يحذر الجامعي والروائي اليمني بطريقته التهكمية الواخزة من تلك اللامبالاة السمجة التي تناولت بها الطبقة الحاكمة اليمنية مسألة نقص المياة، ويقيم تناظرا دالا بين سلوكها وسلوك العدو الصهيوني في المستوطنات غير الشرعية التي يقيمها في فلسطين المحتلة، وتبدد هي الآخرى مياها الشحيحة.

اليمن الجديد

يمن الشرب من ماء البحر!

حبيب عبدالرب سروري

أثارت عبارة الرئيس علي عبدالله صالح وهو يقول لِليمنيين: «واللي ميعجبوش يشرب من ماء البحر!» في نفسي خواطر ومشاعر كثيفة وغزيرة. لاسيما وأني كنتُ حين سماعها أنهلُ من «بلوج» الكاتب والروائي الفرنسي الكبير الرائع ايريك أورسينا على أنترنت، حول «مستقبل الماء»! سأحاول هنا تلخيص بعض ما داهم دماغي إثر سماع تلك العبارة، تفاعلاً مع ذلك البلوج الثريّ!.

للرئيس بوتفليقة رؤيةٌ بَحْريّةٌ من طرازٍ آخر!...
ذات صباح جميل مشرق، قبل حوالي أربعة سنوات، شعر الرئيس الجزائري بوتفليقة أن شعب الجزائر (الذي كان يعاني من مشاكل مائية خانقة، أقل بكثير، مع ذلك، من مشاكل اليمن حاليا) ذاق الأمرّين من شحة المياه واختفائها عن الحنفيات في بعض ساعات اليوم! التقى بكبار المسئولين الجزائريين. لم تداهمه عواطف مائيةٌ داكنة ليقول لهم: «واللي ميعجبوش يشرب من ماء البحر!»، بل قال لهم إن عهد المؤتمرات والاجتماعات والضجيج ومكاتب الدراسات حول نضوب موارد المياه في الجزائر قد انتهى: على الحكومة تحقيق هدف «الماء للجميع طوال 24 ساعة في اليوم» قبل سبتمبر 2009!... هدّد بالعقوبات إذا لم يتحقق ذلك!...

نهضَتْ بعد ذلك في الجزائر مصانع تحلية ماء البحر التي تنتج حاليا مليون ونصف مليون متراً مكعباً يوميا!... هاهي جزائر اليوم ثاني بلدٍ محاذٍ للبحر الأبيض المتوسط، بعد اسبانيا مباشرة، في كمية إنتاج المياه!...

الدرس الكبير المستفاد من ذلك: تفاقمُ آلام نقص المياه في اليمن ليس فقط لعدم امتلاك نظامها المقدرة على اتخاذ قرار كهذا، أو بسبب مؤهلات رئيسها، بل بسبب رؤيته الشخصية لماء البحر أداةَ انتقامٍ من مخالفيه، أكثر من كونها أحد مفاتيح حل آلام شعبه!...

لِلماء في سنغافورة مدلولٌ أكثر نبلاً وقدسيّةً!...
لعلّ أدق تعريف للنظام الذي يحكم اليمن هو أنه «العكس النموذجي لنظام سنغافورة في مجالي الإدارة والاقتصاد»! لِنظام سنغافورة ميزتان مرموقتان:

(1) ـ عداؤه الشرس للفساد وعقوباته الرادعة لمرتكبيه،
(2) ـ ورؤيته الاقتصادية الإستراتيجية الذكية التي تترجمها تطبيقات عملية حكيمة ناجحة!...

أثارت إعجابي عند زيارتي لهذا البلد، قبل سنوات:

(1) ـ نظافته الصارمة: مجرد البصق في الشارع يكلف دفع عقوبةٍ مقدارها 300 دولار!
(2) ـ وكراهيته الصارمة للتقاعس والكسل: رغم اتفاقه مع جارته ماليزيا على معاهدة مياه تضمن لسنغافورة ما يلزم من الماء حتى عام 2060، قرر النظام السنغافوري صناعة المياه للاكتفاء الذاتي أوّلاً، وللصناعة الإستراتيجية أيضاً، لأن الماء، حسب تقديراته الصائبة، سيصير قريباً من أثمن السلع، «قطاع المستقبل» أو «الذهب الازرق»!...

هاهي سنغافورة اليوم تمتلك 17 خزّاناً حديثاً للمياه، تتباهى بها أمام العالم! تمتلك أيضاً ستة مصانع لإنتاج ما يسمى «الماء الجديد»، المستخرجِ من الماء المستخدَمِ القذر بعد إعادة تنقيته! المصنع السابع الحديث مذهلٌ بشكل خاص: تصله مجاري الماء المستهلَك عبر قنوات طويلة، أوسع من قنوات محطات المترو. ينتج يوميّاً (صدِّقوا أو لا تصدِّقوا!) مليونين ونصف مليون متراً مكعباً من هذا الماء الجديد المدهش!...

الماء في سنغافورة كنايةٌ عن التعاضدِ وِوحدةِ المواطنين ورمزٌ للحب، وليس للانتقام والتهديد!... الأغاني السنغافورية وشعارات الحكومة المخطوطة في منعطفات المدينة ليست: «واللي ميعجبوش يشرب من ماء البحر»! بل: «لنزرع الثقة بمائنا وحسّنا بالمسئولية!»، «إنضموا لجمعية عشاق الماء!»، «لتجمعنا الصداقة واحترام الماء!»...

