يقدم الباحث العراقي هنا دراسة نقدية لمشروع عماد عبداللطيف البحثي حول بلاغة الجمهور، وهل نحن معه بإزاء نظرية أم منهج أم مشروع؟ ويحلل كل افتراض على حدة مفككا نزعته المركزية والإشكاليات العديدة التي يطرحها من النواحي الإبستمولوجية والفلسفية والمنهجية، والتي يكاد معها ان يتحول الى ميتافيزيقا كلية/ ومطلقة.

نقد أيديولوجيا المنهج والنظرية

بحث في لغة اللغة لبلاغة الجمهور

حيـدر علي سلامة

نحاول في هذه الورقة البحثية، مناقشة طبيعة تحولات خطاب المناهج والنظريات والمفاهيم في مشروع "بلاغة الجمهور". وتأتي في مقدمتها مناهج/ ومفاهيم اللغة واللسانيات والفلسفة والدراسات الثقافية التي لا يمكن لها ان تنفصل عن مشروع الدكتور عماد عبد اللطيف. فمنذ اعلان هذا المشروع الثقافي الطموح والرائد منذ عام 2005، وهو لا ينفك عن طرح القضايا المصيرية التي تتعلق براهن وواقع الانسان ومعاناته الأبدية مع خطابات السلطة والمسيطرين عليها، وعلى انتاجها وإعادة انتاجها بهدف تثبيت أيديولوجيا اللغة/ ولغة الأيديولوجيا الرامية الى خلق كائنات بلاوجود وتواصل زائف، كائنات محكومة بأنساق تراتبية وهرمية وعنصرية جرى تشييدها من خلال التآزر والتلاحم الأيديولوجي بين مفاهيم النظرية ومناهجها ونظامها الوظيفي المحدد بأيدي النخبة والمثقفين والأكاديميين الذين شكلت خطاباتهم ومناهجهم ونظرياتهم الإطار الثقافي الكلي totally المسيطر على نظام اللغة والخطاب الثقافي السائد المتضمن في حركة المجتمع وممارساته السوسيوثقافية والسوسيوسياسية والسوسيولسانية.

وقد انعكس ذلك سلبا على افراز "اشكال ثقافية ارتكاسية" ثابتة وقارة في بنية اللسان وممارسات الحكي والتعبير اليومي. من هنا، فأن محاولاتنا النقدية تسعى الى اعادة استذكار سؤال النظرية/ ونظرية السؤال في "بلاغة الجمهور"، ومن ثمة، الى تفعيل منطق البحث inquiry الابستمولوجي والمنهجي والثقافي لإعادة استنطاق المسكوت عنه في هذه البلاغة التي لم تتضح بعد معالمها النظرية والمنهجية واللسانية. وربما يعود ذلك، لحداثة تجربتها من جهة ولاستمرار وتكرار ازمة التواصل بينها وبين النخب الاكاديمية التي لم تأخذ على عاتقها أهمية هذا المشروع في المرحلة الراهنة من جهة أخرى. مما أدى الى سيادة اشكال محددة من القراءات التي غلب عليها صفة العرض النظري/ الصنعي المحكم، واهمال التحليل الثقافي التاريخي لبنية وراهن مفهوم بلاغة الجمهور، وإعادة مساءلة الخطابات المنهجية والنظرية التي شكلت العماد الأساسي لوظيفة هذه البلاغة في الحياة اليومية العامة؛ والحياة الاكاديمية لخاصة الخاصة.

- بلاغة الجمهور: نظرية ام منهج ام مشروع؟

يجد المتتبع لأدبيات بلاغة الجمهور المخاطَب، انه لم يرتبط – ومنذ انطلاقته التأسيسية الأولى– بمفاهيم "لغة النظرية ونظرية اللغة". بل على العكس من ذلك تماما، ارتبط بشكل مباشر واساسي بمصطلح "المشروع". ولهذا، عملت هذه الادبيات على تشييد بلاغة المخاطب على أساس فكرة المشروع، عوضا من ان يتم تأسيسها على مفهوم النظرية. وكان علينا ان نتساءل، لماذا هناك دائما ثمة "مشروع لبلاغة الجمهور"، وليس هناك "نظرية في بلاغة المخاطب" ؟ وبماذا يفيدنا هذا التمييز من الناحية المنهجية ؟

ان الهدف الابستمولوجي الأساسي الذي نرمي اليه من خلال هذا التمييز، هو توضيح واستقراء مدى اتصال/ او انفصال مشروع بلاغة الجمهور المخاطَب عن مراجعة وتفكيك تاريخ "لغة النظرية الوضعية" في العلوم الفلسفية والإنسانية، وفي تاريخ النظرية في العلوم اللسانية والبلاغية أيضا. لا سيما اذا علمنا ان ذلك المشروع البلاغي لم يأخذ بعين الاعتبار البحث في الادبيات الفلسفية واللسانية عن مفهوم المخاطب/ المتكلم، الامر الذي جعله اشبه بمشروع يظهر من العدم، وكأن هذا المفهوم حكرا على تاريخ البلاغة وحدها. مما يعني اهمال فكرة البحث في تاريخ الخطاب الفلسفي العربي وازمته النظرية والمنهجية التي ساهمت بشكل مباشر في تغييب وتهميش مفهوم "المخاطب" سواء كان ذلك في علوم المنطق وفلسفات اللغة والعقل والجماليات وما شابه.

وربما كان ذلك الإهمال هو أحد اهم العوامل الرئيسية التي تقف خلف غياب مفهوم النظرية وتلازم/ واقتران مصطلح المشروع مع مفهوم "بلاغة المخاطب". لتصبح إشكالية إعادة اكتشاف مفهوم "الاستجابة البلاغية" محددة نظريا ومنهجيا أيضا في تاريخ البلاغة العربية فحسب، وهذا ما يبدو واضحا من خلال البيان التأسيسي لصاحب بلاغة المخاطب:

«لقد حاولت على مدار العقدين الماضيين ان أؤسس مشروعا لتحديث البلاغة العربية؛ يقوم على ثلاثة محاور؛ هي أولا، مراجعة أسس علم البلاغة من حيث وظائفه، ومادته، وتاريخه، وجمهوره، وثانيا، مراجعة أدوات العلم؛ من حيث لغته ومناهجه؛ وثالثا، مراجعة علاقة العلم بمحيطه المعرفي. واتخذ المشروع خمسة مسارات متساندة: الأول اقتراح توجه جديد في البلاغة العربية، هو بلاغة الجمهور؛ يعنى بدراسة استجابات الجماهير في الفضاءات العامة، مع التركيز على الفضاءات الافتراضية؛ والثاني: النظر في المادة البلاغية المدروسة؛ بهدف الانفتاح على خطابات الحياة اليومية، وتحليل مدونات متعددة العلامات، والاهتمام اهتماما خاصا بالتحليل البلاغي للعلامات غير اللغوية في التواصل؛ مثل الهتاف والتصفيق.

يتضمن المسار الثاني – أيضا-مراجعة مناهج التحليل البلاغي، من خلال ترسيخ المقاربة النقدية للخطابات البلاغية؛ سعيا لاستكشاف آليات التلاعب والهيمنة والتضليل في هذه الخطابات وتعريتها، وكذلك إعادة الاعتبار لبعض إجراءات المقاربة المعيارية؛ خاصة في أطار بلاغة الجمهور، حيث تكتسب البلاغة وظيفة أخلاقية بواسطة تقديم معرفتها للمخاطبين المعرضين لأشكال التلاعب والتضليل.

يختص المسار الثالث بالنظر في وظيفة علم البلاغة. وقد حرصت على الاهتمام بالوظائف الحياتية للبلاغة، ومن هنا جاء انشغالي بالخطابات الجماهيرية؛ وذلك سعيا الى تعزيز قدرة الافراد العاديين على انتاج خطابات إقناعيه مؤثرة تخلو من التلاعب والتمييز والهيمنة، وإنجاز استجابات بلاغية فعالة، وتشكيل وعي نقدي بآليات الخداع البلاغي، وإنتاج ممارسات بلاغية حرة، وتدعيم الكفاءة التأويلية والتفسيرية للمواطن العادي.

اما المسار الرابع فأسعى فيه الى إعادة النظر في جمهور علم البلاغة؛ وقد حسمت مبكرا أحد اهم الأسئلة التي ارقتني وهو: لمن اكتب؟ وانحزت الى ان القارئ العام لابد ان يشكل شريحة من جمهور البلاغة بالإضافة الى الباحثين والمتخصصين.

