يمزج القاص العراقي وحيد غانم في قصته عوالم متناقضة من خلال ذاكرة رجل عجوز يطل على العالم من شاشة بريده الألكتروني،فتتداخل شخصيات الواقع في مدينة البصرة في زمنها المضطرب منذ عقود مع عوالم الشخصيات الأفتراضية البعيدة في مزيج حكاية تلخص ذلك العذاب الخفي الصامت في محنة الوجود.

أناس فرحون

وحـيـد غانـم

"جدّو.. هل تسمعني؟ يا الله! أنا في شيكاغو خلّوني في بناية مع غرباء.. عالم ما تستحي ..سكارى يتعاركون ليل نهار.. جدّو أنا محطّمة.. لا أفهم شيء من حولي.."

لم يعلم من أين أتى صوت هيلين، كأنما أنبعث من شاشة الحاسوب الذي شغّله للتو تواقاً لقراءة رسائل تمارا جونسون.. تمارا.. ردد الاسم. أدرك القاضي سليم الكاظمي أن العبث بالحاسوب يعيد إليه شتات صور شبابه، كان ينسخ أطياف رغباته في صور. صور ممثلات جميلات كنساء القرن الماضي اللواتي أستغلّهن عبر دهاليز سلطته.

هيلين؟

شعر بأنفاسها تهدر في أذنه، ممتلئة ربما في الرابعة والعشرين، كانت تلفت الأنظار عندما تعبر السوق، ترتدي البلوزة الضيّقة التي تبرز ذراعيها المشتعلتين حمرة. مدّ عنقه وقد أتسع منخراه، كأنها هنا تنحني عليه، ابتسامتها الدافئة، رذاذ عرقها الوردي الذي يتطاير مع قلادة الصليب منديّاً الهواء برائحتها،عندما كانت تخصّه بعلبة لحم ودستة بسكويت من عطايا كنيسة سيدة النجاة، هيلين موظفة المستوصف ذات الوجه المنمّش والعينين العسليتين.

دغدغ صوتها أذنه وقد عاوده الشعور بالراحة، فاض نبع ضحكتها الحلوة وعنايتها به ثم تلاشى، بينما أولى رسالة تمارا اهتمامه، الثانية التي ترده منها عبر بريده الالكتروني دون سابق معرفة.

الأعز في قلبي

كيف كانت ليلتك في بلدكم؟ الجو كان دافئا قليلا هنا في داكار بالسنغال.

لم أعرّفك على نفسي جيدا. اسمي تمارا صموئيل، أنا (24yrs) ولكن العمر لا يهم في علاقة حقيقية. أنا من رواندا في أفريقيا، 5.4ft طويلة القامة ولطيفة البشرة، وحاليا أنا مقيمة هنا في داكار نتيجة الحرب الأهلية التي اندلعت في بلدي منذ بضع سنوات.

كان والدي الراحل الدكتور وليم دال صموئيل العضو المنتدب لجونسون الكاكاو صناعات في كيغالي (عاصمة رواندا، بلدي) قبل ان يهاجم المتمردون منزلنا في الصباح الباكر ويقتلوا أمي وأبي بدم بارد .

وكان لي أن أبقى على قيد الحياة، فقد تمكنت من جعل طريقي بالقرب من حدود السنغال حيث سأرحل الآن كلاجئة تحت رعاية القس وأنا باستخدام جهاز الكمبيوتر الخاص به أبعث إليك هذه الرسالة.

سوف أقول لك المزيد عن نفسي في وجهتي المقبلة.

مدّ يده ماسحاً الغبار من على شاشة الحاسوب..

جد.. ووو!

تقطّع صوتها ..

لكنه بدلا من أن يجيب أستمر في الابتسام متنشقاً عطرها الحلو، ماضغاً كلمات تمارا ببطء، كما يلوك جزرة ويستحلب طعمها، بأسنانه الاصطناعية التي تمنحه تكشيرة عريضة لشاب في العشرين، وهو يرى في نهاره المديد صورته شاباً مفتولا، نحتاً برونزيا يملأ السماء، يقف بين الأسد والميزان، مصوبا سهما نحو الأسد. لم يتخيل يوما أن نصب العدالة الذي أزيل من قبالة مبنى المحافظة القديم يمثله، بنزواته وأهوائه، مع ذلك أختزنه وعيه وعملت ذاكرته على تشويهه: غدا عوداً متيبّساً، برديّة مطويّة، ظلاً ماراً في نهاره الذي تلفّه سحابة ذباب.

