي الاستقراء ـ الدحض. لقد كان أخطر عمل يستطيع أن يتجرأ عليه تلميذ سابق، لأن الإقدام عليه «يعني وضع علّة وجود ور موضع الشكّ. فحياته هي أعماله: مماحكات من هذا القبيل لا تُحتَمل أبدا». وفي هذه الحال أيضا فإن مكنة السباب والشتم انصبّت على تلميذه السابق لاكاتوس، حتى بعد مماته بوقت طويل. لقد أطلق على نُقاده لقب "عشّ الزنابير". الطلبة إما أن يكرّروا حرفيا ما قاله أستاذهم ويعيدوا نشره وتعليمه، أو، إن سمحت لهم أنفسهم باستخدام عقولهم بحرية، أن يكون مآلهم اللعنات والسباب. هذه الحادثة وأمثالها تَكرّرت في مجمل مساره التعليمي: أغاسي (Agassi) هو أيضا خضع لهذه التجربة، لكن بشأن تلميذه الذي أصبح أستاذا فيما بعد، فإن التجربة كانت أنكى وأشدّ وقعا. الجريمة التي اقترفها هي نفسها: لقد وجه بعض الاعتراضات ضد إحدى كتابات ور، الصداقة قُطعت في حينها، وانظمّ الناقد مباشرة إلى قبيلة "عش الزنابير". ولم يُجْدِه نفعًا أنه في فترة لاحقة باء بإثمه وطلب المصالحة، فور، وقد فات سنّ الثمانين، رفض الطلب وسدّد له «إجابة مسمومة(113)» كاتبا له ردّا من هذا القبيل: «بعد المراجعة المُشِينة (لأنها عنيفة على المستوى الشخصي) التي كتبتَها على "المعرفة الموضوعية (Objective Knowledge)" (كُتبت، حسب مقدّمتك، عن مضض، وفقط لأنك تشعر أكاديميا بأنك مُجبر على فعله) وبعد سلسلة طويلة من التهجمات الأخرى، دون أية استثارة، عمومية وخاصة، على شخصي (لم أجب عليها قطّ) صُدِمت كيف مازلتَ تملك الشجاعة لكتابتي الرسالتين حيث تُصرّح بأنك واع من أنك مدان لي بكل شيء، وتُنكِر أنك هاجمتني اطلاقا حتى في تلك المراجعة. أنا الآن رجل عجوز ولكنني حارص على قول الأشياء التي أعتقد أنها مُهمّة (وإن كنتُ أدركُ جيدا أنك لن توافقني الرأي). بما أن وقتي محدود، لا أريد مواصلة هذه الرسالة(114)».

هذا هو شيخ الليبرالية أسعد فيلسوف في العالم، كما حكى على نفسه، والذي لم يجرّب التعاسة إلاّ مرّة واحدة حينما قدّمت مثاله الأعلى، أعني مارغريت ثاتشر، استقالتها أيام حرب الخليج الأولى. كانت أتعس أيام حياته لأن الرجل تحمّس لتلك الحرب، وأراهن على أنه لو كان حيا أيام الحرب الأخيرة، ولو شاهد شنق الرئيس العراقي الذي جعل منه عدوّه الشخصي، لسعد أشدّ السعادة ولرأى بأمّ عينيه كيف أن نظريته السياسية في الحرب الدائمة لم تُستبعد قطّ، بل تمّ تبنّيها حرفيا من طرف واحة السلام، الغرب المتحضّر، وأخذت تعطي أكلها بوفرة.

***

أنا أدين مواقف ور وأمثاله من الليبراليين الاستعماريين، وأحمّلهم مسؤولية الاستفزازات والإهانات والدمار الذي لحق بالشعوب العربية، والحركات السلميّة المناهضة للحرب في العالم. نحن لا ننتظر الغرب كي يعطينا دروسا في الإنسانية، نحن نشجب هذه الشوفينية الغرب مركزية التي يتقاسمها اليمين الليبرالي والعنصريين، والتي بنى عليها استعلاءه المزيف. التاريخ لا يجب أن يُنسينا أن هذا الغرب المتحضّر الذي يتغنّى به ور هو الذي أقدم على أبشع المجازر في تاريخ البشرية. الغرب هو الذي يجزّ الرؤوس، وينتقم من الأبرياء العزّل، ويقتل حتى المقتول.

وهذه عيّنة تاريخية من تلك الفضاعة الغربية (الانتقام ليس فقط من الأحياء بل من الأموات) أقدّمها للقارئ كما وردت عند أحد مؤرخي الحروب الصليبية، الذي عاين بنفسه الأحداث وهو بطرس التودابودي (Petrus Tudebodi). لقد وصف مجازر الجيش الصليبي بصورة واقعية إلى حدّ أن القارئ الحديث يصيبه الغثيان، كما أصابه حينما علم بالمجازر التي اقترفها الأمريكان في الفلوجة. بطرس هذا يحكي بأن الفرسان الصليبيين هجموا على مدينة طرابلس وقتلوا خلقا كثيرا «وقد كان عدد القتلى من الكبر ودماؤهم من السفك، إلى درجة أن الماء الذي بالمدينة أصبح لونه أحمر من دمائهم، وجرى في خزانات المياه(115)». ويروي أيضا أنّ بعد معركة قَتَل فيها الصليبيون أعدادا غفيرة من المسلمين «خرج الأتراك من المدينة وجمعوا جُثث مَوتَاهم المتعفّنة (et collegerunt omnia cadavera fetentia Turcorum mortuorum) التي استطاعوا العثور عليها على حافة النهر... ودفنوها بالمقبرة التي وراء الجسر قبالة باب المدينة... وحين سمع أصحابنا أن الأتراك دفنوا مَوتاهم، تهيؤوا وقصدوا بسرعة ذاك المكان الشيطاني (diabolicum atrium) وبدأوا، كما هو صائب، باقتلاع وتهشيم قبورهم، واجتثاثهم من أكفانهم. ثم رموا الجثث في حفرة، وقفلوا راجعين إلى مخيماتنا بعد أن قطعوا رؤوس الجُثث لكي نعرف عددهم بالكامل. ما عدا أربعة أحصنة محمّلة بالرؤوس أرسلت على حافة البحر إلى مبعوثي أمير العراق».

إنه عمل شيطاني لا يجرؤ على اقترافه إلاّ من فقدَ الإنسانية بالكامل وهوى إلى الدرك الأسفل من الحيوانية، انظروا كيف كانت لذة هؤلاء المجرمين بآلام المسلمين: «حينما رأى الأتراك هذا تألّموا بشدّة (doluerunt nimis)، كانوا تعسين حتى الموت (usque ad necem). كانوا حقا يتألمون طوال اليوم،(116) ولا يفعلون شيئا إلاّ البكاء والعويل (nisi flere et ululare)».  

الصليبيون لم يكتفوا بهذه الأعمال الوحشية، بل أمعنوا في إهانة المسلمين، يقول المؤرخ بأن في «اليوم الثالث بدأنا جميعا، بلذة عارمة (cum gaudio magno)، نَبنِي الحصن من الحجر، أي من ذاك الذي اقتلعناه من مقابر الأتراك(117)».

إن فقدان الذاكرة التاريخية، أو تزوير حقائقه هو الذي أتاح لمفركي الغرب، من أمثال ور وهايدغر واليمين الجديد، أن يتغنوا بمآثره الكبرى وتساميه على الشعوب الأخرى. لكن يكفي فقط تصفّح تاريخه منذ الحروب الصليبية إلى الآن، حتى نتفطّن إلى أنه عدا بعض المكاسب العلمية التقنيّة، فإنه لم يُسبّب إلاّ القتل والدمار. 

II ـ اليسار المتخاذل. فاتيمو والعقلانية المُنهَكة:   
لن أعود إلى ور ثانية، ولكني توسّعتُ في الموضوع لكي أبرهن على صعوبة التسليم بأطروحة فاتيمو حول شيخ الليبرالية الذي تُدَرَّس كتبه في الجامعات الغربيّة وتَرَبّى عليها جيل من الساسة المحافظين الجدد الذين تأسّوا بأفكاره وفعّلوها في حقنا نحن العرب، قسموا بها ظهورنا وما زالوا يقسمون ظهور الناس إلى يومنا هذا.

جانّي فاتيمو هو مفكر يساري جنسمثلي يزاول الآن السياسة بالفعل، لكنه بالدرجة الأولى فيلسوف ذو شهرة عالمية، ومؤلفاته معروفة ومتداولة بين الناس ومترجمة إلى عدة لغات. وله مواقف مشرفة جدّا بخصوص معاناة الشعب الفلسطيني. فقد قاطع معرض الكتاب في تورينو لأن المنظّمين استضافوا إسرائيل كضيف شرف، فاتيمو اعتبر هذه الدعوة عملا استفزازيا بحتا لأن فيها تأييدا ضمنيا للأعمال الوحشية التي تقوم بها إسرائيل ضد الفلسطينيين. وهو يستغرب كيف أن الإسرائيليين يشعرون بالتهديد من لاشيء (minacciati da nulla). فلهم في صفّهم أغلبية وسائل الإعلام الإيطالية، وأشهر ثلاث صحف إيطالية موالية تماما لإسرائيل، اليهود لا دخل لهم هنا. يقول فاتيمو إن اتّهموني بأني عدوّ للسامية فسأجيب «أنا أحب كارل ماركس، وكارل ماركس كان يهوديا. إذن أنا لست مُعادٍ لليهود، أنا معادٍ لإسرائيل وهذا شيء مختلف كليّا». ثم أضاف بأن معارضته لاستضافة إسرائيل في معرض الكتاب هي معارضة مبدئية لأن هناك دُولا في حالة حرب مع جهات أخر، إذا استفضنا واحدة منها فإننا سنوالي إحداها على الأخرى. حالة إسرائيل تشبه حالة البابا في جامعة لاسابيانسا، فهو يريد النزول بالجامعة لكي يتحدّث كبابا، وإسرائيل أيضا كدولة محتلة، وإذا عارضناها، فإننا سنُتّهم بأننا نحاول تدميرها. نحن ـ يقول فاتيمو ـ نعيش في دولة خانعة كليا لأمريكا، ونِصْف الأسباب التي جعلتني كارها لإسرائيل هي علاقتها الحميمية بأمريكا: إنها رأس الحربة للامبريالية الأمريكية في الشرق الأوسط، تفعل كل ما يروق لها لأن أمريكا تسمح لها بذلك، ونحن نتفرّج أو نبعث بجنودنا إلى لبنان للحفاظ على الأراضي التي احتلتها بالقوّة. «إلى الجحيم (all inferno)»، هكذا خَتَم فاتيمو، ثم تلحّف بالعَلَم الفلسطيني وسار في حاله. 

أنا لا أناقش فاتيمو في هذه النقطة، وأرى أن موقفه الموالي للقضية الفلسفطينية هو موقف مشرف وشجاع، لأننا نعلم كم خنوعا وانبطاحا وخوفا يسود وسائل الإعلام الغربية وحتى العربية منها. أنا أناقش فاتيمو في خياره الفكري: المفارقة الحرجة تكمن في أن الانتماء السياسي يتضارب مع التنظير الفلسفي والعملي. وهذه المفارقة تخص العديد من المفكرين المحدثين ذوي التوجه اليساري: فهم يَقفون، بالفعل، على إرث اشتراكي أمَمي، ذي نزعة انسانوية، ولكن بتخاذلهم وبالتقليل من شأن مخاطر أفكار الليبراليين العنصريّين، مكّنوا لليمينيين والمحافظين في شتى أقطار الأرض، وساهموا، عن غير قصد، في توطيد أقدامهم خصوصا في أمريكا وانجلترا. إنّ عبارة (Deregulation) "نزع الضوابط" هي العبارة التي سيّرت سياسة تاتشر (Thatcher) الإقتصادية في الثمانينات والتسعينات، حينما كان ور يصول ويجول في الساحة الثقافية الإنجليزيّة ويبثّ سمومه العدمية. ماذا كانت النتيجة على أرض الواقع؟ تدمير كامل للحركات النقابية، لفكرة الضمان الإجتماعي، عدم التقيّد بقوانين صارمة، ونظم مرجعية في الإنتاج، بما في ذلك الإنتاج الفلاحي، الشيء الذي أدّى إلى تفشّي مرض جنون البقر، ثمّ خروج الدولة من حلبة إدارة وترشيد الإقتصاد: إنّه قانون الغاب الذي أعاد الإنجليز عقودا إلى الوراء.

بهذا التساهل وبعدم رؤية المخاطر، أو التنبيه عليها حين ظهورها، سقط مفكّرو اليسار في الحضيض ومكّنوا لليمين، وللمتطرفين من المسيحيّين والمسلمين واليهود، دون أن يشعروا، بسدّ الفراغ الإيديولوجي الذي حدث بعد انهيار المعسكر الشرقي. والبعض منهم ارتدّ على أعقابه ودخل في صفوف الليبرالية بقوّة وبعنف لا مثيل لهما.

لقد دخل فاتيمو السياسة (مازال محتفظا بكرسيه الجامعي)، وهو الآن يمارسها بصفته نائبا يساريا في البرلمان الأوروبي، وكما قُلتُ، فهو جنسمثلي مُعلن يدافع عن المختلفين وعن حقّهم في الوجود. وهو معارض للحكومة اليمينية، إضافة إلى مواقف الكنيسة في المسائل الجنسية نظرا لأنها لا تعترف بأولئك الصنف من الناس وتعتبرهم مخالفين للطبيعة الإنسانية. ولكن في حقيقة الأمر، الكنيسة تطبّق المفهوم الذي نصّ عليه فاتيمو، معتبرا إياه مفهوما حديثا جديرا بالتفعيل، أعني (auctoritas non veritas facit legem)، "السلطة وليست الحقيقة هي التي تسنّ القوانين".

الأطروحة المركزية هي أن بين السلطة العمياء والحقيقة هناك تضارب: السلطة هي الإرادة، هي اللاعقل الذي لا يلتزم بأيّ قانون ولا يتقيّد بأي شرط من شروط الموضوعية، أمّا الحقيقة فتتميّز بالمعقوليّة والثبات والكلّية. العقل والحقيقة والمبادئ الإنسانية الثابتة تقول بأنّ الجنسمثلي هو إنسان لا يختلف عن أيّ إنسان آخر وخياره الجنسي، لا يزيد ولا يستنقص من إنسانيته شيئا. لكن طبقا للمبدإ الذي أشار إليه فاتيمو ورشّحه كمعيار للتقنين، فإن السلطة (هنا السلطة الكنسية، والمشرّعون اليمينيون في أوروبا) لها الحقّ في القيام بذلك، فقط لأنها سلطة، ولها الحقّ في أن تَحكم بإرادتها الحرّة غير متقيّدة بأيّ معيار كان، ولا حتى بمعيار الحقيقة والعدالة. 

1 ـ الفلسفة في المجتمع الديمقراطي:
أعود إلى المسألة التي انطلقنا منها وبالتحديد من المعضلة التي كنا قد طرحناها في البداية: كيف جعل فاتيمو من هايدغر مفكّرا ديمقراطيا؟ وكيف يوازي بين من اشتهر بتعصّبه الديمقراطي الليبرالي (مع كل الشكوك التي عرضناها أعلاه)، وبين من يُعادي جهارا الديمقراطية والإنسانوية؟

يبدو أن نقطة التوافق بين الفيلسوفين هي فكرة النظام الثابت: «ما يدعوه هايدغر بالميتافيزيقا هو بالتحديد فكرة الوجود كنظام مُعطى موضوعيّا مرّة واحدة وكفى، ذاك الذي يؤنّب عليه نيتشه ذاته سقراط، وهو في نظره مبدأ الإنحطاط الحديث ذاك الذي قتل الروح المأساوي عند القدماء. إذا كان الوجود هو بنية معطاة نهائيا، فإنه لا يمكن تصوّر أيّ انفتاح للتاريخ وأيّة حرّيّة(118)». لا أدخل في مماحكة جدالية بخصوص فكرة الوجود المأساوي والجمع بين تهجمات نيتشة على سقراط في مولد التراجيديا وربطها بفكرة الانحطاط(119)، لكن الزعم بأن تصوّر نظام وبُنى ثابتة يؤدي إلى الإنغلاق ونكران ديناميكية التاريخ وحرية الإرادة، فهذا ما لا يمكن التسليم به. العلوم الفيزيائية قائمة على هذا التصديق، أعني أن الكون هو بنية مكتملة فيه كمية من المادة، خاضعة لصيرورة مستمرّة، طبقا لقوانين ثابتة وضرورية. وإن رُفعت تلك الضرورة، أو اضمحلّ التنظيم فإن تعقّل الكون يصبح أمرا مستحيلا ولن تقوم للعلوم أية قائمة. أما حرية أفعال الإنسان وامكانات الديناميكية التاريخية والتطور فهي مواضيع أخرى، لكن أن يَتذرّع أحدهم بالحرية لكي يرفض بتاتا وجود بنى ثابتة، ومِن ثَم ضرب مشروعية اكتشاف قوانين حتمية، فهذا ما لا يمكن المصادقة عليه، لا لشيء إلاّ لأنه يقوّض من الأساس النشاط العلمي، هذا إن لم يجعل منه أمرا نافلا بالمرة. ولذلك يبدو أنه من الخلف تسمية فكرة وجود نظام معطى يمكن سبره عن طريق العقل بأنه ميتافيزيقا. هذه ليست بالميتافيزيقا، بل من جوهر العلم الصحيح كنشاط نظري يبرهن على أن الكون هو فعلا، منظم بحيث أننا قادرون على درسه واستنباط قوانينه. وهذه النظرة العلمية للكون هي أكثر ضمانا وتفاؤلا من النظرة المأساوية، وفاتيمو نفسه هو الذي أقرّ بذلك، على الرغم من أنه في كل كتاباته غلّب دائما البعد العدمي على المعرفي.

