يسعى الباحث المصري في قراءته المتفحصة لستة أعمال أدبية كبيرة تشمل الأقصوصة والرواية والمسرحية أن يكتشف البنية التحيتة للموهبة، والتي تتجلى على السطح تارة، وتختفي في طوايا الأعمال أخرى، ويتقصى قوانينها العابرة للأجناس الأدبية ويستقرئ شفراتها المختلفة ومنطقها الداخلي الذي يعتمد على التضافرها بين الموهبة والعمل والاحتراف.

موهبة الفنان واحترافه!

في ستة أعمال أدبية

حسين عيد

تقديــم:

أسئلة كثيرة قد تراود القارئ، حين يعجب بعمل فني: قصيدة، لوحة، قصة، رواية، مسرحية، تتعلق جميعا ببدايات رحلة الفنان المجهولة، والتي يكتنفها كثير من الغموض، وتدور غالبيتها حول موهبة الفنان واحترافه، مثل:

متى تبزغ الموهبة؟ أين؟ ولمن؟!

ما طبيعة المناخ الذي تبزغ فيه؟!

ما الشواهد التي تدعم بزوغ الموهبة؟!

كيف يكون اهتمام الموهوب بها، ومتى يحدث؟ وأين؟!

وهل هي مرحلة بسيطة أم مركبة؟!

ما مدى ارتباط الفنان بمجتمعه خلال ذلك؟!

ماذا يحفزه على استمرار الرحلة؟!

هل يتيح له ذلك الالتحاق بركب الفنانين العظام؟!

*     *     *

هذه محاولة لاختراق حجب هذه القضية، واستجلاء الحقائق الكامنة وراءها، وذلك بالرجوع إلى أعمال الفنانين أنفسهم التي جرى اختيارها بالاعتماد على أعمال فنية لهم: قصة، رواية، مسرحية، أودعوا فيها بعضا من أسرار تلك القضية، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر رمزي. وقد وتمّ تفضيل ما يكون منها مترجما إلى اللغة العربية؛ حتى تكون في متناول القارئ العربي، إذا ما أراد الرجوع إلى أيّ منها .

هذه الأعمال، هي:

ـ قصة «الشاعر»، للكاتب الألماني هرمان هيسه(1)

ـ قصة «أحلام الناي» للكاتب الألماني هرمان هيسه(2)

ـ قصة «الرجل الذي أراد الشفاء» للكاتب الإيطالي دينو بوتزاتي(3)

ـ رواية «النورس: جوناثان ليفنجستون» للكاتب الأمريكي ريتشارد باخ(4)

ـ رواية «الخيميائي: حجر الفلاسفة» للكاتب البرتغالي باولو كويلهو (5)

ـ مسرحية «العازف والبحر» للكاتب الإيطالي اليساندرو باريكو (6)

من أجل  تحقيق ذلك، جرى تقسيم هذا البحث إلى فصلين، هما: بزوغ الموهبة، واحتراف الفنان

الفصل الأول: بزوغ الموهبة

لكل فنان تكوين خاص، نتيجة عوامل بيولوجية معينة وارتباطه بمرحلة تاريخية محددة، عايش خلالها واقعا اجتماعيا، سياسيا معينا، ورث خلالها تراثا ثقافيا لبيئته ومجتمعه وأمته وعصره. كما اجتاز عديدا من التجارب، تأثر خلالها بما يحدث في الواقع الخارجى، واكتسب من جرائها كثيرا من الخبرات، على مدار سنوات حياته، تراكمت في ذاكرته، وتنامى بها وعيه وساعدته على أن يستوعب الواقع المحيط به، وأن يتفهم أبعاد حركته والتيارات الفاعلة فيه، حتى تبلورت لديه تدريجيا رؤية خاصة للحياة والكون من حوله. من هنا، يكون منطقيا أن تتفاوت بؤر اهتمامات الفنانين، وأن تختلف بالتالى أعمالهم الإبداعية من قصة، رواية، مسرحة، … إلخ، إذا ما شاءوا أن يسقطوا عليها بعضا من تجربة رحلاتهم الفنية!

يجتهد هذا المقال في أن يجيب على عدد من أسئلة تتعلق بالموهبة، هي: متى تبزغ الموهبة؟ أين؟ ولمن؟! ما طبيعة المناخ الذى تبزغ فيه؟! ما الشواهد التى تدعّم بزوغ الموهبة؟! كيف يكون اهتمام الموهوب بها؟! لذلك جرى الاعتماد ـ أساسا ـ على استقراء هذا التفاوت والاختلاف فى بعض نتاجات أدبية خاصة بهذا السياق لكتاب معروفين عالميا(7) تجلى تارة بشكل مباشر، وتارة أخرى بشكل غير مباشر؛ وصولاً إلى استنباط إطار عام للموهبة وبلورة مفهوم خاص بها.

*     *     *

(العازف والبحر) مسرحية بديعة للكاتب الإيطالي اليساندرو باريكو، صدرت فى إيطاليا عام 1998، ترجمتها عن الإيطالية أمانى فوزى حبشى، ونشرت فى مجلة (الفن المعاصر) فى خريف 2000. الكاتب من مواليد تورينو عام1958، ويعدّ واحدًا من أشهر الروائيين الإيطاليين. له روايات عديدة، منها "قلاع الغضب" (1991)، "المحيط" (1993)، و"الحرير" (1996)، التي صدرت ترجمة لها فى القاهرة عام 1998. كما أن له العديد من المؤلفات النقدية الموسيقية، مثل "العبقرية الهاربة"، و"حول المسرح الموسيقى لروسينى" (1988). وقد نال عن أعماله كثيرا من الجوائز. ويلاحظ أنّ المترجمة غيرت عنوان المسرحية الأصلى، الذى كان "نوفيتشينتو" ويعنى بالإيطالية رقم 900، وهو ما أصبح لقباً لبطل المسرحية؛ بسبب مولده عام 1901، أى فى مطلع القرن العشرين، واختارت بدلا منه عنوان (العازف والناى).

تجرى أحداث المسرحية وسط جو غرائبى، على سفينة الـ"فرجينيان"، وهى تمضى فى إحدى رحلاتها فى قلب المحيط بلا مطابخ، يقودها ربّان يخشى الأماكن المغلقة لذلك يعيش فى قارب نجاة، ويمسك دفتها رجل أعمى، ويعمل على اللاسلكى شاب دائم التلعثم، وهو ما يعنى أن أمرها ـ كما الحياة ـ موكول للقدر . أو هو الفن يحكم بقانونه الغرائبى. وتحمل السفينة على متنها ثلاث درجات مختلفة من المسافرين، كما توجد فرقة موسيقية للترفيه عن الركاب. تبدأ المسرحية حين يلتحق عازف ترومبيت بفرقتها فى يناير 1927، وقد بلغ السابعة والعشرين من عمره، وهو الذى يسرد لنا ما يحدث من وقائع خلال فترة عمله على السفينة، التى استمرت ست سنوات وانتهت فى أغسطس 1933 حين غادرها نهائيا، بعد أن ربطته علاقة حميمة ببطل المسرحية الفنان عازف البيانو، استمرت خلال سنوات ابتعاده عنه حتى قامت الحرب، بعد مضى اثنتى عشر عاما، وتقرّر الاستغناء عن السفينة نهائيا بتدميرها، فرجع اليها ليجد صديقه يجلس على الديناميت رافضاً أن يغادر ليكون لقاء وداع أخير!

هنا؛ على مدار المسرحية وحتى النهاية، نحن إزاء عالمين متقابلين: عالم السفينة وعالم الأرض. عالم السفينة عالم خاص حاضر، تجرى عليه أحداث المسرحية، عالم الأرض عالم عام غائب؛ قد يمثل حلماً مرتجى، محطة وصول . عالم السفينة رغم محدوديته يمثّل مهدا آمنا، حضنا، كما قد يرمز إلى رحم الأم حيث الطمأنينة . عالم الأرض يمثّل اتساعا لامحدودا، بكل ما يجيش به من ثروة، صحة، شهرة، ومغانم . ورغم عزلة السفينة خلال حركتها وسط البحار، إلاّ أنها تمثّل طوق نجاة وعبور بين قوى الطبيعة الغامضة، وصولاً إلى مأوى أرضي مستقر ثابت. جاء مولد الفنان على هذه السفينة، إيحاءً  بإمكانية أن يولد الفنان فى أى مكان، وليس حكراً على موقع بعينه، وذلك حين وجده بحّار عجوز يدعى «دانى بودمان» فى حجرة طعام الدرجة الأولى وسط علبة من الكرتون مطبوع عليها "ت. د. ليمون" وكان ذلك عام 1901، مجهول الأبوين، إيماءً إلى أن الموهبة ليست نتاج نسل معين، ولذلك أصبح يدُعى "دانى بودمان ت.د. ليمون نوفيتشينتو". وحين مات البحار الذى وجده وهو فى الثامنة، فكرّ القبطان بتسليمه إلى سلطات ميناء ساوث امتون، لكنهم لم يجدوا الطفل حين توقفت السفينة. وبعد أن تحركت السفينة عثروا عليه بعد مضى أثنين وعشرين يوما فى غرفة الآلات يعزف بيديه على مفاتيح البيانو، "والله وحده يعلم كيف"

حقق هذا الاستعداد الطبيعى الذى كان موجوداً لدى الطفل وجوده بمعجزيتن: الأولى من خلال انبثاقه المفاجئ، كما يتدفق نبع خير فجأة، دون أن يفهم البشر العاديين أسبابه أو مبررات نشأته، وإن انبهروا فى ذات الوقت بفيضه. أمّا المعجزة الثانية فإذا هى تأخذ بألبابهم. وأنظر إلى تأثير عزفه الذى انتزع سيدة أمريكية من سريرها، "كانت تقف هناك والدموع تتساقط فوق كريم المساء على وجهها، كانت تنظر وتبكى ولم تتوقف قط". وهو ما تكرّر لاحقا، حين كان الفتى يعزف على البيانو للمسافرين، فكان يبدع؛ لأنه "كان يعزف شيئا مختلفاً، شئ لم يكن له وجود قبل أن يعزفه هو، لم يكن له وجود فى أى مكان "‍هنا بزغت موهبة عزف مبكر على البيانو لغلام فى الثامنة من عمره، على سفينة وسط البحر. وهو ما يفتح المجال أمام إمكانية بزوغها فى أى مكان. كان نسل الغلام مجهولا، وهو ما يعنى بمفهوم المخالفة، أنها ليست حكرًا على نسل بعينه. وقد بزغت الموهبة حين وجدوه مختبئا فى إحدى حجرات السفينة، محاصرا وسط الآلات، جالسا الى بيانو موجود هناك، يعزف بيديه على مفاتيحه نوعا من موسيقا "صغيرة .. وجميلة". لقد وجد أخيرا ملاذه مع البيانو، حيث تجلّت موهبته قوية مؤثرة، ممّا أجبر الجميع على الإنصات إليه!

*     *     *

بدأ بزوغ الموهبة، أيضا، فى قصتين للكاتب الألمانى هرمان هسة (1877-1962)، الذى حصل على جائزة نوبل فى الآداب عام 1946، وهما: «الشاعر» و«أحلام الناى» من مجموعة قصص «أحلام الناى»، التى ترجمها فؤاد كامل. يعتبر هرمان هسة من أكثر الكتاب إعتمادًا على تجربة حياته المعاشة، التى شكلت نبعا خصبا لإبداعه، وهو يعالج فى هاتين القصتين بعضا من ملامح رحلته الفنية!  بطل القصتين فنان فى مطلع الشباب، وإن جنحت قصة "الشاعر" إلى التحديد اكثر، فهو صينى يدعى "هان فوك"، فى العشرين من عمره، وسيم، متواضع، مهذب فى سلوكه، أخذ بحظ من العلوم، ولم يكن غنيا بالمعنى الدقيق، إلاّ أنه كان يتوقع أن تكفل له موارده حياة مريحة، وذلك مع الدوطة التى ستقدمها عروسه، بينما جاء بطل قصة "أحلام الناى" غير معرّف، حتى يصير رمزًا للفنان فى أى زمان ومكان! يمتلك كلا الشابين (موهبة) فنية، بزغت (مبكراً) وفاح عبيرها. الفتى الأول شاعر، فعلى "الرغم من صغر سنه كان معروفاً فى الأوساط الأدبية فى الحى الذى يسكنه بفضل عدد من القصائد الجيدة"، وكان الثانى عازف ناى، مغرم بالعزف عليه والغناء مع ألحانه!

