يرى الناقد المغربي أن السرد في الرواية لم يكن مركبا من حيث تعدد المحكيات وتضافرها، ولكنه تضمن عددا من القصص وهي محكيات صغرى غير تامة، لغياب التفاعل. لقد تأثرت المحكيات بالفضاء المتخيل ومادة الحكي فكانت نهاياتها المأساوية دليلا على النفق المظلم الذي ينبغي أن يُقبر مع الجثة مهما تفسخت وتعفنت. إن الأمل بعيدٌ، ولكنه موجود ما دامت الحياة مستمرة.

وصية تكشف كنايات مستوطنة العذاب

محمد معتصم

في حياة الحرب على السلطة العبثيَّةِ، إما أن تجنح إلى الخرسِ والجنونِ أو أن تفقد مشاعرك وتنخرط في منطق الجماعة الغالبة متذبذبا لا إلى هؤلاء ولا إلى أولئك.
في رواية «الموت عمل شاق» للروائي السوري خالد خليفة يلتزم بلبل وأخواه حسين وفاطمة، بتنفيذ وصية والدهم المتوفي عبد اللطيف السالم، التي تقول بأن يُدفن في قبر أخته ليلى في قريته العنابيَّة، التي غادرها منذ نصف قرن، لأنه لم يكن قادرا على نُصرة أخته والوقوف معها ضد قرار والدهما وعائلتها بتزويجها ممن لا تحب، فأحرقت نفسها ليلة عرسها. لم يكن خروجه احتجاجا على انتهاك حق أخته في الاختيار، ولا موقفا معارضا للأعراف في قريته، بل كان هروبا من شعوره بالعجز ومن مواجهة ذاته بحقيقتها البائسة.
تنتهي جثة والدهم إلى العنابيَّةِ، ولكنها تدفن في مكان منزوٍ، لأن ابن عمهم الشاب المسلح رأى في الوصايا في زمن الحرب والموت العبثي والجماعي، ترفا. دامت رحلة الجثة ثلاثة أيام، تفسخت فيها وانتشرت رائحتها الكريهة وغزا الدود السيارة والمكان، حتى أنه كاد يفترس فاطمة وهي على قيد الحياة، في مسافة تُقطع عادة في ساعتين. هذه المؤشرات الثلاثة تحدد الفضاء المتخيل المأساوي والجهنمي الذي تحاك فيه المحكيات الروائية.
لقد كان في نية بلبل، قبل انطلاق السفر الجحيمي نحو العنابية، تنفيذ وصية والده أولا، واختبار ذاته ثانيا، في مضمار سباق الحياة والقتل والجنون والخنوع وسط كل العبث الذي يحيط به. يقول السارد: «رغبته في تنفيذ وصية أبيه كانت اختبار إرادة لما بقي منه، كان يجب فعل شيء كي لا ينتهي ويغور في أعماق الأرض».
إذن، شخصية بلبل محورية، إلا أنها ليست الإطار المنظم للمحكيات المصاحبة لها، لأنها ليست سوى كناية على صورة المواطن في «مستوطنات العذاب»، التي تفوق «مستوطنات العقاب» كما رسمها كافكا. إنه العذاب المستمر الذي يشمل كل المستوطنين ويضعهم في خانة الاتهام، فكل مواطن متهم إلى أن تثبت إدانته، لذلك تصنع المستوطنات القمعية في كل مكان وزمان، الإنسان الأخير، ذلك الذي بلا ملامح خصوصية تميزه، وبلا موقف وإرادته خائرة. يتجلى أول فقدان الهوية لدى بلبل في استبدال اسمه الأصلي بآخر ساخر: «ما زال يذكر كيف تغير اسمه من نبيل إلى بلبل، بدأت لميا بمناداته بلبل تحببا، وفي أول أيام وحدته بدأ يحب مناداة الجميع له كما كانت لميا تفعل، نسي اسمه الأصلي، لم يعد يذكره كثيرا، حين يراه في الأوراق الرسمية يشعر بغربة كبيرة عنه».
