يكتب الناقد المصري أنه في هذا العمل، يرتحل القاص في عوالم تمزج بين الواقعي والفانتازي، مسكوناً بحس ساخر، لا يعطل آلية السرد، وجاعلاً من الحوار جزءاً مركزياً من المتن، واعياً بتداخل الأصوات والصيغ السردية واندماجها في بنية متجانسة ومعبرة عن روح تعبث مع العالم قبل أن تسائله.

«القرداتي» ... روح تعبث مع العالم وتسائله

يسري عبدالله

عبر أربع قصص طويلة نسبياً يتشكل متن مجموعة «القرداتي» (منشورات الدار 2017) للكاتب المصري جمال مقَار، وتتعدد العوالم، ونصبح أمام جغرافيا سردية متنوعة. يبدو مقار في قصة «القرداتي» قريباً من الوجدان الشعبي، إذ يستخدم اسماً متداولاً للقرد الذي يتسول صاحبه في شوارع أحياء شعبية. الاسم هو «ميمون»، أما القرد المعني فقد وقع في شرك الصيد على يد ثلاثة من الشباب غلاظ القلب، وبعد أن تتخطفه يدٌ من يد، يشعر بالتعب الشديد، حتى يستقر المقام به لدى «مأمون» القرداتي، الذي يمارس هذا العمل أباً عن جد. يدخل ميمون ومأمون في صراع يحتدم منذ البداية، فكلاهما يريد تطويع الآخر لسلوكه. ميمون يريد الحرية والفرار، على أمل العودة إلى موطنه البعيد في الغابة، وحبيبته «القردة» التي خذلته. ومأمون يريد تأمين معاشه اليومي، ويفرض الرجل هيمنته على القرد بسطوة العصا الغليظة والقسوة المفرطة، ويخيفه أكثر من مرة، تارة عبر ذبح قطة، وتارة عبر ذبح عِنزة لم تستطع أداء الحركات البهلوانية التي يطلبها منها، والتي يجيدها القرد في ما بعد.

وهكذا يتحولان إلى كائنين يبغيان التواؤم، ويبدأ القرد في التكيف مع زوجة القرداتي، وابنه، الذي يتعمق حضوره في النص بوصفه يشبه القرد أكثر مما يشبه والده. وتصبح المفارقة الساخرة هنا مؤشراً على استيلاء القرد على المشهد السردي والمعنى داخله.

يموت القرداتي، ويصبح القرد والولد الصغير والزوجة بلا عائل، ومن ثم يحدث التحول الدرامي في نهاية القصة حين يخلع القرد ملابسه التي طالما ارتداها مع معلمه، ويشير إلى الطفل بارتدائها، ويخرجان سوياً، في لعبة تبادل الأدوار. يعودان بحصيلة من النقود تفوق ما كان يجمعه مأمون وميمون من قبل. يصبح القرد سيد المكان، تحممه أرملة مأمون وتداعبه، وتتشمم رائحته بشغف، فيتواطأ معها، ويبدآن في اللعب، وتقرر أن تعلمه الكلام، ليفضي المسار السردي إلى تحول عبثي آخر: «في ذلك المساء وفي كل المساءات التالية، جلس القرد في مجالس السمر على مصطبة يتحلق الرجال حولها ليستمعوا إليه بإنصات شديد واهتمام بالغ وهو يتحدث إليهم في شؤون كثيرة ليس من بينها السياسة» (صـ32).

تظهر هذه القصة بوصفها مسخاً، يفارق في بنيته المسخ الكافكاوي، غير أنه يظل محتفظاً بمسحة العبث، المقترنة هنا بتصور رؤيوي عن تغليب الضرورة الحياتية المعاشة في النظر إلى العالم. فالأرملة تدفع بالقرد وابنها إلى الشارع بعد يوم تقريباً من وفاة زوجها، لأن البديل سيصبح مزيداً من الفاقة، وتبدو الإحالة إلى إرث دارون في النشوء والارتقاء، حاضرة على نحو غير مباشر. كما تبدو الكتابة منفتحة على أصوات سردية مختلفة: «القرد/ مأمون/ الزوجة/ الابن/ التاجر/ الفتيان الثلاثة/ القردة الحبيبة»، تتقاطع وتتجادل لتشكل المتن الساخر والعبثي والمأسوي أيضاً في نص مراوغ مركز السرد فيه القرد. غير أن القصة تتخذ عنوان «القرداتي»، لتؤكد فكرة تبادل الأدوار، بعدما تحول القرد إلى قرداتي.

