يعرض الكاتب الليبي هنا علاقته بالوراق والكتبي الشهير الحاج محمد مدبولي الذي توفي مؤخرا في القاهرة، بعدما لعب كبائع للكتب، ثم كناشر لها دورا ملموسا في الحياة الثقافية لا في مصر وحدها بل وخارجها كذلك كما يكشف لنا هذا الكاتب الليبي.

في رثاء الورّاق الشهير مدبولي

سالم الهنداوي

عرفنا مدبولي مبكراً، ففي نهاية الستينيات من القرن الماضي ارتبط اسمه في بنغازي بروايات مصر القديمة التي كان يفترشها الباعة تحت أقواس "الفندق البلدي". تلك الأقواس التي كادت تتحوَّل إلى سوق للمعرفة مثل سوق "الأزبكية" في القاهرة، لو أمد الله بعمر ذلك المناخ الثقافي الذي كان مزدهراً في بنغازي، وأنتج في تلك الفترة الصحافة المقروءة والكتاب المقروء، والكاتب المقروء، مثلما أنتج القارئ الحقيقي المانع المنيع، والمثقف النبراس المضئ في ضمير الأمة والانتماء لجلال الوطن. لقد كان الفن والأدب في ذلك الوقت يعيشان بيننا وفينا وأينما حللنا في مشاويرنا اليومية، فبين جرائد الصباح اليومية، كانت مسارح الليل وسينما الليل ومقاهي الليل، وكانت الصالونات الأدبية والأغاني القديمة والأفلام القديمة. وأذكر أن الحاج مدبولي كان من بين أهم الأسماء المصرية التي حضرت في ذاكرتنا الثقافية التي كان الكتاب عنوانها الأبرز، وهو الكتاب الذي ترجم للسينما أهم روائع نجيب محفوظ.

كنا في طفولتنا الثقافية عندما نستعير الكتب من "المركز الثقافي المصري" بشارع الاستقلال، ونقرأ "اللص والكلاب" مثلاً لنجيب محفوظ، سرعان ما نذهب إليه لنراه في السينما قصة ماثلة تسحرنا بتفاصيلها وبرائحتها التي تشبه رائحة الكتاب في طبعته القديمة. إنها إحدى الحكايات الرمادية التي شكلت صورة مصر في مخيلتنا آنذاك. فمن خلال المشهد البسيط الذي كان يأخذنا لشوارع القاهرة الخالية من الزحام، ولمعان ذلك المشهد (الأبيض والأسود) في الأفلام، كان مدبولي في ميدان "سليمان باشا" ينشر تاريخ مصر القديمة بالعناوين التي برزت في مرحلة التنوير وتشكلت مع الثقافة والسياسة وحقوق المجتمع المدني. وهي المرحلة التي أنتجت تيار الوعي القومي في عهد عبدالناصر.

ولم يكن مدبولي مكرَّساً لنشر تلك الثقافة القومية في أوج ظهورها، بل كان في جوهر مسألة الحوار النقدي معها، فكان ينشر للفكر السائد ومعارفه، فنشر لثقافة الاختلاف التي قادها ماركسيون ووجوديون وإخوان وعلمانيون. فكان هذا التعدُّد المعرفي من اهتمامات الناشر الذي سوَّق المعرفة في الصحافة اليومية، بأطيافها المختلفة، وصار لا يمكنه، حين أصبح "ناشراً" بوعيه الجماهيري سوى أن يكون منحازاً لاهتمامات القارئ الذي كان يلتقيه على الناصية ويبيعه الخبر بفلس على الناصية الأخرى. وهذا الانتماء للشارع العربي كان من أهم ميزات الحاج "محمد مدبولي" وانحيازه للثقافة الجماهيرية التي كانت تنهل من وعي المثقفين وانشغالهم بالقضايا الفكرية وأزماتها. فكان قدره أن يكون في فرن الصحافة وعمره 6 سنوات، يبيع أخبارها الطازجة في منطقة "الدقي" و "داير الناحية" غرب القاهرة، ومن ثم تصدَّر أهم الميادين وأغناها بالسابلة والسائلة وبالمثقفين.

