هذه مراجعة لكتاب أمريكي عن الفن التشكيلي يترجمها الباحث العراقي، ليوسع بها أفق رؤويتنا للفن والقيمة الجمالية للقبح، ويطرح من خلالها قضايا الأصالة والتعبير الخيالي والإباحية والرمز والقضايا الأخلاقية وغيرها من قضايا الفن الجمالية والفكرية.

الفن الكاشف والقيمة الجمالية للقبح

في الفن التشكيلي

جوناثان نيوفلد

الفن الكاشف هو نمط من القضايا التي تستكشف بحيوية ما يتعلق بأهمية القيمة value في الفن. وقد قدم ماثيو كيران سلسلة من المناقشات الخلابة التي أضاءتها أمثلة مأخوذة من تاريخ الفن البصري الأوربي، منذ رويتجن بيتا إلى لوحة بوسان الافتتان بالعجل الذهبي، وإلى سلسلة أعمال جيليان ويرنج علامات. وحين تناول كيران مختلف المشكلات في الفلسفة التحليلية للفن، فإن فهمه المتعدد لوظائف القيمة الفنية قد ظهر للعيان. فكل فصل يركز على قيمة محددة أو مجموعة قيم مترابطة على نحو وثيق لكن، وكان الأمر أكثر من كونه تقسيماً مباشراًً إلى مناقشات مشتقة من الأدبيات الحديثة في الفلسفة، اقترب كيران من حدوس القراء حول الأمثلة الملموسة بطريقة تكاد تكون حوارية حتى يكون غاياته الفلسفية. ونتيجة لذلك، فسيكون في الكتاب ما يقدمه للمتخصصين وغير المتخصصين على حد سواء. يناقش الفصل الأول قضية أن التجربة الجمالية ليست هي القاعدة، أو حتى أنها ليست بالأمر الأساسي، لأصل القيمة الفنية. فمن خلال مناقشة سلسلة من الأعمال المزيفة والأعمال التي تتسم بالكمال، يجادل كيران من أجل أهمية القيم الرومانسية للأصالة والتعبير الخيالي. ويركز الفصل الثاني على ما يظل ماثلاً من الجمال بعد الانتقاص من التجربة الجمالية. ويبحث الفصل الثالث فيما إذا كان الفن يسهم في استبصارات تدعم فهمنا للعالم، وكيف يحدث ذلك. يستهل دفاع عن إمكانيات الفن الإباحي مناقشة كيران لمسألة وثاقة صلة الرمز الأخلاقي للعمل بقيمته الفنية في الفصل الرابع. وأخيراً، يقترح الفصل الخامس فهماً إنسانياً أوسع لتقويم الأعمال يقترب من كل القيم التي نوقشت في الفصول السابقة.

تقدم خلاصة الكتاب، في الوقت نفسه، مظهر الاعتدال والوضوح. وفي حالة النظر في كل قيمة كبرى، يجري التوصل إلى نتيجة هي صيغة معتدلة مشابهة: "إذا ما أخذنا ما ينبغي أن يكون عليه كل الفن بوصفه وجهة نظر، إذا ما أخذنا المبدأ القائل بأن الفن ينبغي أن يقوم فقط من خلال مثل هذه المصطلحات، فإنه سيفقد اللمحة الخاصة بالكثير مما يجعلنا نقدر الفن حق قدره."(46) في هذا المقطع بعينه، يشير كيران إلى التعبير الخيالي، ولكن الضمير في (إنه) يمكن أن يستبدل بأي مبدأ يناقشه كيران. وفي كل فصل، يجري قبول قيمة محتملة ويجادل كيران ضد أولئك الذين ينكرون أو الذين يغالون في الدور الذي يمكن أن تلعبه القيم في الممارسة الفنية. فمثلاً، في الفصل المخصص للقيمة الإدراكية للفن cognitive value يفحص كيران الاحتمال بأن الحقيقة يمكن أن تلعب دوراً يغني عملية التقويم الفني فيقول: 

