يكتب الناقد السينمائي المصري هنا للكلمة تغطية واسعة لما دار في مهرجان كان السينمائي السبعين، وما قدمه من جديد السينما العالمية هذا العام، ويتريث عند أهم القضايا التي طرحتها أفلامه وبعض الأفلام البارزة التي شاهدها فيه، ومجموعة الجوائز التي توج بها عددا من الأفلام والمخرجين والممثلين.

مهرجان «كان» السينمائي 70

شاعرية «الخطاب» الصوفي في عالم بلا حب

المهرجان يعرض لجهنم الحمراء وقضايا اللاجئين والكابوس الأمريكي المخيف

صلاح هاشم

حقق مهرجان «كان» السينمائي في دورته 70 المنعقدة في الفترة من 17 الى 28 مايو الكثير، فقد احتفل أولا وسط حشد من نجوم الاخراج والتمثيل في العالم ممن فازوا بجوائز في دورات سابقة للمهرجان بعيد ميلاده السبعين.. وبمشاركة أكثر من 4 آلاف صحفي من جميع أنحاء العالم وأكثر من 12 الف منتج وموزع وعارض الخ، حضروا للمشاركة في "سوق الفيلم". وحرص المهرجان الذي يعتبر الحدث الاعلامي الأول في العالم – بعد "الدورة الاوليمبية" ومباريات كأس العالم في كرة القدم - ان تكون هذه الدورة السبعينية بمثابة "تتويج" لمسيرته السينمائية الرائعة خلال الـ 69عاما المنصرمة..

في الحفاظ على والدفاع عن ،حرية التعبير في العالم، والوقوف ضد البربرية والفاشية، وتوظيف النجوم لخدمة "سينما المؤلف" في العالم، ومن دون نبذ أفضل نماذج الفيلم التجاري الأمريكي، ومع تسليط الضوء على المواهب السينمائية الجديدة في العالم والترحيب بأعمالها والترويج لهذه الأعمال من خلال أقسام المهرجان المختلفة ومنح جائزة " الكاميرا الذهبية " لأفضلها – الأعمال الأولى لمخرجيها- والمشاركة ليس فقط في المهرجان الرسمي، بل المختارة أيضا في التظاهرتين الموازيتين له، ونعني بهما تظاهرة "نصف شهر المخرجين" وتظاهرة "أسبوع النقاد".

أفيش الدورة 70

الواقعية الافتراضية و "جهنم "الحمراء
كما حرص المهرجان أيضا في الاحتفال بعيد ميلاده السبعين على أن يضيف الى قائمة الاختيار الرسمي OFFICIAL SELECTION التي ضمت 49 فيلما جديدا من أنحاء العالم توزعت على أقسام المهرجان المختلفة، مجموعة من "الأحداث" الفنية السينمائية الخاصة SPECIAL EVENTS كانت بمثابة "جرعات" من الفرح العميق التي توجت الاحتفال بعيد ميلاده "المجيد"، من ضمنها:

* التعريف بإتجاه "الواقعية الافتراضية" VIRTUAL REALITY الجديد في السينما من خلال معرض – منشأة INSTALLATION من إبداع المخرج المكسيكي الكبير اليخاندرو جونزاليس اناريتو (من مواليد15 اغسطس 1963 ، المكسيك) الحاصل على عدة أوسكارات وصاحب فيلم "بابل" البديع، وتتيح المنشأة، ليس فقط مشاهدة فيلم (19 دقيقة) عن المتاعب و الأهوال التي يتجشمها المكسيكيون المهاجرون عبر الحدود الى أمريكا، بل ممارسة تجربة العبور جسمانيا ونفسيا أيضا، وما تتضمنه من ظروف الطقس الحار المرعبة ومطاردات رجال الشرطة والاخطار التي تهدد المهاجر الغلبان في كل لحظة، وباختصار تضع التجربة المشاهد في "جهنم" الحمراء، وتجعله من خلال ممارسة تجربة عبور الحدود المرعبة مع أشقائه المكسيكيين والمهاجرين من كل أرض، تجربة مادية معاشة ومحسوسة .. وبكل ذرة في كيانه.