يلعب الأب فى كلتا القصتين دوراً متفهماً معاوناً، بدا ذلك حين تفهّم الأب رغبة ابنه فى تأجيل زواجه لمدة سنتين حتى يفرغ للشعر (قصة "الشاعر")، بينما أمر الأب الثانى بصنع ناى لابنه؛ لأنه لا يحب عملا سواه ولا يطيب له إلاّ أن يغنى دائما، فأطلق يده ليتفرغ أيضا لعالم الناى والشعر (قصة "أحلام الناى"). لكن قصة "الشاعر" أضاءت جانبين آخرين بعد بزوغ موهبة الفتى مبكرا فى حياته؛ الجانب الأول هو (الطموح) إلى الكمال؛ حين "كان منذ صباه الباكر مولعاً ولعاً شديداً بمعرفة كل ما يتعلق بفن الشعر، وأن يصل بنفسه إلى الكمال فى كل ما يتصل به"؛ وذلك لأن "قلبه كان عامرًا بالطموح إلى أن يصبح شاعرا كاملاً". أما الجانب الثانى، فقد ظهر فى بناء قصة "الشاعر"، الذى اعتمد على موقف كاشف، وذلك عندما راقب الفتى مهرجان المصابيح الذى تقيمه بلدته سنويا، من الضفّة الثانية للنهر، حيث بدا توزّعه واضحاً بين أن يعيش حياة عادية حين "كان يشتاق إلى عبور النهر والمشاركة فى الاحتفال والتمتع بصحبة عروسه المقبلة وأصدقائه"، وبين أن يخلص للشعر، "كان يدرك أنه مراقب وحيد يسعى إلى تحقيق أمنية . كان شوقه إلى أن يستوعب هذا كله بوصفه مشاهدًا نافذ البصيرة ونظمه فى قصيدة واحدة، كان هذا الشوق أعمق كثيرا. كان يريد أن يتحدث فى قصيدته عن زرقة الليل، تلاعب الضياء على صفحة الماء، عن ابتهاج المحتفلين، وحنين المشاهد الصامت الذى يستند إلى جذع الشجرة على شاطئ النهر".

عندئذ تجلّى (إدراك) الفتى أن (الشعر) هو اختيار حياته الوحيد؛ لذلك" لن يشعر أبداً بالراحة التامة أو الطمأنينة الكاملة فى قلبه، حتى فى وسط الأجواء التى تموج بالحياة، سيبقى وحيداً دائما وسيظل إلى حدّ ما مراقبا أجنبيا"، ولذلك أيضا "أحسّ أن روحه التى لا تشبه أرواح الآخرين صيغت بحيث ينبغى أن يكون وحيداً، لكى يجمع فى تجربته بين الأشواق الخفيّة التى يعتلج بها فؤاده الغريب وبين جمال هذه الدنيا". كما أيقن أن " السعادة الحقة والرضا العميق لا يمكن أن يظفر بهما إلاّ إذا نجح مصادفة فى أن يعكس هذا العالم انعكاسأ كاملا فى قصائده بحيث يستطيع أن يمتلك فى هذه الصورة المنعكسة ماهية العالم، نقيّة أبدية". هنا، أيضا، بزغت موهبتان هما نظم الشعر، والعزف والغناء على الناى لشابين، فى إحدى القرى، منذ سن مبكر، ونالا إعترافا مبكرا بموهبتهما، فصار الشاعر معروفا فى أوساط حيّه الذى يسكنه، واشتهر الآخر بالعزف والغناء على الناى . كما كان المناخ المحيط ببزوغ الموهبة مواتيا، مشجعا منذ البداية، انعكس فى احتضان الأب لتلك الموهبة، وتقديم الدعم لها، تارة حين أمر الأب بصنع ناى لابنه، وتارة أخرى حين تفهما رغبة ولديهما فى التفرّغ لفنهما! ولكن تنفرد قصة «الشاعر» ببيان كيفية اهتمام الموهوب بموهبته، حين أدرك أن اختيار عالم الشعر هو اختيار حياته الوحيد، وأن عليه أن يخلص له، وأن يضحّى فى سبيله بمباهج الحياة اليومية، حتى يحقق طموحه القوى، الذى يحفزه باستمرار إلى أن يبلغ بشعره أسمى آيات الجمال، حتى يصبح شاعراً كاملا، ليشعر بالراحة، وتحلّ الطمأنينة فى قلبه!

*     *     *

تعتبر رواية (النورس: جوناثان ليفنكستون) للأمريكي ريتشارد باخ، التى ترجمتها عزه كبه وراجعتها شفيعه الداغستانى، واحدة من روائع الأدب العالمى، فهى رواية بديعة، رغم صغر حجمها؛ لما اجتمع لها من بساطة فى التناول وتدفق فى الخيال، وذلك حين جاس ريتشارد باخ بعذوبة ورقة فى حياة طير النورس، ثم نقلنا عبر ثلاثة فصول مراحل إلى عالم الفن، داعياً إيانا بصدق إلى التحليق دائما إلى ذرًا جديدة؛ لاستكناه حقيقة نفوسنا‍‍! تُفتتح رواية (النورس: جوناثان ليفنكستون) على مجتمع النوارس فى لحظة فعل كاشف لطبيعة النورس "جوناثان" كفرد شارد إزاء بقية قومه؛ وذلك حين شاع خبر أن هناك زورق صيد يلقى الطعم فى الماء، فتجمعت النوارس بسرعة البرق "مئات النوارس تراوغ وتقاتل من أجل قليل من الطعام"، و"هنالك، بعيدا ووحيدا، منفردا بنفسه، فيما وراء الزورق والشاطئ، كان النورس "جوناثان ليفنكستون" يواصل تدريباته على ارتفاع مائة قدم فى السماء". يتجلى فى هذا المفتتح مجتمع النوارس، الذى يتكون من مئات النوارس التى تعيش معاً، فى مكان غير بعيد عن الماء، حيث يتوفر طعامها، حتى إذا ما شاع خبر وجود زورق صيد يلقى الطعم، لبت مئات النوارس نداء العمل، وتدافعت تراوغ وتقاتل من أجل الحصول على السمك وبقايا الأطعمة التى تلقى فى الماء.

هنا، منذ البداية، كشف لموتكز الرواية ومحور حركتها: مجتمع نوارس وفرد شارد . عالمان متقابلان. مجتمع يجتهد ويعمل لتوفير طعامه، وفرد ينخلع منه عاكفاً على الطيران. مجتمع لا يكلف أفراده أنفسهم مشقة تعلم أكثر من مبادئ الطيران الأولية، التى تكفل له الانتقال من الشاطئ إلى حيث الطعام والعودة ثانية، وفرد بزغ فى قلبه حب الطيران فملك عليه نفسه حتى فضلّه على أى شئ آخر فى الحياة . جماعة النوارس ترتبط بالأرض أشد الارتباط ويشغل الطيران جانبا ثانويا من اهتمامها، فى حين كان نزوع "جوناثان" إلى الفضاء هو همّه الأساسى، تحدوه رغبة جارفة فى تخطى الصعاب وتجاوز مشاكل الحياة اليومية . وفى الوقت الذى كانت الجماعة تعيش فيه تحت قناعة عبرّ عنها زعيمها، حين قال "ان الحياة سرّ مجهول لا يمكن اكتناهه، فقد  جئ  بنا إلى هذا العالم لنأكل ونبقى أحياء لأطول فترة ممكنة "، كان هو يجتهد "أن يعرف ما الذى يستطيع أن يحققه خلال طيرانه وما الذى لا يستطيع" . وبينما كانت الجماعة تتكالب لإشباع حاجة أجسامها المادية إلى الطعام، كان هو يسعى لاكتشاف هدف روحى) نبيل للحياة بتعلم الطيران ليرتفع إلى آفاق سامية أوسع وأرحب محققا حريته! هنا، أيضا، تأكيد على وجود موهبة أو استعداد طبيعى لدى "جوناثان"، وإن بدا دوره فى الاهتمام به والحدب عليه وتنميته متحملاً فى سبيل ذلك الكثير من المشاق، بدءاً من فقدان صحته وتحوّله إلى ريش على عظم كما عبرّ والداه، وافتقاد حبّ الآخرين، وانتهاءً إلى محاكمة مجلس النوارس له، الذى اعتبر ما يفعله طيشا ولا مبالاة وخيمة، فحكم عليه بالخزى والعار والنبذ من مجتمع النوارس والنفى إلى حياة وحيدة بعيداً فى المنحدرات النائية. لم يكن النبذ أو الوحدة هو ما آذاه، فهذا ما كان ينشده، بل كان أشد ما آذاه هو رفض النوارس الأخرى أن تفتح عيونها لترى ما ينتظرها من روعة وبهاء!

بعد أن جرت أحداث المسرحية والقصتين السابقتين فى مجتمعات بشرية (سفينة، وقرية)، نجد الأحداث هنا، فى رواية "النورس" قد إنتقلت إلى عالم (طيور) النورس، كعالم رمزى مواز لعالم البشر. وفى الوقت الذى، بزغت فيه الموهبة، فى الأعمال الثلاثة الأولى . كعمل متميّز من خلال أشكال مألوفة ومعروفة، وهى: عزف على البيانو، نظم الشعر، عزف الناى والغناء على نغماته، بدت هنا، فى شكل غير مألوف لمجتمع طيور النورس، وهى تلك الرغبة الجارفة للطيران . وفى الوقت الذى كانت مواهب أولئك الموهوبين تبزغ وسط مجتمعاتهم (السفينة، أو القرية) ويقابلون بالتقدير، كانت موهبة النورس جوناثان فى الطيران تجعل منه فردا شارداً خارجا على جموع السرب، متحملا العذاب والوحدة وافتقاد حب الآخرين والحكم عليه بالخزى والعار والنبذ والنفى إلى منحدرات نائية!

*     *     *

للكاتب الإيطالي دينو بوتزاتى (1906-1972) قصة بعنوان "الرجل الذى أراد الشفاء"، التى ترجمها حسين رفعت على ضمن مجموعة بعنوان "من قصص دينو بوتزاتى"، يطرح فى أحد مستويات تفسيرها رحلة فنان على درب الحياة والفن! تجرى أحداث القصة فى مصحة كبيرة للمصابين بالجزام، تقع فوق تل على بعد كيلو مترين من المدينة. وكما كان فى مسرحية «العازف والبحر» السفينة والأرض عالمان متقابلان . هنا أيضا المصحة والمدينة عالمان متقابلان: عالم المصحة عالم خاص حاضر بكل ما تعنيه المصحة من عزلة وحصار، حيث يمتد حولها سور عظيم عال وفوقه كان جنود الحراسة يسيرون جيئة وذهابا، خشية هرب أحد المرضى، وعالم عام غائب بكل ما تعنيه المدينة من ترابط وحرية إنتقال داخلها وإلى أى مكان حولها . وفى الوقت الذى تمتلئ فيه المصحة بالمصابين بالجزام، كمن حلّت عليهم لعنة الخطيئة الأولى، مطرودين من العالم الخارجى بكل ما يموج به من صحة وثروة، وفى حين إنغلق عالم المصحة على ذاته بكل ما يمثله ذلك الانغلاق من حرمان وفقر وبؤس وتقشف، ظلّ العالم الخارجى يمثّل حلما، أملا مرتجى، يستمد المرضى بعض أخباره بواسطة الحراس، الذين كان بعضا منهم يتعاطفون معهم، فيبتدعون أشياء لا وجود لها مثل مرور عابرين سبيل، أضواء، حرائق، حتى انفجارات بركان قريب؛ "لأنهم كانوا يدركون أن أى جديد إنّما هو بمثابة شرود لذيذ لأولئك الرجال المقضى عليهم بعدم الخروج من هنا أبداً "

وسط هذا المجتمع الخاص بزغ فرد شارد ـ كما "النورس" ـ يدعى "مسيريدون" دخل المصحة منذ شهرين . كان شابا، نبيلا، فارسا. كان رجلا جميلا للغاية فيما مضى، على قدر ما تبقى للتخمين، فقد داهمه الجزام بعنف نادر وشوّه وجهه فى وقت قصير . كان هذا الشاب خارجاً على إجماعهم، لم يكن يشاركهم متعهم الصغيرة أو سلواهم فى الأخبار التى يبلغها لهم الحارس كرباط وحيد يربطهم مع العالم الخارجى أو مدينة الأحياء، رافضاً رضوخهم وقبولهم بعدم خروجهم من المصحة أبداً. إنه لم يرضخ؛ بل كان يريد أن يعود إلى عهده الأول لأنه غنى، يمتلك قصرا له قبتان من الفضة يمكن رؤيته من فوق الأسوار، وهناك جوار حسان وصيادون وجياد وكلاب ينتظرون عودته! هنا، نبيل، يرمز إلى الفنان وسط عالم يسوده المرضى ولا يعترف بالألقاب، تتجلى موهبته كفرد شارد فى الخروج على إجماع الجماعة، وعدم الاستسلام للمرض، وإيمان قوى لا يلين بأنه سيشفى. هنا، أيضا، يتبدى رفض الفنان القاطع لجوانب تشوّه المجتمع المحيط به حتى وإن كان جزءاً منها، فإذا بهذا الواقع ذاته، الذى رضخ واستسلم له الآخرون، يستنفر قدراته، فيتحداه، مؤمنا بيقين كامل بإمكانية الانتصار عليه!

