يقدم لنا الروائي والباحث السوداني هنا معالجة نقدية لإحدى الروايات السودانية التي لم تنل حقها من البحث والاهتمام، مع أنها سعت إلى التعرف على ما دار في السودان طوال العقدين اللذين فصلا بين انقلابين عسكريين، وما تثيره تلك المرحلة من مشاكل الانشغال بقضايا الهوية وسبر أغوار الماضي.

الاستهلال: مورفولوجيا الزمن .. وحركة السرد

في رواية «الغنيمة والإياب» لمروان حامد الرشيد

أحمد ضحية

هذه الرواية:
ينطلق عنوان هذه الرواية -استراتيجيا- من استرداد الذات بحد ذاتها كغنيمة .. فهو ينهض في العودة (الاياب) من الماضي، كي تستمر الحياة، رغم المرارات والجراحات والفقد. فهؤلاء الشخوص المعذبون -ابطال الرواية- انطلقوا في رحلة البحث عن ذواتهم. سواء كان بالانتماء لتنظيم سياسي، او لحبيبة، او عائلة، او بالبحث عن الجذور السلالية!

تعج هذه الرواية بالهجين والغرباء: الذين من بلدان أخرى (مصر، كينيا، انجلترا) لتؤول في النهاية إلى التعبير، عن لحظة واحدة فقط .. لحظة كونية .. هي لحظة الإنسان المنتمي لذاته، والذي من خلال هذا الانتماء، يحاول صنع حياته بعيدا عن مخلفات الماضي و جرائره!

(الغنيمة و الاياب) عنوان جذاب، يحيل الى قول أمريء القيس: (لقد طَوَّفتُ في الآفاقِ حَتّى/ رَضيتُ مِن الغَنيمَةِ بالإياب)، تعبيرا عن خيبة الأمل! هذا القول الذي أصبح مثلا شائعا، يُضرَبُ للمَرءِ، يَشقى في طَلَبِ حاجته، فلا يُدركها. ويرى دونها الأهوال، فيرضى بالعودةِ سالما فحسب، غانما نفسه: «رضيت من الغنيمة بالاياب».

ومع ذلك لا يخلو عنوان هذه الرواية، من الالتباس! بل وينطوي على غواية فاتنة، مع ذلك. عندما نترك انفسنا لعوالمها، فتأخذنا إلى فضاء شاسع شسوع ذكرياتها، في حنينها ودفئها، ولوعتها والتياعها! هذه رواية لا تخلو من الاستيهام الساحر، بطقوسه الوثنية والصوفية .. كطلسم يعبر عن ميتافيزيقيا الإنسان الشخصية، وهي تتفاعل مع الحب، كأداة من أدوات، العثور على الذات في عالم يتهاوى .. يحاصر الإنسان المعذب بالاغتراب والشجن! علها (الذات) في بحثها الدؤوب تجد (آخرها) .. هذه الذات المعذبة، التي لم يكتمل بناء إدراكها وهذا الآخر، الذي تحمله بداخلها كخطيئة!

عدد ليس بقليل من الروايات السودانية، تناولت العلاقات التي تحكم عمل القوى السياسية، وصراعات الأعضاء داخل التنظيم. حيث كشفت هذه الأعمال التهرؤات التي اعترت الأبنية السياسية والفكرية، والتشظيات التي لحقت بالتنظيم، وصراعات الشخوص المنتمون إليه، بأحلامهم وتطلعاتهم وانكساراتهم الوجدانية والنفسية. أساهم وأسئلتهم الوجودية حول: الذات والهوية والوطن!

الفضاء العام للرواية:
في هذا السياق، يركز دكتور مروان حامد الرشيد، على منطقة محددة من الصراع والتهرؤ السياسي: هي منطقة الحياة الطلابية .. فقد ولدت هذه الرواية من رحم القمع العنيف الذي يتعرض له الطلاب، الذين لا يملكون إزاء مواجهة هذا القمع، سوى براءتهم الوجدانية ومشاعرهم المعذبة، ووعيهم الذي لم يكتمل نضجه بعد، والذي هو زادهم، في التمرد على النسق الشمولي المغلق، الذي سجنوا داخله! فهي رواية تسلط الضوء على منطقة غامضة، في التاريخ السياسي لليسار السوداني، هي اللحظة التي سبقت وعاصرت انقلاب مايو 1969 وتعدته لترسم أخاديد عميقة في مستقبل البلاد، منذ تسعينيات القرن الماضي!

