إرهافا للذاكرة المغربية التاريخية يسعى هذا التقرير إلى إعادة كتابة تاريخ الحركة الوطنية بالاستناد أساسا على منطق الجدل، حتى يكتسب شعبنا وعيه الحقيقي والحضاري بالنماذج والمنظومات، تلك المفروضة والمفترضة. لكي يتحرر ويحقق وضعا مجتمعيا تسوده : الديموقراطية، العدالة، المعرفة، الكرامة والمساواة.

عبد الله إبراهيم : القائد والمفكر

عبد الله إبراهيم، رجل لا يولد دائما

سعيد بوخليط

بمناسبة الذكرى الثالثة لرحيل المناضل التاريخي عبد الله إبراهيم، نظمت "مؤسسة عبد الله إبراهيم للدراسات والأبحاث"، ندوة وطنية بمدينة مراكش يوم 29 نوفمبر 2008. انصبت المداخلات على مجموعة من الجوانب المعرفية، الإيديولوجية والسلوكية... المميزة استثناء ل عبد الله إبراهيم تأملا ومنهجا. لاسيما، وأن الأسماء التي أطرت اليوم الدراسي، توزعتها حقول ومشارب متعددة واشتغالات فكرية مختلفة منها : الحقوقي، الثقافي، السياسي، الفاعل الحزبي، الجامعي ثم المختص في علم الاجتماع : محمد بن سعيد أيت إيدير، عبد اللطيف حسني، أمينة المسعودي، محمد زرنين، إبراهيم أعراب، عبد القادر أزريع، محمد موشيح، سمير بلمليح، عبد الحكيم أبو اللوز.

سعى إذن، كل واحد من هؤلاء تلمس جزئية من موسوعية عبد الله إبراهيم الجليلة. غنى، تأتى من السياقات السوسيوتاريخية، وكذا الأصول والمشارب المعرفية التي أرست فكر هذا الرجل الفذ، ورؤيته الصادقة للأحداث التي عاشها إلى جانب رجالات الحركة الوطنية قبل الاستقلال أو في ظل استقلال صوري انتهى معه الوطن في يد حفنة من الخونة الإقطاعيين.

أين تتحدد منطلقات السجال حول عبد الله إبراهيم ؟ وفق أي اتفاق تصنيفي، يمكن من خلاله توجيه المقاربات، فهو : أبرز قادة الحركة الوطنية، ثم الأستاذ والمفكر الجامعي الرصين بكل ما تحمله دلالة الكلمة من معاني. كما، أنه أول وآخر رئيس حكومة وطنية مغربية حقيقية بالمفهوم الدستوري والقانوني. وزعيم حزب سياسي عريق، هو الاتحاد الوطني للقوات الشعبية شكل الهيكل الأساس لليسار المغربي. لكن عبد الله إبراهيم، ينتمي خاصة إلى صنف هؤلاء السياسيين "الرومانسيين" النادرين والقلائل جدا، حيث بقي وفيا لقناعاته ومبادئه من خلال الاستماتة في تحويل النظري إلى واقعي، والتسامي بالملموس نحو المجرد، مما أضفى على مسيرته نوعا من الطهر، بل حسا صوفيا. لقد ظل في منأى عن كل ارتزاق أو تنازل عن اختياراته التي توخت حتى آخر ساعة في حياته : مغربا ديمقراطيا، تقدميا، متحررا، يمتلكه الجميع.

ركزت الورقة المهيأة من قبل اللجنة العلمية لمؤسسة "عبد الله إبراهيم للدراسات والأبحاث"، على سؤال الثقافي والسياسي، كما سعى عبد الله إبراهيم إلى تطويعه وقولبته وفق أسس معرفية ومجتمعية واضحة. فتشكلت أرضية، لمختلف جوانب النقاش وكذا التمحيص الفكري والمنهجي. مما يمكن، من معالجة مضبوطة للملابسات والظروف التاريخية بخصوص علاقة الحزب بالنقابة، ومن وراء ذلك التقارير المذهبية التي أنتجها عبد الله إبراهيم، لحزب "الاتحاد الوطني للقوات الشعبية".

لكن بتعدد وتنوع المداخلات، فقد تمحورت خاصة حول اللبنات التالية في فكر عبد الله إبراهيم :

الثقافي والسياسي.

الحزبي والنقابي.

السياق السوسيوـ تاريخي.

المسألة الدستورية.

نقد عبد الله إبراهيم للنظرية السياسية الإسلامية في الحكم والاقتصاد.

خلخلته وتفكيكه لمفهوم الحركة الوطنية، ثم جل الملابسات المحيطة بمعطياته التاريخية والمعرفية.

