يتناول الباحث المصري في هذه الدراسة المستبصرة مجموعة من القضايا الكاشفة والمتعلقة بجدل الشفهي والكتابي في رواية خيري شلبي، ويكشف عن أن هذه الجدل الذي يتجاوز اللغة إلى البنية ويتخللها قد يكون سر الفجوة بين نصوص هذا الكاتب والمؤسسة النقدية السائدة.

«وكالة عطية» ... لسان الورق

سيد ضيف الله

لا يخفى أن تعالي النقد الحداثي في الغرب على الفن الشعبي والجماهيري قد كان من نتائجه إنتاج نظريات نقدية تعني فحسب بما يطلق عليه الفن الراقي، فكان لكل ناقد حداثي قرينه من المبدعين الحداثيين (جوستاف فلوبير ـ رولان بارت/ ما لارميه وانتونين ارتو ـ جاك دريدا/ مارجريت ـ فوكو/ جويس وارتو ـ جوليا كريستيفا)،(1) وفي ظل الحداثة العربية بوصفها حداثة تابعة كانت الممارسة النقدية تنهج نفس النهج، لكن "الفن الشعبي" على تنوع طبقاته وأشكاله ينتقل من المسكن الأنثربولوجي أو الفولكلوري ليسكن الرواية باعتبارها النوع الأدبي الأكثر تمثيلا للحداثة. ومن ثم كان عنوان هذه الدراسة "لسان الورق" مناسبا لأنقل من خلاله دلالتين، الدلالة الأولى تتعلق بالعلاقة بين كتابة خيري شلبي ومؤسسة النقد، إذ تتسم "مؤسسة النقد" بالانتقائية في تعاملها مع النصوص، وهذا أمر طبيعي، فالناقد من حقه أن يحتفي بالنصوص التي يستطيع أن يتفاعل معها بادواته النقدية التي يمتلكها. على أن من الطبيعي كذلك أن ما تتسم به "مؤسسة النقد" من تعدد في المذاهب الفكرية والمدارس النقدية يسمح في المحصلة النهائية بالقول أن المنظار النقدي وإن كان إنتقائيا لم يغفل عن كتابة جديرة بالفحص. لكن يبدو أن علاقة كتابة خيري شلبي بمؤسسة النقد علاقة مركبة تتوزع مسئولية عدم الاهتمام اللائق على كلتيهما (مؤسسة النقد وكتابة خيري شلبي). ويفسر جابر عصفور تلك العلاقة المركبة بقوله: "وأتصور أن سبب ذلك يرجع إلى أن المركز النقدي نفسه ينطوي على المبدأ الذي تنقضه هذه الكتابة، فهو مركز يتعشق علّته التي ينبني عليها، كما يتعشّق نرجس صورته، ولا يفارق نوعا من أحادية الرؤية، ولا يجد مراحه إلا في الكتابة التي تستجيب في طواعية ويسر إلى التصنيفات الجاهزة والأنساق القبْلّية، وكتابة خيري شلبي تقع خارج التصنيفات الجاهزة وتتأبى على عدسة البعد الواحد... إلخ"(2). تلك هي الدلالة الأولى التي أردتها من ذلك العنوان، فكتابة خيري شلبي تكاد تغيظ الناقد، فتخرج له لسانها مع كل صفحة يقلبها، فلا هو يكف عن تقليب الصفحات، ولا هي تكف عن إخراج لسانها، لا سيما في "وكالة عطية". أما الدلالة الثانية التي أردتها من هذا العنوان "لسان الورق" فهي تتعلق بموقع رواية "وكالة عطية" على خريطة العلاقة بين الشفاهية orality والكتابية literacy.

إن النظر إلى رواية "وكالة عطية" من منظور "الشفاهية والكتابية"، لا نطرحه هنا بوصفه حلاً لمشكلة الرؤية الأحادية للمركز النقدي، تلك الرؤية التي تتلبس المناهج النقدية الواقعة في مجال تأثيره، وذلك لأن العربي (بشقيه الشفاهي والمكتوب)،(3) و(منظور الشفاهية والكتابية)، يطرح علينا أسئلة أخرى تتعلق باستمرار الشفاهي في المكتوب، ليس في فن المقامة، ولا في حديث عيسى بن هشام، ولا حتى أحاديث طه حسين في "المعذبون في الأرض"، وإنما في رواية "وكالة عطية" لخيري شلبي بوصفها رواية تصدر في نهاية القرن العشرين لروائي ينتمي لجيل الستينيات (الحساسية الجديدة في كتابة الرواية حسب مصطلح صبري حافظ). لتتواتر الاسئلة: هل منطق التأليف الروائي كتابي أم شفاهي؟ هل يمكن أن يكون استمرار الشفاهي في المكتوب مجانيًا؟ هل أجابت مؤسسة الرواية العربية على سؤال "الشفاهية والكتابية" والنوع الروائي بتقديم عدد من المذاهب الروائية تبقى على تنوعها إجابات محتملة على سؤال واحد: ما الرواية؟ إلى أي مدى يمكن أن تسمح الطبيعة النوعية للرواية بتطور مذهب الروائيين الحكائين (يحيي الطاهر عبد الله ومحمد مستجاب وخيري شلبي على سبيل المثال)؟ إلى أي مدى ينعكس الفارق بين روائي "كتّيب" وروائي "حكّاء" على عناصر التشكيل الروائي "اللغة ـ الشخصية ـ الزمان ـ المكان ـ إلخ؟

