لحظة يأس جارفة تدفع الشاعر التونسي الى تشريح ما بمور حوله من خذلان، جميع التفاصيل تتوحد في الوطن الذي ينفلت فجأة بين يديه، حيث التباسات الواقع المرًة وسقوط وانهيارات الحقائق والفشل المستمر، هي بعض من صور تتقاطع جميعها كي تشكل حالة من التشظي عند شاعر لا زال يحاول تلمس كوة من ضوء شريد.

بي شُــرودٌ صوْبـَــها

سيف الدّين العلوي

هذا أنا متلألئ في عزلتي.

أتنكّب السُّبُـلَا..

أستنبئ الخلاّن عن خذلانهم - لا غير- لي ..

يتهافتون في لهفٍ على شرف العُلَى الموهوم،

مثل بعوضة سكرى ترفُّ على الغثاءِ ..

وكالحرابي تستعيض بلونها عن لونها.

عن لونها.

أي عن هويّة جلدها..

شهباء من فرط التلون لا تُــرَى..

يعلون فوق الريح قَشّا، مُـزْدهين بِـخفّـةِ نَـصرهمْ .

يتقاطفون من الغيوم العابراتِ لوامعَ البرق الكذوب

وشهوةً في الرعد مضمرةً..

وماءَ النّـوْء للإمْـراع مُحتَـمَـلا..

 

* * *

هذا أنا متربّـص بالصاعدين على جناحٍ من رمادِ حقـولنا. .

الحقل أوشك بعد حرق أن يضيء ولم يضئْ..

الحقل، فوق بهائه المصهور قد نـزّ الصديد.

هل سَيّـلوا في ورده الأنْـساغَ أم صـدأَ الصّـدأْ؟

* * *

هذا أنا

متربّـص بالقادمين من الغياب مدججين بظلمة

الورع الوضيء. مزوّدين بمخلة القيم العتيقة .

حزمة الأحلام حين تزاوجت – وتجاوزت عن سالفات الإثم-

في كـفِّ البنفْـسج والسّواد!

ماذا سيفعل بالعباد الآن أبطالُ الخرافة في البلادِ؟

ماذا سيفعل ذلك الرّهط المهرِّجُ

و القرينُ الظِـلُّ في الزمن الجديد

بحفنة الأوغاد والأضداد !؟

أوَ يزرعون الضوءَ في ما استـوى من عتمة النّـفـق الأخيرْ

أفلم ْيكونوا يعلمون بأنّ دود الشر نَـخّـارٌ بتفّاح الحديقة.

أم بأنّ الإرثَ بــورْ!؟

* * *

في أي معركة ستزهر يا ترى فيك البطولة يا رفيقْ!؟

ساحُ القتال جميعها مشبوهة، مسمومة، مرسومة،

والفاتحون الماتحون من الجراح ، سماسره

تلك المعامعُ حينذاكَ، كما الرهان على الهَباء:

شتيت ضوء في المكان تَـخالُه أم حزمة من ظلمة متبعـثّـرهْ؟

لا تَحْـبَـل الأحلامُ في أرض الرّياء ولا المنى..

ساحُ القتال جميعها محسومةٌ ..

مثلومة كلّ السّيوف، فلا ترى إلا العزائمَ

كالفوارس في القصيد صَـوائدا.

أمّا النفوس الخالصات فبِـالبلادة، كالبلادِ، مُـعفّرهْ!

في أيّ معركةٍ ستزهر يا تُرى فيك البطولة، يا سليل الانكسارات الذّليلة..

ما الذي أفضتْ إليه فصاحة الخطباء و الفقهاء

والزّعماء و الثوّار والعظماء؟

أ أنتجت مطرا خصيبا أمْ مناخا مُمْحِـلاَ!؟

* * *

عن أيّ ملحمة تـدبّجُ باللـّـغَى أشعـارُ!؟

كلّ المعارك ههنا مدحورة سلفا..

ما كان ينبغي أن نـقُـدَّ لنا عدوّا زائـفا

حتى نبرهن أننا أحرارُ!؟

أوَ كان ينبغي أن نغضّ على الخطيئة و الأذى فيقال مَدْحًا باطلاً:

حُكّامُ هذا العصر أكثر حكمةً و مروءةً ممّنْ تـَولّـَى أو تسلّى أو تخـلَّى..

و لهم هدوء ماكر. وبصائر نفاذة. و طلاوة و حلاوة. و فصاحة و فهاهة.

وتقلّـص و تمدّد. و تودّد و تردّدٌ . وتمسْكنٌ و تمكُّنٌ... أو لدغة فـبـَـوارُ!؟

ها أقبل الغربان ثانية ، ففي روح البلاد نـواجذ منْــشوبة .

أمّا الفرائس فالمخالب غلغلت في لحمها و دم الوتين مُـفَرَّقٌ في صدرها.

وعلى حرير النّاعمات من الوعود دمُ الكلام نـُثارُ ..

* * *

ها أقبل الخلاّن و الربّان و الركبان و الرهبان ثانية،

على جيَفِ الحقول. و حولهم سِرب من الرّخم الضّروس ،

و فوقهم بعض القطيع من الذّباب..

لن يتركوا هذي المغانمَ للسّوى.