*     *     *

باولوكويلهو روائى برتغالى، وُلد فى ريودى جانيرو بالبرازيل عام 1947، نشر رواية (الخيميائى: وحجر الفلاسفة) عام 1988، فلاقت نجاحا كبيرا وترجمت إلى خمس وأربعين لغة . صدرت لها باللغة العربية أكثر من ترجمة، منها ترجمة فارس غصوب وبهاء طاهر. الشخصية المحورية فى هذه الرواية، لصبى يافع، راعى غنم، يدعى "سانتياغو"، أراد والداه أن يصبح كاهنا، حتى يكون مدعاة فخر لعائلة فلاحية متواضعة تعمل لتجنى ما يكفى للحصول على الماء والغذاء مثل خرافه. وأنظر إلى تذكرّه لتجربة تلك المدرسة "لأن الجميع كان يعتقد أنه يعرف تماما كيف يجب أن نعيش . لكن لا أحد يعرف أبدا كيف يجب أن يعيش هو حياته الخاصة”. أما الفتى "سانتياغو"، فكان (يعرف)؛ لأنه "منذ نعومة أظفاره، كان يحلم بمعرفة العالم"، و"إن، إمكانية تحقيق حلم ما، هى بالضبط ما يجعل الحياة ممتعة". وحين واجه أباه بأنه لا يريد أن يصبح كاهنا، لأنه يريد السفر، أخبره أبوه "عندنا الرعاة وحدهم يستطيعون أن يتعرفوا على بلدان كثيرة" . أجابه ببساطة: إذن، سأصبح راعيا، فأعطاه أبوه بعض قطع ذهبية كان يمتلكها، ليشترى بها قطيعا يتجول به فى العالم، وحين باركه وهو يودعه "قرأ الولد، هو أيضا، فى عينى والده الرغبة فى السفر عبر العالم . رغبة كانت تعيش دائما بالرغم من عشرات السنين التى حاول أن يقضيها مستقرا فى المكان نفسه لينام كل ليله، يشرب ويأكل فيه". هنا، تجلّت (موهبة) الصبى سانتياغو، رغم نشأته وسط مجتمع (قروى) من الفلاحين، على شكل (نزوع) خاص "كان منذ نعومة أظفاره، يحلم بمعرفة العالم"؛ لذلك رفض أن يستمر فى تحقيق رغبة والداه، فى أن يصبح كاهنا، وأصّر الصبى على أن يحقق (حلمه)، و(تفهّم) والده إصراره؛ من ذات المنطلق، فقد كان هناك حلم (مشترك) لمعرفة العالم بين ابن وأبيه . لكنهما كانا شخصيتين (متقابلتين)، ففى الوقت الذى قبر فيه الأب حلمه منذ عشرات السنين، ولم (يخلص) له، ويناضل من اجل تحقيقه  نجد أن الابن منذ يفاعته، قد آمن بحلمه، وأخلص به، فتمرد على واقعه، واختار طريقا يوصله إلى تحقيق حلمه!

ولنتوقف هنا، أمام جديد قدمته الرواية فى شخصية الأب، حين خذل موهبته، وتنازل عن حلمه، واستقّر فى القرية، فأصبح كالسائمة، وصار همّه الوحيد أن يأكل ويشرب وينام!  هنا، نقطة اختلاف (جوهرية) بين البشر والحيوان؛ لأن ما يميز(الإنسان) عن السائمة هو (الحلم) والسعى إلى تحقيق هذا الحلم . فإذا جنح الفرد إلى السكون والدعة متجاهلاً حلمه، انضم إلى القطيع، وأصبح شغله الشاغل ينحصر فى مجرد المأكل والمشرب والنوم!

*     *    

نخلص مما سبق، إلى أن الموهبة هى استعداد تلقائى كامن لدى أفراد معينين، يبزغ فجأة، أى أنه لا يرتبط بعمر معين، فقد يلازمه منذ نعومة أظفاره (روايتا "النورس" و"الخيميائى")، أو ينبثق فى الثامنة (مسرحية "العازف والبحر")، أو يتجلى فى سن مبكرة (قصتا "الشاعر" و"أحلام الناى")، أو يبرز فى وضع معين فى مقتبل الشباب (قصة "الرجل الذى أراد الشفاء"). وقد تتجلى الموهبة تارة كعمل متمّيز من خلال أشكال مألوف ومعروفة للمجتمع مثل العزف على البيانو (مسرحية "العازف والبحر" )، نظم الشعر (قصة "الشاعر")، والعزف على الناى والغناء على إنغامه (قصة "أحلام الناى")، وقد تبزغ، تارة أخرى، من خلال شكل غير مألوف يخرج فيه فرد معين على إجماع الجماعة التى يعيش بينها حتى يبدو كفرد شارد، كأن تبزغ لدى نورس معيّن رغبة فى الطيران، تملأ عليه كل حياته، فى الوقت الذى يعتبر الطيران نشاطا ثانويا لسرب النوارس (رواية "النورس")، أو أن تملك الرغبة فى الشفاء شاب نبيل بعد مضى شهرين فقط من احتجازه فى مصح جزام، فى الوقت الذي رضخ فيه الجميع للمرض وقبلوا به وتعايشوا معه (قصة "الرجل الذى أراد الشفاء")، أو قد يتملك صبى منذ نعومة أظفاره رغبة فى أن يرى العالم، فينصاع لها، فى الوقت الذى يعيش فيه بقية قومه فقط من أجل المأكل والمشرب والنوم (رواية "الخيميائى")

وقد تظهر الموهبة بشكل طبيعى خلال حياة الفرد (قصتا "الشاعر" و"أحلام الناى"، رواية "النورس")، أو على محك معاناة تجربة تعتبر نقطة تحوّل فى حياته ومستقبله ومصيره، عندما حاولوا استبعاده من السفينة (مسرحية "العازف والبحر")، أو قد لا يخضع نبيل لمرض الجزام كالآخرين ويقبل بالمرض (قصة "الرجل الذى أراد الشفاء")، أو قد يبزغ هذا الاستعداد قويا ضاريا حين رفض أن يصير كاهنا وأصّر على أن يحقق حلم حياته فى أن يرى العالم (رواية "الخيميائى"). وقد يكون صاحب الموهبة معّرفا باسم محدد مثل: "دانى بودمان ت.د.ليمون نوفيتشينتو" (مسرحية "العازف والبحر")، "هان لوك" (قصة "الشاعر")، "جوناثان لينفكستون" (رواية "النورس")، "مسيريدون" (قصة "الرجل الذى أراد الشفاء")، و"سانتياغو" (رواية "الخيميائى")، أو غير (معرّف) (قصة "أحلام الناى")؛ حتى يصير رمزا للفنان فى أى زمان ومكان! وانصرف نفس الأمر بالنسبة لجنسية صاحب الموهبة، فهو تارة صينى (قصة "الشاعر")، المانى (قصة "أحلام الناى")، إيطالى (قصة "الرجل الذى أراد الشفاء")، وأسبانى (رواية "الخيميائى")، وتارة أخرى بدون جنسية، حين وُلد على سفينة فى عرض البحر، حتى لا تكون الموهبة حكرا على جنس بذاته! وقد يكون المجتمع الذى تظهر فيه الموهبة قرية ألمانية (قصتا "الشاعر" و"أحلام الناى") أو أسبانية (قصة "الخيميائى")، وقد يكون شاطئ قريب من البحر حيث يعيش سرب من طيور النورس (رواية "النورس") أو سفينة ركاب وسط البحر (مسرحية "العازف والبحر") أو مصحة جزام فوق تل محاطة بسور أمام مدينة (قصة "الرجل الذى أراد الشفاء").

ويلاحظ، هنا، أن ثلاثة أعمال كان مكان الأحداث فيها قرية، بينما بدا فى الثلاثة الأخرى تقابل بين مكانين متضادين، حين جرت الأحداث تارة على سفينة وسط البحر وظلت الأرض نائية بعيدة، حلماً مرتجى (مسرحية "العازف والبحر")، كما عاش مرضى الجزام تارة أخرى معزولين فى مصح منعزل فوق تل، يطّل على مدينة تبدو مستعصية كحلم بعيد المنال (قصة "الرجل الذى أراد الشفاء")، وفى الوقت الذى ظلّ فيه شاطئ البحر، تارة ثالثة، مأوى وملاذا لسرب طيور النورس، بدت السماء بأجوائها المفتوحة أمنية وحلما للنورس الشارد (رواية "النورس"). بدا التقابل من ناحية أخرى أيضا، بين صاحب الموهبة، الذى امتلك فكرًا جسورا، يحلّق بعيدا إلى آفاق أرحب، ويجتهد أن يستكشف قدرات خافية لدى الأفراد، بدلاً من الاستكانة والخنوع إلى عالم الدعة، اكتفاءً بالمأكل والمشرب والنوم، وذلك بشكل محدود (فى رواية "النورس")، وبشكل مباشر ترددت أصداؤه اكثر من مرة (رواية "الخيميائى")، وبشكل رمزى (قصة "الرجل الذى أراد الشفاء.) واختلف المناخ الذى ظهرت فيه تلك المواهب، حين بدا مرّة مناخا مواتيا، مشجعا، محتضناً للموهبة، داعماً لها، لعب الأب فيه دوراً رئيسيا، بدا تارة حين أهدى لابنه نايا حاضا إياه على المضى فى طريقة (قصة "أحلام الناى")، وبدا تارة أخرى حين وافق الأب على تفرّغ ولده لفنه لمده سنتين (قصة "الشاعر")، أو حين وافق الأب، تارة ثالثة، على أن يهجر حلم الوالدين فى أن يصير كاهنا حتى يحقق حلمه الخاص (رواية "الخيميائى"). واتسعت رقعة التشجيع، تارة رابعة، وامتدت لتشمل كل مجتمع السفينة لعازف البيانو (مسرحية "العازف والبحر") . وبدا مرّة ثانية مناخاً مضاداً، غير مناسب لبزوغ ونمو الموهبة، برز رافضاً لوجودها بشكل سلبى، حين اختلفت قناعات مرضى المصح وقبولهم بالمرض أمام رفض النبيل الشاب التام لمرضه (قصة "الرجل الذى أراد الشفاء")، كما ظهر مجتمع طيور النورس رافضا لموهبة النورس "جوناثان" بشكل إيجابى، بدءاً من غضب الوالد وتصاعدا الى غضب الجماعة مما يفعل، وصولا إلى توقيع عقاب الطرد علية والنبذ إلى مرتفعات نائية جزاءً وفاقا لخروجه على مألوف حياتهم (رواية "النورس"). ويحسب لقصة "الشاعر" أنها بينت كيفية إهتمام الموهوب بما وُهب من استعداد خاص، حين بدا أن (إختيار) عالم الشعر هو اختيار حياته الوحيد، وأن عليه أن (يخلص) له، وأن يتفانى فى خدمته، حتى يحقق أقصى طموح ممكن، ويبلغ حد الكمال . كما كشفت رواية "الخيميائى" الوجه الآخر للفرد الذى لا يحترم موهبته، وتنازل عن حلمه، ليستقر فى موطنه كسيرا، مكلوماً، مبدداً حياته بين المأكل والمشرب والنوم، كما السائمة!           

الفصل الثانى: احتراف الفنان!

