يكتب الناقد المصري أن هذا الديوان يتميز بما يمكن أن يسمي "خفة ظل" الشاعر و تبحره في اللغة لدرجة مكنته من صوغ قصائد من الشعر القصير الخاطف الخلاب ، يذكرنا بالقصائد الآوابد في الشعر العربي ، تلك التي تنقل الحياة أو الحكمة في اختزال جميل و مباشر .

تفجر ينابيع الكلمات

في ديوان جمال الشاعر «المماليك يأكلون البيتزا»

محـسـن صـالح

يخطفك هذا الديوان الصغير لعالم من الكلمات المتفجرة – إن جاز هذا التعبير- فتجد المعاني تخرج من الكلمات و العبارات في تفجر كينابيع الماء التي تفجرت تحت عصا سيدنا موسي عليه السلام لننهل من هذ النبع الثر الكثير و الكثير . يمتاز هذا الديوان كذلك بما يمكن أن يسمي "خفة ظل" الشاعر و تبحره في اللغة لدرجة مكنته من صوغ قصائد من الشعر القصير الخاطف الخلاب يذكرنا بالقصائد الآوابد في الشعر العربي ، تلك التي تنقل الحياة أو الحكمة في اختزال جميل و مباشر .

إذا نظرنا إلي عتبات الديوان ممثلة في الاسم " المماليك يأكلون البيتزا " سيواجهك عنوان يجمع شتات الأمور . إنه العنوان الجاذب الذي يدفعك لأن تقرر أن هناك مواجهة ما بين الماضي و الحاضر : الماضي ممثلا في المماليك و نحن نعلم من هم و الحاضر ممثلا في أحدث أكلاته " البيتزا "

نجد في مفتتح الديوان قصيدة قصيرة تعكس لنا حالتنا المعاشة تحت مسمي " تقرير حالة"

رجل أحمق ...

وسيامي ولطيف

أطلق سبع رصاصات في قلب امرأته

و التقرير الطبي يقول

انتابته اللوثة

بعد تعاطي كم من نشرات الأخبار

إذ قال لزوجته و هو يحاورها

صدق الساسة و الأحبار

ستعود إلينا القدس

دون حروب

دون دمار

في لحظة صدق قالت

أنت حمار

 

هنا المفاجئة في التشكيل الفني و تنقل الشاعر من عبارات عادية إلي تدرج درامي حاد في نهاية القصيدة مع مفردات القصيدة العادية والتي تعكس تأثير وسائل الاعلام علي عقل الرجل العادي ، أي رجل ، وماتبثه من ترتيب أولويات الحياة بل كيفية النجاة من أزمات العصر و أزمة العالم الاسلامي الممثلة في بقاء القدس تحت الإحتلال. لعلنا لاحظنا فعل التعاطي و الذي يعكس لنا مايسمي في علوم الميديا أو وسائل الإتصال الجماهيري بخلق قائمة الأولويات أو ال Agenda Setting لدي المتعرض لوسائل الاعلام الجماهيري . تأمل معي لحظة غلق القصيدة و ختمها بعبارة " أنت حمار " في عبارة تصرخ في وجه الجميع ممن يتعاطون الأخبار و كلام الساسة و دعوات البقاء و السكون و الركون إلي الدعة : إنها صرخة لليقظة ، فهل من مجيب ؟

يناسب اكتمال الصورة ، هذه القصيدة تحت عنوان " تكلم حتي أراك " و التي نري فيها الرجال الجوف الذين تراهم و تحس بوجودهم و عظمتهم و لكن حينما يتكلمون يسقطون من حسابات الزمن والتاريخ ، دعنا نراهم في كلمات شاعرنا المبدع / جمال الشاعر حين نراه يقول

رجل في أوج شياكته

منتفخ الأوداج .. ومسكون بالرهبة

وجلال الشعرات البيضاء

يزين فوديه

وسيم كرجال الاعلانات

وملتحف بالهيبة

و الصمت غلالة سحر أسود في عينيه

دخل القاعة .. فانفرط العقد

وفرت من صحن الدهشة .. آه

لاحظ بعد هذا المشهد الافتتاحي ، ماذا سيحدث من أثر حينما يتكلم هذ الرجل المهاب شأنه شأن رجال كثيرين نراهم حوالينا و نعظمهم و لكنهم دون مانضعهم فيه من مكانة ، لاحظ الكلمات الختامية لهذه القصيدة التي تصف لنا نمطا نراه في كل ماحولنا

لكن الرجل الميهوب تكلم بجأة

فتلعثم ..وأنفثأ ..وهلضم

دخل المارد في قمقمه و تهدم

سقط الرجل الأكذوبة

آه.. و كم مثله يستحقون السقوط .

في قصيدة " تشويش " ، نري لهذا الشاعر عزفا علي لحن جديد فيه من الهمس و الوشوشة مضاهاة وحكايا و لابد من إيراد القصيدة كاملة هنا لما فيها من جدة و نبرة آخاذة

وش ش ش

صحوت علي صوته المرتعش

نهضت..