لكن حسب مقدمات فاتيمو فإن المقارنة بينه وبين ور، على الرغم من الفهم الخاص للميتافيزيقا عند هايدغر، ومع كل ما تتضمنه من مفارقات تبدو مشروعة. والدليل على ذلك أن أطروحات أغلبية الفلاسفة المعاصرين (فتغنشتاين، كارناب، البراغماتية الامريكية)، تؤيد مبدئيا هذا المنحى الفكري. النتيجة هي أن انطلاقا من رفض الميتافيزيقا يمكن طرح مسألة نهاية الفلسفة في عصر الديمقراطية (120). بل إن فاتيمو ذهب أبعد من ور وهايدغر زاعما أنه من الممكن القول بأن نهاية الفلسفة كميتافيزيقا، هي التدعيم، العملي والسياسي، للنظم الديمقراطية: «حيث توجد ديمقراطية لا يمكن أن توجد مجموعة من مالكي الحقيقة "الحقّة" (della verità vera) الذين إما أنهم يمارسون مباشرة السلطة (الملوك الفلاسفة عند أفلاطون) أو يقدمون للحاكم قواعد تصرفاته(121)».

النقطة الحرجة في تحاليل فاتيمو/ هايدغر وفي مجمل أطروحاته هي مماهاته بين الفلسفة ككلّ وبين الميتافيزيقا، وكما يلاحظ القارئ فهو يراوح دائما بين كلمة فلسفة التي يدعو إلى نهايتها من جهة، وبين الميتافيزيقا من جهة أخرى، وكأن الفلسفة في جوهرها هي مجرد ميتافيزيقا، أو يمكن اختزالها فقط في البعد الميتافيزيقي.

الدعوة إلى نهاية الفلسفة لها استتباعات عملية خطيرة حتى في ميدان التربية والتعليم، فاتيمو يقول بأن خطابه ليس بالخطاب المجرّد، لأن هجران الفلسفة ـ يعني موتها ـ تؤيده الإحصائيات الراهنة وما يحصل في الجامعات. وهو كأستاذ جامعي قد عاين بنفسه هذه المتغيرات حيث إن عدد الطلبة المرَسّمين في قسم الفلسفة يتناقص من سنة إلى أخرى، بالإضافة إلى النقصان الفادح في الإعتمادات التي تخصصها الدولة للدراسات الفلسفية، وهو دليل إضافي على الاضمحلال المستمر للفلسفة(122). هذا الذي يصفه فاتيمو هو إيذان بكارثة محققة، كارثة تمس الفلسفة ومستقبلها، وهو مدعاة للأسف لمدرسيها وطلبتها على حدّ سواء. كان عليه، كفيلسوف وأستاذ جامعي يُدرّس تلك المادّة، أن يُدين هذا المنعرج الخطير ويستنكره، لكنه برّر الهجمة ضد الفلسفة وقال بأن «كل هذا صائب ولا يمكن تفاديه، على الرغم من أنه مدعاة للأسف عند الكثير منا وبالخصوص طلبتنا. على كل حال هذا الأمر هو مَشهد ملموس جدّا لنهاية الفلسفة، التي تبدو أنها لا علاقة لها بالديمقراطية (123)».

نهاية الفلسفة تترك فراغا كبيرا، وهذا الفراغ لا يُمكن أن يُعَبّأ إلاّ بالجهل والعنف، كما توقّع فاتيمو نفسه حينما أعرب عن تخوفاته من أن سلطة الفيلسوف قد تُعَوَّض بسلطة أخطر وغير قابلة للضبط، أي سلطة التقنيّين والفنيّين أصحاب الاختصاص في مختلف مجالات الحياة الاجتماعية.

لقد قام فاتيمو بمعادلة غريبة وناشزة، ثم على أساسها أخلص إلى استنتاج أكثر غرابة. في البداية قام بتحوير لعنوان محاضرة هايدغر فأصبح: «نهاية الفلسفة في المجتمعات الديمقراطية والمهمّة (السياسية) للفكر» هذه هي المقدمة، والنتيجة هي التالية: «لقد انتهى الدور المَلَكِي للفيلسوف لأن الملوك انتهوا(124)».

ماذا تبقى للمثقفين من دور نظري وعملي في المجتمع الحديث إذا انقرضت علومهم وانتهت مهامهم السياسية؟ يُجيب فاتيمو بأنه يجب العودة إلى ما نظّر إليه هايدغر، والقيام بمحاولة "تمدين ولايته"، على حدّ تعبير غادامير وهابرماز، وهذا التمدين يفرض تحرير هايدغر من تَصوّفه العميق. لقد أشار هايدغر، في محاضرته "نشأة العمل الفني" (1936)، إلى أن مِن بين الطرق المؤدية للحقيقة، الفنّ والدين، والأخلاق والسياسة والفكر الجوهري. لكن هذه الاشارات لم تجد لها تطويرا في فكره اللاحق، وعلى كلّ حال لا يمكن البحث عن حدث الوجود (l evento dell essere) بالعودة إلى تلك اللحظات المفضلة التي أولاها أهمية خاصة: الأعمال الشعرية الكبرى، كلام أنكسيمندر أو شعر بارمنيدس، أو قصائد هولدرلن.

ما البديل إذن، إن استبعدنا هذه العناصر البنيوية من فلسفة هايدغر؟ وما المجال الذي ينبغي أن ينصبّ عليه الفكر الجديد؟ المجال عند فاتيمو هو أوسع من حدث الوجود، وعلى كلّ حال يبقى غير محدّد المعالم، ربّما يكون أقرب إلى السياسة منه إلى الفلسفة. المصطلح الوحيد الذي وجده أمامه لوصف الفكر الجديد هو عبارة لفوكو استعادها فاتيمو بتصرّف: أنطولوجيا الحاضر. لا المستقبل ولا الماضي، ولا الشمولية، بل الحدث الوجودي الذي يتلمّح رويدا رويدا في التجربة الجماعية. المثقف الجديد، بعد تشتت العلوم واختصاصها، وبعد انتهاء الفلسفة كعلم شامل، هو شخص يشبه إلى حدّ بعيد القسّ أو الفنان (al prete o all artista)، لكنه قسّ دون هَرَمية، وربّما فنان الطريق العام(125).

لقد عُدنا من حيث أتينا، ولم يُضف فاتيمو جديدا من حيث تهجّم هايدغر على الفلسفة ومماهاتها بالميتافيزيقا. لكن أكثر غرابة هو تصويره هايدغر بأنه فيلسوف ديموقراطي وذلك على أساس مقارنة خاطئة بينه وبين بوبر، ثم تأويله التعسّفي لنصوصهما، ونصوص فوكو التي استمدّ منها صورة المثقف الجديد.  

2 ـ تكهنات مستقبلية حول مصير الفلسفة:
دون أن نُحوّر عنوان محاضرة هايدغر، نتركه كما هو أعني "نهاية الفلسفة ومهمة الفكر"، ونحاول تتبع نصه عن كثب متفادين القيام بأي تأويل تعسفي كالذي فعله فاتيمو. وأنبه القارئ، منذ البداية، أننا إن تجنّبنا التأويل التعسفي فإننا من الديمقراطية التي عزاها الفيلسوف الإيطالي لهايدغر لن نعثر على ذرة منها في هذا النص.

المحاضرة التي نحن بصددها يصفها هايدغر بأنها محاولة تأمّل في إشكالية معاصرة، تبقى في العمق مجرد تساؤل. الأسئلة هي أصناف من الطرق التي تؤدي إلى إجابة ممكنة، وفي حالة وجود إجابة فإن الهدف منها تغيير الفكر. خطاب نهاية الفلسفة يموقعه هايدغر ضمن همومه منذ سنة 1930 وهو سؤال ما فتئ يتجدّد باستمرار، لكونه استعادة جذرية لمساءلة "الوجود والزمان"، ومحاولة القيام بنقد محايث(126). وكما رأينا عند مؤوله الإيطالي فاتيمو، فإن خطاب هايدغر لا يخرج عن صنف خطابات نذيري الشرّ، الذين يُبشرون بنهاية العالم وبالطوفان ويوم القيامة. سؤالان مطروحان على الساحة، الأوّل: كيف دخلت الفلسفة، في الحقبة الراهنة، إلى مرحلتها الأخيرة؟ والثاني: ما المهمّة المخصصة للفكر بعد نهاية الفلسفة؟

المفكرون الذين يزعمون الانتساب إلى الفلسفة ويواصلون الكتابة فيها أو تدريسها يَخجَلون من القول بأن استشرافَهم لموتِ الفلسفة يعنون به الفلسفة بالذات، ولذلك فإنهم يُحاولون التقليل من حدّة هذه النبوءات الكارثية، ويختزلون الاشكالية في الميتافيزيقا فقط، كما فعل هايدغر هنا في نصه قائلا: «الفلسفة يعني الميتافيزيقا (127)». وما هي خاصيات الميتافيزيقا؟ خاصيتها المميزة هي التفكير في الموجود بكليته، بالنظر إلى الوجود. وهذا التفكير هو في جوهره بحث عن الأساس، ومحاولة ادراكه، ومسكه وترويضه. الأساس هو الحضور، أو حسب كلمات هايدغر: «الأساس يتمظهر كحالة حضور الموجود(128)». بعبارة أخرى كل عمل التأسيس الفكري هو سيرورة تبدي إرادة القوّة التي تقيم المعايير.

وكما هو معلوم هايدغر لا يتحدّث هنا عن الفلسفة بل عن الميتافيزيقا، من حيث أن خاصيتها الأساسية هي الحفر في الأعماق، الفكر الميتافيزيقي ينطلق من الكائن الحاضر، يتمثله في حضوره، ويعرضه في أساسه من حيث هو مؤسَّس. لكن ما علاقة هذا بالفلسفة؟ وما معنى نهايتها؟ هذه الجملة التقريرية معناها لا يخرج من حيز الكلمات: النهاية تعني الانقطاع والانفصال على عكس الدوام والاتصال. لكن الأمر ليس بهذه البساطة، لأن نهاية الفلسفة عند هايدغر مفادها "اكتمال الميتافيزيقا" وهذا الاكتمال لا يعني بحد ذاته كمالا ما، كأن يزعم أحدهم أن الفلسفة في حالتها الأخيرة، حققت كمالها الأخير. فغياب الاطار المرجعي الثابت يمنعنا من الحكم على عصر ميتافيزيقي ما بأنه أرقى أو أفضل من آخر. لا مفاضلة إذن بين فكر أفلاطون ومن سبقه، أو بين فلسفة هيجل وفلسفة كانط. يجب أن نعترف بأن كل فلسفة هي ما هي، ولا أكثر، دون أن نُفضّل أو نُعلِي من شأن واحدة على أخرى.

البعد التصوفي الذي ذكره فاتيمو سابقا، والذي تَمَعّض منه لأنه يُحدث نوعا من البلبة والعتمة، يطفو على السطح في كل نصوص هايدغر. والتقنية هي ذاتها: إما السياحة والخروج عن الموضوع، أو تحليل الكلمات والعودة بها إلى أصولها الأولى (يونانية أو ألمانية وكفى)، ثم استخراج النتائج من خلال تلك العملية الفيلولوجية المشكوك في صحتها. وفي هذا النص تتنزّل بكثافة تلك العملية التي أصبحت عنده نوعا من الرياضة الفكرية، والتي مَرّت إلى أحبائه من الفلاسفة المعاصرين.

المعنى القديم للكلمة الألمانية "نهاية" (Ende) مرادف لكلمة "مكان" (Ort) فنحن نقول مثلا: "من نهاية إلى أخرى (von einem Ende zum anderen)" أي "من مكان إلى آخر". وفقط بفضل بسيط هذا التشابه بين العبارتين في اللغة الألمانية القديمة، أخرج هايدغر كلمة نهاية من معناها الأبسط في كلّ اللغات، إلى معنى خاص به وحده، أو على الأكثر به وباللغة الألمانية القديمة، أعني من انتهاء الشيء واكتماله إلى "مكان". ومن هذا التماهي اللفظي، أو "الفيلولوجي" تنسَكِب الاستنتاجات الاعتباطية الواحدة تلو الأخرى: نهاية الفلسفة هو مكان ـ النقطة التي يتركّز فيها تاريخها بأقصى مدلوله. وهذا هو معنى النهاية كاكتمال: تجميع في مكان واحد. من الطرف إلى الطرف، الفلسفة المُحدِّدة هي فلسفة أفلاطون، والميتافيزيقا من رأسها إلى أساسها هي أفلاطونية، ونيتشه نفسه تصوّر فلسفته كقلبٍ للأفلاطونية. لكن هايدغر يُقحم في هذه المعمعة كارل ماركس، الذي هو غائب عن فكره منذ البداية، ويقول بأن «مع قلب الميتافيزيقا، الذي تحقق مع كارل ماركس، فإن الإمكانية القصوى للفلسفة هي المستهدَفة. الفلسفة دخلت في مرحلتها الأخيرة. كل محاولة للتفكير الفلسفي لا يمكن أن تقود اليوم إلاّ إلى لعبة متغيرة من عملية إحياءٍ تقليدية(129)».

النهاية، من حيث أنها استكمال، تعني تجميع الشيء في إمكانيات قصوى. وما يساعد على التنبؤ بتلك النهاية هو اختلاف العلوم وانصرامها من الفلسفة، وهذا الاستقلال الذاتي يُبدي معالم اكتمالها الفعلي: «الفلسفة انتهت في عصرنا الحاضر(130)» وبالتالي فإن العلوم والتقنية والسيبرنيتيقا (Cybernétique) هي المآل الحتمي لنهاية الفلسفة، حيث وضَعَ الإنسان التقني بصماته على كوكب الأرض. لكن العلوم والتقنية التي يستخدمها الإنسان الحديث تبقى دائما محصورة في مجال الكينونة، في الظواهر المحسوسة فقط. وكما قد يحدس القارئ فإن هايدغر يستعرض هنا النقاط الأساسية التي يتمحور حولها فكره وبنود نقده للعلم وهذه عادة دائبة تخللت كل كتاباته من أولها إلى آخرها. ولا نتستغرب كثيرا ـ لقد عرّجنا عليها في مقالات سابقة ـ حينما يقودنا هايدغر إلى الاكتشاف التالي وهو أن نهاية الفلسفة مَوقها الطبيعي الغرب، وتحديدا أوروبا ومنها انتشرت لكي تكتسح العالم أجمع: «نهاية الفلسفة تَعني بداية الحضارة الكونية من حيث انطلاقها من الفكر الغربي الأوروبي(131)». إذا آلت الفلسفة إلى هذه النهاية التعيسة فما البديل إذن؟ وهل انتهى التفكير مع موت الفلسفة؟ هل من نقطة أخرى يمكن أن ننطلق منها للاضطلاع بتلك المهمّة الفكرية خارج إطار الفلسفة (= الميتافيزيقا) والعلوم الصحيحة؟ عن هذه الأسئلة الخطابية، يردّ هايدغر بأن هناك مهمة للفكر بقيت مفتوحة ولم تُستغلّ بعد، وهذه المهمة، حسب رأيه، لها صفة التهيئة وليس التأسيس. إنها المُمكِن المُهمَل، أي حسب جدليته: «يَكفيه (الفكر) أن يستثير استفاقة قابلية الإنسان لإمكان ما، حدوده غامضة، ووقوعه غير مُتَحقَّق منه(132)». لكن علينا أن نحتفظ بهذا الخزان، أي الممكن المُهمَل، برغم كل الغموض الذي يكتنفه ونلتزم به، هذا كل ما يجب أن يتعلّمه الفكر لكي يُغيّر الإنسان من وضعه.