بعد أن بزغت (مواهب) أولئك الأفراد، فى مناخ موات أو غير موات، وتدعمّت (بالإخلاص) والتضحية بمباهج الحياة اليومية أملا فى بلوغ أسمى آيات (الكمال). يكون الطريق قد انفتح أمامهم للتقدم خطوات أخرى عبر رحلة (الفنان). وهو ما يطرح بالتالى عددا من أسئلة أخرى، يجتهد هذا الفصل أن يجيب عنها، متلمسا خطى فنانينا الستة عبر أعمالهم الإبداعية: كيف يكون (إخلاص) الموهوب؟ ومتى يحدث؟ وأين؟! هل هى (مرحلة) بسيطة أم مركبة؟ ما مدى ارتباط الفنان (بمجتمعه) خلال ذلك؟ ماذا (يحفزه) على استمرار الرحلة؟ هل يتيح له ذلك الالتحاق (بركب) الفنانين العظام؟

*     *     *

معتزل التعلّم:

فى قصة «الشاعر» لهرمان هسه، وبعد أن بزغت موهبة الفتى الشاعر، ومنحها جلّ اهتمامه حالما ببلوغ الكمال لدرجة أنه لم يرغب فى استكمال زواجه، واستأذن من أبيه فى الرحيل لمدة عامين؛ حتى (يكرّس) نفسه لدراسة الشعر  ليستمد منه "السعادة ويكسب الشهرة". إنفتح أمامه هذا الباب، حين قابل على شاطئ النهر عجوزا دعى نفسه أستاذ الكلمة الكاملة. هذا الرجل هو (القرين)، رمز الحكمة والتفوّق، النموذج المرتجى، مصدر الإلهام، الوحى، البصيرة، الفهم، الحماسة والتصميم. كما قد يمثّل فى ذات الوقت قدرات الفتى الكامنة التى توحى بإمكانية الوصول إلى شخصيه شاعر كامل فى المستقبل. عبّر هذا الرجل عمّا يجيش فى نفس الفتى من مشاعر ورؤى (شعراً) على أكمل وجه، ثم دعاه – إذا أراد أن يكون شاعرا – إلى كوخه، الذى يقع بجوار منبع النهر الكبير (مصدر الحياة والقوة بما قد يوحى بإمكانية إطالة العمر والخلود، كما قد يشير الى الحياة التى تنشأ من المنبع وتنساب إلى الأمام قوية هادرة، لتتلاشى فى اللانهاية!)

اختار الفتى أن يعيش فى هذا (المعتزل)، المختبر، كزاهد فى محراب الفن حتى يكرّس حياته للتعلّم واستيعاب فنون الشعر، فمسح من ذاكرته أولاً كل ما نظمه من قبل من قصائد، وما تعلمه من أساتذة بلده من أغانى، ثم تعلّم فن العزف على العود. لكن فن الشعر ظلّ مستعصيا عليه، وكان كلمّا نظم قصيدة أطلع عليها أستاذه، الذى كان يعزف على عوده بعد أن ينتهى من إنشاده، فإذا "كل شئ أجمل واكمل كثيرا من الأشعار التى نظمها"، بمعنى أنه يكتشف على ضوء (معيار) العزف الفنى للأستاذ ان نظمه مازال قاصراً، غير مكتمل النباء! مّر عام أتقن خلاله العزف على العود، وبدأ تعلّم العزف على القيثارة. وحين مضى عامان حّن إلى أسرته ومسقط رأسه وعروسه، فاستأذن من أستاذه، وعندما وصل إلى بيته أخذ يقارن بين ما يرى من أشياء، رآها من قبل كصور بديعة أثناء حنينه، عندئذ تأكّد له أنه خُلق ليكون شاعرا، و"أدرك أن فى أحلام الشاعر يكمن جمال وسحر يبحث عنهما المرء عبثا فى عالم الواقع"، فرجع راضيا إلى كوخ المعتزل أو المحترف، وأجاد العزف على القيثارة وعلى الناى، ثم بدأ يتعلم نظم القصائد تحت إشراف أستاذه، وفى بطء شديد تعلّم "ذلك الفن المستسر الذى يقول فى الظاهر أشياء بسيطة مألوفه، لكنه يحرّك بها روح المستمع كما تحرك الريح صفحة الماء". ولم يعد يعلم عدد السنين التى قضاها مع المعلم، لكنه نهض ذات صباح فى موسم هجرة الطيور، فوجد نفسه وحيداً. لقد اكتملت أخيرا (دورة) تعلمّه، أصبح أستاذًا لفن الكلمة الكاملة، بعد أن قضى سنوات عمره يتعلّم، حتى صار هو الآخر عجوزا!

عندئذ، رجع الشاعر إلى موطنه القديم بعد أن امتلك ناصية فنه، وكان ذلك فى مساء مماثل، يحتفل فيه بنى قومه بمهرجان المصابيح على ضفة النهر، فحيّاه الناس كما يليق بشيخ وقور، فلما وصل إلى بيته اكتشف أن أباه وعروسه وأقاربه قد ماتوا جميعا (كناية عن عزلة الفنان التامه وابتعاده عن الحياة اليومية وما تكبده أثناء عزلته من خسائر؛ وإن كفل له فنه البقاء والاستمرار!)، فمضى إلى الجانب الآخر البعيد من الشاطئ المعتم، وعزف على العود الصغير، فتنهدت النسوة، وجعلن يتأملن الليل مسحورات ذاهلات، وتولت الدهشة الشبان؛ لأن أحدا منهم لم يستمع من قبل إلى مثل هذه الألحان! لقد بزغت (موهبة) الفتى فى مناخ متفهم فاخلص لها، واعتزل الحياة من أجلها، فانفتح أمامه درب الكمال، ليفنى فى (مختبره) سنوات عمره راضيا، مستكملا أدواته، حتى إذا ما حان أوان العودة إلى بنى وطنه، التجأ إلى الجانب الآخر البعيد، وراح يعزف لهم أجمل الألحان متواريا فى الظل (متواضعاً)، متناسيا أمر (الشهرة)!

*     *     *

وبالمثل، تتبدى فى رواية (النورس) بداية رحلة الفنان، التى تبدأ بالانصياع لاستعداده الداخلى، متوحّداً معه، مخلصا له، باصراره على ممارسة اختياره والنضال من أجل تحقيقه وتقبلّه لكل ما يترتب عليه من عواقب وآثار قد تدفع إلى اعتباره خارجا على الجماعة وقد تؤدى به إلى العزل والنبذ بعيدا عنها فى المرتفعات النائية، عندئذ يكون قد استوفى شروط المرحلة الأولى، وأنفتح أمامه الطريق إلى عالمه (المختار)، وذلك حين جاءه نوْرسان ليأخذاه إلى حيث ينتمى، لينضم إلى كوكبة من أمثاله، الذين يفكرون تماما مثله، ويسعون جميعا إلى الكمال، كهدف  أسمى للحياة يجتهدون فى الوصول إليه بتلك الطريقة المحببة: الطيران! هو معتزل أقرب ما يكون إلى (الاحتراف)، حيث تكرّس كل طاقاتهم من أجل (التعلّم)، وهو ما يعنى – كما أخبره المعلم "شيانغ" - "اننا نختار عالمنا القادم من خلال ما نتعلمه فى هذا العالم . فإذا لم تتعلم شيئا، سيكون عالمك التالى نسخة ثانية من عالمك الذى إنتقلت منه لتوّك .. الحدود نفسها، الأثقال نفسها والمصاعب التى يتوجب عليك اجتيازها.." فى هذا العالم الجديد، ونظراً للتوافق الكامل بين أفراده، يكون التواصل بينهم بتبادل الخواطر، بدلاً من إطلاق الصيحات وتقاذف الحصى! وقد بيّن المعلم "شيانغ" للنورس "جوناثان" خلال مرحلة تعليمه، ان سبيل النجاح الوحيد "هو أن تعرف ماذا تريد وماذا تفعل". ثم تعرّف "جوناثان" خلال تلك المرحلة على عدد من المبادئ الهامة، وهى:

·       الكمال هو اللحظة التى تبلغ فيها السرعة الكاملة . والسرعة الكاملة "ليست تحقق سرعة ألف ميل فى الساعة، أو حتى مليون، أو الطيران بسرعة الضوء؛ لأن أى رقم هو حدّ والكمال ليس له حدود. السرعة الكاملة يا ابنى هى أن تكون هنا وهناك"

·       "الفكرة هى أن يعرف أن طبيعته الحقيقية تعيش بكمال فى كل مكان، عبر الزمان والمكان "

·       كى يطير بسرعة الفكرة، "يجب أن يتعلّم  بألاّ ينظر إلى نفسه داخل حدود جسد محدّد "

·       "تستطيع أن تتحرك عبر الزمان، إذا كنت راغباً فى تعلّم ذلك، لكى تستطيع الانتقال عبر الماضى والمستقبل. وبعد ذلك ستكون مستعداً لبدء أصعب مرحلة وأقواها من كل ما تعلمت . مرحلة الصعود إلى أعلى، والتعرّف على معنى الحنان والحب"

هنا، فى مرحلة التعلّم أو صقل الاستعداد، اتخذ الطيران معنى مجازياً، هو استكشاف طاقات روحية كامنة، حول حقيقتنا، التى يمكننا الايمان بها أن نعيش فى كل مكان، وأن نتجاوز حدود الجسد، المكان، الزمان، والسرعة! . ولكن، لننتبه، لأن كل هذا ضرورى فقط، بقدر ما يتيح لنا بلوغ أعلى مرحلة، وهى التعرّف على معنى الحنان والحب!

رحلة، ما أشقها من رحلة، ينحو الفنان فيها إلى معتزل خاص، بل هو شديد الخصوصية، وبعد أن كان يعيش خلال مرحلة (التعلّم) متوحداً مع معلمه أستاذ الكلمة الكاملة (قصة "الشاعر")، إذا هو يقضى وقته بين أترابه ذوى المواهب المماثلة ومع معلمه "شيانغ" (رواية "النورس"). وفى الوقت الذى امتدت فيه دورة التعلّم وطالت سنواتها حتى بلغت ذروتها حين أصبح أستاذا فى فن نظم الشعر (قصة"الشاعر")، نجد أن دورة التعلم قد اكتملت حين أصبح أستاذا فى (فن) الطيران، مسئولا عن تعليم الوافدين الجدد، فاختفى معلمّه موصيا إياه ببلوغ ذروة المرحلة، وهى التعرّف على معنى الحنان والحب (رواية "النورس"). وفى الوقت الذى عاد فيه الشاعر، وقد أصبح شيخا عجوزا إلى موطنه، ليعزف لبنى وطنه متواريا فى الظل أعذب الألحان (قصة "الشاعر")، نجد أن ريتشارد باخ قد دّعم حركة الفنان بتلك الرغبة فى التوصيل، أى نقل ما توصّل إليه من رؤى إلى بنى وطنه، وكانت أداة التوصيل هى الحنان والحب، وهو الجديد الذى قدمته (رواية "النورس"). هكذا واصل النورس "جوناثان" دروسه فى معتزله؛ من أجل فهم كنه الحنان والحب وهو يعلّم الوافدين الجدد، كما سبق أن علمه المعلم "شيانغ"، وكلما اقترب أكثر من معنى الحنان وطبيعته، كلمّا إزداد حنينه وقويت رغبته فى الرجوع إلى موطنه؛ فعلى "الرغم من أنه كان وحيداً فى الماضى، فإن النورس جوناثان وُلد ليكون معلماّ . وتجسّدت طريقته للتعبير عن الحب فى منح شئ من معرفته الحقيقية التى لمسها، إلى نورس آخر، يناضل من أجل معرفة الحقيقة"

إذن، (الحب) هو منح جزء ممّا نتوصّل إليه إلى الآخرين، الذين يناضلون على الطريق . عندئذ، كان الصراع قد اشتد داخل "جوناثان" حتى أصبح موزّعا بين البقاء ليعلّم نوارس تستطيع أن تفهم ما يقول؛ لأن "النورس الذى يطير أعلى يرى أبعد"، أو أن يعود إلى عالمه القديم يشدّه حنين يتصاعد باستمرار، حتى حسم أمره فى النهاية وأستقرّ رأيه على العودة، تاركا أمر تعليم النوارس الجديدة الى رفيق دربه "سوليفان". وأنظر إلى ردّه، حين أخبره سوليفان أنه سيفتقده "يجب أن نتغلب على المكان فيصبح ما لدينا هو (هنا). ونتغلب على الزمان فيصبح كل ما لدينا هو (الآن)، ووسط هنا والآن، ألا تعتقد بأننا نستطيع أن نرى بعضنا". لقد "أصبح بعرف ببساطة اعتادها الآن، أنه ليس عظاماً وريشاً، بل فكرة كاملة للحرية وللتحليق ليس لها حدود".

