يجوب الروائي المصري في عالمٍ خيالي مرتكزا على أخر المكتشفات العلمية المتعلقة بالكائنات على الأرض وعالمها الدفين في البحار، ومع كائنات الفضاء المفترضة في الفضاء الخارجي، من خلال صداقة تنشأ بين السارد وكائن فضائي مخفي يظهر له فقط ويحاوره في مبنى خيالي وتفاصيل مشوقة مفيدة.

فضاءٌ داخِلِيٌّ .. فضاءٌ خارِجِيٌّ (رواية)

رواية قصيرة - خيال عِلْمِيّ

رجب سعد السيّد

إهـداءٌ ..

إلى اثنين من مُواطِني القرنِ الواحدِ والعشرين، حفيديَّ: "مالك" و"مراد"

طابتْ لكُما وبِكُما الحيــاةُ ..

"جدُّكُما"

 

1 – بيتُنـا الشاطِئيّ:

أخيراً، ها أنا أفتحُ نافذةَ حجرتي فتطالعُني زرقةٌ تمتدُ حتى خطَّ الأفق ..

أنا الآن في بيتِنا الصيفيّ، عند هذه البقعةِ الساحرةِ من ساحلِ بلادي.

ما إن تنتهي أيامُ الدراسة حتى نعدُّ حقائبَنا، ونهرعُ مغادرين المدينةَ بغبارِها وضوضائها وازدحاماتِها، فتحملنا سيارةُ أبي إلى هذا البيتِ الساحرِ، لنمضيَ فيه نحو شهرين، في استرخاءٍ تام، لا يدخلُ إلى رئاتِنا غيرُ الهواءُ النقيُّ، الذي يحملُ أحياناً رائحةَ اليودِ، الذي يفرزَه بعضُ أنواعِ الطحالبِ البحريةِ، التي أستطيعُ التعرُّفَ على كثيرٍ منها، وأحتفظُ بين مُقتنياتي بشهادةِ تقديرٍ صادرةٍ من مركزِ أبحاثِ علومِ البحارِ في مدينتنا، تُثَمِّنُ مشاركتي في أحدِ برامجِه البحثيَّةِ عن الطحالبِ البحريةِ، واكتشافيَ نوعين منها، قمتُ بجمعِ نماذجَاً من كلٍّ منهما، وتبين للباحثين بالمركزِ أنهما لم يكونا معروفيْن لهم من قبل.

جاءت أمي إلى حجرتي ووجدتني لا أزالُ واقفاً أُحدِّقُ إلى البحرِ والسماءِ. قالت: "ستجدُ وقتاً طويلاً لتأملاتك يا فيلسوفيَ الصغيرَ، أما الآن فعليك أن تفتحَ حقيبتَكَ، وتُعدَّ فراشكَ، وتُرتِّبَ محتويات حجرتِك بنفسِك، وأنا واثقةٌ من أنَّك قادرٌ على ذلك قبل أن يحينَ موعدُ انتقالِنا إلى المطعمِ لتناولِ الغداء".

وأنا سعيدٌ بثقةِ أمي، وبأسلوبِها الساحرِ في التعاملِ معي وأختِيَ كشخصيتين مسئولتين، يودِّعان الصبا ويقتربان من مرحلةِ الشبابِ. كما أن الحياةَ ببيتنا الشاطئيِّ تختلفُ كثيراً عن أسلوبِ حياتِنا بقيَّةَ أشهرِ السنةِ، فلِسَـكنِنا الدائمِ أحكامٌ، وللصَيْفِيّ قانونُه.

عليَّ الآن أنْ أجدَ مكاناً مناسباً لما أحضرتُه معي من مُستلزماتٍ سأحتاجُ إليها هنا، وأنا وحديَ من يستطيعُ ذلك.

حسناً. لنبدأ...

أولاً، علىَ هذا الرَّفِّ أضعُ ملابِسِي الاعتياديةَ. وأُخَصِّصُ الرفَّ التالي لألبسةِ البحرِ، وأضعُ فوقَ الأخيرِ قناعَ وأنبوبةَ الغوصِ السطحِيّ، وزعنفتَيّ السباحةِ، ومُعِدَّاتَ صيدٍ جديدةٍ، من (طُعُومٍ) صناعيةٍ مُستحدَثَةِ لاجتذابِ مختلفِ أنواعِ الأسماكِ، إلى ماكينةٍ فائقةِ السرعةِ لقذفِ الشِّصِ والخيطِ إلى مسافاتٍ بعيدةٍ، لتصلَ إلى الأسماكِ الكبيرةِ التي لا تميلُ للتواجُدِ في المياهِ الشاطئيَّةِ الضحْلَةِ، أستخدمُها هنا لأوَّلِ مرَّةِ، مع أحذيتي، وحزمةِ الأكياسِ البلاستيكيةِ التي أجمعُ فيها ما أُحبُّ أن ألتقطَهُ من مخلوقاتٍ بحريةٍ. وثانياً، على الطاولةِ المجاورةِ لفراشيَ يستقرُّ حاسُوبيَ المطويُّ (تابليت)، وتستوعبُ أدراجُها مِنظاريَ المُقرِّبَ، وعدسةً مُكبِّرة، ودفترَ اليومياتِ الذي أُسجِّلُ فيه مختلفَ مشاهداتي في جولاتِيَ الشاطئيةِ اليومية.

وهذا أقصى ما أستطيعُ إنجازَهُ الآن، وقد استبدَّ بي الجوعُ، وأنا أعرفُ معنى الانتقالِ إلى المطعمِ القريبِ من بيتِنا لتناولِ وجبةِ الغداءِ، فليْسَ ثَمَّةَ غيرَ أطعمةِ البحرِ، يُقدِّمُها العاملون فيه بأسلوبٍ ساحرٍ فاتحٍ للشهيَّةِ .. فإلى هناك ....

إن لنا خبرةً سابقةً بأسلوبِ اختيارِ المأكولاتِ في هذا المطعمِ، وهو أسلوبٌ يُضفيَ مَزيداً من المتعةِ على مأكولاتِه .. فالتقطَ كلٌّ منَّا سلَّةً بلاستيكية، ليضعَ فيها ما يختارُه بنفسِه من أسماكٍ ورخوياتٍ وقشريَّاتٍ بحرية، يرفعُها بمِلقاطٍ من أحواضٍ زجاجية، ثم ينتقلُ بمختاراتِه إلى موقعٍ آخر، هو المطبخُ، حيث يعكِفُ على إعدادِها طهاةٌ مَهَـرَةٌ، ويعودُ إلى مجلِسِهِ مُنتظراً وجبتَه الشهِيَّة.

وأثناءَ تحادُثِنا حول المائدةِ في فترةِ الانتظارِ، فاجأتني أختي بقولِها:

"أنا مُـتأكِّدَةٌ من أنَّكَ اخترتَ لغدائكَ سرطاناتٍ بحرية"!.

