يقدم الكاتب الليبي هنا تجربة شيقة تختلط فيها الوقائع بسمادير الخوف تحت وطأة السجن والتعذيب، وتمتزج فيها جسارة المقاومة للاحتلال بخيالات الرعب من الخونة والمتعاونين مع الأعداء في تجربة سردية مراوغة تفتح النص السردي بجسارة على أكثر من تأويل.

السجّان المُلثّم

قصة قصيرة

عبدالله الغزال

(1)

مُرتجفا، مُترنِّحا أشق طريقي بين الأصوات منذ خروجي من السجن..!

أسبوع مضى الآن أو أكثر، لا أعلم. أسير كل يوم في ممرات رأسي كما أتجول في بيتي المُغبر المنهوب. أتذكر أشياء مرعبة، وأعنت لأطمس أشياء أخرى أشد رعبا. أقف وحدي. أغوص في داخلي، أشاهد في تجاويف جمجمتي المتعبة المضطربة أطيافا تمرق، وأشم روائح أشياء تحترق، أنشاق تشبه إلى حد كبير الرائحة الناتجة من احتراق الورق بعد انطفاء النار وانبعاث الدخان. أعبر في رحلتي حتى أبلغ المدى، يدهمني الأزيز المتولد عن الصمت الثقيل، أسبح في بحار من اللاشيء. أنظر إلى جسدي من الداخل. أتابع تدفق الدم من غرفات قلبي الأربع وهو ينتشر في عروقي ثم يعود ليندفع من جديد إلى أعضائي، يتدفق الوقت حولي. ثم لا أشعر بشيء، لا أشعر حتى بأنني أحمل هذا الجسد. قلبي يضخ الدم. ينبض. أسمعه يدق في فضاء من الخواء. لا أستطيع أن أتذكر كل شيء الآن. أحيانا لا أتذكر حتى نفسي، وأنا أسائلها عن سر الصمت والارتجاف العميق الذي يسيطر علي جسمي وعقلي كله، حتى بعد إطلاق سراحي. يعاودني الرعب، وتعاود الأسئلة العتيدة الطنين في رأسي. أسمعها مثل صليل آلاف الإبر. مثل الحسك الشرس يتخلل جلدي ومسامي. يشكني. يفيق جسمي!

لا شك أن "سُكينة" لا تعلم بعد بنبأ خروجي من السجن. أنا خائف من لقائها. نعم أنا وَجِلٌ من لقائها ورؤية طفليَّ مرة أخرى. ربما هي الآن في بيت أهلها مع الطفلين، تنتظرني هناك، أو ربما ماتت. لا أدري! أشياء كثيرة بدأت أشعر أنها تتغير في أعماقي بعد تجربتي المخيفة في السجن. حتى ظاهريا، بدأت أشعر بأنني لست أنا. شخصيتي العابثة الماجنة أراها تنكمش في طوري الذي تَخلَّق داخلي في غياهب السجن، وتحدق بعينين جديدتين خائفتين إلى الدنيا والأشياء. أنا لم أكن آبَهُ كثيرا بأحداث الحرب الدائرة، كنت أمارس طقوس حياتي اليومية. أكتب مقالات أو قصصا للصحيفة، وأتقاضى عليها الأجر المعتاد. بمعنى، أنني كنت سلبيا وفق ما يتيحه تفكيري الجديد المضطرب الآن من رؤى. ربما لأن واقع معيشتي لم يتأثر كثيرا عن مرحلة ما قبل الحرب. الأجر الذي أتقاضاه من وظيفتي في الصحيفة كان يؤمِّنُ لي حياة لا يمكن وصفها أبدا بأنها ميسورة حتى فيما مضى. ولذلك استمرت ممارستي لحياتي كما أراها أنا وفق تركيبتي الطائشة بعيدا عما تتركه الحروب عادة من تشويه في سير حياة الناس والمدن. أذهب إلى البحر، وأقضي أشطارا من وقتي في المقهى مثل كثير من الناس الذين تعودوا على العيش في أجواء الحرب. ولكني من ناحية ما، كنت وطنيا، ولا أنكر أنني شعرت بالألم والحسرة لما آلت إليه البلاد بعد الاحتلال، وأن شعورا بالرضى يتسرب إلى أعماقي حين يُقتل أفرادٌ من قوات الاحتلال، ولكن رغم ذلك لم أتخيل يوما بأن رعب الحرب سيطالني أيضا، وأنني سأقف في يوم من الأيام على حافة الجنون، وأنا أتأمل الدنيا الجديدة بعد نجاتي من الموت في السجن. الآن يُخيَّل إلي أن هالات الغروب البرتقالية المخلوطة بالحمرة التي كنت أراها في أفق البحر، أو فوق سياج بيتي في آخر النهار، لا تتكوَّن إلا من دماء المساجين الذين يجلدون بأسلاك النحاس المفتولة في السجون. أنا رأيتهم. تتصارخ في جلود ظهورهم التي أنضجها الضرب القروحُ، وتشخص أعينهم الزائغة بالجفاف والخوف، وبالعروق الحمراء الخائفة التي يستفزها مولد الموت. الموت الجديد هناك تحمله نظرات السجَّانين، والشاحنات المصفحة والسياط، وغرف السجن الضيقة المعتمة، والقهر!

