يكتب الكاتب الكويتي في هذه القصة سوناتا حقيقية للصباح تحل فيها الحركة والحدث التلقائي مكان الموسيقى، ويسعى شعر الفعل العفوي إلى بلورة تلك اللحظات المسروقة والمقتطعة من الزمن والتي تجعل الزمن جديرا بالحياة في آن.

سوناتا للصباح

محمد الشارخ

ليس من عادتي الصحو مبكراً. صفاء تأخرت البارحة وغادرت في العاشرة ونصف ولم تعطني الفرصة لأوصلها لسيارتها. سحبت البالطو والإيشارب وحملت شنطة يدها وأشارت لي بيدها وأنا أعود من الحمام "مع السلامة.. لقد تأخرت!!". نمت نوماً مريحاً. كنت مليئاً منتشياً هانئاً. فتحت عيني مبكراً وعلى الوسادة والسقف وفي هواء الغرفة وستارة الشباك صوت صفاء "مع السلامة" وغمزة العين الساحرة وعبقها. بعد غد ظهراً سنتغدى في مطعم بخارى برباني مع كاري لحم وبامية ثم نصعد الجبل. نستنشق الهواء. نتمعن الأشجار ونتسابق في معرفة أنواعها وتسرح عيوننا في الوديان أو تمتد نحو الأفق. أفقنا نحن الاثنين. نستنشق بين الجبال ومعاً نفكر بالأمر. الساعة تقترب من السابعة صباحاً وعملي يبدأ الثامنة والنصف. والشمس حين رفعت الستارة مشرقة. دافئة. والسماء صافية والبحر أزرق والموج الأبيض يترادف موجة تلو أخرى. صباح جميل. أخذت حماماً دافئاً وغمرتُ شعري بالشامبو وجسدي بالصابون. أخذت حماماً على راحتي. حلقت ذقني دون استعجال ونظرت لوجهي. ممتلئ بالحيوية والرضا والعافية. ركزت عيني على عيني بالمرآة. ما السعادة "يا ولد" إن لم تكن مثل هذا الصباح. الحليب يغلي. ملعقة نسكافيه وهبطت الدرج من الطابق الثالث حتى الأرضي وفيها ما يكفي من الوقت لارتداء البلوفر. عند الباب أخذتني لجة الشمس ودفؤها. وقفت دقيقة أستنشق الهواء البارد وأزرر البلوفر. مازال الوقت مبكراً. أسير نحو سيارتي الواقفة على الرصيف الآخر المحاذي للشاطئ. ميني كوبيه من صنع هوندا. كحلية لشخصين. لا داعي للاستعجال. أمشي. أتطلع لسيارتي. بعد غد صفاء بجانبي معاً نبحث الأمر دون استعجال. أنظر للشاطئ. للموج الأبيض المتتالي. موجة تحف بأخرى. زبد أبيض يرتفع متراً ثم ينسحب متراخياً يجرجر آهاته فوق حبات الرمال. وضعت المفتاح بالسيارة وأنا أتطلع. أتطلع للسماء دون استعجال، أتطلع للسماء والغيوم. تحوم عيناي في البلكونات والعمارات والشبابيك. هناك فوق. ولا عصفور. عصتني يدي. لم يدخل المفتاح بباب السيارة. ركزت نظري بالمفتاح وأعدت وضعه بشكل صحيح وأنا أنظر لفوق نحو تلك البلكونة. أمام