وحاولت في المسار الخامس مراجعة جذور علم البلاغة، واستكشاف بلاغات مهمشة والقاء الضوء عليها؛ وقد ركزت على ثلاثة مجالات؛ الأول استكشاف بلاغات قديمة؛ مثل البلاغة في مصر القديمة والهند والصين، وتقديم مقاربات أولية بين مبادئها ومبادئ البلاغتين العربية واليونانية. المجال الثاني حظي باهتمام أكبر، وهو التلقي العربي لبلاغة افلاطون .. والثالث هو اعادة كتابة تاريخ تحديث البلاغة في القرن التاسع عشر».(1)

في النص أعلاه، نلاحظ كيف جاء الباحث على وصف خرائط وجينيالوجيا البلاغة العربية ومفارقاتها التاريخية التي يمكن ايجازها بما يلي: الصراع بين التاريخ الرسمي/ والشكلي/ واليومي للبلاغة؛ الصراع بين مفهومها التقليدي الخاص وممارساتها المعاصرة في الفضاء الثقافي العام؛ الصراع بين فكرة تمركزها على الجملة وإنتاج العبارات وفكرة تحولها الى عالم الخطاب والوظائف الحياتية اليومية؛ الصراع بين من يملكون البلاغة بهدف السيطرة وممارسة الهيمنة والكذب والتضليل على "ذهنية العامة" وتحويل اتجاهاتهم واعتقاداتهم وبالتالي، التحكم في صناعة انظمتهم المعرفية والدلالية واللغوية؛ وبين فكرة تحويل مسار البلاغة الى قوة/ومعرفة بيد الجماهير تحد من جبروت المستبدين واكتشاف الاعيبهم الخطابية.

ان الإشكالية الأساسية التي طرحها النص أعلاه، تكمن في وجود "نزعة مركزية" تكاد ان تتحول الى ميتافيزيقا كلية/ ومطلقة تتمثل في هيمنة "تاريخ البلاغة العربية"، وكأن كل اصلاح وتجديد وحداثة رهن في تغيير بنية البلاغة العربية. في حين ان مجمل الإشكالات التي جاء النص على ذكرها وتقويضها، موجودة وكائنة في تاريخ الفلسفة العربية أيضا؛ وتاريخ المنطق والابستمولوجيا التي ساهمت جميعها في تهميش وتغييب "نظرية بلاغة الجمهور المخاطَب". وبالتالي فأن البحث عن تاريخ هذه النظرية وصناعة تاريخ بديل لها، لا يمكن تحديده ضمن تاريخ البلاغة العربية فقط، وانما له تمفصلات وتداخلات كبيرة مع مجمل مشاريع الثقافة العربية عامة والفلسفية خاصة.

وإذا علمنا أن مجمل أفكار نظرية بلاغة المخاطب/ الجمهور انما تمثل في واقع الامر، سلسلة من الازمات التي تجسدت في تاريخ الفلسفات والنظريات والمناهج التي ظهرت في مختلف حقول العلوم الإنسانية. لنأخذ على سبيل المثال، مشروع الوضعية المنطقية للراحل زكي نجيب محمود، الذي عكس ازمة اللغة العادية واليومية نتيجة لسيطرة اللغة المنطقية الوضعية؛ ومشروع الفلسفة الوجودية للراحل عبد الرحمن بدوي الذي عكس ازمة الدازاين في الثقافة العربية؛ ومشروع الفلسفة الماركسية الذي عكس ازمة الوجود التاريخي والطبقي والاجتماعي، إضافة الى مشروع نقد العقل العربي للمفكر الراحل محمد عابد الجابري. دون ان تفوتنا الإشارة هنا الى مشاريع العلوم الاجتماعية والاناسية والسيكولوجية، التي عكست هي الأخرى، ازمة المناهج والنظريات الوضعية والامبريقية. وإذا تأملنا جيدا في بنية هذه المشاريع سنجد ان مشروع نظرية بلاغة المخاطب تمثل "المخرج التاريخي" لازمة العقل والعقلانية في تاريخ الثقافة العربية.

والسؤال الذي نطرحه هنا، إذا كانت فكرة بلاغة المخاطب تمثل مشروعا، لماذا انفصلت عن المشاريع المذكورة أعلاه؟ لماذا لم تكمل تلك المشاريع؟ لماذا لم تحاول اعادة النظر بمرتكزاتها النظرية والمنهجية والفلسفية؟ الا توجد روابط وعلاقات إشكالية وفلسفية على مستوى المنهج والنظرية والمشروع بين بلاغة المخاطب وبين تلك المشاريع؟ ان هذه الاسئلة لا تعكس فقط ازمة المنهج والنظرية والمشروع في بلاغة المخاطب فحسب، وانما تعكس أيضا ازمة التفاعل بين مناهج العلوم الإنسانية وبين المشتغلين فيها. هذه الازمة عكست طبيعة العزلة والانفصال بين كافة الحقول والاختصاصات العلمية والفلسفية، فالمختص في الفلسفة لا يؤسس طروحاته إلا على أسس ومناهج فلسفية؛ والمختص في اللغة واللسانيات يفعل الشيء نفسه، على الرغم من ان الواقعة التاريخية والثقافية أصبحت أكثر تشعبا ولا يكفي منهج واحدي لإعادة تأويلها وقراءتها من جديد.

وإذا تأملنا في مشروع العقل التواصلي للفيلسوف الالماني هابرماس، سنجد كيف ان هذا المشروع لم يعرف الولادة النهائية الا بعد ان حقق مراجعة كاملة لتاريخ المناهج والعلوم الإنسانية في الفكر الغربي، ولم يتوقف عند الفلسفة الهيغلية والماركسية والفينومينولوجيا والفيبرية – نسبة الى عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر- بل نراه امتد ليشمل طروحات ومناهج الفكر الانجلو- سكسوني والامريكي. ثم بعد ذلك قدم هابرماس طروحاته الفلسفية والسياسية واللسانية والقانونية، باعتبار انها تمثل الخلاصة النهائية لتأويل مجمل تلك المناهج والنظريات والعلوم الإنسانية في الفكر الغربي. من هنا، فأن مفهوم "التفاعلية المنهجية" بين العلوم الإنسانية من جهة ومشاريعها الفلسفية والثقافية من جهة أخرى، لم يتم تفعيله بعد، وذلك لسيادة وسيطرة النزعات المركزية حول بنية المنهج وتاريخه النظري. وقد انعكس ذلك سلبا على حركة البحث العلمي ومناهجه التي ما زالت أسيرة لمعايير تقليدية/ وضعية غير قابلة للتحول التاريخي.

وبالعودة الى منهجية المفكر زكي نجيب محمود الوضعية، سنلاحظ كيف سيطرت المركزية العقلانية الصارمة على منهجه الفلسفي الممتزج بالديكارتية والتجريبية، ذلك لأنه يعتبر مفهوم: «التجريبية العلمية انما هي دعوة الى الاخذ بأحكام العقل الصارم في فهم العبارات التي يجريها الكاتبون على اقلامهم، حتى يأخذهم سحر الالفاظ فيستعملوها لأسباب أخرى غير قوتها الدلالية، على ان اللفظة في هذه الدعوة الجديدة لا تكون لها قوة دلالية الا إذا اشارت في نهاية التحليل الى معطيات حسية اعطتها أيانا كائنات فعلية في العالم الخارجي .. والى جانب هذه الدعوة الى تحكيم العقل وحده - دون العاطفة- فيما يكون له صلة بالوقائع الخارجية، وصلته بالتقريرات الموضوعية العلمية التي تقال عن تلك الوقائع، تقوم في مجالنا الفلسفي دعوة الى حرية الفرد، يقيمها صاحبها وعبد الرحمن بدوي على أساس من الفلسفة الوجودية ، فلئن كانت التجريبية العلمية دعوة الى " الفهم العقلي الواضح"، فأن دعوة الدكتور بدوي هي الإرادة الحرة التي لا تكتفي بمجرد الفهم العقلي، بل تضيف اليه الفاعلية المنتجة النشطة.

ففي كتابه (الزمان الوجودي) يقسم الوجود نوعين: فزيائي وذاتي، الثاني وجود الذات المفردة، والأول كل ما عدا الذات، سواء كان ذاتا واعية ام كان أشياء، اما الوجود الذاتي فوجود مستقل بنفسه في عزلة تامة من حيث الطبيعة عن كل وجود للغير، ولا سبيل الى التفاهم الحق بين ذات وذات، اذ كل منهما عالم قائم وحده، واما وجود الغير فلا نسبة له الى الذات الا من حيث الفعل، والفعل ضرورة للذات، لأن الفعل تحقيق لإمكانياتها، فلكي تحقق نفسها لابد لها اذن ان تفعل، والفعل لابد ان يتم في وجود الغير وبواسطته، ولذا كان عليها ان تتصل بهذا الوجود المغاير. يقول بدوي: ان الشعور بالوجود لا يكون قويا عن طريق الفكر المجرد، لان الفكر المجرد انتزاع للنفس من تيار الوجود الحي، وانعزال في مملكة أخرى تذهب منها الحياة المتوترة الحادة، ولا يسودها فعل وحركة».(2)

يكشف لنا النص أعلاه عن ازمة (المخاطب في بلاغة الجمهور)، سواء كان ذلك في عقلانية محمود الكلية والمطلقة؛ ام في وجودية بدوي التي حولت العنصر العاطفي - أي الانفعالي في الذات وهي الاصح- الى نقيض للفكر المجرد، دون ان تسائل الأسس المنطقية واللغوية لبنية الفكر النظري المتمأسسة بالقوانين الطبيعية والوضعية. بعبارة أخرى، ان طروحات محمود وبدوي يمكن اعتبار انها تمثل فلسفة "ما قبل الخطاب" واكتشاف بلاغة المخاطب، المحاصرة بعالم من التوتر السياسي والضغط الأيديولوجي وسلطة الخطاب/ وخطاب السلطة.