أنا كنت أرهب الموت. كان خوفي من الموت لا حد له، لأنه يجعلني أستيقن باقتراب فكرة مرعبة وهي مغادرة هذه الدنيا، أن أموت يعني أن أحشر في قبر ضيق مظلم يحد من حركتي ويخنق أنفاسي، لذلك انطلقت من حيث لا أدري في إحياء وجودي بالركض، والتوغل في ضروب من الاستهتار واللامبالاة حتى خلال الحرب. الآن فقط أستطيع أن أفهم لماذا كان يراودني في وقفاتي بيني وبين نفسي شعور بأنني غير جدير بأن أكون قرينا لفتاة لها شخصية "سكينة" المؤثرة.

"سكينة"؟
من أي غيهب بعيد من غياهب القدر الحزين ينبثق لي طيفك يا "سُكينة"؟
سبعة أيام مضت الآن وربما أكثر، وأنا أدور في بيتي مرتجفا. أطل من شبابيكه لأستطلع المكان والزمن. المكان ثقيل، والزمن يأكل من أعصابي وعقلي.
الصيف في الحديقة!
الأشعة الساخنة الساطعة تملأ فناء بيتي، وشجرات الليمون ساكنة.

منذ أن خرجت من السجن والظهيرة الخرساء دائما تسيطر على الحديقة. يملأ الفِناءَ الضياءُ وتسكت الأشجار عن الحفيف. وتنتصب أعشاب طويلة محرشفة الأوراق، تتوزع حتى قرب المدخل. لا أعرف كيف نمت هذه النباتات، ومن أين جاءت. لا أذكر أنني رأيتها من قبل تنمو في حديقتي. ما أسرع أن تسفر الغربة في المكان والزمن عن وجهها. ما أسرع أن تستحل الأشياء فضاءات أشياء أخرى وتأخذ مكانها. هذا هو الشعور الذي أشعر به كلما نظرت حولي الآن. كنت أرهب الموت، ولكن شعور العودة من الموت للحياة هو شعور مرعب أيضا لا شك!

خوفي من هذا الشعور، وعدم احتمالي لفكرة لقاء "سكينة" مرة أخرى هو ما يدفع في أعماقي ذلك النوع من الجزع عندما أفكر بأنني مازلت حيا أتنفس، وأنها قد تكون بانتظاري في مكان ما!

ما فتئ طيفها يظهر لي من بين ركام ذاكرتي المنهكة وأنا أدور في بيتي ورأسي.

في فِنَاء هذا البيت الذي ورثته عن أبي كانت تزهر شجرتا الليمون بزهر أبيض. وبعد حين تتدلى ثمار خضراء صغيرة، وسرعان ما يعبق الهواء بالأريج. تشم "سُكينة" العبير العَطِر السابح عبر شبابيك البيت وتضحك. وحين يأتي الصيف يمرح الصبيان تحت هاتين الشجرتين في النهار وتنام في أغصانها وأشواكها العصافير في الليل. أما في الليالي المقمرة فينام الصغيران فوق رخام المدخل بأجساد رخوة دافئة. تفرش لهم أمهم البُسُط ثم تسلم ظهرها إلى الأرض جواري. تحدق إلى النجوم وتحدثني عن اليوم والأمس، ثم تأخذها سِنَة، أسمع صوت تنفسها، وتطرأ على بالي فكرة انقباض وانتفاخ رئتيها مع آلية تنفسها الرتيبة. وإذ تستفيق بعد وهلة على حركة الصبيين النائمين، تجدني قد رحلت أيضا في نوم أعمق. أنام كما كنت أنام في طفولتي. أتمدد في مرقدي بين إخوتي وأظل أتجول بعيني في الظلام. لا أذكر أنني فكرت كثيرا في أبي في الساعات التي تسبق النوم، ولكن صورة أمي كانت تزاحم أفكاري دائما. لا أدري على أي جهة كنت أفهم ذلك، كنت أشعر دائما بشعور غامض بالهيبة تجاه أمي. ربما كان هذا هو سر التلهف الغامض للعودة الذي يجعلني دائما انكسر بعد كل شِجَار مع "سكينة" وأسارع لترضيتها والارتماء أمامها مثل طفل مطيع. كان عندي إحساس جارف بأنني سأشعر بالعار، إذا كانت أمي لاتزال حية وعرفت ما عرفته عني "سكينة".