فارتسمتْ ابتساماتٌ على وجوهِنا جميعاً، فالمعروفُ عني وَلَعِيَ بهذه السرطاناتِ التي أجِدُها أشهى المأكولاتِ البحريةِ. وتذكَّرَتْ أمي محاولتِي اصطيادَ بعضِ السرطاناتِ في الصيفِ الماضي، وأشارتْ أختي إلى أنها كانت شريكتِي في المحاولةِ، وقالتْ:

" صنعنا وسـيلةَ الصيدِ، وكانت مُجرَّدُ إطـاريـن دائريين من الحديدِ الرفيـعِ، قُطْـرُ أحدِهِمـا ضـعفُ قُطـر الآخر، ويربطُ بينهما نسيجٌ شبكيٌّ، بحيثُ يكوِّنُ الإطـارانُ – عندما يتباعدان – ما يشـبه السـلَّةَ الشـبكيةَ المسـتخدمةَ في لُعبةِ كرة السـلة، ولكن بدونِ فتحةٍ قاعـيَّــة". وأضافتْ ضاحكةً: "أمضينا نحوَ ساعتين نجُـرُّها وراءَ زورقِنا الصغيرِ بحبلٍ طويلٍ، وكان المحصولُ لا شيئ!".

قالَ أبي:

"المُهِمُّ أنَّ المحاولةَ كانت مُمتِعةً لكما ..".

إعترفتْ أختي:

"كانت ممتعةً جداً، والحقُّ يُقالُ، بالرغمِ من السلةِ التي كانت تخرجُ فارغةً طولَ الوقتِ".

قلتُ:

"سننجحُ هذا الصيفُ، فقد فطنتُ إلى سببِ إخفاقِ محاولتِنا الأولى، وهو أنَّنا نسِينا أن نضعَ في شبكتِنا الطُعمَ الذي يجتذبُ السرطانات!".

وأضفتُ:

"وعلى أيِّ حالٍ، فقد كان أدائيَ في صيدِ الأسماكِ طيِّباً، وكان المحصولُ وفيراً في أكثرِ مِن مَـرَّةِ".

صدَّقتْ أمي على كلامي، وقالتْ:

"كلُّنا لمِسنا ذلكَ من الوجباتِ الشهيةِ التي أعددتُها بالمنزلِ مِن مَصِيدِكَ".

قلتُ:

"وستروْنَ هذا الصيفُ تطوراً كبيراً في الإنتاجِ، بعد أدواتِ الصيدِ الحديثةِ التي جلبتُها معي".

وأخيراً أقبلَ خادمُ المطعمِ، يأتينا بصحافِ مأكولاتنا، وما إنْ وضعَ سرطاناتِي الثلاثةَ أمامي، والبخارُ يتصاعدُ منها، مُحَمَّلاً بروائحِ التوابلِ والفلفلِ الحَارِّ والقرنفلِ التي طُهِيتْ بها، وقد توزَّعتْ فوقها شرائحُ الليمون، حتى صحتُ: "مرحباً .. مرحبا ..". وبدأتُ على الفورِ التعاملَ معها بالطريقةِ (البلدية)، التي يعرفُ الجميعُ أنني لا أتعاملُ مع السرطاناتِ إلَّا بِها .. باليَـدِ مُباشـرةً. إنها تتطلَّـبُ مهـارةً خاصَّـةً في اســتخلاصِ اللحمِ الأبيضِ الطريِّ، والعصـارةِ الشهيةِ، من دَرَقَـِة وكـلاَّبـاتِ الســرطانِ البحريِّ؛ لهذا السـببِ، فإنها تســتغرقُ وقتـاً أطـولَ، وهو بالتأكيدِ أسْــعَدَ، إذ تتناثرُ التعليقـاتُ المُبهجةُ من الآكلين، ويَبقَى على الآكلِ أن يكونَ مُزَوَّدَاً بعددٍ كـافٍ من مناشــفِ المائدةِ، لحمايةِ ملابسِــه مِن عصـيرِ سرطاناتِ البحرِ الزرقاءِ، التي تتحولُ دَرَقاتُها إلى حمراءِ بعد طَهْيها!

إنتهينا من غدائنا الفاخر المتأخر في نحو السابعة مساءً، وفضَّلنا أن نتناولَ شايَ ما بعد الغداءِ البحريِّ، المعتادَ، في شُـرْفَةِ منزلِنا، فاتخذنا طريقَنا في خُطُواتٍ مُتمَهِّلَةٍ إلى بيتِنا، وكُنَّا في حالةٍ من النشاطِ أتاحتْ لسَـمَرِنا أنْ ينسابَ سهلاً، بين رشفاتِ الشايِ وقضماتِ ثمارِ الفاكهةِ.

بدأتْ أختي المسامرةَ بالتساؤلِ عن سِـرِّ هذا النشاطِ وهذه الحرارةِ التي يبعثُهما الطعامُ البحريُّ في الأجسامِ. ردَّ أبي بثلاثِ كلماتٍ:

" الأدينوسين تراي فوسفات"!.

فلما رآنا وقد اتَّجَهتْ عيونُنا جميعاً إليه، راحَ يُبَسِّطُ ما قالَه، ويشرحُه لنا:

"إنه نوعٌ من المركَّباتِ الكيميائيةِ العُضويةِ وظيفتُه اختزانُ الطاقةِ. كيف؟. يبدأُ ذلك المُرَكَّبُ في هيئةِ (أدينوسين) فقط، ثم ترتبطُ به مجموعةُ فوسفاتٍ فيتحولُ إلى (أدينوسين مونو أو أُحاديِّ الفوسفات)، ثمَّ ثانيةً (أدينوسين داي، أو ثنائيّ الفوسفات)، ثمَّ ثالثةً، ليصِلَ المُرَكَّبُ إلى أكبرِ صيغةٍ كيميائيةٍ له: (الأدينوسين تراي أو ثلاثي الفوسفات) .. ويُختزنُ في عضلاتِ أجسامِ الأسماكِ وغيرِها من خيراتِ البحر. وأثناءَ تخلُّقِ هذا المركَّبِ، يحتاجُ لِطاقةٍ تربطُ بين ذَرَّاتِه العديدةِ، يأخذُها مِمَّا تأكُلُه الأسماكُ – على سبيلِ المثالِ - من كائناتٍ بحريةٍ أدنى منها".