فعالم الخطاب اذن لم يكن مكتشفا في وضعية محمود، لأنه لا يعتقد بوجود العالم الاجتماعي وحركته التاريخية، فمقدمته الأساسية هي: «ان النظريات الواسعة الشاملة لا ضرورة لها ولا نفع وراءها، فهي تعميمات فارغة أيديولوجية، فالعالم الاجتماعي أيضا كثرة من وقائع ذرية دعنا من الهيكل الاجتماعي واساسه الذي يتطلب نظريات شاملة فكل ذلك ميتافيزيقا؛ ويترتب على ذلك المنطلق بالضرورة ان يرفض الدكتور ضمنا الثورة الاجتماعية التي تقوم بها حركة جماهيرية واسعة لاقتلاع أسس نظام استغلالي ليقدم بدلا منها هندسة اجتماعية تجزيئية داخل الاطار الاقتصادي الاجتماعي نفسه. فليست هناك مشكلات تتعلق بالأساس وتطرح وجوده للمناقشة بل هناك مشكلات محلية تكنيكية جزئية يلزما لها توصيات عملية صغيرة جزئية يقدمها المتخصصون في الفروع المختلفة (وهو يسميهم العلماء) وذلك يختزل الدكتور القضايا الاجتماعية الكبرى الى مسائل تكنيكية وإدارية وتنظيمية خالصة لا يستطيع ان يقوم بها الا الصفوة من المختصين. فلا سبيل للتغيير لا داخل المؤسسات الراهنة واصلاحها "بالقطاعي ولتذهب تغيرات الهيكل والبنية والإطار الشامل الى جحيم الميتافيزيقا والايديولوجيات فالشعب لا يصنع تاريخه ولا يشكل مصيره».(3)

ان مجمل الآراء الواردة في النص أعلاه، انما تعبر عن بنية ووظائف المنطق في فلسفة محمود، لأنه كرس لسيادة لغة صنعية؛ متقنة؛ محكمة وهذا هو بالضبط: «الجانب المنطقي من مذهب الدكتور زكي نجيب فيقوم على الاكتفاء بتحليل لغة العبارة نفسها، فهذا التحليل وحده كفيل بإرشادنا ان كانت العبارة مقبولة من ناحيتها المنطقية او غير مقبولة. والمنطق مثل الرياضة لا يقدم أي معرفة بالعالم، فهو يقدم" حقائق" صورية مدارها تكوين الجمل اللغوية واستدلال بعضا من بعضها الآخر. ولا علاقة لتلك الجمل بالخبرة الحسية او بوقائع الخارج. والقضايا المنطقية والرياضية قوالب فارغة من المضمون الحسي لا تقول شيئا إيجابيا عن الطبيعة. وهي ضرورية الصدق لمجرد كونها تكرارا لفظيا. وقد يبدو هذا الجانب المنطقي من مذهب الدكتور في كتاباته الكثيرة التي يوجهها الى القارئ غير المتخصص كما لوكان دعوة الى الاتساق المنطقي الذي نفتقده فيما يقال ويذاع ويملا الاسماع، والى ان ينتقل القارئ من مقدماته الى نتائجه دون تناقض او قفزات وان يحدد معاني كلماته تحديدا دقيقا».(4)

نتيجة لذلك، أصبح الاتساق المنطقي في اللغة وتحليلها هو بمثابة معيار المعايير، الذي استند على المنطق المثالي للغاتLogical Languages ideal الذي ترتبت عليه اتساع دوائر اقصاء المتكلم/ واشكال التعابير اليومية المختلفة والعادية، الى جانب السكوت المبرمج والمسستم عن فلسفة اللغة العادية philosophy of ordinary language كل هذا أدى الى غياب ما يعرف بـ"تأويل لسانيات المتكلم اليومي" وهذا يعني ان التحليل المنطقي الصوري امسى هو البديل الرسمي لتحليل الخطاب النقدي critical discourse analysis، حيث: «يرى الفلاسفة التحليليون ومنهم مور ان "ان البحث في التركيبة الصورية للعبارة، بغض النظر عن المادة التي تملا ذلك الإطار الصوري، هوما يسمى بالتحليل المنطقي"، ولذلك فهم يرون ان المنطق علم صوري بمعنى انه يهتم بصورة الكلام دون مادته ، ومن هنا تأتي يقينية المنطق».(5)

من هنا، نرى كيف ان مشاريع الفلسفة العربية ظلت محكومة بعقيدة فلسفية واحدة، هي "العقيدة العقلانية المطلقة"، لدرجة أصبحنا لا نجد معها ثمة اختلافات منهجية ونظرية بين وضعية زكي نجيب محمود التجريبية؛ ووجودية عبد الرحمن بدوي الهايدجرية؛ وابستمولوجية محمد عابد الجابري البنيوية؛ وشخصانية محمد عزيز الحبابي المثالية؛ وذلك لان معظم هذه المشاريع لم تتأسس على مفاهيم اللغة والخطاب سوسيولوجيا الخطاب الثقافي لبنية المتكلم، وانما تتأسس على فلسفة "الكوجيتو السوسيولوجي" sociological cogito «الذي يجعل من وجود universal متضمن وكامن في الوجود الاجتماعي».(6) ولقد كانت من كبرى النتائج الوخيمة لسيطرة هذه الفلسفة على هذه المشاريع العربية، الاعلاء من التفكير النظري والمجرد وتهميش ما يعرف بـ "التفكير الشفاهي/ التواصل الشفاهي" /Verbal Thinking verbal communication مما أدى الى اقصاء واستبعاد مفهوم Intellectual audiences أي التاريخ الثقافي للجمهور المخاطَب في ادبيات مشاريع الفلسفة والعلوم الإنسانية. وهذا بطبيعة الحال سوف يعمل على تعزيز سيطرة فلسفة لسانية واحدة هي اللسانيات العقلانية Linguistics rationality.(7)

- بلاغة الجمهور من لسانيات المعنى الوضعي الى لسانيات التواصل اليومي
كانت احد اهم آثار سيطرة اللسانيات العقلانية التي تحدثنا عنها سابقا، هو هيمنة لسانيات وظيفية وضعية. وهذا بطبيعة الحال يشير الى أكثر من قضية واشكالية، لا سيما فيما يتعلق بنظرية المعنى وسيطرة أنماط المنطق الوضعي والشكلاني على بنيتها ونظامها الداخلي والخارجي. حيث أصبح المعنى يعبر عن منهج في التثبت او التحققMeaning is method of verification وقد شكل هذا المنهج المعيار الأساسي في فلسفة اللغة التقليدية – ما قبل فلسفة اللغة العادية- حيث نلاحظ ان الجملة والعبارة تبقى محكومة بمعيار شرط الصدق Truth-Condition الذي يضمن حقيقة الجملة، حيث: «لا يمكن ان تخرج شروط حقيقة الجملة ومعناها عن حدود وصف بنيتها السنتاكسية ونظام الإحالة في كلماتها المتطابقة بطريقة محكمة مع بنيتها».(8)

ومن خلال تلك الحتمية يتكون المفهوم الحرفي والوضعي للمعنى الذي يبقى منفصلا عن عالم الاتصال والتواصل للمتكلم او عمن يستعمل اللغة. لذا وجب التمييز هنا بين لسانيات المعنى linguistics meaning التي تتسم فيها المعاني "باللاتاريخية" وذلك لحرفيتها ولثباتها وبين Speaker meaning المتصل بواقعية/ وحالات المتكلم ضمن سياقاته التداولية. لهذا، ينبغي لنا أيضا التمييز بين كل من semantics وبينpragmatics . حيث يتعلق السيمانتيك: «بدارسة خصائص التعبير التي تساعد على تحديد الشروط التي تضمن ان يكون الكلام وفقها يحمل قيمة الصدق بشكل حرفي، وليس خاطئا. في مقابل ذلك، يتركز بحث البرجماتية على دراسة الشروط التي يكون الكلام بمقتضاها نافعا وليس مضللا؛ ويكون ملائما عموما وليس العكس».(9)