تلك كانت بعض الأسئلة التي تثيرها كتابة خيري شلبي بصفة عامة، وروايته و "كالة عطية" بصفة خاصة، ومن المؤكد أن دراستنا هنا لا تهدف لتقديم أي إجابات عن تلك الأسئلة، بقدر ما تهدف إلى إثارتها، لتأخذ حيزها المناسب في المساهمات النقدية ذات الطابع التنظيري المستند على قراءة لمجمل الأعمال الروائية وثيقة الصلة بهذا الطرح. وأقصى ما نستطع قوله في هذا الصدد هو أن الارتباط بين الرواية والمطبعة لم يكن ليقتصر على مرحلة النشأة، وإنما امتد ليكون للمطبعة بوصفها من لواحق الكتابة دور رئيسي في تمييز التنوع الروائي عن سوابقه من أنواع الحكى، بمزية أن منطق تأليفه هو منطق التأليف الكتابى. فالرواية وإن كانت وفقا لباختين ـ هي عبارة عن تنوع كلامي واجتماعي منظم فنيا(4)، فإن تأسيس جوليا كريستيفا لمفهوم أيدولوجيا الرواية بوصفه "وظيفة التداخل النصي المحددة على مستوى المجموع النصي الخارج روائى، والتي تمتلك قيمتها في المجموع النصي الروائى"(5)، أوضح أن ثمة عملية انزياح للملفوظات من المستوى الخطابي (التواصلى/ الصوتى/ الاخبارى) إلى المستوى النصي (مستوى الإنتاجية)، حيث لا يقبل أيديولوجيا العمل الروائي (بأي خطاب آخر إلا إذا جعل منه خطابه هو)(6). ومن ثم فإن عملية الانزياح التي تمارسها الكتابة الروائية على التعبير الحي اليومي ومفردات الثقافة الشعبية إنما هي عملية منطلقة من وعي نقدي بدرجة أو بأخرى تجاه الوعي الذي أنتج هذا التعبير الحي أو ذاك، والكتابة بوعيها النقدي هذا تجاه العبير الحي إنما تسعى إلى أن تحقق إبداعيتها بتحقيق أمرين متعارضين في آن واحد، أولهما: أن تستدعي التعبير الحي اليومي باعتباره شرط تميزها(7)، وآخرهما نقده باعتباره شرط حداثيتها. ونحاول هنا أن نتبين الكيفية التي حققت بها وكالة عطية هذين الأمرين.

الأغنية الشعبية بوصفها استهلالا روائيا:
يبدو أن من آثار الحداثة على الآداب أن جعلت من الاستهلال مفهومًا يحمل تصورات الحداثة وآفاقها ليختلف بحمله تلك التصورات عما كان عليه الحال في النقد القديم مع البدايات والمطالع والمفتتح. وإن كان هذا الاختلاف لا يطول المهمة التي هو منوط بها، إذ يبقى الاستهلال في كلتا الحالين محافظا على مهمته الرئيسية وهي "ما من شئ يحدث فيما بعد في النص إلا وله نواة في الاستهلال"(8)، وللاستهلال في وكالة عطية خصوصيته، من حيث إنه ليس من صنع الروائى، ومع ذلك اختاره الروائي ـ غالبا بعد أن أكمل بناء روايته ـ ليكون بوابة لروايته، وبناء مستقلا عنها في آن. فتغدو علاقة الاستهلال "الأغنية الشعبية" بعالم الرواية هي علاقة اتصال خفي ووثيق في آن، على اعتبار أن الأغنية محملة بعمق ميثيولوجي للشعب على نحو مكثف بشدة. فتكون مهمة الرواية بمثابة بسط الأغنية بملء الفراغات بين عوالمها المتناثرة والتي لا جامع بينها في الأغنية سوى عبث الأطفال بالألفاظ:

يا قمرنا يا هادي
يا لابس بغدادى
شيل حماتك وارقعها
خلي الدم يفرقعها

حيث تتداخل بعد ذلك عوالم: "خلي أمي تطلع تغسل"، "المنديل مليان حنه"، "يا حدايه ما تاخديش جناتى"، "الدكة يا محلاها شيخ العرب جواها" و "دار أمي كبيرة كبيرة.. فيها عسكر كتيرة كتيرة". ويصعب الوصول إلى تفسير محدد لما يمكن أن يربط بين " القمر ـ الحناء ـ الحداية ـ شيخ العرب ـ العسكر في دار الأم"، لما يبقي المجال مفتوحا لتأويلات متعددة لتلك الرموز ذات الطابع الاسطورى، غير أن ما يمكن تلمسه في الرواية أن ثمة أسطورة روائية تنسج من تلك الرموز أن اتخذت شكلا معاصرا.

إن الأغنية الشعبية في هذا الاستهلال لم تؤد وظيفتها بشكل تقليدي يريح ذهن القارئ على النحو الشائع في كثير من الروايات التي تعمل في استهلالها على تقديم لمحات عن الشخصية الرئيسية والحدث وزمانه ومكانه في فقراتها الأولى، وإنما ما فعلته الأغنية الشعبية في هذا الاستهلال لدى القارئ هو تحديدًا الدهشة الناتجة عن قراءتها لهذا المنطوق، وهي دهشة كفيلة لإثارة ذهنه بالبحث عن العلاقة بين هذا الاستهلال وهذه الرواية، وذلك من منطلق أن الصلة بين الاستهلال والرواية تختلف عن تلك الصلة، التي كانت بين الاستهلال والحكاية الشعبية، فإذا كان مقبولاً وشائعًا أن يكون الاستهلال في الحكاية الشعبية عرفًا تقليديًا(9)، يفرضه سياق القص الشفاهي فتغدو وظيفة الاستهلال اجتماعية أكثر منها بنائية، فإن وظيفة الاستهلال في الرواية ترتبط في ذهن القارئ بضرورة وجود علاقة بنيوية في الرواية واستهلالها.

