يصور القاص العراقي العلاقة المعقدة بين الأب وأبنه في بيئة الطبقات الشعبية بأبعادها الخاصة داخل البيت والعامة في الشارع والمحلة "المجتمع" وتعقيدات حياة قاسية تؤدي بالأب إلى الإدمان والعنف، وانعكاس ذلك على الطفل الذي ينشأ ويصطدم بالأب وما يولده هذا الصراع من مشاعر متناقضة وعذاب للأب والابن.

ذكرى أليمة

كاظم الحـلاق

مات والدي وأنا لم أكمل العشرين بعد، كان مدمنا على الكحول وحينما يسكر تتملكه نوبات غضب حادة. كان والدي بجسد طويل يميل إلى الضخامة ولا تخلو ملامحه من وسامة مميزة. لم تقل والدتي ذات الهيئة الصغيرة أي شيء حيال سلوكه بل تكبت مشاعرها خوفا منه. كنت قد ولدت في الريف مع أختيّ الكبيرتين الوحيدتين وبدت الفترة التي عشناها هناك أجمل وأعذب فترة في حياتي حتى فترة انتقالنا إلى المدينة وأنا في الثانية عشرة من عمري.

لم يعرف والدي الكحول هناك بل كان سعيدا بالعيش مع أمي المنحدرة من أحد أهوار العمارة. لكن بعد أن انتقلنا للمدينة ولاقى والدي ما لاقاه من صعوبات ومسؤوليات العيش العديدة أدمن على الشراب في وقت قصير؛ ربما خلال سنة أو سنتين. لم يتدرج بشرب البيرة والمشروبات الخفيفة بل قفز رأسا نحو الكحول. كان لوالدي ابن عم يعيش في المدينة وهو من شجعه واستدرجه إلى عالم الشرب.

عمل والدي سائق "فان" في إحدى المطبعات، وأحيانا كان يخبأ الشراب في الدرج أمامه ليتناول منه جرعات في الطريق. وفي إحدى المرات صدم عمود كهرباء بالسيارة وجرح بشكل بليغ في رأسه ونقل إلى المستشفى، لكنه عاد للشرب ما أن تعافى.

حاول والدي ترك الكحول عدة مرات لكنه فشل إذ ما أن يفعل ذلك تنتابه نوبات عميقة من الاكتئاب والتشوش فيعود إلى شرابه بشكل أقوى.

بعد الحادث أخذ والدي الشرب وحده في البيت الذي نعيش فيه بإحدى المناطق الشعبية بالقرب من مركز مدينة البصرة يشاركه في أوقات قليلة قريبه حيث يجلسان في إحدى الغرفتين ويستغرقان في عالم الشرب بحبور وانتشاء وهما يتحدثان عن حياة الهور وأقرباء لهما بينما والدتي وأختاي يجلسن في الغرفة الأخرى.

بعد أشهر قليلة من ذلك، أقلع قريبه عن الشرب بينما واصل والدي الشرب وحيدا ثم قطع علاقته بقريبه بشكل تام. كان يعتقد أنه هو من جره للشرب وأوصى أمي أن لا تكلمه أو تستقبله في المنزل.

حينما يكون والدي في عطلة أو إجازة فإنه يشرب خارج والبيت ويعود مترنحا بعد أن يترجل من إحدى سيارات النقل العام. وذات مرة بينما كنت أقف قرب والدتي وهي تجلس عند عتبة باب بيتنا قرب جاراتها، عاد والدي مخمورا وعثر بحجر وسقط على الأرض أمام مرأى النساء فأحسست كأن الأرض تنشق وتبتلعني من الخجل والشعور بالعار. هممت إليه وأنهضته.

وفي أحد الأيام عاد بوقت مبكر من العمل دون أن تتوقع والدتي ذلك وكان قريبنا في زيارة لنا حيث جلس متبسطا بالحديث مع أمي وأختيّ، حينما رآه والدي انفجر من الغضب وتشاجر معه وطرده من البيت. ثم نهرني ورماني بقدح مملوء بالشراب في وجهي.