وموضوع القمع الذي مارسته القوى الاستبدادية، يمثل تيمة مركزية لكثير من الروايات العربية. فقد تشكلت رمزية "العسكري الأسود" ليوسف ادريس ووطأة "تلك الرائحة" لصنع الله إبراهيم. كما تشكلت اليجوريات الطاهر وطار في "الحوات والقصر" و"عرس بغل" . ورضوى عاشور في "ثلاثية غرناطة". وبهاء طاهر في "الحب في المنفى" .. فالقمع حولنا في كل مكان تتعدد أسبابه، وتتنوع تجلياته وأشكاله وتتكاثر اساليبه، كالعنف الذي يسري في "مدن الملح" "أن زمن الرواية يولد حين يغدو التمرد، على الأنساق المغلقة، بداية انهيار هذه الأنساق، وحين يواجه الوعي الابداعي، ما يعوق تقدمه. وحين تولد رغبة التحرر العارمة" (1)

الزمن الواقعي لهذه الرواية، هو الفترة التي سبقت وتلت انقلاب مايو 1969 إلى الانقلاب العسكري في 1989 وما تلاه - وهي فترة طويلة جدا، لأحداث الرواية .. حيث مضت فيها، تراقب وتحلل وتشرح: التحولات التي اعترت السلطة والناس، والآثار العميقة، التي تركها هذان الانقلابان على اليسار، وقوى التنوير والتحديث، والوطن وإنسانه!

وتدور أحداث الرواية، في الفترة من خروج الراوي لزيارة صديقه الشاعر في المستشفى، وحتى الفترة التي تلي وفاة هذا الصديق. وبينما يستعين دكتور مروان بالتسجيلي والحرفية نهض -مع ذلك- الخيال والماورائي كاشفا عن مدى جماليات هذا النص العميق، بموقفه من قضايا الانسان. الإنسان فحسب .. الإنسان الأكثر ذاتية، والاشد عمومية. فمن خلال انهيار عالم بأكمله، بعلاقاته الوجدانية والاجتماعية والسياسية والفكرية، الخ .. تنهض هذه الرواية من أطلال وركام هذا الانهيار، لتقول شيئا ما! وتنجح في القول .. عبر شخصيات تتحرك في سياق محتشد، بزخم الذكريات اليانعة، بكل ما تحمله من فشل واحباطات ومرارات وهزائم وجراح، أورثت القلب اعباء، لم يستطع التخلص منها، رغم مضي سنوات طوال. فظل الشخوص حبيسين لهذه الذكريات، التي تعود إلى أيام صباهم في مرحلة حياتهم الطلابية. كل ذلك من خلالهم -هم الشخوص الغرباء- بقومياتهم المختلفة، التي تمت إعادة إنتاجها في وسط عربي، او بهوياتهم الهجين:

"لماذا تتحدثين معي بالانجليزية؟

(...)

- لا تنس أنها لغة امي .. العربية لغة ابي (..) مثل الشاعر (2)

العنصر الأساسي المركزي، الذي يحكم النظام الفني في هذه الرواية: علاقة الطاهر (الشاعر) بهويته النوبية، وعلاقة خالد (التركي) بهويته الغامضة من جهة، وعلاقته بصفية بنت البلد "المؤصلة". وعلاقة حسين (الراوية) الذي يتنازع بين انتمائه لجده لأمه (قدح اللبن) الشيخ الولي الصالح، وجده لأبيه فضل السيد (الفرخ- العبد) الذي لم تتحدد هويته أو مآله، فيمضي في رحلة، شبيهة برحلة الكس هيلي في (الجذور). للتعرف على حقيقة تاريخه الشخصي "الراجح أن فضل السيد، ونفرا ما من اهله او قبيلته، كانوا مسترقين في مكان ما في الشمال (3) وعلاقة كل هؤلاء بجراح هوياتهم، وانكساراتهم الروحية بـ(عبده) عم (صفية) -أحد القيادات الانتهازية في التنظيم- "يفضح عدم انتماء عبده للتنظيم (..) التنظيم نفسه أصبح في مفترق طرق، بعد أن اهتزت مصداقيته السياسية، وأصيب في نفوذه الادبي والاخلاقي اصابة بالغة.(4)

الاسطورة الاصولية، هي الأسطورة ذات الأصل الواقعي، يأخذها الكاتب من الواقع الإنساني المحيط به، تدور دائما حول شيء أو حدث جزئي، يتوقع وجوده أو حدوثه، الا أن الكاتب يسلط عليه من الاضواء، ما يساعد على تفخيمه، وجعله مختلفا عن الواقع، مع أنه قريب منه(5) أبرز مثال لذلك (فضل السيد) والد حسين الراوي، والكيفية التي جاءت بالشاعر إلى هذه الحياة.

إلى جانب استخدام الكاتب، للاسطورة الكونية، بمعنى توظيف الغيبيات، التي سمع عنها وسمع بدورها الذي تؤديه في الحياة (6). كما في تصعيده لشخصية (قدح اللبن) و(مومبي) الكينية!