بهذا نكون إزاء مقاربتين فلسفيتين حول علاقة المتكلم باللغة وصناعة المعنى والاحالة، فالأولى تخص: «السمانتيك وتبحث بما تقوله الكلمات تحديدا what the words say؛ اما الأخرى فتشير الى البراجماتيك وتبحث بما يعنيه المتكلم what the speaker means ... ان الحافز الاساسي في اهتمام الفيلسوف غريس Grice في المعايير والشروط التي تتحكم في المحادثة او الخطاب بشكل عام، يعود في الأساس الى انه ينظر اليها بوصفها توفر الوسائل التي تحافظ على بعض اهم أوجه التشابه بين اللغات المنطقية Logical language وسيمانتيك اللغة الطبيعية Natural language semantics، التي انشأها الفيلسوف الإنجليزي برتراند راسل، وفريجه ومناطقه آخرون .. ان نظام غريس في نظام المعايير Norm وثوابتها التي تتحكم في الاستعمال التواصلي اللغوي، كان قد لعب دورا ليأخذ في الحساب الاختلافات المتعددة بين معاني الكلمات المستعملة في اللغة العادية، وبين معاني الكلمات نفسها في السيمانتيك الذي اطلق عليه التحليل المنطقي».(10)

لقد اصبح واضحا، ان هناك سيطرة شبه تامة لسيادة المنطق الوضعي ومناهجه النظرية والميتافيزيقية على مجمل مفاصل مشاريع الثقافة العربية عامة والفلسفية خاصة. وحتى ان النزعة الوضعية المنطقية التي سادت في اوساطنا الفلسفية والتعليمية اتسمت هي الأخرى "بالأرثوذكسية التجريبية" التي أدت الى سيادة شكل منطقي/ ولغوي طبيعي واحدي، يقصي لغة الآخر المهملة والمنسية في دهاليز انطولوجيا الحياة اليومية المسكوت عنها في مؤلفات رواد الوضعية المنطقية ربما ابرزهم الفيلسوف الراحل زكي نجيب محمود، الذي لطالما تعامل مع الوضعية المنطقية باعتبارها تمثل لجيل واحد؛ لمنطق واحد؛ لغة واحدة؛ ولدلالة واحدة. وقد انعكس ذلك سلبا على كتاباته التي لم تمنح أي أهمية وقيمة لفلسفة فتغنشتاين المتأخرة، فقد ظل يستعمل مؤلفات فتغنشتاين الوضعية المبكرة في معظم كتبه وابحاثه الفلسفية، ناهيك عن استبعاده لمجدد الفلسفة التحليلية ومؤسس حداثة المتكلم والمخاطب في الفلسفة ونعني به غريس H. P. Grice وهو: «الفيلسوف الوحيد الذي اعطى تعريفا واضحا ومكانا مركزيا للمتكلم ومحفزاته عند تشكل المعنى. في ورقته الموسومة بـ "معنى" Meaning الصادرة عام 1957 كان قد اقترح غريس تحليل المعنى حسب مفردات قصد المتكلم لإنتاج الاستجابات داخل الجمهور».(11)

لقد كان غريس مؤسسا لما يعرف بمبدأ "لاطبيعية المعنى"Non-natural Meaning . وهنا بالضبط تكمن كبرى إشكالات الفلسفة الوضعية من جهة، وخطاب الدراسات اللسانية والبلاغية وتحليل الخطاب النقدي وما شابه. حيث نجد ان هناك سيطرة واضحة لعاملين أساسيين كان لهما اثرا كبيرا على صيرورة تقدم هذه الحقول المعرفية وساعدا على سيادة اشكال وضعية/ تقليدية للغة والخطاب على الرغم من تطور دراسات فلسفة اللغة واللسانيات والحجاج، ونعني بهما: النزعة الوثوقية/ الميثاقية Convention والطبيعية Natural.

ان عملية إعادة التفكير بهاتين النزعتين المذكورتين أعلاه، انما جاء بهدف نقد وتفكيك الابعاد القبلية والميتافيزيقية التي تشكل بنية اللغة من جهة ونظامها المنطقي والنحويgrammatical . وبالتالي، ينبغي إعادة التفكير والتمييز بين كل من: المعنى meaning والمتكلَم في اللغة Utterance والجملة Sentence. فمن خلال هذا النقد والتمييز سوف يتسنى لنا إعادة التفكير في نظرية بلاغة المخاطب، والبحث فيما إذا استطاعت مراجعة وتحليل الموروث اللساني والتحليلي للغة الذي حال دون تكوين ما يعرف ببلاغة المخاطب.

- بلاغة الجمهور ... جدل المعنى الطبيعي واللغة الوثوقية:
من المعروف ان الجذور التاريخية للنزعة الوثوقية/ والطبيعية تمتد الى الفلسفة اليونانية القديمة حيث تعاطت مع هذا المفهوم: «وجعلته نتيجة للعادة او الاعتياد وسيادة الأعراف التقليدية، وكذلك تعبيرا عن اتفاق او عقد اجتماعي. اما النزعة الطبيعية القائلة بـ "طبيعية المعنى اللغوي" فتعود أصولها الى محاورة افلاطون كرايتل Cratylus التي تبحث في اللغة. ودعا فيها سقراط الى الاحتكام الى ما يعرف بمبدأ المماثلة Analogy ... بالنسبة للفلسفة اليوم لم يعد الجدل حول التوافقية والطبيعية. فجميع الفلاسفة هم توافقيون بمعنى ما. ومن خلال تأمل مواقف كرايتل وارسطو، يتبين ان هناك فكرتين أساسيتين تدعم فكرة اللغة التوافقية. احداها تتعلق بالاعتراض على فكرة كرايتل القائلة ان للكلمات معنى طبيعي، لصالح فكرة اعتباطية الترابط بين الكلمة والمعنى. وعلاوة على ذلك تأتي الفكرة الوضعية المتعلقة بالمتكلم الذي يمارس مراقبة عقلانية لغرض السيطرة على لغته وتقييد معنى كلماته وهو ما أصبح شرطا ضروريا في المبدأ التعاقدي».(12)

يتضح من النص أعلاه، ان فكرة المتكلم/ والمخاطب لم يتم ابتكارها واكتشافها بعد في ظل سيطرة النزعة الطبيعية والتعاقدية، الامر الذي أدى الى تغييب وتهميش أي دور للمتكلم في ظل سيادة المعاني المتعالية في لغته. لطالما كانت هناك قبلية منطقية logical priority تشكل النظام اللغوي من جهة؛ وتكون بنية الجملة من جهة أخرى. وبحسب John Lyons فقد ميز بين الكلمة-المعنى Word-Meaning الجملة-المعنىSentence-Meaning . يسيطر النظام المنطقي القبلي على الأولى، خاصة ذلك المتمثل في نظرية السيمانتيك الوصفية (القائمة على الافتراضات المنطقية الصادقة بالضرورة). ومن اجل تجاوز المفاهيم الوضعية والطبيعية لهذه النظرية اقترح Lyons مفهوم اللسانيات السيمانطيقية linguistic Semantics الذي سعى من خلاله الى تجاوز الرؤى الشكلانية والتقنية للغة وما بعد اللغة، خاصة تلك التي تتعامل بطريقة وصفية محكمة مع اللغة اليومية.

اما التمييز الآخر، فهو يمهد لظهور المتكلم/ المخاطب، بعدما يكون قد تحرر من سلطة الأنظمة الشكلانية والوضعية المنطقية والوصفية النظرية المجردة. لذا، فقد كان التمييز الثاني الجملة – المعنى، يمثل المقدمة الطبيعية لنموذج المتكلم/ المخاطب، الذي سوف يشكل قطيعة مع البرادايم المنطقي للغة، ليدخل في تاريخية البرادايم الثقافي للأشكال اللغوية والنصية التي لم تنص عليها اعراف المنطق الوضعي ونظامه السيمانتيكي النظري، اذن نحن ننتقل الى جملة ومعنى المتكلم وهو ينتجها ويعيد انتاجها من خلال اندماجه في وقائع العالم اليومية والمظاهر التواصلية غير اللفظية Non-Verbal التي لم تدرسها اللسانيات التقليدية وانما paralinguistic.