وكما اكتملت دورة تعلّم الشاعر فعاد (أستاذًا) عجوزا فى فنه إلى بنى قومه (قصة "الشاعر")، هنا تكون قد اكتملت دورة (نضج) النورس "جوناثان"، بعد أن أتّم دورة تعلمه، فعاد إلى قومه من جديد مدفوعاً بالحب، فوجد نورساً صغير السن يدعى "فلتشر"، ناقماً على قومه بسبب عدم إقبالهم على الطيران، وهو نفس ما حدث لـ"جوناثان" سابقا، وكأن التاريخ يعيد نفسه، فدعاه إلى مسامحتهم، وانه سيقدّم له يد العون لتعلّم الطيران، إذا كان يرغب فى ذلك، على أن يعود إليهم، بعد ذلك ليساعدهم على التعلّم أيضا! هكذا بدأ "جوناثان" دورة تدريب النورس "فلتشر"، وسرعان ما ازداد عدد النوارس المنبوذة، التى ترغب فى تعلم الطيران حتى بلغ ست خلال ثلاثة شهور، وحين اطمأن "جوناثان" إلى تدريبهم، قرّر العودة ونشر دعوته داخل السرب، رغم أن قانون السرب ينص بوضوح على أن المنبوذ لا يجوز له العودة، وهو قانون لم يجرؤ أحد على خرقه منذ عشرة آلاف عام . وكان قرار النورس الأكبر للسرب ـ رداً على عودتهم ـ أن يتم تجاهل هؤلاء العائدين، ومن يتبادل الكلام مع منبوذ يصبح منبوذا هو الآخر، ومن ينظر إلى منبوذ يكسر قانون السرب.

وبعد مضى شهر إنضم إليهم نورس جديد، ثم حضر أحد نوارس السرب إلى "جوناثان" ناشداً مساعدته لأن جناحه الأيسر مصاب، فطلب منه "جوناثان" أن يطير، فكرر الطائر قوله بأنه مصاب، وإذا بجوناثان يخيرّه: "إن لك الحرية فى تكون نفسك الحقيقية، هنا الآن، ولن يستطيع شئ أن يقف فى طريقك. إنه قانون النورس الأكبر" وحين تشجّع النورس، وارتفع بجناحيه طار الى عنان السماء، فأطلق صرخة سعادة اخترقت الظلام وأيقظت السرب من نومه، وكانت نقطة تحّول حاسمة، جاء  ـ على أثرها ـ فى اليوم التالى  ألف نورس يرقبون ما يجرى! هنا، فى المعتزل اكتملت دورة التعلّم للشاعر والنورس، وإن أضافت رواية "النورس" دورة نضج توصّل فيها النورس إلى معنى الحنان والحب، ليكونا جواز مرور يسمح له أن يؤوب إلى جماعته حاملا رسالة ينشرها بينهم، حتى إذا ما كتب له النجاح، وشعر أنه أدّى دوره، أسلم قيادة الجماعة الى النورس "فلتشر"، تماماً كما حدث معه من قبل، ومضى مبتعداً، ونصائحه تتردد بين جوانح "فلتشر": "واصل اكتشاف نفسك .. كل شئ جديد عنها .. عن ذلك النورس فلتشر اللامتناه، اللامحدود، الحقيقى، فهو معلمك . أنت بحاجة إلى فهمه وتدريبه"، و "لاتصدق عينيك، فكل ما تراه العين محدد . أنظر بعقلك واكتشف بنفسك ما تعرفه، وسوف تهتدى إلى الحقيقة". إنها ذات مبادئ رسالة الفن الخالدة، التى سبق أن توصّل إليها كبار الفنانين على مرّ التاريخ والتى تدعو إلى التحليق بحرية إلى آفاق روحية متجددة باستمرار!

                        *     *    *

ربمّا أحس هرمان هسة أن قصة «الشاعر» قد أضاءت الموهبة وما تتطلبه من تفهم وطموح وأخلاص ومثابرة فى المعتزل لبلوغ أسمى آيات الكمال . وربما شعر، عندئذ أن الموضوع مازال ينقصه جزء جوهرى، فكتب قصة «أحلام الناى»، وأغلب الظن أنه كتبها فى فترة تاليه مباشرة لإنجاز قصة «الشاعر»، حتى يستوفى النقص، وبدا ذلك منذ مفتتح القصة، حين شجع الأب إبنه الفتى على الترحال، بعد أن أهداه ناياً، قائلا له "كى تشاهد العالم وتكتسب المعرفة". وإذا كان هرمان هسة قد سرد علينا، فى قصة «الشاعر»، تجربة خطوبة الفتى دون أن يعيشها فعلا، فإنه هنا، فى قصة «أحلام الناى»، ترك للفتى المجال مفتوحاً ليمارس علاقة عابرة مع فتاة صغيرة تدعى "بريجيت". وحين طلبت منه أن يغنى لها، تدفّق عليه فيض غامر من الأغانى، عند ذلك أمعن التفكير حالما "لو استطعت فى وقت واحد أن أفهم هذه الآلاف من الأغانى وأن أنشدها للعالم، عن العشب والأزهار والسحب والناس وكل شئ .. وإذا تردد هذا كله داخلى، وغنّى فى الحال، فسأكون شخصا كلى القدرة، وستحتل كل أغنية جديدة مكانها فى السماء بوصفها نجمة".

فى قصة "الشاعر" كان هناك تجريد خلال مرحلة استكمال الشاعر لأدواته، من إجادة عزف آلات: العود والقيثارة والناى، ثم إجادة استخدام الكلمات. هنا، فى قصة "أحلام الناى" استكمال لجانب الخبرة بدءاً من لحظة الافتتاح بكلمات الأب وهو يودعه، مروراً بحلمه باستيعاب كل أغانى مفردات الوجود حتى تتحول إلى أجزاء من رؤاه الداخلية، وانتهاءً بالرجل العجوز المتوحّد الذى كان ينتظره، القرين، الحلم المنشود، الأمل المرتجى، (وهو أيضا إمتداد لعجوز وأستاذ الكلمة الكاملة فى قصة «الشاعر»)، فركب معه فى الزورق،الذى يوحى بجوّ السفر والإبحار فى نهر الحياة، والزورق أيضا ضرب من المهد، أو حضن الأم الذى يوحى بالأمان ويوفّر الطمأنينة عند الانفصال عن العائلة والأرض ومواجهة الاستقلال الفردى وتحمل المسئولية، كما يرمز إلى القدرة على عبور المخاطر (مثلما كان كوخ العجوز عن منبع النهر فى قصة «الشاعر»).

هكذا بدأت رحلتهما فى النهر، وحين أنشد الفتى بعضا من شعره عن النهر وحركته وسعادته بالتجوّل فيه، لم يعقب العجوز، بل غنى للنهر أيضا، وكانت إغنيته أجمل وأقوى كثيرا، وفى أثناء غنائه "اندفع النهر من التلال كالمقاتل المجتاح، قاتما شرسا، وبأنياب بارزة قاتل الطواحين التى تقيّد حركته، والجسور ذات الأقواس، وكأنه يمقت كل زورق عليه أن يحمله، وفى أمواجه، وأعشابه الخضراء الطويلة كان يهدهد مبتسما جثث الغرقى حتى شعر الفتى بعبث ما أنشد، واستنتج أنه "لم يكن العالم فى قرارته خيرا مشرقا كقلب الرب، بل قاتم بائس، وشرير محزن، وعندما ينبعث حفيف الغابات، فليس ذلك من الفرح وإنما من العذاب". وحين حاول الفتى أن يعزّى نفسه، غنّى لذكرى "بريجيت" وقبلاتها، وغنى بعده العجوز أيضا، فاستولى عليه الإرهاق وهو ينصت إليه حزينا قلقا، بعد أن أصبح لكل شئ معنى آخر، فضرع الفتى إلى العجوز أن ينشد له إغنية عن الموت، فغنى الرجل، "وكان غناؤه أجمل من أى شئ سمعته من قبل . غير أن الموت لم يكن هو أسمى الأشياء وأفضلها، وحتى فى الموت لم تكن هناك راحة . كان الموت هو الحياة، وكانت الحياة هى الموت، فقد أوصد عليهما معاً فى صراع عاشق أبدى مجنون، وكانت هذه هى الكلمة النهائية، ومعنى الكون، ثم أتى حينئذ نور باهر، واشعاع ساطع يستطيع أن يمجد كل بؤس، وجاء ظلّ آخر عكرّ  صفو السرور والجمال واشتمل عليهما فى ظلام قاتم. ولكن من خلال هذه الظلمات خرج الفرح أشد سطوعا ولمعانا، وتوهج الحب توهجا أعمق وسط هذا الليل البهيم".

وحين طلب الفتى الرجوع، نهض العجوز، وأخبره أن "على المرء أن يواصل السير إلى الأمام إذا كان يبغى سبر أغوار العالم " . وحين مضى الفتى إلى دفةّ الزورق، اكتشف أنه (وحيد)، وهبطت عليه معرفة (الحقيقة) كما الرعدة، فرفع المصباح ورأى وجهه عجوزاً على صفحة الماء! هنا، تكون (الدورة) قد اكتملت، واكتسب الفتى التعلم و(االخبرة) عبر حياته وهو يتحول إلى القرين، والحلم المرتجى، تماماً كما تحوّل الفتى من قبل (فى قصة "الشاعر") إلى عجوز، بعد أن اكتملت (دورة) تمكنه من أدواته الفنية!

الخروج إلى عالم رحب:

صبىّ، كان الشخصية الرئيسية فى قصة «أحلام الناى»، ورواية (الخيميائى)، ويكاد يتوحد مبتدا رحلتيهما، ففى الوقت الذى أهدى الأب فيه ناياً لابنه الصبى، حاثاً إياه على الارتحال، كى يشاهد العالم ويكتسب المعرفة (قصة «أحلام الناى»)، طلب الصبى الآخر من أبيه أن يسافر؛ لأنه منذ نعومة أظفاره يحلم بمعرفة العالم (رواية "الخيميائى"). منطقان متشابهان يحضّان على الارتحال إلى العالم الخارجى؛ للتعلّم من المشاهدة واكتساب الخبرة. هنا انطلق الصبى سانتياغو فى ترحاله، بعد أن يسّر له عمله الجديد كراعى غنم سبيل السفر. كان الفتى قد حلم مرتين، وهو يقضى الليل مع قطيعه قرب شجرة جميز عملاقة داخل أطلال كنيسة مهجورة بأسبانيا، أن ولداً يلعب مع الخراف ثم أمسك يده واقتاده حتى أهرام مصر، قائلا "إذا جئت هنا ستجد كنزا مخبأ"، وفى اللحظة التى أوشك فيها أن يدله على مكان الكنز استيقظ فى المرتين!

هنا، فتى آمن بحلم حياته الرئيسى "معرفة العالم"، وأخلص له، وتحّول إلى راعى غنم، وخرج ليحققه، فانفتح أمامه الطريق للدخول إلى معتزل التعلم، وإذا بحلم تكرّر مرتين يرهص بكنز خفى يعترض  طريقه، وحين كاد أن ييأس من تفسيره ظهر له ملك "سالم" العجوز (إمتداد لأستاذ الكلمة الكاملة «الشاعر»، المعلم شيانغ (النورس)، والشيخ الحكيم «أحلام الناى»). كان هذا اللقاء نقطة تحوّل فى حياته، وحين ساورته الشكوك انحنى العجوز ليكتب على الرمل أمامه، "فلمع شئ على صدره لمعانا قويا" . عندئذ، وقعت معجزة، حين تجلى نور أغشى بصر الفتى، حتى جذب العجوز ثانية معطفه على خصره، فاستطاع الفتى أن يقرأ معجزة أخرى، ممّا خطّه الرجل على الأرض من أحداث حياته الماضية الخفية، ثم أوضح له أن سبب اللقاء، هو أنه كان قادراً على تحقيق (أسطورته) الخاصة! هنا افتتاح لسبيل تحقيق حلم الفتى، تبيان للطريق؛ "لأنه توجد حقيقة كبرى فى هذا العالم: كائناً من تكون، ومهما فعلت، عندما تريد بالفعل شيئاً ما، فذلك يعنى أن هذه الرغبة قد وُلدت فى روح الكون، وان تلك هى مهمتك على الأرض". و"عندما تريد شيئاً، يتواطا الكون بكامله كى يسمح لك بتحقيق رغبتك" و"تحقيق أسطورة الناس هو واجبهم الأوحد الوحيد".