الالتزام فقط، هذا ما ينبغي أن تضطلع به الفلسفة وأن تتعلّمه، وبتعلمها تهيؤ لتحوّلٍ ذاتي. لكن هذا التحول ليس الغرض منه بناء إنسانية جديدة أو تفادي الحرب الدائمة، أو توزيع الثروات بالعدل بين شعوب العالم، هايدغر بعيد عن هذه الهموم الراهنة. فإشكاليته الوحيدة التي شغلت تفكيره ولاحقته طوال حياته، ثم سرّبها لجميع أتباعه إلى حدّ أنها أصبحت الأفق الذي غطى على جميع الاشكاليات الفلسفية، هي وضعية العلوم الصحيحة واستخداماتها التقنية. الإلتزام الفكري، بعد نهاية الفلسفة، يتحول إلى تشخيص السبل التي تستطيع أن تتجاوز بها الحضارة العالمية الراهنة أفق التقنية العلمية الصناعية كمقياس أوحد لطريقة عيش الإنسان في هذا العالم. لكن الإنسانية، حسب اعتقاد هايدغر، غير قادرة من ذاتها وبقواها الخاصة على تجاوز إشكالاتها الخطيرة: العون يجب أن يأتي من صوت خارجي، من نداء رهيف تتقبّله الإنسانية وتنصت إليه بكل وقار. هذا الفكر الذي عوّض الفلسفة، أعني الفكر الذي تقتصر مهمته على مجرّد التهيئة لتحوّل جديد، لا يتنبّأ بالحال التي سيكون عليها المستقبل ولا يستطيع أن يُجيب عن سؤال: هل ستختفي الحضارة العالمية في وقت ما، أم أنها ستتحسن وتتقوى باستمرار في أشكال منظمة ومتجددة دائما؟ على الرغم من أن الفكر الجديد مُعفى من التنبؤ بالمستقبل أو بتكهّن حالة الوضع الذي ستكون عليه لاحقا فإن إشارات مضيئة، متأتية من تاريخ الغرب، أي من الفلسفة في بدايتها الأولى، قادرة على إنارة الطريق. 

3 ـ لعبة الفيلولوجيا وانتهاء فلسفة هايدغار:
الفلسفة اليونانية إذن هي التي تعطينا الإشارات: ولنا أن نحدس بأن الإشارات المُعلَن عنها ستنبع من روح الغرب أي من لُغته. وهايدغر كعادته، ينطلق من ألفاظ بسيطة، ألمانية بحتة: طرْحُ مهمة الفكر المستقبلي يعني، من زاوية فلسفية، تحديد شأن الفكر، أي مسألة الفكر الدائمة ونقطة ارتكازه، وهذا ما يُعبَّر عنه بالإلمانية بلفظة "Sache"، شيء. أفلاطون يستعمل في الرسالة السابعة عبارة "براغما" ، والفلسفة الحديثة نادَت بالتفكير في الشيء ذاته (zur Sache selbst) في "شأنها الذاتي". هذا الاستدعاء، أو النداء يمكن أن نسمعه من خلال النص الذي صدّر به هيجل كتابه لسنة 1807 تحت عنوان "نسق العلم، الفصل الأول: فينومينولوجيا الروح"(133). في النداء "إلى الشيء ذاته" (zur Sache selbst) التأكيد مُركّز على كلمة "ذاته" (selbst)، فالنداء له معنى التحذير، كل ما لا يرتبط بشأن الفلسفة يتمّ إزاحته ودحضه (مثل عرض أهداف الفلسفة، أو التوسع في نتائج الفكر الفلسفي)، لأن الفكر الكلّي للفلسفة لا تمثله هذه الخلاصات الجزئية بل يتمظهر في صيرورته، أي في تقديم نقاط تطوّر ذاك "الشأن"، بحيث أن موضوع البحث ومنهجية العرض تصبحان واحدة. هذه الوحدة أو التماهي، يسميها هيجل "الفكر (der Gedanke)": انطلاقا منه يبرز شأن الفلسفة مكتملا في ذاته، هذا الشأن في تحديده التاريخي، هو الذات. يقول هيجل بأن ديكارت، عن طريق الأنا أفكر، منح الفلسفة، لأول مرة، طريقا آمنا إذ أصبحت الذات المُفكّرة (ego cogito) هي الموضوع بامتياز. فالأساس المطلق (fundamentum absolutum) الذي توصّل إليه يعني في نهاية المطاف أن الذات أصبحت هي الأساس الموضوعي ، وذلك بانتقاله إلى الوعي، أي إلى ما هو حاضر بالفعل، وهذا الحاضر أخذ في لغة الفلسفة القديمة اسما غير مُحدّد: الجوهر(134).

حينما يفسّر هيجل في تصديره أن «حقيقة الفلسفة ينبغي إدراكها والتعبير عنها ليس كجوهر بل، بكلّ حزم، كذات»، فهو يعني أن وجود الموجود (الكائن) حالة حضور ما هو حاضر، هو إذن ظاهر فقط في اكتماله، حينما تكون حالة الحضور متشخّصة في ذاتها بفضل الفكرة المطلقة. لكن منذ ديكارت "فكرة" تعني أن ادراك صيرورة الوجود في ذاته تتموقع في الجدل العقلي، حركة الفكر، المنهج هذا هو إذن "الشأن ذاته" (Sache selbst). النداء "إلى الأشياء ذاتها" يُنبّه، في تطابق مع الشأن، إلى منهج الفلسفة. لكن ـ يواصل هايدغر في هذيانه ـ شأن الفلسفة هو الذي أصيب بالعطالة والتوقف منذ الإنطلاقة، شأن الفلسفة كميتافيزيقا، هو وجود الموجود، حالته الراهنة في صورة الجوهرية والذاتية.

بعد قرن من الزمن، نداء "إلى الشيء ذاته (zur Sache selbst)"، نسمعه مجدّدا من مقال هوسرل بعنوان "الفلسفة كعلم دقيق" الذي نشره في العدد الأول من مجلة "لوغوس (Logos)" سنة 1910 ـ 1911. وهنالك أيضا فإن النداء له أوّلا معنى التحذير، لكنه يسلك اتجاها مخالفا لهيجل. فالمقصود هو السيكولوجيا الطبيعية التي تزعم أنها المنهجية الصحيحة للفحص في الوعي، وتمنع بالتالي من الولوج في ظاهرات الوعي القصدي. لكن النداء الرّامي إلى الأشياء ذاتها (zur Sache selbst) يحذرنا أيضا من التاريخانية التي تَهِيم في نقاشات حول تعدد وجهات النظر الفلسفية ومختلف أنماط النظرة للعالم. وفي هذا الشأن فإن هوسرل يقول مسطرا أقواله: «ليس من فلسفات، ولكن من حالات أشياء (Sachen) يجب أن ينطلق دافع البحث». عند هذه النقطة، يتساءل هايدغر: ما هو شأن البحث الفلسفي؟ إنه، بالنسبة لهوسرل، كما كان عليه الحال عند هيجل، ذاتيّة الوعي، مبدأ كل المبادئ هو أولوية المنهج، وهذا بحد ذاته يفرض الذاتية المطلقة كشأن خاص بالفلسفة. الإختزال المتعالي إلى الذاتية المطلقة يمنح ويضمن امكانية تأسيس موضوعية كل الأشياء. هذه القناعة جعلت هوسرل، حسب رأي هايدغر، يصل إلى النتيجة التالية وهو أن الذاتية المتعالية هي «الكائن الوحيد ذو القيمة المطلقة»، ويتلازم هذا المبدأ مع شأن آخر يخص الفلسفة ويُميزها، أعني "الإختزال المتعالي" كمنهج للعلم الكُلّي الذي يَضطلع بتكوين وجود الموجود: المنهج هنا هو مفتاح كل شيء(135).

ما مغزى هذه التعريجات التاريخية؟ وماذا تفيد القارئ للمسك بمهمة الفكر المستقبلية بعد نهاية الفلسفة؟ لا تفيد شيئا، ولا تُعِينُنا قَطّ على إدراك "نداء الشأن ذاته"، هكذا يجيب هايدغر، لكن لكي نفهم بجدّ ذاك النداء علينا أن نسير في درب اللامفكّر فيه، وهذا ما يُمَكّننا من التفطن إلى أشياء أخرى: حيث تَجعل الفلسفة من شأنها الخاص العلم المطلق والوضوح الأقصى، هناك يُغيَّب ويُقصى شيء آخر. ما الشيء الذي يبقى لامفكرا فيه سواء بخصوص الفلسفة أو منهجها الذاتي؟ الجدلية العقلانية هي ضرب من التفكير يرى أن شأن الفلسفة، يقتصر على البعد الظاهر وبالتالي يُعرَضُ في حاضر ما، هذا الظهور يحدث ضرورة في وضوح معيّن، ومن خلال هذا الوضوح فقط، كلّ ما يظهر يَسمَح برؤيته، أي يتبدّى. لكن الوضوح نفسه له مَكمن في بعد انفتاحي حرّ، الوضوح يلعب في المنفتح وهناك تتصارع الأشباح (الظلال).

عند هذا الحدّ يعود هايدغر مرة أخرى لكي ينقذ موقفه الغامض ويفصح عن نفسه مفوّضا هذه المهمة إلى مساعده الأوحد، أعني اللغة، وبالتحديد اللغة الألمانية. يقول: نحن نسمّي بالألمانية حالة الإنفتاح التي تجعل ممكنا لأي شخص أن يكون في محلّ نظر وقابل للإشارة بـ إشعاع (die Lichtung)، وهذه التسمية لها نفس صيغة الكلمات الألمانية القديمة (Waldung) و (Feldung). وُضُوح الغابة (Waldlichtung) يُناقض عتمة/ ثخانة الغابة، التي تسميها الألمانية القديمة (Dickung). الكلمة "إشعاع" (Lichtung) تحيل إلى الفعل "أشعّ" (Lichten)، النعت "مشعّ" (licht) هو مرادف لكلمة "خفيف" (Leicht). (Etwas lichten) يعني جعل شيء ما أخفّ، جعله مفتوحا وحرّا. على سبيل المثال، تنظيف الغابة ونزع أشجارها: المجال الأجرد الذي يظهر إثرها هو "الإشعاع"(136) (Lichtung). وللإيضاح يقول هايدغر بأن النعت (Licht) بمعنى حرّ ومنفتح، لا علاقة له بالنعت (licht) الذي يعني واضح ومُضيء(137). هناك اختلاف بين (licht) و (Lichtung)، لكن هذا الاختلاف لا يمنع من وجود ترابط وثيق بينهما. النور يمكن، فعلا، أن يُطلّ على الاشعاع (Lichtung) بما لديه من انفتاح، ويسمح بلعبة النور والظلمة. لكن ليس النور هو الذي يخلق انفتاح الاشعاع (Lichtung)، بل العكس، فالنور هو الذي يفترضه. المشعّ ليس هو فقط بِحُرٍّ أمام النور والظلمة، بل أيضا أمام الصوت المُدوّي والذي يذبل صداه مع الزمن. أخيرا يُعرّف هايدغر الاشعاع (Lichtung) بأنه الوضوح للحضور والغياب: فهو بالنسبة لمجال الفكر الظاهرة الأس (Urphanomen)، أو الشيء الأساس (Ur-Sache).

أنا أستغرب كيف حاز هذا الرجل على أتباع كُثر في العالم، وعلى أيّ أساس نبعت شهرته كفيلسوف عظيم؟ انظر إلى هذه الأفكار المتهافتة من كل صوب وحدب، هذه الجمل الهيروغلوفية في غموضها، والعبارات ذات النفح التصوفي التي انقرضت من الفلسفة منذ زمان. لكن مع هايدغر عادت بقوّة محمّلة بمعان جديدة، معان متشابهة يمكن أن تحمل الشيء ونقيضه وأن تُرضي العقلاني واللاعقلاني، المتدين وشبه المتديّن، الماركسي والليبرالي على حد سواء. والغريب كيف أن خطابا من هذا القبيل، خطابا يُنبؤ بكارثة أنثربولوجية لو كُتب له التحقق فعلا، أعني ادعاءه نهاية الفلسفة، هذا الخطاب أصبح في أعين أتباعه دليلا على أصالة في التفكير لا مثيل لها.

فقط للأمانة العلمية أواصل متابعة خور هايدغر واستيهاماته حول نهاية الفلسفة ومهمة الفكر. «لا يجب علينا أن نُفتش عن شيء وراء الظاهر: "إنها هي ذاتها التعاليم" كما يقول غوته» ومن هذه العبارة يستخرج هايدغر المفهوم التالي: وهو أن الظاهر نفسه، في الحالة الراهنة هو "الاشعاع" (Lichtung) الذي يَضعنا أمام مهمّة التعلّم منه ومساءلته، يعني يتركنا نقول من خلاله شيئا ما.

لا نفهم شيئا من عباراته التصوفية هذه، لكن هايدغر يُعمّق الهوّة بينه وبين القارئ، ويَلِج مرة أخرى في أجَمَة التحليل الفيلولوجي للكلمات. اللغة التي رشّحها هذه المرّة، كمرجع حامل ومؤيد لاستنتاجاته، هي اليونانية. ولقد أدمجها في هذا الموضع لغاية نقض الفكر العقلاني المنطقي بالفكر الأصيل الذي سماه انفتاحا وانصاتا، (ولا ندري انفتاحا على ماذا؟ وانصاتا إلى من؟). الفكر العقلاني الجدلي (فكر التنوير والماركسية)، كما الحال بالنسبة للحدس الأصلي ووضوحه (ديكارت وهوسرل)، يبقيان منحصرين في مجال المنفتح ووضوحه. فالبيّن بذاته هو ما يتراءى مباشرة للنظر، وهو مِن مجال الابصار والمُعاينة. إن عبارة "وضوح" (Evidentia) هي اللفظة التي ترجم بواسطتها شيشرون الكلمة اليونانية ونقَلَها إلى عالمه الروماني، وهو العالم الذي أخرجه هايدغر من مجال الفلسفة، وكثيرا ما تهجم عليه بشدّة(138). لكن في لغة اليونان ليس هناك أثر لفعل النظر (videre) اللاتيني، فهو فقط كل ما يشعّ ويلمع. لكن اللمعان لا يحدث إلاّ إذا كان هناك المنفتح، فشُعاع الضوء ليس هو الذي يُولّد المنفتح بعد، بل إنه يكتفي بمَسح الوضوح وقياسه(139). كل ديناميكية التفكير الفلسفي، تلك التي تُجيب ضمنا أو صراحة على نداء "إلى الشيء ذاته"، في مسيرتها وبمسيرتها تلك، مُسلَمَة إلى حرية المنفتح. لكن، يعترض هايدغر، مِن المُنفتح ومن وضوحه، الفلسفة لا تدري شيئا، الفلسفة تتكلّم، فعلا، عن نور العقل لكنها لا تنتبه إلى سر وضوح الوجود.

الميتافيزيقا وأعداؤها (الوضعيون) كلهم يتكلمون لغة أفلاطون، لغة تتلخص في هذا المبدأ: المثال ، الفكرة ، أي الهيئة الخارجية التي يتبدّى عليها الكائن كما هو، ومن حيث هو ضرب من حالة الحضور. ليس هناك هيئة ماثلة دون شعاع مضيء، لكن ليس هناك شعاع ولا وضوح خارج إيضاح المنفتح.

قلنا سابقا، خطابا تصوّفيا متشابها وغامضا، هنا يُضيف له هايدغر مسحة من الشعر المأساوي «حتى المظلم هو في حاجة له (لإيضاح المنفتح) وإلاّ فكيف يتسنّى لنا الدخول في ظلمة الليل والتّيه فيه؟(140)». لكن هذا الكشف الذي تفطّن إليه هايدغر وعبّر عنه بلغته الخاصة جدّا، لم تفهمه الفلسفة ولم تُدرك معناه أجيال من الفلاسفة ولا حتى فكّرت فيه. فعلا «المنفتح الذي يُهيمن على الوجود ذاته، في حالة الحضور، يبقى كما هو كذلك، لا مُفكّرا فيه(141)». هايدغر قال بأن مسار الفلسفة بأكمله هو هذا اللامُفكّر فيه، ولكنه يستثني البعض، ومن الهيّن على القارئ أن يُموقع مجال استثناء هايدغر ويحدس بمفرده مَن مِن الفلاسفة الذين فكّروا في "اللامفكر فيه" واستطاعوا اكتناه غور الانفتاح. علينا أن نختار عالمين لا ثالث لهما: إما اليونان أو الألمان، وفعلا هذه المرة ذهب اختياره إلى العالم اليوناني. في بداية الفلسفة هناك مَن تكلم عن وضوح الانفتاح «ما هي الأسماء التي أثارته؟ وأين نجد هذه الإثارة؟ الجواب: في قصيدة بارمنيدس الذي كان، بحسب عِلمنا، هو الوحيد الذي تفكّر وجود الموجود والذي هو اليوم، لا أذن تُصغي إليه، يتكلم في العلوم التي ذابت فيها الفلسفة(142)».

لن ألج في تحاليل هايدغر الفيلولوجية والتي أثارت استياء شديدا في أوساط الفلاسفة، واستنكارا من طرف الفيلولوجيين المُختصين(143). لكن ملاحظة لا أودّ السكوت عنها، وهي أن تحاليله لا تقلّ غموضا عن النتائج التي أراد التوصّل إليها، وإن فهمنا جيدا مقصده فإن مغزاها، حسب أجمة عباراته، هو هذا: الحقيقة، أو حالة عدم التجلي، يجب التفكّر فيها كمُنفتح الواضح الذي يَترك الوجود والفكر يَحدُثان في حضورهما الواحد للآخر وبالآخر. كلّ هذا الغموض لكي يتفادى ترجمة اللفظ اليوناني بكلمة "حقيقة"، أو (veritas) باللاتينية. والسبب، حسب رأيه، هو أننا في الوقت الذي نفهم كلمة "حقيقة" بمعنى الشيء الواضح بذاته، الذي هو التطابق، فهو نفسه مُسلّط عليه الضوء في مُستوى الموجود، معرفة الموجود، وحتى عندما نُأوِّل الحقيقة كيقين معرفي مُنصبّ على الوجود، فإن الـ حالة الانسحاب وعدم التجلّي، كما هي محمولة من المنفتح، لا يمكن مطابقتها مع مفهوم الحقيقة(144).

