يبني الروائي المصري في روايته القصيرة مدينة خيالية يتجمع فيها كتاب ومثقفون ويمنع فيها التفاهم بالكلام، إذ يستبدل بصناديق بريد توضع أمام غرف السكن، ومن خلال شخصية الراوي نتعرف على تفاصيل تتعلق بالحب والحياة وتجليات العلاقة بين الرجل والمرأة والسلطة في مبنى يستعير من الواقع أخيلته.

مدينة أخرى (رواية)

مبارك رجـب

إلى (ش)

 

ممشى

ما الذي أتى بي إلى هنا؟

قدمي؟ أم قدري؟ أم كلاهما معا؟

وأي لغة تلك التي تسعفني لكي أحكي كل التفاصيل دون أن أنسى منها شيئاً، حتى ولو كان مثقال حبة من فكرة!

إني موجود بالفعل على الأرض، واقعا محسوساً وملموساً، كيان حي يتنفس ويحكي ويصرخ، مولود وموجود ومحسوس، إني أنا، ها هنا الآن، أستعد لسرد التفاصيل، فكلهم لهم نفس المعزة ونفس الحب ونفس الشوق، ولكنهم لم يفهموني، الخطأ أنا، نعم أنا الخطأ والخطأ فيّ، ولا جدوى من إلقاء اللوم على غيري، ولكن لي حق النشوة والفخر، إذ أنا المنتصر لا ريب، فكلهم أحبائي وأفكاري، حبات رمل في ذاكرتي، ما زلت أذكرهم، وأقسم بالله أنني ما زلت أحبهم، نعم أحبهم، والذي يحب لا يكره، ولكنه يغضب، وأنا غضبي شفهي لم أتعود على كتابته، أنا لا أكره ولا أغضب، أنا أحب، وأيضا لا أحب، ولكن هذه الـ "لا أحب" لا تعني أبداً أنني أكره، وما هو الكره؟ هل هو ذلك الشعور الكلاسيكي الذي نعرفه أم أن له تأويل آخر لم ندركه بعد؟ لا جدوى من السرد، فمهما درت حول بحيرتي لن أتعلم العوم، والسرد نفسه لا ينفع، ولا يفيد، ولا طائل من ورائه غير التشتيت إذ أنه يحتاج إلى شرح وفهم وتحليل وإيضاح، عجبا لهذه الحياة، كل شيء فيها يحتاج إلى إيضاح حتى الإفصاح الواضح!

وفي لحظة ما، لحظة حقيقية ذات روح وتيه وجسد، كأنها بقايا من فضلات التاريخ، إن الزمن لا يتوقف عند لحظة، الزمن لا يتوقف، ولا يسير للوراء، ولكنه يتقدم، ومع تلك الخطوات الأسطورية المتجهة – دوماً - للأمام، انتبهنا جميعا – وأنا معهم - إلى أننا موجودين في ذهن أحدهم، غير واعين بما يدور في أذهاننا نحن، وكأن كل ذاكراتنا اختلطت وطبخت في ذهن واحد، اعتقدت أنه ذهني أنا، فأنا أكثرهم دراية بتفاصيل السرد، وأكثرهم وعيا بمدى الإدراك حينما يجيء، ولكنني كعادتي- ولا أظن أنها عادة أكثر منها حرفة – ولكني أسميها عادة، فحرفتي كانت الإتقان، والإتقان ذاته قد يسميه البعض احترافاً، واحتراماً مني لذلك الاحتراف اتقدت ذاكرتي أكثر، وأكثر، وأكثر، حتى صرت أمزج بين الهواية والاحتراف، بين الغواية والحرفة، إن التضاد في اللفظ لا يعني – من وجهة نظري – نقيضا حقيقيا لذلك المفهوم، كما أن مرادف الكلمة لا يعبر عن الكلمة، فمن أدرانا أن كلمة مثل "الحب" تعرف أنها تعني الحب فعلاً، وكذلك الكره، والحقد والهدوء والحزن، وإذا قلنا أن هذه المعاني كلها تحتاج إلى لفظ أكثر شمولية، فهذا يحتم علينا ابتكار لفظ جديد، قد نسميه "صفات" أو "مشاعر"، وماذا بعد؟ ألفاظ أخرى ومعاني جديدة، وصفة مبتكرة تجمع كل الصفات وكل المشاعر في لفظة هي بالطبع شاملة، وهي بالطبع أيضا تفتقر إلى النضج، إذ أنها في حاجة إلى تجدد واستمرارية حتى لا تفقد ذلك الانبهار بها من قبلنا نحن المستخدمين لها، فعندما أقول أنني "لا أحب"، فهل ذلك الذي لا أحبه "كريه"؟

قلت أنني اعتقدت، وهذا الاعتقاد بديهي لكل مغرور، فهذه الـ "هنا" مدينة، ثمة مدينة، قطعة أرض مقام عليها مدينة، لا تشبه هذه المدينة الجنة بالطبع، فالجنة أروع بكل تأكيد، وحتى لا أترك مكانا للتأويل، هذه المدينة – أقسم- أنها ليست في ذهني، ولكنها ثمة مدينة، ربما كان من الأفضل أن أطلق عليها لفظ "مبنى" أو "مجمع" أو حتى "فندق" ولكنها غير ذلك، إنها مدينة، مدينة ما، ثمة مدينة، لها حدود قطعاً، ولها أسوار وأبواب، تتكون من قطاعين كبيرين مستطيلين، وكل قطاع يحتوي على عدد لا نهائي من الغرف، مبنية على طراز واحد وبشكل معماري دقيق، وكل الغرف ملتصقة ببعضها، فالحائط الأيمن للغرفة الأولى هو نفسه الحائط الأيسر للغرفة الثانية، والحائط الأيمن للغرفة الثانية هو نفسه الحائط الأيسر للغرفة الثالثة وهكذا، وكل غرفة لها باب، ونافذة صغيرة تحاذيه، ويفصل بين القطاعين ممر طويل ضيق، وأمام كل باب من الأبواب يوجد صندوق بريد ليستقبل الرسائل، كما يوجد داخل كل غرفة حماماً ليستقبل الفضلات.

كل منا وضع صندوقه أمام غرفته، وأضحى الكل في المدينة يعبر عن خواطره كتابة وشعراً، حتى العيون أصابها الإعياء، وصارت لا تصدق ما تراه إلا بالقسم، فهذا شيخ هرم ذو لحية بيضاء، ولكن العيون لا تعترف بذلك إلا إذا - أقسم هو وأمام الجميع - على أنه شيخ هرم ذو لحية بيضاء، وهذا القسم ليس قسما "لسانياً" إذا صح التعبير، ولكنه قسم "شعري" إذ أن الكلام ليس من تقاليد المدينة، فمن أراد أن يعبر فليعبر كتابة لا كلاماً، ومن أراد أن يجيب فليجيب- أيضاً- كتابة لا كلاما، فمن حق صناديق البريد إذن أن تزهو بنفسها.

وليس ثمة صلة تربط الجميع غير أنهم يقطنون في مكان واحد، فهم لا يعتبرون أنفسهم جيراناً لبعضهم، حتى التحية لا يتبادلونها إلا إذا كانت هناك معرفة سابقة بين من يلقي التحية وبين من يستقبلها – وتكون أيضاً كتابة لا كلاماً "لسانيا"- غير أن هذا لا يمنع من التواصل أبداً، فمن يريد معرفة الآخر عليه فقط أن يلقي رسالة في صندوق بريده، ومن حق الآخر أن يقبل أو يرفض، ولكن العُرف جرى أن من يستقبل رسالة ما، عليه أن يرسل الرد عليها بكل احترام، ودونما تجريح لمشاعر الآخرين، ذاك هو القانون.

وفي ركن ما في المدينة توجد ساحة كبرى يسمونها "ساحة الاجتماعات" بهو واسع يجتمع فيه الجميع، وجهاً لوجه، ومن حق الجميع أن يعبر، ويستعرض ويفكر، وينتج، ويغضب، ويفرح، ويبتسم، ويحزن، من حقه أن يفعل أي شيء إلا أن يتحدث بلسانه، فالكلام ليس مادة دستورية في قانون المدينة، ويبدو الممر بين الغرف هادئاً، نظيفاً، أبواب الغرف دائما مغلقة، صامتة، لا صوت ولا ضجة، فقط صوت موسيقى مضطربة، هي مزيج من آلات مختلفة، ولكنها ليست صاخبة، تصمت أحياناً، ثم تعود تدريجياً، صوت خافت لا يكاد يسمع رغم الهدوء الممل، وفي نهاية الممر توجد ردهة ضيقة تؤدي إلى ساحة الاجتماعات.

كنت خارجا لتوي من رحم جملة، ووجدت نفسي أسير في الممر لأول مرة، خرج أحدهم وألقى برسالة في صندوق بريد يبعد عن غرفته بمقدار ثلاث غرف، ثم عاد إلى غرفته، وتبعه آخر يخرج من غرفة أخرى حاملا تحت أبطه كمية من الأوراق، واتجه إلى ساحة الاجتماعات، ما الذي قادني إلى هنا ؟ قدمي أم قدري أم كلاهما معاً ؟ إني الآن أفتش وأبحث، وماذا كنت أفعل من قبل غير أني كنت أفتش وأبحث، إن الدهشة لا وجود لها هنا ، تماماً كالكلام، ولكن هل يهم ما الذي وضع القوانين؟ ومن بنى المدينة؟ هل يهم ذلك؟ لا رغبة لي في معرفة أي شيء، لنقل أنها فرصة أتيحت لي، فرصة بناء بيت جديد، جدار صلب يقاوم الريح والإعصار، إن دوري هو القلق، الحرب المستمرة بين السر وضده، هل أقصد العلن؟ لا، إن النقيض لا يعني النقيض، فالشمس باردة، حقيقة باردة.

وهل أرى الشمس هنا؟ هنا سكون، جدران صم، وآذان صم، وألسنة خرساء، لا أظن أبداً أن هذا وطن من الأوطان، لا ينتمي الجميع إلى هنا، ولكن المدينة مملوءة، لن اعتبر نفسي كلمة في قصيدة، تلك الذاكرة الصغيرة، لها جبهة كالصفحة البيضاء، تحاكيني وأحاكيها، ولكني – أكرر- لا يهمني أن أعرف المُشرع هنا، فأنا في وقفتي هذه في هذا الممر الضيق، أبدو مرهقاً، غير أن هيئتي تدل على شموخ، أبدو أنيقاً حتى مع إهمالي لشعري ولحيتي، قمحاوي اللون أميل إلى السمرة قليلاً، ممتلئ الجسم دونما ترهل، مشعلاً سيجارتي في حماس رغم التعب الظاهر في العينين، ليس ذهني إذن هو المقصود، ولكنه ذهن أحدهم، شخص آخر غيري له دراية أكبر ومعرفة أرحب، هذا المكان ليس تأويلاً، أصر على ذلك، ليس تأويلاً لوطن ما، وقطعاً ليس تأويلاً للحياة نفسها، تلك مدينة، وحتى أكون أكثر صدقاً – تعودت على الصدق في الفترة الأخيرة من حياتي – حتى أكون هكذا، لابد أن أعترف أنني في البداية كنت مبهوراً بذلك التناسق الجميل في كل شيء، حتى في النقوش والألوان، وصار انبهاري مع الوقت لذة واكتمالاً، وجود له معنى ومضمون، وحياة أخرى مختلفة، وأصدقاء جدد، ورحابة تسع كل الأفكار، كنت من قبل أتحاشى الإفراط في الذهنية كما يتحاشى الأصلع رؤية الحلاق، ولكني – وبعد أربع سنوات كاملة – أدركت مدى المتعة التي كنت أفقدها قبل وصولي إلى هنا، كل الشوارع كانت ملساء رغم الحركة والعرق، أما هنا لا توجد شوارع، فقط توجد دمى، شممت رائحة العطر في الممشى، وعشقت صناديق البريد المطلية باللون الرمادي، وسرت خطوتين، ما زلت أذكرهم، أحبائي وأفكاري، دماي وعرائسي، وسرت خطوتين، إن الزمن لا يتوقف، ولكنه يتمدد، حان وقت اللعب.

ومضيت إلى غرفتي.

* * *

 

وداوني بالتي....

إن النسيم رقيق، ولكنها أرق، قطعة من اللحم والدم والحزن، اعتقدت – مرة أخرى- أن ثمة ملاك يسكن داخلها، ولكني استبعدت الفكرة، كانت رقيقة فعلاً، أرق من الرقة ذاتها إن لم أبالغ.

ذات مساء، كنت في غرفتي أفكر فيما حدث لي مؤخراً، وكيف انتهت علاقتي بدعاء، في الحقيقة، القصة لم تكن قد انتهت وقتها، ولكني فضلت أن أنهيها، كانت أشبه بمهزلة، مزبلة ذهنية، تخلصت منها في شكل قصة قصيرة، ومسحت ذاكرتي بخرقة قديمة، تلك قصة جامدة، لا روح فيها، كانت بداية لطوفان من الصمت لم أنهيه إلا أن تيقنت أنني كنت أحلم، إن الخرافة حقيقة، والحقيقة أجندة مدون بها تفاصيل لا تهم، مضت دعاء في ردهة أخرى غير ردهتي، لا أذكر منها إلا حبها الشديد للقهوة، وإدمانها للتدخين .

يقولون، إن نهايات الأحداث القديمة بدايات لأحداث جديدة، إن إنهاء حب قديم بذرة تلقى لإنبات حب جديد، لماذا اللف والدوران ؟ "وداوني بالتي كانت هي الداء"، هذا كل ما في الأمر باختصار، والتي كانت هي الداء، كنت لا أزال أحبها، كنت مريضاً بها لفترة من الوقت، "مراهقة متأخرة" أذكر أن أحدهم قالها لي، وضحكت كثيراً بعدها، إذ أن هذا الذي نصحني كان لا يزال يحبها، لا، ليست دعاء، ولكنه كان يحب انعكاس وجه المرأة في المرآة، وإني لا أعجب من تلك الغيرة الأنثوية بين المرأة والمرآة، فكلاهما أنثى، تحمل فوق رأسها شعراً مستعاراً، قد يختلف فقط في لون الصبغة، أو نوع الهمزة.

وخطرت لي فكرة، سأجرب صندوق البريد، الدمية تنتظر، إني ألعب الآن، ألهو، إذا كان اللهو سيخفف حدة ألمي، سألهو، جئت إلى هذه المدينة مجروراً كثور صغير، إنهم يلعبون، فأين يحين دوري للعب؟ إنه اللعب، لماذا التسويف والتأخير؟ إن اللغة طوع أمري، وإني بشهادة الجميع هنا ساحر الكلمة والحرف، سأكتب الرسالة، اختلط الغرور بالألم، وذلك الكبرياء المذبوح من يطيّب جرحه غير اللهو، سأدعو عليك يا دعاء، سأقتلك داخلي، أنت لا تستحقين ذلك الإنسان الرائع، أنا، نعم، أنا، أنت لا تستحقين حبي أيتها الغبية، ولكني لم أحذر، إن المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين، ما الأمر إذن ؟ ألم أكن مؤمناً وقتها؟

وضعت الرسالة في غلاف أنيق، إن هذه المدينة محظوظة لأن فيها رجل مثلي، وخرجت من غرفتي باحثاً عن فريسة، إن الذئب جريح، هل كنت أبحث عن فريسة فعلاً ؟ هل كنت جائعاً؟ أقسم أنني كنت طيب القلب ، يا رب ، يا الله ، يا إله الكون ، إني مجروح الكبرياء، دعاء الغبية لم تحبني مثلما أحببتها، يا رب إني – وأنت تعلم – أني لم أعرف وقتها لماذا أرسلت الرسالة، هل ألهو فعلاً؟ أم كنت أتخبط؟ هل كنت أبحث عن حب جديد، هل كنت كمن يشتري لنفسه الوجع؟ إنه خليط من هذا وذاك، إرضاء للكرامة المشروخة، ولهو أيضاً، ولكن الأمر لا علاقة له أبداً بالصيد، لست ذئباً والله ، كنت على يقين أن ما حدث قبلاً كان تجربة مُرة، وليست كل التجارب بالطبع مرة، ومن يدري ربما القادم أحلى.

وكرهت دعاء.

هل ذكرت الكره من قبل؟ كم مرة ؟ "لا أحب" ليس معناها أنني "أكره"، ولكني هذا المرة أكره بالفعل، عجباً إن للكره للذة أيضاً كالحب، سبحان الله، "لا أحب" معناها أنني "لا أرى" ، ولكن "أكره" واضحة تماماً، وذلك الوضوح يتجلى في أنني أرى بالفعل – وبوضوح – ذلك الذي أكرهه، ولكن الذي أكرهه ليس كريهاً، ولكنها عيناي، ليس كريهاً لغيري، إنه دنيا غيري، حياة ذلك الأخر الذي يحب، أما أنا فأكرهها بكل تأكيد، وهل يكفي السباب كل برهة ليداوي طعنة من أنثى غبية، هل هي فعلاً غبية؟ لماذا صفة الغباء - تحديداً – عالقة بذهني، لم تحبني هذا كل ما في الأمر، ولكني مزهو بنفسي أكثر من اللازم، آسف دعاء، لك حق الاختيار، لك حرية الرفض والقبول، ولكني أكرهكِ، من حقي أن أفعل ذلك.