لم يفقد بلبل اسمه الأصلي فحسب، بل عُرف بين رفاقه وأهله بخصال ذميمة كالجبن والاستسلام والفشل، فمستوطنات العقاب لا تنجب غير هذه الصفات عبر التاريخ، والإنسان الجبان رقيب على نفسه، يقول السارد. يقول مشيل فوكو بأن الاضطهاد لا يوجد خارج الذات، بل يسكن فيها ويقيم، لذلك اجتهد بلبل في القيام بمراقبة ذاته والحرص على الاهتمام أكثر بتهمته وبالخطأ الذي لم يرتكبه. ولكنَّ خطأه الحقيقي يتمثل في كونه موجودا، وإن وجوده على قيد الحياة وفي مجتمع قمعي وتحت سلطة مستبدة غاشمة، فعليه الإيمان بأنه ارتكب ذنبا أو أنه لابد أن يرتكبه وعليه تقبل العقاب، وهو رجل «يخاف من ظله».
شخصية مضطهدة خنوعٌ ترتجف خوفا من الوهم، لا شك أنها ستكون فاشلة في كل شيء؛ فشل بلبل في الحب، لقد منعه الخوف والخجل من مصارحة لميا بمشاعره واكتفى بكتابة القصائد وبعث الرسائل العاطفية لها خلال العطل الصيفية، ليتزوجها زهير الذي يصفه بلبل بأنه «رجل قوي وسجين سياسي سابق»، ويعتقد أنها اختارته لذلك. يبحث دائما عن مبررات لضعفه.
لم يفشل بلبل في حب لميا فحسب، بل فشل في زواجه من إلهام، وفشل في الدراسة وفي اختيار شعبة الفلسفة فتحول إلى موظف بسيط، وهناك أيضا أخوه حسين، وأخته فاطمة. هنا كذلك تتحول أسرة معلم التاريخ المربي والمناضل والعاشق عبد اللطيف السالم إلى كناية على المستوطنة، التي تحدها الحواجز عند مداخل المناطق الواقعة تحت سيطرة الجماعات المسلحة وعساكر النظام، وفي كل حاجز مجموعات مختلفة في اللباس والقوانين العرفية واللهجة، إلا أنها تتفق حول المنطق: الاستبداد وترهيب المواطنين وابتزازهم وإذلالهم بالوقوف ساعات طويلة للانتظار أو الاعتقال أو القتل. هكذا هي حياة الحرب العبثية، لا تتصارع الأطراف على قيم ومبادئ، بل على السيطرة والتحكم. منطق يجعل من الانتفاضة فوضى ومن الثورة كارثة بشرية.
يصف السارد هذه الكناية الأسرية في المجتزأ الآتي: «هما وجهان لعملة واحدة، حسين يمثل الوجه الشجاع والأحمق، وبلبل الوجه الآخر الجبان والمستسلم، كلاهما خسر معركته مع الحياة. هم الثلاثة الآن عبارة عن أشخاص غرباء عن هذه الجثة التي مهما خسرت، فسيظل لديها شيء تربحه في النهاية يجعلها تتمدد دون اكتراث».
لقد فشل الوالد (الجثة) في إنقاذ أخته من بطش العائلة ومن سطوة التقاليد وتركها تحترق ليلة زفافها لتبقى جرحا نازفا في داخله، ولذلك كانت وصيته أن يدفن في قبرها معها كنوع من التكفير عن الخذلان. أمنية لم تتحقق، كما لم يقدر على هدم الأسوار العالية للعقاب والشطط، وكانت أكثر منه جرأة وثباتا: «يوم عرسها الذي أجبرت عليه، خرجت بثوبها الأبيض، وقفت على سطح البيت العالي، سكبت الكاز وأشعلت النار بنفسها، نفذت تهديدها الذي لم يأخذه أحد على محمل الجد، دارت حول نفسها، رقصت كالمتصوفة لتزيد من اشتعال النار في جسدها الذي تحول إلى جثة محترقة قبل وصول أحد إليها، كان عبد اللطيف يراقبها من بعيد، يبكيها بصمت كما يفعل أولاده الثلاثة الآن وهم يبكون بصمت، رغم كل شيء يبقى الموت قاسيا».