ويمثل سؤال الهوية لدى شخوص الرواية، سؤالا مركزيا تقابله (الذات) التي يبحثون عنها "أغربة العرب (..) سحيم، خفاف، نسيب بن رباح، سليك بن السلكة وعنترة بن شداد (..) فجميعهم تناول شعرهم موضوعين متصلين اتصالا وثيقا ببعضهما البعض، وهما العبودية والسواد، كرمز كريه في النظام الدلالي العربي (..) كانوا ينحدرون من آباء عرب احرار، سادة في قومهم، وأمهات من أصل أفريقي، في الغالب الأعم كن حبشيات.(7)

"جازاك الله يا تركي. لقد حسمت الى الابد قضية الانتماء ومسألة الهوية. كرهنا العيش في هذا البلد من كثرة الحديث واعادة الحديث (..) عرب أم أفارقة، أفارقة ام عرب؟ عرب بالافريقية وافريقيون بالعربية؟ "مولاي أنت غراب عرب! انت حفيد أغربة العرب.. إن صفات الخليط (الهجين) من النادر أن تثير الاعجاب، لكن التزاوج بين العرب والأهالي (الزنوج) أنجب سلالة منحطة .. سلالة اشد مكرا من الزنوج، لأنها اكثر ذكاء! فكر: من هم "العرب" هنا؟ هل هم عرب الجزيرة. المهاجرون الأوائل؟ ام عرب البلاد ايام حرب النهر، بعد أن اختلطت دماؤهم بدماء السلالات الزنجية؟ (..) ومن انحط بمن؟" (8)

كذلك يلعب الوعي الأسطوري -كما اشرنا- دورا مركزيا من خلال عالم الطاهر (الشاعر) منذ ما يسبق ميلاده "في فلكلور آل داؤود أن الطفل ظل مبتسما اسبوعا كاملا، كان معجبا أكثر من غيره، بالكيفية التي هبط بها إلى العالم (..) في اليوم السادس لميلاد الطفل نام خاله عبد القادر حاج طاهر على الخيرة، فجاءه أبوه حاج طاهر العالم في المنام (..) همس في اذنه: ولادة حفيدي طاهر معجزة (..) وقبل عثمان داؤود اسم طاهر على مضض، وهو الذي ظل ينتظر الولد بنتا أثر بنت، حتى كاد ييأس (..) فالطاهر النوبي الذي يعاني مشكلات اللغة، مثل كل الناس الذين لديهم لغة (أم)، يحاول التغلب على مشكلاته مع اللغة العربية "مرة دفعه الغضب، الى الذهاب الى المدرسة، لمقابلة ذلك الناظر. وحسبما رواه الطاهر الذي حضر المقابلة، فإن والده لم يتورع عن إثارة نفس شكوكه، حول أهمية اللغة العربية ونفعها الحقيقي، وقال للناظر أن الإنجليز لا يتكلمون العربية، ومع ذلك هزموا الألمان، ويحكمون العالم وهم سادة العالم".(9) والأسئلة الحارقة المتعلقة بالذات والهوية، تطال كل شخصيات الرواية، خاصة التركي "سئلت واستفسر عني: من انا؟ هل لي اخوة اكبر مني؟ أصغر مني؟ هل انا من اهل العاصمة أصلا! او ان أهلي نزحوا إليها من مكان اخر؟ ومن أين جاءوا؟ وما هو التركي: لقب ام اسم؟ ولماذا التركي وانا لا اشبه الأتراك من قريب أو بعيد؟ وهل صحيح ان والدي قتل في أحداث التمرد الشهير؟ ثم السؤال الذي وجهه ثلاثة أو أربعة، من أكثر الزملاء فضولا: هل امي جنوبية؟ ومن أي قبيلة". (10) ومن قلب أسئلة الذات؛ تنهض اسئلة التغيير لهذا الواقع الرث بقوة السلاح، لتكون النتيجة أن محاولات مقابلة العنف بالعنف، تجابه بمزيد من العنف المضاد "عبد الحميد ! اتذكره بدقة (..) بعد سنوات، يوم ملأوا جسده بالرصاص في أعقاب الانقلاب العسكري المعروف بـ "المؤامرة العنصرية المسلحة" والذي اتهم عبد الحميد بالمشاركة في التخطيط له وتنفيذه، وأنه كان لبعض يوم أحد سفاحيه". (11)