لم يكن انتقاله إلى ميدان "طلعت حرب" في قلب القاهرة إلاَّ رغبة في المزيد من الاحتكاك بالناس وهمومهم، يبيعهم الخبر كما يبيعهم الخبز، طازجاً في المدينة، وعلى مسمع من المثقفين ذوات الناس وهمومهم، الذين كانوا يعبرون "طلعت حرب" كل مساء باتجاه مقهى "ريش" و "البستان" يتسامرون عند نبض قلب المحروسة وينسجون الأفكار في محراب ضمير الأمة، فعقد مدبولي على هذا الهامش الضروري صداقاته العميقة مع معظم كتاب وأدباء مصر ومن على ناصية طلعت حرب تحديداً، فكانت الثقافة هي هاجس الناشر الصغير الذي ورث عن أبيه تسويق المعرفة وهو في سن السادسة، وبنى مجده الكبير بالتنوع في نشر ثقافة الاختلاف عبر كل تلك المرحل الفكرية من حياة مصر العروبة، وكان شاهدها بامتياز.

لقد كبر حنيني مع الزمن في أن التقي "مدبولي" وأرى الرجل الذي بنى ما تعجز عنه مؤسسات الدول العربية قاطبة، وكان إن جمعني به في نهاية الثمانينيات صديقي الروائي "يوسف القعيد" فصار منذ ذلك الحين وجه مصر الذي لابد أن أراه وأطمئن عليه واستمتع بحكاياته عن المحروسة وعمرها المديد رغم الشدائد والحرائق والعواصف التي عبرت نوافذ القصرين خلال مختلف العهود والمتناقضات، منذ عهد الملك فاروق، مروراً بعهد عبدالناصر وأنور السادات.

واللافت في مظاهرات واعتصامات المثقفين المصريين من الأحداث والقضايا المحلية والعربية إنها كانت إما تنطلق من أمام مكتبة مدبولي أو تنتهي إليها، حتى أن ناصية المكتبة صارت منصّة للاحتجاج الثقافي، فتارة تكون لأحمد فؤاد نجم يلقي منها بيانات أشعاره، وتارة تكون لفناني مصر يلقون منها بياناتهم من حادثة تدنيس الأقصى ومن غزو العراق. وهي ذاتها المنصّة التاريخية التي هتف منها قديماً الشاعر "نجيب سرور" ضد الجوع، وكانت في وجع أمل دنقل وفي رؤى عفيفي مطر من بعده. وكأن مكتبة مدبولي في حاضرة الزمن وتناقضاته قد أرادت أن تستنطق محتواها الفكري من معارف وكنوز طال صمتها في ذلك الميدان.

كانت تستوقفني هذه المعاني والتباساتها التاريخية في حياة الحاج محمد مدبولي، فكان يغريني بمعرفة المزيد عن روُّاده من المثقفين والسياسيين العرب والأجانب الذين التقوا به باعتباره قيمة ثقافية تاريخية مصرية حقيقية عاصرت أربعة عهود سياسية، من فاروق إلى عبدالناصر إلى السادات إلى حسني مبارك. ولعله يحضرني هنا مدى تأثير مدبولي في ضمير المثقف العربي وقدرته على صُنع الأحداث الثقافية، خاصة في حياة أدباء كبار مثل الشاعر نزار قباني الذي منع الرئيس عبدالناصر كتبه من دخول مصر عام 1967 بسبب قصيدة "هوامش في دفتر النكسة"، ولا يعرف مدبولي حينها أن عبدالناصر سيعيش إلى الأبد ولا نزار قباني سيعيش إلى الأبد، لكن الشعر بينهما وقوة الثقافة وقدرتها على التأثير في الناس كانا سيبقيان في التاريخ ما بقيت النكسة وما بقيت القصيدة. فجاءت مبادرة مدبولي في أن بعث برسالة إلى نزار قباني قال فيها‏:‏ لا تترك أحد يحرق الجسور بينك وبين جمال عبدالناصر. أكتب إليه شارحاً دوافعك النبيلة في كتابة القصيدة‏، فعبد الناصر زعيم قوي‏، لا يرتعش من قصيدة‏، ولا يخاف من غضب الشعراء‏.

