يتناول الناقد "التناص" كتعريف ومفهوم وكيفية مقاربتاته المختلفة. ويشير إلى أن جينيت يرى أن المصطلح لا يمكن أن يكون نهائياً، بل تتعدد أشكال فهمه، ولا يملك القدسية، ولا يخضع لقانون، فمفهوم التناص بحد ذاته يلغي مفهوم المصطلح الأحادي البعد ليعبر عن عقلية حرة.

مفهوم التناص عند جيرار جينيت

أحمد زياد محبك

التناص intertextual هو بمعناه اللغوي دخول نص في نص، وهو بمعناه الأوسع والأحدث علاقة ما بين نص حاضر ماثل ونصوص أخرى سابقة أو معاصرة أو لاحقة تدعى النص الغائب وهي علاقة يكتشفها القارئ، وهو بهذا المعنى آلية لقراءة النص، وهي قراءة حرة مفتوحة على آفاق واسعة، تدل على ثقافة القارئ، وتتعلق بالنصوص الظاهرة في النص أو الخفية تحت بنيته السطحية وفق ما يراه القارئ، وليس المقصود بالنص الغائب النص text اللغوي المطبوع، وإنما الخطاب discourse ويعني أي شكل من أشكال الخطاب، أو التعبير بأي أسلوب أو طريقة أو وسيلة، من حركة أو إشارة أو عادات اجتماعية أو تعبير شعبي، ودراسة التناص هي التناصية intrtextuality. والتناص ظاهرة أدبية معروفة في آداب العالم كله، قديمه وحديثه، وقد عرفها الأدب العربي منذ العصر الجاهلي، وأبرز أشكاله تكرار أقوال السابقين والإشارة إليهم ثم النقائض والمعارضات والتضمين والاقتباس والتشطير والتخميس، ودرس النقاد العرب القدامى ظاهرة التناص تحت مصطلح السرقات الأدبية، ووضعوا لها أنواعاً وأشكالاً. وقد ظهر مصطلح التناصية بالفرنسية Intertextualitè أول ما ظهر عند الناقدة البلغارية جوليا كريستيفا (1941) بين عام 1966 وعام 1969 بعد استقرارها في فرنسا وأخذها بالمشاركة في النشاط النقدي، وتركيزها على دراسة النص، وقد تأثرت بالتيارات النقدية والفكرية السائدة من بنيوية وتفكيكية وسيميائية وماركسية، ولذلك نادت بأن النص هو عملية إنتاج، مثله مثل الإنتاج الاقتصادي، وأطرافه هي المرسل والنص والمتلقي، وفي النص تتقاطع نصوص كثيرة سابقة ومعاصرة، ولذلك فالنص ذو بنية سطحية، هي النص المطبوع بلغته وأصواته وحروفه، وذو بنية مستترة، هي المولدة للنص، ومن ثَمَّ تخلت عن النص الظاهر، وتبنت النص الخفي، وقد استعانت بمصطلحات كثيرة وبدلت في مفهوماتها، ولاسيما المصطلحات الرياضية، فاستعملت على سبيل المثال مصطلح fonction ويعني الوظيفة، ولكنها استعملته بمعناه في الرياضيات وهو الدالة وهي علاقة بين طرفين، وأخذت بقول الناقد الروسي باختين (1895-1975) بالعينة الدالة أو «الأيديولوجيم Idèologème ، فكل علامة تدل على أيديولوجيا قائلها، وكانت على وشك أن تستعمل هذا المصطلح، ولكنها استعملت مصطلح التناص الذي كتبت له السيرورة، وقد استوحت هذا المصطلح من دراسة باختين لأعمال ديستوفسكي Dostoevsky F. عام (1963)، الذي عُنِي بالحوارية Dialogisme في روايات دستوفسكي، وأبرز تجلياتها عنده تعدد الأصوات Polyphonie، أي أن يتضمن الملفوظ مستويات لغوية متعددة، كما تأثرت بقوله إن الإنسان كائن اجتماعي وإن ذاته لا تتكون إلا من خلال علاقته مع الآخرين، وفي هذه العلاقة يستعمل اللغة وفق ما تحمل من علاقات من خلال استعمالات الآخرين لها، ولا يستعملها بمعناها البكر الأول، وآدم وحده الذي استخدم اللغة بكراً، خالية من أي ظل من استعمال سابق، على نحو ما يقول باختين Mikhael Bakhtine، فكل كلمة هي علامة marquè مثقلة باستعمال الآخرين لها، ولذلك أيضاً ليس الأسلوب هو الرجل كما هو شائع وإنما هو المجتمع، وقد خلصت إلى أن كل «نص ينبني كفسيفساء Mosïpue من الاستشهادات Citations أنه امتصاص وتحويل Information لنص آخر». وقد عمل في التناص عدد غير قليل من النقاد الغربيين منهم بلوم H. Bloom وشنايدر M. Schneider وبارت R. Barthes ودريدا