كان الملك العجوز يظهر لاولئك الذين يكونون على وشك التخلى عن أن يعيشوا أسطورتهم الخاصة؛ حتى يقنعهم بالتمسك بها، لذلك قدم للفتى أولا نموذجاً مقابل مرفوضاً من الواقع المعاش، لفرد تخلّى عن أسطورته، حين أشار إلى بائع فوشار، بعربته الحمراء الذي أراد السفر دائماً عندما كان ولداً . لكنه آثر أن يشترى عربة صغيرة لكى يبيع الفوشار، ويجمع المال. ولم يدرك أبداً أنه يمكن دائماً ان يفعل ما يحلم به. ثم قدم الملك له نموذجاً آخر موازياً؛ حتى يحسم أمر إقناعه، وذلك حين روى له أنه اضطر فى الأسبوع السابق ان يظهرلأحد المنقبين بشكل حجر. كان الرجل قد تخلى عن كل شئ ليذهب بحثاً عن الزمرد. عمل، خلال خمس سنوات. وبما أنه كان رجلا قد راهن على أسطورته الشخصية، قرر العجوز أن يتدخل، فتحول إلى حجر تدحرج بين قدمي المنقب، فغضب هذا الأخير وقد شعر بالخيبة بعد خمس سنوات ضاعت سدى، متناولا الحجر وقذف به بعيداً . رماه بعنف وقوة فأصاب حجراً آخر انكسر كاشفاً عن أروع زمردة فى العالم!

ويبقى هنا شيئان: الأول جملة كررها العجوز مرتين "الكل ليس إلا شيئاً واحداً " و"لا تنسى أن كل شئ هو واحد". إنه مبدأ الواحدية وهو نزعة فلسفية ترمى إلى ردّ الوجود أو المعرفة أو السلوك إلى مبدأ واحد، ولعله يهدف هنا إلى وحدانية الخالق، الذى يحكم الحياة والكون والوجود ويصنع منها وحدة واحدة أو كلّ واحد . والشئ الثانى، الذى ترتب على هذا المبدأ هو "لقد خط الله فى هذا العالم الطريق التى على كل منا أن يسلكها . فما عليك إلا أن تقرأ ما هو مكتوب لك". هكذا أوصل العجوز للصبى (الحقيقة) كاملة، ببساطة، فى جرعة واحدة، وإن برزت فيها ـ أيضاً ـ للمرة الأولى مفردة "مكتوب" أمام الصبى اليافع، قبل أن يبدأ رحلته! كان لقاء الفتى مع الملك العجوز فى "طارينا" بأسبانيا، محفزاً له؛ كى يبدأ رحلته، فعبر البحر إلى ميناء طنجة، إلى واقع جديد مغاير، حيث الحضارة العربية الاسلامية، وحيث يتحدث الناس لغة أخرى هى العربية. وفى ذلك الميناء، أخذ فتى آخر أمواله بحجة مساعدته وسرعان ما اختفى، فاضطر أن يعمل لدى بائع بللوريات، أمضى ثلاثين عاماً من عمره يشترى ويبيع السلع البللورية، وبعد أن أمضى سانتياغو شهرا فى العمل، اقترح على البائع وضع خزانة عرض للبضاعة خارج الحانوت؛ لتجذب الانتباه، وبتنفيذ الاقتراح  زادت المبيعات فعلاّ!

هنا، لقاء بين فردين من البشر، أحدهما فتى رحال يدين بالمسيحية، والثانى عجوز صاحب حانوت يدين بالإسلام. فارق آخر جوهرى بينهما ان الفتى كان يحلم بالخراف والأهرام بينما كان العجوز يحلم بالسفر الى مكة لأداء فريضة الحج. مرة ثانية، اقترح الفتى تطوير عملية البيع، بتقديم الشاى للناس الذين يصعدون المرتفع حيث يقع الحانوت، فأيقن العجوز أن أحواله ستتغير. ثم تحدثاً قليلا باللغة العربية حتى قال البائع أخيراً:

"ـ مكتوب

  ـ ما هذا

  ـ يجب أن تولد عربياً لكى تفهم" .

هنا، نموذجان متقابلان تماماً، نتاجا حضارتين مختلفتين، بينهما فارق جوهرى . فتى يسعى إلى تحقيق حلم حياته، أسطورته الخاصة، وعجوز قانع بمجرد حلم يقظة الحج إلى مكة، لكنه لا يبذل جهدا لتنفيذه . مغيب الشمس، هنا، دلالة على أفول نجم هذا العجوز، الذى حاول أن يتلمس سنداً لموقفه فى المقولة الدينية "مكتوب"!

ومضى أحد عشر شهراً وتسعة أيام والفتى يعمل لدى بائع البللوريات. وحين ازدهرت تجارة البللوريات، حقق الفتى مأربه ونال نصيباً كبيراً من المال  فمضى على طريق تحقيق أسطورته الشخصية بالسفر إلى الأهرام بينما قنع العجوز بحياته دون أن يسعى إلى تغييرها! قابل الفتى فى خان فى طنجة رجلاً إنجليزياً كان حلم حياته، أن يتعرف على اللغة الوحيدة التى يتكلم بها سكان الكون، فدرس الأديان وانتهى إلى الخيمياء. ذلك العلم الذى كان يسعى إلى تحويل المعادن إلى ذهب، والبحث عن إكسير الحياة الطويلة . لكنه توقف عند نقطة لم يستطع أن يتجاوزها، ولم يكن يعرف إن كان الخيميائيون قد اكتشفوا سر "العمل الكبير" أو بتعبير آخر حجر الفلاسفة، الذى أنفق كثيراً من ثروته التى آلت إليه من أبيه فى البحث عنه، وانتهى إلى أن هناك خيميائياً يعيش فى واحة الفيوم بمصر، اكتشف حجر الفلاسفة وإكسير الحياة، لذلك جاء لمقابلته. وأرتحلا معاً، فى القافلة المتوجهة إلى الفيوم، حيث تعرف الفتى على الجمَّال (حادى الجمال). وتذكر الفتى ابنة التاجر، الذى سبق أن باع له صوف غنمه، وتملكته قناعة بأنها قد تزوجت. على كل حال، ولد فيه هذا الشعور نوعاً من القلق، فتذكر أمه التي كانت غالبا ما تردد كلمة "مشاعر". وبدأ يدرك أن المشاعر كانت غوصاً سريعاً للنفس فى هذا التيارالكونى للحياة التى تربط فى داخلها تاريخ كل الناس بشكل يصبح فيه تاريخاً واحداً حيث نستطيع أن نعرف بأن كل شئ "مكتوب"!.

مثال آخر من انطباعاته خلال رحلته مع القافلة "تتلاقيك القوافل، أحياناً، فى فترة المساء . وكان دائماً لدى إحداها ما تحتاج إليه الأخرى، كما لو ان كل شئ كان مكتوباً". أنظر إلى هذا الانطباع المستمد من الواقع (الخارجى)، بما يؤكد أن هناك (وحدانية) تحكم الأشياء؛ كى تتكامل معاً، وكأن كل شئ كان مقدراً ومكتوباً منذ زمن بعيد! قابل الفتى مع القافلة شخصية أخرى هو الجمَّال، وتوطدت العلاقة بينهما، فحكى له الفتى مغامراته يوم كان راعياً، وحكى له الجمَّال خلاصة تجربة حياته، حين كان مزارعاً مستقراً فى أرضه بجوار النيل، وحين جاءت الغله أكثرمن المعتاد، قام بتأدية فريضة الحج. وفجأة، فاض النهر خارجاً من مجراه، فدمّر كل شئ، ولم يكن من علاج لحالتهم فاضطر إلى إيجاد وسيلة أخرى للعيش فأصبح جمالا . لكنه استطاع أن يصغى إلى كلام الله: "يجب ألا يخاف أحد من المجهول لأن كل إنسان بإمكانه الحصول على ما يبتغى، وعلى ما هو ضرورى . كل ما نخشاه هو أن نفقد ما نملك، سواء تعلق الأمر بحياتنا أم بزراعتنا . لكن هذا الخوف يتوقف عندما ندرك أن تاريخنا، وتاريخ العالم، قد كتبا باليد نفسها".

هنا، نتقدم خطوة أخرى، على طريق الإيمان، فبعد أن اقتنعنا بأن هناك الها واحدا أحدا يحكم الحياة والكون من حولنا. يجب الا نغتر بما نملك، لأن المستقبل المجهول قد يحمل فى طياته زوال هذا الملك، رغم أننا أدينا ما علينا من فرائض. ولكن لا يجب أن نخاف هذا المجهول سواء تعلق الأمر بحياتنا أو بما نملك، لأن الواحد القدير، سبحانه، يرزقنا ويصرف شئوننا، وهو وحده قد كتب تاريخنا وتاريخ العالم! كما ان القافلة ذاتها مثال آخر من الواقع الخارجى، معادل لحياة البشر، ما أن نبدأ بالسير فيها، حتى لا يمكننا التراجع، عندئذ، يصبح الحل الواحد أن نمضى إلى الأمام. وأن نتقدم بأفضل أسلوب ممكن، غير هيابين لأى خطر من المستقبل، فهذا أمر موكول لله وحده سبحانه! خلال بحث الأنجليزى والفتى عن الخيميائى فى الواحة، اقترب الفتى من فتاة ليسألها عنه، فإذا به يقع فى حبها من النظرة الأولى، وكأنه كان "مكتوبا"! هنا، تصعيد محسوب بدقة متناهية، على ذات درب (الإيمان). تنويعه أخرى لخلاصة تجربة الجمَّال، حين يختزل الماضى والمستقبل فى لحظة حياة حاضرة. أو ليس هذا ولوجا إلى لحظة من المستقبل المجهول، للفتى صاحب الحلم، حامل أسطورته الخاصة، الباحث عن الكنز، بترتيب من صاحب اليد التى (كتبت) كل شئ، لتدفع بهما ليتقابلا، فيولد (الحب)؟!

وحين أعلن الفتى رغبته فى أن يتزوج الفتاة وتكررت لقاءاتهما، حكى لها عن ماضية، وحدثته عن حلمها بأن تحمل لها الصحراء يوماً أجمل هدية فى وجودها، وها قد تحقق حلمها. ثم حثته على أن يمضي ليحقق أسطورته، فاذا كان مكتوبا لهما أن يلتقيا فسيلتقيان! هكذا، أكمل الفتى رحلته، حتى وصل إلى الأهرام، فجثا على قمة كثيب قرب الأهرام، وبكى شكرا لله، على ما وهبه، حتى آمن بأسطورته الشخصية، وقام برحلته وأتمها، وبدأ يحفر بحثا عن الكنز، وأثناء حفره حاصرته مجموعة من لاجئى الحرب، وقبضوا عليه وفتشوه، وسلبوا ما معه وعذبوه، وتحت ضغط التعذيب، إعترف لقائد الجماعة بسبب قيامه بالحفر، وحكى له عن حلم الكنز الذى رآه مرتين، وحفزه على القيام برحلته، حتى وصل وبدأ الحفر قرب الأهرام بحثا عنه، فأطلق الرجل سراحه ساخرا، بأنه رأى أيضا حلما مرتين حول كنز مخبأ تحت شجرة جميز ضخمة فى كنيسة قديمة بأسبانيا، لكنه ليس غبيا مثله ليعبر الصحراء لمجرد أنه رأى حلما مرتين! عندئذ، فطن الفتى إلى السرّ، ورجع إلى أسبانيا، فوجد الكنز بانتظاره، فى نفس النقطة التى بدأ منها رحلته!

هنا، تطوّر جديد، فبعد أن كانت الموهبة إستعداداً طبيعيا يبزغ لدى أفراد معينين (قصص: "الشاعر"، "أحلام الناى"، "الرجل الذى أراد الشفاء"، رواية " النورس"، ومسرحية "العازف والبحر")، إذا بنا فى رواية "الخيميائى" نكتشف أنه تم اختيار أولئك الأفراد وفق استعداد داخلي كامن بأن يقوم كل منهم بتحقيق أسطورته الشخصية. ثم ينتقل صاحب الموهبة إلى مرحلة التعلّم فى المعتزل، حيث يقابل هناك أستاذ الكلمة الكاملة (قصة "الشاعر")، أو المعلم شيانغ (رواية"النورس")، أوالحكيم كبيرالجماعة "جاكومو" (قصة "الرجل الذى أراد الشفاء"). وإن خرج صاحب الموهبة (فى قصة " أحلام الناى") أولا، ولفترة قصيرة إلى معترك الواقع الخارجى، قبل أن يدخل إلى المعتزل مع العجوز الحكيم. فى حين كان معتزل التعلّم في رواية "الخيميائى"، هو خروج صاحب الحلم وحيدا إلى معترك العالم الخارجى الواسع مباشرة. وفى الوقت الذى كان فيه التعلّم يتم سابقاً بواسطة جهد (مشترك) بين المعلم والموهوب فى المعتزل، نجد أن التعلّم واكتساب الخبرة أصبح جهدا (منفرداً) من الضرورى أن يقوم به الفرد بنفسه وسط تيار الحياة الخارجي الصاخب!