ولكن بعد أن زُجَّ بي في غرفة السجن الضيقة المعتمة، وتحركت "سكينة" في رأسي تأكد عندي أن طريقة استقبالي لصوت تنفسها المتتابع وهي تحدق إلى سماء الصيف، وهي نائمة بجواري، وعودتي الطائعة لها بعد كل خصام، لم يكن سوى انعكاس خفي داخلي لشعوري بالإثم والذنب ناحيتها، لأنني على وجه ما لم أكن وفيا طيلة عشرتي لها. أعترف أنني كنت زوجا خائنا. كنت رجلا يهوى مغازلة النساء، والرغبة في العيش وسط عالم يكتظ برائحة الإناث، رغم أنني في الواقع لم يسبق لأي من النساء اللاتي عرفتهن أثناء عبثي أن رأت عورتي. كان الخيط الذي أنسجه دائما مع النساء لا يتعدى إطفاء ذلك الشوق العاطفي الغريب الذي لا يشب إلا عند صنف معين أرعن من الرجال، ولا يطفؤونه إلا بالحياة في حضور معنوي ونفسي دائم مع الجنس الآخر. كنت غرا غبيا، ولم أعرف كيف أستفيد من شخصية "سكينة" الهادئة المثمرة. أنا الآن أذكر جيدا كيف جثت على ركبتيها قرب الباب، حين جاء العسس بعد منتصف الليل وألقوا القبض عليّ وقادوني إلى الشاحنة المصفحة. لمحت شيئا يُغِيرُ على أهدابها ويطفئ البريق العميق في عينيها الجميلتين. هي كانت تعرف معنى أن يأتي الجند ويقبضوا على شخص ما بعد منتصف الليل. النظرة الأخيرة التي شاهدتها تلتصق بعينيها قبل أن تتوارى عني ويتوارى معها محتوى بيتي كانت حسيرة. كانت نظرتها تحمل ذلك الجمود والتيه والحسرة والذعر المجهول، تماما كذلك الذي يشع من عيون الدمى الجامدة. كان العسس يدفعونني أمامهم، ولكني رأيت ذلك الشيء يخيط جفنيها فينغلقان في ارتخاء مخيف.

ولكن بعد أن أوقفوني عاريا في السجن، وانكشفت عورتي أمام جمع من نساء يرتدين بذلا مبرقعة، وتمزق ظهري بأسلاك النحاس، عرفت سر ذلك الإيماء الذي انسكب في حدقتيها وهي تودعني صامتة. كان حدس الأنثى حين تتيقن أنَّ رجُلَها سوف يقهر! الواقع أنهم لم يسمحوا لها بزيارتي أو حتى معرفة مكاني. حين أفكر بالأمر الآن أرتجف، وينتابني شعور بأن لا وجود لذلك المكان. وإني لأتساءل الآن عن مدى صدق ذاكرتي وأنا أستجمع أحداث اليوم الذي ألقي فيه القبض علي. كانت "سكينة" غاضبة مني في ذلك اليوم. ضبطت مُهاتفة جاءتني عبر هاتفي المحمول من فتاة مغناج عرفتها على شاطئ البحر منذ يومين. تكلمت مع الفتاة بكلام شديد، ثم تشاجرتْ معي حين عدت بعد الظهر. خرجت حانقا ولعنت نفسي لأني نسيت هاتفي في البيت، ولكن ما إن عدت في المساء حتى قُهِرتُ أمامها كالعادة. الكبرياء أو ربما هو الوفاء أو الرجولة الذي كنت أستشعرها في شخصيتها كانت دائما تقهرني وتشعرني بالذل. قلت لها متزلفا وأنا أقلب أوراقا بائسة في يدي:

ـ هل تعلمين أنك كنتِ مصدر إلهام هائل عندما استدرجتني في شجارنا اليوم لألتفت إلى شيء لم أشعر به من قبل. كلامك عن عدم نفعي لأكون زوجا أوحى لي بقصة سأنشرها في الصحيفة. ها ها ها!

ظلت ظلال الغضب تلوح من وجهها، ولكني أكملت محاولتي لنيل الصفح منها:

ـ لقد استوحيت هذه القصة من حياة صياد غريب الأطوار، هو بحار أعزب لا يحب النساء. لقد عرفت هذا الرجل على شاطيء البحر واليوم التقيته أيضا، إنه رجل غريب الأفكار، وأحيانا ينتابني إحساس بأنه مخبول، اليوم أيضا وجدته على الهيئة نفسها على الشاطيء.

لم تكثرت، ظلت تنظر إلى الفراغ فوق رأسي، حاولت أن أهرب من السطوة المطلة من حضورها أمامي، كان وجهها مكسوا بلحظة صامتة، جامدة، مسكونة بألف سر، وحاجباها مرتفعان قليلا، تماما كتلك اللحظة التي اقتنصتها منها آلة التصوير العام الماضي. كنت قد فاجأتها في ذلك الأصيل. ناديتها والتقطتُ لها صورة مباغتة وهي ملتفتة بينما كانت تمد يدها بين الأغصان لتقطف ثمرة ليمون صفراء.

ولكني أكملت محاولة ملاطفتها في استماتة خرقاء:
ـ أرجوك يا "سكينة" لا تضخمي الأمور.