كل الفلسفات على مدى تاريخها الطويل، ومنذ أفلاطون، علّقت همّة الفكر فقط في التساؤل عن حقيقة الموجود، ولا واحدة منها اهتمّت بالوجود بما هو وجود(145).

يبدو أنه من الصعب جدّا على القارئ العربي أو حتى الغربي مواصلة قراءة هذا العمل، وجلّ نصوص هايدغر هي هكذا من حيث حملها لشحنة من العنف تضغط على نفسيّة القارئ وتقوده إما إلى الاستسلام أمام هلوسات هذا الرجل أو إلى رفضها بالكامل. لكن وضعية أتباعه من غير الغربيين وفي مقدمتهم العرب هي أسوأ، ذلك لأنه اعتبر الفلسفة حكرا على العالم الغربي فقط. الفلسفة هي أوّلا وقبل كل شيء أمر يخصّ وجود العالم اليوناني، «ليس هذا فقط (Nicht nur das) بل إن الفلسفة تُحدّد أيضا الأساس الصميمي لتاريخنا الأوروبي الغربي(146)». لا مجال للشكّ في هذه البديهية، فالتّعبير «فلسفة غربية ـ أوروبية» هو مجرّد تحصيل حاصل. الفلسفة هي بوتقة مغلقة لا يدخل فيها ولا يخرج منها أي شيء: إنها اليونان، أوروبا أي الغرب، وكفى. يجب، على كل حال، الاعتراف بهذه الحقيقة، وهو أن هايدغر حينما يريد تمرير خطابه الشوفيني فهو واضح وضوح الشمس، أما حينما يود التعبير عن أفكاره الفلسفية فهو ينتقى الأغمض والأعسر من الكلمات. لقد اعترف أحد كبار مؤرخي الفلسفة الكلاسيكية، جونثان بارنس (J. Barnes) بأنه ذاق الأمرّين من مطالعته هايدغر، هذا على الرغم من أن تلك المُطالعة اقتصرت على نصّ قصير جدّا، ألا وهو نظرية أفلاطون في الحقيقة(147). من المفروض أن يمتلك أحدنا عشق أتباعه وهيامهم لكي يصبر على هذا العنف ويسترسل في الغوص في النصوص التي بين يديه. ولكن مرة أخرى، ولأجل الأمانة العلمية والالتزام الذي قطعته على نفسي، أواصل المسار معه.

الجدير بالذكر أن هايدغر، في الحالات النادرة التي يضع نفسه في موضع قارئه وحينما يلتفت إلى الوراء ويتفكّر نصوصَه، فهو يُبدي وعيا بصعوبة مصطلحاته وتشعّبها، بل مستعدّ حتى لذكر الجوانب التصوفية من أفكاره التي وصلت إلى حدّ الهذيان. وهذا اعترافه الشخصي: «كيف! ألا يكون كل ما قِيل إلى حدّ الآن ليس هو على الأكثر إلاّ تصوّفا دون أساس، أو حتى ميثولوجيا رديئة؟ ـ على كل حال هو لاعقلانية قاتلة ونكران للعقل(148)». قد يتبادر لذهن القارئ أن الأمر فعلا على هذه الشاكلة، وليس غريبا أن تكون مجمل هذه الاعتراضات قد استمدّها من نقاده دون ذكر أسمائهم. فأول مَن تفطّن إليها وكشف اللثام عنها وصدع بها أمام الملأ هو أستاذه هوسّرل (Husserl) ثم كارناب (Carnap)، فَكَاوفمان، يُوليوس كرافت، ثم كارل لوفيث وآخرين. كيف كانت إجابة هايدغر؟ وما السبيل للخروج من هذه المعضلات؟ قد يستبقني القارئ بالإجابة لأنه تروّض عليها منذ زمان: تحليل الكلمات، أو الفيلولوجيا المتوحّشة، أو تقنية ثالثة وهي السؤال على السؤال: «أنا أسأل بالمقابل: ما معنى عقل ، فهم، فاهمة؟ ماذا يعنى الأساس؟ ما معنى مبدأ، أو حتى "مبدأ كل المبادئ"؟»، عن كل هذه الأسئلة التي أثارها هو نفسه، هايدغر يقول بأن الجواب صعب المنال، ولكن علينا أن نمرّ أولا بالمرحلة اليونانية، وأن نتعقّل الحقيقة بمعناها اليوناني، أي كعدم احتجاب، ثم نتجاوزها لكي نجد أنفسنا في النّفق الذي صنعه هايدغر: أي أن الحقيقة بما هي سطوع، هي انسحاب المنفتح(149).

سبيل هايدغر معروف وقد سطّره وردّده في مجمل كتاباته: العقلانية التقنية العلمية غير مكتفية بذاتها، البرهنة، كعَمَلية عقلانية منطقية، لا تنفذ إلى أغوار الحقيقة، ولا تسلك طريق الوجود الحق، وبالجملة المآل الذي تردّت إليه العلوم هو فعلا اللاعقل. وهنا، كما قد يتفطّن القارئ، فإنه يلتقي في نقطة موحّدة مع بوبر الذي ادعى أن الموقف العقلاني العلمي هو أشد المواقف لاعقلانية.

أخيرا، إثر هذه الجولة الشائكة وبعد التبشير بموت الفلسفة نود أن نعرف "ما مهمّة الفكر؟" هذا إن كانت هناك مهمّة تُذكر، وما مستقبل الإنسانية بعد اختفاء أعظم انجازاتها؟ على حدّ زعم هايدغر، كل شيء مسلّم في يد الوجود، فهو الذي يدعونا إلى الإنصات إليه ويجعلنا أحرارا، وهو الذي يَتخفّى لأننا نصدّه ونُدبر عنه. نحن في دور ولا ندري كيف الخروج، ما العمل لكسر أغلالنا وما السبيل للتحرّر النهائي؟ السبيل الوحيد، هو أنه ينبغي علينا الاصغاء إلى نصيحة هايدغر: يجب تَرك/ هجران الفكر السائد حتى الآن (الفلسفة، العلم، الميتافيزيقا، التقنية) واتباع نهجه هو.

مَن ينادي بموت الفلسفة ويفعل كل ما بوسعه من مراوغات لُغَويّة كي يصدّنا عن معرفة البديل، فإنه حتما لا تعزّ عليه الفلسفة، ولا حرية الفكر، ولا العقلانية، أو الديمقراطية. وبالتالي فإن الزعم بأن هايدغر هو فيلسوف ديموقراطي، حتى وإن أجرينا على أفكاره شتى أنواع التأويل الرحيم أو، كما اختار فاتيمو "التأويل العنيف"، يبقى مجرد زعم فقط. ونصوص هايدغر إذا سلخناها من شحنة التصوّف، وتركناها تتكلم بنفسها، ستقودنا حتما إلى العكس. وللبرهنة على أقوالي أعطي مثالا واحدا: مطلب الحرية والاستقلال بالرأي الذي ينادي به المثقفون، حسب رأيه لا معنى له، ومن يخرج عن طاعة النظام (النازي طبعا) ويحاول التآمر عليه أو تقويضه من الداخل، فإن القوة العمياء هي الدواء الوحيد لدحره وتكسيره. يقول في "المدخل إلى الميتافيزيقا": «الآن إذ تمّ اختزال الروح في العقلانية ـ وهذا الاختزال قد أوصلته الماركسية إلى مداه الأقصى ـ فمن الصواب جدّا القول، لكي يُقاوَم هذا الأمر في خضمّ القوى الفاعلة للكائن الإنساني، أن نجعل الروح، أي العقلانية، تابعة للفعل للقوة الجسدية والطبع(150)»، وهنا يُعلّق لوسوردو (Losurdo) أحد دارسي الذي يبدو أكثر حزما من فاتيمو، بأن هذا الكلام يعني تبرير مشروعية قهر المثقفين اليساريين وتحييدهم بالقوّة(151). في الوقت الذي اعتبر فيه ور المثقفين اليساريين أشرارا، وعدّهم كارثة تُهدّد واحة السلام والرخاء التي هي الغرب، ناكرا عليهم حقهم في التكلّم أو حتي في نقد الغرب السّعيد، فإن هايدغر قد سبقه بزمان على هذا النهج ولكن تنظيره لم يبق في سماء التجريد بل تكفّل النظام الذي كثيرا ما أثنى عليه، بتطبيق نصيحته (تنبيهه) على أرض الواقع: المعتقلات النازية، الأشغال الشاقة ثم الإبادة الجماعية.

الحرية الأصيلة عند هايدغر هي تلك التي كانت سائدة في القرون الوسطي، والمتمثلة في نظامها الهرمي، والطاعة العمياء ووحدة المصير، أما الحرية الحديثة، من انتخابات عامة وتعدّدية سياسية وبرلمان ومؤسسات حكومية وحريات دينية، فهذه كلها يقذفها في مزبلة التاريخ، ويتّهمها بالابتعاد عن الجذور الأولى للغرب والتخلّي عن الأصالة.

وليس من التعسف أن يُدمِج بعض الدارسين فكر هايدغر السياسي في إطار النزعة البراغماتية المصلحية على الشكل الأمريكي، والخالية من أي مطلب حقوقي أو أخلاقي. فالمعاهدات الدولية، والقوانين المُجمع عليها من طرف الأمم التي تمثل ضمانات موضوعية تقيهم شرّ المظالم والحروب، وأرضية تمكّن على الأقل من إرساء بسيط مبادئ التواصل الأخلاقي، هي في نظره (وفي نظر البراغماتيين) غير ملزمة بتاتا. القانون والمبدأ الأعلى هو المصلحة، والآلة للحفاظ على تلك المصلحة هي القوة، وإن أدى ذلك إلى تمزيق المعاهدات، واستخدام أبشع وسائل التعذيب والقهر.

بعد هزيمة فرنسا، قام الجيش الإنجليزي بتدمير الأسطول الحربي الفرنسي كي لا يقع في أيدي الألمان. هايدغر الذي كان يتابع الأحداث عن كثب وفي أدق دقائقها، مُدمجا آراءه السياسية ونشوة الإنتصار في دروسه الفلسفية قال معلّقا على هذا الحدث: «حينما يعمد الإنجليز الآن إلى دكّ وحدات البحرية الفرنسية الرّاسية في مرفئ هوران، هذا شيء "صائب" من وجهة نظر "إرادة قوّتهم"، "عادل/ صواب" هو فعلا كل ما يصلح لتنمية القوّة... فكل قوّة، إذا تُصُوِّرت ميتافيزيقيا، لها حقها (Recht) وفقط عن طريق الضعف/ العجز تسقط في اللاحق (Unrecht)... الآن تصرّفات العدوّ تُقيّم، على العكس من ذلك، طبقا لأخلاق إنسانية كونية، والتي لها مجرد قيمة دعائية(152)».

إلى أي نص ولّينا وجوهنا فإن هايدغر يصدمنا، كما صدم المفكرين المعاصرين له، ببعده عن الحس الديمقراطي، وبكثافة خطابه الشوفيني القومي. في السّنة التي ألقى فيها "خطاب العِمادة" وحينما اطّلع عليه الفيلسوف الإيطالي بندتّو كروتشي (Benedetto Croce)، أصيب بخيبة أمل مريرة، واستفزته طريقة هايدغر في الازدراء بحرية واستقلالية الفلسفة في الوقت الذي يدافع فيه اللاهوتي كارل بارث، بكل شجاعة، عن استقلالية اللاهوت. وقد كتب مراجعة شخّص فيها بدقة فائقة مفارقات الخطاب الهايدغاري واستتباعاته الايديولوجية قائلا: «الأستاذ هايدغر لا يريد أن تكون الفلسفة والعلم شيئا آخر، للألمان، أكثر من أنهما شأن ألماني، لصالح الشعب الألماني. الطلبة الألمان، حسب كلامه، لهم ثلاثة واجبات، الأول والأساسي منها هو "المجموعة الشعبية (Volksgemeinschaft)"، القومية. ولكن إن راجع بجدّ ضميره الأخلاقي (كل إنسان يملكه إذن هو أيضا يملكه)، فسيقول إن الواجب الأول للأساتذة والطلبة هو مخافة الله (timor Dei) كما هو مكتوب على واجهة جامعة لاسابيانسا (La Sapienza) بروما. (هايدغر) كاتب تَقعّرات عمومية، هوائية على شاكلة بروست (Proust) أكاديمي. هو الذي في كتبه لم يُبدِ إطلاقا أي إشارة إلى أن لديه اهتماما أو معرفة ما بالتاريخ، بعلم الأخلاق، بالسياسة، بالشعر، بالفن، بالحياة الروحية العينية في مختلف أشكالها ـ أيّ انحطاط هذا أمام فلاسفة، فلاسفة بحق، ألمانيين في الماضي، أمام كانط، شلينغ، هيجل! ـ، اليوم يغوص كليا في هاوية التاريخانية الأكثر زيفا، في تلك التي يَنفيها التاريخ، والتي بِحَسَبِها فإن حركة التاريخ تُتصوّر بفظاظة كصراع شعوب وأعراق، كاحتفاء بمآثر ذئاب وثعالب، أسود وضباء، غائب الفاعل الأول والأحق: الإنسانية. فهو يكتب بأسلوبه الجميل الذي تعودنا عليه من كُتبه الفلسفية: "الإرادة التي تريد جوهر الجامعة الألمانية هي نفس تلك الإرادة التي تريد المعرفة العلمية، مُقدّرَة بدورها كإرادة تريد المهمة التاريخية للشعب الألماني بما هو شعب مغروس في دولته الخاصة. معرفة علمية ومصير ألماني، في إرادة الجوهر، يجب أن يتلاحما معا في القوة". وهكذا فهو يسارع أو يوفر نفسه لتقديم خدمات فلسفية ـ سياسية: إنها بالتأكيد طريقة في تَعهير الفلسفة (prostituire la filosofia)، دون إضافة أية مساعدة للسياسة الواقعية، لا بل، ولا حتى لتلك الغير واقعية، والتي بهذا الخليط من السكولاتكية الدنيئة لا تدري ماذا تفعل، نظرا لأنها ترتكز وتشتغل بفضل قوى أخرى، خاصة بها.

لكنه مختلف جدا ـ يُضيف كروتشي ـ موقف اللاهوتي كارل بارث، الذي يقول الحقيقة للمسيحيين الألمان، المستعدين للصراخ بأن الكنيسة الإنجيلية يجب أن تخدم مصلحة الشعب الألماني والإمبراطورية الثالثة، المنادين بزعيم مثل البابا، يقودهم بحزم في الحياة الجديدة التي بدأت مع ربيع سنة 1933، وبإقصاء من بين جنبيهم المسيحيين من دم يهودي أو بمعاملتهم كمسيحيين من درجة ثانية، وهكذا دواليك. "نحن ـ يكتب بارث ـ لدينا واجب تبليغ كلمة الله إلى الشعب الألماني، ونحن نخطئ ليس فقط أمام الله، بل أيضا أمام هذا الشعب نفسه إذا نشدنا قِيما وغايات أخرى، ليست مما أنيطت بعهدتنا. إن من طبيعة واجبنا ألاّ يكون خاضعا أو ثانويا بالنسبة لأي طلب، ومجددا فإننا نخطئ أمام الله وأمام شعبنا، إن تركنا هذا النظام الهرمي يتصدّع ولو لحظة واحدة". اللاهوتي بارث يُدافع بكل جدارة عن استقلالية اللاهوت، بينما الأستاذ هايدغر سارع بنبذ استقلالية الفلسفة»(153).

أنا أتفهّم المواقف الحرجة التي يجد أتباع هايدغر أنفسهم فيها حينما يُدركون الارتباط الوثيق بين تفكيره الفلسفي، على الأقلّ في فترة ما بين الحربين، وبين مواقفه السياسية الموالية لأكثر النظم دكتاتورية في العالم. ولكنني لا أفهم الرسالة التي يريد أن يبثها فاتيمو إلى قرائه من خلال عنوان محاضرته، وكيف يستطيع أن يتناسى كل الدراسات الموثقة التي أثبتت التزاماته السياسية، وولائه اللامشروط للنظام النازي، وهل من المسموح به، بعد كل هذا، أن يعمد إلى تفعيل ذاك الصنف من العنف التأويلي الذي تحدّث عنه، لكي يَمحوَ الشكوك، ويُسوّي المشاكل ثم يطلع على الملأ بعنوان مثير: "هايدغر فيلسوف الديمقراطية"؟

ومع ذلك فإنني لا أصل إلى حدّ إدانة فاتيمو كما فعل فيكتور فارياس، صاحب كتاب "هايدغر والنازية"، في كتابه الأخير "إرث هايدغر"، حيث اتهمه بأنه هايدغاري موالٍ لتشافاز رئيس فينيزويلا، والذي هو عدوّ للسامية، حسب زعمه. لم يكتف بذلك، بل إن فارياس، كما دأب اليمين المتطرّف والمحافظين الجدد، شن حملة على المسلمين، وقال أشياء خاطئة وسطحية جدّا على حساب العرب، ثم أظهر تعاطفا وانبطاحا وولاءا لإسرائيل لا نجده حتى عند بعض المثقفين الإسرائيليين ذاتهم. ولا أضع فارياس على قدم المساواة مع فاتيمو من حيث متانة التفكير الفلسفي وعمقه: فارياس هو مجرد كاتب هاوٍ في الفلسفة، أما فاتيمو فهو مفكر لديه شخصية فلسفية مكتملة. أُفضّل على كل حال أن يُخطئ فاتيمو في تقييمه لفلسفة هايدغر ولكنه يُصيب في تعاطفه ودفاعه عن القضية الفلسطينية، على من أصاب في انتقاداته لهايدغر ولكنه أخطأ في موالاته للدولة الأكثر جبروتا وتنكيلا بالفلسطينيين في العالم. لم يكن أحد يتوقع أن فارياس هو مفكر يميني صهيوني عدوّ للمسلمين، ولم ينفعه نقده لهايدغر من إدراك البعد الهايدغاري من اليمين اليهودي الذي يقتل ويشرد الفلسفطينيين (154). لقط حفظ شيئا وغابت عنه أشياء.