"إن تحديد قيمة الأعمال على وفق مصطلحات مشتقة من التبصر وسعة الرؤية والتعقيد والاهتمام والتماسك والاتساق والعمق أو الوضوح فيها... يتضمن جملة من الأفكار التي يعتمد بعضها على بعض على نحو متبادل وتتوسطها فكرة الحقيقة. فالأعمال الفنية يمكن أن تكون حقاً واسعة الرؤية ومع ذلك تكون منطوية على الخطأ أو كونها حقيقية بالنسبة لما في الحياة من ما هو مبتذل؛ فالرؤى يمكن أن تكون منحازة أو جزئية. ولكن ذلك لا يبرهن أن الحقيقة هي دائماً غير ذات صلة بالموضوع. وكل ما تجري البرهنة عليه أن هناك الكثير من المزايا والفضائل العقلية المؤثرة مناسبة للفن، وليست الحقيقة سوى أحداها (ص 126)".

وفي الجمل الختامية من الفصل الذي يبحث في دور الجمال في الحكم على الفن وتقويمه، يناقش كيران ضد أطروحة عمانوئيل كانت في الحكم الجمالي، يكتب، "ينبغي علينا أن نثمن قيمة الجمال وكل ما يتعلق بذلك من الاهتمامات الجمالية. ولكن ذلك ليس كل ما يمكن أن يقال بشأن قيمة الفن" (98). وفي كل حالة، يقدم كيران نظرية معتدلة منطقياً تتحاشى المطلقات والمزاعم الكلية ـ الحقيقة والتبصر، الجمال وتقويم الفن والشخصية الأخلاقية، كلها يمكن أن تلعب دوراً في تقدير العمل الفني. إن العودة المتكررة والملحاحة إلى الفروض النظرية المعتدلة (وتشمل النزعة الإدراكية المعتدلة، والصيغة الآسرة للنزعة الأخلاقية المعتدلة، والنزعة التعبيرية المعتدلة) تكشف عن نزعة مركزية لتعدد الوظائف، تلك التي ربما تبدو ابتداء ً كما لو كانت نوعاً من التراجع إلى معتقد أساسي حسي ومريح. ولكن نظرة مدققة أكثر حول الكيفية التي يتوصل بها كيران إلى نتائجه تظهر بأن تعددية الوظائف لديه أكثر جرأة ومغامرة، وأن المعتقد الأساسي المتوسط هو مريح على نحو أقل مما تشيعه عبارة مكشوفة من نتائجه المعتدلة.

ففرضياته المعتدلة منطقياً تبرز عادة من نظريات بديلة متحدية، وقد يقول المرء، أنها أمثلة مضادة غير مريحة لهذه النظريات. على سبيل المثال، يجادل كيران بأن الجمال، إلى حد ما، لا يمكن أن يكون قيمة كونية شاملة للفن لأن البشاعة والقبح وما يثير الاشمئزاز كلها يمكن أن تكون قيماً فنية إيجابية. وكان كيران مهتماً في أن يشير إلى أنه لا يصوغ زعماً واهناً أنه، في بعض الظروف، فإن ما يمكن أن يعد بطريقة أخرى بشعاً، يمكن أن يكون جميلاً. وفي مناقشة بعض أعمال جيني سافيل، يطور كيران المناظرة القائلة بأن البشع والمثير للاشمئزاز والقبيح يمكن أن تسهم، بحد ذاتها، إيجابياً في قيمة العمل الفني. وعلى أية حال، أن يذهب المرء أبعد مما ينبغي، والوقوع في نزعة عدمية منحرفة يكون فيها البشع والقبيح على الدوام يمثل قيماً هو من قبيل ارتكاب الغلط. فأين يكمن الاختلاف بين الانحراف المنحط والعدمي من جهة والشاهد الصحيح فنياً للقبح grotesque؟ يرفض كيران بعزم وتصميم أن يبدد صعوبة الموضوع من أجل القارئ ويبدو أنه يتقبل الخطر، خطر العدمية الذي أحدثه التقويم الإيجابي لما هو بشع في الوقت نفسه الذي يحذر بالضد من الخضوع للعدمية. وعلى هذا، فبينما حتى المزاعم الجريئة هي منطقياً معتدلة، فإنها لا تخدم في تحديد دافع وسطي مريح، الأكثر من ذلك أنها تخدم في توكيد حاجات تعدد الوظائف وتحديات الاشتراك في "مناقشة الفن" (219).