شاعرية الخطاب الصوفي
* كما نجحت ادارة المهرجان في أن تجلب لنا- في إطار "الأحداث الخاصة" - فيلما رائعا ونادرا، وأعني به الفيلم الأخير الذي حققه المخرج الايراني الكبير عباس كياروستامي قبل وفاته بعنوان "24 لقطة أو كادر" وأعتبره "تحفة" سينمائية ولكل العصور- ألم يقل المخرج والمفكر السينمائي الفرنسي الكبير جان لوك جودار إن رواية السينما تبدأ من عند المخرج الأمريكي الكبير أورسون ويلز وتنتهي عند عباس كياروستامي؟ - و"شهادة" أو "وصية" كياروستامي الأخيرة بأن السينما ليست مجرد وسيلة للإمتاع والترفيه فحسب بل هي وقبل أي شييء آخر، "أداة تأمل وتفكير" تفلسف حياتنا، وهي تطرح "تساؤلات" الوجود الكبرى .. وينتهي الفيلم الذي هو أشبه ما يكون بـ "قصيدة" من قصائد الزن
ZEN بلقطة "قبلة" A KISS بين حبيبين قبل ان تسقط كلمة "النهاية" THE END على الشاشة ثم إظلام تام، وتتحقق معه شاعرية الخطاب الصوفي- خطاب الحب الروحاني- في السينما على يد مخرجنا الايراني العالمي وهو يرحل عن عالمنا مطمئنا. فيلم كياروستامي لا يحكي قصة بل يفتح مع كل كادر أو لقطة نافذة يطل منها على الطبيعة: الريح والناس والعصافير، والبحر الكبير والشجر وحركة وتحولات الكون والحياة، كما يستخدم بعض الصور الفوتوغرافية- كان كياروستامي مصورا فوتوغرافيا فذا أيضا – التي التقطها في حياته لينفخ فيها من حياته ويجعلها تتحرك على الشاشة، فمثلا اذا كان في الصورة مدخنة فانه يجعل الدخان يتصاعد منها، ويجعل حيوانات، مثل كلاب وعصافير وأبقار، تتسرب الى داخل الصورة الثابتة وتتحرك داخلها.

في محاولة منه لاستكشاف اللحظة السابقة على التقاط الصورة أو الكادر، واللحظة التالية أيضا على التقاط الصورة، وعلى اعتبار- وهكذا كان يفكر كياروستامي أو ربما كان هكذا يفكر وهو يصنع فيلمه الأخير – ان سر الحياة في صيرورتها أو ديمومتها أو استمراريتها قبل وأثناء وبعد التقاط الصورة، وليس فقط في الصورة أو الكادر الواحد الماثل أمامنا على الشاشة، وكأن وظيفة السينما هي في تحريك الثابت ومنحه روحا جديدة من روح الحياة ذاتها، وديمومتها، ضد الفناء والاندثار والموت والعدم.

الكابوس الأمريكي المخيف
*
وأيضا نجح المهرجان في جلب وعرض جزأين من الحلقة الثالثة من مسلسل "توين بيكس" التلفزيوني- لم تعرض اجزائه بعد في فرنسا - للمخرج السينمائي الأمريكي الكبير الفذ دافيد لينش الذي يقص علينا الوقائع الغريبة التي مازالت تحدث في مدينة توين بيكس الصغيرة التي تقع في شمال شرق الولايات المتحدة الامريكية بعد مضي أكثر من 25 عاما على اكتشاف جثة الشابة الجميلة لورا بالمر الغارقة في الوحل ومحاولة مخبر سري العثور على الفاعل من بين شخصيات المدينة الغريبة. والمعروف أن مسلسل توين بيكس يمثل "نقطة تحول" في اخراج المسلسلات التلفزيونية، ليس فقط في أمريكا بل في العالم، حيث استطاع دافيد لينش – الحاصل على سعفة "كان" الذهبية بفيلمه الأثير "سايلور ولولا" عند ظهور المسلسل آنذاك أن يجعل من كل حلقة من حلقاته فيلما سينمائيا جديدا مثيرا ومتميزا، وأقرب ما يكون الى روح الأفلام البوليسية الهيتشكوكية- نسبة الى المخرج البريطاني الكبير الفريد هيتشكوك ملك أفلام الرعب – بعوالمه الغرائبية وموسيقاه الساحرة وأن يعكس من خلال المسلسل صورة بالغة القسوة والرعب للكابوس – وليس الحلم – الأمريكي المخيف. على عكس معظم الأفلام والمسلسلات الامريكية، التي كانت ومازالت تروج لذلك "الوهم" وأساليب الحياة على الطريقة الأمريكية البشعة.