في نص ممتع يصور القاص الأمارتي تجربة مفصلية من تجارب الطفولة، الخوف من المجهول والأخيلة والتشبث بوسادة وبالأم، فيرسم مخاوف الطفولة حدثاً ووصفاً ورؤى يستخلصها من موقف الخال القوي في الحياة والقصص ومن تجربة تلك الليلة.

رائحةُ الرّجال

خيرالدين جمـعـة

المرأة هي فاكهة الحياة و الرجال أشواكها ......المرأة هي رائحة الوجود أما الرجل فظلٌّ باهتٌ لشمس الخريف و صوت مزعجٌ....بلا نجومٍ و لا رائحة !!! ..

هكذا كنت أتصور النساء و الرجال عندما كنت صغيرا إذ لم يكن حولي من الرجال الراشدين سوى رجليْن : جدّي الطاعن في السن ّالذي كان يؤانس وحدتنا في بيتنا العتيق ، و خالي الذي كانت صورته تثير فيّ الرهبة و الوجل و لا أراه إلا حين أزوره مع أمي ، في تلك السن كنت أشعر أنه بعيد عني .... و قد رسمتُ صورة غامضة متداخلة عنه من خلال حديث أمي وهي تروي مغامرات أخيها الأكبر و سطوته وجبروته إلى درجة أنني لم أكنّ تجاهه سوى شعور الخوف ...كانت أمّي تتحدّث عنه بإعجاب فتسهب في الحديث عن أخلاقه العالية و رجولته و قوته و رغبته في الالتحاق بالجبهة العربية في حرب الأيام الستة و كذلك مساهماته في حرب تحرير الجزائر حين كان شابا إضافة إلى حنانه المتدفق على كل أفراد أسرته .و لكن الحقيقة أن كلام أمي لم أكنْ أصدّقه إذ أنني ما إن أرى خالي حتى يرفض عقلي أن يصدق أن هذا الشخص الذي أمامي يمكن أن يكون طيب القلب ربما ما رسّخ هذه الفكرة في باطني هو صمته القاتل إذ كان خالي طويلا ضخم الجثة ..قمحيّ اللون قوي البنية بشعر قصير و نظرات عميقة حادة ، كثيرا ما يلبس سروالا أبيض فضفاضا و بلوزة طويلة رمادية ، يملؤه الصمت دائما ...ظلّتْ تلك الصورة المهيبة محفورة في ثنايا طفولتي ....

إلى أن جاءت تلك الليلة العجيبة التي تعلمت منها الكثير ...

فصيف تلك السنة أزمعتْ جدتي السفر للحج إلى البقاع المقدسة و كان لابد على أمي أن تنام ليلة وداع جدتي في بيت خالي و قد اصطحبتني معها منذ العشيّة و لكنني لم أكن أتصور أننا سنبيت تلك الليلة هناك !

بعد العشاء مع الصبية من أقربائي أبناء خالي وخالاتي الذين كانوا يملأون البيت فوجئتُ بالنسوة و معهن أمي يُعددن غرفةً بوضع حشايا على الأرض وسط انتظار الأطفال وقوفا ، و كنت قد سمعتُ حديثهن عن فراغهن من إعداد غرفتيْن و احدة للرجال و أخرى للنساء ، فشعرتُ بشيء من الرهبة و أنا أرى أمي تضع الملاءات مع خالاتي متحاشية النظر إليّ فتأكدتُ من أنها تفكر في ما كنتُ أفكر فيه ، الحقيقة أنها كانت تدرك جيدا أنه لا يمكنني أن أنام بعيدا عنها أو بدون وسادتي إذ ذلك يُعتبر أمرا صعبًا..انطرح الصبية من أقربائي على الحشايا جذلين كلٌّ في مكانه ، أفسحتْ لي أمي مكانا و طلبت مني بنظرات هاربة أن أنام و لكني ظللتُ واقفا ...جامدا ..نظرتْ إليّ خالتي الكبرى و هي ترى الحيرة تغشى أمي ثم أمرتني بصوت جافٍّ أن أستلقي وأنام و لكني ظللتُ واقفا و كأنني لم أسمعها و بقيتُ أنظر إلى أمي مستغربا ، جاءت زوجة خالي و سمعتُ وقع خطوات جدتي بعكازها العتيق و امتلأت الغرفة ....و لكن الاستغراب و التحدي الذي كان يعتريني سيضمحل ليحل محله الخوف والرعب حين سمعت خطوات خالي الواثقة تعبرُ وسط البيت ، وقف عند الباب شامخا كالزمن ..ارتمى الأطفال في أماكنهم مغمضي الأعين و ظلت النسوة تنتظر حكم خالي و جدتي التي تفوح منها نظرات الطيبة تتأملني في إشفاق آسر ...فهم خالي المشكلة فالتفت إلى أمي التي ظلتْ صامتة يلفّها الاضطراب و لكنها تحاملتْ على تردّدها وقالت :

  • ....لا يستطيع النوم بدون وسادته ..لقد نسيت أن أجلبها معي..ثم إن المكان قد تغيّر عليه ...

