في دفاعه عن الشعر والفلسفة يكشف الناقد المغربي هنا أن الشعر والأدب والفلسفة وكل الأشكال الثقافية والمعرفية التي تتجسد في اللغة، هي التي تبني الكيانات والمجتمعات والدول، وبدونها لا يمكن أن تقوم لها قائمة، إنها ليست فقط منتجة للرأسمال والوظائف، وإنما هي منتجة للدول والأوطان والهويات الحضارية والتاريخية.

في الشعر والفلسفة بصيغة أخرى

عبد الرحمان غانمي

ليس كل ما يكتب أو يقال يرد عليه، أو يناقش، لكن حينما يصدر القول عن مسؤول يتموقع في الصفوف الأولى من نظام الدولة، يصبح الأمر مدعاة للتساؤل والريبة. ما معنى أن يتم التصريح بأن الشعر (ومعه الأدب) والفلسفة غير منتجين للثروة؟ أي تفكير سوي هذا، والحال أن كل أشكال التفكير الإنساني في مجالات الأدب والفلسفة والتاريخ إلخ، وأيضا العلوم الدقيقة بمختلف تخصصاتها، والتكوينات المهنية، بمعنى كل ما ينتجه الإنسان لا يمكن أن يتم خارج إطار اللغة، الوسيلة "السحرية" التي ابتكرها الإنسان، ولا يمكن للغة أن تستوي وتستقيم إلا من خلال كل التعبيرات الأدبية والفنية، وهل يمكن لأي إنتاج مهما كانت طبيعته أن يتشكل خارج هذا الإطار اللغوي والأدبي الذي ليس شأنا زائدا وللترف، ولا نريد أن نستفيض في هذا الأمر، فقط نشير إلى أن كل المجتمعات والثقافات تعتز بهويتها الأدبية والجمالية والفكرية، وكثير من الأيقونات في هذه المجالات كان لها أثر بالغ على مستوى تطور الإنسانية. وعلى أية حال، فإن معاداة العلم والمعرفة والفلسفة والأدب ليس أمرا جديدا في تاريخ الإنسانية، ما أكثر الذين كانوا يحاربون الفلسفة والشعر والأدب عامة، ولذلك حوكم سقراط وأعدم كثير من الشعراء، يقول ابن الرشد : "وإذا اتفق ونشأ في هذه المدن فيلسوف حقيقي، كان بمنزلة إنسان وقع بين وحوش ضارية، فلا هو قادر على أن يشاركها فسادها، ولا هو يأمن على نفسه منها، ولذلك فإنه يفضل التوحد وعيش عيشة المنعزل."

ويضيف قائلا: "ومن هذا النوع من الناس، تظهر فئة  السفسطائيين القائمين على أمر هذه المدن ممن يعرضون عن كل ما هو جميل كالفلسفة وغيرها، ويستحسنون كل ما هو قبيح، وبالجملة كل الشرور المدنية الواقعة في مثل هذه المدن، أما آراؤهم وتسلطهم على المدن فهي أكثر أسباب ضياع الفلسفة وانطفاء نورها وستعلم إذا ما تفحصت الأمر أن أمثال هؤلاء الرجال هم أكثر عددا في هذه المدن فإذا ما نجا أحد من الخلق في هذه المدن فإنك لن تعدم الحق، إذا ما قلت بأن الله اصطفاه بعنايته السرمدية" هؤلاء وأمثالهم هم الذين حرضوا على سقراط والمتنبي والحلاج وابن عربي وابن رشد، هم ذهبوا، وطواهم النسيان وأصبحوا في ذمة التاريخ الذي لم يحتفظ بهم في أرشيفه، لأنه يتبرأ منهم، أما الفلاسفة والشعراء، فإنهم بقوا بيننا "أحياء" مادامت أفكارهم وأشعارهم ظلت حية متألقة تخدم الإنسانية في كل حين، لأنهم عززوا من قيمة المعرفة.