وتوقَّفَ أبي يتصفَّحُ وجوهَنا، فلمَّا أكدتْ له خبرتُه بِنا أنَّنا نُتابِعُه بِلا مشاكلَ في الفهمِ، واصلَ:

"فتأتيَ الأطعمةُ البحريةُ إلى موائدِنا، ونأكُلُها، لِنهضِمَها .. وفي الهضْمِ، يَسهُلُ تَكَسُّــرُ الأدينوسين ثلاثي الفوسفات وتحوُّلُه إلى ثنائي الفوسفات، ثم أحادي الفوسفات، ثم أدينوسين فقط، بلا مجموعاتِ فوسفاتٍ مرتبطةٍ به. إذنْ، فقدْ تحطَّمتْ روابطٌ كانت تَجمعُ بين ذلك كُلِّهِ .. وتحطيمُ الروابطِ الكيميائيةِ يعنيَ انطلاقَ الطاقةِ الكامنةِ التي كانت السببُ في تكوُّنِها، فيضجُّ الجسمُ بالنشاطِ مِنْ هَـوْلِ ما به مِنْ طاقةٍ".

صاحتْ أختي:

"يا إلهيَ! .. الآنَ فقطْ عرفتُ لماذا أُريدُ أنْ أَدُقَّ بقَبضَتِيَ على هذه الطاولة!".

وكوَّرتْ قبضةَ يدِها ودقَّتْ على الطاولةِ دَقَّتين قويتين، فأثارتْ ضَحِكَنا. ثم مضتْ، فنهضت من مقعدِها وتقدمتْ إلى المساحةِ الخاليةِ التي تطِلُّ عليها الشرفةُ، وتذكَّرَتْ أنَّها عُضوُّ فريقِ الجمبازِ في نادينا، فوجدنَاها تنقلبُ واقفةً على يديها، وتحرَّكتْ على هذا الوضعِ للأمامِ وللخلفِ عدَّةَ ثوانٍ، فصَفَّقْنا للبطلةِ التي عملَ الأدينوسين ثلاثي الفوسفات على إحمائها!.

2 – لقاءٌ خاصٌّ معَ طيورِ البحرِ:
أوَّلُ صباحٍ في أوَّلِ أيامِنا الشاطئيةِ.

لم أستيقظْ، كما في الأيامِ الاعتياديةِ، على صوتِ ساعةِ التنبيهِ، وإنَّما شاركَ في إيقاظيَ أجملُ جوقةٍ يمكنُ أن يَتناهَى صوتُها إلى سمعِكَ معَ انتشارٍ رفيقٍ رقيقٍ لشعاعاتٍ وليدةٍ، تجدُها تُلامِسُ جفونَ عينيك، فتنتَبِه، لتستقبلَكَ جوقةُ الشاطئ، والصوتُ الرئيسُ فيها هُوَ للموجِ في تقاطُره واستسلامِه للتكسُّرِ عندَ خَطِّ الشاطئِ، مُدَحْرِجاً مياهَه المُزبِدَةَ على رمالِه. تفعلُ كلُّ الأمواجِ نفسَ الشيئ، ومع ذلك يتهيَّأُ لكَ أنَّ كُلَّ موجةٍ تصلُ إلى الشاطئ لها صوتٌ مُغايرٌ. وإنْ أنتَ استسلمتَ لهذا السحرِ الخفِيِّ في صوتِ الأمواجِ فإنه يُسلِمُكَ للتكاسلِ؛ غيرَ أنَّ لأفرادِ الجوقةِ الآخرين دورُهم، فَسُرْعان ما تأتيكَ أصواتُ طيورِ البحرِ تتصايحُ، ويحسَبُها مَن يراها أنَّها تُمارسُ ألعاباً هوائيةً، وهيَ في حقيقةِ الأمرِ تُجريَ مُناوراتٍ تُنهي بها تحويماتُها بانقضاضاتٍ على سطحِ الماء، أو غَوْصَاتٍ لأعماقٍ قليلةٍ، تنتهي بسمكةٍ أو كائنٍ بحريٍّ بين المنقارين. أعرفُها جيداً، وأتخيَّلُ أحياناً أنَّها تعرفُني عندما أَروحُ أَرْصُدُها بمنظارِيَ وآلةِ تصويري، في جولاتي الشاطئيةِ؛ وقد تقتربُ مِنِّي كثيراً، لتَحِيَّتِي، أو رُبَّما احتجاجاً على مُراقبتِي لها في سعْيِها من أجْلِ الطعام.

حسناً. أنا قادمٌ إليكِ أيتها الأمواجُ الشبيهةُ بأفراسٍ شهباء لا تُحصَى، وأيتها النوارسُ والفَراقِيطُ البحريةُ، لأقولَ للجميعِ صباحَ الخيرِ .. طالَ اشتياقِي لكم، وها نحن نلتقي مُجدداً يا صِحاب ...

ويبدو أنني كنتُ أوَّل من استيقظَ من النومِ، فقد غادرتُ البيتَ دونَ أن أصادفَ أحداً. وعلى أيِّ حالٍ، فإنَّ ثمَّة اتفاقاً بيننا على أن يكونَ التَصَرُّفُ، في أيامِنا الشاطئية، بحُـرِّيَّةٍ تامةٍ، شَـريطَةَ تجنُّب الأَذى .. أَذى النفس، أو أَذى الآخرين. وعلى أيِّ حالٍ، مرَّةً أُخرى، فإنَّ كلمةَ (الآخرين) هُنا تختلفُ عن (الآخرين) في المدينةِ؛ فالآخرون هُنا نادرون، ويحدُثُ أن يمضيَ نهارٌ بكامِلِه بغيرِ أنْ تلتقيَ بشرياً واحداً، خارجَ نطاقِ الأسرةِ؛ ويبدو الأمرُ ليَ أحياناً كأنَّ انتقالَنا مِنَ المدينةِ إلى الشاطئ ارتيادٌ لِنِطَاقٍ فضائيٍّ، أو لكوكبٍ آخر!.

ها أنا أفتحُ صدرِيَ لتمتلئَ رئتايَ بأوَّلِ دفقاتٍ مِن هواءِ الصباحِ المُضَمَّخِ برائحةِ اليودِ والملحِ. ولابُدُّ أنْ أُبَلِّلَ قدميَّ، للمرَّةِ الأولى هذا الصيف، ليسريَ فيهِما ما يبعثُ على البهجةِ، كأنَّني لا أزالُ في طفولتِي المُبَكِّـرَة، حينَ كان الماءُ يُبَلِّلُ قدميّ الصغيرتين وينسحبُ، ثم يعودُ ليُبلَّلهما مِراراً وتِكراراً.

لم أرَ الطيورَ بهذه الكثافةِ مِن قبلُ، ويبدو أنَّ مائدَةَ إفطارِها عامرةٌ بالأسماكِ، وقد امتلأتْ حويصلاتُها بها، فكانت حركاتُها بهلوانيةً، وتتصنَّعُ العِراكَ، وهي تهزلُ، فالعراكُ يكونُ حولَ سمكةٍ في فمِ واحدٍ منها ويريدُ الآخرُ استلابَها مِنه، لكنَّ الأسماكَ متوفَّـرَةٌ، ويبدو أن أسراباً سطحيةً منها قد ظهرتْ في الطبقةِ العليا من مياهِ البحرِ لتلتقطَ، بدورِها، غذاءها من الطحالبِ المرئيةِ والمِجهريةِ العالقةِ بالمياه. وهكذا البحرُ: ثمَّةَ ما يؤكلُ، وثمة ما يأكلُ .. فالعِبرَةُ بأن تأكلَ، وألاَّ تكون مأكولاً!.