وبالفعل أرسل نزار قباني رسالته الشهيرة إلى جمال عبدالناصر‏،‏ والتي قال فيها‏:‏ وإذا كانت صرختي حادة وجارحة‏،‏ فلأن الصرخة تكون بحجم الطعنة، والنزيف يكون بمساحة الجرح‏. لم يكن بإمكاني وبلادي تحترق، الوقوف على الحياد، فحياد الأدب موت له‏،‏ فالذي يحب أمته يا سيادة الرئيس يطهِّر جرحها بالكحول ويكوي، إذا لزم الأمر، المناطق المُصابة، بالنار‏.‏ ولم يطل صمت عبد الناصر‏، فسمح لمدبولي بتوزيع أشعار قباني وتداولها، وبذا انفتحت أبواب مصر لشاعرها العربي. وتلك حادثة تاريخية تسجَّل للحاج مدبولي على قدر دعمه للثقافة العربية وحق القارئ في المعرفة مهما اختلفت الآراء وتباينت حول الفكر والسياسة والايدولوجيا، وهذا ما يجعله يبيح نشر كل الثقافات على اختلاف مستوياتها شرط ألاَّ تسئ للذات الإلهية، وهو بالضبط ما حدث مؤخراً مع الكاتبة "نوال السعداوي" عندما أعدم أحدث طبعتين من كتابيها "سقوط الإمام" ومسرحية "محاكمة الله أمام مؤتمر القمة" باعتبارهما يسيئان للذات الإلهية.

كنتُ كلما نزلت إلى القاهرة أمرُّ عليه فور وصولي، لأستلم منه بعض هدايا كتب الأصدقاء. ولأنني لا أمكث طويلاً في القاهرة، فقد كان مدبولي هو المؤتمن دائماً على رسائلي بين الأصدقاء، ومن موقعه في القلب ومن وسط البلد، كان خير وسيط بيننا وخير صديق وخير جليس. ولعل هذا الاعتياد كان أحد أهم أسباب ارتباطي بطبائع شيخ الناشرين العرب وبشخصه النبيل الذي جعلني أحافظ على تقاليد زيارتي له في كل مرَّة. أتناول معه الكوب الأول من "شاي الكشري" واستعيد معه الحكايات التي مضت بنا في الزمن. كان مدبولي مثل خزانة معرفة على زمن لم أعشه من قبل وإن قرأته في روايات مصر القديمة وشاهدته على شاشة السينما القديمة واستمعتُ إليه عبر إذاعة "صوت العرب" وفي أشعار صلاح جاهين وعبدالرحمن الأبنودي.

حكى لي ذات مرَّة عن حادثة "نجيب سرور" عندما هام يبيع ابنه في ميدان طلعت حرب وهو يصرخ في وجه الجوع. وحكى لي عن علاقته بأحمد فؤاد نجم والشيخ إمام وعن علاقاته بمثقفين كبار نشر لهم ثم رحلوا وتركوه وحيداً مع طلعت حرب لمنتصف الليل. لكنه وقد عاش مع الكِتاب أكثر من ستين سنة، كان حاضراً أيضاً مع أجيال تعاقبت من مثقفين عاصر محناتهم كما عاصر محنات أسلافهم، ومن قدره المحتوم أن يرى مصر في ضمير كل هؤلاء الذين رحلوا وكل الذين كانوا يمرُّون عليه حتى وفاته عن عُمر ناهز السبعين، وقد عاش حياة الناس ببساطة، يلامس أوجاعهم كما يلامس كل يوم ورق الجرائد والمجلات والكُتب.

منذ تعرَّفتُ إليه أول مرة في نهاية الثمانينيات، سألني عن روايتي "الطاحونة" التي كان قرأ عنها في مجلة "روز اليوسف" في حينها، وهو الاهتمام الذي حرص عليه منذ ذلك الزمن. فكان يسألني عنها مراراً دون بقية أعمالي اللاحقة التي كانت تصدر تباعاً في ليبيا وقبرص ولبنان، وهو الاهتمام اللافت الذي جعله بعد مرور كل تلك السنوات يفوز بتقديره الخاص لـ "الطاحونة" ويعيد نشرها بعد ربع قرن من طبعتها الأولى، فكانت العمل الأول الذي يصدر لي في القاهرة، وعن مكتبة مدبولي بالذات. وربما أيضاً كنتُ أول كاتب ليبي ينشر له مدبولي. فكان لهذا الاهتمام الكبير موضع تقدير خاص أكنه لمدبولي "الإنسان" الذي مثلما تعاقدتُ معه على نشر أعمالي في مصر، تعاقدتُ معه على الحُب والتقدير، والوفاء له حياً وميتاً.

