الممحو في قصة القاص المغربي أكثر من المكتوب، فتحت إهاب ما تسرده، يكمن ما تريد الإيحاء به، فبقدر ما نألف الأشياء وتألفنا فإنها تشكل ذاكرتنا، وتشق لنا طرقا نمضي فيها حتى لحظة النهاية، وتصير الأشياء شاهدا على حياة محبيها. وتكمن خلف شهادتها حياة أهدرت في واقع مرّ لا يأبه بالفقراء، وتكتسحهم تغيراته في طريقها بقسوة، وكأنهم كأشيائهم .. مجرد أشياء قديمة ولالزوم لها.

الحقيبة

حسن لشهب

كان يسير كالعادة بمحاذاة السكة الحديدية، يحمل حقيبته، مثلما فعل دائما ...

لكنه منذ مدة بدأ يشعر أن جسده لم يعد يستجيب فقط إلا لدماغه.

لم يعد سيره مثلما كان في الماضي مجرد خطوات في اتجاه ما دون تفكير أو مبالاة.

صار وزن الحقيبة ثقيلا، عضلاته كانت تستشعر ثقلها وتعبر عن معاناتها بالتقلص تارة، وبتيار مؤلم ينتشر عبر مسارات الجسد كلها فيكون مجبرا على الوقوف ليسترجع الأنفاس وبعضا من الحيوية.

يتوقف عن السير ينظر لخطي السكة الحديدية الممتدة أمام ناظريه، على الجانب الآخر كانت الساقية الكبيرة تهدر بأمواج من المياه المنسابة بهدوء وقوة.

بينهما كان يقف متأملا امتدادهما نحو الأفق، يدرك ما تشكل بينه وبينهما من تآلف ... السكة الحديدية تذكره أن الطريق ما يزال طويلا، وماء الساقية يمده بالقوة والانتعاش ليستمر في السير. ويحمل حقيبته مرة أخرى رغم التعب، يستمر في السير، يتذكر أياما سلك فيها طرقا أخرى بحثا عن منافذ وآفاق أكثر إثارة، غيابه لم يكن يطول كثيرا، فيسترجعه مساره المفضل وكأنه قدره.

عبر هذا المسار رافقته لحظات تأمل وكثير من الأسئلة،... كان يتوقف، يقيس ما تبقى من مسافات، ويستعيد ما مضى، أحيانا بالابتسامة، وأحيانا أخرى تغشى روحه أمواج قلق وحزن وإحباط. يتذكر لفحات الريح الصقيعي، والصفع الذي كان ينهال على وجنتيه كلما وصل متأخرا، اليدان متورمتان من شدة البرد، والحذاء مكسو طينا ولسان المعلم ينفث سما زعافا يسحق ما تبقى للنفس من عزة واحترام.

لحظات العودة إلى الدوار لم تخل يوما من رعب بكل الألوان، نباح كلاب وأصوات مرعبة بشتى الأصناف، وقلب خافق يكاد ينفلت من الصدر...

ـ اقرأ آية الكرسي يا بني والله سيحميك ويقيك من كل شر... هكذا كانت المرحومة توصيه حالما يعود مرتعدا خائفا كعصفور مهيض الجناح. وغير هذه عاش لحظات عاد فيها للنفس بعض من يقين، والتأمت معها جراح، فكانت محفزة للاستمرار ومتابعة السير... حينها تبدو الحقيبة أخف قليلا.

ومرت  السنوات،...

لم تنكسر عرى علاقته بهذه الحقيبة، حملت أدواته المدرسية، وبعدها أدوات العمل، صوره ووثائقه وذكرياته، وما كان يقتـنيه للبيت من أشياء تخفف من جموح حاجات الجسد.

لم يتغير مسار الطريق، السكة الحديدية والساقية استطابا جيرتهما .. وحدها الأشجار شاخت وشحت ثمارها، وفرغ الكوخ القصديري من ساكنيه .. مات الأب والأم، وعادت الزوجة لبيت أهلها بأحلامها المنكسرة ..

وينظر لماء الساقية، يتذكر صورة أمه، يدرك أنه لا يمكن أن يوجد شخص آخر مثلها قادر على فهم ما تجيش به النفس.

وتسيل على الخدين دموع صامتة، سرعان ما يمسحها بظهر اليد وكأنه يخشى أن يضبط متلبسا بجرم البكاء. يهدر ماء الساقية قليلا يحفزه على متابعة المسير. يتأمل صفاءه وقوته، تغمره الرغبة في إطفاء غلة عطش القلب، يدرك أنه مهما بلغت وفرة هذا الماء فجفاف القلب لن يعرف الارتواء.

لو تعلمين، يقول مناجيا نفسه، لو قدر لي أن أمسك دموعك وبلمسة سحرية أحولها إلى بلورات تعيد لعينيك الإشراق والسعادة، ما تأخرت...

بدأ الظلام يرخي سدوله، وغزا الوهن كل مناحي الجسد...

اختار أن يتمدد قليلا بين الساقية والسكة الحديدية مستسلما ... أحس براحة كبيرة حين أغمض عينيه، وهوى في نوم عميق.

في الصباح سمع أهل الدوار خبر تحويل مجرى الساقية نحو إحدى الضيعات الكبيرة، وتغيير اتجاه القطار، وعن جثة رجل ميت ملقاة على الطريق ...