وتسحب وكالة عطية بعد ذلك هذا القارئ في حالة اندهاشه من الاستهلال الملغز "الأغنية الشعبية" إلى الاستهلال المألوف في عرف الرواية الواقعية حيث التعريف بالشخصية في زمكانيتها، ويأتي هذا التعريف على لسان الرأي المشارك في الأحداث. "ما كنت احسب أن الحال يمكن ان يتحدر بي إلى حد قبول السكنى في وكالة عطية. بل ما كنت أتصور أنني قد صرت صعلوكا حقيقيا، ومن زمرة الصياع القراريين، إلى حد إن أعرف مكانا في مدينة دمنهور اسمه "وكالة عطية"... المفروض أنني طالب بمعهد المعلمين العام، أقصد كنت كذلك لما يزيد على عامين. إلا أنني رزئت بمدرس... لم يعجبه أن أبناء الفلاحين المعدمين، القادمين من القرى والعزب أشبه بالجرابيع الحفاة، يمكن أن يتفوقوا على أبناء المدارس الأصلاء من أبناء الذوات" (الرواية ص9) ففي هاتين الفقرتين التي يستهل بهما خيري شلبي روايته نتعرف على العناصر الرئيسية في الرواية وكأنها بذور يغرسها لتنمو عبر الفصول اللاحقة، إذ نحن بصدد:

غير أن الملاحظ أن لهذه العناصر نصيبًا في عناوين الفصول، والتي يصل عددها إلى الخمسين عنوانا، إلا عنصر البطل (الراوي المشارك) ليس له حضور في تلك العناوين. وكأنه أختار أن يكون حضوره حضور الراوي الشاهد أو حضور المروي عليه. حكايات تسع شخصيات جعل منها عناوين لتسعة فصول، ليس من بينها سوى شخصية واحدة تنتمي لعالم مدينة دمنهور هي (بدرية) أما الشخصيات الثمانية الباقية فتنتمي لعالم الوكالة وهى: (شوادفي ـ قطيطة ـ دميانة والقرد ـ الداية والحانوتي ـ زينهم العتريس ـ عفريت أم وداد ـ سندس والهريسة ـ وديدة أنقح من وديدة ـ بديع ـ فكيهة)، مثلما اختار أن يكون عين كاميرا ترصد تفاصيل المكان في عالم الوكالة حينا، وفي عالم مدينة دمنهور حينا آخر، فجعل من سبعة فصول عناوين لأسماء أماكن تتوزع خمسة منها على عالم الوكالة هي (الوسعاية ـ البوابة ـ حجرة بمصطبة ـ أسواق.. أسواق ـ وفيها مقبرة) والعنوانان الآخران يختصان بمدينة دمنهور وهما (حارة بنت عمي ـ شارع الإخوان) ويهيمن عنصر الحدث على النسبة الباقية من العنأوين (34 عنوانا) ليأخذ شكل تعبيرات شعبية حيناً مثل (البير وغطاه ـ البلابيص ـ الليلة الكبيرة ـ ومسك إلختام) أو تعبيرات قرآنية درجت على الألسن (حبل من مسد)، أو تعبيرات كلاسكية مثل (رسول من جهنم ـ الجذوة والرح ـ الفاجعة ـ الحنين... إلخ).

ما نود إستخلاصه من تلك الملاحظة الإحصائية هو أن بطولة الراوي بوصفه أنا السارد لأحداث تميل كثيراً إلى منطقة السيرة الذاتية إنما هي في الحقيقة تكشف عن وقوع الراوي في غواية أبطال آخرين، يمتلكون عالماً أسطورياً يقف الراوي على حافته، في حالة من التردد بين التقوقع على الذات المطرودة من عالم الأفندية، والتواصل مع عالم الوكالة وفق شروطه الخاصة، وحينا آخر يقف الراوي وقد قرر الإندماج في عالم الوكالة لكنه يكتشف أنه عاجز عن تحقيق ذلك الاندماج، ليكون السجن، بوصفه المكان الذي يشهد رسميا على تحول الراوي من بطولة "الحكي عن.." إلى قبول شروط الاندماج في "عالم المحكى" عنهم وهو "مسك الختام". ويمكن أن نرى في علاقات الراوي الجنسية مؤشرا على الحالات التي مر بها الراوي في علاقته بعالم الوكالة (الشعبي العشوائى)، فالراوي بعد طرده من معهد المعلمين، وتشرده ولجوئه إلى السكن في الوكاله، نجده ينجح تماما في إقامة علاقة جنسية كاملة مع (بدرية)، ليحقق لنفسه لذة ذات مصدرين أولهما الجنس، وآخرهما الإحساس بالانتقام من عجرفة الحاج مسعود، لكن شروط هذا النجاح متوفرة، فليس هناك ما يشوب فحولة الراوى، والأهم أن النجاح يتحقق مع بدرية مثيلته في الإنتماء للمجتمع المدني (دمنهور)، فضلا عن الإنتماء العائلي، لكن يعجز الراوي عن تحقيق مثل هذا النجاح في حالة سندس، لدرجة أنها تبصق عليه، كما يعجز كذلك في حالة وداد، التي تحاول أن تعيد إليه ثقته في فحولته، لكن الفشل في الحالتين (سندس ووداد) يتجاوز قدرته الجنسية إلى وضعيته في علاقته بالعالم الذي ينتمي إليه كل من (سندس ووداد) وهو عالم الوكالة، إذ مازال الراوي ضيفا على هذا العالم يكتفي "بالفرجة" وعندما ينتقل الراوي من وضعية الأفندي المتفرج على عالم الوكالة (الشعبي العشوائى) ويشاركهم في عملياتهم، وحيلهم لتحصيل قوتهم، ينجح في ممارسة الجنس مع زوجة سيد الزناتي (ستات).