وفي تمزق الوعي البريء؛ تنشأ مفاهيم التحرر الطامحة لإنسانية الانسان، عبر المثالي والحالم الذي يليق بالشعراء "اعرف، ما عندك بطل واحد. ابطالك من المنظرين مثلك، الطوباويين الحالمين، سبارتاكوس والحلاج وتروتسكي. ابطالك شهداء التاريخ من الحسين بن علي إلى تشي غيفارا".(12) انقطعت عن جلسات الأستاذ عبده، عندما انقطع الشاعر العدواني (..) "هل سمعت ما قاله لصفية؟ لا احد يستطيع ان يشتريني بالعواطف والكونياك" هل هذا كلام شاعر؟ كل الذي قالته له ان عمها يريده في نقاش هادئ في بيته (13) فالشاعر الذي امتلك مبكرا، قدرة الكشف عن تهرؤات السياسي، يرفض التعامل مع عبده الانتهازي. وفي غضون ذلك تنشب الأزمة، في علاقة تركي بصفية، حيث تسفر انتهازية ووضاعة عبده، عن وجهها بوضوح، بإجهاضه لهذه العلاقة واشياء اخرى "قال لي الشاعر، ان اطرف تعليق أعجب من سارة، صدر من جدتها الاسكتلندية (..) "لا استطيع ان افهم اهل بلدكم هذا أبدا. تزوجت أمك رجلا من بلد آخر وقارة أخرى، رجلا لونه مختلف عن لونها، ودينه عن دينها ولم يتعد رد الفعل الرافض لزواجها من بعض الأهل والجيران، سوى مصمصة الشفاه! وتريد فتاة هنا أن تتزوج من فتى من نفس المدينة، فتكاد تنشب أزمة دستورية؟!" (14)

وتنهار علاقة تركي بصفية، رغم الطقس الافريقي الناهض في الدم. الذي أجرته لهما مومبي الكينية، حتى يلتقيان مهما باعد بينهما الزمن والمسافات! "صورة مومبي بعينيها الباكيتين، عشية سفري الى بريطانيا، وهي تحاول أن تنتزع مني وعدا صادقا، ان احمل معي قميصي المصبوغ بدم صفية (..) أي نوع من الإفريقيين انتم؟ كيف لا يعني الدم لكم شيئا! أم أنكم نسيتم كل معنى؛ بفضل قطرات الدم العربي التائهة في عروقكم؟ (15) ومن بين كل هذا الركام، في انهيار الإنساني، يتبدى حسين عن اصرار كبير، في معرفة جذوره السلالية، بكل ما يحيط بها من غموض "لا اقدر اجزم. أنا ما كسرت أسنان اللبن، وهو صبي أول ما رأيته (..) قبل ذاك بسنة أو سنتين أو أكثر (..) قال بعضهم جاء من جهة أم درمان (..) هل ولد فضل السيد بالشمال؟ (..) بعد ما اختفى فضل الفنجري، كثرت الأقاويل والحكاوي (..) راودتني فكرة ان يكون اسم فضل السيد من اختيار قدح اللبن. (16)

حركة السرد ومورفولوجيا الزمن والاستهلال:
تحدد حركة السرد، كل العلاقات التي اشرنا اليها، بوقائع حياة أبطالها، وما وقع لهم من أحداث .. حيث تتداخل المذكرات، التي كتبها حسين الراوية، عن فترة حياتهم الطلابية. مع الوقائع والأحداث التي تجري، أثناء قراءة خالد التركي لهذه المذكرات، في زياراته المتكررة للطاهر الشاعر، الذي يلازم المستشفى على فراش الاحتضار. ومن لحظات الموت .. يبدآن معا في محاولة استرداد، أو استعادة الماضي، كمحاولة لطرد شبح الموت -عنهم جميعا- الذي يحاصر فراش الطاهر، أحد الشخصيات المركزية في هذا النص المتميز .. "أخبرني الطاهر انك تقرأ له من وقت لآخر، مذكرات كتبها احد اصدقائكم ايام الجامعة (17) كنت اريد ان اعرف ما صححه الشاعر من معلومات (..) قبل شهور كما ذكر لك الشاعر اعطاني الراوية مذكراته (...) أقرأ فيها هذه الأيام تسجيلا، لأحداث تلك السنوات (18) ووسط هذا التاريخ -المذكرات- تتضاءل الصراعات السياسية، إلى محض تشظي للذات الإنسانية، ممثلة في شخصية حسين. وانسلاخ الوعي الذي يعانيه، بانتقاله من الريف إلى المدينة. وخالد بهزيمته في حبه لصفية، والشاعر بقلقه وتوتره الفكري، وجرح الهوية الناهض بين كل هذا الركام، من الأسى واللوعات.