أعود إلى ما كنتُ فيه وأقول: لا أحد يريد أن يَقع في شباك الخلط بين الفكر النظري والحياة الشخصية للمفكّر. الكلّ يبغي الإطلاع على منتوجات العقل الخالص، على المحتوى النظري الكلّي الذي يُفيد الإنسانية جمعاء ولا على ظروف حياة المفكّر أو ميولاته الشخصية وطريقته في العيش. لكن مع هايدغر، لا يمكن أن نُفعّل هذا المبدأ: كلّ كتاباته تقريبا لا تخلو من تلميحات أو إشارات صريحة للوضع السياسي الراهن ولمواقفه ممّا يحدث على الساحة السياسية آنذاك. خُذ مثلا كتاب "مدخل إلى الميتافيزيقا" الذي كتبه في سنة 1935، أي في خضمّ نشوة المنعرج النازي، ليس من المبالغة القول بأن هذا الكتاب (مجموعة من الدروس) مُختَرَق بالهمّ السياسي من أوّله إلى آخره: الإشادة بالثورة النازية وبعظمتها، الشعب الألماني كأمة وسط حاملة لخلاص أوروبا، ميتافيزيقا ألمانية بحتة، علم ألماني، لغة ألمانية صافية ونقية... إلخ، ما دخل كلّ هذا الهوس السياسي الايديولوجي بالميتافيزيقا؟ وما علاقته بأرسطو، بهرقليطس ببارمنيدس، بالوجود؟ لا شيء حقيقة، لا شيء على الإطلاق يربط نظريا هذه التخمينات الشوفينية بالموضوع المزمع الفحص فيه، أعني الميتافيزيقا. ولا يمكن تفسير هذا الخلط البيّن إلاّ بالقول بأن الخطاب الإيديولوجي قد امتزج بلحمه ودمه وما استطاع أن يتخلّص منه أبدا. 

4 ـ هايدغر المُربِّي:
قد يكون العنصر الإيديولوجي، في أيّ تنظير فكري، أمرا لا مناص منه، وقد تكون العوامل الخارجية والظروف الحياتية لها تأثير كبير على الإنتاج الفكري ( على الرغم من أنها ليست القاعدة ولا النهج الصحيح: لأنّ الموضوعية هي فضيلة العلم، والفيلسوف المتملّص من إيديولوجيته أفضل من ذاك الذي يتشبّث بقناعاته إلى درجة أنها تشرّط كلّ أعماله). لكن هناك تفاضل بين الإيديولوجيات وهناك أيضا هرمية تخضع لها القناعات الشخصية والقيم: هناك إيديولوجيا الغلبة والقهر والتسلّط والإنغلاق والاستعلاء ورفض الآخر، إيديولوجيا تدعو للصراع والحرب ومَحق الأضعف. وهناك الإيديولوجيا النقيض، أعني إيديولوجيا الأخوّة والتواصل والسلم والإنفتاح وقبول الآخر والمساواة، إيديولوجيا تنبذ القهر والاستغلال وتُدين العنف والحرب، وتُغلّب العقل على الأهواء. ومن المؤسف أن تكون الإيديولوجيا الأولى هي المهيمنة على تفكير هايدغر، أقول من المؤسف، لأن كاتب هذه السطور لا يَكِنّ له مبدئيّا أية ضغينة، ولا يعرفه شخصيا إلاّ من خلال مؤلفاته وكتبه وسيرة حياته. لكن المصاعب الكبرى تبدأ حينما نَزِن بميزان العقل والقيم الإنسانية الشاملة، توجّهه الفكري ومضامينه الإيديولوجية والرسالة التي يمكن أن تؤديها الآن للمثقفين في كلّ أرجاء العالم.

ولتبيين هذه المسألة أنسحب من اللعبة الآن وأترك الحوار بين هايدغر وأحد تلاميذه السابقين، هيربارت ماركوز (Marcuse)، من خلال بعض الرسائل التي بعث بها إلى هايدغر بعد الحرب وإثر زيارة له قام بها لتوتناوبرغ (Todtnauberg) القرية التي كان يقطنها بعد الكارثة. في أوّل رسالة بتاريخ (28 أغسطس 1947) يقول ماركوز مخاطبا هايدغر: «لقد قُلتم لي بأنكم تملّصتم من النظام النازي منذ سنة 1934، وبأنه في دروسكم اتخذتم لكم موقفا نقديا، وصرتم بذلك تحت مراقبة الشرطة السرّية (GESTAPO). لا أريد أن أشكّ في كلامكم (Ich will nicht in Ihren Worten zweifeln)، لكنّكم بين سنة 1933/ 34، تمَاهَيتُم بشدّة مع النظام إلى درجة أنكم أصبحتم، في أعين الكثيرين، تبدون أكبر مثقف ناصر النظام. بعض خطاباتكم وكتاباتكم وأعمالكم، في تلك الفترة لَهِي دليل على ذلك. وأنتم لم تتراجعوا عنها أبدا ـ وحتى بعد سنة 1945، لم تشرحوا أمام الرأي العامّ، كيف توصّلتم إلى أحكام مُخالفة لتلك التي عبّرتم عنها في كتاباتكم لسنة 1934 و 1935. بعد سنة 1934، مَكثتُم في ألمانيا، على الرغم من أنكم كنتم قادرين أن تجدوا، في أيّ مكان بالخارج، مأوى ملائما لكم، لم تُدينوا جهارا، ولو مرة واحدة، أيّا من أعمال أو إيديولوجيات النظام(155). وطبقا لهذه المعطيات فإن اسمكم ما زال مقترنا، حتى يومنا هذا، بالنظام النازي. وما فتئ الكثير منّا ينتظر منكم كلمة تعبّرون فيها، بلهجة واضحة ونهائية، عن تملّصكم من النظام النازي، توضّح وضعيّتكم الحالية إزاء ما حدث. ولكنكم لم تُعربوا عن ذلك أو، على الأقلّ، إن أعربتم عنه فلم يخرج مِن حيّز الحياة الشخصية. أنا ـ والكثير من الآخرين كنّا معجبين بكم كفيلسوف ومنكم تعلّمنا أشياء لا تُحصى، ولكنّنا لا يمكن أن نميّز بين هايدغر الفيلسوف وهايدغر الإنسان: هذا يتناقض وفلسفتكم. الفيلسوف يمكن له أن يخطئ في مسائل سياسية، ولكن في هذه الحال يجب عليه أن يعترف صراحة بخطئه. إلاّ أن الفيلسوف لا يمكن أن يخطئ بشأن نظام قضى على ستة ملايين يهودي ـ فقط لمجرّد أنهم يهود، نظام جعل من الرّعب حالة يومية عادية، وحوّل كلّ ما له صلة بالروح والحرّية والحقيقة إلى نقيضها الدموي. نظام كان، في كلّ وجوهه الممكنة، مَسخا (كاريكاتورا) مُقرفا لذاك التراث الغربي الذي كنتم قد عرضتموه أنتم أنفسكم ودافعتم عنه بشدّة. ولكن حتى في حال إن لم يكن ذاك النظام مسخا لذاك التراث الغربي، بل كان نقطة اكتماله ـ حتى في هذه الحالة، لا يُمْكنكم الركون إلى ذاك الخطأ، وبالتالي كان عليكم أن تدينوا وتندّدوا بذاك التراث. الحسّ الشعبي ـ وحتى المثقف ـ الذي يرفض أن يحمل على محمل الجدّ مفكرا نازيّا، هذا الحسّ الشعبي، يرفض أيضا أن يعتبركم فيلسوفا، لأن الفلسفة والنازية لا يجتمعان. وفي هذه النقطة فإن الوعي الشعبي له مبرراته. مرّة أخرى: يمكنكم (ننا) مقاومة هذا التماهي لشخصكم وأعمالكم مع النازية (وبالتالي فكّ الأسر الذي يطوّق فلسفتكم)، فقط إذا اعترفتم علنا بأنكم قد غيّرتم من رأيكم(156)».

ثمّ يضيف ماركوز بأنه سيُرسل إليه حِملا من الأمتعة، على الرغم من أنّ «أصدقائي أثنوني عن فعلتي هذه لأنهم اتهموني بمساعدة رجل تماهى مع نظام أباد الملايين من بني ديني في الغُرف الغازية (ولكي أتفادى أيّ التباس، أودّ أن أوضّح بأنني لم أكن معاديا للنازية لأنني يهودي، كنت سأكونه، على كلّ حال ومنذ البداية، لأسباب سياسية واجتماعية وفكرية حتى ولو كنتُ أنتمي إلى الجنس الآري الأصيل)(157)». وبخصوص اعتراضات أصدقائه تلك، يقول ماركوز: «لا أملك أيّة علّة كافية لتفنيد تهمتهم تلك. وأعتذر أمام ضميري قائلا بأنني سأبعث هذه الأمتعة إلى رجل درستُ عنده الفلسفة من سنة 1928 لغاية سنة 1932. لكني أعلم في قرارة نفسي بأنها تعلّة واهية. فيلسوف مرحلة 1933/ 34 ـ لا يمكن أن يكون مغايرا تماما لذاك السابق على سنة 1933، لأنكم، على الأقلّ، عبّرتم وأسّستم، بطريقة فلسفية، تبريركم المتحمّس للنظام النازي والزعيم (158) (Führer)».

كيف كان ردّ هايدغر؟ لقد جاء مطابقا لنهج تبريراته التالية، والتي ثبتَ عليها طوال حياته، ولكن المُلفت للنظر أن ردّه لا يخلو من التهكّم والسخرية، بل يَحمل نفحة من مُكرِه المعهود. يقول معترضا: «مِنَ الصّعب التّحاور مع شخص غادر ألمانيا منذ سنة 1933، ويحكم على بداية الحركة النازية من خلال مرحلتها النهائية». ولتبرير خطئه، يردّد هايدغر كلماته المعتادة «كنتُ أنتظر من الإشتراكية القومية تجديدا روحيا (eine geistige Erneuerung) للحياة بأكملها (des ganzen Lebens)، إخمادا للصراع الإجتماعي وتخليصا للإنسان الغربي من خطر الشيوعية. هذه القناعات كنتُ قد عبّرت عنها في خطاب العمادة. (هل قرأتموه بالكامل؟ "haben Sie diese ganz gelesen?"). في دروسي حول "ماهية العلم" (Das Wesen der Wissenschaft)، وفي خطابين للأساتذة والطلبة بجامعة فرايبورغ، وفي نداء للإنتخابات نُشر في جريدة الطلبة هناك. اليوم أرى أن بعض العبارات الواردة فيها كانت ملتبسة. هذا كلّ ما في الأمر (Das ist alles)». يقول لماركوز بأنه مُحقّ بالكامل في تقصيره وعدم إدانته علنا النظام النازي وأعماله، لكن الإقدام على فعل من هذا القبيل، يعني النهاية بالنسبة إليه وإلى أفراد عائلته. «في سنة 1934 اعترفتُ بخطئي السياسي وقدّمتُ استقالتي محتجّا ضدّ الحكومة والحزب (....) مُنذ سنة 1933/34، وفي دروسي ومحاضراتي اتخذت وجهة نظر مخالفة إلى حدّ أن لا أحد من طلبتي وقع ضحية لإيديولوجيا النازية. وأعمالي لتلك الفترة، إن رأت النور، سوف تشهد لي بذلك. وأيّ اعتراف منّي بعد سنة 1945 هو أمر مستحيل (unmoglich) لأنّ مؤيّدي النازية السابقين أعلنوا بطريقة مزرية تغيير ولائهم وأنا لا تجمعني بهم أيّة صلة(159)».

إلى حدّ الآن يبدو أن موقف هايدغر هو موقف دفاعي، لكن في آخر الرسالة غيّر من لهجته وأصبح موقفه هجوميا، يقول لماركوز بأن الصفات التي نَعَتَ بها النظام النازي (نظام قضى على ستة ملايين يهودي ـ فقط لمجرّد أنهم يهود، نظام جعل من الرعب حالة يومية عادية، وحوّل كلّ ما له صلة بالروح والحرّية والحقيقة إلى نقيضها الدموي)، هذه التهم يمكن أن تُلقَى على إحدى قوى التحالف فقط «لو أنّك استبدلت كلمة "يهودي" بـ "ألماني شرقي" (Ostdeutsche)، مع الفارق وهو أن ما وقع بعد سنة 1945 أصبح معروفا عالميا، في الوقت الذي كانت فيه الجرائم النازية مَخفيّة على الشعب الألماني».

إلى يوم الناس هذا، النازيون والفاشيون، مشهورون بجُبنهم وكذبهم وبتناقضاتهم وازدواجية آرائهم وتأرجحهم من النقيض إلى النقيض: الرجل الحربي موسلّيني، الذي جعل من شعار حياته وحياة الملايين من بني شعبه: "أن نحيا بطريقة خطرة (vivere pericolosamente)" عندما حمي وطيس المعركة وأذِنَ كلّ شيء بالزوال، فرّ هاربا إلى شمال إيطاليا، مُزّملا بمِعْطف رثّ، تاركا وراءه الجميع في الدرك الأسفل.

وما يميّز ذاك الصنف من البشرية عن غيرهم من الناس هو الإنتهازية الفاضحة والكذب وخلق التعلاّت الواهية لتسويغ آرائهم، بل قد يذهب بهم الأمر إلى حدّ قلب التّهم وتحميل الآخرين مسؤولية الكوارث التي اقترفوها بأيديهم أو التقليل من شأنها، أعني وَضْعها على قدم المساواة مع أحداث أخرى، كي يتقشّع تفرّدها وتذهب عنها خطورتها.

الكلّ يعلم أن "خطاب العمادة"، هو خطاب مشين وكارثي أصلا، كما اعترف بذلك الهايدغريون أنفسهم، (ما عدا المكابرين منهم فلا نقاش معهم)، لكن هايدغر ما فتئ يستشهد به في رسائله وفي "المدخل إلى الميتافيزيقا"، وفي مواضع أخرى من نصوصه المتأخرة. يبدو أنه من الصعب بمكان إرساء حوار بنّاء ونزيه مع رجل يبعث رسالة بتلك الصيغة وبذاك الروح المعتدّ من نفسه. وفعلا، هذا هو الإنطباع الذي تركه في نفس الشخص المَعنيّ بالأمر، أعني ماركوز. لقد عبّر الرجل عن ذهوله ودهشته من موقف هايدغر ومن عباراته، في رسالة متأخرة (13 مايو 1948)، وقال بأنه كان متردّدا في الإجابة. أجل، مِن الصّعب التّحاور مع رجل كفّ عن العيش في ألمانيا منذ سنة 1933 لكن هذه، بالنسبة إلى ماركوز، ليست علّة كافية «لأننا نعلم علم اليقين الحالة التي كانت عليها ألمانيا، ربّما أكثر ممّن كان يعيش داخلها. ولا يمكن أيضا تعليل ذلك بأننا كنّا نحكم على بداية النازية من خلال نتائجها النهائية. نحن نعلم، وأنا أيضا أعلم، بأنّ البداية تحوي في ذاتها النهاية، بل هي النهاية. لا شيء حدث لم يكن متوقّعا من قبل». ثمّ يضيف موضّحا رأيه ورافعا أيّ التباس قائلا بأن «صعوبة الحوار، حسب رأيي، ترجع أساسا إلى الإنحراف الكامل لكلّ المفاهيم والمشاعر التي جرّبها مَن كان يعيش في ألمانيا آنذاك، انحراف تقبّله الكثير بفرط من اللامبالاة، وإلاّ من الصعب بمكان تفسير، كيف أنكم أنتم، الذين فهمتم الفلسفة الغربية أكثر من أيّ أحد آخر، استطعتم أن ترون في النازية "تجديدا روحيا للحياة بأكملها" وخلاص الإنسان الغربي من خطر الشيوعية. هذه ليست مشكلة سياسية بل فكرية. أنتم الفيلسوف، تخلطون بين إبادة الإنسان الغربي وإعادة تجديده؟(160). ألم تكن تلك الإبادة جليّة في كلّ كلمة من كلمات الزعيم (Führer)، في أية حركة أو فعل من أفعال (ميليشيا) الـ (SA)، حتى قبل سنة 1933؟».