لكن هذا لا يعني أن واقع التحرر والانفصال من الحتمية المنطقية للمعنى الى ممارسته وانتاجه في السياق الثقافي بطريقة تداولية، قد أدى الى استقلال ثقافة الاشكال غير اللفظية للمخاطب من هذه الحتمية ذلك لان: «الخصائص غير اللفظية للكلام متصلة بحتمية معانيها بوصفها ما زالت ضمن مقولة الكلمة-المعنى والمعنى النحوي، وكلاهما تم تشفيرهما Encoded في المكون اللفظي».(13) هل هذا يعني عودة مكبوت "المنطق القبلي" وسيطرته على انتاج المعنى لدى المتكلم/ والمخاطب؟ وهل تحول هذا المنطق الى اشكال نمطية وقيمية قارة في عاداتنا وممارسات تفكيرنا اليومية؟ وهل هذا يشير الى سيطرة النزعة الاتفاقية والطبيعية في اللغة والمعنى؟ ربما كان Lyons محقا عندما شخص هذه الإشكالية حينما رأى: «ان جميع العادات والاحكام المسبقة المتشكلة بواسطة طرق تعلم القراءة والكتابة، حاضرة في تفكيرنا اللغوي اليومي. وكثير من تلك الطرق التعليمية جرى ترحيلها دون ان تؤخذ بنظر الاعتبار من قبل المنظرين في المعنى والتواصل».(14)

- طوبولوجيا بلاغة الجمهور ضمن نظريات المعنى:
يتضح مما سبق، ان تكوين "المعنى" قد مرّ بمراحل متعددة، قبل ان يتشكل ضمن مقولة الجملة – المعنى – المتكلم، اطلق عليه فيلسوف اللغة غريس Grice مفهوم المعاني التوافقية Conventional Meanings فعندما تصبح عملية: «ان اللغات التشاركية العامة توفر هذا النوع من المعاني التوافقية/ التقليدية المعتمدة للجمل المعتمدة في تواصلنا اليومي».(15) ان إشكالية المعنى، تدعونا الى السؤال عن مواقع - وتحولات المعنى في بلاغة الجمهور والتي سوف تثير مسألة مهمة تتعلق بضرورة اعادة النظر بمجمل نظريات المعنى وتفكيك نظامها العلائقي؛ والبنيوي والنحوي والإحالي/ المرجعي الذي سيطر على طرائق انتاج المعنى بشكل توتولوجي. من هنا، يمثل سؤال المعنى في بلاغة الجمهور، في واقع الامر، سؤال عن "لغة اللغة لهذه البلاغة" او الميتا-لغة، التي تعمل في بنية هذه البلاغة، بطريقة تكون فيها هي المسؤولة عن تشكيل هوية معانيها؛ وضبط دلالة مفاهيمها؛ والتحكم بآليات وظائفها الداخلية والخارجية. ومن المعروف ان هناك اكثر من نظرية في فلسفة اللغة حاولت البحث في هذه الإشكالية وتقديم العديد من التفسيرات والمفاهيم حول ميكانزمات انتاج المعنى، «واهمها:
1. نظرية الإحالة (القائلة ان معنى التعبير اللغوي هو ما يشير وما يحيل اليه).
2. النظرية الذهنية (القائلة ان معنى التعبير اللغوي هو الفكرة او المفهوم المرتبطة بذهن شخص المدرك لها).
3. النظرية السلوكية (القائلة ان معنى التعبير اللغوي هو اما ان يكون في المحفز ذلك الذي يثيره او ان يكون في الاستجابة التي تستحضره، او ان يكون في كلاهما معا، وعلى الأخص ضمن مواقع الكلام المناسبة للجمع بينهما).
4. نظرية المعنى بوصفه استعمال (القائلة ان معنى التعبير اللغوي يتحدد -ان لم يتطابق تماما- مع استعماله في اللغة).
5. نظرية التحقق (القائلة ان معنى التعبير، إذا كان لديه واحد، إنما يتحدد بواسطة القابلية على التحقق من جمله، او القضايا المتضمن عليها.
6. نظرية شرط – الحقيقة (القائلة ان معنى التعبير يكون بقدر مساهمته مع شروط – الحقيقة للجمل التي يتضمن عليها».(16)

- ازمة نظرية التواصل في بلاغة الجمهور:
ان الغاية الأساسية من الاستفاضة في شرح وتحليل بنية المعنى ونظرياته الفلسفية واللسانية، هو بهدف توضيح كيف ان نظرية المعنى -الجملة- المخاطب مرت بمراحل متعددة بهدف التحرر من المركزية المنطقية؛ النظرية التي تجعل عملية انتاج المعنى حتمية وخاضعة لبنية ونظام الجملة المنطقي المحكم والصارم، فلا يترك أي فسحة للتفكير بوجود المخاطب الذي يمكنه انتاج جمل حرة في استعمالاته اللغوية بمعزل عن تركيبها السيمانتيكي والسنتاكسي المتعالي. وذلك من اجل الانتقال بالمعنى من افتراضاته المنطقية المجردة؛ الى مرحلة المعنى المتضمن في الرسائل Messages المشفرة Coding وفك التشفير Decoding، أي اننا سوف ننتقل الى عالم التواصل CommunicationوالبلاغةRehtoric والحجاج argument، بعدما نكون قد قطعنا مع عالم شرط – الحقيقة السيمانتيكي الوضعي، الذي يتمثل الجمل والكلمات. وهنا، لابد من الإشارة ان نظرية التواصل، لم تنجو هي الأخرى من حتمية المنطق الاستدلالي-الكلي، خاصة وانه ظل محكوما بنموذج الترميز الاستدلالي ذو الاتجاه الواحدinferential model .(17)

اذن، ان واقع التحول من نموذج التواصل الأحادي؛ الى نموذج التواصل الثقافي/ النقدي، يعني ان بنية هذا التواصل الأخير: «تسمح بالتجانس مع دور العلم دون تخطي النقد الثقافي مهما كانت التقييمات الذاتية للأفراد فيها شيء من المخاطر و الازمات التي ينبغي استيعابها بطرق مختلفة وفي انموذج تواصلي للمخاطر والأزمات متجاوزا الانموذج التجريد الوظيفي ذات الاتجاه الخطي الاحادي (الذي لطالما استبعد الجمهور العادي) وعمل على تهميش هؤلاء الذين يشكلون دورا كبيرا في العمليات التاريخية».(18)

من خلال المقاربات المذكورة أعلاه، يتضح لنا ان جملة من التحولات والتغيرات سوف تحصل في نظرية التواصل؛ والمعنى؛ والمتكلم. فعندما تكلمنا سابقا عن وجود نظرية تواصلية ذو اتجاه استدلالي واحد/ حرفي inferential model فأننا هنا سوف نقطع مع هذا النموذج ليحل محله Risk Communication؛ ومن نظرية Truth-Condition في السيمانتيك والمعنى؛ الى نظرية راهن الجمهور العادي Lay audiences في تحليل الخطاب النقديCDA وبلاغة الاستجابة؛ ومن المعايير التقنية المركبة؛ الى المعايير المحلية local Norm المستعملة؛ ومن اللغة التقنية المجردة؛ الى لغة انفعالية غير تقنية، تتفاعل مع الوسط السوسيو ثقافي والسياسي؛ ومن المعنى الطبيعي الى المعنى التداولي.

اما معنى نظرية البلاغة في ظل جميع تلك التحولات، فأنه اخذ مفهوما مغايرا يسعى فيه الى: «البحث عن ما هو مقنع، بهدف فحص الحقائق الاجتماعية الموجهة الى الآخرين [بوصفها نصوص قابلة للاستهلاك اللساني واللغوي من قبل المخاطب -هذا منا-] التي تجد مسوغاتها بواسطة الأسباب العقلية التي هي انعكاس للقيم الثقافية. ان البلاغة تمثل دراسة إنسانية تعيد اختبار مجمل الوسائل الرمزية من خلال تأثيرها في الوقائع».(19)

الملاحظ على سياق النص أعلاه، أنه يكشف عن مفهوم البلاغة الذي يتوسط بين الثقافي والسياسي والأخلاقي، فتغدو وظيفتها هنا هي مواجهة منطق الاستعارات الجديد، الذي تحول الى افتراضات ثقافية وعقائدية، نشكل من خلالها المعنى والاحكام القيمية العامة، وهذا ما تم الاصطلاح عليه بمفهوم Risk Culture: «الذي يعبر عن مجموعة تصورات مطلقة غير متعينة تمثل المعنى والادراكات او الاحاسيس التي تشكل انعكاس لأخلاقيات السياق، والافصاح عن التحدي، والتسييس الأيديولوجي».(20)

لذلك، تواجه البلاغة جملة من التحديات في ظل سياسات التواصل المحفوف بالمخاطر والتأزم الثقافي والقيمي، ربما يكون على رأس هذه التحديات، هو في كيفية مواجهتها للمنطق الثقافي/ وثقافة المنطق العقلانية التي تفترض دائما وجود جماعات نخبوية تدير وتديم ثقافة المخاطرة والمجازفة، والمؤسسة في الوقت نفسه على جماعات وطبقات معينة وثابتة خاضعة لسلطة الصلاحية Validity اليقينية التي لا تخطئ ابدا في اختيار هذه الطبقات للفوز بمكاسب المخاطر السياسية والثقافية والتواصلية.