كنت ما زلت نقياً، كتبت الرسالة بنقاء، ووضعتها في غلاف نظيف كقلبي، قلبي؟ لم أذكره قبلاً، كيف نسيت؟ إنه كتلة ملتهبة، جمرة مشوية، إنه ملغي، على الأقل حتى يجد وجبة دسمة تطغى على طعم المرارة التي خلفتها دعاء، إنه مسكين هذا القلب، مشحون بالدم، صورة دعاء بوجهها الأبيض لوثته فصار كجرو يتعلم النباح، قلبي جرو يتعلم النباح؟ جملة كتلك لا تصلح لأضعها في رسالة لامرأة أطلب منها الحب، لا تتسرع، الرسالة لا تحتوي على هذا اللفظ، إنها رسالة تعارف فقط، لقد فهمت الحب خطأ، ألم أقل من قبل ، أني أنا الخطأ، كنت أتأمل جدران الحب، النقوش، الألوان، سريالية الطيبة والطينة، ولم أكن أفكر في شيء وقتها، ولكني كنت أريد، ولم يكن بمقدوري أن أقدم شيئاً لا لي ولا للعالم في تلك الأمسية، أذكر أنني لعنت الكتابة عشرات المرات، لا، لم يكن الأب الطيب يصف القراءة بالخطيئة، لا، أبداً، أقسم، وأقر، ولكن الجرو يسميها "سراً"، لعب بالألفاظ بين جيلين من سلالة واحدة.

إن الدور حلقة وصل بين الأمور، توافه الأمور، إقرار بالوجود دونما ختم على ورق، ما جئت لألعب الدور، ما عدت لممارسته، حتى لو كان موجوداً من قبل، ما عدت لممارسته، أنا واثق، الناس الطيبون في مدينتهم الجميل، لم يعرفوني بعد، ولكنهم أروع، ما ذنبهم؟ هل أحمل الآخرين خطأ رؤيتي ومشهديتي؟ أيها الطيبون، أنا آسف، فليكن للشمس صقيع إذن، أنا المخطأ في تأويلي لا ريب.

وألقيت بالرسالة في صندوق البريد، ولم أترقب، عدت إلى غرفتي في سكون، لعنت الكتابة مرة أخرى، وجلست واضعاً يدي على المائدة، لم أكن أعرف "الرقيقة" بعد، وتخيلت صورتها فقط، وأقنعت نفسي أنا القادم أروع، أروع من المقاهي على الأرصفة، وأروع من الأطباء النفسيون، أروع حتى من الشعراء، أروع من مكاتب الدعاية والإعلان والصيدليات والمؤسسات التموينية، إن القادم شعر، كتابة سخية، أروع من وجوه العابرين في المدن التقليدية، أروع من السنترالات ومستشفيات القلب والأسواق التجارية.

وتذكرت، نعم تذكرت.

قالت دعاء:

- لا أفهمك الآن، ما عدت أفهمك.

لم اغضب، ولكني اخترعت الغضب:

- هل صرت غامضاً إلى هذا الحد؟

كنت أرى الحب في عينيها، أنا متيقن، ليس خداعاً بصرياً، أو أشعة علمية، فلماذا؟

لماذا صرت أكرهها كل هذا الكره:

- أحياناً أراك تريد أن تقترب، وأحياناً ...

لا داعي لبقية الجملة، دعيني أنظر داخلي قليلاً:

- لقد أرهقتك.

شفقة؟ أم لحن أنثوي يا عزيزتي:

- لا ذنب لكِ.

وانتهى الكلام، وبدا الشاطئ المشتهى يبتعد.

ودق جرس الرسائل أعلى الباب إيذاناً بقدوم بركة ماء لكي يسبح فيها الجرو، ليتطهر، ها قد وصلت الرسالة أخيراً.

هل أنتظرها؟

نعم ، أقصد الرسالة، هل كنت أنتظرها؟ في هذا الوقت الضئيل الذي كنت أتذكر فيه، هل كنت أنتظر الرسالة؟ ماذا بكِ يا رسالة؟

لن أقرأها الآن.

الآن أواصل التذكر.

- أنت متبلد المشاعر، أكرهك.

- ولكني أحببتكِ بصدق.

- لا تلعب دور الضحية.

أجيد لعب هذا الدور جيداً، ولكن هذه المرة لا أظن أبداً أنني كنت أمثل، كان قلبي يشتعل، يحترق، يتوهج، جمرة مشوية، ألم أقل ذلك؟ لم أطلب منكِ الحب، وبمنتهى الرومانسية سأقول "يكفي من حبكِ أن أعيش على الأمل".

وماذا بعد؟

هل هو عشق الروح؟ هل حقاً عشق الجسد فانٍ؟ هراء، اشتهى جسدكِ، كل جسدكِ، ماذا لو وطأتكِ الآن، وانتهى كل شيء!

كنت أحبكِ، فلماذا حولتِ الحب إلى اشتهاء، وأي أمل أيتها الغبية، هل يكفي الأمل لإشباع حيواني، لماذا كلما كرهتكِ أكثر ؟ اشتهيتكِ أكثر؟

ماذا بكِ يا رسالة؟

هل هو اشتهاء جديد، أم "مراهقة متأخرة" مرة أخرى، إن العالم يشبه ذاك الممشى أمام الغرف، وصناديق البريد؟ ماذا تشبه صناديق البريد؟ كم رسالة بداخلها؟

والسؤال عالق، هل جربت يوماً أن تشعل شمعة من طرفيها؟

لا، فهل جربت أنت أن تشوي سمكة حية؟ هل جربت؟

هل جربت أن ترى العالم من خلال ثقب إبرة؟ أنا جربت أن أرى العالم من خلال ذلك الثقب المزعوم، ثقب الإبرة التي حيك بها فستان دعاء الأبيض، جربت ذلك أنت؟ ماذا بكِ يا رسالة؟ بالله خبريني.

 

الشاعر

أناني ومغرور!

لا أفكر إلا في نفسي، نسيت تماماً أمر إبراهيم، لم تكن الرسالة إذن من "الرقيقة"، كانت رداً على رسالتي التي أرسلتها أمس لإبراهيم، قال أنه سعيد بي وبمعرفتي، وأنني حقاً استطعت أن أخفف عنه محنته وآلامه، مسكين إبراهيم ، ارتكز على حائط مائل، كلانا مشروخ، ولكن يا صديقي العزيز، القمر لا يكون بدراً كل ليلة، هل قلت لك أنني مشغول بأمر آخر هل تسامحني؟ هل تغضب؟

سأكتب رداً على رسالتك، لكن أرجوك ليس الآن، ولم لا أكتب الرد الآن؟

أناني ومغرور!

ماذا تقول رسالتك؟ لقد نسيت! أعذرني لقد قرأتها على عجل، بالأحرى على مضض، كنت أظنها من "الرقيقة".

كان الخط جميلاً في أوله ثم بدأ يأخذ في الركاكة، ذكر لي إبراهيم يوماً أنه درس الخطوط العربية في الأكاديمية وأنه لما يكون في حالة مزاجية جيدة، فأنه يبدع و"يفنن"، يظهر هذا جلياً في بداية الرسالة، فكانت بدايتها هادئة ومتزنة، على النقيض تماماً من الرسالة الماضية، " شكراً لك يا صديقي على شعورك واهتمامك بي ... وشكراً لك على ثقتك وإرسال رقم هاتفك" .

ولكن يبدو أن البركة المزاجية قد تعكرت، فقد بدأ الخط ينحدر كطريق يؤدي إلى وادي، وفقد اتزانه، أو بدأ يفقده، ذكر أنه كان يحمل هاتفاً ولكن " .... في تلك الليلة التي طردني فيها والد حبيبتي من بيته .... وتحديداً ...عند قال أبي (مالك) ... بعد حرف الألف في كلمة (مالك) ... رن الهاتف ... نظرت إليه ورأيت عبارة (هدى يتصل بك) ... هل تصدقني يا صديقي إذا قلت لك أنني منذ تلك اللحظة ... لم أعرف أين ذهب الهاتف ... بحثت عنه كثيراً ولم أجده .... لم أعرف ماذا فعلت لحظتها ... ولكن كل ما أعرفه أنني فقدت الهاتف في تلك الليلة التي فقدت فيها هدى ... هل تصدقني؟"

وكررها ست مرات "هل تصدقني"؟ ، شعرت أن حالة من الصرع أصابته، وقد أثر ذلك بوضوح على خطه في الكتابة في السطرين الآخرين، فقد استطعت قرأتهما بصعوبة، وختم رسالته قائلاً ".... هذه هي الحقيقة ... فالحياة أحياناً تكون كالرغيف المحشو بالألم ".

فكرت فيها طويلاً تلك الجملة "الحياة أحياناً تكون كالرغيف المحشو بالألم"، يا له من تعبير، إن إبراهيم لشاعر، أقسم أنه شاعر، وشردت قليلاً، فيمَ ؟ لا أذكر، ولكني أذكر أنني شردت قليلاً، وعدت إلى الرسالة ".... ربما بعد حرف اللام في كلمة (مالك) رن هاتف الرجل .... ربما اتصل به أحد أصدقائه ... ليعزمه على العشاء ... وربما اتصل به هاتفي قائلاً له (لماذا نتعب؟) ... ربما رحل الهاتف إلى عالم آخر ... ربما غرق الهاتف في البحر ...ربما"

وأنهى الرسالة دون أن يذكر اسمه كاملاً مكتفياً باسمه فقط، ماذا قال إبراهيم منذ قليل؟ إنه لا يكتب رسالة، إنه ينثر شعراً، لا أعرف كيف فاتني أن أثني على هذا البيان الساحر عقب قراءتي الأولى للرسالة، هل قلت أنني قرأتها على عجل، لا، لقد قرأتها على "عبط" .

* * *

 

الرقيقة

وجاءت الرسالة أخيراً ، قصيرة ورقيقة "لا مانع أبداً من التواصل".

مضى شهران فقط على قدومي إلى تلك المدينة، وخلال تلك الفترة القصيرة المنصرمة، استطعت أن أوطد علاقتي بخليل وسارة - المشرفين المسئولين عن المدينة - حتى صرت مدللاً لديهما، صرت ذا شهرة وصيت، وامتلأت ساحة الاجتماعات بعدد وافر من مخطوطاتي وكتاباتي واقتراحاتي وآرائي، وصرت ذا صوت مسموع، صرت استثناءاً، و"الاستثنائي" قطعاً له "استثناءات"، ولكن هذه الاستثناءات بالطبع ستكون في الخفاء، ولن تٌقدم هكذا دون مقابل، أما المقابل فأنا أعرفه، وأقدمه دون حتى الإشارة إليه أو التلميح له، وهذا يعني أنني إذا طلبت ذلك الاستثناء البسيط من "صديقي" المشرف المسئول، لن يرفض طلبي، وإلا امتنعت عن تقديم تلك المساعدات، وتلك المساعدات تتلخص في جملة واحدة هي أنني أراقب الجميع، ومن يصدر منه ما يسيء إلى المشرف، فقط أبلغ عن اسمه، ليقوم السيد المشرف بطرده من المدينة، الأمر بسيط جداً ، أنا "عين" المشرف في المدينة، و"مخبره" الأول، أنا "بصاص" المدينة الوفي، لذا لن يرفض المشرف طلبي، وإلا سأعلن على الملأ ما يحدث غير مبالِ بأي شيء، ولا نادماً على شيء، وسأفضح أمره، لن يرفض المشرف المسئول طلبي، هو أجبن من ذلك، عليّ الآن أن أفكر في مكان اللقاء، بعيداً عن أعين البصاصين الآخرين، لا عجب، بالتأكيد خليل لديه بصاصين آخرين غيري.

ليكن الموعد إذن في الطابق الثاني من ساحة الاجتماعات، هناك غرفتين أحدهما تستخدم كأرشيف، والأخرى خالية تماماً إلا من منضدة صغيرة، وعدد من الكراسي، لا أعرف فيمَ يستخدمها خليل، ولكنه ذكرها أمامي ذات مرة.

لا وقت لدينا نضيعه، فلأكتب الرسالة إذن الآن " أستاذي الجليل/ خليل ... بعد التحية، أطمع في كرم سيادتكم، بمنحي استثناء "بالكلام" مباشرة، ووجهاً لوجه مع .... (وذكرت اسمها) ... وهذا طبعاً بعد موافقة سيادتكم ... على أن يكون الموعد في الغرفة الثانية في الطابق الذي يعلو ساحة الاجتماعات، ولكم جزيل الشكر" ... وختمت الرسالة بتوقيعي. ثم تذكرت أمراً قد نسيته، فكتبت تحت التوقيع "ملحوظة : أرجو الرد سريعاً".

وألقيت بالرسالة في الصندوق.

وجاءني الرد أسرع مما توقعت، حتى صرت أزداد غروراً، وظننت نفسي للحظة أنني أنا المشرف المسئول، وخليل وسارة ما هما إلا "موظفين" يعملان تحت إمرتي، وكان الرد قصيراً موجزاً، شافياً وافياً " أنت لا تطلب يا عزيزي .... أنت تأمر أمر ... وأنا أطيع ... متى اللقاء؟".

كتبت إليه مرة أخرى رسالة محتواها أن اللقاء بعد قليل ، فأرسل إليّ يقول أن أمر على في مكتبه الآن، ليعطيني المفتاح.

خرجت من غرفتي مزهواً فخوراً، ومررت في الممر حتى وصلت إلى المكتب، تاركاً خلفي عشرات الصناديق، ومئات الرسائل، وآلاف الكلمات، خيّل إليّ أنني زعيم المكان، سيده، آمره وناهيه، حتى فكرت أن أطلب "استثناء" آخر في المرة المقبلة، وهذه المرة سيكون "الاستثناء" صاعقة فوق رأس خليل، سأطلب منه أن أكون مسئولاً عن الرسائل، سأفتح كل الرسائل وأقرأها، ثم أشعل فيها النيران، وسأحرق هذا المكان وأمضي إلى مدينة أخرى.

ولكني ضحكت من الخاطر الجنوني، سيقتلني خليل إذا طلبت منه الإشراف على الرسائل، ولم لا أجرب؟ ولكن ليس الآن، الآن أنا في طريقي للنشوة، فرضية اللذة كمالاً واكتمالاً، سألهو كثيراً هذا المساء.

وتقابلنا.

كانت أرق من النسيم كما ذكرت، لا، بل كانت هي الرقة نفسها، جلسنا متقابلين وجهاً لوجه، صمت في البداية كأني اعتدت الصمت، ثم حركت عضلة لساني، أخيراً سينطق، سينطلق.

كانت ساكتة هي الأخرى، وكأنها كانت تنتظر أن أبدأ أنا.

وبدأت.

- مساء الخير.

- مساء الخير.

وماذا بعد؟ هل ستكرر كلامي في كل مرة؟

صمت مرة أخرى، منتظراً سؤالها وهي تبتسم " هل خرقت القوانين ؟"

ولكني لم أخرق القوانين، فقط حصلت على موافقة، حصلت على "استثناء"، وليس كل الناس لهم نفس الميزات، أنا مختلف، أنا متميز، أناني مغرور.

ولكنها ظلت ساكتة، بليدة، حتى صرت أخشى أن تكون خرساء فعلاً، لا، ولكنها قالت منذ قليل "مساء الخير"، ما الأمر إذن؟ لماذا لم تسألني؟

- هل تعرفين أن الكلام هنا ممنوع؟

ابتسمت، فظهرت أسنان قصيرة فوقها لثة عريضة، فاشتهيتها.

- ولكنك تتحدث الآن.

- حصلت على استثناء .

سألتني بغباء حقيقي:

- كيف؟

كان عليً أن أشرح لها، قلت بإيجاز أن علاقتي بخليل جيدة، وأنه صديق لي، ولا يعز عليً طلباً، فابتسمت مرة أخرى، وبانت لثتها العريضة، فتحول الاشتهاء إلى وجع.

وبدأت استعرض مخزوني اللغوي لأشد انتباهها:

- هل تعرفين؟ أحياناً أرى نفسي عصفوراً صغيراً له حرية الطيران والتحليق، وأحياناً أراني مقيداً بسلاسل من حديد، ذلك لأنني كلما أدركت مفهوم الحياة، شدني شيء نحو القاع.

ظلت صامتة، حتى خيًل إليً أنني أتحدث إلى المنضدة، ولكني واصلت كلامي علها تفهم هذه المرة:

- هل تعرفين؟ لدي أحلام كبيرة، يقولون أن خيالي يشطح للبعيد، دائماً أحلم بأني ألف العالم، يسمونني في بلدي بالعصفور المهاجر.

أخيراً نطقت:

- حقق الله لك كل أمانيك.

- أشكركِ.

وسألتها عن الاسم والعمر، فذكرت تاريخ ميلادها، وعرفت أنها تصغرني بتسعة أيام فقط، ولما سألتها "هل أنتِ متزوجة؟ أو مرتبطة؟" أجابت بـ"لا" ،ولكنها ذكرت أنها أحبت مرتين من قبل، فوجدت نفسي أقول "رزقكِ الله بابن الحلال".

وفجأة انتابتني مرارة مفاجئة، مرارة مصحوبة بدهشة، وسألت نفسي "لماذا أطلقت عليها (الرقيقة) حتى قبل أن أراها أو أعرف اسمها، لم أكن أعرف الاسم حين راسلتها أول مرة، كان حرف "أ" فقط على باب غرفتها هو الذي يدل على أنها "أنثى"، كيف عرفت أنها ستكون رقيقة فعلاً، هل هو الحدس، أم السحر، حتى الآن أراها "بلهاء"، في لهجتها طيبة غير مصطنعة، طيبة تلقائية، وما الرقة سوى مزيج من البلاهة والطيبة وبعض الغباء.

وظللنا صامتين لوقت طويل، وكأننا – ومن فرط تكرار الصمت- اعتدناه، أو كأننا كنا نطهو الكلام أولاً، ثم نقدمه وجبة ناضجة، من ناحيتي لم أكن في حاجة إلى طبخ الكلام، كان الكلام على لساني، ولكني فضلت أن أصمت لأرى ردة الفعل عندها لو سكت، ظلت صامتة هي الأخرى، هل كان الكلام على لسانها أيضاً؟ أم أنها كانت تنتظرني لأبدأ أنا مرة أخرى؟

ومر بخاطري سؤال غريب، لا وقته، ولا زمانه، ولكنه لمح كبرق، جعلني أنسى تلك البلهاء الرقيقة، وأنسى الوقت بل وأنسى كل شيء، حتى أنني من فرط ذلك النسيان العجيب لكل شيء جئت أسند كوعي على المنضدة دون انتبه فهوى إلى الفراغ فكدت أقع على الأرض.