الرواية في رحلة البحث عن هوية لها، داخل مجتمع ينقسم على نفسه، فيتمزق حاضره بين تقاليد ماضيه وآفاق مستقبله، بالقدر الذي تتمزق به، هوية هذا المجتمع. بين تراثه الذي يشده إلى حلم مثالي، عن عهد ذهبي للماضي، وحضارة الآخر الأجنبي، الذي يشده إلى حلم مثالي مناقض، في وعد المستقبل. هذا البحث عن الهوية، هو الذي جعل الرواية تنطلق من مفارقة التغيير، التي تفصل الماضي عن الحاضر.(19) تبدأ الرواية بضمير المتكلم المفرد؛ وبواسطة الفعل المضارع تجري أحداثها ووقائعها المثيرة. حيث يتكرر فعل الرؤية والسمع المضارعين (للتعبير عن المصداقية- شاهد عيان) بكثرة في الاستهلال، للتأكيد على أهمية هذه الرؤية ومدى مصداقيتها! "ارى طفلا (..) اراه بوضوح (..) (..) اراه يتنبه (..) أراه يمشي (..) وأنا أرقبه (..) لكني أرقبه. أراه يمشي (..) أراه يضع يديه (..) أراه يلتفت مذعورا (..) ثم اسمع صوتا آخر. أصغي (..) أرى لهبا أزرق (..) أصغي فأسمع (..) أصغى لكن الصوت لا يكمل (20)

"تعود مشكلة الزمن في القصة، إلى الفرق بين زمن (الحكاية)؛ وزمن (القول). فبينما يسير زمن القول في خط طولي، في معظم الاحيان. نجد ان زمن الحكاية متعدد الابعاد. اذ يمكن في الحكاية، أن تجري حوادث مختلفة، في الوقت نفسه، لكن القول القصصي، ينبغي أن يضعها واحدة إثر الأخرى، بالضرورة، وبهذه الطريقة يعرض شكلا معقدا في خط مستقيم. (21) وهكذا يلاحظ منذ الاستهلال؛ استخدام الروائي لفعل القص المضارع. بمعنى استمرارية الأحداث، الماضية التي يحكي عنها. فمع تطور الرواية الحديثة ازدادت أهمية الحاضر بالنسبة للروائي، وأدى البحث عن تجسيده، إلى تطور واضح في طريقة معالجة الزمن في الرواية، وإلى محاولات ابتكار أساليب، وتقنيات جديدة للتعبير عنه، وتثبيت هذا الحاضر ومده. (22) ولكن الحاضر المستمر، يجعل الاستعانة بالماضي والذاكرة أمرا مستحيلا، واذا أمكننا أن نتخيل الخط المورفولوجي للزمن في هذه الرواية، نجده يبدأ بلحظة استرجاعية حلمية.

فالراوي، ضمير المتكلم الفرد، كشخصية رؤية خارجية. لا يعرف الاحداث. مثله مثل أي شخصية من الشخصيات، بل اقل منها معرفة. فيكتفي بوصف ما يمكن رؤيته أو سماعه، دون ان يدخل الى وعي، أو يتعمق في ضمير. مستفيدا من بعض الحيل كالتقنية السينمائية، في المشاهد الذكية الغنية، عن التعليق والتأويل، وعمل مونتاج محايد لها. (23) لكن نلاحظ انه رغم ان تقنية (الروي هذه) -رؤية الشخصية- إلا أن الرواية تقوم بصورة أساسية، على هيكل ذهني، يستحيل فيه الزمن إلى تيار وعي، بحيث يصعب تتبع العناصر المكونة له، بمعزل عن بعضها. فالراوي ضمير المتكلم الفرد، ينطلق من لحظة الاسترجاع الحلمية، وسط عالم ضبابي، وكل حواسه مشرعة في هذا العالم، الذي يحاول تحسسه. "طفل يمشي مترنحا داخل البناء الطيني (..) ويتحسس بأذنيه، الأصوات المنبعثة من وراء الظلام (..) ثم اسمع صوتا آخر" (24) ويتحسس بقدميه الطريق خلف هذا الطفل "امشي خلفه في اتجاه الصوت المتوسل الباكي" (25) وهكذا في حواس السمع واللمس والبصر، ينهض استهلال الرواية، ليكشف عن أبعاد هذا العالم الحلمي موحيا -الراوي- بالتعبير عن عالم الأيديولوجيا المثالي (الحلمي) في لحظة من تاريخ السودان. هي اللحظة التي حاول فيها اليسار الاستيلاء على السلطة، عبر الانقلاب العسكري.

وتقترح هذه الرواية هنا، حوارا مع عوالم عدد من الروائيين السودانيين، الذين يمثلون تيار الهامش في الرواية السودانية، فالأزمنة تتقاطع، وحركة الزمن تتشابه، وكذلك الشخوص! يستفيق الراوي من هذا العالم الحلمي، وينتقل إلى الحاضر الحقيقي. "تجحظ عيناي فأجدني سابحا في عرقي، محدقا بلا بصر في ظلام الغرفة". (26) ومن ثم ينهض الراوي المتكلم الفرد، ليلحق بمواعيد زيارته، لصديقه الشاعر في المستشفى، مستخدما تقنية الاستشراف "لا احتمل التأخير عن الثامنة، وهو يعتبر وصولي عندها شيئا مفروغا منه". (27)