ومن المهم هنا ملاحظة السياق الذي ينجح فيه الراوي في استكمال العملية الجنسية مع (ستات)، ففضلا عن زمالته لها في عمليات النصب والاحتيال، فقد جمعت بينهم شروط التواصل المتعارف عليها في ثقافة الوكالة والتي أساسها الفضفضة. فأفضى الراوي لـ(ستات) بقصته، وأفضت ستات له بتاريخها، بما فيه اغتصاب زوج أمها لها وهي صغيرة، حتى وصلت لسيد الزناتى، أما العامل الثالث الذي كشف عن القاسم المشترك بين الأفندي المطرود من مجتمع الأفندية (الراوى) وبين ابنة الوكالة اجتماعيا وسياسيا (ستات) فهو هجوم الشرطة المفاجئ على الوكالة، بحثاً عن أحد أعضاء جماعة الإخوان المسلمين بصحبة زوجته ـ وهو الدور الذي لعبه كلا من الراوي وستات. فقد نتج عن هذا الهجوم لجوء كلا من الراوي وستات إلى القواسم المشتركة بينهما. فأسرعت ستات بإظلام الغرفة للإختباء من أعين الشرطة، ثم تلاصقت الأجساد بينما الشرطة تتوعد شوادفي في الخارج.

"الحكومة وصلت!.. ولهذا سأفعل هكذا، ولن أفتح الباب حتى ولو كسروه!" ثم رفعت جذعها الممتلئ، ومدت ذراعها البضة نحو أعلى الحائط بجوار الباب، فضغطت على زر النور فإنطفأ، سقط فوقنا الظلام الدامس.. وزحفت بإليتها على الأرض فحاذتني.. فهبطنا سوياً على الأرض ممتدين" (الرواية ص 371). حدث هذا الاتحاد بين الجسدين ـ الكيانين والراوي في دهشة لا يدري إن كان سببه الخوف واليأس، أم الرغبة الحارقة وإلتحام الجمرة بالريح.

بهذا يكون الراوي قد انتقل من وضعية المتفرج على العالم العجائبي للوكالة إلى وضعية المنتمى، ولهذا يتخذ مكانة جديدة في مجتمعه الجديد، فعندما يتحدر الحال بـ "سيد الزناتى" ـ نتيجة لعودته لدائه القديم "الأدب والفن" مما يعوقه عن الوصول لأفكار تصلح لعملية نصب بوصفها مصدر رزق لهم جميعا ـ نجد الراوي يدخل عليهم محملا بنفحات بدرية له، من "الفطير المشلتت"، فيحق له أن ينقل "مقر السهرة" من حجرة الزناتي، إلى حجرته هو، ومع تغير طاقم الشرطة الذي يعرفه شوادفى، يفشل شوادفي في أن يلعب دوره القديم، (الباب الكبير الذي يغلق على من في الوكالة ليكونوا في مأمن)، وهنا يدخل الراوي السجن لأول مرة بتهم مثل تلك التهم التي اعتاد سكان الوكالة دخول السجن بسببها (لعب القمار ـ الخمر ـ الدعارة)، وفي السجن يجد الراوي نفسه في صراخ لا جدوى منه منهوكاً بالتعب والقهر واليأس، وهنا فقط يمتلك القدرة على الرؤية في الظلام الدامس، وما يراه الراوي في السطور الأخيرة من الرواية ليس إلا "الأغنية الشعبية" التي كانت الاستهلال الملغز للرواية، وهي "أغنية القمر"، فهذه الأغنية تغني عندما يكون القمر مخنوقاً ـ في حالة خسوف ـ بغرض حثه في المعتقد الشعبي لدى الأطفال خاصة على إنارة الدنيا، حين تبدأ في الظلام. ولهذا يأتي ذكر الأم التي تغسل لأطفالها الثياب، ويأتي ذكر الحناء كعلامة على الفرح المتوقف على ظهور القمر، ويأتي ذكر الحداء التي تسرق الفرح/ الحناء، ويأتي ذكر السيد البدوي بوصفه مصدر حماية، ويأتي أخيراً ذكر العسكر بوصفهم مصدر الخوف العبث بدار الأم حيث (الشن ـ الزن ـ الرن).

يخلص الراوي الأفندي المطرود من مجتمع الافندية بعد ثورة يوليو و "المتحدر" إلى مجتمع وكالة عطية (الشعبي العشوائى) إلى أنه استطاع أن يرى القمر مخنوقاً، مثلما رآه الأطفال في أغنيتهم الشعبية: "وفي الظلام الدامس رأيت قمرا شاحبا مخنوقا ًيتمرد على جحافل السحب، ليلقي على الأرض نظرة: كانت بدرية تمضي أمامي في خط مستقيم، تتأبط قرطاسا من زهر البنفسج، فلا أرى سوى ظهر شبحها الملتف بالسواد، يمضي نحو شاهد قبر بدا في رمشة القمر كقالب من الرماد الأبيض، فوق فيل خرافي بارك على الأرض" (الرواية ص 418 ـ 419). نلاحظ في هذه الفقرة أن الراوي يفسر بعد علامة النقطتين(:) رؤيته لهذا القمر المخنوق، أنه بدرية الوطن الذي أحبه فبادلته الحب حباً وعطاء (غطاء الشتاء ـ الأموال التي يتقوت بها في الوكالة ـ الفطير المشلتت)، بدرية التي ذاق حلاوتها، بينما نفر الآخرون منها لعيب خلقي (الشفاه الغليظة)، بدرية التي اغتصبها صاحب البيت السكير العقيم وهي طفلة، ثم أجبره أهلها على التنازل لها عن البيت تعويضا لها عن شرفها، ثم سكنوا جميعا في البيت، كان شرفها ثمن صعودهم الاجتماعى. وهي أيضا بدرية التي أحبت الراوى، وتمنته، لكنه طرد إلى وكالة عطية، ثم تزوجت من عجوز عقيم كان من ضباط الجيش 1948 الذين نمت في صدوهم الثورة ثم ظهر فيما بعد أنه من الجهاز السري للإخوان المسلمين، فينشق بعد انقلاب الثورة على الجميع، بدرية التي يراها الراوي الآن تحمل زهر البنفسج الحزين وهي ملتفة بالسواد متجهة إلى شاهد قبر هو القمر المخنوق.