سيارتي تماماً. لعلها مثلي قامت مبكراً لعملها. نظرت لها ويدي على مفتاح السيارة. رأيتها، لم تخطئني عيناي، في روب أزرق شتائي به دوائر بيضاء. رأيتها تبتسم. والشمس تلمع في صدرها. حين عرفت أنني أنظر لها وضعت ساقها على سور البلكون. والشمس فرحت وتسللت بين الروب الأزرق والأفخاذ والتمعت بما فوق الساق. كنت أبتسم وهي تبتسم. أسندت ظهري على باب السيارة ورحت أفك أزرار البلوفر وأستنشق الهواء. وهي أرخت حزام الروب. ولم يكن هناك شيء سوى الشمس والهواء وفخذيها المشعين. فوق في البلكون ووجهها الباسم. أمعنت النظر ويدي توقفت عن الحركة. سحبت المفتاح. أمعنت النظر. كلانا يبتسم. أشرت لها بشفتي فرأيت أسنانها البيضاء في ابتسامة عريضة. رأيت شعرها الأصفر يتماوج. والصدر بدون ستار في عين الشمس. ابتسمت ثانية وأنا أشير لها بشفتي مرة أخرى. وهي أشارت بيدها "تعال". أشرت بيدي "فوق!". هزت رأسها "نعم". أشرت بأصبعي على صدري ثم نحوها "أنا أطلع فوق!". هزت رأسها استجابة. حسبت الطوابق.. وأشرت بأصابع اليدين "سبعة" هزت رأسها "نعم". انفرجت عضلات صدري. أقفلت باب السيارة وتوكلت. مازال الوقت مبكراً لبدء العمل. أمشي. لا أحد في الشارع غير كشك السندوتش الخشبي المصبوغ أزرق بلون البحر. أنظر لها بطرف عيني. قبل أن أصعد اتجهت نحو بائع السندوتش. أنظر لها وهي تضحك. أشرت نحو بطني. ضحكت. وقفت عند بائع السندوتش طلبت سندوتش جبن وطماطم وخضار. نظرت لها. تنظر لي وتضحك. أشرت لها بأصابعي "اثنان؟" هزت رأسها موافقة ضاحكة. أخذت السندوتشين. وقفت لحظة عند باب العمارة أنظر للشارع. الشمس ولا أحد. دفعت باب العمارة. انفتح الباب. لا أعرف رقم الشقة. أنظر لصناديق بريد السكان ولا أعرف الاسم. خرجت للشارع ثانية. اتجهت نحو الرصيف الآخر ونظرت لها وهي تبتسم لي وتشير "اطلع". لا أعرف كيف أسأل عن رقم الشقة. وهي أدركت حيرتي. اختفت وبعد ثوان عادت للبلكون وبيدها كلب صغير. أبيض ذو شعر كثيف. تضمه على صدرها. تلامسه. تحنو على رأسه ثم تركته على الأرض. يسير في البلكونة وبين أرجلها. أدركت مقصدها. عدت لباب العمارة. خمس درجات عريضة من الرخام الرمادي النظيف واتجهت نحو المصعد. في الطابق السابع عند باب المصعد الكلب ينتظر. يسير أمامي. يتشمم قدمي. يضع قدميه على ساقي ويحكّ رأسه. أبيض صغير مددت يدي نحوه ألامس نعومة شعره. عيناه واسعتان كبيرتان. يسير أمامي. يعدو ويعود يتشممني.