شهقت شهقة لذيذة، جعلتني أنسى السؤال هذه المرة، واستفحل الاشتهاء الموجع ليصل إلى ذروته، خصوصاً عندما اقتربت مني لترى هل أصابني مكروه أم لا، وشممت رائحتها، وتسربت أنفاسها الحارة إلى أنفي، فلم أقو على شيء، ضممتها إليّ، التصق جسدانا، في البداية ابتعدت للخلف خائفة، ولكني جذبتها إلى صدري، ولم أدر إلا وشفتاي تلتهمان وجهها كله، بدءاً من جبهتها، نزولاً بعينيها، فأنفها، وأخيراً، أخيراً شربت وارتويت من العسل المصفى على شفتيها، ثم رحت أفرك ثدييها بأصابعي، فذابت، ضمنتي إليها بقوة، كنت أريد أن أقول لها ، لماذا اشتهيتكِ حتى قبل أن أراكِ؟ هل أنتِ صورة كربونية من دعاء؟ لا، تختلفان بكل تأكيد، اشتهائي لدعاء اشتهاء حامض، اشتهاء الذئب الجريح لفريسة ليأكلها، لا ليتمتع بها، اشتهاء ملوث بجرح ينزف، جرح الكبرياء المطعون، ماذا لو أحبتني وانتهى كل شيء؟ اشتهائي لها اشتهاء مؤقت، فردي، اشتهاء رجولي، ذكوري، اشتهاء ذليل، فقط لأثبت لها أنني الأقوى، والأحلى، والأشهى، ماذا لو قبلتها حتى مجرد قبلة؟ قبلة لا للمتعة، ولكن للانتقام، للعداوة، للكره.

لا، لا تشبهينها بكل تأكيد، أنتِ استسلمت من أول وهلة، وهذا الاستسلام يزيدني متعة ونشوة، سأشربكِ حتى أرتوي، حتى أشبع، أما دعاء فسأشتهيها حتى أأكلها، افترسها، أمزق لحمها، دمها لا يروي ظمأي، صدقيني، ولكني اشتهيه، سأمص دمها وأتقيأه.

وغبت.

لم أدر ما حدث إلا أنني فتحت عيني، فوجدت ظلاماً كثيفاً من حولي، أين دعاء؟ لم أنته من المتعة بعد، أين ذهبت دعاء؟ أين أنا؟ هل كنت أحلم؟ لا، أنا الآن في الغرفة ذاتها، هذه المنضدة، وهذا الكرسي الذي كنت جالساً عليه، وهذا كرسي دعاء، أين دعاء؟ أين ذهبت؟

دعاء؟! لم أكن أحضن دعاء ... كنت أحضن الرقيقة؟ ما اسمها؟ يا لغبائي، ما هذا الجنون؟ ما الذي يحدث؟ أيهما كنت أحضن الآن؟ وأي اسم ذكرته لخليل في الرسالة؟ هل قلت له دعاء؟ ولكن الرقيقة ليست دعاء، ودعاء ليست هي بعينها الرقيقة، كيف لم انتبه إلى هذا كله؟ هل ذكرت اسم دعاء أمام الرقيقة؟ هل لهذا السبب تركتني ومضت؟

كيف لي أن اشتهي الاثنتين في آن واحد؟ كيف لي أن أحضن الاثنتين في آن واحد؟ ماذا لو كانت أحبتني الغبية وانتهى كل شيء؟

وغفوت.

وأنا في الممشى عائداً إلى غرفتي، وجدت إبراهيم يلقي برسالة في أحد الصناديق، لم ينتبه إليً كأنه لم يرني، فاحترت لذلك، لا رغبة لدي في أي شيء، أريد أن أفهم، ما الذي حدث داخل تلك الغرفة الملعونة؟ هل غضبت مني الرقيقة؟ هل جرحتها دون وعي؟ ليت كوعي لم يهو إلى الفراغ، لا أريد إجابة على هذه السؤال اللعين: ما اسم المدينة؟، لا يهمني أن أعرف "اسم المدينة"، ولا يهمني أن أعرف الإجابة، سؤال غبي ذلك الذي طرأ بذهني، وإجابته بالتأكيد ستكون ساذجة، إن كان له إجابة أصلاً، فلتكن مدينة بلا اسم، ماذا يفيد الاسم؟ وما الضرر من عدم وجوده؟ ما الذي حدث في الغرفة؟

هل نمت؟

أم حلمت؟ أم ماذا؟

ودلفت إلى الغرفة، تاركاً الباب ورائي يطلق صريراً مفزعاً، وارتميت على السرير، عصرت ذهني، ورحت أتذكر كل شيء من أوله، منذ كتابة رسالتي لخليل، حتى تلك اللحظة التي أنا فيها الآن، كل شيء كان يمر بتلقائية، مرتباً، منظماً، نعم، يا لغبائي، لقد ذكرت اسم دعاء في الرسالة، هل تغضب مني لو عرفت؟ سأشرح لخليل الأمر فيما بعد، وأوضح له ملابسات الموقف، وسيسكت، سيضحك قليلاً قائلاً "يا خبيث"، ثم يسكت، لا يهمني خليل، المهم الرقيقة، هل ذكرت أمامها اسم دعاء؟ هل غضبت؟ وصلت إلى تلك النقطة، وشعرت بذهني كأنه قناة قطع عنها الإرسال، ولم انته إلى شيء يفسر لي أي شيء، بت في حيرة، حاولت النوم فلم استطع، خرجت لأتصفح صندوق البريد، وجدته فارغاً، لا رسائل جديدة، حتى إبراهيم يبدو أنه نسيني؟ أم أنه يتجاهلني؟ أم ماذا؟ ماذا أفعل الآن، هل أكتب؟ الحروف في عقلي كبيرة بحجم الثيران، لا استطيع ترويضها الآن، لن أكتب، سأكتفي بالتفكير، لماذا إبراهيم غاضب؟ لماذا؟ ماذا فعلت له هو الآخر؟ هل أكره العالم كله لكي أستريح؟

 

من يحرس مفتاح اللذة؟

مر الوقت.

هذه عادته، دوماً يمر، مر الوقت لينتهي ، وماذا بعد؟ سينتهي الوقت والزمن والعمر، وسيفنى العالم، حتى سلال المهملات ستفنى .

مر الوقت، ومع مروره تذكرت أنني لم أرسل رداً لإبراهيم على رسالته، ألهذا السبب هو غاضب؟ بكل تأكيد، فكرت أن أرسل له اعتذاراً قصيراً، ولكني شعرت بصداع فلم أقو على الكتابة، من الآن فصاعداً لن أكتب، وهذا المفتاح الذي معي سيحل لي كل الإلغاز، استثناء الكلام لن يكون مرة واحدة وينتهي، سأتكلم، وأتكلم، ستصير تلك الغرفة في الطابق الثاني غرفة لها ملكية خاصة، سأقابل فيها الجميع وجهاً لوجه، وظيفة اللسان الكلام، فكيف لي أن أخرسه؟ لا، هذه القوانين المجحفة لن تطبق عليّ، أنا "الاستثناء" الوحيد هنا، أنا سيد هذا المكان، خليل مجرد بغل أحمق، وبدوني لن يستطيع فعل شيء، بعد اليوم سيكون الكلام مباشرة، لسان مقابل لسان، فكرة في وجه فكرة، وأنا الذي سأحدد متى أتكلم بلساني، ومتى أتكلم بيدي، فقط عندما أرغب أنا، سأحتفظ بالمفتاح معي، وأذهب إلى الغرفة هناك متى شئت، وإذا نبس خليل بكلمة واحدة، سأهدم المدينة عليه وعلى الجميع دونما ندم على شيء.

وتركت غرفتي، دون أن أكتب رسالة لإبراهيم، هل سيغضب؟ فليغضب؟ هو أصلاً غاضب، فليغضب الجميع، بما فيهم تلك البلهاء، غضبهم لا يعنيني في شيء، كلهم دمى، ما هذا الصداع وهذا الإرهاق؟ وماذا لو كنت أخطأت وذكرت اسم دعاء أمامها؟ هل ستغضب هي الأخرى؟ فلتغضب؟ لتذهب إلى الجحيم إذا أرادت، لا يهمني أمرها، منذ زمن لم أترك المدينة، اشتقت إلى مدينتي، ولكن لي حق الاختيار أن أذهب، فتلك الميزة الوحيدة في هذه المدينة، ينص دستورها على أن من أراد أن يذهب فليذهب وقتما يشاء، وإذا أراد العودة ثانية فليأت ومرحبا به، ومن لم يرد فهو حر، وهناك أناس كثيرون يقضون معظم أوقاتهم خارجها، ولا يزورنها إلا قليلاً، لماذا لا أكون مثلهم؟ سأذهب إلى دار النشر في مدينتي الأصلية لأتابع أخبار روايتي الأخيرة، وبعدها سأزور أصدقائي القدامى، اشتقت لهم لا ريب، فهم مخلصون جداً، وسأحكي لهم عن تلك المدينة، ومن أراد منهم أن يأت معي فليأت، ولكني سأنصحهم بعدم المجيء إلى هنا، لا أعرف لماذا؟ ربما الأنانية، وربما أمور أخرى أجهلها، ولكني سأنصحهم بذلك، سأنصح فقط دونما ضغط على أحد، سأنصح من باب النصح والإرشاد، لا لمصلحة شخصية، كاذب؟ ربما، سأقوم بواجبي نحو أصدقائي، لا لهوى خاص خاضع لكياني، ولكن عليهم أن يعرفوا أنني هنا السيد والمسئول، وخليل ما هو إلا عبد مأمور يطيع الأوامر.

سرت أميالاً دون خطة مرسومة، وعدت، نعم، عدت إلى غرفتي مرة أخرى، وهذه المرة كانت الرغبة في الكتابة أقوى من أي رغبة أخرى، أقوى حتى من شهوة الكلام، وكانت لدي رسائل جديدة، رسالة من الرقيقة، وأخرى من فاضل، وثالثة من خليل، احترت بأيهما أبدأ، ولكن الحيرة لم تدم طويلاً، التقطت واحدة بطريقة عشوائية، فكانت رسالة خليل، كان يطلب مني أن أراقب شخصاً يدعى سعيد كان قد أثار ضجة أمس في ساحة الاجتماعات، وأنهى رسالته قائلاً بخبث "هل ستحتفظ بالمفتاح إلى الأبد؟" ، طويت الرسالة وألقيت بها خلف ظهري، أفكر في قتله، هذا الخليل، نعم أفكر في قتله، أظن أن هذه مسألة سهلة، سأضع له سماً في القهوة، طريقة سخيفة وقديمة للقتل، ولكنها تفي بالغرض، لكن ليس هذا وقته، ربما فيما بعد، سأقتل خليل وسارة، وأشعل النيران في الجميع، وأمضى.

والتقطت رسالة البلهاء، فتحتها بهدوء، خلاص، إذا كانت غاضبة فلتغضب، لا يهمني أمرها، ألم أقل ذلك؟ فتحت الرسالة، كانت موجزة "اشتقت لك ... متى يجمعنا اللقاء مرة أخرى؟ .... أحبك" ليكن اللقاء الآن، ولم لا؟ المفتاح في جيبي، والغرفة تنتظر، كتبت رسالة على عجل تحتوي على جملة واحدة " الآن ... اللقاء الآن ... سأنتظرك بعد قليل في نفس الغرفة" ودلفت إلى الخارج، وألقيت بالرسالة في صندوق البريد.

لم لا؟

لم لا يكون اللقاء هنا في غرفتي؟ أو هناك في غرفتها؟

لم لا؟

لماذا تفرض القوانين كأنها قيود، القوانين لا تعرف البساطة أبداً، سبحان الله ! وكأن واضعوها يقصدون تعذيبنا، في الحقيقة أن القوانين توضع للتهذيب، لا للتعذيب، ولكن أي حمق هذا، إذا كنا سنجتمع، وإذا كانت هناك "استثناءات" فلماذا لا نجتمع هنا؟ هل هنا مكان مقدس؟ وإذا سألت خليل في الأمر هل سيفيدني؟ لا، سيقول بلهجته الخرقاء "وظيفتنا تطبيق القوانين لا شرحها يا صديقي ... ثم لماذا تشغل بالك بهذا؟ ألم تتمتع يا خبيث ؟" ثم يضحك قائلاً "أنانيتك لا حدود لها" ، وقبل أن يختم رسالته سيقول "هل لديك اقتراحات جديدة بشأن تطوير ساحة الاجتماعات؟".

فتحت الباب ودخلت، كانت الغرفة مضاءة، ورائحة التدخين تملأ المكان، أحدهم كان هنا منذ قليل، ترى من؟ خليل لا يدخن، من المؤكد أنها سارة، يا للسخرية، سارة أيضاً معها مفتاح، من أيضاً لديه نسخة أخرى من ذلك الساحر الصغير؟ وما الذي يحدث هنا بالضبط؟ في هذه الغرفة تحديداً؟

وجاءت الرقيقة، كان وجهها قمري، وأكثر إشراقاً، ابتسمت ومدت يدها، رائحتها اليوم مختلفة، هل ذكرت اسم دعاء أمامها؟

بدأت هي بالكلام هذه المرة، هل تجرأت؟ ما زلت لا أفهمها، عجباً، أرى أحياناً أن الأمور السهلة تكون أصعب في فهمها، الأمور المعقدة تحتاج إلى إرهاق ذهني، أما السهل فيحتاج إلى صفاء من نوع خاص، إذ أنه لا يحتاج إلى تفسير أكثر ما يحتاج إلى قراءة فقط، وما أصعبها هذه القراءة!

- لقد كنت في غاية الرقة معي ... أحبك.

هل تتذاكى عليّ البلهاء الرقيقة، أغاظتني بهدوئها فحاولت استثارة حفيظتها، وفجأة عاد الوسواس مرة أخرى، هل ذكرت اسم دعاء أمامها؟ وماذا لو ذكرت؟ ألم أقنع نفسي أن غضبها لا يهم، وها هي الآن أمامي، ليست غاضبة، بل جميلة رقيقة مشرقة، بل، بل وتحبني أيضاً، ماذا يدور في خلد البلهاء؟

- هل ذكرت شيئاً ضايقكِ أمس؟

- لا بالعكس لقد كنت ...

ولمعت عينيها، ثم أضافت:

- لقد كنت رائعاً.

هل تكذب، هل أصدقها وأستريح؟

- بماذا ناديتكِ ونحن ....

نظرت إليً مبتسمة، فظهرت لثتها العريضة، فكرهتها فجأة، وكرهت اشتهاءها، ولكنها أخذت نفساً عميقاً، وقالت بلذة:

- لم أعرف أن اسمي جميل هكذا إلا تلك الليلة، لقد كان يخرج من فمك كأنه الشهد.

كنت أغلي في داخلي، هل أقول لها صراحة "هل ذكرت اسم دعاء أمامك"، ولكني تمالكت أعصابي، وهدأت نفسي، سأمارس حيلة أخرى:

- ما رأيك في اسم "دعاء"؟ هل هو اسم جميل؟

اندهشت بصدق، رأيت ذلك واضحاً في عينيها، لا أخطأ الصدق أبداً في العينين:

- سؤال غريب!

ارتحت، ارتحت جداً، لم أذكر شيئاً أمامها، الآن عرفت ذلك، لو ذكرت دعاء أمامها لتذكرته الآن، ولكنها بدت كأنها سمعت الاسم الآن لأول مرة، ودهشتها الصادقة هذه، تبين أنها لم تسمع الاسم قبلاً، والآن سأخرج من الموقف بحيلة صغيرة:

- كنت أفكر لو رزقت ببنت سأسميها دعاء .... اسم جميل أليس كذلك؟

- نعم هو اسم جميل حقاً .

تنهدت بعمق.

حقاً إنها لرقيقة بلهاء.

ولكن!

ماذا لو كانت تتخابث عليً وتدعي البلاهة؟ كيف أعرف؟ هل نضب معينك أيها الساحر؟ لا، حيلة صغيرة أخرى ستبتر دابر الوسواس:

- هل تعرفين؟ أقول لكِ شيئاً دون غضب؟

لمعت عينيها مرة أخرى، وداعبت ذقنها الدقيق بسبابتها دون أن تنطق، فصمت قليلاً رغم الغليان في داخلي، ولكنها سكتت هي الأخرى، ليست بلهاء أبداً هذه المرأة، إنها داهية:

- هل أقول؟

اكتفت بنظرتها إلي:

- سأقول إذن ... كنت فقط أريد أن تحكي لي ماذا حدث ليلتها؟ لأني أريد استعادة المتعة من جديد.

كنت أريد فعلاً استعادة المتعة مرة أخرى، وفي نفس الوقت أعرف كل التفاصيل الغائبة، ولكن هل ستكون صادقة في حديثها، أم ستكذب؟ وتلفق قصة؟ سأعرف هذا، ستفشل إن فعلت، أعرف هذا جيداً، هذه "منطقتي"، ملعبي، ساحتي، من الممكن أن تفعلها مع غيري، أما أنا فلا، وألف لا، سأكتشفها من أول وهلة.

وبدأت تحكي.

الجزء الأول من القصة كان صحيحاً تماماً ، ذلك الجزء أذكره كله ، لم أنس منه شيئاً، وكذلك هي أيضاً لم تنس شيء، حكت ما حدث بالتفصيل، كانت تحكي بلذة، وكنت أسمع بلذة ، ولكني كنت متشوقاً لسماع الجزء المفقود، فضاعت نصف اللذة مع شوقي لسماع الأهم، ثم توقفت فجأة كأنها تذكرت شيئاً:

- لقد نسيت أن أسألك ... لقد تذكرت الآن ....