الأسطورة في الرواية:
في الرواية الحداثية منحيان للتعامل مع الأسطورة أحدهما منحنى الروائيين بناة الأساطير وهم عاشقو النسق، والآخر منحنى الروائيين هدامي الأساطيرالانشقاقيين عاشقو الفوضى(10). يطرح بول ديكسون هذا التصنيف اعتمادا على التمييز بين الآداب التي أنتجتها العملية العقلية الشفاهية، والآداب التي أنتجتها العقلية الكتابية على أساس ثنائية (اليقين والشك)، فالعقلية الشفاهية عقلية اليقين والثابت والأبدي (الأسطورى) أما العقلية الكتابية فهي عقلية الشك والمتغير والزمني (الحداثى). والحقيقة أن تصنيف ديكسون هذا على ما فيه من جاذبية إلا أنها جاذبية الميل إلى التعميم، المنطلق من التوجه البنيوي نحو اختزال التعدد في ثنائيات ضدية، تفسر شيئاً وتترك أشياءً. إذ يتغافل هذا التصنيف عما للعقلية الشفاهية من أنواع وكذلك العقلية الكتابية. فهناك العقلية الشفاهية الأولية أوالخالصة وهي مقطوعة الصلة بالكتابة وهي شفاهية المجتمعات القديمة والتي لم يبقَ منها إلا بقايا متناثرة في بعض المجتمعات التي ما تزال على قدر من البدائية.

وهناك الشفاهية التي تتعايش مع الكتابة، والتي منها شفاهية الأميين في مجتمعاتنا ومنها كذلك الشفاهية التي تسكن النصوص المكتوبة، وأخيرا هناك شفاهية الإعلام المسموع والمرئى(11). ونعتقد أن هذه الشفاهيات يصعب اختزالها تحت مفهوم "العقلية الشفاهية"، كما سيصعب قصر مفهوم العقلة الكتابية على الكتابة الحداثية. وإذا كان مثل هذا القصر وذاك الاختزال جائزين في بعض الثقافات على سبيل التجاوز، فإنهما غير جائزين في الثقافة العربية بشتى السبل. إذ يتعايش في الثقافة العربية الفكر الأسطوري والحداثي في حالة من التجاور. ومن ثم تحضر الأسطورة في الرواية العربية الحداثية حضورا مكثفا. وينطبق هذا على "وكالة عطية" إلى حد بعيد حيث يقوم الراوي بأسطرة الشخصيات والزمان والمكان وهو في هذا لا يحتاج لتصنع حيل بلاغية لتضفي على عالمه الروائي طابعاً أسطورياً وإنما الطابع الأسطوري (لوكالة عطية ـ بناسها وزمكانها) يفرض نفسه على الراوي. فلا تغدو عملية الأسطرة إلا محاولة تقريبية للحاق بواقع وكالة عطية، فينتهز الراوي أثناء أدائه لعملية الأسطرة هذه الفرصة ليعبر عن اندهاشه حينا والتشكك حينا آخر.

أن الولوج إلى عالم الأسطورة ينبغي أن يتم بحيلة أسطورية. هكذا دخل الراوي إلى عالم وكالة عطية بغواية "المواويل" التي سمعها من بائع الفجل "محروس" أحد سكان الوكالة. "أنت تحب المواويل طبعا! تعال اسمعك حتى تشبع" (الرواية ص 13). وبهذا يبدأ الراوي في اللحاق بالمكان الأسطورة بتجذيره في التاريخ، فبمجرد دخوله مدينة دمنهورالقديمة، في طريقه للوكالة، يستدعي ما كان قد سمعه من مدرس التاريخ عن أن هذه المدينه هي هديم المدينة الفرعونية القديمة التي كانت تسمى "دمن حور" أي مدينة الإله حور، ابن ايزيس وازوريس الذي كان من المفروض أن يثأر لأبيه من عمه "ست" إله الشر (الرواية ص 13 ـ 14). ثم يستدعي من الذاكرة الصورة السمعية لوكالة عطية، التي اختزنها من أحاديث أهالي قريته والقرى المجاورة، حتى استوت وكالة عطية في ذهنه وجودا أسطوريا، يعوقه ويدفعه في آن إلى مقاربة وكالة عطية في الواقع "إن الأسطورة التي كان من المفترض أن تمنعني عن الوكالة وتكرهني فيها، هي نفسها التي تُكرهني عليها" (الرواية ص 16). لقد استعاد الراوي ـ وكذلك القارئ ـ بتلك الصورة السمعية عن الوكالة/ الأسطورة لاستقبال التاريخ الشفاهي oral history الذي يتناقله سكان الوكالة عن المكان وسكانه الراحلين والحاليين، فمحروس بائع الفجل ودليل الراوي إلى الوكالة يروي له تاريخ الكرخانة ـ المكان المجاور للوكالة ـ الذي سمعه من عطية الرجل العجوز صاحب الوكالة، وهو في روايته لهذا التاريخ مضطر لأن يبدي تعجبه لما يرويه، ليخفف من حالة الإندهاش التي يتوقع أن ترتسم على وجه الراوي بسبقه إليه، دون أن يؤدي به هذا إلى الشك فيما يعتقد، عن تاريخ المكان المتوارث.

"أما هذه فإنها ـ عدم المؤاخذة ـ الكرخانة! تصور أن هذه كانت استراحة الملك؟ هل تصدق؟ صاحب الوكالة العجوز يصحو على تلك الأيام حيث كانت للملك فؤاد أملاك هنا! هي أملاك نسيبه، شقيق زوجته التي اسمها شكار هانم! هل الملك فؤاد كان له زوجة اسمها شكار هانم؟ ألم يقولوا لكم هذا في المدرسة؟.. آه تذكرت! شقيق زوجة الملك فؤاد هذا كان اسمه: محي الدين شرف الدين سيف الدين حاجة كهذه!.. إلخ" (الرواية ص 17).