هبط حاجباها وتحركت شفتاها كعادتها حين تطرد القسوة ملامح المرح من وجهها:
ـ أنا لا أضخم الأمور، أنا أعرف حقيقة واحدة وهي أنك زوجي، وأنا زوجتك، وأننا نُعِيل طفلين، لا تقل لي بأنك تجهل حتى معرفة هذه الحقيقة!

أضافت وهي تقوم من مكانها:
ـ القتل في الشوارع، والبلاد على كف شيطان وأنت لا تزال كما أنت.!

رأيتها تتوجه إلى غرفة الصبيين، ثم تخرج بعد لحظة. لم تنظر ناحيتي. دَخَلَتْ غرفتنا وأغلقت الباب. لم يخطر ببالي أن ألحقها وأكمل رعونتي في مصالحتها. كلماتها جرحتني. هزمتني. هربت من الهزيمة بتقليب الأوراق في يدي، وبالتفكير الجاد في كتابة شئ عن ذلك الصياد.

كنت فعلا قد ذهبت إلى البحر بعد شجاري معها في ذلك اليوم. كنت غاضبا أنا الآخر. أو متصنعا الغضب. ركبت سيارتي وعبرت بها الطريق المبلط ودخلت الدرب الترابي الهابط المحفوف بالتلال الصخرية وأشجار النخيل الإناث. ظهرت العراجين المثقلة بالثمار تتزاحم في فروات السعف، ثم ظهر لي البحر. كان أزرق زرقة ضاربة إلى لون الرصاص الذائب. أطفأت محرك سيارتي وقبعت وحدي. من بعيد سمعت أصوات قصف، وإطلاق رصاص. المقاتلون يتبادلون إطلاق النار مع جنود الاحتلال في مكان ما خلف المدينة لا شك. لكنني كنت أفكر في "سكينة". في شجارنا اليوم وجهت إليها إهانات لاذعة، وحاولت أن أظهر أمامها بمظهر الرجل الشهم الذي طعن في كرامته. كنت أعرف أنها مظلومة وبائسة، ولكنني أعترف أنني كنت أنانيا نذلا. أذكر أنها نظرت إلي باحتقار شديد وخوف.

مضى زمن وبدأ البحر يتغير أمامي. شرع سطحه يشرب من أصباغ ملونة أخرى مجهولة فتنكسر أمواجه المتحركة بألوان أخرى أشد قتامة. مر الوقت وتكاثفت الظلمة على رؤوس النخيل خلفي وتموهت انتصابات التلال الصخرية، وبدأت هالة برتقالية كبيرة مشعة للمدينة التي بدأت تضيء مصابيحها في الظهور. فرغ الشاطئ من الناس، البقاء خارج البيوت في الليل مخاطرة. الناس تعودوا على الرجوع باكرا إلى بيوتهم والاستماع إلى أصوات الانفجارات والرصاص. في ظل الحرب يعيش نوعان من الحياة. نوع مغامر نشط في النهار، ونوع آخر مترقب خائف في الليل. سلكت الطريق أنا الآخر إلى بيتي، ولم يبق سوى الصيَّاد صاحب الكرسي.

كان كهلا طيبا. رأيته مرارا في المكان نفسه. يخرج كرسيا له مفاصل من صندوق العربة، ويحمل بيده الأخرى صندوقا صغيرا آخر. يمشي بظهره الناتئ ويسير فتتلامع خيوط الضوء على شعره المهمل. يجلس ويبدأ في إطعام شصوصه ويلقي بها في الماء. وتتحرك على رأسه انعكاسات الشمس. ما إن أتشاجر مع "سكينة" وأهرب إلى شاطئ البحر المختفي وراء أطواق النخيل، حتى يفاجئني بجلسته المعهودة يتابع بعينين فارغتين خيوطه المتسللة إلى القاع.

يمشي دائما منحني الظهر قليلا. عندما رأيته أول مرة منذ سنوات فكرت بأنه إنسان غريب. ربما أرمل أو مطلق. أو من أولئك الرجال الذين يعزفون عن الزواج انطلاقا من طبيعة خاصة في التفكير، وينهمكون في عبث يومي مع أشياء تافهة. مع هذا توطدت علاقتي به مع الأيام. الحق أنني لم أهتم به كثيرا. كانت علاقتي به لا تعدو أن تكون حدثا عاديا من الأحداث التي تمر بها حياتي وخاصة بعد اندلاع الحرب، بل وأعتبره تافها لأنه يبعدني عن المرح. ولكن كم شعرت بالفخر عندما عرفت بأن حدسي كان صادقا حين أخبرني بأنه لم يقترن بامرأة طيلة حياته. قال ذات يوم لي رأيا غريبا. قال إنه لا يوجد كائن فوق الأرض يحمل بذره هلاك الرجل سوى المرأة، وأضاف وهو يسحب الخيط من الماء ليطعم الشص مرة أخرى:

ـ هي تُسْلم له جسدها، ولكن من يتعرى في الحقيقة هو الرجل لا المرأة. المرأة لا تحوط نفسها بألف ثوب إلى حين ترمي بقطع ملابسها أمام الرجل وتتمدد عارية.