غادرت هيلين البصرة إلى بغداد ثم عبرت اسطنبول نحو اليونان وطارت إلى أمريكا. قبيل رحيلها أسعدته من أثينا ببطاقة للاكروبولتس وتماثيل الآلهة.

في المقابل، استهل ناصر الشبح، الملاكم الستيني المتوفى منذ ليلتين، نهاره محبوساً في قمقم وعيه، صاهراً طيفه كلهب مشعل اللحام الذي ينفذ عبر شقوق الظلام. كان شكلا حجريّا محروقاً يرمق السماء المغبرّة في مستوى أعلى من هامات البشر، كصور آلهة الأوليمب في كتاب الأساطير الإغريقية المصفرّ الذي بحوزته، لوحته الشمس، صامتاً تحيطه أشعار مليئة بالشبق وجنون الحب. لم يفتقد العجوز الملاكم مفروش الأنف يوماً ولم يفتقد حضور القس حنّا راعي الكنيسة فهما ما زالا في ميقات أبدي معه. تلك هي القصة. كان يحبسهما في وعيه، لا كذكرى بل ككل الأشياء التي تثير اهتمامه، وكأنهما نقشا، عاريين، على سحابة الذباب السوداء المحترقة في أتون الشمس، بينما يسيل ظل القس كحليب خثر مصفرّ حول زوايا جسد الملاكم.

تأملهما الكاظمي العجوز بمتعة كما لو كان يطيل النظر في ظلال حياته، بينما ارتاحا بمقعديهما في عتمة الصدأ، صورة للاثنين مؤطرة بتوريقات فضية قديمة ثبتت إلى الحائط، وكان ينقل نظره بينهما وسحابة الغبار والقش التي تعلو وجوه السمّاكات.* أكبرهن سنّاً لم تتعد الثلاثين، بشرتها بيضاء، شاحبة، وهي تبتسم في سرّها. كانت عيناها الزرقاوان تنسجان هوام القش وسط لمعان بصاق المارّة في الهواء.

انحنى الملاكم على نفسه داساً يديه الكبيرتين بين فخذيه. كان الغبار ينزل على كتفيه العريضتين المشعرتين، أما القس فتهدلت خاصرتاه الشحماوان وتدلى عضوه الأغلف. كان ملاكا رائباً بشعيرات شهب. ابتسم القس لصيحات السمّاكات وقال موجهاً كلامه للملاكم " أترى؟ أنهن دائماً متعة ساذجة وهو شأن أية معرفة بائدة"

عظمَ ذكره بسبب الغلفة وبدا شكله غامضاً في نظر العجوز، أما الملاكم فلم يكن عضوه المختون إلا امتدادا لجسمه الصلب.

داعبته كلمات تمارا..

أنا أكثر من سعيدة في ردكم على بريدي. كيف حالك اليوم؟ هذا المعسكر يسمح لنا بالخروج من المخيم فقط يومي الاثنين والجمعة من weeks.It كالبقاء في السجن وأنا آمل من الآلهة نعمة الخروج من هنا قريبا.

ليس لدي أي أقارب. لان كل أقاربي هربوا، والشخص الوحيد الذي لدي الآن هو (REV.JOHN ) الذي هو راعي (كنيسة يسوع الملك ) كان لطيفا جدا معي منذ جئت إلى هنا .

الآن كلّمه بالهاتف رقم (37....) وقل له انك تريد التحدث معي ليس لدي أي حق أو امتياز على أي شيء سواء كان ذلك المال أو أيا كان لأنه مخالف للقانون في هذا country أريد أن أعود إلى دراستي ولكن ليس في السنغال أو رواندا.

جدّوووو...!

طويلة نحيفة كلاعبة كرة سلة، أكانت تستجديه؟ تبنّاها وعيه،امتلأ بعظامها مثل كيس خيش، مقرفصة تحت أنظار القس والملاكم والسماكات، بإمكانه أن يحتبسها داخله ويهبها لشبابه البعيد..

تطلّع إلى مرآة النهار المشعّ، وقد خطفت بصرة حركة السمّاكات الثلاث الملتفات بالعباءات السود الوسخة. كان يحبّ سحنهن البيض الشاحبة وزرقة عيونهن. امتاز بنظر غراب مسنّ يلاحق أدق الملامح، تمايل أردافهن وتطاير الغبار والذباب حولهن. الآن بدء الاثنان جدلا حول أصولهن، إلا أن القس كان مهموماً وهو ينتظر قدوم الشيخ حسن الفرعون كبير العشيرة التي انتسب لها. سيدفع له استحقاقات العشيرة عن الديّة وحوادث الدم.