وبحسب ماري دوغلاس Mary Douglas فأن دينامية البلاغة في المجتمع يتركز على ثلاثة أنواع من الاختيارات العريضة:
1. انظمة العلاقات الكلية التي تعمل على توحيد من في الداخل ضد الخارج.
2. الثقة الضرورية من اجل التبادل بين الافراد.
3. شرعية التسلسل الهرمي من الأعلى الى الأسفل بين الافراد.(21)

- بلاغة الجمهور...بين تحليل الخطاب النقدي ونقد استجابة المتلقي:
يتطلب البحث في مشروع بلاغة الجمهور عند الدكتور عماد عبد اللطيف، مراجعة الأسس النظرية والفلسفية والأبستمولوجية، التي لم تتضح ملامحها بعد بشكل كافٍ. وربما كان هذا دافعنا الأساسي عندما تساءلنا في بداية هذه القراءة فيما إذا كانت بلاغة المخاطب تمثل نظرية؛ ام منهجا؛ ام مشروعا؟ فإذا كانت تشكل نظرية جديدة، فهذا يعني انها سوف تقوم بمراجعة ونقد وتحليل تاريخ الأسس النظرية في الفلسفة والمنطق وفلسفة اللغة، وتاريخ البلاغة التقليدية في الثقافة العربية؛ واذا كانت هذه البلاغة تمثل منهجا، ينبغي عليها إعادة قراءة وتأويل ابستمولوجيا المناهج في وحدة العلوم الإنسانية؛ واذا كانت تبشر بمشروع جديد، فهذا يعني انها سوف تأخذ بعين الاعتبار مختلف مشاريع الثقافة بهدف الكشف عن طبيعة الأنظمة المعرفية والمنطقية التي كانت تحول دون ولادة وتشكيل بلاغة الجمهور. خاصة مع سيطرة الاتجاهات الوضعية التي تعتمد أصول المنطق الاستدلالي والشكلاني في تحليلها لبنية العقل العربي، كما هو الحال عليه في المشروع الوضعي للراحل الفيلسوف زكي نجيب محمود؛ وفي مشروع الابستمولوجيا البنيوية للراحل المفكر محمد عابد الجابري، ولا ننسى أيضا مشروع التاريخانية العربية للمفكر عبد الله العروي، الى جانب مشاريع المادية التاريخية كمشروع حسين مرورة؛ طيب تيزيني؛ مهدي عامل؛ هادي العلوي ... الخ.

وبالطبع ان فلسفة وتوجهات ومناهج مشاريع الثقافة العربية، اكبر من ان يتم ادراجها واحصائها في هذا السياق، لكن تكمن أهمية الإشارة اليها هنا، في تتبع "اركيولوجيا المناهج الأيديولوجية" المعلن عنها في مشاريعها الفكرية والفلسفية والثقافية. ومن هنا، فأن عمليات فهم وقراءة وتأويل مشروع بلاغة الجمهور/ المتكلم، لا يمكن لها ان تتأسس على ادبيات هذا المشروع حصرا، لان ذلك يجعلنا نقع في دوائر توتولوجية ودائرية من القراءات التي لا يمكن لها ان تتحرر من سلطة الوصف النظري المجرد، وبالتالي فأنها لا تكشف عن أي جديد يذكر.

ان مشروع بلاغة الجمهور/ المخاطب، يشكل بداية جديدة لولادة رؤى وتصورات راديكالية قادرة على تخطي وتجاوز التمركز النظري والمنطقي في المؤسسات الاكاديمية، فيما لو جرى وضع هذا المشروع في المكان النظري والمنهجي المناسب له. سيما وانه انطلق من التفكير في المسكوت عنه في تابوهات الثقافة واللغة والبلاغة، مثل نقد السلطة؛ ونقد قداسة اللغة/ واللغة المقدسة، ونقد الاكاديمية والايديولوجيا. بل يمكننا القول ان إعادة التفكير في منطق استجابة المتكلم/ الجمهور يمكن له ان يشكل بداية جديدة لإعادة النظر في مفهوم تاريخ انطولوجيا اللغة، ولغة الانطولوجيا في الفلسفة العربية، لا سيما منذ ان أعلن مشروع بلاغة الجمهور عن رؤيته النقدية لنظرية تحليل الخطاب النقدي، عندما سعى الى:

«تجسير الفجوة في الاطار الذي اقترحه فير كليف لتحليل الخطاب، بواسطة اقتراح توجه في الدراسة يبحث في العلاقة بين الظواهر اللغوية المكونة لخطاب ما، والاستجابات الفعلية التي ينتجها المستهدفون بهذا الخطاب، والعلاقة بين علاقات السلطة واستجابات الجمهور، وأساليب التلاعب بهذه الاستجابات. وقد أطلقت على هذا التوجه اسم بلاغة المخاطب/ الجمهور. تقترح بلاغة الجمهور ان استجابة الجمهور ربما تمثل المدخل الطبيعي لدراسة العلاقة بين الخطاب والسلطة. فسلطة الخطاب، تتجلى أساسا في الآثار التي يحدثها في استجابة الجمهور. ومن ثم فأن القيود والمحددات التي تفرضها الظواهر اللغوية على استجابة الجمهور قد تعتبر معيارا لتحديد ما هو سلطوي. كما ان نجاح خطاب سلطوي ما في تحقيق وظائفه، يقاس اساسا بقدرته على السيطرة في استجابات مستهلكيه.

ان السلطة لا تمارس من خلال اللغة فقط، وانما أيضا من خلال الاستجابات الموجهة التي تتعاضد معها، فجمهور الخطبة السياسة مثلا لا يتأثر بأداء السياسي ولغته اثناء الخطبة فحسب، بل أيضا بردود الفعل التي قد يقوم بها الجمهور الفعلي الذي يحضر الخطبة. ومن ثم فان مقاومة الخطاب السلطوي لا تكون بالكشف عن العلاقة بين الخطاب واستجابة الجمهور فقط، بل كذلك من خلال اجهاض قدرته على التحكم في استجابات مستهلكيه، وتعرية الاستجابات المتواطئة معه».(22)

من خلال مراجعة ادبيات بلاغة الجمهور/ المخاطب، تتضح سيادة واعلاء للغة الوصفية/ النظرية لمفهوم "الاستجابة" الذي تم التعامل معه وكأنه منفصل عن الكائن/ الشخص من جهة ،ومن جهة اخرى عن الإطار Framework. الامر الذي جعل من مفهوم الاستجابة Response يظهر وكأنه متصل بالمفاهيم فحسب وليس بالوقائع والاحداث التاريخية، وكأنه احد الاشكال الرياضية المنطقية دون محتوى مادي ومنعزل عن البنية الذهنية للمتلقي، ليصبح معه مفهوم الاستجابة ايضا خاضع لحتمية طبيعية، ليدخل ضمن مقولة النزعة التعميمية generalisation التي غلبت على المشروع برمته.

اذن، ان مفهوم "الاستجابة" في المنظومة المنهجية لبلاغة الجمهور، محكومة بنظام "ابستمولوجي وضعي" تجاوز أيضا تاريخية الاستجابة من جانب، وعلاقاتها المتشعبة مع النظام المعرفي والسيكولوجي للمخاطب او المتكلم من جانب أخرى. على الرغم من ان منشئي الخطاب يعملون على إدارة الخطاب ضد الجمهور المخاطب، بهدف إعادة توجيهه وتشكيله بصورة مستمرة. لهذا تفترض بلاغة الجمهور:

«ان الخطابات البلاغية الجماهيرية هي خطابات هي خطابات توظف اللغة لتحقيق أغراض بلاغية هي اقناع المخاطب (الجمهور)، والتأثير فيه. هذا الاقناع والتأثير قد يستهدف تمكين منشئي الخطاب او المستفيدين من هذا الخطاب من السيطرة والهيمنة على المخاطب، وهو ما يعني ان منشئي هذا الخطاب يستخدمون اللغة بكيفيات معينة، قد تتضمن التضليل والخداع، كي يتمكنوا من تحقيق السيطرة والهيمنة على المخاطب؛ أي التحكم في صياغة نسق معتقداته واتجاهاته وسلوكياته بما يجعله يعتقد ويتجه ويسلك وفقا لمصلحة منشئي الخطاب التي ربما تتعارض مع مصالح المخاطب ذاته.