في الحقيقة، يكون كيران أكثر جرأة، فحين ينصح بما يرقى إلى ما هو أقل تشجيعاً من الفرضيات، وذلك حين يكون في أكثر حالاته اعتدالاً. ففي الفصل حول الصلة الوثيقة بين القيمة الأخلاقية والفن، يزعم أن المكانة الأخلاقية للعمل يمكن أن تكون وثيقة الصلة فنياً بأربعة طرق:

1 ـ يمكن أن تسهم الرسائل الجيدة أخلاقياً في القيمة الفنية للعمل.
2 ـ يمكن أن تحط الرسائل السيئة أخلاقياً من قيمة الفنية للعمل.
3 ـ يمكن أن تحط الرسائل الجيدة أخلاقياً من قيمة الفنية للعمل. وأخيراً،
4 ـ إن الشخصية السيئة أخلاقياً يمكن أن تثري القيمة الفنية للعمل.

و أية فرضية أكثر اعتدالاً، إذا ما أخذنا هذه المتغيرات بالحسبان، لن تكون ممكنة التحقق. فالمتغيران (3) و (4) يتضمنان أكثر المناظرات إثارة للدهشة وهما، بارتباطهما مع دفاعه عن الفن الخليع والإباحي، يكشفان ما تتطلبه نزعة تعدد الوظائف عند كيران المعيارية الكامنة. وكون بعض الحالات يمكن أن تحط الرسائل الجدية أخلاقياً من قيمة العمل الفنية ليس أمراً مثيراً للدهشة الشديدة ـ فالأخطار الفنية للروح الوعظية قد جرى تحديدها منذ قرون. وإن مناظرة كيران، الذي استعمل سلسلة أعمال نورمان روكويل أربع حريات التي انتهى العمل فيها في منتصف الحرب العالمية الثانية بوصفها إنموذجاً، هي مناقشة مع كل ذلك تنويرية تماما. إذ بينما تكون "العواطف والمواقف المعروضة موضع إعجاب عميق والرسوم أبعد من أن تكون فقيرة فنياً" فإن الرسوم أسوأ لأن "العواطف المستحسنة أخلاقياً قد جرى الفوز بها على نحو رخيص وهين" (184) إن الأسلوب التمثيلي الذي يتم تلقيه بسهوله، والإسهام اللطيف لكل العناصر الشكلية للرسم في عرض المحتوى الأخلاقي يرتبطان ليحطا من قيمة العمل. فلا معتقد، سواء أكان أخلاقياً أم غير ذلك، يجري إغناؤه أو إلقاء الضوء عليه وتوضيحه ـ فكل شيء اعتقد به الجمهور وشعر به قد جرى ببساطة توكيده على نحو مريح. وبينما كان كيران مهتماً وحذراً في أن يزعم أن الجمهور لا ينبغي أن يجري تحديه لـ (يغير) معتقداته بوساطة الفن الجيد جميعه، فإن كل الفن الجيد يجب أن يغرينا في أن ندخل في اشتباك تأملي مع معتقداتنا، حتى وإن كانت هذه المعتقدات ستؤكد في النهاية. ولكونها تنطوي على الإكراه الذي يمكن أن يكون عليه هذا المثال، فإن المناقشة لم تصب تماماً هدفها في إظهار أن جودة الأخلاق وصلاحها نفسه يمكن أن يكون نقيصة فنية. وبدلاً من ذلك، يؤسس كيران لمفهوم أن التقديم السهل لجودة الأخلاق وصلاحها ـ وكأن المعتقدات والعواطف الأخلاقية تأتي دونما نضال وجهد ـ إنما هو عيب فني.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ترجمة لمقالة تعرض لكتاب:

Matthew Kieran، Revealing Art، Routledge، 2005.

و هي منشورة في:

Notre Dame Philosophical Reviews. Site Last Modified:

23/7/2008