خفق قلبي خفقة قوية، خلاص، لقد تذكرت ، لاح الأمر كهرم ضخم وبدا ظاهراً، ولكني تمالكت مرة أخرى، وسألتها وحلقي يكاد يجف:

- تذكرت ماذا؟

- ما الذي حدث لك ليلتها؟ كدت تقع على الأرض.

هل قلت أنكِ داهية؟ أقسم أنك أني غبي، فأنت البلاهة نفسها، ما الذي حدث لي؟ لماذا صرت أخطأ في تحليل الكائنات؟ هل أصابتك الشيخوخة أيها الساحر؟ أم أنك كنت واهماً نفسك بأنك عبقري، وأنت في الأصل غبي كبير؟

- لاح بذهني فجأة خاطر، فشردت إليه دون وعي ولم انتبه إلا حين كدت أسقط على الأرض، في الحقيقة، كان سؤالاً، سؤال غريب لم أعرف لماذا جاءني في هذا الوقت تحديداً.

- وما هو؟

- سأحكي لكِ فيما بعد .... المهم أكملي.

- لا ... لا أكمل إلا إذا قلت لي ما هو السؤال؟

- ما اسم تلك المدينة؟ ذاك هو السؤال .

ضحكت. فظهرت اللثة مرة أخرى، لقد بدأت أكره عسلكِ يا "رقيقتي البلهاء" ، أكملي، فقلبي يغلي.

- مدينة بلا اسم! لم يخطر ببالي هذا السؤال من قبل "ما اسم المدينة؟"، هل وجدت إجابة؟

- لا .

نفذ صبري فصرخت:

- ألم يحن الوقت لتكملي بقية القصة.

اندهشت من انقلابي المفاجئ، ويبدو أنها غضبت:

- ولماذا تصرخ هكذا؟ أفرعتني.

جن جنوني، لقد صرت عصبياً، ما هذا الذي فعلت؟ أي أحمق أنا؟

- آسف ... رجاء لا تغضبي .

- لم أغضب ... ولكنك أفزعتني ...وعلى العموم لم يحدث شيء بعدها، حضنتك بقوة، فاستسلمت في أحضاني كرضيع، ونمت كأنك مغشي عليك ... فتركتك ورحلت ... وقلت يبدو انه متعب ... سأتركه يستريح .

 

شواء

يقولون، مفتاح اللذة يحرسه راهب !

وأنا لست راهباً، ولكني أحرس المفتاح، لا، أنا أملك المفتاح، لا أحرسه، مشكلتي أنني لا أقدر على ممارسة "الكره"، كلاهما سيان عندي، عدم القدرة أو عدم المعرفة، النتيجة واحدة في النهاية، ولكن مشكلتي الآن أني أحب، بل أعشق؟ نعم، أعشق الرقيقة البلهاء، دائماً أظلمها بهاتين الصفتين، "البلاهة والرقة"؟ ، الرقيقة مسحت دعاء بممحاة من ذاكرتي، لم يبق منها سوى حفنة من التفاصيل على هيئة درج لسلم، أصعده، نعم، أتسلقه، أتسلق الدرج لأصل إلى تفاصيل جديدة، أكثر رونقاً، وأكثر عبيراً.

والآن، نعم الآن، إن الحملان الضعيفة تبكي، والإنسان مرة بائع ومرة مشتري، قسوة في حفلة من المتناقضات " مشكلتك انك لا ترى العالم بعيون العالم ... أنت ترى العالم بعيونك أنت ، وذاك سر مأساتك" إن الكلمات لا تُخترَع، الكلمات كحبات السكر، تذوب، لتعطى طعماً مختلفاً، أين رسالة فاضل؟

ها هي.

ماذا يريد؟ خوار وحوار، نهيق وشهيق، إن التاريخ لا يعبأ بالرواة، انتبه، الحكاية ليست جدراناً تتسلقها، إنه سلم، درج لسلم، يحدث هذا دائماً، يحدث باستمرار، يتجدد ويتمدد، "أريدك في أمر هام ... فاضل" .

كرهت هناك!

بدأت أكره أموراً كثيرة وأماكن كثيرة ووجوه كثيرة، هل أطلب من خليل "استثناء" آخر؟ فليأت فاضل إلى غرفتي هنا، نعم، هنا، أظنه لن يرفض، أظن أنه من غير المعقول أن نذهب أنا وفاضل إلى نفس الغرفة التي التقى فيها بالرقيقة، هذه الغرفة تصلح للقاءات العشاق، لا لأحاديث الأصدقاء التافهة، أما غرفتي هذه فهي تصلح لكل شيء، فليأت فاضل هنا، سيرغي قليلاً ثم ينصرف، ترى ماذا لديه؟

قطعاً سيحدثني عن ماريا، هو يعتبرني "أستاذاً"، أكبره في السن بخمس سنوات، دائماً يستشيرني في كل الأمور، وخصوصاً أمور "الهوى"على حد تعبيره، لا أنكر أنني أراه صديقاً جيداً ، ولكنه – للأسف – لا يفيدني كثيراً، بل أنا الذي أقدم له الفائدة والنصح، وأنا لست مستعداً لهذا الآن.

على كل حال، فليأت فاضل وليتحدث عن ماريا، وأنا سأدخن و أسمعه، لن أفكر فيما يقول، لن أرهق نفسي في التفكير، سأسمعه "بنصف ذهن"، وإذا رأيت أن حديثه سيكون مملاً، سأعتذر له قائلاً أنني متعب قليلاً، ولابد أن أستريح، ولن يغضب، وإذا غضب؟ لا يهم، لا يفيد، لا يضر.

كتبت الرد القصير، وكان عليّ أن أرسل رسالة لخليل تحتوي على طلب "الاستثناء الجديد"، وكتبت "أعرف أني أثقل عليك بكثرة طلباتي .... ولكني متعب ولا أستطيع كتابة الرسائل ... لذا أرجو التكرم بالموافقة على مجيء صديقي فاضل إلى غرفتي .... لأنه راسلني قائلاً أنه يريدني في أمر ضروري" وختمتها كالعادة "ولكم جزيل الشكر".

وافق خليل على الاستثناء، وبعثت برسالة أخرى إلى فاضل أخبره أنه بإمكانه المجيء إلى غرفتي، فجاء فرحاً.

أشعلت سيجارتي، وبدأت أسمع، بعد أن رحبت به في غرفتي، في البداية ذكر- للمرة العاشرة- أنه يعتز بصداقتي، وأنه لا يقطع أمراً دون مشورتي، فشكرته - أيضاً للمرة العاشرة – ثم صمت على أن يبدأ "الحوار".

وبدأ.

قال"أنت تعرف قصتي مع ماريا ، أليس كذلك؟" فأجبته بهزة من رأسي ، أي"نعم"، وكانت السيجارة قد انتهت، فأشعلت أخرى، وأكمل فاضل:

- أتمنى لو استخرج قلبها، وأرى ما بداخله.

آه، بداية تنم على أن ثمة أحداث جديدة وقعت، سألته مبتسماً:

- ولم كل هذا العنف؟

- أريد أن أعرف إن كانت تحبني فعلاً، أم أنها ....

قاطعته دون وعي:

- ولماذا تريد أن تعرف؟

أجابني بعينيه"لا أفهم".

كان الصداع قد بدأ يخف، وشعرت فجأة أني أريد أن أسمع القصة كاملة، فقلت:

- أعذرني على سؤالي، كنت أريد أن أسألك "ألست متأكداً من حبها لك"ولكن التعبير خانني، المهم أكمل .

- أنت تعرف أن ماريا "مراهقة" وأنت أدرى مني بكل تأكيد عما تحوي هذه الكلمة من معنى.

- أكيد.

- أخشى أن يكون حبها مجرد "إعجاب" أو ...

ثم صمت قليلاً.

قلها يا فتى "أو مجرد لعب وإهدار للوقت" أليس هذا ما تقصده؟

يقولون أن المبادئ لا تتجزأ، أغبياء، لا شيء أصلاً يسمى "المبادئ"، المشاعر هي التي لا تتجزأ، فإما أن أحب فلاناً كلية، أو أكرهه كلية.

وقال الفتى نفس الجملة، يا لي من عبقري، إن حدسي قناص ماهر لا يخطأ الهدف أبداً، أكمل يا فتى:

- منذ قدومي إلى المدينة، كنت أراها أحياناً في ساحة الاجتماعات.

ساحة الاجتماعات! ذكرتني بها يا فتى, مر زمن دون أن أزورها.

أعذرني، أكمل:

- ... سبحان الله! هل تعرف ؟ في البداية لم أكن أتصور أنها ستلفت انتباهي مطلقاً، ولكن ذات ليلة شيطانية، لا أعرف ما الذي شدني إليها فجأة، وجدت نفسي أرسل لها طالباً معرفتها، وجاءني ردها غير رافضة، كنت أراسلها بكل احترام وأدب.

أدب واحترام؟ سامحني يا صديقي، لقد اشتهيت "ماريتك" ذات مرة.

- وجدت نفسي مع الوقت أنجذب إليها أكثر، وأنت تعرف "المراهقين أمثالي" لما يغرمون، لا يدخرون وسيلة إلا واستخدموها في سبيل إقناع الطرف الأخر أنها "ليلى".

وابتسم "قيس" وهو يقول "المراهقين أمثالي"، إن الرغبة في القيء تتجلى، لنتخلص من كل القذارات، الأمر فقط يحتاج إلى إرادة، صح؟

إن البوح بالمكنون من"الأستاذ" إلى "التلميذ" جريمة، الحب ليس مراهقة لزجة، ومن قال أنك مراهق؟

- أنت عاشق، والعشق قمة، والكثيرون لا يظلون في القمة، والكثيرون لا يصلون إليها أصلاً، العشق "سيد المشاعر".

 

في شبابنا

في شبابنا غازلنا البنات في الطرقات، ومارسنا الحب رومانسية واشتهاء، وفي شبابنا ابتعدنا عن السياسة مُكرهين، ولكننا تعاطيناها مع المخدرات الرخيصة في الخفاء.

إن الإفصاح جريمة، جريمة في كل الأعراف والقوانين، آه، نزفت كلاماً كثيراً من قبل، في نفس الوقت الذي بدأ فيه ذهني في الترهل، ترهلت ذاكرتي أيضاً، بلغت الثلاثين وأنا أحلم بالتخلص من ترهلات الدهون الذهنية، وحلمت بالنظر إلى الحياة بمفهوم أعمق، منذ تلك اللحظة وأنا أحاول أن استفيق، كل اللحظات تتلون، تتشكل، تتقارب، وتبتعد، إن للصمت قوة تتحكم في عمر الإنسان ومصيره، ما أفظع الكتابة والكلام؟

الوقت يمر متشابهاً، حبات الرمال هي حبات الرمال، الصخور هي بعينها الصخور، جداري كان هشاً، فلم يتحمل مقاومة الريح والإعصار، ولم أكن طفلاً لأداري رغبة الانطلاق بكمية كافية من البكاء على كتف الأم، ولم أكن بالقوة الكافية لأن أستدير للخلف لأنظر إلى حياتي من زاوية أخرى، كنت ترساً في آلة تدور طول الوقت دون أن تكل من الدوران، كنت أشبه الملاح العابس الذي يرمق اليابسة بغموض، درت حول العالم وحول نفسي.

وانتبهت من شرودي إلى صوت فاضل:

- ليت قلوبنا من الألمونيوم.

أصبت بالإعياء، فلم أجب، وواصل فاضل:

- أنا سعيد ... وخائف.

- شعور طبيعي، وأنا أيضاً.

وماذا بعد؟ فاضل يحب ماريا، يعشق ماريا، وأنا أحب الرقيقة، أعشق الرقيقة، وكلانا خائف، وماذا بعد؟ تحدثنا كثيراً، ساعات متواصلة، دون مبرر سردت له قصتي مع الرقيقة، لا، قصتي مع دعاء، لا، القصتين معاً، هذه عادة المحبين، يقولون أن الذي يحب لا يمل من الحكي عن حبيبته، وقال فاضل مبتسماً "لماذا لم يتركونا في حالنا؟" ، وقال "أنهم قدر" ، وقال "سأمشي لأني أثقلت عليك" ، وقال"أشكرك لسعة صدرك" ، وقال "نعم الصديق والأستاذ أنت" .

وخرج فاضل من غرفتي، كنت أود أن أقول، أن أصمت، أن أجري قليلاً داخل كياني، ثم أتوقف عن الركض بحجة أن لدي أعمال أخرى كثيرة تستحق التركيز والتأمل، نعم الصديق والأستاذ أنا، جداري قوي، ليس هشاً أبداً، لست مجموعة من الكلمات أبداً، دائماً أظلم "الرقيقة" بتلك الصفتين "البلاهة والرقة"، وهل الرقة صفة سيئة؟ ظالمة؟ ودعاء بما أصفها؟ قالت لي يوماً أنها ستدعوني إلى حفل شواء على إحدى الشواطئ، كصديق، نعم، كصديق فقط، فهل أقبل؟

وقبلت، كانت النسمات تفتقر إلى النضج، وكان لحن الصداقة رديئاً، إني أحبكِ، "فلماذا الهروب وقت الغروب؟" ، "وأنتِ ... كيف حالكِ يا طيف الملائكة؟" .

وكلانا يمر.

يمشى.

- أرجو ألا أكون قد أزعجتكِ.

-لا ... كيف حالك أنت؟

- أنا بخير، انتظرتكِ طويلاً ولكن كعادتكِ دائماً تأتين متأخرة.

- لا أحد يريد أن يتعب حاله.

- لكن ليس بالتشاؤم تحل المشاكل ..لقد قرأت رسالتكِ أمس ... لماذا تتمنين الموت؟

كل الحكايات تبدأ هنا وتنتهي هنا .

فاصل قصير، قصير جداً، درب ضيق يمر منه الكل، وهذه حكاية حديثة الولادة، طرفيها "طيف الملائكة" ، و"الخريف"، وكلاهما ندى، ندى من البلاستيك، ليس حقيقياً، فالاعتراف بالفضيلة فضيلة، والشعور بالذنب إحساس صافٍ، كانا يتحدثان عند الشاطئ في حفل الشواء، صوصوة وزقزقة، وكانت ثمة موسيقى أخرى تنبعث من مكان ما، آتية من الماء ربما، من هنا إلى هناك، ومن هناك إلى أماكن أخرى.

إلى احتراف جديد.

* * *

 

هواية

مرت شهور أخرى.

صارت رقعة أصدقائي تتسع، ما عدت أكتب إلا نادراً، حتى ساحة الاجتماعات لم أعد ادخلها، انقطعت علاقتي بكل شيء خارج حدود تلك المدينة، نسيت أصدقائي القدامى كلهم، ونسيت دعاء، نعم، أقسم أني نسيتها فعلاً، ملئت الرقيقة كل حياتي، تعطيني كل شيء، اللذة والحب، وماذا أريد أكثر من ذلك؟

نذهب يومياً إلى تلك الغرفة السحرية، نقضي معظم الوقت معاً، نتسامر ونضحك، ولما ننتهي يذهب كل منا إلى غرفته، خلاص، ما عدت أفكر في شيء، هنا، الحب واللذة، هنا الكلام والراحة، لا يعنيني شيء آخر، خليل يرسل إلىّ الطعام والشراب والسجائر يومياً مع رسالة قصيرة محتواها "جدد نشاطك.. ولا تهمل واجبك" ، أعرف قصده، يظن أنني أتسلى، لا، أفهم الجميع هنا، أفهم فاضل، وماريا، حتى إبراهيم الذي ترك المدينة نهائياً ورحل، أفهمهم جميعاً، أقرأهم وأكتبهم في دفاتري، أحللهم، وأفتتهم، لا أهمل واجبي أبداً، عطاء مقابل عطاء، أنا الأذكى هنا، أتسلى وقتما أريد التسلية، وأكذب حينما أفضل الكذب، لا اعتنق ديناً يفرض عليّ فروضه، ولا انتمي إلى مذهب يملي عليّ شروطه، أنا سيد نفسي، أنا حر، أفعل ما يحلو ليّ دونما خوف من أي شيء.

ما عدت أفكر في أي شيء، ما عدت أؤمن بأي شيء، حتى الحرية الكاملة نفسها لا أؤمن بها، كما لا أؤمن بأن العالم عبثي، لا، لست معتقداً في أي شيء، ولست مخلصاً لأي شيء، ولا يهمني كثيراً أن يكون لحياتي معنى أو غاية أو هدف، أنا هنا الآن، وغداً أموت، وينتهي كل شيء.

إذن!

لماذا أنا أحيا الآن!

لا أعرف!

دورة حياة وتنتهي؟ ولادة وبداية وموت؟

أي يقين يجب أن أعتقد فيه؟

أي إيمان يجب أن يملؤني؟ أي قوة يجب أن أخشاها؟

يقولون أن الإيمان أن تؤمن بكذا وكذا وكذا، ويقولون أن الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك.

الله.

أعلم أنه يراني، أحيانا أشتاق إليه، يرتعد جسدي كله عند ذكره، أهذا خوف؟

وكيف يجتمع خوفي منك، مع حبي لك؟

وكيف تكون العبادة؟

لم أكن ملحداً أبداً، ولكن إذا كانت المبادئ لا تتجزأ كما يزعمون، وإذا اعتبرنا أن الإلحاد مبدأ من تلك المبادئ الغير قابلة للتجزئة، فعليّ أن أحدد إما أن أكون مؤمناً كلية، أو ملحداً كلية.