و لكن خالي لم يتركها تتم كلامها بل صرخ بصوت مزّق هدوء الغرفة :

  • ما هذا الكلام الفارغ ؟؟! لا يستطيع النوم بدون وسادته !!! ما هذا ؟؟ هيا خذ مكانك ...... و نَمْ بسرعة ..

ارتعدتْ أطرافي ...أحسستُ كلماته رصاصًا يخترق قلبي الصغير ، فوجدتُني أرتمي بلمح البصر في أقرب مكان إليّ و أغمض عينيّ خوفا ورهبة ..انفضّ الواقفون في الغرفة ، لمحت أمّي تخرج في تردّد ... أطفأ خالي النور ثم ذهب ..خرج الكل ، لم يبق أحد سوى جدتي أحسستُها واقفة غير بعيد عني ..و كأن نظراتها تؤنس انكساري فخطواتها الوئيدة لا أخطأها أبدا...ثم تحاملتْ على نفسها هي أيضا وخرجتْ..

أكاد أسمع صوت النسوة وسط البيت ..كنّ يضحكن و يتسامرْن ويشربن الشاي الأسود باللّوز والفول السوداني المحمص .... التحق خالي بالرجال الذين كانوا يسهرون أمام البيت ....أما أنا فقد عصف بي الخوف إذ لفَّ رداء الظلام الغرفة إلا من بعض النور المنعكس من مصباح وسط البيت ...في تلك اللحظات و مع غياب وسادتي كان النوم أمرا جنونياً...رائحة وسادتي هي سلاحي أمام وحوش الظلام !...فأن يتغير عليّ المكان إضافة إلى غياب أمي ...كل ذلك يجعل من النوم حلما مستحيلاً..

بعد برهة كالدّهر كانتْ ، و قد ركبني التحدي خرجت من الغرفة ، وقفتُ عند الباب و ناديت أمي بصوت مرتعش ، لكنْ ما إن وقفتُ وسط البيت غير بعيد عن النسوة حتى لمحني خالي من الباب المفتوح على مصراعيه فقدم مسرعا فما كان مني إلا أن انفلتُّ إلى الغرفة مذعورا ، وقف خالي مع أمي عند الباب ..قال صارخًا و كنت قد سمعت أمي تهمس له بكلمات مترددة لم أسمعها جيدا :

  • ليس هناك أيّ حلّ ...سينام مع بقية الصبية ...لابد أن يصبح رجلا ..ممَّ يخاف ؟! نحن إلى جانبه ...

ثم غيّر نبرته قليلا وقال لأمي في هدوء:

  • لا تخافي عليه ...سيغلبه النوم ...هيا عودي إلى مكانك ..

و ما إن ابتعدا عن الباب حتى شعرت بكرهي للرجال يتعاظم و قد تأكدت من أن كل ما قالته أمي عن خالي كان كذبا ..رميت الوسادة التي أعطوني إياها بعيدا وقد اخترقني غضب ممزوج بذعر حزين ..

كان الوقت يمر بطيئا و مملاًّ و الظلام يتحول في الغرفة إلى أشجار ووحوش مفترسة بأنياب مخيفة و عيون تقطر دما ، تكورتُ في مكاني غارسا وجهي في ملاءة كريهة الرائحة و ازداد رعبي حين انفضت حلقة النسوة و ذهبن للنوم و لم يمرّ وقت طويل حتى أغلق خالي الباب الخارجي بمزلاجه الحديدي الضخم ...كان لديّ أمل أن تأتي أمي لتنام إلى جانبي أو تأخذني إليها و لكن الرجال بالفعل أشواك الحياة ..كائنات بلا رائحة ...بلا روح ...بلا شيء !! فقد كان خالي في الخارج يتمشّى كأسد ٍكاسر يبحث عن طريدة ..أو كسلطانٍ متجبّر وسط حاشيته من أزواج خالاتي ، يتهادى في ثقة ليطمئن على أن كل شيء في مكانه ، اقترب ، و قف عند باب غرفتنا ، أحسستُ نظراته سهامًا تخرق جسد الظلمة الماكرة فأغمضتُ عينيَّ و تجمّدتُ كبقايا لعبةٍ مهملة ، بعد لحظات طويلة كليلة ماطرة سمعتُ خطواته تبتعد .....فعرفتُ عند ذلك أنني في تلك الليلة لن أنام أبدا فقد أطفأ خالي مصباح وسط البيت و ذهب لينام مع حاشيته في غرفة الرجال ... عند ذلك وجدتُني وحيدا أغرق في الظلام تنهشني وحوش العتمة ..!