ألقى بالخيط على الماء، وبدأ يسحب خيطا آخر:
ـ المرأة هي الشيطان.!

ارتفع فجأة صوت دُوِي عنيف ناحية وسط المدينة فالتفت الكهل، ثم عاد لإكمال كلامه، ولكني لم أجاره في الحديث ليسترسل في التصريح بآرائه الخاصة حول مشاعره العاطفية تجاه النساء، جاملته بضحكة، وأدرت دفة الحديث إلى أحداث الحرب مستغلا حدث صوت الانفجار البعيد.

ـ هذا حاجز آخر من حواجز التفتيش يتفتت، ترى كم من الأوغاد تمزق الآن؟ ها ها ها..

لم يعقب، استمرت يداه تعالجان الخيط، أخرج من الصندوق سمكة صغيرة ميتة وألقمها للشص المدبب في غرزتين. كان نادرا ما يتناول في أحاديثه أخبار الحرب الدائرة بين جماعات المقاومة الوطنية وقوات الاحتلال. أكملت ضاحكا:
ـ لاشك أن عددا من جنود الاحتلال صاروا أشلاء الآن، ومعهم الخونة الذين يتعاونون معهم..

لم يتكلم الصياد الكهل. استمر يطعم شصوصه بالسمك الصغير الميت، ولكني أضفت معبرا عن وطنيتي التي أفتخر بها بيني وبين نفسي:
ـ لا يمكنني أن أتصور كيف يمكن لواحد من هذه البلاد أن يتعاون مع هؤلاء القتلة، ولكنهم يلقون حتفهم على أيدي شباب المقاومة، هل تصدق؟ لقد التقيت أحد هؤلاء الفتية قبل أسبوع في المقهى. شرب معي القهوة بعد الظهر، وفي الليل نسف حاجزا للتفتيش، وقتل عددا من الأوغاد.

أظنني ساعتها لم أكن موفقا في اختيار الحديث الذي يفضله، لأنه صمت وانشغل بمراقبة خيوط الصيد الغائبة في البحر، ثم عاد يتكلم دون أن ينظر ناحيتي عن آرائه حول النساء. جاريته بنوع من الاستماع المصطنع، ولم يطل بي المكوث حتى أظلم الليل.

كانت آراؤه غريبة فعلا، ولكنه رغم ذلك كان إنسانا طيبا. اصطاد مرة كمية من السمك ووزعها على الصغار الذين يحاولون صيد السمك أيضا بالقصبات، وفي ساعات أخرى يضحك ويقهقه قهقهات وقورة، ولكن شيء ما لم يكن يريحني في عينيه. امتداد غامض مجهول. شيء يتحرك في العمق البعيد. يطل ثم يختفي بسرعة. عرفت ذلك أول مرة حين كان يحدثني ووجهه في مواجهة الشمس. تغلغل ضوء الشمس في أحداقه وكشف عن ذلك العمق فجأة، يخيل إلي الآن أن ذلك الشيء الخفي الذي كان يلوح في عينيه لحظة ثم ينطمس لم تكن سوى ملامح الإنسان الآخر الذي يسكنه. وحتى في فترة سجني ما فتئت ذاكرتي ترحل بي في أوقات استقرارها إلى الساعات التي سبقت اعتقالي واسترجاع صورة هذا الصياد الكهل وأنا أمسك بأوراقي وأحاول أن أكتب شيئا عنه. ساعتها لم يدر في خلدي أبدا أنني سأدخل السجن.. 

(2)

قبل التحقيق استودعوني حجرة مظلمة بها شخص مُكوَّم في الركن. كانت الحجرة عفنة جدا. استقر جسدي في الركن دون أن ينام. أرهفت السمع لطنين البعوض في العتمة. الليلة الأولى كانت ضنينة حتى بالأرق. رحلت مع إحساس آخر غريب. إحساس يشبه العدم. كان نظري مسلطا على الشخص النائم معي. كان يتقلب ويزفر، أغفيت أنا أيضا بعد فترة ارتقاب طويلة. ولكن أفاق جسمي دفعة واحدة بعد فترة. رأيت من وراء جفوني أضواء تنتشر. هل نمت كثيرا وأنا جالس، ولكن بعد أن فتحت عيني اكتشفت أن الضوء الذي انتشر ليس ضوء الفجر بل هو أضواء الكشافات المثبتة في الأبراج على سور السجن. انتشر هباؤها كاسحا، وعرفت أن الليل لم يتحرك. أكملت الليل يقظا.