أمر أمي وأخواتي بالوقوف بمواجهة جدار الغرفة وأنهال عليهن ضربا بنطاقه العسكري الذي كان يحتفظ به من مخلفات خدمته في الجيش. كان يضربهن بعنف وهن صامتات دون أن يبكين أو تند عنهن كلمة اعتراض واحدة، بينما أنا أرقب ذلك دون أن أستطيع منعه خشية أن يسألني أن أقف معهن، وحينما شعر بالتعب توقف وجرت أمي وأختاي خطواتهن إلى الغرفة الأخرى وشرع يشرب ويبكي في الوقت نفسه بكاء حادا غارقا في أساه الدفين.

وقبل وفاته بسنتين وكان الوقت مساء صيف وكان قد بدأ بالشرب بعد الظهيرة في غرفته حيث نجلس جميعنا وبدا مخمورا إلى حد ما، ربما كان في عطلة من العمل وراح يشتم والدتي ويتكلم بشكل بذي عن أختيّ. فقلت له بينما أقف في الباب وأرقبه يهذر بتلك الكلمات: "كفى يا أبي لا تفعل ذلك دعك عن هذه الأمور، عيب من الجيران،، إنهم يسمعون كلماتك البذيئة". ما أن سمعني أتلفظ بتلك الكلمات حتى نهض غاضبا وهم بضربي إلا أنني تنحيت إلى ساحة البيت، قال من أنت كي تعلمني الكلام؟ وتشرح لي معنى العيب! واجهنا أحدنا الآخر؛ هو يشتم بي وأنا أتراجع نحو ممر ضيق في جانب الغرفتين، قائلا له: أبي أرجوك دع هذه الكلمات النابية، الجيران يتسقطون السمع وأنت تتمادى بكلامك المعيب، لا تليق بك هذه الكلمات ولا بعائلتك، غير أنه أخذ يتمادى محاولا ضربي على وجهي بقبضته فمنعته وتشابكنا بالأيدي، ثم دفعته بشدة فوقع واصطدم وجهه بجزء من ماكنة سيارة كان يحاول تفكيكها حينما يكون صاحيا فأخذ ينزف من أنفه بشكل خفيف على لحيته السوداء النابتة قليلا التي يتخللها بعض الشيب. ذهبت إلى الغرفة الأخرى وانهرت على الأرض منخرطا في بكاء مرير لساعة أو أكثر، شاعرا بندم هائل.

وفي اليوم التالي بينما هو يجلس في الغرفة ويهيأ بعض المزات استعدادا لبدء الشرب اعتذرت منه و قبلت يديه وقدميه ورجوته أن يغفر لي لكنه بقي صامتا دون أن يقول شيئا.

عقب ذلك الحادث ساد بيننا بعض الوئام وهدأ أبي قليلا ولم يعد عدوانيا بمثل الشكل السابق، لكنه لاح أكثر وحدة وانغلاقا على نفسه. تزوجت أختاي في بغداد. وعقب زواجهما بأشهر قليلة توفيت والدتي ربما من القهر وهي ترى صحة والدي النفسية تنهار بسرعة.

بقينا نعيش في البيت أنا وهو فقط. لا نتكلم إلا قليلا وواصل الشرب بإفراط اكثر من السابق كما أصبح أكثر حزنا وفقد الكثير من الوزن.

ذات ظهيرة بينما هو أثناء العمل تعرض والدي إلى حادث سيارة إذ صدمت "الفان" خاصته شاحنة كانت محملة بالقصب فانقلبت في المكان وتناثرت أكوام القصب في وسط وجانب الطريق العام. توفي والدي في الحال خلف مقود السيارة. بكيت كثيرا في ذلك اليوم ثم جاء أقرباؤنا وقاموا بمراسيم دفنه.

بعد ذلك بوقت أخذت أخطط للسفر ومغادرة العراق محاولا أن أعيش حياة جديدة وأتخلص من تلك الذكريات المريرة التي تنهش روحي كلما رأيت شيئا يذكرني بعائلتي. أعرف تماما أن هذه الذكريات والأفكار أمست في الماضي الآن وأنها غير موجودة إلا في رأسي، لا الأصدقاء ولا الجيران يعرفون بها، لا يعرف بها إلا أنا، ويتوقف الأمر عليّ فيما إذا تركتها تعكر صفو حياتي أم أدعها تمر مثل سيارات مسرعة في أفق مهجور.

 

2017