من ناحية أخرى لم يخض صاحب الموهبة تجربة شخصية كاملة مع المرأة بدا ذلك حين هجرالشاعر خطيبته من أجل الشروع فى رحلة تفرّغه (قصة"الشاعر")، بينما خاض عازف الناى تجربة قصيره الأمد  مع فتاة شابة هى "بريجيت" سرعان ما هجرها إلى معتزله، وحين تذكرّها هناك أخبره معلمه أنه نال من تلك التجربة خير ما فيها (قصة "أحلام الناى")، بينما أقبل الفتى (رواية "الخيميائي") على فتاة تدعى "فاطمة" وأحبها، ونجحت علاقة خطبتهما؛ حين كانت حافزاً دافعاً لاستمرار الفتى فى تحقيق أسطورته الشخصية! هنا، أيضا تمت رحلة الفتى واكتملت للمرة الأولى، باطراد وسط معترك العالم الخارجى، فى رحلة بحث خارجية عن كنز مادى حلم بوجوده، غاص أثناءها إلى أعماق الحضارة العربية، وتمت خلال ذلك رحلة أخرى داخلية، معنوية موازية لرحلته الأصلية، تجلّى فيها ظلّ دينى قوى وامتد بطولها، انتهت بيقين الايمان بمعاني الدين الاسلامي، كما كللت رحلة بحثه الخارجية عن أسطورته الخاصة بالنجاح، ولعّل الله شاء أن يكافئه عن جهده، فنال كنزا كان مخبوءاً، كناتج لسعيه الدؤوب للتعمق في تفهم الديانة الاسلامية!

الارتباط بالموطن القديم:

نحن، هنا، إزاء تطوّر لرؤى عدد من الكتاب للمكان الذى يتعلّم فيه صاحب الموهبة فنون موهبته، ويكتسب الخبرات الحياتية المواكبة لها، ففى حين رأى فيه البعض (هرمان هسة، دينو بوتزاتى، وريتشارد باخ) معتزلاً، وان خرج هرمان هسة لفترة قصيرة إلى العالم الرحب (فى قصة "أحلام الناى") قبل أن يؤوب ثانية الى المعتزل، في حين انفتح باولو كويلهو نهائيا على العالم الخارجى، فهو المنبع والمستقر والمنتهى، ووسط معتركه قام الفتى برحلته الطويلة التى امتدت عبر بلدان مختلفة، حتى آب أخيرا إلى موطنه غانما، وقد حقق أسطورته الخاصة، وتعلّم واكتسب الخبرات اللازمة، وتكونت رؤيته الداخلية واكتملت!

فى مسرحية "العازف والبحر" للايطالى اليساندرو باريكو نتابع الوجه المقابل للرحلة الطويلة السابقة، بعد أن تقلّصت وتركزت على مكان محدد هو سفينة وسط البحر، بدا ذلك حين إكتشف عازف الترومبيت أن الفنان عازف البيانو لم يغادر السفينة مطلقا طوال سنوات عمره، حيث تعلّم إن الأرض هى السفينة الأكبر من اللازم بالنسبة له! كانت السفينة رغم حدودها الضيقة هى موطن هذا الفنان. وكان يتطلع منه إلى الحياة فى الخارج، هناك على الأرض، العالم الأكبر بالنسبة له . أمّا أسلوب عمله، فكان يتلّخص فى أنه كان يعرف قراءة الأشخاص والعلامات التى يحملها الناس من أماكن وضوضاء وروائح خاصة بأرضهم وتاريخهم ويضع كل هذا فى كتالوج، يضع له نظاماً وهو يرتب كل ذلك. وفى كل يوم كان يضيف قطعة صغيرة إلى تلك الخريطة الضخمة التى كان يرسمها فى رأسه، كانت كبيرة جدا خريطة العالم كله، العالم بأكمله، من طرف إلى آخر، مدن متسعة جدا، وزوايا البارات، والأنهار الطويلة والمستنقعات، الطائرات والأسود. إنها خريطة رائعة. كان يسافر بعيداً فى حين كانت أصابعه تنزلق على مفاتيح البيانو ليربت على منحنيات موسيقاه.

هنا، استطاع الفنان، بما وهبه الله من استعداد خاص، أن يُحوّل ـ بمضى الزمن ـ مجال موطنه المحدود، إلى رؤى داخلية تتسع وتتنامى باستمرار، وهى ترسم لوحة باهرة للعالم الخارجي اللامحدود، مستوعباً فيها قوانين الحياة ومصائر البشر وحركة الكون من حوله. وهكذا كان إذا شاء أن يبدع، فإنه كان يرحل بخياله أثناء العزف إلى بقاع الأرض المختمرة فى أعماقه، وكان يسافر فى كل مرّة الى مكان مختلف! لم يرض ذلك صديقه عازف الترومبيت، ولم يفهمه؛ لأنه كان يريده أن ينزل من هذه السفينة إلى الأرض يوماً ما، وأن يعزف لسكانها، وأن يتزوج من امرأة لطيفة وينجب أطفالا. أى يمارس كل الأشياء التى تحدث فى الحياة، وبمعنى آخر أن يعيش حياة عادية مثل كل البشر. لذلك رأى فى عدم نزوله جبنا وتراجعاً لا يتفق مع عزفه الجيد . هكذا ثار لديه سؤال: كيف يمكن لشخص ليست لديه الشجاعة كى ينزل من سفينة غبيه، أن يعزف عزفا جيداً؟! وقد تعرّف على الإجابة من خلال معايشته عن قرب: لأنه "لم يعزف مطلقا فى الموانئ، ولم يرغب فى العزف هناك، فقد كانت الموانئ بالنسبة له هى الأرض ولم يكن هذا يناسبه، فقد كان يعزف حيث يريد، وحيث يريد كان وسط البحر عندما تكون الأرض مجرد أضواء بعيدة، مجرد ذكرى، مجرد أمل . كان هذا هو وضعه".

لقد توصّل عازف الترومبيت إلى بعض (مبررات) عدم نزول الفنان الى الموانئ. كانت القضية فى (الأصل) قضية (فنية) ولم تكن قضية مكان. كان العزف يأتى أولا؛ ليحدّد المكان والمستقر، وكانت السفينة تعجبه فصنع منها صومعته التى انعزل فيها عن العالم الخارجى. كانت هى منطقة خبرته ومحّل عمله، الذى أشبعه وكفاه، بحيث لم تعد تعنيه الأرض بكل ما عليها من مال، جاه، وسطوة، بل أصبحت مجرد أضواء بعيدة، مجرد ذكرى، مجرد أمل. كان العازف زاهدًا معتكفا فى صومعته أو (سفينته) يعمل فى صمت قانعاً راضيا بما اكتشف، لذلك لم تعد تعنيه أضواء العالم الخارجى أو تجتذبه!

*     *     *

ولكن هل كان حتما أن يستمر الفنان هناك إلى الأبد؟!

لقد حدث فعلاً تحوّل خطير للفنان، حين قرّر فجأة بعد أن أمضى على السفينة اثنين وثلاثين عاما، أن ينزل إلى الأرض فى نيويورك، وحين توقفت السفينة هناك، هبط أول درجة، مندفعا إلى الأعمّاق البعيدة متوحداً مع ذاته كمن يمضى إلى مصيره، ثم هبط الثانية مستمرا فى رحلته. لكنه توقف عند الدرجة الثالثة لفترة، أعطى بعدها ثانية من جديد ظهره للعالم الخارجى وعلى وجهه ابتسامة عجيبة، ورجع كمن تغيّر شئ فى وجدانه ليرتقى الدرج عائداً إلى مستقره الآمن! ومن حكاياته المتناثرة مع صديقه عازف الترومبيت، يمكننا أن نعيد ترتيب الأحداث واستقراءها؛ لنتفّهم على ضوئها ما حدث .. لقد كان يمكن للفنان أن يستمر فعلا على السفينة إلى الأبد، لولا أن قابل فلاحاً إنجليزيا موازيا له، عاش عاكفاً على عمله فى حقله أربعين عاماً (كما عاش هو على السفينة أثنين وثلاثين عاماً مخلصا لعمله عليها)، وإذا بالجفاف ينتزع منه كل شئ، حين مات ولداه من الحمى وهربت زوجته مع أحد الواعظين. الجفاف، هنا، كارثة مفاجئة من فعل القدر، جاءت كمبشر ونذير، لتحذره من إمكانية أن يزول فجأة مستقرّه الآمن (السفينة)، تماماً مثلما حدث للجمّال (رواية "الخيميائى)، حين فاض النهر خارجا من مجراه، فدمّر أرضه، واضطر إلى أن يتحوّل إلى عمل آخر كوسيلة للعيش بدلا من الفلاحة. وإذا كان الفلاح قد تاه بعد الكارثة مشتتا بين أراضى مختلفة حتى رأى البحر، تماماً مثلما تشتت فلاح (رواية "الخيميائى") حتى استقر كجمّال للقوافل فى الصحراء . وهو ما حفـزالعازف على أن يقرّر النزول إلى الأرض وإن اختزل رحلتة فى درجتين ثم توقف عند الثالثة. وإذا كان فلاح السفينة قد توصل أمام البحر إلى "ان الحياة شئ لا حدود له" (كما توصّل الجمال إلى ألاّ يخاف من المجهول، بعد أن أدرك "ان تاريخنا، وتاريخ العالم، قد كتب باليد نفسها "، و" لأن كل إنسان بإمكانه الحصول على ما يبتغى، وعلى ما هو ضرورى"). وهو نفس ما توصّل إليه العازف خلال تجربته، وذلك عندما بدا أمامه بعض البشر فى عالم السفينة المحدود كلوحة مفاتيح بيانو محدودة. أما إذا خرج إلى العالم الواسع، حيث لوحة البشر لا نهائية، و"على تلك اللوحة لا توجد موسيقى يمكنك عزفها، فأمام هذا البيانو يمكن فقط للاله أن يعزف".

هكذا تراجع الفنان، موزعّا بين الرغبة فى النزول والخوف من تنفيذ ذلك، تطارده أشباح تردده، تكاد تدفع به إلى حافة الجنون، فلم يجد خلاصه إلاّ فى البقاء في موطنه القديم وإبداع الموسيقى. وأنظر إليه وهو يعبّر عن تلك التجربة "أنا، من لم تكن لديه القدرة على النزول من تلك السفينة، نزلت من حياتى لأنقذ نفسى، درجة تلو درجة، وكل درجة كانت عبارة عن أمنية وفى كل خطوة كنت أودع أمنية"؛ لقد وجد الفنان خلاصه فى (الفن)؛ " لقد كانت الأمانى على وشك أن تنزع روحى، كان يمكننى أن أحياها ولكننى لم أنجح فى ذلك؛ فقد  سحرتها، وتركتها واحدة تلو الأخرى خلفى". لقد ضرب (سحر) الفن حياته، فنزع تعاسته وأنساه أمانيه الخاصة، ومنحه بهجة الإبداع وسعادته؛ لذلك كان منطقياً، حين تقرّر إغراق السفينة بالديناميت بعد أن فقدت صلاحيتها أثناء الحرب، أن (يختار) أن يبقى على متنها، وفياّ لعالمه الخاص، مخلصاً له حتى اللحظة الأخيرة!

*     *     *

تفسير تحوّل:

رغم منطقية التفسير الذى ساقه العازف لتراجعه عن النزول والبقاء فى السفينة، إلاّ أن ذلك التفسير يمثل جزءاً من الإجابة، حين يظلّ مشهد نزول العازف درجة، درجتين، ليتوقف عند الدرجة الثالثة لفترة، ثم يتراجع صاعداً، ليستقر حتى النهاية  فى مأواه الآمن، الذى عركه وأحبّه جيدا. وهو ما يستدعى مشهداً مشابهاً من قصة "الرجل الذى أراد الشفاء"، وذلك حين لم يرضخ الشاب النبيل "مسيريدون" لمرض الجزام، كبقية الأفراد المرضى، وآمن إيمانا راسخا (بحلمه) الخاص بأنه سيشفى ويعود إلى قصوره وأملاكه، عندئذ حذرّه عجوز حكيم يدعى "جاكومو" تجاوز المائة من العمر بعشر سنين، قائلا "لم يخرج أحد أبداً . هذا هو حال مرضنا". هنا، أوضح له الشاب أن الأمر ليس كما ظنّ، ثم استطرد موضحا "أننى أملك وسيلة للشفاء. إننى استخدم الصلاة ببساطة" . ثم قارن بين صلاتهم وصلاته "إن الصلاة التى تقومون بها تعّد مزاحا. إن الصلاة الحقة مشقة ضخمة . إننى فى المساء أصلى منهكا من الجهد . كم هو قاس على أن أشرع لتوى فى الصلاة بمجرد استيقاظى فى الفجر . إن الموت يبدو لى أحياناً أفضل . لكننى بعد ذلك استجمع قواى وأركع".