يتم انتاج الخطابات البلاغية الجماهيرية واستهلاكها في أطار عملية اتصال يمثل المخاطب طرفا فاعلا فيها. وتتبنى بلاغة المخاطب بعض التصورات التي ترى ان المخاطب ليس طرفا سلبيا في هذه العلمية؛ فهو ليس مجرد "مستقبل" لنص المتكلم. فبالإضافة قيام المخاطب بعملية انتاج معنى نص المتكلم عن طريق التأويل والتفسير فأنه يستطيع ان يدخل تغييرات جوهرية على الرسالة ذاتها من خلال استجاباته لها؛ حيث ان الاستجابات الآنية للمخاطب والمتمثلة في رد الفعل والتغذية الراجعة، والخطابات المتزامنة. الخ. تؤثر في الطريقة التي يبني بها المتكلم استراتيجية خطابه. ومن ثم فان المخاطب الذي يدرك قدرة استجابته على تعديل خطاب المتكلم، ويمتلك قدرة على التمييز بين خطاب سلطوي يستهدف السيطرة عليه وخطاب غير سلطوي يستهدف تحريره- يستطيع بواسطته تطوير وتفعيل استجاباته ان يقاوم خطاب سلطوي. وتنطوي هذه المقاومة على نقد خطاب المتكلم بما يمكن من نقله من دائرة اليقين الى الاحتمال، من دائرة التسليم المطلق الى دائرة المساءلة، من دائرة حرية التأثير الى دائرة البحث في الأغراض والمصالح والاستجابة التي تنجح في فعل المقاومة يسميها الباحث "استجابة بلاغية"».(23)

ان النص المذكور أعلاه، يطرح علينا جملة من القضايا الإشكالية التي تتعلق بإعادة تفكيك ونقد منطق الاستجابة من جهة؛ وإعادة اكتشاف فعل الاستجابة التاريخي ضمن خرائطه السوسيوثقافية والمعرفية والاعتقادية. فعلمية مواجهة الخطاب السلطوي لا يمكن لها ان تحصل لدى المتكلم بطريقة نظرية فقط، بل لابد من التمييز في المقام الأول بين "سيكولوجيا التمثل للاستجابة" "وبين "نقد النظام المعرفي لعمليات الاستجابة" أي تفكيك الهيكل التنظيمي للمعرفة Organization Knowledge المتحكم بصيرورة وعمليات الاستجابة في شعور/ ولاشعور المخاطب، خاصة وان الاستجابة تخضع "لسياسة طوبولوجية" تقوم على مبدأ تحولات مواقع الاستجابة بين الباث الأيديولوجي/ السلطوي؛ والمتلقي الذي يعمل على انتاج استجابة بلاغية – حسب اصطلاح الباحث عماد عبد اللطيف- مغايرة للخطابات السلطوية المتحكمة في انتاج قناعات التلقي الزائفة.

لكن مشكلة نموذج "الاستجابة البلاغية" الذي اقترحه علينا عبد اللطيف، ظل محكوما ببرادايم الادراك التمثلي Cognitivist-Representation الذي يحافظ على تكرار منطق الاستجابة ولا يعمل على تحويلها. وذلك ربما لأن ذلك البرادايم نفسه تحول الى Generative Grammar يولد استجابات لامتناهية قادرة على التكيف مباشرة مع السلطوي دون مقاومته. وهذه كبرى مشكلات نموذج "التمثل الادراكي الوضعي" الذي يدير مسار مخاطر انتهاك بعض المعتقدات الأساسية المسستمة. فأذا كنا نسعى الى تشكيل رؤية جديدة في التواصل بوصفه مجموعة من العمليات ضمن سياقات اللاعبين الأساسيين الذين يستعملون الرموز وصنع تأويلات للتنسيق والسيطرة على الفاعلية والمعرفة. فعلينا ان نعمل على تجاوز انموذج التمثل الادراكي «وآثاره الضارة التي في مقدمتها النظر الى المعرفة بوصفها كيان انطولوجي Entity Ontology منفصل عن الفعل (والسياق) ويؤسس لنزعة ثنائية نظرية Dualism».(24)

من هنا، تبدو ان علمية مواجهة تقنيات عمل وتشكيل الخطابات السلطوية، لا تتوقف عند مرحلة وصف "الاستجابة البلاغية" بطريقة منطقية مجردة. ان هذه القضية اعقد بكثير، وتحتاج الى تعرية منطق "الإدارة التجريبية" المتغلغل بعمق في بنية الوجود الاجتماعي، والمتحول الى مجموعة من القواعد والقوانين التي تشكل الاحكام وتكوين القرارات. ان مفهوم "الاستجابة البلاغية" إذا أراد ان ينتقل من الوعي الى الفعل؛ ومن النظرية الى الممارسة، فعليه أولا ان ينعرج الى processes of Knowing أي الكائن العارف وهو في عمليات مستمرة لإنتاج المعرفة خاصة ان هذه العمليات: «متضمنة في الضوابط السوسيو-تاريخية للجماعات، ومرتبطة بصورة وثيقة مع العوامل المادية التي تظهر بوساطتها تلك العمليات، لتصبح المعرفة عبارة عن القدرة على الفعل داخل موقف معين، حيث يجري النظر الى تلك الامكانية بوصفها تفاوض ذاتي متفاعل وفي تحول دائم. ويقترح علينا تعريف المتكلم العارف، بوصفه ممارسة اجتماعية، ان نتوجه بتركيزنا الى المعرفة ليس بوصفها مجرد (سلعة) بل كونها تعبر عن مجموعة من العمليات التفاعلية المعقدة ينبغي ان نبتكر فيها (ما جرى التعبير عنه بمعان مألوفة) استنادا الى المعرفة المشكلة –وحلها خلال الموقف».(25)

أن عملية التمييز بين خطاب سلطوي؛ وغير سلطوي بالنسبة للمتكلم بهدف مواجهة الخطابات السلطوية، ربما تمثل اهم ما يميز بلاغة الجمهور التي تسعى الى ابتكار استعمال جديد للغة – استخدام غير سلطوي للغة حسب د. عماد عبد اللطيف – وهذه هي المهارة البلاغية التي تميز بلاغة المخاطب. حيث نجد ان المتكلم البليغ هو من يقوم بإنتاج خطاب لا سلطوي، اما المخاطب البليغ فأنه من يقوم بإنتاج استجابات بليغة -حسب رؤية د. عبد اللطيف.

ان المتأمل في طبيعة مصطلحات ومفاهيم النص أعلاه، يجد فيه شيئا من الغموض المنهجي، فعندما نتحدث عن قضية توسط الخطابات السلطوية بين لغة المخاطب وتحولات البلاغة من النموذج التقليدي الى نموذج جديد، يعني اننا نقوم بنقد مفاهيم ومناهج ونظريات البرادايم الوضعي/ ونظامه المعرفي الذي أسس لهذه السلطة. بمعنى آخر، انه يجب علينا ان لا نكتفي بالوصف النظري، لمواجهة السلطة، خاصة اذا علمنا هنا ، اننا إزاء شكل جديد من اشكال السلطة، يتطلب منا وسائل ومناهج نظرية جديدة ومتداخلة ، سيما وهي تتداخل مع المعرفة بمختلف اشكالها. من هنا، جاء تأكيدنا على نقد جينالوجيا الادراك التمثيلي. الذي يشكل مقدمة ضرورية تساعدنا على إعادة اكتشاف العلاقة بين السلطة والمعرفة والخطاب، وبالتالي، على تشكيل الاستجابة في بلاغة الجمهور. فالنقطة المحورية: «انه على الرغم من ان فكرة التنظيم، بوصفها ممارسة مجردة من المعرفة، فهي في واقع الامر، متداخلة مع المعرفة بطريقة تقع خارج مجال التطبيقات الادراكية – من وجهة نظر تمثلية–. لكن عوضا من ان تكون المعرفة مشروطة بعدد من الادراكات المؤقتة استجابة لعدد هائل من المواقف الطارئة والمنظمة في آن، وكذلك بدلا من ان تعبر عن فهم الاختلافات التي تصبغ التحركات الخطابية المحلية وغير المحلية. ستشير الى مجموعة أنشطة المعرفة المنجزة والتي تساهم في عملية فهم الكيفية التي يتمكن فيها الفاعلون من ابتكار واستعادة قدراتهم لإنتاج الفعل مع ادراكهم لحقيقة آثار اللغة الانعكاسية والصراع حول المعنى».(26)

وهنا، نلاحظ كيف ان المعرفي، والخطابي، كلاهما يشكلان منطق الاستجابة الجديد. بكلمة اخرى، ان تحليل الخطاب النقدي يستوعب كافة تحولات الاستجابة وتمفصلها بين اللساني واللغوي والمنطقي.(27)

الخاتمة:
ان اهم النتائج التي سعى بحثنا الى إعادة التفكير فيها، هي كالتالي:
1) ان فكرة بلاغة الجمهور لم تتضح بعد معالمها النظرية والمنهجية، وهذا يعود الى وجود تمركز منهجي أرثوذكسي، حال دون تحقيق التفاعل ما بين المناهج والنظريات اللسانية واللغوية والمنطقية.
2) ان يسلط الضوء على حالة الارباك والشواش الابستمولوجي والميتودولوجي النظري التي غلبت على بلاغة الجمهور، الامر الذي تعذر معه تحديد فيما إذا كانت تمثل نظرية ام منهج ام مشروع ام فلسفة. وتلك نتيجة طبيعية لإهمال بلاغة الجمهور تحولات المنطق وفلسفة اللغة، التي عملت على إعادة اكتشاف المتكلم واللغة العادية بعد تشكيل قطيعة ابستمولوجية مع أسس المنطق الشكلاني او السيمانتيك الوضعي المجرد.