للاستهلال وظيفة كبيرة بهذه الرواية، فهو لا يفسر سير القص فحسب. بل يعمل على ادخالنا في عالم مجهول، عالم الرواية التخييلي بكل أبعاده. بإعطائه الخلفية العامة، لهذا العالم. والخلفية الخاصة لكل شخصية، ليستطيع ربط الخيوط والأحداث، التي ستنسج فيما بعد. يعتمد الاستهلال هنا على أمرين أساسيين: الحاضر والماضي .. وتعدد الأصوات في هذا الماضي. وهكذا منذ هذه اللحظة الحاضرة، يبدأ الراوي بالغوص بعيدا، عبر آلية الاسترجاع في الحكي، عن هذه الأصوات، مبتدئا بهذا الصديق -الطاهر، الشاع- الذي سيزوره. وهكذا نبدأ في التعرف على شخصيات الرواية "لكنني الوحيد الذي يزوره بانتظام كل مساء! حتى علوية تجبرها الظروف القاهرة، للتخلف عن الزيارة من وقت لآخر. حتى الراوية الذي كان يكتب إليه، عن طريقي انقطع عن الكتابة. لعله أحس بأن الشاعر لا يقرأ كتاباته، وإن أحس بالفعل، فان احساسه صادق تماما .. الشاعر والراوية وصفية وأنا". (28)

فيركز استهلال هذه الرواية؛ في الخروج من الحلم الحاضر؛ إلى عرض الماضي ثم العودة إلى الحاضر، وهكذا دواليك .. مستعرضا خلال الحوار في الحاضر، والاسترجاع في الماضي المقولات الأساسية، التي تنطلق منها الرواية. ونلمح الغياب الفاجع للمثقف في غياب رجل الشارع وتغييبه، حتى لكأنه لم يعد موجودا "من هو رجل الشارع؟ شخص حقيقي؟ مخلوق اسطوري؟ اين هو الآن؟" (29) بسبب حالة الوطن كنموذج مأزوم "تركنا الكلام في حضارة الكلام(30) لتبدأ بعد ذلك شخصية الشاعر، في التصعيد ونلمح في مرضه، تجربة العديد من الشعراء -والمناضلين السودانيين- الذين انتهوا بالمرض والفقر والإعاقة بسبب الاستهداف وآثار التعذيب!!" سمعته يخوض في لجج الذاكرة. رأيته يسبح في بحور الباطن، فكان يغضب ويرضى ويبكي ويضحك ويصالح ويخاصم احيانا. اسمعه يتحدث عن أشياء لم تحدث ابدا، مثلما حدث قبل ايام حين زعم أن أحدا قتل حسينا. وان الحكم قد صدر لمصلحة صفية، لكن حسينا حي يرزق، والمحكمة لم تنعقد أصلا". (31) وهكذا يسقط الراوي على شخصية الشاعر؛ مأساوية حياة بدر شاكر السياب، معتمدا على تقنية الايحاء "الليل يطبق مرة أخرى فتشربه المدينه. صوت الشاعر العراقي يأتيني عبر عقود من الزمن. والمقبرة هنا مثل مقبرته. صارت جزء من المدينة. (32) عمياء هي المدينة والليل زاد لها عماها. عند زاوية المربع الذي يقع فيه المنزل، أتذكر رائحة الحيوان الميت (33) ونلاحظ أن الرواية هنا أخذت من تيار الوعي تقنياته في توظيف الزمن .. فالاستهلال جزء لا يتجزأ من متن النص. وهو هنا ليس استهلالا بالمعنى الذي نجده في الرواية الواقعية. فماضي الراوي هنا لا يتجزأ عن حاضره، ولا ينفصل عنه. فهو منسوج في ذاكرته، ومخزون فيها. تستدعيه اللحظة الحاضرة أولا بأول، على غير نظام أو ترتيب.

ولذلك لا تكتمل أحداث (الغنيمة والاياب) في تسلسلها الزمني، سوى في نهايتها -الرواية- حيث يعاد ترتيبها في مخيلتنا، فلا تظهر الأحداث الماضية مركزة في كتلة نصية متكاملة، لها خصائصها الفنية. ولكن نراها انتشرت ونثرت على النص كله، واصبحت مهمة تجميعها في صورة متكاملة، هي مهمتنا كقراء؛ (34) وهو ما يفسر لنا اختلاط الأحداث، التي تدور في ذاكرة الراوي، بالأحداث التي يكتبها في الرواية -مذكرات الراوية. تستهلك الافتتاحية فصلا كاملا (ضمير المتكلم الفرد)، حيث الراوي المتكلم بضمير الأنا (أحد شخصيات الرواية = خالد التركي) يلي ذلك فصل (من أوراق الرواية = مذكرات حسين الراوية) ثم عودة مرة اخرى الى ذاكرة المتكلم. ليبدأ الفصل الرابع، في عرض تفاصيل كل شخصية اشتملت عليها ذاكرة المتكلم (الراوي) ومذكرات صديقه حسين -الى أن تنتهي فصول الرواية. ومنذ الفصل الرابع، نبدأ في التعرف على مسيرة حياة الطاهر الشاعر (الشخصية المركزية) في النص. وكذلك الشخصيات المركزية الاخرى، فهو نص يتميز بتعدد الأصوات السردية. ليعيدنا بين ان واخر -الراوي- إلى ذاكرته. يحدد لنا شخصيته، ليس كسارد للأحداث فحسب، وإنما كأحد ابطالها الاساسيين، حيث يحاول الراوي -خالد التركي- استعادة الماضي، فيكتشف أن ذلك غير ممكن "لا أحد يستعيد الماضي. هذا واضح بالنسبة لي الآن! أعرف أكثر من أى وقت مضى، أن هذه هي الحقيقة. الماضي ليس نقطة بعينها أو لحظات محددة". (35)