ولكني لا أفضل تلك الأخيرة، إذ أنني لا أومن بالإلحاد أصلاً – لأني أساساً أرفض فكرة "الإيمان" في حد ذاتها- فأنا أعتبره مذهباً أو "معتقداً " أو "مدرسة" أو غير ذلك من تلك المسميات، وكما ذكرت أنني لا أهوى الانتماء إلى مذهب أو "معتقد"، فأنا بالتالي لا اعتبر ملحداً، لا يستهويني هذا الانتماء، ولكن ثمة أمر آخر، قطعاً يوجد فرق بين الاعتراف بمذهب ما، وبين الانتماء إليه، أنا لا انتمي، ولكن هل أيضاً لا أعترف بوجود المذهب؟

لا يعنيني اعترافي بوجود المذهب أو عدم وجوده، ما يهمني انتمائي إليه واعتقادي فيه أم لا، ما يعنيني هو أنا في المقام الأول، إذن ، هل أنا مؤمن كلية؟ لا اجزم بذلك – خصوصاً في تلك الفترة – إذن، ينتج عن هذا أن المبادئ تتجزأ أحياناً، أليس كذلك؟

كنت وحيداً في تلك الليلة، كنت أفكر في هذا كله، وكان صندوق بريدي مملوءاً بالرسائل ولكن لم تكن لدي رغبة في القراءة ولا في الكتابة، كنت أعد تقريري حول سعيد، طلبت من فاضل أن يرسل لسعيد طالباً صداقته، لكي تتوفر لدي كمية كبيرة من المعلومات، مقابل أن أمنح فاضل مفتاح الغرفة السحرية لكي يقضي فيها بعض الوقت مع ماريا، على أن يكون الأمر سراً بيننا دون معرفة خليل.

عرفت من حديث فاضل مع سعيد أن سعيداً كان يريد إقامة علاقة مع "دودي" إحدى نساء المدينة، ولكنها رفضت، وأبلغت خليل بالأمر، مما أثار حنق خليل عليه، وطلب مني كتابة التقرير عنه لرفعه إلى "الإدارة" لاتخاذ اللازم وطرد سعيد نهائياً من المدينة، دون السماح له بالعودة مرة أخرى.

وخطرت في رأسي فكرة مجنونة، وهي أن أرسل رسالة لخليل موقعة باسم "دودي" مفادها أنها تريد التقرب منه أكثر، وسأستطيع أن أغير خطي وطريقة سردي للرسائل حتى يشرب خليل "المقلب"، وسأضحك ملء شدقيّ على خليل وهو يطير من الفرح عندما يطلب منها أن تسبقه إلى الغرفة السحرية.

هل قلت من قبل أن شيطاناً صغيراً يسكن عقلي؟ لماذا اللعب بمشاعر الناس كأنهم دمى؟ إني أتمتع، فدعوني أمارس هوايتي، لا، أمارس احترافي وإتقاني، إني نابغة هذا المدينة، بحر اللذة لا ينضب، ذاك بحر رقراق متدفق، وسأحصل على المتعة أينما كانت، وبأي طريقة أو وسيلة.

كتبت الرسالة، وخرجت من غرفتي، وفي لحظة ألقيت بها في صندوق خليل، وعدت إلى غرفتي كاتماً ضحكتي، سألهو وأمرح حتى أشبع، وبعد قليل سوف أرسل رسالة للرقيقة لكي تسبقني إلى الغرفة السحرية، لقد اشتقت إلى عسلها، لست عبداً للذة، إنما أنا سيدها، أنا فوق اللذة، هي جاريتي، اللذة جاريتي المطيعة.

إذا كانت اللذة دواءً للألم، فسأتجرع هذا الدواء الممتع حتى أسكر، ولما أفيق، سأستزيد منه، اللذة خمري، كلهم دمى، أحبهم وأعشقهم عندما يثقون فيَ، عندما يمنحوني أسرارهم، عندما يستشيروني في أمورهم، أحبائي وأفكاري الطيبون، لست شيطاناً، أنا منكم ولكم.

وجاءتني رسالة جديدة، ألم أقل أنني قديس هذه المدينة الطاهر، صديق طيب يريد لقائي، فلتأت، أنا "الاستثناء" يا صديقي، وهذه الغرفة متسعة للكل، الأصدقاء يدخلون، ويخرجون، هذا الصديق له فائدة، نعم، فائدة كبرى، سيساعدني على نشر رواياتي، سألعب دور الضحية هذه المرة، وأنا ماهر في تمثيل هذا الدور، إن خليل لا يقدر قيمتي، من المفروض أن يصنع لي تمثالاً من الذهب الخالص.

وجاء صديقي، مرحبا بك، أنظر، سأسميك "أستاذي"، أنا التلميذ هذه المرة، أنا أستاذك وأستاذ أبيك، وأستاذ الذين "خلفوك"، ولكني سأسميك "أستاذي" لا من باب الأدب والاحترام يا رجل، ولكن لأن لي مصلحة، ستجدني في قمة الأدب، لا، ستجدني الأدب نفسه.

- أهلاً بأستاذي الرائع.

إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار.

ولكني لا أؤمن بالجحيم، على الأقل الآن.

- كيف حالك أيها الروائي العبقري.

- الحمد لله.

الله؟

هل تؤمن به؟

هل تخافه؟

هل تحبه فعلاً؟

- كيف حالك أنت يا "أستاذي".

- بخير طالما أنت بخير ... اشتقت إلى حوارك الممتع، فطلبت المقابلة.

- هذا شرف لا استحقه.

استحقه "ونصف"، هذا شرف لك أنت أن تحظى بصداقتي، ولكن لي مصلحة.

- لا أريد أن أثقل عليك فوقتك ثمين لا ريب، رغم أني لا أشبع من حديثك الشيق.

وقتي ثمين طبعاً، ولكن إذا كنت ستساعدني في نشر أعمالي الأدبية الفذة، فلا مانع من إهدار بعض الوقت مع أمثالك.

- يا سيدي وقتي لا قيمة له بدون صحبة كصحبتكم.

-أنت قمة الأدب يا صديقي العزيز.

رغماً عن أنفك، شئت أم أبيت.

- لقد اتفقت مع دار للنشر حول كتاباتك الأدبية، واستطعت – بفضل الله- أن أحصل على موافقة بنشر بعض الأعمال على أن يتم نشر الباقي مع مرور الوقت.

- أشكرك على جهودك من أجلي .... لا استحق كل هذا .

- لا ... أنت تستحق أكثر من هذا ... أنت روائي من طراز نادر .. وأعمالك يجب أن تظهر للنور .

- أرجو خيراً.

- قل إن شاء الله .

تذكرت قصة لـ "حجا" قرأتها في صغري، محتواها أن حجا رفض أن يقول "إن شاء الله" ذات مرة متعللاً أن "قدر السمن" معه، والسوق موجود، وسيقوم ببيعه ويقبض الثمن، فما الحاجة إلى قولها؟ فبعد أن ذهب إلى السوق، انكسر القدر واختلط السمن بالتراب، فقلتها خوفاً أن تختلط إبداعاتي الأدبية هي الأخرى بالتراب.

قلتها خوفاً !

هل الخوف طريقُ للحب؟

يقولون أن رأس الحكمة مخافة الله.

لماذا العناد إذن ؟

وقال الصديق :

- أرجو أن ترسل لي في أقرب وقت نسخة من أعمالك حتى يتسنى لي عرضها عليهم .

ولكني نسيت.

فعلاً؟

أقسم.

إنه لنسيان عجيب.

نسيت أين أحتفظ بأعمالي، منذ زمن لم أذهب إلى بيتي.

بيتي؟

نعم، لدي بيت ككل الناس، ولي أب طيب كان ينصحني بقراءة الكتب المفيدة، ولي أم حنون، أنا لم أولد هنا في هذه المدينة، لدي مدينتي، ولدي أصدقائي القدامى – نعم لقد نسيتهم – ولكنهم جزء من تاريخي، ولكن أين احتفظ بكتاباتي، لقد نسيت، نعم نسيت.

- قل بسم الله وأنت تتذكر.

هل هذا الرجل ملاك؟

لا تمر لحظة دون أن يذكر الله، وكأن الله لن يرضى عليه إن لم يفعل.

ألا بذكر الله تطمئن القلوب؟

بسم الله.

وتذكرت بالفعل.

احتفظ بكتاباتي في درج مكتبي في غرفتي في بيتنا.

بيتنا.

آه، أذكر أنهم بنو أمامه بيتاً ضخماً ليحجب عنا الشمس.

لم أزره منذ زمن، هل نسيته؟

لا.

ووعدت الرجل أن أرسل له نسخة من أعمالي في أقرب وقت، وانصرف هادئاً مطمئناً قائلاً "قل لن يصيبنا إلا كتب الله لنا"، ثم سكت قليلاً، وأضاف " في حوارنا البسيط هذا يا صديقي ثمة أخطاء"، إذا استطعت أن تعرفها – وستعرفها - فأنت فعلاً عبقري، ونابغة.

وتركني.

* * *

 

الأخطاء

ثمة أخطاء في حوارنا!

أخطاء؟

أوه، الرجل ليس ملاكاً أبداً، الرجل عبقري، داهية، ماذا يقصد بـ "أخطاء"، هل هي أخطاء لغوية؟ مجازية؟ إن لم أستطع أن أعرف فأنا غبي، وسينتصر الرجل، توجد جملة اعتراضية هنا، كلمة واحدة (وستعرفها)، إذن هو واثق تماماً، هل هذا اختبار ذكاء؟ هيا أيها العبقري، اكتشف أخطاءك، أي حيرة تلك؟

أوف!

هل أرسل له لكي يوضح لي؟

وماذا بعد؟

لقد عجزت عن معرفة الأخطاء، لن أفعل ذلك، سأرهق نفسي في التفكير حتى أعرف، أنا أذكى منه بكل تأكيد، سأتحاشاه حتى أعرف، وسأعرف، لقد قالها بنفسه (وستعرفها).

حتما سأعرفها.

سأعصر ذهني وأدون كل حوارنا، وأفحصه بدقة، حرف حرف حتى أعثر عن تلك الأخطاء المزعومة، وإذا لم أعثر على أي أخطاء، سأقول له ذلك، ربما لا توجد أخطاء فعلاً والرجل فقط يريد أن يلهو بأعصابي قليلاً، لست دمية يا رجل، أن الذي ألهو بالدمى، لا أنت، لم يُخلق بعد من يصنع مني دمية، مدينتكم هذه مدينة سهلة الفهم، واضحة المعالم، لا غموض فيها، كلكم صفحات مكشوفة، أوراق بالية سهلة القراءة والتحليل، إذا كانت هوايتك يا سيدي أن تلهو بهدوء، فأنا مستعد لذلك ، فأنا من حوّل الهواية إلى احتراف، ليس معي، لا، اخترت خطأ، كش ملك.

وجاءتني رسالة من خليل، سأضحك رغم كل شيء، وسأستمتع رغم كل شيء، وسأعرض مهاراتي أكثر، وأكثر، انتظر أيها الذكي، ليس معي، فأحذر، ولكن ليس دورك الآن يا "أستاذي"، هذا وقت خليل، دميتي الصغيرة، عروستي القطنية، ماذا بكِ يا رسالة؟

صدق حدسي القناص، وأرسل خليل رسالة إلى "دودي" يطلب منها موعداً في الغرفة السحرية، الغبي شرب "المقلب"، استنجد بيّ، سأخرجه من الموقف بحيلة صغيرة جداً، ألم أقل أنه من غيري لا يساوي شيئاً، سأطلب منه في البداية أن يضع تمثالي في ساحة الاجتماعات، هل قلت "ساحة الاجتماعات"، ولم لا، نعم، واحد عند مدخل المدينة، والثاني في ساحة الاجتماعات، تمثالين؟ أنا استحق أكثر من ذلك.

ماذا قال "البغل" في رسالته؟

" أكاد أجن يا صديقي ... حدث أمر لا أفهمه... "دودي" أرسلت لي قائلة أنها تود التعرف عليّ عن قرب ... فراسلتها طالباً منها أن نتقابل في الغرفة لكي نتبادل الحديث ... ففوجئت بها تراسلني مرة أخرى قائلة أنني (...) سبتني يا صديقي ... سبتني ... وقالت أن هذه المدينة ماخور كبير، وأنها أخطأت عندما جاءت إلى هنا .... وأنني قواد ... أنا قواد ؟ أنا قواد يا صديقي ؟ هناك من يلعب في الرسائل، يوجد شيطان في المدينة يا صديقي .... يوجد شيطان يريد الوقيعة بيننا ... أنا أظنه المدعو سعيد؟ ... ساعدني ... أنت حارس المدينة "

لا.

أنا سيد المدينة.

وضحكت حتى كدت أموت.

أموت؟

لم تخطر ببالي من قبل هذه الفكرة.

الموت؟

متى أموت؟

هل أخاف الموت؟ هل أخشاه؟

لا أعرف، لا أعرف، لا أعرف.

لا وقت للتفكير الآن في شيء، لدي أمور هامة، أولها أن أرسل لخليل أطمئنه وأعرض عليه حيلتي الصغيرة الماكرة، وهي الاعتذار علناً في "ساحة الاجتماعات" إلى "دودي" قائلاً لها أن ثمة سوء تفاهم حدث، وأن أحدهم قد خرق قوانين المدينة، و"لعب" دون وجه حق في الرسائل، وأن هذا الشخص قد تم طرده نهائياً، وفي نفس الوقت سأعرض عليه "باسماً" فكرة التمثالين، وأنهي هذه القصة، لقد ضحكت، وانتشيت وتمتعت، وهذا يكفي.

الأمر الثاني، أن أصفي ذهني تماماً لأسترجع حواري مع صديقي "الذكي" لكي أبحث عن الأخطاء - وفي نفس الوقت أيضاً – سأرسل له رسالة موقعة باسم "دودي" إحدى نساء المدينة أيضاً، رسالة قصيرة مفادهاً أنها تعشقه "وذائبة في هواه"، سأجننه لبعض الوقت، سأشغل باله وتفكيره وكيانه كله، ألم أقل له احذر؟

أما الأمر الأخير فهو رسالة قصيرة كذلك لـ "دودي" أوضح لها أن أحدهم استغلها لكي يوقع بينها وبين خليل، وأن خليل برئ براءة الذئب.

ليس الوقت وقت مناقشة الموت.

الحياة أمتع وألذ .

* * *

 

لعبة

لا أخطاء.

أنا متأكد، لا أخطاء أبداً.

لنبدأ اللعبة، سأتقمص الآن دور "فوفو" يا "أستاذي اللغز الذكي" ، هل أنت مستعد للجنون؟ سأرسل لك كل يوم مائة رسالة .

لا.

الفكرة، نعم، الفكرة، الفكرة أنني الآن أريد أن أكون صادقاً، نعم والله، شعور يداهمني، سأنسي أمر الأخطاء، ليكن حديثنا حميمياً، وجهاً لوجه.

الآن.

نعم، الآن.

وسأحكي له عن الرقيقة.

تعال يا "أستاذي اللغز"، أنا منتظرك.

- مساء الخير ... لقد أضاءت غرفتي بتشريفك لها مرة أخرى يا "أستاذي".

- استغفر الله .. لا تقل هذا ، إنما أنا رجل بسيط ...كيف الحال والأحوال؟

- الحمد لله.

- لقد أحببتك والله يا صديقي، أحببتك ولم أعرفك بعد، أحببت شخصك لأنك إنسان، وارتحت لكلامك، أنا لا أجامل ولا أعرف المجاملة، هذه هي الحقيقة.

-أدام الله المودة بيننا.

- إن شاء الله.

لتكن الحقيقة فعلاً، ولكنك صادق هذه المرة، ولا عجب إنك لم تذكر الأخطاء، كلنا أذكياء، لا شك في ذلك، ولكني أكثركم ذكاءً، هذه هي الحقيقة.

- أحب امرأة هنا في المدينة، أسميها "الرقيقة".

هكذا ؟

بلا مقدمات.

لماذا تحكي "للغز" تحديداً، فاضل صديق جيد، وكذلك أيمن، كلهم جيدون، فلماذا تحكي لهذا الرجل بالتحديد؟

- أعرف، هذه قصة مشهورة ... المدينة كلها تعرفها.

- حقا؟

فخر جديد، الدهشة لا وجود لها هنا، قد حصلت على الكلام كاستثناء، أما الدهشة فلا، دعك من الأسئلة التافهة: كيف؟ ومتى؟

- كيف أخبارك مع الرقيقة؟

- لم أرها منذ أسبوع.

كاذب!

- الرقيقة هي كل حياتي، أتمنى لو نظل معاً إلى الأبد.

- ما أجمل عباراتك وهي تخرج من قلب أبيض.

- لدي سؤال.

- بكل صراحة لم أعرف الأخطاء .

ضحك.

نعم، الكل يجيد الضحك، والصدق هذه المرة يريح القلب جداً.

- لا تشغل بالك، ليس هذا ما أقصده، إنما سؤال آخر.

- تفضل.

- "شوقي" لم يأت إلى المدينة منذ فترة، ألا تعرف شيئاً عنه؟

شوقي؟

- شوقي؟ ياه، لقد مر دهر دون أن أراه، لقد نسيته تماماً، معي رقم هاتفه سأطمئن عليه.

ممنوع.

الكلام هنا ممنوع.

خارج أسوار المدينة يمكنك هذا، أما هنا، فلا، وألف لا، حتى ولو كان معك ألف استثناء.

فيمَ أفكر؟ وكيف أفكر؟ ولمَ أفكر؟

نعم، لمَ أفكر؟ كل حكاياتهم معي، كل تفاصيلهم، كل أسرارهم، لست محشوراً في فوهة زجاجة، أنا أطفو على السطح، أنا أرقص على الماء.

هناك أزمة تفاقمت بين "شوقي" و"غازي"، تذكرتها الآن فقط، ولكن "أستاذي اللغز" أخرجني من شرودي مرة أخرى:

- الحقيقة دائماً مُرة، أينما كنا وأينما حللنا، لكن عندما ترى الناس متحابين متوادين، ترى الأمل في المستقبل، لحظتها نعود ونستبشر خيراً.

- فعلاً.

قلتها بصدق، أشعر أن هذا الرجل قدر جاء ليهديني.