في ظل سطوة المليشيات والعصابات وفّر له الشيخ الحماية وأطلق رجاله الرصاص في رواق الكنيسة، قاد عبّد الله أبن الشيخ المجموعة لافّاً ثوبه الرمادي حول سرواله القطني، شاب شديد الحماس يغطي صدره العريض شعر كثيف فاحم يبرز من زيقه المفتوح. رفعوا البيارق الملوّنة داخل الكنيسة وحاموا بعرباتهم في المكان. كان استعراضاً للقوة في الصباح الرطب الذي تنفسته الحيطان الوسخة ونفايات الخضار وبقايا كلاب نافقة، فالقس محمي بالنار والدم مع عشرين فرداً من طائفته لم يفروا بعد إلى بلد آخر.

ما فتئ الفرعون يزور القس في الكنيسة القديمة، يملأ مكتبه الضيق بغمغمته ويرتشف قهوته المحلّاة، ثم يبدأ جولة في المكان وهو يضرب الأرض بعصاه السوداء. منذ يومين أتى بامرأته وبناتها، ملفوفات بالعباءات السود، لكي ينذرن شمعة للعذراء، وقد قرفصن هناك ناحبات. بالطبع لم يفته موقع الكنيسة الثمين، ثمانمائة متر في منطقة السوق. ابتسم الكاظمي، الفرعون متكبّر، طماع، يحاول أن يشعر الناس بضآلتهم في مواجهة قدرة الغيب المهلكة، ما يدّعي استبصاره بنظرة العرّاف شبه المغمضة التي يظللها حاجباه الكثيفان الشائبان ويستشف في صوته الغليظ الخافت، وكأنه يقود خطى الآثمين نحو الهاوية، سيجرد القس من كل شيء، الكنائس تباع وتزال من الوجود ولن يرحم الشيخ شخصاً أغلف!

الآن، يرى الشيخ قادماً من طرف الأرض تسبقه همهمته المتعطشة، ثوباً رمادياً يتدلى من حبل غسيل يهدر الهواء الحار في طياته. عاود ضمّ كتاب الأساطير وأغلق غطاء الصندوق الحديد. بهرته صور آلهة وأبطال يقفون عراة، تبرز ذكورهم الغافية دون ختان عبر القرون، معزولين في قلب الحجر وسط الميادين والسهوب، رأى انسياب النور الندي على جباههم الصلدة وشعورهم الملتفّة. ليس الضوء الحار المتلامع على جبهة عبد الله، فخلقته التي جذبت هيلين كانت جسيمة. شاب مليء بحيوية تبلغ حد القسوة تتبدى في حركاته وهو يصفق باب سيارته، يدعك عضوه بين حين وآخر.

"جدّو، لا أدري لماذا رؤيته ترجّف قلبي؟"

كانت رائحة أبطيها تملأ منخري الكاظمي، تعميه هالة جسمها. قال الملاكم بنبرة لا تخلو من تهكم بارد " ما حدث شيئ لو كان قلبها محمياً بحدّ السيف!" فهز القس رأسه وقال " لقد أخطأتْ. ندعو أن يهبها يسوع السلام" قال العجوز "هل تشعر بالسلام أبانا؟ ما زلتم تعيدون تفسير الكلمات والمعاني اليونانية في كتابكم" تساءل الملاكم " أهذا صحيح؟" قال القس " لسنا أعلم من آبائنا الموقرين" قال العجوز بخبث ملهم لم يتوقعه " المعاني لها عذرية.. أبانا!" قال القس بشرود " آه! كم منّا ينال سلام الربّ كالمجدلية؟"

جدّو أنا خائفة...

عندما تستدير الشمس فأن السمّاكات يبدلن موقعهن، هذه ليست حركة زهور دوار الشمس، يحلم العجوز، إنما هفهفة عباءات وغبار، ينتقلن مع قدورهن جهة دكانته ويسترحن في الظل، يفترشن الزاوية بينما يلاحقهن الذباب، ما يدفعه لغلق الباب الزجاج، في مقابل نهوضه وجلوسه وابتسامته تكافئه السماكة الشهباء بطاس لبن بارد. في ذروة الصيف حيث موسم بيع السمك لا يتخلين عن قدور اللبن. كان دنوهن يتيح له زاوية مناسبة لمراقبة زبائنهن. ينسخ وعيه وجوه الرجال النضرة الحارة والمسحوقة، المليئة بالرغبات والحب والسم، ينسخ ببطء وجوه من يقرفصون لشرب طاس لبن وسط نافورة الذباب.