J. Derrida وريفاتير M. Riffaterre ثمّ جينيت G. Genette وكان لكل منهم مصطلحاته، أو كان لكل منهم استعماله الخاص للمصطلحات السائدة بفهم خاص، وهذا ما دفع كريستيفا عام 1974 إلى التخلي عن المصطلح، إذ رأت أن معظم الذين استعملوه قد أساؤوا فهمه، وابتعدوا به عن النقد الجديد، وتحولوا به إلى نقد المصادر، وتبنت مصطلحاً جديداً هو التموضع Transposition مؤكدة أن التناص «تقاطع تحويلات متبادلة لوحدات منتمية لنصوص مختلفة». وميزت جوليا كريستيفا من خلال تعاملها مع الرواية بين نوعين من التناص هما التناص المضموني، والتناص الشكلي، ويعني النوع الأول «توظيف بعض الأفكار أو المعلومات الواردة في كتاب معين في الرواية حسب السياقات التي تقتضي ذلك التوظيف»، أما النوع الثاني، فيتجلى من خلال «مجموعة من التقاليد الشكلية التي سار عليها مؤلفو العصور الوسطى وهذه التقاليد على مستوى الألفاظ المستعملة أو الدلالات المعجمية الموظفة أو العبارات أو التراكيب، تنتقل إلى كتابة المؤلف منحدرة إليه من رصيده الثقافي الهائل الذي يصدر عنه أثناء ممارسته لعملية الكتابة». ويتضح هذا التمييز عند جيرار جينيت Gérard Genette، وهو الذي قدم دراسة موسعة للتناص في فصل من فصول كتابه «أطراس Palmpsestes» عام 1981 ويبدأ فيه بالحديث عن تطور فهمه للتناص وعن استعماله لعدة مصطلحات بديلة مثل «النصية الموازية Paratextualité» ، ثم «جامع النص lArchitexte» أو «النصية الجامعة للنص»، أي: مجموع الأصناف العامة أو «المتعاليات Les Transcendantes» (أنواع الخطاب، طرق التعبير، أنواع أدبية… الخ) التي تجعل أي نص متميزا، ثم يقترح «الماوراء نصية La Transtextualité» أو «التعالي النصي للنص La Transcendance Textuelle du Texte» الذي يعرفه بـ: «كل ما يجعله في علاقة ظاهرة أو ضمنية مع نصوص أخرى»؛ وهو بذلك يستعمل ثلاثة مصطلحات في حوالي عشر سنوات بين وضع جوليا كريستيفا مصطلح التناص، وبحثه الذي يحدد هو نفسه بعام 1981. ثم يحدد خمسة أنواع من العلاقات الخاصة بالمتعاليات النصية، النوع الأول هو الذي وضعته جوليا كريستيفا JULIA KRISTEVA تحت اسم «التناص Intertextualité»، ويعيد فهمه له، ويحدده بعلاقة حضور متزامن بين نصين أو عدة نصوص، ثم يضع له ثلاثة أشكال وهي الاستحضار Eidétiquement، أي بالحضور الفعلي لنص داخل آخر؛ بشكله الأكثر جلاء وحرفية، وهي الطريقة المتبعة قديماً في الاستشهاد Citation (بين مزدوجتين، بالتوثيق، أو دون توثيق معين). أو بشكل ثان أقل وضوحاً وأقل شرعية Moins Canonique (في حال السرقة الأدبية «Plagiat»؛ وهو اقتراض غير مصرح به، ولكنه أيضا حرفي. أو بشكل ثالث أقل وضوحا وأقل حرفية في حال «التلميح L’Allusion» الحاد تقدير العلاقة بينه وبين ملفوظ آخر، لما يلاحظه فيه من نزوع نحوه بشكل ما من الأشكال، وإلا فإنه يكون غير ملحوظ. النوع الثاني يسميه النص الموازي Paratexte ويمثله: العنوان، العنوان الفرعي، العنوان الداخلي، الديباجات، التذييلات، التنبيهات، التصدير، الحواشي الجانبية، الحواشي السفلية، الهوامش المذيلة للعمل، العبارة التوجيهية، الزخرفة، الرسوم، نوع الغلاف، وأنواع أخرى من إشارات الملاحق. والنوع الثالث يسميه «النصية الواصفة Métatextualité» وهو علاقة التفسير والتعليق التي تربط نصا بآخر يتحدث عنه، دون الاستشهاد به أو استدعائه، بل يمكن أن يصل الأمر إلى حد عدم ذكره. والنوع الخامس هو «النصية الجامعة lArchitextualité»؛ ويتعلق الأمر هنا بعلاقة بكماء تماماً لا تتقاطع -على الأكثر- إلا مع إشارة واحدة من إشارات النص الموازي التي لها طابع صنافي خالص مثل: العنوان البارز كما في «أشعار»، «دراسة»، «رواية الوردة».. أو، في أغلب الأحيان، مع