ارتحت له فعلاً، تابعت حديثه باهتمام، هل حقاً هو "أستاذي"، لا، أنا الأستاذ الوحيد هنا، ولكن هذا لا يمنع أن أستفيد، والحذر واجب ومطلوب.

- مرة كنت في سفر، وفجأة تعبت، فأنزلني السائق وأدخلني إحدى المقاهي لكي أستريح قليلاً، كل من كان في المقهى التفوا حولي "مالك يا أستاذ؟"، "هل نخبر طوارئ المستشفى؟"، "كيف الحال الآن؟" ، "هل تحسنت قليلاً؟" ، كم كانت سعادتي عندما وجدت الناس متحابين متكاتفين من أجلي، وأنا الغريب عنهم، هذا المشهد يتكرر دائماً، الدنيا ما زالت بخير.

لماذا جاء الرجل إلى هذه المدينة؟ هذه المدينة ليست الجنة، ولا حتى تشبهها، أرى نقاءً غريباً يفوح منه كريح طيبة.

ولكن فيم أفكر؟ ولم أفكر؟ رغم كل شيء هو أيضاً دمية بالنسبة إليً، وسألهو به متى يحلو ليّ ذلك، هذه الطمأنينة القادمة من عينيه لا تخيل عليّ، أنا أعرفكم أيها الماكرون، كلكم تلعبون دور الضحية، وأنا سيدهم هنا، أستاذكم جميعاً، جئت إلى هنا بمحض إرادتي، عرفتكم جميعاً، حللتكم، دونتكم في مفكرتي، استخدمتكم كآلات تئن وتنتج من أجلي، فقط، من أجلي.

- جئت إلى هنا منذ فترة طويلة، أظنك لم تكن قد جئت بعد؟

"التاريخ" يسرد تاريخاً مهما، عليً الإصغاء جيداً، أكمل يا "لغزي" الرائع:

- كنا قليلين، ثلاثون على ما أذكر، كنا مترابطين، وكنا قريبين جداً من بعضنا، كانت صناديق البريد تكاد تصرخ من الود، رسائل تغدو ورسائل تأتي، ألسنتنا كانت ملغية وصامتة ولكن قلوبنا كانت مشتعلة بالحب، كانت "ياسمينة" هنا، و"أرسلان" و"عبد الله"، و"هادية" خطيبتي، وغيرهم، بعضهم رحل بعد فترة قصيرة، وآخرين ظلوا لبعض الوقت ثم رحلوا أيضاً، ولم يبق من الحرس القديم إلا "خليل" وسارة"، حتى أنا رحلت، ثم عدت، لم أطل الانتظار في الخارج، صرت أعتبر نفسي جزءاً من هذا المكان، ولما عدت كان "خليل" و "سارة" قد صارا مشرفين مسئولين، بصراحة هم أجدرنا جميعاً بهذا، كنت أراهم في السابق شعلة من النشاط والحيوية، والحق يقال، لقد ساهموا كثيراً في تطوير المدينة والرقي بها، أنظر اليوم، عدد الوافدين إلينا يزداد كل يوم.

إذا كنت تاريخاً، فأنا أيضاً تاريخ، وإذاً كنت معتزاً بأنك من الحرس القديم، فأنا أيضاً معتز بأني الرجل الأكثر صيتاً وشهرة هنا، ليَ عشرات الميزات، وإذا كنت تدعي أن "خليل" و "سارة" قد طوروا المدينة للأفضل، فأنا ليّ الفضل الأكبر في ذلك التطوير، أنا جندي هذه المدينة المجهول، كل فكرة جديدة هنا كنت أنا صاحبها، كل اقتراح، كل أمنية، كل حلم، كل الحكايات والأسرار والتفاصيل والخبايا، كل شيء هنا مدون في ذاكرتي، لا تغضب مني يا "عمي" فهذه الحقيقة، والحقيقة دائماً مُرة أينما حللنا كما تقول، كلهم أصدقائي، وكلهم "دماي"، كلهم أحبائي، لذتي الحقيقية، زهوي ويقيني الوحيد.

وحكي لي عن "هادية" وكيف أنه يعتبرها "الإنسانة" التي ساقها له ربه ليكمل معها نصف دينه، وحكي لي تفاصيل القصة – كلهم يحكون ليّ تفاصيل القصة- حكي ليّ عن اللقاء الذي جمعه بأهلها وكيف أنهم استقبلوه بترحيب مبالغ فيه، وحكي لي عن طيبتهم وكرمهم وحسن أخلاقهم، إن هذا الرجل كنز، لا ريب أنه كنز، يعرف كيف يبدأ وكيف ينتهي.

الحب هنا رخيص جداً، مجاني تقريباً، بلا ثمن ربما، وهذه ميزة أخرى هنا، اللذة هنا رائعة، مجانية، ولكن عليك فقط أن تعرف كيف تبدأها وكيف تنهيها، إنها تحتاج لمهارة، لسنا قردة، نحن بشر، ولكننا نتقن فن الوثب والتسلق جيداً، وتلك مهارة مقصودة، إن العالم إذا لم يتقن ذلك الفن، حتماً سيخسر كثيراً.

خلاص، ما عاد "أستاذي" لغزاً، إن الحب يفضح الألغاز، إنه يحكي عن حبيبته بلذة ذات مهارة وفن، يقول أنه سيسافر لبعض الوقت، ثم يعود لإتمام الزفاف، وكم سيكون ذلك رائعاً، سيكون زفافهم أول حفل يقام هنا، نعم هنا، في مدينة لا تعترف بالكلام حتى في حضرة وجود "اللسان".

ولا يمر الوقت هكذا عندي، دون اختلاق قصة، دون تأليف قصة، دون ابتكار قصة، لقد جرني الرجل إلى الصدق جراً، ألم أقل أنه قدر جاء ليهديني؟ ولكني لست معتاداً على هذا الصدق، عفواً، لا أجد لذة فيه، لذا فقد انحدرت به إلى وادٍ عميق، وبحيرة ذات ماء ينساب تحت أقدامنا، ماء عذب يروي ويغذي، ولأني أعشق عسل"الرقيقة" جعلتها ذلك التيار الذي لا أسبح ضده أبداً، وحكوت له عنها، عن عسلها، وكنت أحكي وكان يسمع، وفي كل لحظة كنت أتخيله يقرأ "جلدي"، وكأنه يسألني "هل عدلت عن قرارك بشأن الرسائل المائة ؟ هل نسيت "فوفو"؟.

* * *

 

مقارنة

لم أنس حياتي الفائتة قبل انتقالي إلى هنا، هناك حياة، كأي حياة، درست الأدب في إحدى الجامعات، ومارست عملاً عادياً في أماكن عديدة، وكان ليّ أصدقاء جيدون، وآخرون تافهون، وكانت لدي أحلام كبيرة، قالوا عني أن خيالي يشطح للبعيد، كانوا يسمونني في وطني تارة بـ "الناي الحزين" وأخرى بـ "العصفور المهاجر"، ولم أكن أحب هذه الألقاب أبداً، كنت اعتبرها تقليدية في اللفظ والمعنى كأن تشبه الجبل بالجبل، حياة كأي حياة، وكانت لدي محاولات لكتابة الشعر، كتبت كثيراً، عشرات الأوراق، خضت المعارك الذهنية من أجل اللاشيء، وجربت كل شيء، طفت الشوارع والأزقة، أكلت وشربت ونمت، حياة كأي حياة، كذبت كثيراً، ونافقت أيضاً، تسلقت جدراني وهبطت، أقمت علاقات عديدة، وتكلمت كثيراً حتى زهدت الكلام، حياة كأي حياة، حلمت وربحت وخسرت، اعتنقت الكثير من المذاهب وانتميت إلى العديد إلى المدارس، آمنت بالنظريات والفلسفات، وكفرت بها، طبقت القوانين خوفاً ورجاء، بكيت وصليت وخشعت، خفت كثيراً، حياة كأي حياة، لم أنس هذا كله، وأيضاً لم أذكره كله، نسيت الكثير وقلت الكثير، إن حياتي أشبه بخارطة مجهولة المعالم، جغرافيا ميتة، أو منسية، وماذا بعد؟

جئت إلى هنا، مشياً، أو في رسالة، طائر له حرية الطيران والتحليق، حصاة في تل مليء بالحصى، قطرة ندى على ورقة شجر، أنا بشر أم موسيقى؟ هل أنا حزين؟ وما الحزن؟ هل هو ثلج؟ وما التعبير؟ وما الكلمات؟ وما اللغة؟ ومتى تأتينا الإجابات واضحة ومقنعة دون الحاجة إلى أسئلة تسبقها؟ قلت هذا كله من قبل، إني أفتش الآن عن قاعدة، قانون لا يعتبر لغة الإشارة كلاماً، إني أبحث الآن عن منهج لا إلى تطبيقه في الظاهر، كل المناهج والمذاهب والاعتقادات لها نفس القيود، كما تشترك كل الجراح في خاصية النزيف.

مضيت أحمل ألمي معي، في جيبي، وفي قلبي، اللذة لا تقتل الألم أبداً، لا، إنها تربيه وتسمنه، تعلفه وتكبره، تضخمه، ليستفحل ويصير صعب الترويض، الألم ليس قطاً مستأنساً، إنه نمر، ينقض ويأكل ويشبع، ثم يهدأ ويستريح، ويستحيل إلى حزن كالجليد.

لا يجيء الكل إلى هنا هروباً، كما لا يجيء الكل طلباً للذة، وإذا اعتبرنا أن الهروب محطة من محطات اللذة فتلك مرحلة بدائية ومضت، وهذه سنة الحياة، وهل أصابعك متشابهة؟ كلا، قليلون هم من يرتبون حياتهم وينظمونها، وأنا لست واحداً منهم، هل الحياة كائن خرافي يبيض بشراً؟

إني لا أقارن بيني وبينهم، إني ضئيل بحجم الكف، ولغتي خجولة طيبة، وسطوري قليلة، تكفي بالكاد كعشاء متواضع.

فحين أبدأ الكلام عن الآخر، تدخل ملامحي دون رغبة مني في مقارنتي، فأجدها موغلة في التعبير والوصف والإيضاح، وحين يبدأ الأخر بالكلام دائما أشعر بالقلق، يرعبني هذا المنعطف، كل التفاصيل تأتيني كتلة واحدة - تفاصيلي أنا أيضاً - وتتبخر الجمل التلقائية في الهواء، وأجد بدلاً منها جملاً أخرى هشة، عاجزة، ضعيفة البنية والتركيب.

  • قبل، كنت أعتقد أن المقارنة عملية سهلة، كلام مخلوط بكلام، أصبه على الورق ثم أرسله إلى المعنيين بذلك، وأخذ مقابل ذلك أجراً، وفي بعض الأحيان قد لا أتقاضى مقابل ذلك السرد سوى الاحتفاظ بمسوداتي باعتبار أن ملء الصفحات في حد ذاته يعتبر أجراً لمهنة "المقارنة".

وإني لأجزم أنه لو أردنا أن نعقد مقارنة ما، سنصبح كمن يقارن بين حقيقة علمية وقول مأثور، وعلينا تصديق أحدهم، إذ أننا لا يمكن – وهذا اعتقاد كذلك – أن نصدق طرفي المواجهة/المقارنة كفرع واحد متحد ومتجانس، فإما أن نصدق "أن الأشياء المتشابهة تتنافر"، أو نؤمن بأن "الطيور على أشكالها تقع".

وبما أننا موجودون !

وبما أن الأشياء عديدة وكثيرة وموجودة أيضاً، وبما أن هناك آلاف الاختراعات، فأنا هنا الآن أمام ابتكار جديد، لا أفكر أبداً في معنى الحياة، ولكن صندوق البريد وظيفته استقبال الرسائل، والليل طويل أو قصير، لا يهم، المهم أنني الآن أمام انتظار وقح لبعض الكلمات الآتية من داخلي لتتكور على المنضدة، إن قناعاتي الشخصية الروتينية بأن كل شيء ساكن ومتحرك، وأن كل شيء جامد وليّن، تلك الأهواء والأغوار لا تمد يدها إليّ إلا إذا كانت ذات موسيقى خاصة.

 

حقيبة بلون الفقر الوردي اللامع!

لا أتبادل الأدوار الآن معي، ليس هناك ما يدعوني لذلك، غير أن للدفء وهج خاص، دفء العيون الباكيات في شتاء الأرض، في شقاء الأرض، قد نكون في حلم، وقد نكون غرباء، ولكن ثلاثية عملية الاتصال علمتنا أن هناك مرسل ومستقبل، ورسالة!

يا للحماسة! رسالة.

ولا يهمنا كثيراً الترتيب، فقد أكون المرسل أو المستقبل، وبديهي أن اعترف: قد أكونهما معاً، ومنطقي أيضاً أن أكون الرسالة نفسها، هذه حدود المقارنة/المواجهة، لعنة التجريد أو لغته، كأن ترنو إلى ما لا نهاية، رغم وجود الحد الفاصل، حد العلم بالأشياء من باب العلم بالأشياء، حدود "المنطق"، كالنهر المليء بـ "الأتربة السمكية".

لمن الرسالة؟ وما مضمونها؟ ومن كتبها؟ أنا من يكتبها، أنا من كتبها ثم نام، ألم أقل أننا في حلم؟ ما الفائدة من رتق ملابس ممزقة؟ إن صندوق البريد شرير، نغم شرير، تقفز الحروف داخله، تثب، نعم بكل طمأنينة تدور الحروف، وتثب وتقفز.

إن الفلسفة امرأة زنجية تسكن بيتاً من طين ورماد، حكوا ليَ عنها كثيراً، قالوا أنها كانت تعشق كل رجال الدنيا، وأنها كانت تمنح جسدها لأي أحد دون مقابل، قالوا أنها كانت تسعد عندما ترى الرجال سعداء، وتحزن لحزنهم، وقالوا أنها لما ماتت بكى عليها كل رجال الأرض.

وفي طفولتي كنت فاشلاً، وكان "أمين" – زميلي في المدرسة والفصل والمقعد – يجيد إحكام غلق الشنطة، كي لا تتسرب إلى أنفي رائحة اللحم المشوي .

رائحة اللحم المشوي كانت نفاذة كالحنين، رائحة اللحم المشوي لم تكن بحثاً مستمراً عن منهج، كانت واضحة، ظاهرة، جلية، واضحة كالرسالة، كالفلسفة الزنجية، كصندوق البريد الشرير.

كتبت الرسالة وذهبت للنوم، وعادة ما يؤرق المرسل أن لا تصل رسالته في الوقت المناسب – وقته الذي يراه مناسباً- ولا يعنيه كثيراً محتوى الرسالة بقدر ما يهمه أن تصل، أنت الآن قد تفكر في المعاني والمفردات، وقد تكون صامتاً، وقد تخرج بعد قليل إلى "ساحة الاجتماعات" لتعرف أهمية ما تكتب، لتقيس المسافة وتحددها، ولكن أهمية الأشياء لا تقاس بقربها أو بعدها، إنها تقاس بالنظرة، ذلك السهم الذي لا يخطأ، ستصل الرسالة إذن، ذلك لأن المرسل تعود أن ينهيها بعبارة "تصبح على خير"، وذاك إدراك مكتسب إذ أنه حدد "المسافة الوقتية" على الورق بدءً وختاماً، منذ اللحظة الفعلية لكتابة رسالته، وحتى انتهاء القراءة، لقد ذيّل رسالته بعبارة مفتوحة من الجانبين دون أن يطويها ويسجنها داخل غرفة ضيقة، واثقاً في رحابة صندوق بريده.

 

دعاء

الذاكرة والتاريخ ، كلاهما خطأي.

أحياناً أشك أن ما حدث كله لم يكن إلا صداعاً مرهقاً وانتهى، صداع يخصني وحدي، ما هي الذكريات؟ هل هي فرع من شجرة العمر؟ وبأي مقياس نقيس هذه الشجرة؟ إن الحب رائع رغم كل شيء، نعم، إنه لرائع فعلاً، إنه الروعة نفسها إن لم أبالغ، وأنا دائماً أبالغ، ألم أقل أن "الرقيقة" رقيقة، للسخرية، يا لغبائي، لماذا كل شيء في هذه المدينة صار يدل على غبائي؟

قلت لها يوماً أن "أسامينا" فقط هي التي تبقى لنا، كل شيء يتغير، حتى الملامح تتغير، حتى الجدران ولون الجدران، وقلت لها يوماً أن ضحكتها ألذ من الشهد فدعت ليّ بطول العمر، هل كانت تدعو لي هذا الدعاء خصيصاً لأتعذب أكثر؟

معها، لم اخترع لغة جديدة، ولكني طورت اللغة، أنا آسف جداً أيتها العزيزة، لم أقصد أن أرسل لك حبي، كنت فقط سأضغط على صفحة قلبي لأني متعود أن أقرأ ماضيّ وحدي، ولكني بطريق الخطأ – كل شيء تقريباً يحدث بطريق الخطأ- ولكني بطريق الخطأ، ولكني، ولكني، ولكني بطريق الخطأ ضغطت على قلبي بعنف، بلذة، ضغطت عليه فنز، نز إرهاقاً، لا، ذاكرتي وتاريخي لم يكونا أبداً مجرد صداع وانتهى، إني أحاول تفسير علاقة الماء بالماء، من خلال مقارنة الأشياء السائلة، كأن أقارن بين قطرات الدماء السائلة من قلبي، وبين حبات العرق على جبهات المؤرخين، إن توقيت المقارنة مهماً من وجهة نظري، من المحتمل وجود عدة فروق، فمجيء الذكريات في ساعة الظهيرة ليس كمجيئها عندما تفتح عينيك في الصباح لاستقبال يوم جديد.