ومع ذلك لم تغِبْ عن ماركوز النقطة المركزية في رسالة هايدغر وهي الأخطر، من حيث تقلِيلِها من شأن المحرقة وقلب التهم أو تعتيمها «لقد كتبتم بأنّ كلّ ما قُلتُه حول إبادة اليهود يمكن تطبيقه على أعمال الحلفاء، إن عَوّضنا كلمة "يهودي" بـ "ألماني شرقي"، بهذه الكلمات ألستم أنتم الذين تنسحبون من المجال الذي يكون فيه الحوار بين الناس ممكنا ـ (أعني خارج) اللوغوس (Logos)؟ لأنه فقط خارج هذا النطاق "المنطقي" من الممكن لكم تفسير، وتنسيب، و "فهم" جريمة ما، ثمّ القول بأن الآخرين فعلوا نفس الشيء. كيف يمكن أن نضع في نفس المستوى، التعذيب، والبتر والتدمير الكلي لملايين من الناس، مع ترحيل مجموعات من الناس لم تر أيّ من تلك الإنتهاكات. العالم اليوم يرى أن الفارق بين المعتقلات النازية (Nazi-Konzentrationslagern) والتهجير والحبس اللذان حدثا بعد الحرب، هو فارق بين ما هو إنساني وما هو غير إنساني. على أساس أقوالك تلك، لو أن الحلفاء وضعوا ألمان الشرق والنازيين في معتقلات آوشفيتس وبوخنفالد (Buchenwald) لاستوت الحسابات (die Rechnung in Ordnung)! ومع ذلك، حتى في حالة ما إذا كان بإمكاننا اختزال الفارق بين الإنساني واللاإنساني إلى هذا الخطأ في الحسبان، فإن تلك هي الخطيئة التاريخية للنظام النازي، الذي برهن للعالم، بعد مرور ألفي سنة من الإنسان الغربي (abendlandischen Dasein)، ما يَقدر أن يفعله هذا الإنسان (الغربي) للبشر. كما لو أن البذرة سقطت في تربة خصبة: ربما نحن ما زلنا نعيش في تواصل مع ما ابتدأ سنة 1933».

***

بعد هذه الجولة الشاقة في الدهاليز المظلمة لفكر ور وهايدغر، خرَجت منها الفلسفة في وضع احتضار ومُقطعة أوصالها، وبعد الكشف عن خبايا الاستتباعات السلبية لتوجههما السياسي، لا أودّ أن أبارح القارئ في حالة مرارة وإحباط. أبغي منه أن يقاسمني مُتعة هذا النشيد الرائع للفلسفة الذي كتبه المفكّر الروماني شيشرون منذ ألفي سنة تقريبا. هذا النشيد، الذي يعتبره كاتب هذه السطور، الترياق الأنجع ضدّ هايدغر وور. وكما سيرى القارئ فكأنّ شيشرون يقصدهما عمدا.

الإنسان جُعِل للحقيقة، والفلسفة هي الدواء الأنجع ضد الرذائل، وهي السبيل الأقوم لنزع حالة الجهل عن الإنسان: «أيتها الفلسفة، أمّة الحياة، أنت التي تقودين إلى الفضيلة وتُبعدين عن الرذيلة. بدونك أنتِ كيف كانت ستكون حياتنا، ليس نحن فقط، بل الإنسانية جمعاء. أنتِ التي أقمتِ المدن، أنت التي استدعيتِ الإنسانية المُشتّتة كي تأتلف، لقد وحّدتِهم بداية في المَسكنِ، ثم بالزاوج، أخيرا باللغة والكتابة، أنت التي دوّنتِ القوانين، عَلّمتِ الأخلاق والحضارة. إليك أهود، منك أطلب الغوث، لكِ أهب نفسي خالصة، إنّ يوما واحدا مُقضّى على هدي مبادئك أجمل من حياة خالدة مُقضّاة في الخطأ. مَن الذي يُفرّج عنا كروبنا إلاّ أنتِ، أنتِ التي مَنحتِنا راحة الحياة وخلّصتِنا من رَهبةِ الموت؟... لكن الفلسفة هي بعيدة الآن عن أن تُحمَد لأجل المنافع التي قدّمتها للإنسانية. فهي مُهمّشة، والكثير يزدرونها حتى. أهناك أحد يتجرأ على سبّ منبع الحياة؟ أن يُلطّخ بجريمة مماثلة ويكون كافرا في جحده، إلى حدّ اتّهام مَن ينبغي عليه أن يُبجّلَها؟ لكن هذا الخطأ وهذا العماء يُشوّشان عقول الجهلة، لأنهم غير قادرين على الالتفات إلى الوراء لإدراك حقيقة أن الفلاسفة هم الذين اعتنوا بتنظيم الحياة البشرية(161)». 

أستاذ الفلسفة بمعهد الدراسات العربية والإسلامية. روما.

المراجع:
1 ـ أفلاطون، المحاورات الكاملة، نقلها إلى العربية شوقي داود تمران، الأهلية للنشر والتوزيع، بيروت 1994.
2 ـ ابن رشد، الضروري في السياسة. مختصر كتاب السياسة لأفلاطون، مركز دراسات الوحدة العربية، (ط. 2) بيروت ـ لبنان 2002.
3 ـ آلان شالمرز، نظريات العلم، ترجمة الحسين سحبان وفؤاد الصفا، دار توبقال للنشر، المغرب 1991.
4 ـ جورج سارتون، تاريخ العلم. العلم القديم في العصر الذهبي لليونان، ترجمة لفيف من العلماء، دار المعارف بمصر 1961م.
5 ـ يُمنى طريف الخولي، فلسفة العلم في القرن العشرين، سلسلة عالم المعرفة، الكويت 2000.
6 ـ جورج بليخانوف، المادية والمثالية في الفلسفة، ترجمة جورج طرابيشي، دار الطليعة ـ بيروت 1982.
7 ـ كارل ور، بحثا عن عالم أفضل، ترجمة د. أحمد مستجير، الهيئة المصرية العامة للكتاب، مصر العربية 1999.
8 ـ كارل ور، منطق البحث العلمي، ترجمة محمد البغدادي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 2006.
9 ـ محمد محجوب، هيدفر ومشكل الميتافيزيقا، دار الجنوب للنشر ـ تونس، 1996، (ط2).
10 ـ محمد المزوغي، نيتشه، هايدغر فوكو. تفكيك ونقد، دار المعرفة للنشر ـ تونس 2004.

11 ـ VATTIMO, G. Heidegger filosofo della democrazia, in MicroMega V, Novembre - dicembre 2003, pp. 55-61.
12 ـ YUE-CHING HO, E. At 90 and still dynamic. Revisiting Sir Karl Popper and Attending His Birthday Party, in Intellectus (Bulletin of Hong Kong Institute of Economic Science, July-September 1992).
13 ـ ARISTOTELE, Protrettico, a cura di Enrico Berti, UTET, Torino 2000.
14 ـ ARISTOTELE, Parva naturalia, a cura di Andrea Carbone, Bompiani, Milano 2002
15 ـ I. During, Aristoteles. Darstellung und Interpretation seines Denkens, Carl Winter Universitatsverlag, Heidelberg 1966, trad., it, a cura di Pierluigi Donini, Aristotele, Mursia, Milano 1976.
16 ـ PRADEAU, J-F. Platon, les démocrates et la démocratie. Essai sur la réception contemporaine de la pensée politique platonicienne, Bibliopols, Napoli 2005.
17 ـ HOBBES, T Leviatano, a cura di Raffaella santi, con testo inglese e latino, Bompiani, Milano 2004.
18 ـ A. MARTINEZ LORCA, Prologo a La psicologia de Averroes. Comentario al libro sobre el Alma de Aristoteles, a cura de S. Gomez Nogales, Universidad Nacional de Educacion a Distancia, Madrid 1987.
19 ـ MORAVIA, S Successo e verità. L epistemologia critica di K. Popper, in Nuova Corrente , 1970, n. 53, pp. 219-279.
20 ـ POPPER, K. The Open Society and its Enemies, Routledge & Kegan Paul, (trad., it. La società aperta e I suoi nemici, a cura di Dario Antiseri, Armando Editore, Roma 2003).
21 ـ LAI, B. a cura di, Contro Popper, Armando Editore,1998.
22 ـ POPPER, K. Unended quest, An Intellectual Autobiography. The Library of Living Philosophers In., 1974. (trad., fr, La quête inachevée. Autobiographie intellectuelle, Calmann-Lévy, Paris 1981).
23 ـ CICERO, M. T. Tusculanae disputationes, BUR, Milano 1996.
24 ـ BARNES, J. Heidegger spélologue, in «Revue de Métaphysique et de Morale» N° 2 1990, pp. 172-195.
25 ـ M. de BUFFON, Histoire naturelle générale et particulière, Imprimerie Royale, Paris MDCCXLIX
26 ـ VLASTOS, G. Socratic Studies, edited by M. Burnyeat, Cambridge University Press, Cambridge 1994, (trad., it., Studi socratici, traduzione di F. Filippi, Vita e pensiero, Milano 2003).
27 ـ POPPER, K. Die Beiden Grundprobleme der Erkentnisstheorie, Mhor, Tübingen 1979, (trad. it, I due problemi fondamentali della teoria della conoscenza, EST, Milano 1997).
28 ـ NEGRI, A. Caduta e conoscenza. Interventi sul razionalismo critico, Pellicani Editore, Roma 1997.
29 ـ POPPER, K. The World of Parmenides. Essay on the Pre-Socratic Enlightenment, The Estate of Sir Karl Popper, 1998. (trad. it, Il mondo di Parmenide. Alla scoperta della filosofia presocratica, Piemme, Casale Monferrato 1998).
30 ـ POPPER, K. Alles Leben ist Problemlosen. Uber Erkenntnis, Geschichte und Politik, Karl Popper Estate, UK 1994. (trad., it, Tutta le vita è risolvere problemi, a cura di Dario Antiseri, Edizione CDE, Milano 1996).
31 ـ O HEAR, A. Karl Popper, Routledge & Kegan Paul - London, Boston and Henley. (trad., it., Karl Popper, a cura di S. Sacchitella e G. Boniolo, Borla, Roma 1984).
32 ـ HEIDEGGER, M.  Questions III et IV, Gallimard, Paris 1990.
33 ـ BERTLEY, W. W. Un uomo difficile. Profilo di Karl Popper, in Filosofi del Novecento, a cura di Anna Maria Marietti, Einaudi, Torino 1988.
34 ـ EDMONDS, D. EIDINOW, J. Wittgensteins Poker, Deutsche Verlag, Stuttgart-München, 2001, (trad., it. La lite di Cambridge, Garzanti, Milano 2005).
35 ـ HEIDEGGER, M. Beitrage zur Philosophie, Vittorio Klostermann, Frankfurt am Main 1989.
36 ـ LAKATOS, I. The Methodology of Scientific Research Programmes. Philosophical Papers Volume I and II, Cambridge University Press, 1978, (trad., it. Metodologia dei programmi di ricerca scientifici, EST 2001).
37 ـ LOSURDO, D. La comunità, la morte, l'Occidente. Heidegger e l'ideologia della guerra. Bollati Boringhieri, Torino 1991, ristampa 2001.
38 ـ LOSURDO, D Hegel e la Germania. Filosofia e questione nazionale tra rivoluzione e reazione, Guerini e Associati, Milano 1997, p. 665.
39 ـ G. CORROZZINI, Popper lettore di Kant: alcune considerazioni critiche, in Riflessioni critiche su Popper, a cura di Daniele Chiffi e Fabio Minazzi, Franco Angeli, Milano 2005, pp. 127-152.
40 ـ LoWITH, K. Heidegger. Denker in dürftiger Zeit, Vandenhoek & Ruprecht, Gottingen 1960, (trad., it., Saggi su Heidegger, Einaudi 1974).
41 ـ ALCARO, M. Filosofie democratiche, Dedalo, Bari 1986.
42 ـ CROCE, B. Carteggio Croce- Vossler (1899-1949), in Scritti Vari, Bibliopolis, Napoli 1991.
43 ـ MONTELEONE, C. Filosofia e politica in Popper, Guida Editore, Napoli 1979.
44 ـ HEIDEGGR, M. Qu est-ce que la philosophie ?, in M. HEIDEGGR, Questions I et II, Gallimard, Paris 2003, p. 321. (trad., it, Che cos è la filosofia, a cura di Carlo Angelino, testo originale a fronte, Il Melangolo, Genova 1997).
45 ـ V. FARIAS, L eredità di Heidegger nel neonazismo, nel neofascismo e nel fondamentalismo islamico, Medusa, Milano 2008
(46)  ـVEGETTI, M, L autocritica di Platone: il Timeo e la Legge, in M. VEGETTI e M. ABBATE, a cura di, La repubblica di Platone nella tradizione antica, Bibliopolis, Napoli 1999.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) ـ G. VATTIMO, Heidegger filosofo della democrazia, in MicroMega 5. Novembre - dicembre 2003. p. 55.
(2) ـ Ibid, p. 56.

(2) ـ (أ) لكن يبدو أن الحاجز الإضافي الذي يَمنعنا من إجراء هذا النوع من المقارنة هو حاجز شخصي، إن أمكن لنا إدخال هذا العامل في صلب النقاش. فكارل ور كانت له ضغينة تجاه هايدغر، وقد قال فيه يوما ما، بأسلوبه القاطع هذا الكلام: «إني أناشد الفلاسفة في جميع البلدان أن يَتّحِدُوا وألاّ يَذكروا هايدغر أو يتكلموا مع فلاسفة آخرين يدافعون عن هايدغر. هذا الرجل كان شيطانا، أعني، أنه قد تصرّف كشيطان مع أستاذه المُبجَّل (هوسّرل) وكان له تأثير شيطانيّ في ألمانيا». انظر:

E. YUE-CHING HO, At 90 and still dynamic. Revisiting Sir Karl Popper and Attending His Birthday Party, in Intellectus (Bulletin of Hong Kong Institute of Economic Science, July-September 1992) I appeal to the philosophers of all countries to unite and never again mention Heidegger or talk to another philosopher who defends Heidegger. This man was a devil. I mean, he behaved like a devil to his beloved teacher, and he has a devilish influence in Germany".
(3) ـ G. VATTIMO, Heidegger filosofo della democrazia, ivi, p. 56.
(4) ـ Ibidem.
(5) ـ Ibidem.
(6) ـ T. HOBBES, Leviatano, a cura di Raffaella santi, con testo inglese e latino, Bompiani, Milano 2004, p. 448.

(7) ـ انظرمثلا التهجمات التي وردت في كتاب برادو: أفلاطون، الديموقراطيون والديموقراطية، حيث يركز على الجانب النخبوي في بعض محاورات أفلاطون، ويبالغ في تصوير نظامه السياسي على أنه تسلطي استبدادي، ثم يخلص إلى النتيجة التالية وهي أن الفلسفة هي عدوّة الديمقراطية.

J-F. PRADEAU, Platon, les démocrates et la démocratie. Essai sur la réception contemporaine de la pensée politique platonicienne, Bibliopols, Napoli 2005. p. 17, suiv.
(8) ـ M. PERA, Il senso del bello. Il senso dello stato, Rimini, Meeting dell amicizia 18 agosto 2002.
(9) ـ K. POPPER, The Open Society and its Enemies, Routledge & Kegan Paul, (trad., it. La società aperta e I suoi nemici, a cura di Dario Antiseri, Armando Editore, Roma 2003 (rist.), p. 245).

(10) ـ أفلاطون، الجمهورية، 519ي ـ 520أ.
(11) ـ أفلاطون، الجمهورية، ن. م.

(12) ـ TUCIDIDE, La guerra del Peloponneso, a cura di Franco Ferrari, BUR, Milano 2004, p. 945.

(13) ـ أرسطو، السياسة، 1324أ 36 ـ 1324ب 15.
(14) ـ ن. م، 1324ب 23 ـ 28.
(15) ـ ن. م، 1324ب 36 ـ 37.
(16) ـ ن. م، 1333ب 11 ـ 14.

(17) ـ M. VEGETTI, L autocritica di Platone: il Timeo e la Legge, in M. Vegetti e M. Abbate, a cura di, La repubblica di Platone nella tradizione antica, Bibliopolis, Napoli 1999, p. 22.
(18) ـ PROCLO, Commento alla Repubblica di Platone, testo greco a fronte, Bompiani, Milano 2004, p. 236.

(19) ـ ابن رشد، الضروري في السياسة. مختصر كتاب السياسة لأفلاطون، مركز دراسات الوحدة العربية، (ط. 2) بيروت ـ لبنان 2002، ص، 124.
(20) ـ ابن رشد، ن. م، ص، 125.
(21) ـ النواميس، 886د 7.

(22) ـ K. POPPER, La società aperta, ibid. 74.
(23) ـ Ibid, p. 75.
(24) ـ Ivi.
(25) ـ Ibid, p. 54.
(26) ـ B. LAI, a cura di, Contro Popper, Armando Editore,1998, p. 72.