أن استباق محروس للراوي في التعجب من المروي، ومحاصرته للراوي، مكن محروس من الإنتقال من مستوي التعجب من المروي، إلى التعجب من جهل المروي عليه/ المتعلم بهذا التاريخ، وقد كان ذلك لمحروس بسبب أن ما يرويه إنما يرويه عن اعتقاد راسخ، وأنه إذا ما لمح علامة استنكار على وجه المروي عليه هنا (الراوى) فانه يتشبث بصحة معتقده، بأن يحيله إلى المصدر المنقول عنه هذا التاريخ، وهو "عطية" صاحب الوكالة الذي يظهر هنا وكأنه شاهد عيان، لا يجرؤ أحد على التشكك فيما يرويه. وقد دفع هذا النهج الذي سلكه محروس مع المروي عليه (الراوي) في رواية تاريخ المكان الشفاهي إلى أن لا يتوجه المروي عليه (الراوي) بتشككه إلى كل ما سبق ولا إلى أن صهر الملك فؤاد ضرب الملك بالرصاص في رقبته "فخرمها فلحق به الحكماء فسدوا الخرم بجلبة من الفضة كانت تصفر إذا ضحك أو زعق! والملك فؤاد أمر بتسفير نسيبه إلى مستشفى المجانين في بلاد بره!" (الرواية ص 17) وإنما يقتصر رد فعل المروي عليه (الراوى) على التعجب من عدم قتل الملك لنسيبه بعد فعلته، وهو تعجب يشاركه فيه محروس، ومن ثم لا يعوقه عن الاستمرار في الحكي.

من المؤكد أن توارث تاريخ شفاهي لمكان، يضفي على المكان صفه الثبات والخلود، ويجعله مقاوما للتغيير والفناء، فيصبح المكان ليس مجرد فضاء جغرافى، وإنما مخلوق صنعه الزمان فاتحدا في الذاكرة لتقاوم الذات الآني المتشظي بالفناء، في الأبدي السرمدي. فرغم أن هذا الزمكان الأسطوري ليس إلا التصورات الذهنية لا توقف نزيف العمر، بل هي تأكل العمر، إلا أن الذات لا تستطيع العيش خارج تصوراتها الذهنية. فالحانوتي يعشق الحديث عن الوكالة: "يوه يا سيدنا لفندي هذه الوكالة أكلت عمرى! كرهتها ألف مرة! لكني لم أسلها ابداً! هذه المخروبة بنت المخروبة تسلبني عقلي! معمولي فيها عمل! وكل من يسكنها لأكثر من شهر توقعه في هواها، فلا يسلوها حتى ولو اسكنوه في قصر المنتزه! !فيها ناس يسكنون لأكثر من أربعين سنة! لا يخرج منها الساكن إلا مطرودا أو ميتا! تسالني ماذا فيها يجعلها هكذا؟ أقول لك لا أعرف! يمكن أن تكون مثل صندوق الدنيا!" (الرواية ص 107).

والحقيقة أن ثمة سببا آخر يجعل للوكالة هذه الغواية، وهو سبب وثيق الصلة بالواقع، إلا أنه يدعم الروابط بين الذات وهذا الزمكان الأسطورى، فيغدو الواقعي الحداثي بما ينطوي عليه من عوامل طرد للذوات التي لم تؤهل للعيش في مجتمعه المدنى، يغدو هذا الواقعي الحداثي مدعما لغواية الزمكان الأسطوري بطريق غير مباشر. فإحساس الذات المهمشة باحتقارها في المجتمع المدني اجتماعيا وثقافيا، يدفعها للالتفاف حول زمكان تشعر فيه باتساق بين وضعها الاجتماعي وتصوراتها الذهنية عن العالم، وبهذا يحقق المحتقرون في المجتمع المدنى/ الحداثي قدراً عالياً من الاعتزاز بالذات في ذلك الزمكان الأسطورى. فأساس العلاقة بين سكان الوكالة هو المساواة إذ ليس من حق أحد أن يحتقر أحدا، فالجميع في الهم سواء، والجميع يعيشون في هذا الزمكان بلا أقنعة، كما يوضح لنا الحانوتى: "أن الواحد فيها (الوكالة) يستطيع أن يفعل كل مشتهاه! كل ما لا يستطيع فعله في سكن غيرها! فلا أحد يتدخل في شئونك، أو له أي دعوى بك! أن عرف أنك عدم المؤاخذة لص، أو قتال قتلة، أو قاطع طريق، أو حتى معّرص، فإنه لا يحتقرك، ولا يخاف منك، ولا يضايقك!" (الرواية ص 107). وعلى هذا الأساس فإن أي محاولة احتقار أو إهانة من أحد لأحد داخل الوكالة، حتى ولو على سبيل المزاح، يكون رد فعلها المبالغة في إبراز الاعتزاز بالذات، مثلما حدث بين شوادفي والداية (صبيحة البرشومى) حين هم زوجها الحانوتي أن يدخل بها، فمازحها شوادفى: "إن خسع معك هذا العجوز فنادينى، أكن عند حسن ظنك، ولو اقتضى الأمر أن اعصر عليك لمونة!!

شخرت المرأة:

ـ "فشرت! والنبي أشرف خليقة الله ما في أنضف مني في الدنيا اللي ارتوت بالنيل!" ( الرواية ص29 ـ30).

والملاحظ في النصوص السابقة المقتبسة من الرواية التي استشهدنا بها لتوضيح أن الوكالة تحضر بوصفا زمكانا أسطوريا، الملاحظ هو كثرة علامة التعجب (!!) فيها حتى يمكن القول أن علامة التعجب تلعب دورا كتابيا حداثيا تجاه الأسطورة يتناسب ومرحلة (الفرجة) التي مر بها في علاقته بالوكالة، وحين يتحول عن هذه العلاقة إلى الاندماج في الزمكان الأسطوري تخفت تلك العلامة الكتابية ليتولى هو بنفسه التعبير عن نفسه بوصفه أسيرا لغواية هذا الزمكان الأسطوري لكونه من المهمشين الجدد، فلا يستطيع أن يهجر الوكالة بعد عمله مع "محمد أبو سن" في محل الأقمشة بما يؤهله للسكن في مكان آخر، فلا يخرج من الوكالة إلا إلى السجن.