وأحببتُ أنْ أختبرَ ذاكرتِيَ وخبرتي بهذه الطيورِ التي أُعايشُها شهرين أو أكثرَ قليلاً، كلَّ سنةٍ. إستلقيتُ على ظهرِيَ، لأرى صفحةَ السماءِ فوقَ مياهِ البحرِ بسهولةٍ. كنتُ أرى بعينيَّ المجرَّدتين أصدقائيَ لاعبي الأكروباتِ من طيورِ البحرِ، فلم يكونوا بعيدين عني. وعلى كلِّ حالٍ، فإنَّ المنطقةَ ليستْ غنيَّةً بأنواعٍ كثيرةٍ من الطيورِ البحريةِ، فقد أحصيتُ في الصيفِ الماضي نحوَ ستةِ أنواعٍ، وأحسَبُها هي التي تملأُ الفضاءَ ضجيجاً وحركةً الآن.

أولُ ما أراهُ طائري الأثيرَ (النورس)، الذي أوحى لأحدِ الأدباءِ الروسِ بمسرحيةٍ عالميةٍ شهيرةٍ، هي (طائرُ البحرِ)؛ فهذا هو النورسُ أسودُ الرأسِ، وأخوهُ أسودُ الذيلِ. لا تُخطئهُما العين. إنه طائرٌ جميلٌ، وبالوقتِ ذاتِه قادرٌ على تحمُّلِ مختلفِ الأجواءِ والتأقلُمِ مع الظروفِ الصعبةِ، لذلك تعرفُهُ كلُّ سواحلِ العالَمِ. أمَّا أُجملُ المجتمعين في هذه الوليمةِ الصباحيةِ، فَهَا هوَ: إنَّه طائرُ القادُوسِ، واحدٌ من أجملِ الطيورِ البحريةِ، تراه يسبحُ في الفضاءِ بجناحيه العظيمين كطائرةٍ شراعيَّةٍ. وهو الأقلُّ عدداً من الأفرادِ بين هذا التجمُّعِ. وإنْ قبِلنا بالقادوسِ طائرةً شراعيةً، فإن طائرَ (الفرقاطُ) ذا الجسمِ المَدْموكِ والريشِ الأسود، والذي يكتسِيَ الذَكَرُ مِنهُ بالزخارفِ وبكيسٍ قُرمُزيٍّ في منطقةِ الرقبةِ، لا يمكنُ أن يشـبَّه – وهو ينقضُّ فوقَ سطحِ الماءِ – إلاَّ بالطائرةِ المقاتِلَةِ. كما أرى الغرياقَ (غرابُ البحرِ) ببراعتِهِ في السباحةِ والمطاردةِ تحتَ سطحِ الماءِ، مُستخدِماً ما توفَّـرَ له مِنْ أكبرِ مخالبٍ بين الطيورِ البحرية. أمَّا ما يُثيرُ دهشتِيَ، وفرَحِيَ بالوقتِ ذاتِه، فهو ظهورُ أعدادٍ كبيرةٍ نسبياً مِنْ طائرِ (جَـلَــمُ المــاء) .. صحيحٌ أنَّه من أكثرِ طيورِ البحرِ شيوعاً في بحارِ العالَمِ، إلاَّ أنَّني لم أرَ من قبلُ غيرَ فردين أو ثلاثةِ أفرادٍ منه، فهوَ طائرٌ ليليُّ النشاطِ، وكانت تجمعاتُه الكبيرةُ تنطلقُ ليلاً مُحَلِّقَةً على الشاطئ، وكُنَّا ننزعجُ بشدَّةٍ من صرخاتِها الغريبة المُســـتَهجَنـة.

وفوجِئتُ، وقد مضيتُ أتفقَّدُ ما استجدَّ بالمنطقةِ، بعلاماتٍ تشيرُ إلى وجود نادٍ للرياضات البحرية ومركزٍ للغوصِ، وهُما مَعْلَمان جديدان بالمنطقةِ. والحقيقةُ أنني سُررتُ بمفاجأةِ مركزِ الغوْصِ. واقتربتُ من مكانٍ أراهُ لأوَّلِ مَـرَّةٍ، مُكوَّنٍ من سلسلةٍ من المباني السكنيةِ المتشابِهَةِ، يحيطُ بها سورٌ كبيرٌ، فأدركتُ أنها القريةُ السياحيةُ التي علِمنا في الصيفِ الفائتِ أنَّها ستقامُ، ضِمنَ خُطَّةٍ لتعميرِ المنطقةِ التي لمْ يكنْ بِها مِن البيوتِ الشاطئيةِ المتناثرةِ الخاصَّةِ غيرُ عددٍ لا يزيدُ عن عددِ أصابعِ اليدين، وكانَ ما رأيتُه مِنْ حجمِ الإنشاءاتِ يوحي بأنَّنا أمامَ مشروعٍ ضخمٍ، سيجلِبُ إلى المنطقةِ مئاتَ، ورًبَّما آلافَ الأُسرِ الجديدةِ؛ ولمْ أجدْ لديَّ أيَّ مشاعرٍ تجاه القادمين الجُددِ، غيرَ أنني وجدتُ أن الاقترابَ الشديدَ لمباني القريةِ المنتظرَةِ ربما ينتقصُ من جمالياتِ امتداداتِ الرمالِ الشاطئية، وقد يُحدثُ خللاً مَا في المَشهدِ العامِ الطبيعيِّ للمنطقة.

وكانت المسافةُ التي قطعتُها في أولِ جولةٍ شاطئيةٍ صباحيةٍ لي كافيةً لأن تُشعرني بأنَّ عليَّ أنْ أعودَ لبيتِنا لأتناولَ إفطاريَ مع أسرتي، ولأحكيَ لهم عن مُشاهداتِي.

3 – حُلمُ ليلةِ صيْفٍ ...
أنا أحلمُ كثيراً، في منامِيَ ويقظتِي؛ أمَّا أحلامُ المنامِ فلا يَـدَ لِيَ فيها. تأتيني، فَأَرَاها، ولا أَهتمُّ بالربطِ بين مَقدِمِها وحادثٍ وقعَ أو حالةٍ مررتُ بها. وأمَّا أحلامُ اليقظة، فأتحَكَّمُ فيها، ولا أتركُها تطيحُ بي بعيداً عن واقعِ الحياةِ بين أسرتي وفي دوائرِ مُجتمعِيَ.