قراءة عبد الله إبراهيم للفكر المسيحي، وتقصيه أصول النظرية السياسية للحكم، إرساء لقضية الحدود بين الدين والسياسة انطلاقا من تأويله لمقولة المسيح الشهيرة : "أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله".

تلك هي المحاور الكبرى، لمختلف العروض التي تقدم بها المتدخلون طيلة اليوم الدراسي، مظهرة من زوايا وواجهات متغايرة، حدس عبد الله إبراهيم وريادته التاريخية على مستوى مجموعة من التحديدات المفهومية والمضامين التي استبطنتها أو أظهرتها أفكاره ومواقفه السياسية، فيما يتعلق بالقضايا الآنية والمستقبلية، لمصير الوطن والشعب.

كان عبد الله إبراهيم مثلا، مقارنة مع باقي زعماء الحركة الوطنية الآخرين، من المنظرين الذين انتبهوا للعلاقة الحساسة جدا بين السياسي والثقافي، وتأثيرها على نمط التفكير سياسيا في الثقافة، وثقافيا في السياسة. هي، أهم القضايا الشائكة، التي أثارت باستمرار جدالا حادا ونقاشا سياسيا مستفيضا، بين ثنايا الإيديولوجيات الحزبية الحقيقية التي توخت بناء صلبا لأعمدة الدولة الوطنية المغربية، على أسس مشروع مجتمعي حقيقي. في هذا الإطار، شددت رؤى عبد الله إبراهيم على الدور الكبير للمدرسة العمومية من أجل تأسيس الرابطة الاجتماعية/الثقافية، وعبرها التمركز حول الثقافة، لأنها منتهى مستقبل الأمة، بغض النظر عن كل التأويلات. كان حتميا، انتقاده لمسارات المغرب المعاصر، الذي بدأت ملامح وتجليات إخفاقه التاريخيين تتبلور منذ مطلع الستينات. ولاشك، أن الإقالة الشهيرة لحكومة عبد الله إبراهيم الوطنية من قبل، دوائر الحكم الرسمية، يعتبر منعطفا مفصليا لانتصار الخط الرجعي والدخول بالبلد إلى نفق مظلم. في إطار هاته الوضعية المأزومة جذرا ومدلولا، كان يستحيل صياغة أسس سليمة لإبداع حضاري شبيه بما يقع في أوروبا.

الأطروحة الكبرى، لتعالق السياسي بالثقافي، تتضمن أخرى قد تبدو أصغر منها حجما وزخما على اعتبار المساحة القائمة دائما بين الكل والجزء. أقصد بذلك، التجلي الآخر لممكنات الحزبي والنقابي. لقد ميز عبد الله إبراهيم، تنظيرا وممارسة بين الحزب والنقابة، محذرا من المساوئ والمنزلقات التي يقود إليها الخلط بينهما. أمراض تتهدد النقابة، مثل الشعبوية والفوضوية، وتصبح نقابة بيتية. كما تصاب أيضا في علاقتها بالحزب، بمظاهر الذيلية والزبونية السياسية. من هنا، دعوة عبد الله إبراهيم إلى "تقديس" الدفاع عن استقلالية النقابة. لا تعني، المسألة بأنها محايدة، فهي المدرسة الأولى للفكر الاشتراكي، لكنها بالأساس متعددة داخل الوحدة بالطبع.

تميز الفكر السياسي لعبد الله إبراهيم، بكونه فكرا دستوريا حتى النخاع. أدخل بالمطلق المسألة الدستورية إلى قلب ونواة مشروع بناء الدولة الوطنية على منظومة ليبرالية حقيقية قوامها نظام دستوري يستمد روحه من التوازن والديموقراطية، في أفق إعطاء المؤسسات مضمونا فعليا وحقيقيا تضمن للشعب سلطاته الحقيقية. يكفي، الوقوف على بعض المعطيات في هذا السياق :

مطالبة عبد الله إبراهيم، الأبدية بدستور ديمقراطي، عصري ومتحرر.

ربطه الجدلي بين وجود المقاومة المسلحة والحركة المدنية للمطالبة بالدستور.

دمقرطة النظام العام لوجود الدولة. وهيكلة ذلك بنيويا على مستوى مختلف روافدها وأجهزتها. بالتالي، ضرورة بناءها القاعدي الصميمي تضمن السلطة الحقيقية للشعب.

دعوته، وجود محكمة دستورية.

ضرورة انبثاق الحكومة من البرلمان، ومسؤوليتها السياسية أمامه.

التوازن بين المؤسسة البرلمانية والحكومية. فالبرلمان، يشرع ويراقب بينما الحكومة تعمل.

احتقار عبد الله إبراهيم، ومن تم رفضه لفكرة وزراء ووزارات السيادة.