وإذا كانت الوكالة زمكانا أسطوريا على هذا النحو، فإن الأسطورة لا محالة تطول الشخصيات التي تسكنها، فنجد في هذا العالم العرافة، والدرويش، والقرداتية عشيقة القرد، والوشّامة، وراوي السير الجوال، وعشيقة الجن، والشطار ونجد ـ قبل كل ذلك ـ بوابة هذا العالم "شوادفى":

إذ يرسم الراوي صورة شوادفي على نحو أسطوري، بدءا من صوته الذي يقربه الراوي إلينا حينا ب "هزيم الرعد" (الرواية ص 18)، وحينا آخر ب "زئير الأسد" (الرواية ص 384)، ومرورا بملامح جسده: فاليد "كبيرة بأصابع كالثعابين" (الرواية ص 18)، والفم حنك واسع مفشوخ (الرواية ص 23)، والنظرة "نظرة مخيفة من عينين واسعتين محمرتين بلا رموش ولا بياض" (الرواية ص 24)، ووصولا إلى شخصيته، التي تنافس بقوتها قوة شخصية الزعيم (جمال عبد الناصر) بشهادة أحد رعاياه (الحانوتى):

"الوكالة يا سيدنا لفندي دولة وحدها! ملكها ورئيسها هو شوادفى! هو جمال عبد الناصر بتاعها! انتزعها من صاحبها عطية، ومن وزارة الأوقاف، كما انتزع عبد الناصر حكم البلاد من الملك فاروق، إلا أنه كان أبرع من عبد الناصر، لأنه أخذها بدون جيش أو ثورة مباركة! بصراحة ربنا يا سيدنا لفندي هو أجدع من عبد الناصر في حكم الوكالة! ناب أزرق لا تعرف له ملة!.. أنه تحفة نادرة يا سيدنا لفندى! أنه متعة لمن يفهمه ويحبه! من يحبه هو الذي يستطيع احتماله، ليستمتع بنوادره وأطواره." (الرواية ص 108).

يبدو شوادفي على هذا النحو كائنا أسطوريا لا يقاوم، ومن ثم لا يجد الراوي مفرا من ملاينته ومهادنته ليتجنب شره الأسطوري (المقبرة لمن يناهضه)، ولا يتشكك الراوي في أسطورية شوادفي لحظة، وإنما يكتفي بالإعجاب المعجون بالحذر والخوف، حتى تتاح ليس فرصة التشكك في أسطوريته، بل فرصة زعزعته بتسريب الخوف إليه، فيبادله حداثته بأسطوريته، وذلك حين خاف شوادفي من أن تجر رجله في قضية عبد العزيز أفندي الإخواني الذي كان يسكن في الوكالة، والمنشورة صورته في الجريدة، بعد أن تم القبض عليه.

"وجدتني أقول له فيما يشبه الأمر بلهجة واثقة:

ـ "افعل ما قلته لك! وانس الموضوع تماما حتى يطلبوك للتحقيق! وعموما فربنا معك! لا تخف!"

واكتشفت أنني نطقت: لا تخف، هذه بلهجة من يقول: أنا معك أساندك وأنجيك من أي مأزق، الأمر الذي جعل شوادفي يحملق في وجهي، وقد خفقت الدماء تحت جلد وجهه الصدئ، فبدا على وشك الارتعاش" (الرواية ص 130 ـ 131).

وإذا كان الراوي قد تعامل مع شوادفى/ الأسطورة بتسريب الخوف إليه، ليزعزع أسطورته، فإنه لم يستطع بصدد دميانة/ الأسطورية القرادتية التي رآها بعينه تضاجع القرد (الرواية ص 115 ـ 116)، والتي تدعك وجهها بمني الثور حتى لا يتكرمش، والتي تأكل كبد الذئب، وبيض النسر، وأحليل الحصان، والتي طولها ثلاثة أمتار وعرضها عرض الباب، والتي حين تتخانق تستطيع أن تهزم بلدا بحالها (الرواية ص 113 ـ 114)، دميانة الأسطورة هذه لم يستطع الراوي إزاءها إلا أن يجذب أسطورتها إلى مخزونه القرائى، مفتشا عن ثقافة الكتب التي يعرف حدوده، عن شبيه لها حتى يجد ضالته في قصيدة أم خليل في ديوان بيرم التونسى. (الرواية ص 126).

لغة الوكالة.. رقصة التانجو بين الفرقاء
يبدو أن اللغة هي أكثر بؤر التوتر بين الشفاهية والكتابية سخونة، ويبدو أنه ليس من اليسير إزالة الفوارق بين اللغة المحكية بتجلياتها المختلفة ـ التي منها اللغة المحكية اليومية الحياتية اللغة المحكية الأدبية ـ وبين اللغة الأدبية تحيدا. وعلى الرغم من أن مسالة اللغة في ضوء الشفاهية والكتابية ليست هي تماما قضية العامية والفصحى إلا أن من المؤكد أن قضية العامية والفصحى باعتبارها أحد أبعاد مسألة الشفاهية والكتابية تزيد درجة هذا التوتر. ويزداد الأمر صعوبة حين نكون بصدد النوع الروائى، على اعتبار أن الرواية حسب باختين تنوع كلامي وأحيانا لغوي(12) وفي "وكالة عطية" تجسد اللغة قضيتها الرئيسية ـ إن صح أن يكون للرواية قضية أساسية ـ وهي العلاقة بين المهمشين الجدد من الأفندية، والمهمشين القدامى (التاريخيين)، وهم الجماعة الشعبية. وهيمنة لغة أي من الطرفين هيمنة مطلقة ليس إلا أسهل الحلول لأعقد الإشكاليات. وقد نجت "وكالة عطية" من هذه الحلول الميسورة، لتكابد من أن ترقص لغة شوادفي ولغة الراوي رقصة التانجو الحميمية في الجملة الواحدة. ولعل أكثر الأمثلة الدالة على ذلك وثيقة الزواج التي أملاها شوادفي على الراوي. فالوثيقة لها لغتها الفصيحة الكتابية، والتي أصبحت لتواترها عبارات محفوظة عن ظهر قلب أشبه بالصيغ الشفاهية formula، فغدت الوثيقة مسرحا يتصارع من أجل السيطرة عليه كل من شوادفي والراوي ـ والصراع التحام ـ لكن وضعية شوادفي الأسطورية، فضلا عن أرض التصارع وهي أرض الراوي/ الأفندي وهي (الوثيقة)، فإن أقل حضور للغة شوادفي في الوثيقة يحسب له.