مكتبة مدبولي لم تكن تضيق فقط بالكتب العامرة، وإنما كانت تضيق أيضاً بأفكار عقول تنهل من ذلك الميدان وتكبُّ جوالات أوجاعها في حضن مدبولي "الإنسان" الذي كان "أبو المصريين" الذي عاش معهم قدر العيش المُر. فهو ليس من سلالة صعيد سوهاج فقط، وإنما أيضاً من سلالة قُرى "الجيزة" التي كانت كلما التهمتها القاهرة الكبرى، صارت في قلبها وفي صميم أوجاعها.

ولم يكن مدبولي شاهداً فقط على المعارك الثقافية بين مختلف التيارات الفكرية التي عاشتها مصر في خلال الستة عقود الماضية، ولكنه كان شاهداً أيضاً على أزمات الماضي والحاضر معاً. فكان بذاته المصرية السمراء وجلابيته الصعيدية، وبذاكرته الشعبية الثقافية، ومن موقعه بميدان القاهرة الكبرى، أهم مثقف شفوي حفظ تاريخ مصر عن ظهر قلب. فكل المثقفين الذين عرفهم ونشر لهم أفكارهم في سلسلة منشوراته المتنوعة في الفكر والفلسفة والتاريخ والأدب والسياسة والاقتصاد، كانوا في ذاكرته علامات فارقة استوعبت تاريخها الكامل، ولعله كان يحفظ للكثيرين منهم ما لم تستطع أن تسطره أقلامهم على الورق.

كان عندما يحكي لي عن تلك الشخصيات التي عرفها عن قرب ونشر لها عن قرب، أراها أمامي عن قرب ماثلة تعبر الميدان في مشوارها اليومي إلى مقهى ريش أو مقهى البستان، رأيت أمل دنقل، ورأيت نجيب سرور وصلاح عبدالصبور، ورأيت العقاد والمازني وطه حسين، ورأيت محمود تيمور ويوسف إدريس ومحمد عبدالحليم عبدالله وإحسان عبد القدوس وثروت أباظة، وفي هؤلاء جميعهم رأيت في وجه مدبولي سعد زغلول ومصطفى النحاس، ورأيت أحمد شوقي ولطفي المنفلوطي ورأيت سيد درويش وأحمد رامي وأم كلثوم والكحلاوي وعبد المطلب.

رأيت نجيب الريحاني ويوسف وهبي وزينات صدقي وماري منيب وتحية كاريوكا. رأيت شكوكو وإسماعيل ياسين وعبد السلام النابلسي والشاويش عطية ومحمد رضا ومحمد عوض، ورأيت توفيق الدقن ومحمود المليجي وفريد شوقي وستيفان رستم ورشدي أباظة ويحيى شاهين وعماد حمدي وشكري سرحان وأحمد رمزي ويوسف فخر الدين وعبد المنعم إبراهيم وفاتن حمامة وسميرة أحمد وزهرة العُلا وماجدة ومريم فخر الدين ولبنى عبد العزيز. رأيت مصر القديمة التي كنت أشاهدها في السينما القديمة، سمعتُ فريد وعبدالوهاب وسيد مكاوي وليلى مراد وأسمهان وشادية وهدى سلطان، ورأيت شباب مصر في نادية لطفي وسعاد حسني وعبدالحليم ومحرم فؤاد ومحمد رشدي ومحمد قنديل. ورأيت الملك فاروق واحتلال الإنجليز واحتراق القاهرة، ورأيت ثورة 23 يوليو/ تموز والعدوان الثلاثي، ورأيت نكسة يونيو/ حزيران 67 وعبور أكتوبر/ تشرين الأول 73، ورأيت الانفتاح وكامب ديفيد ومصرع أنور السادات.. ورأيت طلعت حرب وحيداً يبكي مدبولي في شتاء ليلة السادس من شهر ديسمبر/ كانون الأول 2008.