تجولت في الحجرة المظلمة

بحثت وراء الستائر

خلف المقاعد

في كومة الكتب الساهمة

وش ش ش

رأيت بخار السؤال

تفجر في الجمجمة

لماذا أراني إذا ماتهيأت للنوم

أمشي علي راحتي

وأخشي اصطداما بشي

وأهمس هس

مخافة أن تصحو الفكرة النائمة ؟؟!

نحتار عن أي شيء يتحدث شاعرنا و لكننا نألف مايقول ، حيث يعكس لنا حالة من حالات التفاعل النفسي مع الحياة ، نسمع معه الصوت في جلال كلمة " وش ش ش " ثم يصدمنا تفجرالجمجمة ، فنعلم أن الخطب كبير ولكنه هناك في أعماق الشاعر أو من تعبر عنه القصيدة اللغز ، تنتهي القصيدة و نجد أنفسنا لانريد أن نصحو من تأثيرها المخدر الجميل لنمشي علي أطراف أصابعنا مع كلمة " هس"

في قصيدة " لكم قنابلكم .. لنا أحجارنا " نعيش اللحن الأخر النقيض و الذي يتفاعل في بولوفونية لخلق عالم الديوان الفني ، هنا نلمس النضال مع طفل الحجارة الذي يدافع عن الوطن السليب.

علي أفق عينيه حط الظلام

وطارت نجومه

فتي خارج من سذاجة عمري

يراوغ أمه

يراوغ سيدة الحزن

والانتحار الحنون

ولاأجد خير ختام في هذه القصيدة التي ترسم لنا محاولة إفلات الصبي من يدي أمه ليجد نفسه في حوار مع الفاتنات اللاتي تقمصن شكل الصخور ، ثم ينادي علي الحجر المتطاير و نجد حديث الحجارة عن الصمود و عن غلق المدارس وكيف أنها وردة في يد الصبي و هي تزوم بكف اللهب –لا أجد خير ختام من هذه الأبيات الحوارية الجميلة :

يقول المعلم في أول الدرس تلك الصبيحة

سنمطركم بالقنابل

ونحصدكم بالفناء

....

يقول ابن صهيون هو يلوذ من الضرب

تحت سقيفة بيت مخرب

يرد الغلام هي الحرب

لن ينفذ الصخر ..لا

ولن ينفذ الصبر

عند العرب

إنها معزوفة جميلة من الأبيات التي تلهج بالنضال ضد المستعمر الغاصب ، نبراتها عالية الصخب تعكس حالة الزخم الإنفعالي و الجهاد الكامن في النفس .

نختم تلك المقالة الخاطفة عن هذا الديوان الذي يعبر عن أحزان و لواعج الشاعر الذي يسكب من نفسه الكثير بالحديث عن القصيدة الديوان إن جاز لنا التعبير " المماليك يأكلون البيتزا " ، عنوان جاذب ، ولكن لاتتسرع ستعرف حالا المغزي

جربنا كل الأشياء

....

بايعنا ماركس قديسا

ورسولا للفقراء

....

وشربنا الفودكا في صحة

سيدنا جعفر

....

وزعمنا أن أبا ذر الغفاري

شيوعي عتويل

في نادي أصحاب الياقات الزرقاء

جربنا حكم معاوية

وقطعنا الشعرة مابين الدنيا و الدين

بالشوكة و السكين المميكافللي

فانجثت أمم ودويلات حمقاء

حي نراه يقول في حزن باد مملوء بمرارة الانهزام أمام واقع غريب مقهور

من كان يصدق أن فراعين الماضي

سيصيرون مساخيط الغرب

ويبيعون صحائف أوروبا

في طرقات الراين .. ليلا وشتاء

و يختم شاعرنا الإعلان الوصفي الأمجد و قرار محكمته علي العرب جميعا حيث يقول

من نحن الأن ؟!

نحن تنابلة السلطان

وملوك الأوهام

نحن الأعراب الأغراب الأمريكيون

المصريون الشرق أوسطيون

الأفريقيون الأوربيون

المصريون شراكة .. المصرينكو

المصريون المنتصرون علي الأعداء

في حجرات الموت الأصغر

من أيام كليوباترة

حتي عصر ديانا

نحن المنتصرون

ونحن الشهداء

تتنهي قراءتنا لهذا الديوان الرائع في رسم حال الأمة و حال الواقع المرير من شاعرنا المبدع جمال الشاعر و لاينتهي إعجابنا بالتجربة الجميلة التي عايشناها و التي يقف العمل الشعري بكثافة ألفاظه وصوره و جمال تفاعلات صوره و خلود عباراته دليلا علي إرتقاء شاعرنا قمم جبال الأولمب في وصوله لقلب القاريء و تفاعله معه في إجادة واقتدار .

سبتمبر 2017