"أقر واعترف أنا عبد الفضيل بيومي الطودي من بلدة الطود بحيرة، ومقيم بوكالة عطية بآخر شبرا دمنهور القديمة، وشغلتي حانوتي، أي مغسل موتى ـ أنني قد نكحت أي تزوجت من صبيحة البرشومي حسنين، وشغلتها داية، أي مولدة ومقيمة هي الأخرى بوكالة عطية أيضا، نكاحا على سنة الله ورسوله بالمهر الشرعي المسمى بيننا، ومؤخر الصداق قدره خمسة جنيهات، أتعهد بدفعه على داير مليم في حالة انفصالنا بالمعروف" (الرواية ص 28 ـ 29).

وعندما تنتقل رقصة التانجو اللغوية هذه إلى أرض شوادفي وزينهم العتريس وغيرهم من سكان الوكالة (الغة الحياتية ـ الأمثال الشعبية ـ الحكايات الشعبية) فإن نتيجة الصراع/ الالتحام تحسب للراوي الذي جعل المبدأ الرئيسي في تصميم رقصة التانجو هو أنه "كلما زاد التحام الراوي بلغة الوكالة (الشفاهية)، كان انتصاره في إفساح المجال أمامها لتحضر محتفظة بأكبر قدر ممكن من شفاهيتها، دون إلحاق الأذى بقواعد النحو العربى"، فنجده ينقل وصف وداد لسندس وفق هذا المبدأ:

"هي لا تقع في أي مشاكل! هي تخرج كالشعرة من العجين! هي نورية تعجبك! ارمها في البحر واتركها! غطسها تجدها عائمة بعد مترين! هي لبط! لكنها طيبة وغلبانة وقلبها مثل البفتة البيضاء!". (الرواية ص253)
والأمر نفسه في الحكاية الشعبية "الطير العجيب" التي يحكيها زينهم العتريس ليهدئ البوري ويمتص غضبه،
"صلوا على النبى! كان ياما كان في سالف العصر والأوان ولد شاطر ومجدع قوي اسمه كريم! دا غير الشاطر حسن الذي تعرفونه في الحواديت، أما حكايتنا فأنها حصلت في الحياة: الشاطر كريم كان ولد فتوة ينزل في عركة يقشها!.. إلخ (الرواية ص 285 ـ 292)، وكذلك الحكاية الشعبية التي يحكيها شوادفي على الراوي معارضا بها القول الشائع " بلد شهادات".

"في نجع مجاور لبلدتنا في الصعيد الجواني كان يوجد رجل غلبان يدعى أبو رزق، حاله مثل حالك مفلس على الدوام، وبوزه فقر ونحس، ولهذا اطلقوا عليه أبو رزق !.. إلخ "(الرواية ص 337 ـ 338).


ناقد من مصر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ـ أنجيلا ماكروبى: ما بعد الحداثة والثقافة الشعبية، ترجمة: مني سلام، مراجعة: محمد الجوهرى، ضمن مجلة الفن المعاصر" أكادمية الفنون ـ العدد الأول، القاهرة، صيف 2000.
(2) ـ جابر عصفور: زمن الرواية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1999، ص 379.
(3) ـ والتر أونج: الشفاهية والكتابية، ترجمة: حسن البنا عزالدين، عالم المعرفة، العدد 182، الكويت1994، ص 47 ـ 48.
(4) ـ ميخائيل باختين: الكلمة في الرواية، ترجمة: يوسف حلاق، وزارة الثقافة السورية، دمشق، 1988 ص 11
(5) ـ جوليا كريستيفا: علم النص، توبقال، المغرب، ط1، 1991، ص 23.
(6) ـ المصدر السابق ص 30.
(7) ـ يمنى العيد: الراوى، الموقع، الشكل.. بحث في السرد الروائى، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، ط1، 1986، ص 50.
(8) ـ ياسين النصير: الاستهلال فن البدايات في النص الأدبى، (س) كتابات نقدية، (ع) 75، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، يونية 1998، ص 17.
(9) ـ المصدر السابق ص 132.
(10) ـ بول. ب. ديكسون: الأسطورة والحداثة.. حول رواية: دون كازمورو. ترجمة: خليل كلفت، المجاس الأعلى للثقافة، المشروع القومي للترجمة، (ع) 35، القاهرة1998، ص 19 "يعرف برنيس سلوت Bernice Slope الأسطورة بأنها صيغة سردية لتلك الرموز النموذجية ـ الأصلية بوجه خاص والتي تشكل معا رؤية مترابطة عما يعرف الإنسان ويعتقد "نقلا عن ديكسون ص 27".
(11) ـ بول زومتور: مدخل إلى الشعر الشفاهى، ترجمة: وليد الخشاب، دار شرقيات، القاهرة 1999، ص ص 32 ـ 33.
(12) ـ ميخائيل باختن: م. س ص 11.