هنا، شكلّ المرض الرهيب تحدياً أما الشاب الفنان استنفر حواسه وقدراته، فعكف على ذاته، معتزلاً الحياة العادية للمصح، متوحدًا، فى صلاة قوية مستمرة، مبتهلا إلى الله أن يمّن عليه بالشفاء، تماماً  كما يؤوب الفنان – كناسك – إلى صومعته، متفانيا فى استيعاب تجربته، معانيا أشد المعاناة، حتى تنضج تجربته بعد أن تتبلور رؤيته الداخلية، مع بقاء مغريات المدينة من جاه وثروة هدفاً خارجيا ظاهرا أمام عينيه يحفزه ويشجعه باستمرار، تماماً مثلما حفزت الشهرة الشاعرعلى الإقبال على هجر الواقع والاعتكاف فى المعتزل (قصة "الشاعر"). ورغم أن العجوز جاكومو استعاد أمامه تجربة مماثلة قام بها فى صدر شبابه، واستمرت سبعة أشهر، لكنه لم يستطع الصمود اكثر من ذلك، فإن الأمير ظلّ ثابت العزم، مؤمنا بهدفه النبيل، لا يحيد أبداً عن مسعاه مهما تكبد فى سبيل تنفيذه من مشاق! هكذا استأنف "مسيريدون" صلواته، وهو منعزل فى كوخه، وبعد سنتين فحصه الطبيب، فاكتشف بقاء نقطة صغيرة من المرض على خنصر أحد القدمين، فبدأ الأمير من جديد رحلته عبر طريق الآلام، حتى انقضت خمسة أشهر، وحين كاد أن يستسلم، مرّر يده على موضع النقطة كما اعتاد أن يفعل كل يوم، فلم يجدها!لقد انتهت الرحلة أخيرا، وبلغ الأمير الفنان مراده، حين كافأ الله جهوده، ومنّ عليه بالشفاء (النضج) الكامل. وحين فتح الحارس باب المصح، ابتسم الشاب لمشهد الحرية، حين "لاحت عشرات الآلاف من أشكال الحياة، ومن الفرص، من النساء، من المرح الغامر، من ألوان الفخامة؛ من المغامرات، البلاط، الدسائس، السلطان، الأسلحة . إنها مملكة الإنسان!"

ولكن، ما هى إلاّ لحظة، حتى شحب وجه الشاب؛ حين تغيّرت الرؤيا أمامه فجأة . وبدلا من الأبراج والقباب، رأى مجموعة متشابكة قذرة من الديار المهجورة المتربة، تنهمر منها النفايات، والفاقة، وبدلا من الرايات فوق الأسطح، كان غمار معتم مطبقا كغبار فاسد. عندئذ علل له العجوز حقيقة ما حدث، قائلا "لقد شفيت ولكنك لم تعد كما كنت من قبل. من يوم ليوم، وبينما كانت رحمة القادر تعمل بداخلك، كنت تفقد دون أن تدرى لذة الحياة. كنت تشفى لكن الأشياء التى من أجلها كنت تتعذب كى تشفى، كانت تنفصل عنك شيئا فشيئا، كانت تتحول إلى أشباح، الى سفن هائمة فى يمّ السنين!" هنا، وباللعجب، عندما أصبحت قطوف المدينة دانية أمام الأمير، لم تعد تغريه؛ لأنه خلال الفترة التى كان الآخرون يتابعون فيها رحلة شفائه نضجه الخارجية البطيئة، كانت هناك رحلة أخرى داخلية موازية أشقّ وأصعب تدور رحاها فى ذات الفنان، تبدو كالمطهر، حيث تشفّ روحه وتصفو، وتزول الغشاوة عن عينيه، فإذا به – كقديس – يستبصر بعضا من قوانين الحياة وحركة الكون من حوله، وهو يرى سبيل الإنسان المعذّب على درب الآلام، ويلمس شقاء البشر، انكساراتهم، سعيهم الخائب وراء أوهام عظمة، قوة، شهرة، سلطان، وجاه، مآلها جميعا إلى زوال!

هنا، يمكننا أن نتفهم كيف تحوّل الأمير الفنان حين لم تعد تعنيه مظاهر الخارج، بريق المناصب، أضواء الشهرة، وألق المجد والصولجان، فإذا هو يتواضع، ويركن إلى الظل (كما فعل الشاعر من قبل)، إلى عالمه الحق، ليمد يده إلى أخيه الإنسان (كما فعل العازف حين تراجع وعاد إلى مأواه القديم)، ليقدّم لأحبائه قبسا مما غنم أثناء رحلته (كما فعل النورس)، يجتهد أن يكون جديدا، مبتكرا، وأصيلا يسرّى به عنهم، ويعينهم على مجابهة الحياة!

*     *     *

فى رواية "الخيميائى" تنويعة أخرى بدت على ذات تيمة التحوّل، بعد لقاء سانتياغو مع الإنجليزي، الذى أفنى ثروته وحياته مع كتب الخيمياء، وذلك خلال رحلة سفرهما مع القافلة، فحدثت عملية تبادل انتهت بأن تحوّل الانجليزى عن كتبه إلى الواقع، ليراقب ما يجرى خلال سفر القافلة، وتحوّل الفتى إلى كتب الإنجليزي، فغاص فى عالمها الغريب، عالم الخيمياء والخيميائيين العظام، الذين كرسوا حياتهم بكاملها لتطهير المعادن فى المختبرات، لأنهم كانوا يعتقدون أنهم إذا ما وضعوا معدناً فى النار، فانه خلال سنوات وسنوات، سيتخلص هذا المعدن من كل صفاته الخاصة، ولا يبقى مكانه إلاّ  "روح العالم"  وهو ما يسمونه "العمل الكبير" المكون من جزء سائل يسمى إكسير الحياة الطويلة، وجزء صلب يسمى "حجر الفلاسفة"، الذى يكفى جزء صغير منه لتحوّل كمية هائلة من المعادن الرخيصة إلى ذهب.

أماّ تيمة التحوّل فقد أوضحها الخيميائى، أولا، للفتى، وذلك حين قال له "عرفت خيميائيين حقيقيين . كانوا يسجنون أنفسهم فى مختبراتهم، ويحاولون أن يتطوّروا مثل الذهب، اكتشفوا حجر الفلاسفة؛ وذلك لأنهم قد فهموا أنه عندما يتطوّر الشئ، يتطورّ مثله كل ما حوله". هنا، رحلتان متواكبتان، تحدثان فى ذات الوقت، إحداهما خارجية تتم على المعدن، والأخرى داخلية تجرى على النفس البشرية، الأولى ظاهرة، مرئية، الثانية خفية، سرية الأولى تتم بفعل إرادة بشرية يحكمها الإصرار، والثانية تحكمها الإرادة الإلهية وتتم بشكل لا ارادى. الأولى تهدف إلى التخلص من الصفات الخاصة للمعدن وصولا إلى جوهره الأصلى، والثانية تسقط أثناءها كل أوراق الحياة المادية، ولا يبقى سوى الأصل. ويكمن تعليل ذلك تارة على مستوى أفعال بسيطة من حياتنا اليومية، مثلما تذكر الفتى "بائع البللورالذى قال له ان تنظيف الأوان البللورية كان أمرا جيدا؛ بذلك يجد الطرفان نفسيهما محررين من الأفكار السيئة "، وتارة أخرى على مستوى أعمال كبيرة، كما أوضح الإنجليزي للفتى، حين قال "لقد بقى الخيميائيون سنوات عديدة فى مختبراتهم يراقبون تلك النار التى كانت تطهر المعادن . وبقدر ما كانوا ينظرون إلى النار، كانوا يصلون فى داخلهم إلى التخلّى عن كل أباطيل العالم . ثم ما لبثوا أن لاحظوا، ذات يوم، أن تطهير المعادن قد طهرّهم، هم بالذات، فى نهاية المطاف".

والآن، إذا شئنا أن نتفهم هذه المعادلة، فإننا نستنتج أن هناك عنصراً حاكما للعملية بأكملها، إنه العمل، عمل دؤوب مستمر، يتسم بإصرار عنيد لا يتراجع ولا يتوانى، مبعثه موهبة أو استعداد خاص، أو حلم، أو رؤيا، يحفزه إخلاص وايمان قوى لا يتزعزع، وهو نفس ما توصل إليه الخيميائى، حين قال "لا توجد إلاّ طريقة واحدة للمعرفة، إنها العمل". وربمّا من أجل تحقيق هذا النوع من العمل، آمن الفنانون، الذى درسنا نماذج لهم، بأهمية العزلة، التى توفر للفرد الهدوء والتركيز والإتقان حتى يحقق أهدافه النبيلة وأن يعيشوا أسطورتهم الذاتية، وهو ما أوضحه الخيميائى للفتى، حين قال "إن خطأ الخيميائيين الآخرين أنهم كانوا يكتفون بالتفيش عن الذهب. يبحثون عن كنز اسطورتهم الشخصية دون الرغبة فى أن يعيشوا الاسطورة بذاتها". وهو ما علله عالم النفس الفرنسى "بيير داكو"، حين أشار الى أنه "يختفى الهدف هنا، لأنه لم يعد ثمة هدف محدد. المهم فقط هو الطريق مع اكتشافاته المتلاحقة، ومناظره المتجددة بلا انقطاع، وآفاقه التى تدعو إلى متابعة السفر. يتحول الخيميائى فى الوقت الذى يتابع فيه تحويل المادة "(9).

أي أنه فى الوقت الذى يكون فيه الفنان منكبا على عمله، متفانيا فى آدائه، مكتفيا بمجرد الاستمرار، قانعا بما يكتشف، أثناء ذلك يحدث تحوّل من الواقع الخارجى، بعد أن تحرّر من أدرانه وطموحاته الزائلة وأفكاره البالية، إلى داخل الفرد، إلى أعماقه، إلى روحه،  فهذا هو السبيل الحق، وهذا هو الطريق، وهو نفس ما توصل إليه الكاتب الإنجليزي جراهام جرين، حين قال " مع الرواية، التى قد تستغرق كتابتها سنوات، لن يكون المؤلف فى نهاية الكتاب كما كان فى البداية. ليست شخصياته فقط هى التى تطوّرت، لقد تطوّر معهم أيضا"(10). عندئذ يشرق نور الروح قوّيا، مشعاّ، هاديا إلى الحب .. حب الاله، وحب الآخرين، وحب كل الكون من حولنا! إنها نفس (الرؤيا) التى سبق أن توصل إلى كبار الكتاب والفنانين، وتجلّت وتكاملت عبر أعمالهم!

الهوامش:

(1) هسه، هرمان: مجموعة قصص "أحلام الناى" . ترجمة فؤاد كامل. دار الشؤون الثقافية العامة .بغداد 1986 قصة "الشاعر" من ص 27 حتى ص34

(2) المصدر السابق . قصة "أحلام الناى" من ص35 حتى ص43

(3) بوتزاتى (دينو): مجموعة قصص "من قصص دينو بوتزاتى" ترجمة حسن رفعت فرغل الهيئة المصرية العامة للكتاب . القاهرة 1984 . قصة "الرجل الذى أراد الشفاء" من ص97  حتى ص 104

(4)  باخ (ريتشارد): رواية "النورس: جوناثان لينفكستون) ترجمة: عزة كبه . مراجعة شفيعة الداغستانى. دار الشؤون الثقافية العامة . بغداد 1986.

(5)   كويلهو (باولو): رواية "الخيميائى:حجر الفلاسفة" . ترجمة فارس غصوب . الدار الجماهيرية للنشر والتوزيع والإعلان . ليبيا؟

(6)   باريكو (اليساندرو): مسرحية "العازف والبحر" . ترجمة: أمانى فوزى حبشى . مراجعة: سعد أردش . مجلة "الفن المعاصر" التى تصدر عن أكاديمية الفنون – العدد الثانى: خريف 2000 . من ص520 حتى ص568.

(7)   كافة الاستشهادت بين أقواس، ثم استخراجها من العمل المشار إليه.

(8)   هناك ترجمة أخرى لرواية "الخيميائى أو حجرالفلاسفة" لباولو كويلهو، قام بها  بهاء طاهر ونشرت تحت عنوان " ساحر الصحراء"، وصدرت عن دار الهلال بالقاهرة  يوليو1996 .

(9)   داكو (بيير): "من السجون الى الحرية" ترجمة سامى علام ص 184 – دار الغربال دمشق – ط 1 – 1992 .

(10)          The portable Graham Greene. Published in penguin BooKs,

U S A, 1994. The Novelist and the Short Story  p.491