وحين أدخلُ إلى فِراشِي ليلاً، أَقضيَ بعضَ الوقتِ أُراجعُ بعضَ وقائع نَهارِيَ، وهي مُراجعةٌ لا تخْلو مِن انتقادٍ وعتابٍ لِذَاتِيَ، إنْ كان ثمَّةَ ما يستحقُّ العتابَ والانتقادَ، لكني أتوَخَّى دائماً أنْ أنامَ وأنا أفكرُ في شيئٍ سارٍّ. وقد أحلمُ أو لا أحلمُ، وقد أحلمُ وأنْسَى ما رأيتُه في حلمِي فورَ استيقاظي، أو بانتهاءِ ساعاتِ الصباحِ الأولى.

غيرَ أنَّني في الليلةِ الفائتةِ حلمتُ حلماً لا يزالُ عالقاً بذاكرتي حتَّى الآن، أو لنَقُلْ أنَّني لا زلتُ أعيشُه، وقد انتهيتُ من تناولِ إفطاري، واستسلمتُ لجلسةِ استرخاءٍ في شُرفةِ بيتنا الواسعةِ، المُطِلَّةِ على البحرِ مُباشَرةً. كان أغربَ حلمٍ رأيتُه، حتى الآن. ولكن.. هل كان حلماً حقاً؟. ربما كان ما رأيتُه حقيقةً، فَحسبَ عِلمِي، لا تكونُ الأحلامُ أبداً مُرتَّبَةً وخاضعةً للمنطِق، فَلَها منطِقُها الخاصُّ.

جاءني هاتفٌ، أولاً، يسألُ إن كنتُ مستعداً لحديثٍ قصيرٍ. لم أُجِب، ولكني استمررتُ أستمعُ. قالَ: "أنا ضيفٌ، وأتابعكُ منذُ مَجيئكَ إلى البيتِ الصيفيِّ، وصحبتُك في كلِّ جولاتِكَ، حتى الآن، وأنا مُستمتعٌ جِدَّاً بصُحبَتِكَ".

قلتُ: "أشكرُكَ، ولكن .. مَـنْ أنت؟".

ردَّ ببساطةٍ مُتناهيةٍ: "قادِمٌ من الفضاءِ الخارجيِّ!".

ضحكتُ، وسمعتُ لضحكتِي صوتاً.

قالَ:

"أَسعَدَني أَنَّكَ لم تَخَفْ، وأنا من ناحيتي حريصٌ على أن أُطمئنَكَ، فأنا - كما قدمتُ لك نفسيَ - ضيفٌ عليكَ، وأكونُ مُمتناً لك إن اتَّخَذتَني صديقاً، ولن أُكلِّفَكَ شيئاً، ولن أتسببَ في أذىً لك أو لمن حولِك، أو لأيِّ بشريٍّ آخر".

قلتُ: "هذا يعني أنَّكَ غيرُ بشريٍّ".

قال: "نعم .. وهل يوجدُ في الفضاءِ بَشَـرِيُّون؟".

فوجدُتني أَستمرُّ في محادثتِه، مُستشعِراً أنَّه يبعَثُ على الاطمئنان، ثُمَّ إنَّه يُجيدُ التحدُّثَ معي بالعَرَبيَّةِ، ويدلُّ مُستوى حديثِه على أنَّه قد تعلَّمَها جيِّدَاً، فانطلقتُ أُحدِّثَه عن تجربةِ معايشتِي المُتعمِّقَةِ لقِصَّةٍ من نوعِ الخَيالِ العلمِيَ، للكاتبِ النرويجِيِّ (جوستين جاردر)، عنوانُها (مرحباً .. هل من أحد هناك؟!)، تحكيَ عن الطفلِ (يواقيم)، الذي كان يبلغُ من العُمرِ ثمانِيَ سنواتٍ حينَ وَطَأَتْ أولُ قدمٍ بشريةٍ سطحَ القمرِ في عامِ 1969 فينشغِلُ الطفلُ بذلكَ الحدثِ انشغالاً شديداً، ويُفاجأُ بزائرٍ عجيبٍ يطرقُ بابَه. إنَّه (ميكا)، الكائنُ البشريُّ، سليلُ الدَينَاصوراتِ !.

توقفتُ لأسألَه: "هل أواصلُ الحكاية؟ .. إنْ كانتْ لا تُعجبُكَ أَتَوَقَّفُ .."

ردَّ مؤكِّداً: "أبداً .. أبداً .. أنا مُستمتعٌ بالحكايةِ".

فواصلتُ:

"ولا نلبثُ أنْ نعرفَ أنَّ (ميكا) جاءَ مِن بيضةِ دَيْناصورٍ فَقَسَـتْ فوقَ سطحِ كوكبٍ بعيدٍ إسمُه (إيلجو)، لم تنقرضْ دَيناصُوراتُه، كما حدثَ لديناصوراتِ الأرضِ، التي لو كانتْ تحمَّلتْ الظروفَ البيئيةَ القاسيةَ التي مرَّتْ بها، واستمرَّتْ مُحتفظةً بموقِعِها في خريطةِ الحياةِ الأرضيةِ، لكانَ التطوُّرُ قد انتهى بِها إلى أنْ تُعطِي بَشـــرَاً، مِن هيئاتٍ غيرِ هيئتِنا، وقُدُراتٍ غيرِ قدراتِنا، على نحوِ ما جرى على سطحِ الكوكبِ إيلجو!. وينجحُ الطفلانُ – يواقيم وميكا – في التوصُّل إلى وسيلةٍ للحوارِ، ويتبادلان اكتشافَ الحقائقِ حولَ أسبابِ وكيفيةِ تطورِ أشكالِ الحياةِ على الكواكبِ المختلفة ".

ففوجِئتُ بضيفِ حلمِيَ يقولُ:

"أعرفُ كوكبَ إيلجو جيِّداً، فهوَ ليس مُتَخَيَّلاً كما تقولُ قصَّةُ (مرحباً .. هل مِنْ أَحَدٍ هناك؟!)؛ وما وَصِلَكَ عن سلسلةِ التطوُّرِ في تاريخِه الطبيعيِّ صحيحٌ، فَسُكَّانُه يُشبهونَكم أنتم سكانَ الأرضِ إلى حدٍّ كبيرٍ، بالرغمِ من اختلافِ الأصلِ التطوُّرِيِّ: هُم جاءوا من الديناصورات، وانحَدَرتُم أنتم من القِرَدةِ العُليا!".

وقالَ أيضاً:

"واضحٌ أن معايشتَك لقصةِ صداقةِ يواقيم وميكا تركتْ أثراً في نفسِكَ، وهذا أمرٌ طيِّبٌ جِدَّاً".