دخل الكلب وأنا وراءه. مدت وجهها نحوي فقبلتها على الوجنتين. أخذت السندوتش من يدي وهي تقول "سأضعه بالسخان.. أحب السندوتش ساخناً" واستدارت باتجاه المطبخ. لاحظت وهي تأخذ السندوتش مني أنها تلبس جوارب شفافة عالية بلون بشرتها. أما الصدر، وقد لوحته شمس وهز نهديها نسيم فازدادا احمراراً وتكوراً، فكان عارياً. أبيض على احمرار. قبل توجهها للمطبخ منحتني ابتسامة أليفة أشعرتني أنني في بيتي. مددت يدي وأغلقت باب الشقة. مازلت واقفاً مبهوراً ومستعذباً طريقتها في السير نحو المطبخ وهي ترتدي الروب الأزرق ذا الدوائر البيضاء. تسير لا صنمية ولا متخشبة كعارضات الأزياء، بل بتلك التدويرة والهزة الخلفية والتماوج الذي أمطرتنا به مارلين مونرو في أفلامها من زمان. واقف وأزرار البلوفر مفتوحة وهي مدت رأسها من المطبخ "استرح.. اخلع البلوفر.. لا يوجد أحد غيرنا..". أتطلع في الشقة. القاعة صغيرة غنية وأنيقة والكلب جلس على مقعد ووضع يديه تحت صدره وعيناه الواسعتان تحدقان بي. وعلى الحوائط المدهونة بالفستقي تخطيطات ولوحات.. شباب على نمط ديفيد الذي رأيت له تمثالاً في فلورنسا قبل عامين. نفس قصة الشعر والتسريحة. نفس عضلات الصدر والساعدين. محاربون ورياضيون وفرسان إغريق أو رومان. بوسترات عديدة بإطارات متنوعة لوجوه سيدات، رقابهن، السيقان الطويلة، الأحذية العالية وتصاميمها وألوانها وانحناءاتها المغناجة وصدور عارية أو نصف عارية. بوستر متوسط الحجم لحذاء أُنثوي بلون دم الغزال كعبه عالٍ وانخراطه نحو مقدمته كانخراط خصرٍ والمقدمة ملمومة كفم سمكة تُشتهى. وفوق شاشة التلفزيون العريضة الملصوقة بالحائط صورة نصفية لديفيد. وجهه ونصف صدره. سألتني وهي تتقدم نحوي تشاهدني وأنا أنظر للرسوم على الجدران.. "هل تحب الرومان؟.. كانوا متقدمين عنا.. ما كانوا اكتشفوا الخطيئة.. لم يعرفوها" كنت أنظر لها وأنظر أين أجلس. أشارت بيدها "عَّلق البلوفر هناك واجلس هنا". جلست حيث أشارت. مقعد طويل عريض يمكن أن أنام عليه وطاولة من أربعة أجزاء تضم إلى بعضها أو تفصل على انفراد وفي كل جزء منها زخرفة فارسية أو تركية. أخذت طبق الساندويتش منها وأشارت "اسحب طاولة قربك" وضعت الساندويتش على الطاولة. هي عادت للمطبخ بنفس الخفة والزهو ولم أدر هل عطرها يسبقها أم هي العطر. عطر أنثوي نفَّاح "لا يكفي السندوتش.. سآتي ببيض" عادت بصينية أخرى بها بيضتان مسلوقتان كل بيضة في ماعون زجاجي أو كريستالي مضلع. جلست بجانبي. بدأت بتقشير بيضة. أناملها طويلتان ناعمتان والمانيكير وردي خفيف ودون أصباغ في الوجه. وقلبي يتأرجح وكأنما احمر وجهي وربما جفت شفتاي أو عرقت جبهتي. تدق قشرة البيضة بأظافرها. ينتشر البياض. وأمد يدي لأقشر البيضة الثانية وتهز رأسها "لأ لأ.. أنا سأقشرها لك". تقترب مني حتى صار رأسانا ونحن ننظر للبيض متلامسين. للبيض أنظر وللصدر والرقبة والحلمتين. والأذنين بلا أقراط. "أتريد فلفلاً أسود أم ملحاً مع البيض؟" قلت "كما تشائين" ضحكت وهي تقول "وأخيراً نطقت!". ضحكت ومددت يدي على ركبتها قلت وأنا أنظر للبيضة "ماذا أقول ؟" قالت مبتسمة "هل تريد فلفلاً أسود مع البيض.. وملحاً؟" قلت