وينعتق الراوي من ماضيه، المثقل بالمرارات وحبه الاسطوري (لصفية) بعلاقته بسارة، التي يرى فيها وجه حبيبته (صفية)، كأنه آت من بعيد "تفلت منها ضحكة تطرق الأذن المتنبهة، لكأنها استجابة من زمان ومكان غابرين. كأنها نداء اقدم بقرون طويلة، من صاحبته الحالية، لكن صاحبة الضحكة تستجمع شتات ذاتها، في أعقاب النداء البدائي، ثم تقرب يديها من وجهها، حتى تحجبه عني خلا الجبهة والعينين. (36) "ان صديقتكما خلطت قليلا من دمك؛ بقليل من دمها. ثم أجرت طقوسا تعويذية على الخليط، ثم نقطته في قميص لك وثوب لها، واخذتما العهد! وكلما شرع أحدكما في .. قصدي اذا اتيح لأحدكما أن يفكر في خيانة العهد، تذكره رائحة دم الاخر (37) "قالوا انك حطمت قلبها. تنكرت للعهد وتزوجت خواجية. قالوا إن إحدى بنات اهلك -بنت احد اعمامك- ارسلت لها صورة الخواجية بالبريد، واخبرتها في الرسالة إنها زوجتك، وطلبت منها ان تتركك وشأنك. سمعت من بعض زميلاتي، انك فعلت ذلك -قصدي الزواج من امرأة انجليزية- لتبطل العهد، عهد الدم وانك بالفعل طلقت الانجليزية بعد مدة قصيرة. بعد ما أدت الغرض. لا ادري كيف؟ (38)

وتقيم هذه الرواية هنا.. حوارا مع رواية سحر خليفة "عباد الشمس"، من حيث موقع الراوي .. إذ تتميز هي الأخرى بتعدد الأصوات. وهو ما تطلق عليه يمنى العيد "ديموقراطية التعبير الفني"..

وأخيرا:
هذه الرواية، بمثابة قصة عن الحب، أكثر من كونها قصة حب؛ تذكرنا باسطوريته -الحب- في الزمن الذي مضى. انها بقايا من الحزن والوجع القديم، علقت بقلب خالد التركي، فأحالت حياته الضجرة إلى نظرة رانية للغد، تشتاق مواصلة الحياة رغم كل شيء! .. رواية عن الحب، أحالت العالم القديم لهؤلاء الأصدقاء القدامى، الى عالم مستمر كأنه البارحة، وكأن تلك السنوات لم تمض ابدا. (الغنيمة والاياب) هي ثمرة تلاقح خصيب، بين التجربة السياسية المنظمة، والاساطير والواقع. ولذلك تجيء رؤيتها للفرد، متجاوزة كل شيء سوى الإنساني الجوهري .. ولكنها لا تخلو من العبارات والدلالات المتطرفة -طبيعة عنفوان المشاعر والافكار التي تنهض فيها حيوات شخوصها- يميز جيرار جينيت بين السرد والوصف، وقوام هذا التمييز أن السرد يقدم الفعل والحدث، على حين ان الاشياء والشخصيات تقدم عبر الوصف. ويرى ان الوصف يشكل عنصرا أساسيا، لا غنى عنه في القصة أكثر من السرد، لأنه أسهل علينا أن نصف، من أن نقص دون أن نصف، ويضيف جينيت "ربما لأن الأشياء، يمكن أن توجد بلا حركة، لكن الحركة لا يمكن أن توجد بلا اشياء".