(27) ـ آلان شالمرز، نظريات العلم، ترجمة الحسين سحبان وفؤاد الصفا، دار توبقال للنشر، المغرب 1991، ص، 54.

(28) ـ K. POPPER, Unended quest, An Intellectual Autobiographie. The Library of Living Philosophers In., 1974 (trad., fr, La quête inachevée. Autobiographie intellectuelle, Calmann-Lévy, Paris 1981, p. 79-80).

«في تلك الفترة كنتُ أقرأ باستمرار نقد العقل لكانط. وبسرعة أدركتُ أن فكرته المركزية هي أن النظريات العلمية مصطنعة، ونحن هم الذين يحاولون فرضها على العالم: "عقلنا لا يستمدّ القوانين من الطبيعة، بل يفرض قوانينه على الطبيعة". بجَمع هذه مع أفكاري الشخصية، أخلصت نوعا ما إلى الفكرة التالية ألا وهي أن نظرياتنا، التي كانت في البداية أساطير بدائية، وأصبحت فيما بعد نظريات علمية، هي فعلا اصطناعية، مثلما قال كانط. فعلا، نحن نحاول فرضها على العالم... أعتقد أن كانط محق حينما قال بأنه من المستحيل على المعرفة، أن تكون، نوعا ما، نسخة أو بصمة للواقع. إنه محق في اعتقاده بأن المعرفة هي مبدئيا انشائية أو سيكولوجية... نظرياتنا هي من اختراعاتنا. لكنها يمكن أن تكون مجرد تحكمات غير معقلنة، اعتباطات جريئة، فرضيات. بواسطة هذه الفرضيات نحن نخلق عالَما: ليس بالعالم الواقعي، لكن شبكاتنا التي بها نحاول صيد العالم الحقيقي».

(29) ـ G. CORROZZINI, Popper lettore di Kant: alcune considerazioni critiche, in Riflessioni critiche su Popper, a cura di Daniele Chiffi e Fabio Minazzi, Franco Angeli, Milano 2005, pp. 127-152.
(30) ـ K. POPPER, The Open Society and its Enemies, Routledge & Kegan Paul, trad., it. La società aperta e I suoi nemici, pp. 54-55.

(31) ـ أفلاطون، الدفاع عن سقراط، 23أ 5 ـ ب4.

(32) ـ G. VLASTOS, Socratic Studies, edited by M. Burnyeat, Cambridge University Press, Cambridge 1994, trad., it., Studi socratici, traduzione di F. Filippi, Vita e pensiero, Milano 2003, p. 52.
(33) ـ K. POPPER, Die Beiden Grundprobleme der Erkentnisstheorie, Mhor, Tübingen 1979, (trad. it, I due problemi fondamentali della teoria della conoscenza, EST, Milano 1997).
(34) ـ Ibidem.
(35) ـ A. NEGRI, Caduta e conoscenza. Interventi sul razionalismo critico, Pellicani Editore, Roma 1997, p. 20.

(36) ـ آلان شالمرز، نظريات العلم، م. س، ص، 70.
(37) ـ ذكره آلان شالمرز، ن. م، ن. ص.

(38) ـ A. REY, «La théorie physique» de M. Duhem et les mathématiques, in «Revue de métaphysique et de morale» T. XII. 1904, p. 717.
(39) ـ Ibidem.
(40) ـ «Ce sont en quelque sorte des cadres de grandeurs différentes qu un peintre tient en réserve, pour les tableaux qu il peindra ensuite». ibidem.
(41) ـ «Le chemin suivi dépend uniquement de la convention, et la convention, du choix du savent». Ibid, p. 719.

(42) ـ آلان شالمرز، نظريات العلم، م. س، ص، 70.
(43) ـ انظر آلان شالمرز، م. س، ص، 73، حيث يقدّم شهادة تاريخية على استحالة التكذيب، وكيف يمكن أن تُصنع فرضيات مساعدة لتفاديه «ثمة واقعة تاريخية محرجة للقائلين بالتكذيب: لو أن العلماء انخرطوا انخراطا تاما في مبادئهم الميتودولوجية، لما أمكن أبدا للنظريات التي تُعدّ، بصورة عامة، أصدق الأمثلة على النظريات العلمية، أن تنمو وتكتمل، لأنها، حينئذ، سوف تُنبَذ منذ بدايتها الأولى. فبوسعنا أن نجد، بالنسبة لأيّ نظرية كلاسيكية، سواء في لحظة صياغتها أو في عصر لاحق، تقارير مستمدّة من الملاحظة، ويتمّ قبولها بوجه عامّ، يُحكَم بأنها متناقضة مع النظرية، إلاّ أن هذه النظريات، لم تُنبَذ، مع ذلك، ومن حسن حظ العلم أن الأمر كان كذلك. وهذه بعض الأمثلة على ذلك مستقاة من تاريخ العلم. لقد تمّ تكذيب نظرية الجاذبية النيوتنية في السنوات التي أعقبت صياغتها، بواسطة ملاحظات تتعلّق بمدار القمر. وبعد ذلك بخمسين عاما، انهارت تلك الملاحظات، قبل إلغاء هذا التكذيب نهائيا بعد ارجاعه إلى عوامل أخرى مغايرة للنظرية النيوتنية. وبعد ذلك تبيّن أن هذه النظرية غير متوافقة مع القيم العددية التي تمّ التوصّل إليها في حساب مسار الكوكب عطارد، ومع ذلك فإن العلماء لم يتخلّوا عنها بسبب ذلك، إلاّ أن هذا التكذيب لم يُتوصّل، أبدا، إلى تفسيره على نحو من شأنه أن يحفظ نظرية نيوتن».
(44) ـ انظربهذا الصدد،

I. LAKATOS, The Methodology of Scientific Research Programmes. Philosophical Papers Volume I and II, Cambridge University Press, 1978, (trad., it. Metodologia dei programmi di ricerca scientifici, EST 2001, p. 105)
(45) ـ I. LAKATOS, Metodologia dei programmi di ricerca scientifici, op. cit, p. 195.
(46) ـ R. RENZETTI, Platone, Locke, Hume, Popper , in Fisicamente. net

(47) ـ هذه الفقرة هي تلخيص للمقال أعلاه.
(48) ـ ن. م.

(49) ـ K. POPPER, The Open Society and its Enemies, Routledge & Kegan Paul, trad., it. La società aperta e I suoi nemici, p. 515.
(50) ـ C. MONTELEONE, Filosofia e politica in Popper, Guida Editori Napoli 1979, p. 85.

(51) ـ وردت في ك. ور، المجتمع المنفتح وأعداؤه، الترجمة الإيطالية، م. س، ص، 307.
(52) ـ ن. م، ص، 306.
(53) ـ ن. م، ص، 307.

(54) ـ D. LOSURDO, Hegel e la Germania. Filosofia e questione nazionale tra rivoluzione e reazione, Guerini e Associati, Milano 1997, p. 665.

(55) ـ ك. ور، المجتمع المنفتح، ن. م، ص..
(56) ـ د. لوسوردو، هيجل وألمانيا، م. س، ص، 667.
(57) ـ د. لوسوردو، ن. م، ص، 668. رقم، 327.

(58) ـ  K. POPPER, The World of Parmenides. Essay on the Presocratic Enlightenment, The Estate of Sir Karl Popper, 1998, trad. it, Il mondo di Parmenide. Alla scoperta della filosofia presocratica, Piemme, Casale Monferrato 1998, p. 22.
(59) ـ Ibidem.
(60) ـ Ibidem.
(61) ـ Ibid, p. 26.
(62) ـ Ibidem.
(63) ـ ARISTOTELE, Protrettico, a cura di Enrico Berti, UTET, Torino 2000, p. 27-28. cfr, I. Düring, Aristoteles. Darstellung und Interpretation seines Denkens, Carl Winter Universitatsverlag, Heidelberg 1966, trad., it, a cura di Pierluigi Donini, Aristotele, Mursia, Milano 1976, p. 470.
(64) ـ ARISTOTELE, Parva naturalia, a cura di Andrea Carbone, Bompiani, Milano 2002, p. 108 ـ 109 .

(65) ـ في منطق الإكتشاف العلمي يقول ور: «لا يعود الفضل في التقدّم العلمي إلى التراكم المستمرّ لإدراكاتنا الحسية ولا إلى تعلّمنا مع الزمن استعمال حواسنا على نحو أمثل. إن أخذ إدراكاتنا الحسية على عواهنها لا يؤدي بنا بتاتا إلى العلم مهما بذلنا في تجميعها وترتيبها». إذن العلم لا يبدأ، أو لا يعوّل على الإدراكات الحسية، بل حسب رأيه على مجرد الأفكار «إن وسيلتنا الوحيدة لوعي الطبيعة هي الأفكار وهي التوقعات اللامبررة والتأملات الجسورة التي لا نتوقف لحظة واحدة من طرحها والرهان عليها». دعه يعمل، دعه يمرّ، هذا هو قانون العلم عند ور. انظر: ك. ور، منطق البحث العلمي، ترجمة محمد البغدادي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 2006، ص، 299.

(66) ـ A. MARTINEZ LORCA, Prologo a La psicologia de Averroes. Comentario al libro sobre el Alma de Aristoteles, a cura de S. Gomez Nogales, Universidad Nacional de Educacion a Distancia, Madrid 1987, p. 22.
(67) ـ M. de BUFFON, Histoire naturelle générale et particulière, Imprimerie Royale, Paris MDCCXLIX, pp. 43-45. «L histoire des animaux d Aristote est peut-être encore aujourd hui ce que nous avons de mieux fait en ce genre il paraît par son ouvrage qu il les connaissait peut-être mieux, et sous des vues plus générales qu on ne les connaît aujourd hui. Enfin quoique les Modernes aient ajouté leurs découvertes a celle des Anciens, je ne vois pas que nous ayons sur l Histoire Naturelle beaucoup d ouvrages modernes qu on puisse mettre au dessus de ceux d Aristote».
(68) ـ Ibid, p. 48. «Cet ouvrage d Aristote c est présenté à mes yeux comme une table de matière qu on aurait extraite avec le plus grand soin, de plusieurs milliers de volumes remplis de descriptions et d observations de toute espèce, c est l abrégé le plut savant qui ait jamais été fait, si la science est en effet l histoire des fait: et quand même on supposerait qu Aristote aurait tiré de tous les livres de son temps ce qu il a mis dans le sien, le plan de l ouvrage, sa distribution, le choix des exemples, la justesse des comparaisons, une certaine tournure dans les idées, que j appellerais volontiers le caractère philosophique, ne laissent pas douter un instant qu il ne fut lui-même bien plus riche que ceux dont il aurait emprunté».

(69) ـ ج. سارتون، تاريخ العلم،، تاريخ العلم. العلم القديم في العصر الذهبي لليونان، ترجمة لفيف من العلماء، دار المعارف بمصر 1961، ص، 265. «لم يصدّق العلماء كلام أرسطو عن هذا السمك، لأن هذا النوع من السمك في غربي أوروبا لا يرعى صغاره على هذا النحو. على أن لويس أجاسيز اكتشف أن السمك الأمريكي من هذا النوع يؤيد ما قاله أرسطو، وأن بعض هذا السمك في نهر أكلوس الذي يصبّ في خليج كورنثيا كان قد أرسل في سنة 1856 إلى أجاسيز فحقق ما كتبه أرسطو عنه وسماه (Parasilurus Aristotelis)، لكن هذه الحقائق لم تنتشر بين العلماء إلاّ في سنة 1906»، ثم يضيف الكاتب هذه الملاحظة الصائبة: «وتزداد الدهشة من دقة أرسطو في وصفه عندما نذكر ضآلة ما كان عنده من وسائل، فلم يقتصر الأمر على عدم وجود أدوات الفحص (كالعدسات المكبّرة وغيرها، إلخ) وعلى عدم وجود العقاقير، وهي عدّة العلماء الطبيعيين اليوم، بل لم يكن لديه ما لدينا الآن من مراجع ومعاجم تُعِين على التحقيق وعلى مراجعة النتائج فورا». ن. م، ص، 266.
(70) ـ ج. سارتون، ن. م، ص، 268.
(71) ـ ذكرها سارتون، ن. م، ص، 277.

(72) ـ A. Martinez Lorca, Prologo a La psicologia de Averroes, op., cit, p. 20-21. Su curiosidad sin limites non ha incontrado rival en la historia del pensamiento.

(73) ـ لقد اعترف في لحظة متأخرة بأن أحكامه ضد أرسطو كانت قاسية، ولكن هذا لم يمنعه، كعادته، من التشبث برأيه: «إني مستعد للإعتراف بأني حكمتُ أحيانا على أرسطو عن غير حق. إلاّ أن التطوّر من قبل سقراط إلى سقراط ومرورا بأفلاطون وأرسطو كان ولا يزال وسيبقى يثير اعتراضي: لأنه تطوّر من العقلانية النقدية إلى الدوغما العقلانية، إلى مذهب البرهان عند أرسطو». ك. ور، منطق البحث العلمي، ترجمة محمد البغدادي، بيروت، 2006، ص، 558.

(74) ـ K. POPPER, Alles Leben ist Problemlosen. Uber Erkenntnis, Geschichte und Politik, Karl Popper Estate, UK 1994 (trad., it, Tutta le vita è risolvere problemi, a cura di Dario Antiseri, Edizione CDE, Milano 1996, p. 148.
(75) ـ K. POPPER, Tutta le vita è risolvere problemi, ibid, p. 149.
(76) ـ Ibid, p. 150.

(77) ـ هذه السمات التشكيكية في نظرية العلم عند بوبر لم يتفطّن لها فقط كاتب هذه السطور، بل إن العديد من دارسي أعمال بوبر أخلصوا إلى هذه النتيجة. انظر مثلا:

A. O HEAR, Karl Popper, Routledge & Kegan Paul - London, Boston and Henley, (trad., it., Karl Popper, a cura di S. Sacchitella e G. Boniolo, Borla, Roma 1984, p. 284)
(78) ـ K. POPPER, Alles Leben ist Problemlosen. Uber Erkenntnis, Geschichte und Politik, (trad., it, Tutta le vita è risolvere problemi), op. cit, p. 219.
(79) ـ K. POPPER, Ibid, p. 220.

(80) ـ كارل ور، بحثا عن عالم أفضل، ترجمة د. أحمد مستجير، الهيئة المصرية العامة للكتاب، مصر العربية 1999، ص، 151.
(81) ـ كارل ور، بحثا عن عالم أفضل، ن. م، ص، ن. ص.
(82) ـ الدارسة يُمنى الخولي، المختصة في فلسفة كارل ور، في كتابها "فلسفة العلم في القرن العشرين" وتحديدا في الفصل السادس، عدّدت الفضائل الفلسفية التي تميّزت بها أعمال ور وكالت له وابلا من المديح مثل قولها: «أتت فلسفة بوبر قادرة على دفع فلسفة العلم إلى آفاق أبعد لأنها انطلقت من موقف الاستيعاب والاستشراف لآفاق ثورة العلم العظمى، ثورة الكوانتوم والنسبية، بعقل تحرّر تماما من رواسب المرحلة النيوتنية الحتمية. فاستطاع بوبر أن يُقدم صياغة دقيقة لمنطق الكشف العلمي في أعقد وأدق تفصيلاته، حققت استفادة بالغة من تقنيات المنطق الرياضي...وتتفق الأطراف المعنية على أن كارل بوبر فيلسوف المنهج العلمي الأول وبغير منازع على هذه الأولوية». ثم في موضع آخر تزيد في الاطراء مستخدمة لغة أدبية مشبّعة خطابة: «تترسّم فلسفة كارل بوبر كاتجاه قوي مترامي الأطراف، متعدد الجوانب متسق الأبعاد، شديد الولاء والإخلاص لمنطلقات وتوجهات فلسفة العلم، يوسم بالعقلانية النقدية، ويعدّ من أهم تيارات فلسفة القرن العشرين وأكثرها خصوبة وأعمقها تأثيرا...ولا غرو مادام بوبر عملاق المنهج العلمي، داعية المجتمع المفتوح، نصير الديمقراطية الليبرالية في أكثر صورها إنسانية، مهاجم الماركسية ذا البأس الشديد الذي سبق الأحداث بنفاذ بصيرة رائع، واستبصر ذاك المآل للأنظمة الشمولية المغلقة في أوروبا، العدو الشرس للفلسفة التحليلية والوضعية المنطقية بانكبابها على تحليل عبارات العلم لتنزع عن الفلسفة بهاءها السرمدي، وتحاول سحق الميتافيزيقا. كان بوبر مُجيدا ومَجيدا وهو يدافع عن الميتافيزيقا». أغرب من هذا هو قولها التالي: «والحق أن كل ما في سيرة الفيلسوف مدعاة للإجلال والإكبار. فهو ذو حس إنساني رفيع، شديد التعاطف مع مظاهر البؤس والحرمان والشقاء». لكن بعد هذا السيل من التمجيد والإطراء، أخيرا أقرّت بحقائق مرّة تناقض كل ما جاء في أقوالها السابقة، وأعطته صفاته الحقيقية كما هو في الواقع: استعماري شوفيني عنصري. قالت: «وفي هذا يعد بوبر نفسه آخر التنويرين العظام ولا مفرّ من الاعتراف بأنه بهذا المنظور كان أيضا آخر الاستعماريين. إنه شوفيني الإعجاب بالحضارة الغربية... والحضارات الأخرى في ناظريه بمنزلة أطفال نفكّر ألف مرّة قبل إعطائهم أي قدر من الحرية والاستقلال!». ثم في موضع آخر تستنكر على هذا العلامة الذي بالغت في مدحه وتكشف عجرفته قائلة: «إن بوبر ـ بصراحة ـ يتجاوز حدود اللياقة حين الحديث عن فيتجنشتين أو معه، فهو خصمه الفلسفي اللدود..». لقد راوحت الكاتبة بين الاعجاب والتبرير، ولكن حينما تكون أقوال بوبر صريحة وغير قابلة للإعجاب أو التبرير فإن الكاتبة لا تتوانى من التعجّب والتنديد، لكنها تعود، بعد بضع فقرات، إلى عرض آرائه كأن شيئا لم يكن. مرّة أخرى انصبّ استياؤها على شوفينية بوبر: «مرحلة التفكير الدوجماطيقي أي القطعي الجامد الجازم تتمثل في الحضارات البدائية "السابقة على حضارات الإغريق" بتعبير بوبر!! فهو يجهل تماما الميراث الشرقي العظيم وكل ما هو خارج حدوده الغربية التي صنعت العلم الحديث!!... لو كان بوبر قد اطلع مثلا على شكوك قدماء المصريين في الآلهة ونقدهم للديانات والأفكار المطروحة، وعلى تقدّمهم العلمي لما قال هذا ولما جرؤ على ضمّ هذه الحضارات إلى المرحلة البدائية، ولما واصل طريقه ليعتبر الإغريق هم الذين بدأوا مرحلة التفكير العلمي النقدي». أنا أستغرب كيف يسقط هذا الفيلسوف العبقري، الذي وصفته الكاتبة بأنه مدعاة للإجلال والإكبار، في أحكام شوفينية واستعمارية وحتى عنصرية، وماذا تبقى من عبقريته أو انجازاته في الفلسفة؟ انظر، يُمنى طريف الخولي، فلسفة العلم في القرن العشرين. الأصول ـ الحصاد ـ الآفاق، سلسلة عالم المعرفة، الكويت 2000، صص، 329، 332، 333، 337، 342، 364.