كان الأمر يشغله عن متابعة بريده الالكتروني. يفاجأ بانطفاء شاشة الحاسوب، فيمدّ أصبعاً ويضغط على المسطرة، بالضبط كما لقّنه القس..

كان مشوّشاً.

لم تكن هيلين كالسمّاكات الماكرات بإمكانها غزل خيوط الشمس على نير الثور الوحشي. كانت تحوم بطيفها المشعّ في أعلى مستويات وعيه، هي الرقيقة التي وشّح الموت المبكر صورة أبيها بشريط أسود، بينما فرّ أخوها إلى استراليا. كانت تتذكره. تصغي للموسيقى في غرفتها الوردية كلما رحل أحد أحبتها. جذبتها سمرة عبد الله وغلظة طباعه، سابقاً كانت تغفو وهي تتطلع ناعسة إلى روزنامة الميلاد، القديس بولص المعذّب ينحني على عصاه، وفي لحظة لعلع الرصاص مشظّياً زجاج نافذتها.

التقت عبد الله في الكنيسة، منحته علبتي بسكويت وسمحت له أن يحتفظ برقمها الشخصي، اتصل بها طيلة ليال ثم زارها في المستوصف، كان حاميها. تلذذ العجوز بالقصة ومنحها وعيه نوراً وظلالا. في ليلة ربيعية ارتمت بحضن الشاب وذاقت طعم عرقه وهما في سيارته. استسلمت له في المقعد الخلفي داخل موقف سيارات. تخطى وعده لها بأن يكتفي بالمداعبة وأنزلق إلى داخلها. كان قضيبه كالسوط، مختوناً وأملسَ، كلما قذف على المقعد أنهار باكياً ثم كان يستجمع قواه ويخترق دمها. في الصباح غطت آثار عضاته على عنقها وآلامها ولاذت بغرفتها.

أخبرت العجوز بحلمها: جواميس سود غليظة تعبر المياه، ثيران محفورة بجدران قديمة، أشخاص شبه عراة يوجهون نبالهم إلى قلبها النازف. زارتها السمّاكات في حلمها ونحبن حول رأسها وهن يفللن ضفائرها..

كان عبد الله يحبّها كمفاجأة لم يحلم بها. ملأ حبّه وعي العجوز، دافقاً حاراً وقاسياً، لكن الشيخ فرعون اشترط بصوت صبّه كالخل في أذن العجوز أن تَسلم وتراعي حرمة الدين حتى يتزوجها ابنه " ها، لا ترضى؟ لماذا؟ مَريَمهم هي مَريَمنا ونار جهنم واحدة ! ما رأي القس؟ حميناه وحمينه ناسه وكنيسته. هذي ما صايره.. هو واحد من العشيرة وعليه مواثيق.!"

أعز واحد..!

..لدي صندوق إيداع فيه شهادة والدي الراحل وشهادة وفاته هنا معي التي يجب أن تستخدم للمطالبة بالمال من البنك، لأنه عندما كان على قيد الحياة أودع مبلغا من المال في واحد من البنوك الرائدة في أوروبا باسمي، والمبلغ المذكور هو 9،7 $ (تسعة ملايين وسبعمائة ألف دولار أمريكي).

أرجو أن تساعدني في تحويل هذه الأموال إلى حسابك ومنه سوف ترسل بعض المال لي لكي ألتحق بك ونعيش معاً إلى الأبد!

كانت السمّاكات في خلفية الصورة، قدور الحليب السود المبعّجة تستقر بين أرجلهن، الذباب الذي يلتصق بالزجاج. قال الملاكم أن بشرهن بيض كالحليب. مرحات ولا مباليات. تمتم القس أنهن من نسل قديم محارب. يظنّ القس حنّا أن هؤلاء من بقايا جيوش الأسكندر التي نزلت بالبصرة في سبيلها لغزو العالم القديم. لكن الملاكم قهقه مرددا "هذا من فضل حليب الجاموس! " وابتسم العجوز فالأمر سيّان مادام الأسكندر هو نفسه أبو القرنين!

أناس بسطاء قتلة لصوص فرحون يرزقون أطفالا مصابين بالتراخوما، أحبَّ الانكليز نساءهم الوقحات، اجتاحتهم الحروب ففر بعضهم حتى هولندا ومنحوا قطعة أرض وبقرة.. كان العجوز يحلم بتمارا، بينما اكتشف على بريده الالكتروني رسائل جديدة وصور نساء صغيرات يطلبن المساعدة والحب، امتلأ وعيه بابتساماتهن وسعادة حياة أبدية.

•بائعات السمك