تتشكل قصة «الداعشي» من 13 مقطعاً تتخذ عناوين فرعية، تشي بالحدث وتعبر عنه. وتتخذ المقاطع الأربعة الأولى مؤشرات زمانية، تشير إلى الأجواء العامة التي صاحبت الداعشي قبل التحولات التي عصفت بيقينه الجاهز وتصوره الساذج عن العالم، ومن ثم تصبح العناوين الفرعية، «حدث بالأمس/ قبل أن نذهب إلى سوق النخاسة/ في سوق النخاسة/ في الليل»، علامة على مشاهد من حياة السبي والقتل والأماني الكاذبة والتوترات النفسية التي تجد ضالتها في قمع المرأة ونفيها. وفي هذا الجزء من القصة يلعب الحوار الساخر والدال بين الداعشي وامرأته العجوز دوراً مركزياً في تنامي السرد. وحينما يقرر الداعشي الهرب مع فتاته الحسناء الجديدة بعد أن باع العجوز في سوق النخاسة، كان مصيره المطاردة المستمرة التي أوصلته إلى الدير المختبئ في غابة من النخيل وسط الصحراء، لتبدأ القصة في التماس مع نقطة تحول درامي تؤثر في علاقات الشخوص داخلها.

فالداعشي الذي يصل مثخناً بالجراح، لا يجد من يسعفه سوى الرجل العجوز والراهبات، لتثار داخله جملة من الأسئلة في شأن هذا العالم الذي يوشك على رؤيته على نحو مختلف الآن، إذ يتجلى كل شيء أمامه في «محاورة». يدور حوار دال بينه وبين «الرجل العجوز»، وتتجاوز الشخصية القصصية هنا ذاتها الفردية لتصبح علامة على نموذج إنساني يقدمه الكاتب، وتتنوع من أجله لغات النص، فتصير لغة الشخصية بمثابة عينة أيديولوجية، ومن ثم نجد أصواتاً متعددة في القصة، ولغات متعددة أيضاً: «الداعشي/ الرجل العجوز/ الراهبات/ أمير الجماعة/ امرأة الداعشي سليطة السان/ الفتاة الحسناء».

وفي قصة «ببغاء يقول الحقائق كما هي»، تمثل الفنتازيا آلية لإنتاج المعنى. فالببغاء الذكي لا يكتفي بالكلام فحسب، بل يبدي رأيه، ويعري السلطة، ويعري معها قسوة البشر وزيفهم، وتتداخل الأحداث الفرعية وتتقاطع لتصب في المجرى العام للحدث القصصي المركزي. والرابط دوماً يتمثل في «طقطق» الذي يهاجر من بلاده البعيدة فاراً من الديكتاتور الذي يتفنن في إبادة شعبه. لكن مقام البهجة لا يتسع طويلاً لطقطق الذي يموت صاحبه القبطان منجد، ويوصي مساعده «جمل» بأن يحمل الببغاء ويذهب به إلى أمه. غير أن «أم منجد» لا تجد وقتاً لطقطق ولا صخبه، وهي المشغولة بأنوثتها الغاربة، فتبيعه عبر جارها بحبح إلى التاجر عصفورة الذي يقرر الخلاص منه للسانه السليط. وفي كل مرة يذهب فيها «طقطق» عند إحدى الشخصيات الفرعية تتولد حكاية جديدة، حتى يستقر المقام به في النهاية لدى الرئيس «شحاتة المحبوب»، والذي يستقبل الديكتاتور الذي فرَّ طقطق بسببه من بلاده البعيدة. هنا يقرر طقطق أن يعلن الحقائق بلا مواربة، فيعاقَب بالإقصاء إلى الريف لدى أم الرئيس شحاتة التي تتعامل معه بوصفه دجاجة يمكن أن تبيض، بعد أن نتفت ريشه!

ثمة رحلة فانتازية في «مدينة الأحلام الضائعة»، قلقة وشاكة ومتسائلة، يتداخل فيها الحلم بالواقع، وتتقاطع مساحات الغياب والحضور في نص مروي بضمير الغائب، ومن ثم تحدث تلك المباعدة الفنية بين السارد الرئيس والمسرود عنهم، حافل بالأصوات المتداخلة، في زحمة مدينة لا ترحم، مسكونة بالفقد والموت والأيديولجيا، والخسارات الفادحة.

في هذا العمل، يرتحل جمال مقار في عوالم تمزج بين الواقعي والفانتازي، مسكوناً بحس ساخر، لا يعطل آلية السرد، وجاعلاً من الحوار جزءاً مركزياً من المتن، واعياً بتداخل الأصوات والصيغ السردية واندماجها في بنية متجانسة ومعبرة عن روح تعبث مع العالم قبل أن تسائله.