3) ان بلاغة الجمهور لم تحدث قطيعة ابستمولوجية مع تاريخ المناهج الوضعية في الفلسفة والعلوم الإنسانية، وقد انعكس ذلك سلبا على طبيعة طروحاتها التي لطالما افتقرت الى الحس التاريخي خاصة في تجاوزها لبيوغرافيا الحياة الامية للمخاطب.

4) لقد عكست بلاغة الجمهور، ازمة الكتابة الاكاديمية وعزلتها وتقوقعها، لا سيما في تعاطيها لقضايا اللغة واللسانيات بطريقة بدت أقرب الى الكتابة الميتافيزيقية.

5) لقد وجهت بلاغة الجمهور النظر الى نقد السلطة والايديولوجيا وتأسيس ما يعرف بـ"النقد الأكاديمي" وهو أقرب الى نظرية النقد البلاغي.

6) ينبغي على الباحثين والمختصين ان لا يتعاطوا مع بلاغة الجمهور بمعزل عن علاقتها بمختلف مشاريع الثقافة العربية، خاصة وانها سعت الى احداث خلخلة في بنية الثابت والقار في الحياة الثقافية من جهة؛ والمؤسسة الاكاديمية من جهة أخرى.

7) لقد قدمت بلاغة الجمهور قراءات مختلفة عن تاريخ البلاغة في الفلسفة اليونانية لا سيما مع افلاطون وارسطو والمدارس السفسطائية. واهم ما لاحظنا تكراره بصورة مستمرة، هو عدم ابتكار تأويلات جديدة في بلاغة السفسطائية من جهة؛ وبلاغة ارسطو وافلاطون من جهة أخرى. ربما يعود ذلك الى حالة العزلة المنهجية وأزمة النظرية في بلاغة المخاطب.

8) من إشكالات بلاغة الجمهور أيضا، هو سيطرة "المادية الاستاتيكية" خاصة في تأويل البيانات والمعطيات في بنية الواقع الثقافي والاجتماعي.

9) ومن اشكالاتها أيضا، اهمالها للأبعاد الثقافية والسوسيولسانية لأوضاع بلاغة المخاطب المختلفة.

10) ومن اشكالات بلاغة الجمهور، سيطرة اللغة الاورولية -نسبة الى جورج اورويل- التي لطالما وجهت لها انتقادات عديدة، منها انها تميل الى الفكر الأحادي على مستوى انتاج المفاهيم؛ واللغة الوظيفية المختصرة.

11) ومن اشكالاتها أيضا، عدم إعادة قراءة النظرية السياسية التقليدية الوضعية والمعيارية، على الرغم من انها تأسست على نقد أسس الفكر السلطوي بكافة تجلياته وتمظهراته المختلفة.

12) وانفصالها الدائم عن نظريات الثقافة والتحليل الثقافي، على الرغم ان مجمل طروحات بلاغة الجمهور تمثل أحد مناهج الدراسات الثقافية والنقد الثقافي.

13 ) لم تولِ أي أهمية لطرق تفكير المخاطب البلاغي ونقد تاريخية احكامه الاعتقادية والقيمية المتحولة الى "نصوص مستهلكة" في الثقافة اليومية؛ والى نصوص مشيِدة للأيديولوجيات الشمولية.

14) ومن اشكالاتها الأخرى، تجاوز العلاقة الابستمولوجية والميتودولوجية بين بلاغة المخاطب؛ وفلسفة الحجاج، وكذلك عدم تشكيل تفكير نقدي يهدف الى الوصول لأعلى مراحل "الاقناع النقدي" للنظام الثقافي التقليدي، المتحول الى برادايم قيمي مطلق.

15) من اشكالاتها أيضا، سيادة النزعة النظرية على الممارسة التنظيرية، وقد انعكس ذلك سلبا على كثير من المفاهيم الأساسية لبلاغة المخاطب، التي عانت من فقر في التنظير من جهة والممارسة الثقافية والتاريخية من جهة أخرى.

16) ان بلاغة الجمهور لم تميز بين : مفهوم الاستجابة المعياري/ الوضعي؛ ومفهوم الاستجابة الانفعالي، فالأول لا يرتبط بالخطاب الثقافي وتحولاته القيمية والاخلاقية بقدر ارتباطه بالخصائص الطبيعية للوقائع والاشياء، في حين ان الثاني، يشكل دينامكية "القول الأخلاقي واللغوي والبلاغي في التاريخ والثقافة"

17) يجب التأكيد على ضرورة تغيير مفهوم الاستجابة، الى "بلاغة الاستجابة الأخلاقية" التي تهدف الى إعادة نقد وتقويم مجمل المؤثرات على المتكلمين والمستمعين والمخاطبين، باعتبار ان هذه المؤثرات ليست مجردة، بل هي تمثل توجهات وسلوكيات ومعاني الجمهور.

18) على الرغم من نشر كثير من المؤلفات والكتب الجماعية حول (بلاغة الجمهور) الا انه اهم ما يلاحظ عليها، تكرار منطق العزلة الدائم بين كل من:
البلاغة؛ وفلسفة اللغة؛ وفلسفة المعنى؛
البلاغة؛ وفلسفة القيم والأخلاق؛
البلاغة؛ والدراسات الثقافية و الحجاجية الجديدة؛
البلاغة؛ ونقد نظرية النظرية؛ والنظرية النقدية؛
البلاغة؛ وتاريخ الانطولوجيا والابستمولوجيا والاكسيولوجيا (نظرية القيم).

 

*باحث من العراق- متخصص في فلسفة الدراسات الثقافية/ وما بعدها

 

الهوامش:
(1) بلاغة الجمهور وتحليل الخطاب السياسي... بحث في البلاغة المهمشة، حوار مع د. عماد عبد اللطيف، مجلة

البلاغة وتحليل الخطاب، العدد 7/8 خريف وشتاء 2015، ص ص 196-197

(2) د. زكي نجيب محمود، من زاوية فلسفية، دار الشروق، مصر، ط4، 1993، ص ص ص 29،30،31

(3) د. عاطف احمد، نقد العقل الوضعي، دار الطليعة – بيروت، د.ت.، ص23

(4) المصدر نفسه، ص ص 6-7

(5) أسامة علي حسن الموسى: المفارقات المنهجية في فكر زكي نجيب محمود، مطبوعات جامعة الكويت، 1997، ص ص 21-22

(6) Randal Collins, The sociology of philosophies, global Theory of Intellectual Change, Harvard University Press, p. 859

(7) للمزيد حول نقد اللسانيات العقلانية، يُنظر:

Boris Gasparov: Speech, Memory And meaning, Intertextuality in Everyday Language, Walter de Gruyter GmbH & Co. KG, Berlin/New York, 2010

(8) Michael Devitt and Richard Hanley, The Blackwell Guide to the philosophy of language, pp. 3-4

(9)Ibid, pp. 19-20

(10) Ropyan Carston: Thoughts and Utterances, The pragmatics of Explicit Communication, Blackweel, 2002, pp. 3-4

(11) (Bob Hale and Crispin Wright: companion to The philosophy of language, Blackwell 1997, p. 60

(12) Ibid, pp. 60-61

(13) John Lyons: Language, Meaning & Context, Fontana Paperbacks, 1981, p. 26

(14) Ibid, p.26

(15) (Robert Stecker: Interpretation and Construction, Art, Speech, and Law, p. 14

(16) John Lyons, pp.30-31

(17) للمزيد يُنظر:

Dan Sperber and Deirdre Wilson: Relevance Communication and Cognition، Blacwell,1989

(18)Robert L. Heath and O’Hair: Hand Book of Risk and Crisis, Communication, Rutledge, 2009, pp. 7-8

(19) Ibid, p.16

(20) Ibid, p.17

(21) Ibid, p.21

(22) د. عماد عبد اللطيف: تحليل الخطاب بين بلاغة الجمهور وسيميائية الايقونات الاجتماعية، مجلة فصول، العددان 83-84، خريف – شتاء 12/2013، ص ص 512-513

(23) د. عماد عبد اللطيف، من الوعي الى الفعل مقاربات معاصرة في مقاومة الخطاب السلطوي، مجلة ثقافات، 2009، ص ص 76-77

(24) Heather E. Canary and Robert D. McPhee: Communication and Organizational Knowledge, Contemporary Issues for Theory and Practice, Routledge, 2o11, p. 17

(25) Ibid., pp. 18-19

(26) Ibid., p.19

(27) يُنظر: Jan Zienkowski, Jan-Ola Östman, Jef Verschueren: Discursive Pragmatics, John Benjamins B.V. Amsterdam, 2011.