(اسمعْ نشيش النّهْش في كبد الضّحى.. انشُقْ وميض الشّحذ في تلك المُدَى..

و انظرْ رنين الحزن يرسم حسرةً في الحالمينْ.. أو ذُقْ بريق الماءِ مَوْهَ سَراب...)

 

لن يرتضوا أنّ الإيابَ من الغنائم زادُهمْ.. ما آمَنوا أنّ الغنيمة

في انعتاق نشيدنا، من فتنة السّفَهِ الكذوب و منْ عقيمِ خطابِ..

أنّ السلامة ، بعدَ شوط القهْرِ و التّنكيل و التّشريد،

شوطُ خديعةٍ و إيابِ..

* * *

هاؤم كتابي فاقْــرؤوه..

لم أقرض الأشعار في السلطان دهرا كي يغضّ عن الخطايا

(الخطايا : كنت أحلم في الخفاء بأن أقوّض دولة الفسق الحديثة بالنّشيد.

و أن أعدّ خطاطة لطريقة في الحلم و الأشواق مُـــثْـــلَى.

أن أعطّر سيرة الشهداء و الموتى مآثرَ في المراثي الخالدات..

أمِن الخطايا أن أقيس هوامشا لسعادة الإنسان في وطن النّحيب؟

وأن أخطّ لمنهج الأحلام أكثر ،من مسوّدة جديدة؟

هاؤم كتابي فاحرقوهْ..

لن يرفع الجلاّد سوطَه عن جراحي لو أنا هادنتُه بمدائحي؟

هل يرجئ الربُّ الجديدُ مواسم الطّاعون و الطّوفان بعضَ مسافة،

لو أنّني في مجده الدمويّ، قد قرّبْتُ كلّ ذبائحي؟

الموعد الآن انفجار الكون عن كلّ الثّوابتِ و الجواهر و الأصول..

الموعد الآن اختبار أمانة الحمقى، وقد ركنوا لنزوة النّهم العنيدهْ..

* * *

الساسة الفُجّار لا يبغون عن فردوسها حِـوَلَا..

هذي البلاد المطمئنّة للرّدى لم تؤت غير السدر

و السعدان

و الزقّـوم من بستانها،

أكُــــلَا..

* * *

أوَ كانَ بي، و بسائرِ ِ مَنْ قضوْا في حُلمِها، سَفَهُ؟

أنا لم أذقْها.. رغم ما بي مِنْ صدًى..

أنا لم أذقْ حتّى عبيرَها حين يمثُلُ في دمي ثــمِلاَ..

لم أهتدِ لمناخِ لذّتِها المجَنِّـنِ..

لا و ما أهْــذي بتــِهْيامٍ بها خــبَلاَ..

كانتْ على كفٍّ العواصفِ تنبضُ بالخصوبة و الضياءِ،

و تُــنْـبئ في توهّجها بأنّها نِعَمُ الخلود اليانعاتِ..

و أنّها أدنى من الفردوسِ دَوْسا..

أنّها، و قُطوفَها، نُـكَــهُ..

كانتْ على مرمى الكلام،

مُـعدّةً لمتاهةٍ حمراءَ تــقطرُ بالبياض و بالنّدى حينا،

وحينا تنطِفُ الغيماتُ منْ آفاقِها عسَلاَ..

أين الحقيقةُ هلْ صفتْ من شوْبِـها اللغوِيِّ ..

هلْ نفَضَتْ على مضضٍ حُـمولةَ وزرها بمجازها؟ ! ..

و مجازُها ولِــعٌ بها، و بلحمِها العاري،

  • شفّـَهُ من فتنةٍ في وصْفِها، الــشَرَهُ..

كانتْ على شغفٍ تـَــــلَألأُ بالحنين

وِ مِنْ جوًى الفسّاق حالَ جُنونهم ومُجونهمْ،

قد مَــسّها مِنْ سُمّهمْ صَرَعٌ

قد طالَها من فِــسْقِهم وَلَــهُ..

خضراء تُؤْنــِسُ أم تُــــــرى صفراءُ توحشُ؟

أم تُرى تَـــــــتْرى بها الألوانُ حتّى تمّحي

في لمحةٍ، ألوانُــها الشُّبَــــهُ؟

أنا لم أذقْها.. رغم ما بي مِنْ صدًى..

لمّا أذقْ حتّى احتمالَ الحلمِ في كنَفَاتها..

و الوهمُ يسلبُني الحقيقة، يبذرُ في المدى ريحا بلا جدوى،

و يحرقُ السُبُـــلاَ..

نِعَمُ البلاد، الطازجاتُ الأكْـــلِ، بَعْدُ مَعينُـــها من نتْنِه يتأسّنُ..

و حقولُها في نُضجِها إذْ أثمرتْ، تتـَسَــنَّهُ..

أنا لم أذقْها.. رغم ما بي مِنْ صدًى..

ليس الذي بي سوى عطشٍ لنخوتها

لكنّ ما يبدو بهمْ، بالممتطينَ جراحَها،

بَـــلَــهُ..

لم تذو عاطفتي التي ساقيْتُها..

لكنّ شوقَ الحلمِ بالأوطان

والإيمان بالإنسان

قدْ ذبُلاَ..

 

شاعر / تونس