في الصباح أفاق الرجل النائم معي، وسرعان من نشأت بيننا علاقة. سألته أسئلة كثيرة. وفي الأيام الأخرى كنت أحاول النوم أيضا في العتمة الدائمة. العتمة في النهار شيء بشع، في إغفاءاتي الحذرة تختلط المشاهد والأصوات في رأسي. كنت أمدد جسمي في الركن أو في الركن الآخر وأحاول النوم. لم أعد أشتم رائحة البول والعفونة. خمنت أن تجاويف الأنف تتعود على الروائح العفنة بطول المكوث. ولكن حالة الإنهاك والتمادي في الإغراق الجزع واللهف لم تكن لتحول بيني وبين الإحساس بالأشياء. "سكينة" كانت تخرج لي دائما وسط هذا التقلب الذي يطن في رأسي. السجين أخبرني بأنهم يحطمون أعصاب المعتقلين هنا بتركهم ينتظرون أياما في خوف وترقب، ويأخذون السجناء الجدد لحضور جلسات التعذيب. تملكني رعب رهيب، سرى في جسدي الروع كما يسري السم. كان صاحبي هذا صيَّادا يملك مركبا لصيد السردين، ولكنه اعتقل منذ شهور ووجهت له تهمة إمداد جماعات المقاتلين بمتفجرات صيد السمك. غير أنني لم أصدقه في أعماقي لأنه كان يتكلم مثل فيلسوف حقيقي، وشككت بأنه قد يكون فعلا على علاقة ما بأحد التنظيمات التي تقاتل الاحتلال.

مضى وقت طويل ثقيل دون أن نسمع صوتا. فقط الرجل الذي أتى لنا بالطعام مرتين، والبعوض الشرس يطن، وأستشعر لسعاته وأهرش ذراعي، سألت رفيقي عن هذا الانتظار فقال لي:

ـ لا تستعجل المصير، سيأتون لأخذك وسيحققون معك ولكن ليس الآن، وسيأكل السجان الملثم من لحمك.!
ـ السجان الملثم.؟
ـ نعم، إنه رجل رهيب، إنه الرجل نفسه الذي أحضر لنا الطعام، يأتي بالطعام للسجناء، ويتولى بعد ذلك جلدهم بسلك من النحاس، أنا رأيت وجهه مرة واحدة، إنه عربي من هذه البلاد، هو أحد المتعاونين مع الاحتلال. أنا رأيت وجهه حين كان يجلد صبيا منذ شهرين تقريبا.

حكى لي رفيقي في اليومين التاليين قصصا مرعبة عن هذا السجان الملثم وعن تنكيله بالمعتقلين. أخبرني عن قصة الصبي:

ـ أوقفوه عاريا أمامنا وبدأ السجان بجلده بحقد مخيف. كان الطفل يصرخ ويتألم. وبدأ جلده ينسلخ أمامنا. رجولتي المقهورة حالت دون صدور أي رد فعل مني. خنوعي حال دون قيامي بأي شيء. الآن أتذكر كيف كان ينظر إلي وكيف كان يرسل نظراته. آمنت ساعتها أن هذه الحياة لا يمكن أن تفهم بأي حال!

كان الصياد السين يرتجف وهو يتكلم، يرتجف ويهدأ، وكنت أنا مذهولا. هذه الحياة لا يمكن أن تفهم بأي حال، غبت مع نفسي، يخيل إلي أنه استمر يتكلم وأنا غائب في أمواج داكنة مظلمة، أتخيل هذا السفاح وهو يمزق ظهري أنا أيضا. أنا لم افعل شيئا، أخشى الألم وأخاف حتى في مجرد التفكير في التعذيب والموت، ولم يصل ذهني المكدود حتى لتخيل صورة الصبي وهو يُمزَّق. كيف يقسو إنسان على إنسان آخر على النحو المرعب. لماذا؟. ترافق تفكيري في صدفة عجيبة مع ما سمعته من رفيقي حين شرع يتحدث عن الموت:
ـ أنا شاهدت كيف يولد الموت، هنا يولد الموت بألف وجه، ألف لون وشكل، وهنا ترى من الحياة جانبا آخر مظلما لم تره من قبل.

تحجّر وجهه وتيبست مقلتاه. استمر يتحدث:
ـ أنا رأيت الفوهات تهتز من الدوي وتتقيأ النار. أخذوني يوما لأشهد إعدام بعض الشباب. اهتزت البنادق، وعلى بعد أمتار رأيتهم يخرون برؤوسهم على صدورهم. كانوا مربوطين إلى أخشاب وعيونهم معصوبة بأكياس سوداء ثم انتشرت بقع حمراء تشرَّبتها أرديتهم ببطء. كنت قد سمعت عن أحكام الإعدام التي نفذت في بعض المعتقلين في السجون، داخلني رعب أشد وطأة، ولكنه عاود حديثه وهو ينظر ناحيتي:
ـ الموت الذي رأيته ينسكب على جميع الوجوه والمقل هنا، يذكرني بتلك النظرات الفزعة التي ارتسمت في عيون الصيادين حين غرق مركبنا ذات ليلة شاتية. إنني أذكر نظراتهم جيدا وأذكر كيف بدأ الرجال في التدافع.