قلتُ:

"لا أُنكِرُ أنني حسدتُ المؤلفَ النرويجي "جاردر" على الفكرةِ، بل ورُحتُ أرتِّبُ للنَسْجِ على مِنوالِها، فلم أفلحْ، ولكن ذلك لم يُبعدْنِي عن عالَمِ تلك القصَّة المُميَّزِ، فلم أكنْ أكفُّ عن تأمُّلِه والتعجُّبِ من شخصيةِ (ميكا)، البَشَريّ سليلُ الديناصوراتِ، القادمُ مِن (إيلجو)، حتى فوجِئتُ به يزورُني أكثرَ من مرَّةٍ في أحلامي، بنفسِ الهيئةِ، ككائنٍ أقربِ إلى بني البَشَر، تيسَّرَ له أنْ يتطوَّرَ قبلَنا بعشراتِ الملايين مِن السنين، وهي فُسحةٌ من الوقتِ أتاحتْ له أنْ يسبِقَ مثيلَه الأرضيَّ، الذي لا يكادُ يتجاوزُ عمرُه في الوجودِ مليوناً واحداً من السنواتِ، في مُختلفِ نواحيَ التكنولوجيا".

قالَ: "أفكارُكَ مُرتَّبَةٌ واضحةٌ .. ما نوعُ دراستِكَ؟".

قلتُ: "أنا لازلتُ طالباً أبدأُ مرحلةَ التعليمِ الثانويّ، فأنا الآن في الخامسةِ عشرةِ من عُمري".

قالَ: " أَدهشتَني بما لديْكَ من معرفةٍ ورؤىً، وأنا سعيدٌ أن اخترتُك لتكونَ صديقيَ الأرضيَّ الثانيَ في كوكبِ الأرضِ، إذ أنَّ لي صديقاً آخر، يُسمُّونه بالمجنونِ، لأنَّه يُصمِّمُ مَركباتٍ مِن فُقَّاعاتٍ بلازمِيَّةٍ تتحركُ بالطاقةِ الكونيةِ!".

فوجدتُني أصيحُ:

"كذلك فعلَ معي ميكا، إذ أخبرَني في أَحدِ لقاءاتِنا الشبيهةِ بالأحلامِ، كهذا اللِقَاء، بأنَّه اختارَني لأكُونَ صديقَه الثانيَ في كوكبِ الأرضِ، مع يواقيم. وأخيراً، أخبرَني أنَّه سيُرافِقُني في يقظَتِي، لنعيشَ صداقتَنا على أرضِ الواقعِ، وأنَّه لن يُمثِّلَ عِبئاً عليَّ في شيئٍ ، تماماً كما قلتَ أنتَ، وأكَّدَ لي أنَّ أحداً غيرِيَ لن يَشعُر به، على نحوِ ما تُصوِّرَه شرائطُ السينما القديمةُ".

قالَ:

"لديَّ خبراتٌ مُتَنَاقَلَةٌ تفيدُ بأنَّ سكَّانَ الأرضِ يتفنَّنونَ في تجسيدِ سكَّانِ الفضاءِ في صورٍ تُجافِي الحقيقةَ تماماً، إذ يُصرُّونَ على تصُّورِ هيئاتِهم على نحوِ ما هُمْ أنفسُهم عليه مِن هيئةٍ، فيُعطونَ لهم أجساماً بأرجلٍ وأيدِي، ورأساً يصنعونَه أحياناً من أسلاكٍ مُعقَّدةٍ، فيه عينانُ ككُرَتَي الهُوكِي، ويُعطيَ انطباعاً عاماً بأنَّه شِرِّيرٌ، جاءَ ليقتلَ!؛ وعندي فكرةٌ عن شريطٍ حديثٍ نسبياً، عنوانُه )كوكبان)، يُصوِّرُ رجالَ المريخِ خُضرَ الوجوهِ، ويبدُونَ مثل سكَّانِ الأرضِ تمامًا، ويُرجِعُ ذلك إلى أنَّهم كانوا قد جاءوا إلى الأرضِ منذُ فترةٍ طويلةٍ، ويعيشونَ في القُطبَيْنِ!".

قلتُ:

"لكن، ثَمَّةَ مُعَالَجَاتٍ طيِّبةً في هذا الخُصوصِ. أنا شخصياً بكيتُ في بعضِ المشاهدِ من شريطِ (إ. تي.)، وكلُّ مَن شاهدَ الشريطَ، مِن صغارٍ أو راشِدِين، تأثَّرَ بأحداثِه وتعاطفَ مع شخصيةِ الكائنِ الفضائيِّ وأحبَها، إذ كان أليفاً يفيضُ بالمشاعرِ ولا يُنكِرُ الجميل في علاقتِهِ بصديقِه الطفلِ (إليوت)، الذي حَمَاهُ من حُمقِ بعضِ البشرِ، ولا يزالُ مشهدُ (إ.تي.) مع إليوت على الدرَّاجَةِ أمامَ القمرِ مِن أكثرِ المشاهدِ ارتباطاً بذاكرتي".

قالَ:

"حسناً يا صديقيَ .. أرجُو لكَ بقيَّةً من ليلةٍ طيبةٍ، وأرجُو ألَّا أكونُ قد أزعجتُكَ كثيراً، وأترُكُكَ لتنامَ، فجولاتُك الشاطئيةُ تحتاجُك في كاملِ حيويتِك، وأنا حريصٌ على أنْ تكونَ كذلك، لأنَّني لنْ أُفارقُك فيها، فقد جئتُ إلى هنا لأعرفَ عن طريقِك ذلكَ العالمَ الداخليَّ .. عالمُ الماءِ، فإلى اللقاء".

قلتُ: "أنا أستخدمُ في تسميةِ هذا العالمِ ما قالَ به أحدُ الأساتذةِ الكبارِ، باعتبارِه الفضاءَ الداخليَّ للأرضِ، مُقابلاً للعالَمِ الذي جِئتَ أنتَ منه: الفضاءُ الخارجيُّ. وعلى أيِّ حالٍ، فَدَعنَا نتفقُ مبدئياً: أنتَ تُحدثُني عن الفضاءِ الخارجيِّ، وأنا أُحدِّثُك عن الداخِليِّ وأصحبُك في جولاتِي الشاطئيةِ".

قال: "إتَّفَقنا ! .. إلى لقاءٍ .."

ولكنِّي استوقفتُه:

"قبلَ أنْ تغادرَ، منْ فضلِك، عِندِي سُـؤالان. الأوَّلُ هو كيفَ عرفتَ لغتَنا بهذه الدرجةِ مِن السلاسَةِ؟!".

سألني: "والثاني؟!".

قلتُ: "ألا يهمُّكَ أن تعرفَ إسمِي؟ .. وما اسمُكَ؟".