ولذلك فإن كل الشعوب والدول تحتفي بتراثها الأدبي والفكري والفلسفي الذي يجسد كياناتها وثقافاتها، وتجعل من ذلك عنوانا لوجودها وحضارتها وتاريخها، هكذا يبدو، على سبيل المثال، لا الحصر أن ابن بطوطة تحول إلى أيقونة مغربية عالمية، ومازال "عملة" مغربية رائجة مائزة بامتياز، وهذا ما ينسحب على سرفانتيس أيقونة اسباني، وبودلير أيقونة فرنسا وشكسبير أيقونة أنجلترا، ودوستوفكسي أيقونة روسيا، وغير ذلك كثير. تذكر الدول بشخصياتها الثقافية والأدبية والعلمية، لا بسحرتها ودجاليها السياسيين والمتربصين بالمعرفة، أما الهجوم على المعرفة الإنسانية بمختلف أشكالها، فهو عين التخلف والتقهقر الحضاري. وكل الحقب والعصور التي عرفت ازدهارا حضاريا وتاريخيا كان الأدب والفكر والفلسفة والعلم العناوين البارزة لذلك، وكل اندحار حضاري كان عاملا رئيسا في الهجوم على الشعر والفلسفة والمعرفة الإنسانية بصفة عامة.ويمكن أن نخلص مع ابن رشد إلى ما يلي:
"وأما من يتعاطون الفلسفة ممن لم تكتمل فيهم هذه الصفات فالأمر فيهم بين أيضا، فهم مع كونهم لا يسدون نفعا للمدن، فإنهم مع ذلك أكثر الناس إضرارا بالفلسفة". ويضيف: "ولا يصدقون أيضا في أقوالهم التي يرهبون بها أهل المدينة فيما يأتون به من تلك الأمور، ويكونون عارا على الفلسفة، وسببا في إيذاء كثير ممن هم أولى منهم بها. كما هو عليه الحال في زماننا هذا".

إن من يعتقد بهذا الشكل هو عدو للمعرفة الإنسانية كان علما أو أدبا وشعرا أو فلسفة،  طالما أن المعارف الإنسانية تتقاطع، ولعل الخاصية الإنسانية المنهجية، هي التي أدت إلى التخصص والتمييز بين العلوم والمعارف، ولذلك فإن التراث العربي القديم، كان يتسم بالنسق الشمولي، حيث إن الكثير من الفقهاء والشعراء والعلماء والفلاسفة، جمعوا بين كل هذه التخصصات، دون أن يبدو أن ذلك فيه نوع من التناقض والتنافر، على مستوى العبور من مجال إلى آخر، ويبدو أن استحضار أهمية التقاطعات المعرفية ما فتئت اليوم تتزايد، وعليه فإن الكثير من الدول الغربية التي بلغ التخصص عندها مداه في كل الحقول، تجد عندها أن الكثير من المواد الأدبية مثل الرواية والمناهج والسوسيولوجيا، يتم إقرارها وتدريسها، ضمن مقررات تخصصات علمية محضة كالطب والهندسة والفيزياء والرياضيات إلخ.  لما لهذه المعارف من أهمية قصوى لتأهيل الفرد والمجتمع ثقافيا وعلميا وجماليا، والأكثر من ذلك فإن التعبيرات الأدبية والثقافية، وضمنها الفلسفة والشعر، لها أثر بالغ على مستوى وجود الدول وهويتها المجتمعية والثقافية، لا يتم بناؤها من خلال الفيزياء والكيمياء ولا الهندسة ولا معادلات رياضية صامتة، مع أهمية كل هذه العلوم بالنسبة للإنسان ورقيه الحضاري، لأن الدول تنشأ من خلال كيمياء خاصة هي كيمياء اللغة والثقافة والأدب، لما لهذه المعالم من أهمية قصوى في تشكيل الهويات الثقافية والوجودية، والجغرافيا ليست عاملا واحدا في تكون الدول والكيانات، ولذلك نجد دولا مختلفة تنتمي لنفس المجال لأن، أول "هواء" يستنشقه الإنسان حين يخرج من رحم أمه هو الثقافة عبر اللغة والتي تتجلى في تعبيراتها الأدبية، وعليه فإن العديد من الكيانات التي تقوم اليوم تعتمد على المرتكز اللغوي والأدبي والثقافي، هذا الكيمياء السحري الذي يلعب دورا حيويا واستراتيجيا في لحمة المجتمع، في ضوء ما أشرنا إليه فإن كل التعبيرات الثقافية والفنية والأدبية هي التي تضمن وتسهم في انتزاع كل أسباب  التفتت الإجتماعي، وليس القرارات ولا القوانين.

إن الشعر والأدب بصفة عامة والفلسفة وكل الأشكال الثقافية والمعرفية الإنسانية التي يتم التعبير عنها والحفاظ عليها بواسطة اللغة، هي التي تبني الكيانات والمجتمعات والدول، وبدونها لا يمكن أن تقوم لها قائمة، إنها ليست فقط منتجة للرأسمال والوظائف، وإنما هي منتجة للدول والأوطان والهويات الحضارية والتاريخية.