كانت الأفكار تراودني وأنا أرمق قبري المفتوح بخوف، وخيّل إليّ أن ثمة قبر كهذا في ذاكرتي، قبر أدفن فيها أشيائي وذاكرتي وتاريخي وماضيّ وصداعي، نعم، قبر في ذاكرتي أدفن فيه ذاكرتي، عملية دفن الذاكرة تحتاج إلى قبر في الذاكرة، مكان ما صغير - في ركن ما صغير - أدفن فيه الذاكرة والذكريات، أحسست ببعض الراحة لهذا الاعتقاد، تنهدت براحة لم أشعر بها منذ فترة طويلة، ولكني ما زلت مرعوباً، ماذا لو كان هذا القبر الصغير في الذاكرة ما زال مفتوحاً؟!

- خليل جوربي القديم.

هكذا قلت لها، هذا الخليل، متى أقتله؟

قال لها أنه يشك أني ألهو.

فاحذري.

قلت لها "لا تغضبي" فقالت "أشعر بالخجل" ، لا، خليل كجوربي لا تقلقي، فضحكت.

أنا أكبر من أن أفعل هذا، أليس كذلك؟ أنا أكبر من ألهو، أليس كذلك، إني أحب، هذه المرة أنا أحب، وماذا كنت أفعل قبلاً؟ هل كنت اكره؟ لا، لا تغضبوا مني جميعاً، أخطأت في فهمكم، العيب عيبي، الرقعة رقعتي، يا أحبائي الكرام، إذا كنت أتكلم الآن عنكم فهذا تاريخ مشوه، وليس الذنب ذنبي أقسم لكم، ليتكم تقولون لي أنكم غاضبون، غضبكم لا يهمني، ولكني أريد أن أعرف، هل أنتم غاضبون؟

ويا ليتك يا رقيقتي تخبري خليل أني غاضب، غضبي يهمني، شفهي نعم، ولكنه يهمني، وخلاص "حصل خير" ، ولا وقت عندنا للخجل.

وطلبت منها أن ليّ شعراً، أن تكتب فيّ شعراً، هل أبكي الآن؟ لا، أنا فقط أفكر، هل أعيش في الذكريات؟ هل أعيش مع الذكريات؟ لا، إن الذكريات كالديدان تتغذى على دمي ، هي التي تعيش فيّ وتعيش معي، من أراد أن يتطهر فليتطهر مرة واحدة، ومن أراد أن يتوقف عن الكتابة نهائياً فليفعل، ومن أراد أن يغضب أو يفرح أو يحزن فليفعل، لا أحد يهمني، لا شيء يهمني، العالم كله بصخوره ومبادئه لا يهمني، أنا أستحق أن يُكتب فيّ شعراً، أن يُكتب ليّ شعراً، وهذه البلهاء ليست أكبر طموحي وجموحي، قالت "سلام" ، فقلت"سلام".

وقلت.

قلت أن الصفاء في حضورها يوقف نزيف الزمن، وقلت أن صوتها أعذب من ضحكتها وأن ضحكتها أشهى من صوتها، وشكرتها كثيراً، فقالت أن لا شكر على واجب.

هل العالم يدور؟ إلى أين أنا متجه؟ هل أنا غطاء على فراغ؟ أني أتذكر، نعم، أتذكر، في الحجرة الشرقية – في بيتنا – نعم في بيتنا الذي بنو أمامه صرحاً ضخماً ليحجب عنا الشمس- في بيتنا منذ سنين عديدة كانت أرقد في طمأنينة على الأرض، وكانت أتلوى من البرد، وكنت أصرخ، لم أكن رضيعاً أبداً، ولكني كنت أصرخ كالرُضع، إلى أين أنا متجه؟ كنت ضئيلاً بحجم الكف، وفي حجرتنا الشرقية من البيت كنت أسمع بوضوح نداء عبد الفتاح وهو يوقظ أبي لصلاة الفجر.

هل كنت مدفوعاً بقوى جبارة؟ قوى الكلمات، قوى التعبير الصامت دون أدنى محاولة مني – وقتها- أن أتحرك ولو حركة واحدة تجاه الهدف المرسوم .

من رسمه؟

من وضعه؟

هذه هي آفة الكلمات، الكلمات لا تعرف معناها، إنها تعيش مجردة، تتحرك طبقاً لآلية من يكتب بها، تتحرك نحو حائط اللغة المتينة باتجاه درج السلم المتين، وقلت لها أيضاً، قلت أن اللغة في فمها لها طعم مختلف، لم اخترعها ولكني طورتها، وسألتني عن"سارة"، وقالت أنها من أفضل الصديقات لديها.

ولدي أيضاً.

ولكني أندهش لماذا سارة تدخن؟ وهل يعلم خليل أنها تدخن؟ يا صاحبة القلب الكبير، أنتِ إنسانة محترمة جداً، يا رقيقتي أنتِ أغلى الغاليين وأعز ناسي، برجك العقرب وكذلك أنا، أكبرك بتسعة أيام فقط، وتاريخ ميلادكِ ما زلت أذكره، وأنتِ كذلك لم تنس تاريخي.

تاريخي وذاكرتي، وجهان تعكسهما مرايا الأيام مقلوبة، تنام العصافير على فروع شجرتهما وأبقى أنا وحيداً أفكر، أشعلت سيجارتي بتأفف، وأفكر، كنت أعلم أنها غاضبة مني، نفس الأهداب ونفس الشحوب, ونفس إغماضة العين الحزينة، قرأت قصتي المكتوبة بخط رديء، ومسحت بها عرقها المشتهى.

لم أغضب – أيضاً - ربما لأن الغضب من آلياتي الشفهية، وأنا لا يهمني الشفهي بقدر ما يؤرقني المكتوب، ولكنها عادت تحمل كمية كبيرة من الأوراق البيضاء، شعرت بحزن مفاجئ يضاهي اشتهائها المفزع، ويمتد بمحاذاة فخذي المنضدة التي تفصل بيننا، وكأن ثمة علاقة مشتركة بينهن، فهي تحمل الورق الأبيض، لكي أكتب قصص أخرى، فلا بد أن تمسح الأمهات جبهات بناتهن الصغيرات.

أنتِ أحلى النساء، لا، ولكنها عيوني، لست كل النساء ولكنها عيوني، هذا أنا، مستقبلي معكِ، هل كنت أكذب؟ لكل لعبة قطعاً قوانين تقحم نفسها دون إذن من أحد، هكذا قلت، ولكنها قالت أن الحب قانون مشترك، وكلانا يحب الأخر، وقالت أن هذه هي الحياة.

وقالت أن الحب إحساس غامض، هل أنا الذي قلت، هل صرنا متحدين؟ هل صرنا "مفرد"؟ إنه مبهم وغير مفهوم، فضحكت، وقالت أشكرك.

؟؟

هل تفهم ما أقول هذه البلهاء؟ استفزي لغتي، أرجوكِ، هذه الطيبة تخيفني، هذه الرقة تجعلني أصدق القول والفعل، ولست معتاداً على ذلك، لا، لستم كلكم قدراً جاء ليهديني، براءتكم هذه لا أقتنع بها، لا أستسيغها، لا تدخلني، ولن أقول أنني لا أصدقها، فقد بدأت أصدق، يا للعجب.

ومرة دخلت " ساحة الاجتماعات" ومعي وردة، كنت وحيداً، رأيت الكُتاب والكاتبات، كنت أود أن أقدم شكراً لكم جميعاً، لقد وقفتم بجانبي، كما أود أن أقدم شكراً خاصاً لنفسي، وشكراً خاصاً لخليل وسارة، كما كنت أود أن أقدم شكراً أيضاً للآنسة المحترمة والفاضلة الآنسة دعاء لوقوفها بجواري وإعلانها على الملأ وأمام الجميع أنها تعتز بصداقتي، ولكم مني كل الحب والتقدير والاحترام والمودة، وأنا عائد إليكم لأني بدونكم لا شيء، فأنتم أنا، وأنا منكم يا عصافير الكناري.

استريحوا قليلاً من عناء السفر، أنا الذي عدت ولكنكم تحتاجون إلى الراحة، إن "الرقيقة" أحبت مرتين من قبل، دعاء لم تكن هنا أبداً فكيف لي أن أقدم لها شكراً، هل أخطأ ثانية؟ لا، أنا منتبه هذه المرة جداً، لا أحلم ولا أهذي، في رعاية الله يا رقيقتي، أحبكِ.

وكنت أحمل أجمل وردة لأجمل رقيقة، لأحلى رقيقة، صرت أعشقها، هل يتغير الإنسان؟ نعم، من الممكن أن يتغير الإنسان، نعم هذه حقيقة، ولكن الأحزان تلبد في الرأس كما تلبد الحشرة على ظهر الكلب، من قبل كان الحزن مرسوماً على جدران الغرفة الشرقية، قضيت فيها سنوات طويلة، وكتبت على صفحاتها آلامي، كتب كل شيء، لم أترك شيئاً لم أدونه، حديث الجارة مع زوجها، صراخ الطفل، صوت الراديو، صوت الماء، من قبل كنت عادياً، وكانت الدنيا في بدايتها، وكانت الأيام تسير ببطء، رتيبة، رتيبة كالحب.

ولكن الرقيقة أحبت مرتين من قبل!

* * *

 

شهد وورد

- لا يهمك ، اطمئني، ولكن الكلام معك له طعم مختلف.

نعم، طعم خاص، عذوبة مقلية في زيت اللذة.

- سأعود مرة أخرى، ألهذا الحد تحبني فعلاً؟

نعم أحبها فعلاً إلى هذا الحد، هذه درجة في المنتصف، إن درج السلم متين لن تسقط، اطمئن، اهدأ واسترح.

- هذه الحياة، أجيء وأمشي، مالك؟

-لا شيء.

ولكني أشعر بالدفء معها، متى أشبع منها وأنسى؟ وهل شبعت من دعاء؟ لا، ولكنك نسيتها؟ كرهتها وشبعت.

- هذه الوردة لكِ.

وهذه الشجرة لك.

وسألتني باسمة لماذا قطفت الوردة؟ دعها تعيش.

ووصفتها"بالمسكينة".

رقيقتي وصفت الوردة بـ "المسكينة"، رقيقتي ستروي الوردة بحنانها، لن تذبل الوردة ولن تموت، كل الورود لكِ، خذيها، لا تهيني يدي.

الوردة تضحك الآن، الوردة تهدي لي وردة وتقول أنها تحب كل الورود، هل صارا متحدين؟ هل صارا "مفرد"؟ هذه الوردة ليَ؟

نعم، سأحتفظ بها في قلبي، وردتك غالية ، وأنتِ أجمل شيء في حياتي، وهذه وردة أخرى، وأنتِ أجمل شيء في حياتي، والدنيا ما زالت بخير، الدنيا طيبة والناس طيبون، ودعائك لي بالسلامة وطول العمر يخرج من فمك العذب كأنه مناجاة، كل الورود ليَ، وهذا الشهد على شفتيكِ متى يطفئ ناري؟

هذا كثير عليّ، لا استحق كل هذا، ورد وشهد وشعر، لا، أنا أستحق كل هذا، كل هذا وأكثر، أستحق كل الورود وكل الضحكات الجميلة، أستحق الحب إذا كنت صادقاً فيه، وأستحق الحنان إذا كنت طالباً له بأدب، وغدا أموت وينتهي كل شيء، فهل يا رب ستمنحني الرحمة غداً؟

هذه الحياة، أجيء وأمشي، مالك؟

كان من الممكن أن أعيش حياة أخرى غير هذه، أن أرسل رسالة أخرى غير هذه، ولكن هذه الحياة، مالك؟

وجاءت لك مرة أخرى، مالك؟

- سارة ما زالت منزعجة .

نسيت واجبي هنا! آسف خليل، ليس واجباً، وليست وظيفة، ولكني آسف على كل حال، لقد نسيت كل شيء هنا إلا تلك البلهاء.

هل أحبها حقاً؟ بأي أسلوب؟ سارة ما زالت منزعجة؟ أنا أعرف السبب قطعاً، نعم، أعرفه ولكني لا أذكره، والمعرفة ليست ضداً للنسيان، لا، ليسوا أبداً في مركب واحد، ولكن سارة منزعجة.

- سارة تقول أن المدينة في الفترة الأخيرة صارت.......

مرتعا ً للعشاق ؟

أكمليها، أكملي الجملة، صارت المدينة ماخوراً للهوى، صح؟ عجيب أمرهما، وهل هذا عيب؟ حرام؟

حرام ؟!

لا تقترب من هذه الكلمة، أنصحك، على الأقل الآن.

- سارة تقول أن قصص "الغرام" انتشرت هنا كالوباء .

صمتت لحظة ثم أضافت مبتسمة:

- أنا وأنت ، "أيمن وجليلة" ....

أكلمت، أنا أعرفهم أكثر منكِ يا "بلاهتي" :

- "فاضل وماريا" ، "غالية وصديق" ، "أستاذي اللغز وهادية " وأيضاً، وأيضاً، وأيضاً.

إبراهيم وهدى.

لا، هدى ليست هنا، هدى ودعاء أبداً لم يولدا هنا، لم يقتربا من هنا، لم يكونوا هنا، لا، إنهما يا عزيزتي بيضتان لرخ.

لا، من أراد أن يتطهر فليتطهر الآن، إبراهيم انتحر في غرفته اعتراضاً على رسالة من خليل مفادها أنه قرر أن يجازيه بأن يدفع مبلغاً من المال لخزانة المدينة لأنه استخدم هاتفه، "لقد تكلم يا صديقي واخترق القوانين... هذا أقل ما يمكن فعله، (الإدارة) كانت ستطرده ولكنها اكتفت بالغرامة... تمتع أنت ولا تشغل بالك، إبراهيم لا يهم أحداً في شي".

انتحر إبراهيم وهاتفه من قبله، فلتحترق القوانين، "أقل ما يمكن فعله"، هراء، سأقتل هذه المدينة يوماً، وما هو أكثر ما يمكن فعله، هل كنت ستسجنه؟

مدينتا لا سجون فيها، أشد عقوباتها الطرد، فلنطرد منها جميعاً هذه المدينة، ليست وطننا أبداً، لن نترك الجنة إذا طردنا منها، ولكن ما الذي يشدنا إليها غير أنها مدينة، مدينة ما.

لدينا أوطاننا، مدننا الحقيقية، لماذا هجرناها وجئنا إلى هنا؟ لا أتحدث عنكم، صدقوني، إنما أتحدث عن أناس آخرين، لستم المعنيين بهذا التأويل، وأنا متأكد، متيقن، ومتيقظ، ألم أقل أني أكثركم وعياً، أكثركم دراية بخبايا الوعي؟

سارة تقول، سارة لم تقل شيئاً، وتلك البلهاء بليدة، لذتها لذة بليدة، أنفاسها بليدة، كلامها – المستثنى - لا عمق فيه، لقد طورت لغتي لأجلها، ولكنها انحدرت بيّ، أعطتني وردة فقط، حتى شِعرها برئ ، وأنا لا احترم البراءة.

البراءة سخافة.

سارة لم تقل، لم تتكلم، لسانها لا يعرف إلا طعم التدخين في الخفاء، هل خليل يعرف أنها تدخن؟ كانت دعاء تدخن أيضاً وكنت أعرف، إن الدماء التي تجري في عروقكِ يا رقيقتي ماء ورد فلا تلوثيه بالدخان.

دعاء كانت جريئة، كانت تدخن أمامي دون خجل؟ وكانت تعلم أنني كنت أشتهيها عندما تدخن؟ دعاء كانت جريئة جداً، ولكني لا احترم الجرأة أيضاً.

هل الحب ممنوع هنا كالكلام؟ لا إنه مجاني، بلا ثمن تقريباً.

دعكِ من سارة يا رقيقتي وأنظري ماذا كتبت لكِ، كتبت لكِ شعراً ، كتبت عنكِ شعراً، الحب ليس ممنوعاً هنا أبداً، سأطلب من خليل أن يعمم استثناء الكلام، لا أطلب منه تغيير القوانين، تلك القوانين التي اكتفت بالغرامة فقط، لا أطلب منه ذلك، ولكني سأجبره على تغييرها.

- هل تميل إلى الوحدة مثلي؟ سامحني لأني لا أتكلم كثيراً.

الصمت أحلى .

أشهى.

ولكني أحب الكلام، وإلا ما اتخذته استثناءً ، ومن ثم قاعدة، لم أجد قانوناً يحدد مسئولية اللسان ويعتبر لغة الإشارة كلاماً، سأجرح كبرياءه بالتأكيد، وأنا ما تعودت على ذلك.

- تعرف، اللغة هي السبب في معاناتي.

ماذا تقول البلهاء ؟

معاناة ؟ لغة؟

أفصحي .

ضحكت، وقالت أنها تقصد أن تريد أن تتعلم لغتي، كي لا تجد معاناة في فهمي.

" لا أفهمك ، صرت لا أفهمك " قوليها أنتِ الأخرى وانتهى الأمر، هل أتحدث لغة غريبة؟ بالعكس طوعتها لأجلكِ، أنا مفهوم لكل الناس، كل الذين عاصروني يا رقيقتي يعرفون أني مفهوم وواضح جداً، حتى دعاء كانت تفهمني، لغتي خجولة أقسم لكم، خجولة جداً، لم أتحدث غير لغة واحدة، لهجة واحدة، قلت من قبل أن الخطأ خطأي وليس من حقي أن أحملكم خطأي، ولكنكم تصرون على أن لغة الكره سهلة وبسيطة، فلماذا لا تتحدثها؟

ولكنكم تغضبون عندما أكره، هل أكون سهلاً عندما أكره؟ هل تجدون حقاً معاناة في لغتي؟ هل أخطأ التعبير أحياناً؟ هل أخطأ الوصف؟ يا حبيباتي الطيبات، لا أنكر أن لغة "كرهي" قد تكون مفهومة لديكم، ولكنها مؤلمة لديّ.

وألمي قطعاً لا يسعدكم، كونوا كالفلسفة الزنجية يا حبيباتي، تسعدون عندما ترون تروني سعيداً، وتحزنون لحزني، كونوا شهداً وورداً، كونوا حبيباتي، لا يهم ما تقوله سارة.