ردَّ:

"أمَّا عن اللغةِ، فإنَّكَ لا تستطيعُ أنْ تتخيَّلَ حجمَ ما ينطلقُ من الأرضِ، طولَ الوقتِ، من ذبذباتٍ صوتيَّةٍ! .. إنَّكم لا تكفُّونَ عن الكلامِ!. وقد كانَ مِن السهلِ على كثيرينَ مِمَّنْ يسكنونَ في الفضاءِ الخارجيِّ أن يلتقِطوا هذه الذبذباتَ، ويُسجِّلونها، ويُعالِجُونَها بتقنياتٍ مختلفةٍ، ويتدارسونَها، كما حاولَ ويحاولُ كثيرٌ من البشرِ التنصُّتَ على أصواتٍ فضائيةٍ. وأنا واحدٌ مِن هؤلاء. أعرفُ أكثرَ مِن عشرينَ لُغة يتحدثُ بها البشَرِيون، منها لغتُكم العربية، ولكِنِّي – للأسفِ – أجيدُها مُحادثةً فقطْ، لا أَعرفُ قراءتَها، ولا أكتبُها!".

واستطرَدَ يقولُ: "وأمَّا عن سؤالِكَ الثاني، فيكفِينِي أنْ تنادينِي (صَدِيق)، وأنْ أُنادِيكَ بالاسمِ نفسِه، فلنْ يكونَ بيننا ثالثٌ لنتحدثَ إليهِ .. فإلى اللقاءِ يا (صديق)".

"إلى اللقاءِ يا صديق!".

4 – كيف تخدعُ سمكةً؟!
الآن، أستطيعُ القولَ بأنني أصبحتُ على درجةٍ معقولةٍ من الخبرةِ بصيدِ الأسماكِ بالقَصَبَةِ والخَيْطِ والشِّصِّ. وقد جِئتُ إلى هُنا، هذه المرَّة، مُزوَّداً بأحدثِ وسائلٍ لخداعِ الأسماكِ واصطيادها!.

كانت بدايةُ حكايةِ صيدِ الأسماكِ معي قبلَ خمسِ سنواتٍ حكايةً تُحكى، إذ فاجأتُ أسرتي –ذاتَ عَشاءٍ- قائلاً:

"سوفَ أُغنيكُمُ قريباً عن شراءِ الأسماكِ مِن السوقِ !".

التفتُوا إليَّ مُستفسِرين، فواصلتُ بمُنتَهى الثِّقةِ:

" أعرفُ أن أسعارَ الأسماكِ في ارتفاعٍ مستمرٍّ؛ ثمَّ إنَّها قد لا تكونُ طازَجَةً .. سآتِيكُم بِها حيَّةً تتلـوَّى .. ومجاناً !".

وكان ردِّي على التساؤلاتِ المُرتسِمَة على وجوهِهم كلمةً واحدةً:

"ســــأصطــادُ !".

وكان مصدرُ الإيحاء لِي بفكرةِ صيدِ الأسماكِ صيَّادٌ عجوزٌ مرَّ بالمنطقةِ ذات يومٍ، فاقتربتُ منه، وحرصتُ على مراقبتِه في تعامُلِهِ مع أدواتِه المُتواضِعة، مِن قصبةٍ وخيطٍ وشِصٍّ، ومهارتِه الكبيرةِ في تثبيتِ (الطُعمِ) في سِنِّ الشِصِّ. ولم أجدْ اعتراضاً على فكرةِ ممارسةِ الصيد، غيرَ أنَّ أُمِّيَ أبدتْ قلقَها عليَّ، وكنتُ أصغرَ سِنَّاً، وأقلَّ خبرةً بالبحرِ وبالمنطقةِ التي نقضِي الصيفَ فيها. واستطعتُ أنْ أزيلَ قلقَها:

" تأكَّدِي يا أُمِّي الحبيبةَ من أنَّ الأمورَ ستسيرُ على خيرِ وجهٍ .. إنها هوايةٌ مأمونةٌ .. ثم أنني – كما تعلمِينَ – أجيدُ السباحةَ؛ فمِن أينَ تَأتِي الأخطارُ ؟".

واصْطَحَبَني أَبي إلى متجرٍ لأدواتٍ الصيدِ، في قريةٍ غيرِ بعيدةٍ، فاشتريتُ الأدواتَ المطلوبةَ. وبدأتُ يومِيَ الأوَّلَ في الصباحِ الباكِرِ التَاِلي. وقبلَ الظهِيرةِ، نفدتْ كميَّةُ (الطُعم) التي جلبتُها معي، فحملتُ مُعِدَّاتي، وقـفَلتُ عائداً إلى البيتِ. وتكررَ الحالُ في اليومِ الثانِي. وكنتُ متحرِّجاً أُبَـرِّرُ خُلُــوَّ سَلَّتي من الأسماكِ: "كان البحرُ مضطرباً اليومَ .. وأعتقدُ أنني سأغيِّرُ المكانَ!".

وفي اليومِ الثالثِ، اكتشفتُ أَنَّني كنتُ أَضعُ الطُعمَ في الشِّصِّ بطريقةٍ خاطِئة !.

ولم أكملْ نهارَ اليومِ الخامسِ، فرجعتُ عقِبَ الظهيرةِ، حزيناً. وبعدَ الغداءِ، طلبتُ من أبي استبدالَ قصبةِ صيدٍ آليَّةٍ بقصبتِي العاديَّة؛ وقلتُ إن الآليةَ ستتيحُ لي أنْ أقذفَ بالشصِّ والطعمِ لمسافاتٍ بعيدةٍ في المياهِ العميقةِ، حيثُ أسرابُ الأسماكِ الكبيرةِ؛ أمَّا أسماكُ المياهِ الضحْلَة، التي كنتُ أقفُ فيها، فهِيَ قليلةٌ، ومراوغةٌ، وتستعصِي عليَّ ..

ابتسمَ أبي، وقالَ في هدوئه المعتادِ:

"آســفٌ يا عزيزي .. لا تتوقعْ أن أستجيبَ لكلِّ طلباتِكَ .. وهذا طلبٌ عجيبٌ! .. هل يجوزُ إعطاءُ درَّاجةٍ لطفلٍ يتعلمُ المشيَ ؟!".

فامتثلتُ لرأي أبي، وأدركتُ أنني تســرَّعتُ ولم أفكرْ جيداً قبلَ طلبِ القصبةِ الآليةِ. ولكِنِّي كنتُ أشعرُ بالحزن، ليسَ لرفضِ طلبِي، ولكن لخوفِي من أن يستمرَّ عجـزِيَ عن اصطيادِ سمكةٍ واحدةٍ على الأقلِّ، قبل أن تنتهيَ إقامتُنا بالمصِيــفِ.

وفي نهايةِ أسبوعٍ من مُحاولاتِي الفاشلةِ، انتبهتُ على صوتٍ إلى جوارِيَ. كان ذلك العجوزُ الذي يمرُّ بالمنطقةِ من حينٍ لآخر. سألني:

" إنَّكَ تبدو مَهمُوماً .. ماذا بِكَ ؟". قلتُ: " يَبدثو أنَّني فشــلتُ كصيَّـــادٍ !".