عنوان صغير كالإشارة إلى أن الكتاب رواية أو قصة أو قصائد.. والتي تصاحب العنوان في أسفل الغلاف، وتحديد قانون أو معيار النوعية لنص ما ليس من شأن النص وإنما من شأن القارئ، من شأن النقد والجمهور. والنوع الرابع: وقد أرجأ جيرار الحديث عنه عمداً لأنه هو وحده الذي سيشغله مباشرة، وهو «النصية المتفرعة Hupertextualité» ويقصد بها كل علاقة تجمع نصاً (ب) -ويسميه نصاً متفرعاً- بنص سابق(أ) يسميه «نصاً أصلاً Hypotexte»؛ يلقح منه بطريقة مغايرة لتلك التي نجدها في التفسير، يلقح منه كما في الاستعارة. ويمكن أن يكون من نظام آخر؛ مثل: (ب) لا تتحدث قط عن (أ) ولكنها لا يمكن، في نفس الوقت أن توجد كما هي عليه بدون (أ)؛ يؤدي هذا إلى مصطلح مرتبط بعملية ينعتها به هو «التحويل Transformation» إذ تستحضر «ب» العنصر «أ» بظهور أقل أو أكثر دون الاستشهاد به أو التحدث عنه بالضرورة. الإنياذة lEneide وأوليس Ulysse هما، بدون شك، بدرجات متفاوتة، وهما بعنوانين مختلفين، عملان متفرعان لنص واحد أصل هو الأوديسا lOdyssée. ينتزع جويس سلسلة من الأحداث والعلاقة بين الشخصيات ويعالجها بأسلوب مغاير تماماً، أما فيرجيل فينتزع منها طريقة ما ويطبقها على أفعال مغايرة، أو بتعبير أكثر تحديداً: جويس يحكي قصة أوليس بطريقة مغايرة لهومير، وفرجيل يحكي قصة إيني بطريقة مشابهة لطريقة هوميروس؛ فهي تحويلات تماثل وقلب. هذا التعارض المبسط (قول نفس الشيء بطريقة مغايرة/ قول شيء مغاير بطريقة مشابهة) غير خاطئ بالنظر (أيضاً إلى كونه يبالغ في إهمال التشابه الجزئي بين أحداث أوليس وإيني) وسوف نجد في التشابه الفعالية والمردودية في فرص أخرى أفضل، غير أنه ليس تشابهاً عاماً، وسنرى ذلك أيضاً، خاصة وأنه يخفي تباين درجات التعقيد التي تفرق بين هذين النوعين من العملية. ثم ينبه جيرار إلى أن مصطلح «جامع النص» هو من اقتراح «لويس ماران ليعين به «النص/ الأصل لكل خطاب ممكن، أصله ووسطه الذي أنشئ فيه»، وهو قريب مما يسميه هنا (Hypotexte النص الأصل)، ثم يرى جيرار أنه حان الوقت لوجود مفوض commissaire لجمهورية الآداب حتى يفرض علينا مصطلحات متماسكة. كذلك يشير إلى أن مصطلح النص الأصل Hypotexte قد استعمل من قبل «مييك بال» Mieck Bal, Notes ou narrative embedding, poetics today, hiver 1981. في معنى آخر، يشبه تقريباً ذلك الذي أطلقته ديما على (القص ما بعد الحكائي récit métadiégétique). ثم يدافع عن هذا بقوله: (حتماً، لا شيء ينتظم أمره إزاء المصطلح، ولن نسمع من أحد يقول «ما عليكم إلا أن تتحدثوا مثل سائر الناس»). ومن كلام جيرار يمكن الوصول إلى بضعة مفاهيم، الأول أن المصطلح الواحد لا يمكن أن يكون نهائياً، ولا بد من تغييره، والثاني أن المصطلح الواحد يمكن أن تتعدد أشكال فهمه من ناقد إلى ناقد، بل يمكن أن يتغير فهمه عند الناقد الواحد بين حين وآخر، والثالث أن المصطلح لا يملك القدسية، ويمكن استعارته من حقل أو من شخص ويمكن تغيير معناه، والرابع أن عالم المصطلحات لا يمكن أن يحكم بقانون أو أن يخضع لسيطرة ما، بل إن جيرار يسخر ممن يرددون مثل الببغاوات كلام الآخرين، ومفهوم التناص بحد ذاته يلغي مفهوم المصطلح، ويؤكد تداول اللفظ والتحوير في الاستعمال، فالمصطلح نفسه يخضع لمفهوم التناصية. وكثير من النقاد العرب يسمون هذا بفوضى المصطلح وينادون بوحدة المصطلح، وهو ما يختلف معه جيرار جينيت، ولعل مرجع دعوة النقاد العرب إلى العقلية السكونية الخاضعة للاستبداد والتي تطمئن إلى السيطرة، ولذلك يسخر جيرار فيقول: نحن بحاجة إلى مفوض في جمهورية المصطلح، أي بحاجة إلى مستبد ليوحّد، في حين يعبر جيرار عن عقلية حرة منفتحة، ترفض التقليد والخضوع وتدعو إلى التغيير بل تمارسه.