الان روب غرييه يرفض الاستعارة باسم الوصف، ردا على أندريه بريتون، الذي كان يرفض الوصف باسم الاستعارة، لأن غرييه يرى أن "الاستعارة ليست بريئة أبدا "وهي تكشف عن موقف ميتافيزيقي من الكون، فتشخيص الأشياء ينم عن الاعتقاد بالقوى الغيبية الاسطورية الكامنة وراءها أو فيها. بينما يرى جان ريكاردو في الاستعارة، أنها، دائما، على وجه من الوجوه، ذات طبيعة اغرابية، لأنها تضم الـ"هنا" الحاضر المشبه، إلى الـ"هناك".. الغائب، المشبه به، مما يؤدي في رأي دعاة الرواية الحديثة الدرامية، إلى الوصف الحيادي، لإحلال الغائب محل الحاضر الـ"هناك" بديلا الـ"هنا".. المشبه به مكان المشبه .. والمشبه به بالنسبة لريكاردو ودعاة رواية الحداثة، ليس الا الغلاف الهيولي الخارجي العابر، الذي يتلاشى فور بروز المشبه، وفور إنجاز الترجمة البلاغية (39) أعني هنا الكثير من العبارات الوصفية، التي حملتها الرواية مثل: "شرج التاريخ".

قليلة هي الروايات، التي تحمل قولا مميزا. فخلال العقود الأخيرة من القرن المنصرم "وخلال السنوات الأولى من العقد الفائت وهذا العقد، قذفت المطابع بعشرات الإصدارات الروائية، في جميع انحاء الوطن العربي، وبات هذا الإنتاج الروائي الكمي ملفتا، مما دفع البعض لأن يصفه على أنه "انفجار روائي" كما ان بعض النقاد ارتأى، أن الرواية تعيش عزها وهي -دون الشعر- ديوان العرب الآن.(40) وكذلك على مستوى السودان حدث هذا "الانفجار الروائي" منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي، وتعتبر هذه الرواية في هذا السياق واحدة من الروايات القليلة المميزة، من بين ركام هذا "الانفجار".

 

مصادر:

  1. دكتور جابر عصفور. زمن الرواية. مهرجان القراءة للجميع 2000 ص: 17
  2. دكتور مروان حامد الرشيد. رواية الغنيمة و الإياب. دار قضايا فكرية للنشر والتوزيع. الطبعة الأولى 1995. ص: 242
  3. السابق ص: 290
  4. نفسه ص: 220
  5. كتابات سودانية " كتاب غير دوري" مركز الدراسات السودانية. العدد 22 ديسمبر2002 ص: 75
  6. السابق. ص: 78
  7. مروان حامد الرشيد " مرجع سابق " ص: 41
  8. نفسه. ص: 48، 49، 210
  9. نفسه ص: 85، 86، 89
  10. نفسه. ص: 104
  11. نفسه. 107
  12. نفسه. ص: 120
  13. نفسه. ص: 123
  14. نفسه. ص: 235
  15. نفسه. ص: 244.
  16. نفسه. 287 - 290
  17. نفسه. ص: 236
  18. نفسه. ص: 238.
  19. دكتور جابر عصفور "مصدر سابق". ص: 37
  20. مروان حامد الرشيد "مرجع سابق" ص : 9
  21. د صلاح فضل. نظرية البنائية في النقد الأدبي. مهرجان القراءة 2003. ص: 282.
  22. دكتورة سيزا قاسم. بناء الرواية "دراسة مقارنة في ثلاثية نجيب محفوظ". مهرجان القراءة 2004. ص: 40
  23. د.صلاح فضل "مرجع سابق" ص: 292
  24. مروان حامد الرشيد "مرجع سابق". ص: 9
  25. نفسه. ص: 10
  26. نفسه. ص: 10
  27. نفسه. ص : 11
  28. نفسه. ص : 11
  29. نفسه. ص: 20
  30. نفسه ص: 21
  31. نفسه. ص: 22
  32. نفسه. ص: 33
  33. نفسه ص : 34
  34. د. سيزا قاسم "مرجع سابق" ص: 46
  35. مروان حامد الرشيد "مرجع سابق". ص: 251
  36. نفسه. ص: 243
  37. نفسه. ص: 246
  38. نفسه. ص: 249
  39. حسين عيد. جارسيا ماركيز وأفول الديكتاتورية. "دراسة في خريف البطريرك". الهيئة المصرية العامة 1988 ص: 23
  40. الياس خوري. تجربة البحث عن أفق "مقدمة لدراسة الرواية العربية بعد الهزيمة". مركز الأبحاث. منظمة التحرير الفلسطينية. يونيو 1974. ص: 41

 

هوامش:

  1. كلود ليفي شيتراوس. الأسطورة والمعنى. ترجمة صبحي حديدي. الحوار اللاذقية الطبعة الأولى 1985.
  2. د. عبد الرزاق عيد- محمد جمال باروت. الرواية والتاريخ. دراسة في رواية مدارات الشرق. الحوار اللاذقية الطبعة الأولى 1991.
  3. مجلة الرافد. دائرة الثقافة الشارقة. العدد 84. أغسطس 2004. ص: 90