وركبتي تلامس ركبتها "هل تسمحين أن آتيك بالفلفل من المطبخ؟" قالت "لن تعرف" وأردفت وهي تقوم "قَشّر البيض". أتلفت يمنة ويسرة. أفتح عيني أكثر. الكلب عيناه واسعتان ينظر مبتهجاً. كل شيء مصفوف بعناية. مجلات نسائية على الأرض وعلى الأرفف وأسطوانات وجهاز ستريو من النوع الثمين B&O. أقبلت يتفوح العطر منها وغصنها يتماوج والكلب أدار نحوها عينيه. وقبل أن تجلس بجانبي فتحت حزام الروب ودسّت يدها في شعري. أصابعها الدقيقة تتغلغل في الشعر ويمسك بأطراف منه تهزها بلطف واشتهاء. أحنيت رأسي قليلاً ويدها اليسرى تمتد نحو رقبتي وأنا شاهدت الساقين المصقولتين والجوارب الشفافة تحت السرة مباشرة. وضعت ساقاً فوق ساق وأدنت رأسها جنب رأسي "كُلْ البيض أولاً قبل أن يبرد الساندويتش". فتحت أولى البيضتين والتقطت الصفار في طبق كأطباق القهوة عليه قليل من الفلفل والملح. التقطت بأناملها الصفار ودحرجته في طبق الملح والفلفل. وضعت نصفه في فمي وأخذت نصفه لها. أخذت تمضغ قليلاً وعينانا التقتا. التقتا فأحطتها بذراعي والتحمت شفاهنا. دفأت رقبتها بقبلاتي ومددت يدي تحت الروب وضممتها لصدري وهي تفتح أزرار قميصي. وقفت أساعدها ونزعت القميص وهي وقفت ولفتني بالروب وأنا أحطتها بساعدي ورأسها في صدري أداعب شعرها وأرفع وجهها نحوي أقبلها. مددت يدي وهي مدت يدها. وأنفاسها ألهبت أنفاسي والكلب على الأريكة ينظر بعينين صافيتين يزمزم بشفتيه. سحبتنا أنفاسنا لغرفة النوم. سرير عريض وعلى الحائط المحاذي للسرير نصف صورة للجيكوندا. عينيها وابتسامتها. أرحتها على السرير وأنا أنزع جواربها الطويلة والعطر يملأ المكان. عطرها هي. نزعت البنطلون. وهي مدت جذعها وفتحت جزءاً من الستارة فتسللت أشعة شمس. قالت "أحب النور". الصدر بالصدر. ساعداي يحتويانها وتحتويني. أناملها تمسح ظهري. أقبل شعرها وأنظر لعينيها الغائمتين. ولا أرى حين أرى سوى خط أبيض بين الأهداب والعسل الأبيض في المبسم والشفتين. سحبتني وسحبتها واللحاف الأبيض يتموج كبساط الريح. ساقاً بساق نتمايل يميناً ويساراً على الطرف الأيمن للسرير وعلى الطرف الأيسر والمخدات الناعمة تحت رأسها أو فوق ظهري والأرض غائبة والسقف يتلاطم مبهوراً ويحدّق وصراخ النوارس وأزيز السرير أخشى أن يسمعه الجيران وقعقعة أسنان والزفير والشهيق ونطير في السماء والأنفاس هدارة، هدارة، هدارة، والبراكين تثور باللظى والنور الذي يخطف الأبصار والنار واختفاء العالم وضجيجه. فجأة تخبو الأنفاس. وتنقى الروح. فحيح. تخبو الأنفاس، وتخبو، تخبو كموجات بحر تنسل الواحدة بعد الأخرى لتستريح، تُرخي السدول، وتسترخي على اشتياق الرمال وخدودها.

هي أخذت حماماً سريعاً. وأنا لبست ملابسي ولمحت الجيوكاندا في نفس الموقع على الحائط وكأنما تتبعني بعينيها حيث أسير وتلحفني بابتسامتها المبهمة. وضعت يدي على رأس الكلب الذي كان يدور عند باب غرفتها يتشمم الأرض. وهي قالت ضاحكة "لم نأكل.. لقد تأخرت. عملي يبدأ في التاسعة". تسرع ترتدي ملابسها. تحمل شنطتها "لقد تأخرت". أخذت الكلب معها. سألتها "هل أوصلك" قالت "سيارتي هناك". وأنا أزرر البلوفر متجهاً نحو بائع السندوتش.