دفاعه عن الحقوق والحريات، سواء في مضامين اللجنة المركزية للحزب أو العروض الفكرية التي كان يلقيها هنا وهناك، ثم حثه الدائم على النضال من أجل احترام حقوق الناس والدفاع عن كرامتهم.

فكرة اقتراح لائحة الوزراء.

إعطاء المجالس البلدية والقروية اختصاصات ملموسة.

انفراد حكومة عبد الله إبراهيم، بوجود مؤسسة مستقلة لرئيس الحكومة ومنصب نائب له.

التشديد على أهمية الانتخابات. لكن شريطة نزاهتها، ثم ارتباطها بوضع لوائح جديدة وآلية الاقتراع باللائحة. مع، إعطاء المرأة أهمية حاسمة في المساهمة. بالفعل، اتسمت حكومة عبد الله إبراهيم بكونها حكومة للانتخابات، نظمت أول انتخابات عامة في تاريخ المغرب.

تصور عبد الله إبراهيم باكرا، لخطاطة التناوب في أفق تفعيل مشروع مجتمعي لوطننا ومستقبل شعبنا. تناوب يهم ويعني البرامج، وليس استبدالا للأشخاص أو هرولة اتجاه الكراسي. تناوب، يكفله ويحضنه الدستور، بمعنى الدور الأول والأخير لصناديق الاقتراع.

ما فتئ عبد الله إبراهيم، ينظر برؤية نقدية صارمة لتراكمات "الحركة الوطنية المغربية"، إيجابا أو سلبا. حيث استطاع، التخلص بكل شجاعة وتواضع الكبار، من الصنمية والتضخيم الملتصقين غالبا بالمفهوم والسياق. لاشك أن الزيف والأغاليط، يتأتيان سواء نتيجة أخطاء الحركة الوطنية تنظيرا وممارسة، أو جراء التوظيف الديماغوجي التضليلي للحكم، لتلك المعطيات تبريرا وتعضيدا لتحققات التاريخ الرسمي. المقاومون ليسوا دائما كذلك، ولاهم حتما من أنصفتهم حجرات المدارس ومنحت لهم النياشين، بل وصنعت لأسمائهم يوميات تخليدا وتأبيدا. على الأجيال المقبلة أن تكون حذرة جدا !! وتتعامل مع الذاكرة الوطنية بأكثر من التشكيك الديكارتي والتفكيك الديريدي !!.

حينما كتب عبد الله إبراهيم عن الحركة الوطنية، لم يكن مسكونا بالماضي ! ولا التمست كتاباته هاجس الإدانة. واضعا تساؤلات ماهوية، من جنس: هل الحركة الوطنية، عمل ظرفي ؟ أم الحركة الوطنية مشروع تاريخي مؤسس ؟! .

يحتم الواقع التاريخي، التعامل مع كثير من إنجازات الحركة الوطنية، بموقف تحكمه النسبية يحيل النتائج إلى مبرراتها الموضوعية. فالحيثيات تعود في أجزاء شتى منها إلى الهفوات والأخطاء التي ارتكبها الاستعمار الفرنسي.

الحركة الوطنية، كيان افتقد غالبا للهيكلة والانسجام في وضوح الرؤية والعمل بين النخب المدينية والتقليدية، ثم كيفية خلق نوع من التوازي الخلاق بين البندقية من جهة والشعار الإيديولوجي، وذلك لاستثمار النتائج السياسية في أقصى حمولتها. هكذا، بعد البدايات المتعثرة جدا لاتفاقية "إيكس ليبان" مع الفرنسيين، من خلال عجز زعماء الحركة الوطنية عن تحديد تفاصيل الاستقلال، فقد تواصل الأمر في علاقة الحركة الوطنية بنسقها الذاتي، وطبيعة صراعاتها مع الأطراف والمكونات المناقضة.

إن سوريالية الوقائع التي يعيشها المغرب اليوم سياسيا واجتماعيا وثقافيا، هي تعبيرات مباشرة عن المخاض بل وسوء التقدير، لتواريخ الخمسينات والستينات. ربما، ينضاف مطلب آخر إلى الملتمسات الملحة والمصيرية للقوى الديمقراطية، أقصد بذلك إعادة كتابة تاريخ للحركة الوطنية بالاستناد أساسا على منطق الجدل، لإزالة كل رواسب وشوائب الزيف المضلل، حتى يكتسب شعبنا وعيه الحقيقي والحضاري بالنماذج والمنظومات، تلك المفروضة والمفترضة. لكي يتحرر ويحقق وضعا مجتمعيا تسوده : الديموقراطية، العدالة، المعرفة، الكرامة والمساواة. هي، أشياء ليست على أبناء جلدة عبد الله إبراهيم، بالمعجزة.