مسابح «قراصنة الماء» في صنعاء، ومسابح الإسرائيليين في المستعمرات الفلسطينية!
عبارة الرئيس اليمني (التي لا يمكن أن يقولها إلا...) وسياسةُ نظامه تدلّان بوضوح على أن «اليمن الجديد» هو يمن «الأتناك» والشرب من ماء البحر! يمنٌ يهدر مواردَه أعداءُ الماء الذين ضربوا آبار عدَن بطائراتهم وصواريخهم لِقتلِ سكّان عدَن بالعطش في حرب 1994: جريمة إنسانية سافلة لم تتجرأ إسرائيل على ارتكابها في فلسطين حتى اليوم!...

يكفي في الحقيقة قراءة التقارير السنوية التي تصدرها منظمة الفاو (منظمة التغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة) على أنترنت، حول حالة مصادر المياه في كل دولة. واقع اليمن فيها يغلي الدم و«يُكلسِنُه»: مياهه الجوفية (التي هي ملكٌ للأجيال القادمة أيضا) تنضب بسرعة جنونية جرّاء الاستخدام الفاحش لها، بسبب النمو السكاني العشوائي، وعدم توليد أي مصادر جديدة للمياه!

تلجأ كل الدول تقريباً، عندما تلوح مشاكل نضوب المياه في الأفق، إلى البحث عن مصادر جديدة لتوليد المياه، بجانب تقنين استخدام كل مواطنٍ لها بعقل وتورع وحذر، بأسلوبِ مدنيٍّ متكافئ ومنظَّم. لأن الماء ليس سلعةً عادية أو ملكاً لأحد. هو حقٌّ جوهري للإنسان، يتقاسمه مع كل الكائنات البيولوجية الحيّة، ومع الأجيال القادمة أيضاً!...

توليد مصادر جديدة للمياه لا يهزّ شعرة للنظام اليمني كما يبدو، رغم أن التوقعات تنذر بكارثة تلوح في الأفق!... الأبشع: نافذو النظام وأغنياء فسادِه يستخدمون المياه الجوفية بِتبذيرٍ يثير التقزز! من يُصدِّق مثلاً أنهم يتجرأون على تشييد مسابح شخصية في فيلاتهم في صنعاء؟... أيوجدُ بلدٌ شحيحُ المواردِ المائية يمكن أن يجرؤ بعض نافذيه على اقتراف سلوكٍ كهذا، عدا بعض الإسرائيليين في مستعمرات أراضي الدولة الفلسطينية التي تشكو هي أيضا من فقر موارد المياه (التي تنهبها إسرائيل كلية تقريباً)؟

مسابحهم «التي تتلألأ بِزُرقةٍ خيالية» في المستعمرات، حسب تعبير ايريك أورسينا، تذكي جراح الفلسطينيين وحقدهم، وشعورهم بالامتهان. ألم يقل المهندس المائي فاضل خواش، ممثل السلطة الفلسطينية في لجان المياه الفلسطينية ـ الإسرائيلية: «متى ستعي إسرائيل أن كل مسبح يصنع مائة إرهابي؟»...

لم يجد نافذوا صنعاء غير تقليد هذا السلوك المجرم للمستعمرين الإسرائيليين! كان بإمكانهم بدل ذلك استيراد الطرق العبقرية «للريّ قطرةً قطرة» التي اخترعها بعض العلماء الإسرائيليين، والتي توصل الماء لجذور النبات مباشرة، دون إهدار قطرة منه، لتوفيرِ كميات هائلة من مياه الري. كان بإمكانهم تقليد إسرائيل في تشييد مصنعين لتحلية المياه قرب تل أبيب يولّدان مليون وعُشر المليون مترا مكعبا يومياً، أو مصانع إعادة تنقية المياه المستخدمة والتي تنتج 300 مليون مترا مكعبا سنوياً! أو ربما استلهام أفكار «جامعة الصحراء» التي تمّ تشييدها في قلب الصحراء انطلاقاً من تعليمات بن جوريون الذي قال لهم: «إذا لم تُرَوِّض أسرائيلُ الصحراءَ فهي هالكة!» والذي كان يأتي للتأمل في نفس موقع الجامعة، قبل أن يُقبرَ في نفس الموضع أيضاً، حسب طلبه!

تتطوّر في هذه الجامعة (التي يأتي للدراسة فيها طلاب من دول شتّى، لاسيما الأردن) يوماً بعد يوم أبحاث علمية طليعية! ثمة مثلاً مختبرات تدرس كيف يمكن استخدام حرارة الصحراء لتبريد المنازل! كيف يمكن توليد نباتات تقاوم الجفاف، لا تحتاج للمياه أو تحتاج فقط لكميّةٍ ضئيلةٍ جدّاً منه! كيف يمكن التنبؤ بتلوث المياه الجوفية وتلافي ذلك قبل حدوثه!... ناهيك عن استخدامات عبقرية للطحالب في مجالات شتى مثل إبادة بويضات البعوض للقضاء على الملاريا، ومقاومة الشيخوخة!

فضّل نافذو النظام، بدلاً من كل ذلك، محاكاةَ المستعمر الإسرائيلي وهم يشفطون آخرَ قطرات جوف صنعاء لإشباع نزواتهم الخاصة!

سأتوقف هنا! ثمة خواطر كثيرة أخرى انبلجت من عبارة الرئيس اليمني، ربما أعود إليها ذات يوم... أغنية العطروش: «للماء، للماء! يا غُصين البان» تدغدغني الآن قبل النوم! أسألكَ اللهمّ أحلاماً مائيّةً رقيقة!.