في تلك الليلة و بعد أن تخلّى عنِّي كل الناس رأيت شبح أبي بوجه ذي ملامح لا أكاد أتذكرها ...رأيته يقاتل الوحوش بيدين طوليتين كجريد النخل يضرب يمنة ويسرة و هو يسند ظهره إليّ و يربت على ظهري في حنان أخّاذ ...كم كان ذلك رائعا ! و لكن الخوف ظل يطبق على أنفاسي ...ازداد ذعري حين سمعت خطوات خفيفة تقترب من الغرفة ، ظننته أبي ساهرا على حمايتي ، في البداية لم أكن أعلم هل كان الصوت حلمًا أو حقيقة أو خيالاتٍ من مخاوف الطريق .. ! خلتُه أمّي قد أتت لتأخذني إليها ..و لكن الشبح بدا أكثر طولاً ...كان الخوف يتلاعب بي و لكني لمحتُ الشبح يدخل الغرفة .... يتقدم نحوي ، تأكدت عندها أن كبير الوحوش قد تنكر في جسد إنسان لينهش لحمي ، فشعرت بالاختناق و اقتراب الموت ، و لكنّ الشبح بدا و كأنه يتخلّص من قدميه أو يستعد لينقضّ عليّ و أخذ رأسه يكبر شيئا فشيئا ، ثم اقترب أكثر ، بدا رأسه أكبر من الغرفة ، جثا على ركبتيْه ، مدَّ يدين خنجريْن التمعَا في غابة مظلمة ، أخذ ينظر إلى ابن خالي الصغير النائم إلى جانبي ، ربما أراد أن يبدأ به ،فغرس أغصانه سكاكينَ حادّة تحت إبطيْه و كأنه سيقتلع قلبه أو يجتثّ رئتيْه ، فسرَتْ رعْدةٌ بلَّلَتْ جسدي كله ، كنتُ أرى الموت ينهش الحياة بلا رحمة!!!و لكن في لحظة مفجعة خاطفة رأيتُه يُبعد ابن خالي عنِّي قليلا ليستلقي هو إلى جانبي و يفتح ذراعه ، أغمضتُ عينيّ و تركتُه ينهش ما بقي من جذوة روحي ، و لكنْ ما راعني إلا وهو يأخذ رأسي المحتضر بكل ثقة و يَضَعه على يُسراه القوية لأتوسّدها ، ثم أخذ يربت على كتفي و هو يهمس في أذني :

  • ارقد يا ولدي ..ما تخافش ...أنا خالك ...ارقدْ يا ولدي ...ارقد ..

لم أصدّقْ ...لقد كان خالي ...إنه هو ..بلحمه و صراخه و كلماته و شكله ....ورائحته أيضا ....ظلت ْكلماته تتكرر في أعماقي غير مصدق صدًى يُطبق على الأرض كلها و يتعالى ليقتل كل الوحوش ...كنت كمن بُعث من جديد وبعد تردد من هول المفاجأة سكنتْ نفسي فوضعت يدي الصغيرة على صدره و نمتُ و كأنني لم أنم أبدا في حياتي ...لقد كانت أول مرة أشمّ فيها رائحة رجل .... رائحته أزكى من وسادتي بكثير ..نمت بعمق و كأنني حلمٌ في الغمام ....و لكني انتبهت إلى خالي في الصباح وهو يقوم خلسةً بهدوء كي يذهب ليصلّي الفجر ..

في الصباح ونحن نتناول الفطور والنساء منهمكات في تنظيف البيت وإعداد البَسِيسة و قف خالي إلى جانب أمّي التي كانت تغمرها ابتسامة غامضة وقال لها :

  • أرأيت ابنك !...لقد نام بمفرده طوال الليل ....إنه بطل ..أنا أستطيع أن أهنأ الآن... لقد صار عندك رجل في البيت ...

رفعتُ إليه عينيّ فاخترقتني نظراته العميقة ....بدا لي طويلا كالليل ناصعًا كالصباح ...بل ربما كان في تلك اللحظة أعظم رجل في هذه الدنيا ...!

و منذ تلك الليلة عرفت أن النساء نعم هنّ فاكهة الحياة ....ولكن الرجال هم من يمنحها رائحتها الزكية !

 

العين 29/10/2015