وفشل الوالد في لم شمل الأسرة والحفاظ عليها، حينما أحب صورته النموذجية وحط من قيمة أبنائه ورفض استقلالهم واختيارهم، فحسين لم ينس مشهد إهانة والده له وطرده من البيت. يقول السارد: «لم يستطع عبد اللطيف النطق سوى بكلمات قليلة، قال لحسين لا تستطيع أن تكون قوادا وابنا لي. لم تعجبه كلمة قواد، أخرج هويته الشخصية وقص اسم أبيه، قال له: سأضع مكانه كلمة خراء، ثم غادر المنزل مسرعا تاركا وراءه ذهولا رهيبا».
فاطمة الحالمة ستفشل بعد طلاقها من الزواج الأول، وتتكسر أحلامها وتطلعاتها، وتنتهي بعد رحلة الجحيم نحو العنابية رفقة أخويها وجثة أبيهم إلى الخرس. وينتهي بلبل إلى الصمت مكتئبا وإلى العزلة وسيبقى لومه وعتابه لأبيه حبيس صدره جراء انهزاميته وضعف شخصيته.
ترسم رواية خالد خليفة، عبر «كناية الأسرة» وشخصية بلبل، الوضعية المأساوية لحالة العبث التي رافقت ما يسمى الربيع العربي، وهي حالة استثنائية كارثية، لأنها لم تحدد لنفسها صفة معينة؛ هل هي انتفاضة اجتماعية ضد الفقر والظلم والقهر والكرامة وضد الفساد السياسي والثقافي والفوارق الاجتماعية؟ وهل هي ثورة تستنير بالقيم والمبادئ الفكرية والسياسية وتسعى نحو التخلص من رواسب ثقافية وسلوكية متحكمة أصبحت عائقا أمام التقدم والتحضر؟
لقد رسم السارد حالة الفوضى العارمة وبيَّن حجم الكارثة من خلال «الجثة» التي تفسخت وفقدت كل خِصالها ومميزاتها في الحياة. وبالرغم من النية الحسنة لبلبل الذي اعتبر الوفاء والالتزام بوصية والده سيكون فرصة لمكاشفة الذات، وإعادة جمع لحمة الإخوة ونبذهم لأسباب التفرقة، أي جمع ما فرقته الضغائن والأحقاد والخوف والاضطهاد، لم يصل بلبل إلا إلى مزيد من الخلاف والتفرقة، فكانت النتيجة: تشاجر بلبل وحسين بعدما سحل حسين جثة أبيه وطرحها أرضا، كما رفس أخته فاطمة ومرغها في الوحل. لقد فقدوا براءة طفولتهم و»صمتهم يفضح خوفهم من الاعتراف بعدم احتمالهم أن يكونوا معا في مكان واحد ليوم كامل، فقدوا براءة طفولتهم، حين كانوا يشتاقون بعضهم إلى بعض كأي إخوة لديهم أسباب كثيرة للتعاطف».
لقد فقد المتصارعون والموالون لهم حماستهم وبراءتهم الأولى، ولكي يجددوها يحتاجون إلى دورة زمنية أخرى للتاريخ، تكنس المآسي وتطهر النفوس وتخلق جيلا جديدا بإرادة جديدة. لم يكن السرد في رواية «الموت عمل شاق» مركبا من حيث تعدد المحكيات وتضافرها، ولكنه تضمن عددا من القصص وهي محكيات صغرى غير تامة، لغياب التفاعل. ويبقى محكي عبد اللطيف ونيفين نقطة مضيئة إضاءة شاحبة، لأن زواجهما لم يكتمل لاغتيال ولديها وهرم عبد اللطيف وضعفه ومرضه.
لقد تأثرت المحكيات بالفضاء المتخيل ومادة الحكي فكانت نهاياتها المأساوية دليلا على النفق المظلم الذي ينبغي أن يُقبر مع الجثة مهما تفسخت وتعفنت. إن الأمل بعيدٌ، ولكنه موجود ما دامت الحياة مستمرة.

خالد خليفة: «الموت عمل شاق»
دار العين، القاهرة 2016
206 ص.

القدس العربي