(83) ـ K. POPPER, Alles Leben ist Problemlosen. Uber Erkenntnis, Geschichte und Politik, trad., it, Tutta le vita è risolvere problemi, op. cit, pp. 226-227.
(84) ـ Ibid,p. 228.
(85) ـ Ibid, p. 266.
(86) ـ Ibid, p. 228.
(87) ـ Ibid, 230.
(88) ـ Ibid, p. 231.
(89) ـ Ibid, p. 250.
(90) ـ Ibid, p. 252.
(91) ـ Ibid, p. 257.
(92) ـ Ibidem.
(93) ـ ن. م، ن. ص.
(94) ـ K. POPPER, Alles Leben ist Problemlosen. Uber Erkenntnis, Geschichte und Politik, trad., it, Tutta le vita è risolvere problemi, op. cit, p. 260.

(95) ـ انظر بخصوص هذه النقطة، جورج بليخانوف، المادية والمثالية في الفلسفة، ترجمة جورج طرابيشي، دار الطليعة ـ بيروت 1982.
(96) ـ كارل ور، بحثا عن عالم أفضل، ن. م، ص، 152.

(97) ـ K. POPPER, Alles Leben ist Problemlosen. Uber Erkenntnis, Geschichte und Politik, trad., it, Tutta le vita è risolvere problemi, op. cit, p. 263.
(98) ـ Ibid, p. 264.
(99) ـ Ibidem.
(100) ـ Ibid, p. 265.

(101) ـ كارل ور، بحثا عن عالم أفضل، ن. م، ص، 10.

(102) ـ K. POPPER, Scienza e filosofia. Problemi e scopi della scienza, trad., it., di Mario Trinchero, Einaudi, Torino 1969, pp. 121-158, p. 154.
(103) ـ S. MORAVIA, Successo e verità. L epistemologia critica di K. Popper, in Nuova Corrente , 1970, n. 53, pp. 219-279, 274-279.
(104) ـ D. LOSURDO, Gli intellettuali e il conflitto: responsabilità e coscienza storica, in Rivista di filosofia , LXXXVIII, 1, 1997, pp. 79-98.
(105) ـ Ibid, p. 96.
(106) ـ Ibid, p. 97.
(107) ـ D. EDMONDS J. EIDINOW, Witgensteins Poker, Deutsche Verlag, Stuttgart-München, 2001; trad., it. La lite di Cambridge, Garzanti, Milano 2005, p. 143.
(108) ـ D. EDMONDS J. EIDINOW, La lite di Cambridge, ibidem.
(109) ـ Ibid, p. 145.
(110) ـ W. W. BERTLEY, Un uomo difficile. Profilo di Karl Popper, in Filosofi del Novecento, a cura di Anna Maria Marietti, Einaudi, Torino 1988, p. 33.
(111) ـ D. EDMONDS J. EIDINOW, Witgensteins Poker, Deutsche Verlag, Stuttgart-München, 2001; trad., it. La lite di Cambridge , op. cit, p. 144.
(112) ـ Ibid, p. 146.
(113) ـ Ibid, p. 147.
(114) ـ Id, pp. 147-148.
(115) ـ P. TUDEBODI, Historia de Hierosolymitano Itinere, in Receuil des Historiens des Croisades, T. III, Imprimerie Impériale, Paris MDCCCLXVI, p. 99.
(116) ـ P. TUDEBODI, Ibid, p. 139. «Crastina vero die, summo diluculo, exierunt alii Turci de civitate, et collegerunt omnia cadavera fetentia Turcorum mortuorum, quae reperire potuerunt super ripam fluminis, exceptis illis quae in alveo latebant in ejusdem fluminis ; et sepelierunt at Machmariam, quae est ultra pontem, ante portam urbis Audientes itaque nostri quod humassent mortuos suos Turci, omnes sese praeparaverunt et venerunt festinantes ad diabolicum atrium, et jusserunt desepeliri, et frangi tumbas eorum, et trahi eos extra sepulcra. Et ejecerunt omnia cadavera eorum in quamdam foveam, et deportaverunt caesa capita ad tentoria nostra, quatenus perfecte sciretur numerus eorum ; excepto quod oneraverant quatuor equos nuntiis Admiralii Babyloniae et miserant ad mare. Quod videntes Turci doluerunt nimis, fueruntque tristes usque ad necem. Nam quotidie dolentes, nihil aliud agebant nisi flere et ululare. Tertia vero die coepimus simul juncti, cum gaudio magno, aedificare castrum supra dictum, de lapidibus scilicet quos abstraximus de tumulis Turcorum»
(117) ـ Ibidem.

(118) ـ جانّي فاتيمو، ن. م، ص، 56.
(119) ـ أحيل القارئ الذي يرغب في الإطلاع على آرائي بهذا الشأن إلى كتابي، محمد المزوغي، نيتشه، هايدغر فوكو. تفكيك ونقد، دار المعرفة للنشر، تونس 2004.
(120) ـ فاتيمو، ن. م، ص، 57.
(121) ـ ن. م، ن. ص.

(122) ـ Come si puo capire, non è per nulla un discorso astratto: quelli fra noi, qui, che insegnano la filosofia nelle scuole e nelle università fanno ogni giorno esperienza di questa progressiva dissoluzione della filosofia. Nelle università dove si istituiscono nuovi corsi di psicologia le iscrizioni ai corsi di filosofia diminuiscono vistosamente . Ibid,p. 58.

(123) ـ ن. م، ص، 58.

(124) ـ Proviamo dunque a modificare il titolo della conferenza di Heidegger cosi: La fine della  filosofia nelle società democratiche e il compito (politico) del pensiero . E finito il ruolo  sovrano del filosofo, perché sono finiti i sovrani . Ibid, p. 58.

(125) ـ فاتيمو، ن. م، ص، 61.

(126) ـ M. HEIDEGGR, La fin de la philosophie et la tâche de la pensée, in M. HEIDEGGER, Questions III et IV, Gallimard, Paris 1990, p. 281.
(127) ـ Ibid, p. 282.
(128) ـ Ibidem.
(129) ـ Ibidem.
(130) ـ Ibid, p. 285.

(131) ـ ن. م، ص، 286.
(132) ـ ن. م، ص، 288.
(133) ـ ن. م، ص، 289.
(134) ـ ن. م، ص، 290.
(135) ـ ن. م، ص، 292.
(136) ـ انظر: محمد محجوب، هيدفر ومشكل الميتافيزيقا، دار الجنوب للنشر ـ تونس، 1996، (ط2)، صص، 199 ـ 120. حيث ترجم كلمة ليشتونغ (Lichtung) بـ "خلوة": «إن المنفتح الذي تعتمل ضمنه كل التأسيسات الميتافيزيقية من غير انتباه هو ما يقبل هيدقر على بلورته ضمن مفهوم الخلوة (Lichtung) الذي يشير ـ ضمن نموذج الغاب الكثيف إلى المنفتح الذي تنفرج فيه هذه الكثافة على نحو يصبح فيه ملعبا للنور والظلام، للصوت ولصدى الصوت».

(137) ـ M. HEIDEGGR, La fin de la philosophie et la tâche de la pensée, Ibid, p. 295.

(138) ـ انظر مثلا، مدخل إلى الميتافيزيقا، خصوصا الصفحات التي تناول فيها مصطلح "طبيعة" واختلاف تأويله عند اليونان والرومان.

M. HEIDEGGER, Einführung in die Metaphysik, Max Niemeyer Verlag-Tübingen 1998.

(139) ـ انظر ترجمة محمد محجوب في المرجع السابق: «ألا إن البريق لا يكون ممكنا إلاّ متى كان ثمّة مُنفتح بعد. فليس شعاع النور هو الذي يبدأ فيُنشىء المنفتح، وإنما شأنه أن يسعى في الخلوة ويقيسها». ص، 120.

(140) ـ M. HEIDEGGR, La fin de la philosophie et la tâche de la pensée, Ibid, p. 297.
(141) ـ Ibid, p. 298.
(142) ـ Ibidem.

(143) ـ انظر مثلا النقد الذي عرضه كارل ولفيث في كتابه: هايدغر مفكّر في زمن فقير،

K. LoWITH, Heidegger. Denker in dürftiger Zeit, Vandenhoek & Ruprecht, Gottingen 1960, (trad., it., Saggi su Heidegger, Einaudi 1974), pp. 11-15.  
(144) ـ M. HEIDEGGR, La fin de la philosophie et la tâche de la pensée, in M. HEIDEGGER, Questions III et IV ; op. cit, p. 300.
(145) ـ Ibid, p. 302.
(146) ـ M. H HEIDEGGR, Qu est-ce que la philosophie ?, in M. Heidegger, Questions I et II, Gallimard, Paris 2003, p. 321. (trad., it, Che cos è la filosofia, a cura di Carlo Angelino, testo originale a fronte, Il Melangolo, Genova 1997). die bestimmt auch den innersten Grundzug unserer abendlandisch-europaischen Geschichte
(147) ـ J. BARNES, Heidegger spéléologue, in «Revue de Métaphysique et de Morale» N° 2 1990, pp. 172-195. «Il ne vaut pas la peine (et quant à moi, j ai souffert) de lire cet essai de Heidegger sauf peut-être pour s en servir comme paradigme d une fausse profondeur et d une vide fantaisie». Ibid. , p. 190.
(148) ـ M. HEIDEGGR, La fin de la philosophie et la tâche de la pensée, Ibid, p. 304.
(149) ـ Ibidem.
(150) ـ M. HEIDEGGER, Einführung in die Metaphysik, op. cit, p. 36. Verstehen man, wie es der Marxismus in der extremsten Form getan, den Geist als Intelligenz, dann ist es, in der Gegenwehr zu ihm, wollig richtig zu sagen, daB der Geist, d. h. die Intelligenz, in der Ordnung der wirkenden Krafte des menschlichen Daseins stets der gesunden leiblichen Tüchtigkeit und dem Charakter nachgeordnet werden muB .
(151) ـ D. LOSURDO, La comunità, la morte, l Occidente. Heidegger e l'ideologia della guerra. Bollati Boringhieri, Torino 1991, (ristampa 2001), p. 128.
(152) ـ M. HEIDEGGER, Beitrage zur Philosophie, Vittorio Klostermann, Frankfurt am Main 1989.

(153) ـ بندتو كروشي، مراجعة على خطاب العمادة لهايدغر. التشديد من عندي:

B. CROCE, Ricenzione a Martin Heidegger, Die Selbsthauptung der deutschen Universitoten, Rede gehalten bei der feierlichen Uebernahme des Rektorats der Universitat Freiburg i. B. am 27. 5. 1933 Breslau, Korn, 1933 (8., pp. 22) in La Critica. Rivista di letteratura, storia e filosofia , vol XXXII. Napoli 1934, pp. 69-70. Il prof. Heidegger non vuole che la filosofia e la scienza siano altro, per i tedeschi, che un vantaggio del popolo tedesco. Gli studenti tedeschi, a suo dire, hanno tre Bildungen, tre obblighi, il primo e fondamentale dei quali è la Volkesgemeinschaft, il nazionalismo. Ma, se egli si ripiegasse davvero sulla sua coscienza morale (l ha ogni uomo e l avrà anche lui), direbbe piuttosto che il primo obbligo, di studenti e di professori, è il timor Dei, come sta scritto sul frontone della Sapienza di Roma. Scrittore di generiche sottigliezze, arieggiante a un Proust cattedratico, egli che nei suoi libri non ha dato mai segno di prendere alcun interesse o di avere alcuna conoscenza della storia, dell etica, della politica, della poesia, dell arte, della concreta vita spirituale nelle sue varie forme quale decadenza a fronte dei filosofi, veri filosofi, tedeschi di un tempo, dei Kant, degli Schelling, degli Hegel ! oggi si sprofonda di colpo nel gorgo del più falso storicismo, per il quale il moto della storia viene rozzamente e materialisticamente concepito come asserzione di etnicismi e di razzismi, come celebrazione della gesta di lupi e volpi, leoni e sciacalli, assente l unico e vero attore, l umanità E cosi si appresta o si offre a rendere servigi filosofico-politici: che è certamente un modo per prostituire la filosofia, senza con cio recare nessun sussidio alla soda politica, e, anzi, credo, neppure a quella non soda, che di cotesto ibrido scolasticume non sa che cosa farsi, reggendosi e operando per mezzo di altre forze, che le sono proprie ( ) Il Barth segnatamente tutela l indipendenza della filosofia, mentre il prof. Heidegger si è affrettato a far getto di quella della filosofia .
(154) ـ V. FARIAS, L eredità di Heidegger nel neonazismo, nel neofascismo e nel fondamentalismo islamico, Medusa, Milano 2008, p. 196-198.
(155) ـ Sie heben keine einzige der taten und Ideologien der Regime offentlich denunzieret

(156) ـ الرسالة نشرت في كتاب،

H. MARCUSE, Technologie, War and Fascism, Douglas Kellner, Routledge 1998 (trad, it, H. Marcuse, Davanti al nazismo, Laterza, Bari, 2001, p. 127-29)
(157) ـ Ibid, p. 129.
(158) ـ Ibidem.

(159) ـ للإطلاع على النصّ الأصلي للرسائل والترجمة الإنجليزية، انظر الموقع الإلكتروني لهربارت ماركوز.

(160) ـ Sie, der Philosoph, haben die Liquidierung des abendlandischen Daseins mit seiner Erneuerung verwechselt .
(161) ـ M. T. CICERO, Tusculanae disputationes, BUR, Milano 1996, pp. 446-48. «Sed huius culpae et ceterorum vitiorum peccatorumque nostrorum omnis a philosophia petenda correctio est. Cuius in sinum cum a primis temporibus aetatis nostra voluntas studiumque nos compulisset, his gravissimis casibus in eundem portum, ex quo eramus egressi, magna iactati tempestate confugimus. O vitae Philosophia dux, o virtutis indagatrix expultrixque vitiorum ! quid non modo nos, sed omnino vita humanum sine te esse potuisset ? Tu urbes peperisti, tu dissipatos homines in societatem vitae convocasti, tu eos inter se primo domiciliis, deinde coniugiis, tum litteram et vocum iunxisti, tu inventrix legum, tu magistra morum et disciplinae fuisti. Ad te confugimus, ad te opem petimus, tibi nos, ut antea magna ex parte, sic nunc penitus totosque tradimus. Est autem unus dies bene et ex praeceptis tuis actus peccanti inmortalitati anteponendus. Cuius igitur potius opibus utamur quam tuis, quae et vitae tranquillitatem largita nobis es et terrorem mortis sustulisti ? Ac philosophia quidem tantum abest ut proinde, ac de hominum est merita, laudatur, ut a plerisque neglecta a multis etiam vituperetur. Vituperare quisquam vitae parentem et hoc parricidio se inquinare audet et tam impie ingratus percepire potuisset ? Sed, ut opinor, hic error et haec indoctorum animis offusa caligo est, quod tam longe retro respicere non possunt nec eos, a quibus vita hominum instructa primis sit, fuisse philosophos arbitrantur».