ظللت صامتا، واستمر هو يتحدث بشخصيته الغريبة المتفلسفة:
ـ اسمع سأحكي لك قصة أخرى، ولكن هل رأيت قاتلا من قبل؟

لم ينتظر مني ردا، كنت أحاول جاهدا أن أستجمع صورة ذلك السجان الملثم الذي فتح باب زنزانتنا في اليومين التاليين وأحضر لنا الطعام. كان لا يأتي إلا في الليل، يفتح الباب ويتقدَّم صامتا، يضع الصحاف على الأرض ويستدير ماشيا بانحناء. الظلمة المسيطرة وتفكيري المشلول حالا دون الاحتفاظ بشكل ثابت عنه.

أكمل رفيقي في السجن:
ـ أنا رأيت..

كنت لا أزال ألهث في ذاكرتي للإمساك بالظل الماثل عن الرجل الملثم، لكن الصياد الفيلسوف استمر يهمس كأنه يتحدث إلى شبح:
ـ قلت لك أنا رأيت. كان ذلك قبل الحرب. كان رجلا متزوجا قتل فتاة في السادسة عشر. ضاجعها لشهرين وبعد أن انتفخ بطنها قتلها. استدرجها إلى البرية، وأغمد في صدرها سكينا من سكاكين المطابخ اخترق ثديها الأيسر، واستقر في القلب، ثم طعنها طعنة أخرى في ظهرها. رأيته بعد أن برأته المحكمة، جاء في حفل عرس لجيراننا. نظرت إليه. كان يضحك بصوت عال، وتظهر أسنانه مصفوفة حادة. يتحدث ويلتفت، ولكني استطعت أن أرصد ذلك الطيف الخفي الذي يطل من عينيه بين حين وآخر. يظهر ويختفي. يطفو على حدقتيه. شيء أسود مخيف. عميق.

تذكرت بغتة ذلك العمق الذي كنت ألمحه يومض في عيني الصياد الكهل صاحب الكرسي ذي المفاصل، وشعرت بقلق خفي. تابع رفيق السجن حديثه:

ـ وعندما أخبرتني زوجتي أن زوجته أنجبت منه طفلين أثناء خروجه في إجازات من السجن احتقرت زوجته أكثر، وبعد سنة سمعت أيضا أن المحكمة أصدرت حكمها بإعفائه من الإعدام.

سكت صاحبي وابتسم عن أسنان مقلوعة. وظل يعبث بشعره. وسكنت عيناه. استطعت أن أخمن أن الفتاة المغدورة ذات الستة عشر ربيعا نظرت إلى القاتل وهو يستل النصل من صدرها ويغمده في ظهرها عندما ولت هاربة تشهق بالموت. هداني عقلي بأن تلك النظرة التي تسح من عيني صاحبي الآن لم تكن سوى نظرة الفتاة القتيل وهي في انتباهتها الأخيرة، والقاتل يجهز عليها. طيف الموت يتنقل بين الأحياء فارضا وجوده على هيئة ما. يقيم في النظرات. ما انفك صاحبي يسكب تلك النظرة الساكنة من عينيه في العتمة. إنها هي النظرة نفسها التي التصقت بعيني "سكينة" ليلة قادني العسس. أو ربما هي إغماضة الأخيرة الجنين في الظلام وهو يلفظ أنفاسه في ظلام رحم الفتاة القتيل. لا شك أن هذه الحياة لا يمكن أن تفهم بأي حال.!

من أي غيهب بعيد من غياهب القدر الحزين ينبثق لي طيفك يا "سُكينة"؟

بعد أيام نزلوا بي إلى طابق تحت الأرض. سِرت خطوات في ممر مثقل بالأضواء الكليلة ولكن جسمي صار ثقيلا فجأة. تركت نفسي تتمايل ورفعت جسمي ببطء على قدمي. كنت أشعر كأنني أحمل جسدا ليس لي. واتتني فكرة طارئة وأنا أمشي، ثم تحولت مع سيري الثقيل إلى اعتقاد إيجابي في تلك اللحظة، وهي أن أقتل نفسي. أنا لم أكن متفانيا في انضمامي إلى ذلك الصنف من الرجال الذين يملكون قدرة عالية على الاحتمال للعيش في نجاح مستمر، لذلك كانت فكرة قتل نفسي تريحني من هذه الجهة. أدخلوني غرفة يقف في وسطها ضابط أجنبي أشقر غليظ الملامح. ويقف قرب الباب رجل ملثم، ويأرجح سلكا من النحاس المفتول في الهواء. يحيط اللثام برأسه كله وينسدل حتى يغطي عينيه. كنت خائفا جدا. لا ريب أنه السجان الملثم. شعرت بقلبي ينبض بقوة، ثم أحسست أنه توقف تماما. ثقل جسمي وخار تفكيري. سكنت مقلة الضابط سكونا مخيفا. غلفها هدوء كذلك المكوث المنعكس على سطوح المقل الضريرة. لا تعرف أن ثمة حياة تسري في عينيه إلا بعد أن يقترب منك. نهض. مشى خطوات واستدار بالهدوء نفسه. كانت شفاهه بشعة. غليظة بها شقوق، سخرت من نفسي وأنا أعقد مقارنة طارئة في غاية التفاهة بين هذه التكوينات البشعة وبين شفتي "سكينة" الرطبتين الحالمتين. أعتقد أنني كنت مختل العقل في تلك اللحظة، ربما من فرط ما تعرضت له من تنكيل نفسي طيلة الأيام التي قضيتها في الغرفة المظلمة مع ذلك الصياد الفيلسوف. هذا السجان الملثم بأنفاسه الطاغية، والضابط وهو يتحرك كصنم. ما الذي ينتظرني؟.