لا يهمكم أبداً ما تقوله سارة، سارة تتقاضى أجراً مقابل المسئولية، سارة ليست منزعجة، سارة تتقن دورها، تلعبه باحتراف، ليست مثلي طبعاً، ولكنها متميزة بالفعل، تقوم بواجبها، العالم كله يقوم بواجبه، لماذا نغضب دائماً عندما يقوم العالم بواجبه؟ سأكتب الرسالة لسارة، سارة لن تصبح منزعجة بعد الآن.

"عزيزتي سارة، لقد قرأت دستوركم – عفواً دستور مدينتا الجميل- لقد قرأته كأي فرد هنا، ولم أجد فيه ما ينص على تحريم الحب، فهل ثمة تعديلات جديدة لم أعرفها؟ ... وهل (قصص الوباء الغرامي) – كما تسمينها – ستسبب ضرراً لأحد هنا؟ ، أنا أرى عكس ذلك، أرى أن هذه دعاية – مجانية – ومفيدة لمديتنا، أليس كذلك؟ ، ستساعد كثيراً في الترويج لنا، وسيتوافد الجميع إلى هنا مع مرور الوقت حتى تمتلئ المدينة عن آخرها، لا، ليس هذا فقط، إني أرى أنه سيأتي اليوم الذي سنبني فيه عشرون نسخة جديدة من مديتنا، ومن يدري ربما تصير يوماً وطناً حقيقياً ككل الأوطان ، وطن حقيقي مزروع بالشهد والشعر ... والورد ".

وختمت رسالتي قائلاً " إذا كانت بعض الأمور قد التبست عليّ، فأرجوا الإفادة" .

وقطعاً لم أنس "ولكم جزيل الشكر" .

* * *

 

الفأر ... والمساء

تغيب رقيقتي مع المساء، لا تعود إلا في اليوم التالي، صرت عاشقاً، صرت أنتظرها كل لحظة، متى أشبع منها وانتهي ؟ وهل يشبع العشاق يا أحمق؟ ما عادت الرسائل تغريني، صرت أعيش للعشق، للعشق فقط، كل الكتابة عنها، كل الكلام عنها، كل أصدقائي صاروا يعرفون أنني المتيم العاشق، الهائم في حبها هيام الجنون.

لم أصدق.

صرت فأراً عاشقاً، عاشقاً ومعشوقاً، يقولون أن الحب يغير الإنسان، للأفضل أو للأسوأ، لا يهم، المهم أنه يغيره، وهذا يؤرقني، هل صرت أتغير، أتبدل، أتلاشى وأذوب ليدخلني أحد غيري، لا أعتقد، لن أكون أحداً غيري، أنا أنا، فقط أنا، لن أتغير لأجل الحب، ولا لأجل الكره أيضاً، لم أتغير، ولكني أتلون، وهذا يزيدني متعة، يقنعني أن ما حدث كله لم يكن إلا وجبة لذيذة شديد الدسم، وأنا النهم، لا أكتفي من تلك المتعة.

لماذا وجدنا إذن إن لم نوجد للمتعة؟ هل صرت – وقتها – بالفعل مؤمناً بهذا الاعتقاد؟ لا، لا لن أؤمن بهذا الاعتقاد، أو بغيره، لم أؤمن بشيء وقتها، لم أؤمن حتى بـ "عدم الإيمان" هذا، ثمة أمر آخر خلقنا لأجله غير اللذة.

ولكني الآن عاشق، وأي عشق هذا؟ هل صرت تافهاً لهذه الدرجة؟ ولم لا، أجد في التفاهة أحياناً لذة مختلفة.

وسرت إلى "ساحة الاجتماعات"، لم أدخلها منذ شهور، كانت عبارة عن قاعة طويلة مستطيلة الشكل، شديدة الإضاءة، على جوانبها ألواح زجاجية تتعدى المترين طولاً وعرضاً، وخلف هذه الألواح مقاعد عديدة، مقاعد لا تحصى، تجلس عليها وجوه كثيرة، هنا تلتقي الوجوه وجهاً لوجه، ولكن دونما كلام، الاتصال يكون فقط من خلال الكتابة، الكل مشغول هنا بالكتابة، ومن ينتهي من صياغة فكرته أو خواطره، يلصقها على لوحه الزجاجي حتى يتثنى للجميع قراءتها، ومن يريد أن يعلق، فليعلق - أيضاً بنفس الطريقة – يكتب تعليقه على مربع من الورق المقوى ثم يلصقها على فاصله الزجاجي، ومن أراد أن يعقب على التعليق أيضاً فليعقب بنفس الطريقة.

نوع آخر من المتعة كنت أفقدها خلال الشهور الماضية، لا أنكر أنني انبهرت كثيراً بساحة الاجتماعات عندما دخلتها لأول مرة، كنت أقضى فيها معظم الوقت تقريباً، ولكني هجرتها بعد فترة قصيرة عندما شعرت أنني قد أصاب بالخرس إن لم أمارس الكلام كل يوم، كنت مشتاقاً للكلام حينها، فلم أكن قد تعودت السكوت بعد، ولكني خلال تلك الفترة الوجيزة التي قضيتها في ساحة الاجتماعات من قبل، استطعت أن أترك بصمة خاصة بيّ، فما زال لوحي الزجاجي - القديم - ممتلئاً بكتاباتي القديمة.

هجرت الساحة وعدت إليها مشتاقاً، اخترت مقعداً – جديداً - خلف أحد الألواح الزجاجية، اخترته عشوائياً ولكنه – بالصدفة، بالصدفة وحدها أقسم – جاء قبالة لوحي الزجاجي القديم، فوجدت نفسي أرى ماضيّ أمامي مباشرة في شكل كلمات ملصقة على زجاج، وكأنه يتحداني، جلست في هدوء مستنداً بكوعيّ على المنضدة الصغيرة، كانت المنضدة الصغيرة نظيفة إلا من بعض بقع الألوان، عليها مفرش أخضر اللون يظهر من خلال زجاج شفاف رقيق، ومنفضة سجائر فارغة تحاذي علبة الأقلام الملونة التي نستخدمها في الكتابة - كانت أقلاماً ذو خط عريض - وعدد وافر من الألواح البيضاء .

أغمضت عينيّ قليلاً، وفجأة تذكرت إبراهيم، كان أفضل من يخط بيده، الكتابة باليد تعوزها دقة ومهارة، كان إبراهيم أمهرنا في تلك الحرفة، إذا جاز لنا أن نسميها حرفة، ولكن أين إبراهيم الآن؟ لقد رحل، لقد انتحر.

لا شك أن خليل يحتفظ بفاصله الزجاجي في الأرشيف، ليس حباً في الرجل، ولا اعترافاً بإبداعه، ولكنه جزء من تاريخ هذا المكان، وخليل لا يفرط أبداً في ذرة من تاريخ مدينته.

فتحت عينيّ دونما تعب، ودونما حزن – ولو ضئيل جداً – على إبراهيم، رغم أنه كان صديقي في يوم ما، قلبي لا يعترف بالحزن بقدر ما يفهم الكره، وأنا لم أكره إبراهيم فلم يفهمه قلبي، ولكني رغم كل شيء أحب الرقيقة، بل أعشق الرقيقة.

جلت ببصري في الألواح الزجاجية، ابتسم فاضل من خلف زجاجه، وأشار بيده إلى مربع ورقي ألصقه على لوحه الزجاجي مكتوب عليه ترحيب بيّ، لم أره عندما دخلت، لم أر أحداً، كانوا كثيرين، ولكني لم أرهم، التقطت قلماً بعشوائية وكتبت "شكراً فاضل على ترحيبك".

وقمت لألصقه على اللوح الزجاجي فاصطدم بصري بفكرة من تاريخي القديم "الحب خطأ إملائي يقع فيه الجميع ".... ومؤرخة بتاريخ يبعد شهرين إلى الوراء.

وتوالت التعقيبات على ترحيب فاضل، كلهم يحبونني، هل أستحق كل هذا الحب؟ رحبوا بيّ جميعاً، وجوه أعرفها، وأخرى لم أرها قبلاً، ولكنهم أيضاً رحبوا بيّ، كانت "أمنية" موجودة، و"رحمة"، و"سامح"، و"ماهر"، و"الحسن"، و"عبير"، و"محمود"، و"سوسو" و"غالية" ، و .. ، و..

كلهم رحبوا بيّ، قالوا أنهم افتقدوني، لكل منهم قصة حتماً، ولكن ليسوا كلهم ألغازاً، إنهم دمى فقط، ولست وحدي من يلهو، ولكني أمهرهم، مثلما كان إبراهيم أمهرنا في رسم الخط، رحم الله إبراهيم.

ومر وقت طويل، كتبت خلاله الأوراق امتناناً وعرفاناً ونفاقاً وكذباً وحباً وصدقاً وإعجاباً، وتفاعلنا، فكرة هنا، ورد هناك، ابتسامة هنا، ونكتة هناك، ثم استأذن بعضهم وقام ليغادر المدينة عائداً إلى وطنه الأصلي على أن يعود إلينا في الغد إذا أتيحت له الظروف، وبعضهم عاد إلى غرفته لينام، وبعضهم انشغل بالكتابة والردود، أما أنا فرحت أقلب بعينيّ الأوراق الملصقة على الزجاج، كان بعضها شعراً، وبعضها مجرد خواطر وأفكار، وبعضها اقتراحات للتطوير، وبعضها موضوعات مختلفة في الدين والفن والسياسة، حتى التسلية والنكات والضحك كان لهم حظ ونصيب من الأطروحات .

كان "الحسن" قد كتب أنه ينوي مغادرة المدينة نهائياً وعدم العودة إليها مرة أخرى، وذلك لأنه تعرض للإهانة من قبل أحدهم – ولم يذكر اسمه- فاتحدنا معاً كي نجعله يعدل عن قراراه، ويظل معنا، وطلبنا منه أن يذكر اسم هذا الشخص الذي أهانه، وسنبلغ خليل بالأمر ليتخذ معه اللازم، واقترحت عليه أنا أن يذهب لمدينته ليستريح بعض الوقت ويهدئ أعصابه ثم يعود إلينا، فوافق، وشكرنا.

وكتبت "عبير" خاطرة رومانسية، فأثنيت عليها – دون أن أقرأها أصلاً – قائلاً – كتابة طبعاً لا كلاماً - "سلمت أناملكِ"، وكتبت "أمنية" بعض الأفكار حول مفهوم "الأمل"، فأثنيت عليها أيضاً دون قراءة، وكتبت على جدارها الزجاجي "كلمات من ذهب نحتتها أنامل ماسية على أحجار كريمة"، وكان "ماهر" قد طرح موضوعاً حول النباتات الشوكية وكيفية تخزينها للماء فشكرته دون أن أقرأ الموضوع كذلك، وطرحت "غالية" أيضاً موضوعاً عبارة عن مجموعة من الأقوال للإمامين "ابن القيم والشافعي"، فقرأتهما، وشكرتها.

كنت اكتفي فقط بالرد دون قراءة، كله كلام، كلام مكتوب على ورق مقوى ومعلق على جدار من زجاج، لا يهم، لم أقرأ إلا ما أراه يستحق القراءة، ولكني شكرت الجميع، وهذا يكفي، وهم مقتنعون جداً بهذا النفاق، فلماذا أتعب حالي.

كنت أحياناً اكتب "ما هذه الروعة يا فلان؟" وأنا أكتم ضحكتي، إذ أنني لم أقرأ الموضوع أصلاً، فكيف عرفت أنه "روعة"؟ ولكني كنت أتدارى خلف الزجاج، كنت أتخفى خلف ظلي، كلهم مشغولون، المهم أن أرد، أن أجيب، أن أتفاعل، وجودي هنا يحتم ذلك، وإلا سيتهمونني بالغرور، وسيقولون عني – خفية بالطبع – أني متكبر، هذا بالإضافة إلى أنهم سيمتنعون عن الرد على مواضيعي وأطروحاتي، شيء مقابل شيء، ولم لا، الدنيا "خذ"، و"هات".

ولأني أعطيت مسبقاً، فقد حان دور "الأخذ"، حان دوري لأكتب شيئاً الآن، خاطرة أو قصيدة شعر أو فكرة أو اقتراح أو رأي، لا يهم، المهم أن أكتب، ولكن لا شيء في ذهني الآن، أنا عاشق، أنا أحب.

نظرت إلى جداري القديم، متى كتبت كل هذا؟ عناوين عديدة لأفكار شتى، رحت أقرأ العناوين بهدوء وشموخ، " عامل المكتبة الحزين "، "رقصة سلو قصيرة" ، "فستان الوجع ... والكلام " .... واستوقفني أحد العناوين "كارثة الكلمات".

ماذا تقول "كارثة الكلمات"؟

" عندما كنتِ تغيبين عني، كنت أجد آلاف الكلمات التي كنت أود أن أقولها لكِ عندما نتقابل، وعندما كنا نتقابل يا حبيبتي، كان يهرب مني كل الكلام، وكأني بلا لسان، أو كأني أخرس، فوجودكِ كان يملأ المكان، كان لا يعطي فرصة للكلام أن يقال، كان لا داعي ساعتها أن أتكلم، كان يكفيني أن أسمع صوتكِ، فمجرد وجودكِ كان يعطيني إحساس بالدفء، كنت أفكر في كل الكلام الذي كنت أود أن أقوله لكِ وأنتِ غائبة عني، كنت لا أجد شيئاً منه، كان يكفي أن أقول كلمة واحدة تلخص كل الكلام، كان يكفي أن أقول: اشتقت لكِ !! هل أدركتِ الآن عمق الكارثة؟ حتى هذه الكلمة ما عدت استخدمها بعد رحيلكِ !! "........... وتحتها تعليق قصير موقع باسم "سها" المعجبة "الله على ما تكتب ... أحب حزنك العميق ... أنت قيثارتي الحزينة" .

لا أحد يستحق أن أكتب من أجله، أنا فقط من يستحق ذلك، "سها" كانت معجبة، وكانت شاعرة أيضاً، رغم أنها لم تكن المقصودة بالكلمات، ولكنها كانت تقدر وتفهم وتعي وتحب، كانت صديقة رائعة، لا أبالغ إن قلت أنها الوحيدة التي كنت صادقاً معها في كل شيء.

كانت تعرف قصتي كاملة مع دعاء، ما قلته لها لم أقله لغيرها، كانت تحب حزني العميق، نعم حزني العميق؟ حزني العميق الذي لم يعترف به قلبي بقدر ما يفهم الكره، وما الحزن إلا ممشى قصير يؤدي إلى كوخ الكره.

دعاء يا كارثة كلماتي، يا بداية حزني، لن ألعنكِ في سري، ولن ألعنكِ على الملأ، فقط أذهبي في هدوء إلى الجحيم، ولن أبكي عليكِ .

لا يفل الحديد إلا الحديد، سأطلب من خليل أن ينقل هذا الجدار الزجاجي من هنا إلى الأرشيف، وسأطوي صفحة الزجاج القديم، وسأكتب الآن مرة أخرى، سأكتب عن "فأر التجارب العاشق"، سلسلة طويلة سأحيكها وأسردها، هنا المتعة، سأقول أن "فأر التجارب" العجوز بات مذعوراً ليلة أمس، كان خائفاً أن يشّرح الأطباء قلبه الصغير فيجدوا بداخله تجربة جديدة، تجربة ما زالت في طور النمو، كانت عيناه الحزينتين دوماً مرآة لألمه المستمر، وكأنه وجد خصيصاً في هذه الدنيا من أجل أن يفتح الأطباء قلبه دون استئذان، ليعثروا على مفهوم جديد للحب، سافر من مصيدة إلى مصيدة، ولكنه لا تعنيه المسافات كثيراً فهو يحمل قلبه الصغير معه كما نحمل ذاكرتنا على أكتافنا وقت السفر، وسأقول أن أصدقائه الفئران جاءوا ليواسوه ويخففوا عنه ألم الاغتراب، ولكنه هذه المرة كان يسافر إلى داخله، وسأقول أن "فأر التجارب" كان محملاً بالكثير من التجارب، حتى أطلق عليه أصدقائه " فأر التجارب العاشق "، وسأقول أن ملامحه تغيرت بعد أن جاوز المائة، أليست أسامينا فقط هي التي تبقى؟

وسأقول أنه لما جاوز المائة بدأ المشيب يزحف على سوالفه، وبدأت عيناه تشردان إلى البعيد باستمرار، كان يكره الانتظار، لذا فقد قرر أن لا ينتظر أحداً بعد اليوم، بدأت رحلة فأر التجارب بعد أن جاوز المائة، والتقى في الطريق بفأرة حزينة مثله، سألته الفأرة الحزينة: مالك ؟! فأجابها وهو يشعل سيجارته: لا شيء يا صغيرتي .... لاشيء، ولكنها أرادت أن تعرف سر الحزن والغموض في عينيه، فألحت في سؤالها: مالك؟! .....هذه المرة كان عليه أن يتخلص من صمته بالكلام، كان عليه أن يتكلم كثيراً، حتى يخرج من صمته المطبق على كاهله، وكأنه كان يخرج من دوامة الكلام إلى دوامة الكلام !! حكى لها عن الحب والسنين المائة، حكى لها عن حبيبة علمها الكلام فصنعت منه لغة جديدة للعاشقين، كانت عينا فأر التجارب تدمعان وهو يحكي، وكانت الفأرة الحزينة تمسح دموعه، لحظتها أدرك فأر التجارب أن ثمة قصة أخرى ستبدأ في القرن الجديد.

ثم رفع بصره إليها، وكان السؤال على طرف لسانه: ما الذى أتي بي إلى هنا؟

كان يود أن يقول، أن ينطق، كان لسانه ثقيلاً كجبل، كان يود أن يحكي كلاماً لا كتابة، ودون أن يرسل أولاً رسالة لخليل يطلب منه استثناءً جديداً بالكلام!

انتهت

 

12/7/2010 مركز دشنا – محافظة قنا