اقترب الضابط مني، وسمعته يسألني عن علاقتي بالجماعات المقاتلة التي تنسف حواجز التفتيش وتغتال الجنود، وطلب مني أسماء ومعلومات أخرى. هززت رأسي مستجيبا بلا وعي. عاود توجيه الأسئلة لي بلكنته المتقطعة، هززت رأسي مرة أخرى، لا أذكر الآن إن كنت قد أجبت بالإيجاب أم بالنفي، ولكني أذكر أنه شد قبضته وأطبق فمه. ورأيت يد السجان الملثم التي تحمل السلك تتحرك وترتفع في الهواء. ثم سمعت صوت صفير. عوى السلك في الهواء وهوى على ظهري. مع الضربة تشنجت قبضتاي وسرت في بدني قفقفة. مخر السلك الهواء في صوت عاو مرة أخرى، ولسع ظهري، حدست أن جلدي بدأ ينسلخ ويتساقط. أغمضت عيني وحدست أن دمي الآن بدأ يتناثر على الأرض. مع اللسعة الرابعة جثوت على ركبتي وانسدل على عيني بياض غريب. بياض متموج بالرماد أو الرصاص. ربما شعرت بالبرد لوهلة، لا أدري!، ولكني سمعت صليل آلاف الإبر في لحمي. إبر خفية ترن في رأسي أيضا. تتخلل مخي وتفقأ انتفاخات دماغي. أشعل الضرب بسلك النحاس النار في عظامي. غبت في الألم..

كم مرة جلدوني؟ كم مرة قهقهت النساء اللاتي يرتدين البذل المبرقعة وهن يتفرجن على عورتي المكشوفة؟ كم صبيا رأيته يُجلد عاريا بأسلاك النحاس ثم يهوي هامدا بلا حراك؟ لا أدري.!

غبت في الزمن المر والانتظار الشرس!
شهور طويلة ثقيلة مرت!

في اليوم الذي تقرر فيه خروجنا من السجن جاء العسس يمشي وراءهم صاحب اللثام. في واقع الأمر لم أصدق أني سأنجو من هذا المصير المشؤوم. لم أصدق أني سأنجو من الموت ألما، أو من الموت بطلقة رصاص. سرت في ممرات كثيرة، وسار الجنود أمامنا ووراءنا بأحذيتهم الثقيلة، ومشى معهم السجان الملثم أيضا. رأيته على نحو أكثر وضوحا في الردهات المضيئة. لم يكن بالهيئة التي رسمتها له في خيالي. كنت أظنه أضخم وأشد جسدا. ظللت أسترق النظر إليه. يمشي بظهر مقوس بائس من ذلك النوع الذي يظهر نتوء الكتفين عن بقية الجسم. ويدين جامدتين يتحركان في آلية. المشهد بدأ ينكش في ذاكرتي باحثا عن شيء بعيد محفوظ في سراديبها. بدأ عقلي يجاهد لاكتشاف ذلك الشيء الذي بدأ يتحرك في ظلمة رأسي العميقة.

قرب الباب الرئيسي للمبني تدفق بعض فيض أشعة المصابيح الكاشفة القوية إلى الداخل، وكانت هناك شاحنة متوقفة تطل من قضبان نوافذ صندوقها وجوه كئيبة مكسوة بجلد يابس. مشى وراءنا العسس ببنادقهم. فاجئني منظر النهار المحتضر. لم تغرب الشمس تماما، قرصها مازال مرتفعا قليلا في السماء. كانت هناك سحب تتزاحم فوق هالة الشمس فتنتشر من خلال تراكيب الغمام القادم من ناحية البحر عروق حمراء كتلك التي تُرى في العيون المريضة. رأيت الجلاد الملثم يرفع يده ويفك طيات اللثام ويعيد إحكام القماش حول رأسه. ظهر جزء كبير من وجهه. رأيت عينيه. ورأيت جزءا من فمه وشاربه. همست في ارتياع لصاحبي الصياد الطيب:

ـ إنه هو!

نظرت إليه مرة أخرى. شلني الرعب. خلت أنني أضحيت أخطئ معرفة الوجوه كما أخطئ تقدير المسافات والأشياء والألوان نتيجة لما تعرضت له من تنكيل. أغمضت عيني. فتحتهما جيدا. رآني أنظر إليه. نظر ناحيتي وابتسم في جفاء وجنون. قبل أن يحكم اللثام وتنزل يداه جوار جسمه انفرج فمه الأشيب عن ابتسامة مخيفة خاوية. كان هو الصياد نفسه صاحب الكرسي ذي المفاصل.  

كاتب من ليبيا