ضحِـكَ الرجلُ العجوزُ طويلاً قبلَ أنْ يقولَ:

"تُفسِّــرُ عدمَ حصولِك على أسماكٍ بالفَشَلِ ؟! .. حسناً .. إنَّني أُمارسُ هذه الهوايةَ منذُ نصفِ قرنٍ؛ وأحياناً ينقضيَ أُسبوعٌ كامِلٌ دونَ أنْ تتعلَّقَ بشــصِّي سمكةٌ واحدةٌ، فَهلْ أعتزلُ الهوايةَ التي أحببتُها منذُ كُنتُ صَبيَّاً في مِثلِ عُمرك ؟!".

أدهشتْني كلماتُه، فسألتُه : " ماذا أفعلُ، إذَنْ ؟".

"إستمرْ .. لقد راقبتُك لِدَقائق، وأشـهدُ بأنَّكَ تُجيدُ استخدامَ أدواتِك .. عليكَ أنْ تَتَحلَّـى بالصبــرِ!".

عدتُ أقولُ، في حُزنٍ واضحٍ : " ولكنني أريدُ أن أُســـعِدَ أبـويَّ وأختيَ بأسماك أصطادُها بنفسِ ي، قبل أن نغادرَ المصيفَ عائدين إلى بلدتِنا !".

زامَ العجوزُ، وقالَ: " إنَّ هدفَــكَ نبيــلٌ !".

وصمتَ قليلاً، قبلَ أنْ يعودَ ليزومَ، ويقولُ:

" إسمعْ .. أنتَ صبيٌّ طيبٌ؛ لذلك لنْ أَبْخَل عليكَ بخِبرَتِي .. سأتفرَّغُ لكَ هذا النهارَ، لأعلِّمَك وأنقلَ لكَ خُلاصةَ خِبرتِي الطويلةِ .. ما رأيُـك ؟".

وفي نهايةِ اليومِ، أدركتُ أنَّ فكرَتِي السابقةَ عن الصيدِ لم تكنْ تزيدُ عن مجرَّدِ الإمساكِ بالقصبةِ، وقذفِ الشصّ، وبه الطعمُ، إلى الماءِ.

كانَ العجوزُ يرى في الصيدِ شيئاً مختلفاً. ليسَ مُجرَّد رغبةٍ في القبضِ على السمكةِ وتحويلِها إلى شرائحَ لحمٍ طَـرِيٍّ في طَبقٍ. فالصيدُ مُتعةٌ ذِهنيةٌ، بالدرجةِ الأولَى. إنَّه منافسةٌ بين قُدُراتِ كائنٍ راقٍ، متَّعهُ اللهُ بنعمةِ العقلِ والذكاءِ، وقدراتٍ محدودةٍ لكائنٍ ضعيفٍ، هو السمكةُ، كلُّ همِّه أنْ يَضمَـنَ غذاءَهُ، وأن يصونَ وجودَه.

قالَ العجوزُ الخبيرُ، إنه يعتبرُ الصيدَ مداعبةً بينه والسمكةِ، التي لا يَـرَاها في موقِعِها تحتَ الماءِ. فهو يريدُ أن يغريَها بالطعمِ، ليشتبكَ الشـصُّ بفكِّها؛ وهي تتحايلُ لتفوزَ بالطعمِ، دونَ أن تخسرَ حياتَها؛ فإذا تحقَّقَ لها غرضُهـا وأفلتتْ بالطعمِ، فإنه لا يحزنُ، ولا يغضبُ، وإنما يبتسمُ، ويصيحُ بالسمكةِ الهاربةِ: حســـناً، أيَّتُها الشقيةُ .. لنا لقـــاءٌ آخرُ !.

وحكَى ليَ العجوزُ قصةً شهيرةً لصيادٍ أكلتْ سمكةٌ كبيرةٌ طُعمَه وشصَّه، وانطلقتْ في البحر، تحاولُ التخلُّصَ من الشصّ. إنطلقَ الصيادُ خلفَها، في قاربِه، حريصاً على ألاَّ تفلتَ مِنه. وَجَـدَها قويةً وعنيفةً، فلم يجذب الخيطَ، بلْ أرخاهُ لها، وتركَها تسحبُ قاربَه وراءَها أميالاً طويلةً، حتى خارتْ قُوَاها، واستسلَمَتْ لقدرِها. حاولَ الصيادُ أن يسحبَها مِن الماءِ ويرفعَها إلى سطحِ قاربِه، فاكتشفَ أنها كبيرةٌ جداً، وقد تُغرِقُ القاربَ؛ فهَدَاهُ تفكيرُه إلى أن يجرَّها وراءَه في الماءِ؛ وأخذَ يُجَذّفُ عائداً إلى قريتِه الساحليةِ، وقد نالَ منه الإجهادُ تماماً، وإنْ كانَ سعيداً جداً بصيدِه الثمينِ. ولمَّا وصلَ إلى الشاطئ، ربطَ القاربَ إلى المرساةِ، وأخذَ يسحبُ السمكةَ الضخمةَ. لكن ... ماذا ؟!. إنَّه يشدُّ الخيطَ بسهولةٍ؛ فهل أفلتتْ السمكةُ منه في رحلةِ العودةِ؟. لا. إنَّ الحبلَ ينتهيَ بشيئٍ. ليس سمكةً، ولكن هيكلَ سمكةٍ!. لمْ يُفطنْ الصيادُ المُتعَبُ إلى أسماكِ القَرْشِ، التي التهمتْ صيدَه وهو عائدٌ به إلى الشاطئ !.

قال العجوز:

" إن أروعَ ما في القصة هو صبرُ الصيادِ على عُنفِ سمكته الضخمة، ونجاحُه في إخضاعِها لإرادتِه؛ فلا نحزنُ لأنَّ الصيادَ لم يجدْ في النهايةِ سِوى هيكلٍ عظمِىٍّ ؛ فماذا كان بإمكانِه أنْ يفعلَ إزاءَ أســـماكِ القرْشِ الغادرةِ التي سرقتْ صيدَه ؟. لقد أدَّى واجبَه؛ وعودتُه بالهيكلِ العظمِيِّ شهادةٌ لَهُ بالانتصارِ على السمكةِ .. هل فهمتَ مَغْــزَى القصةِ ؟".

هززتُ رأسَيَ بالإيجابِ. أمسكَ العجوز بالقصبةِ ، وقالَ:

" يبقىَ أنْ تكتسبَ حساسيةَ الصيدِ؛ فنحنُ نتعاملُ مع هدفٍ لا نرَاهُ. الصلةُ الوحيدةُ بينَنَا وبينِه هيَ قصبةٌ من الغَابِ، وخيطٌ مشدودٌ من النايلُون. تنهشُ السمكةُ الطعمَ، فتتولَّـدُ ذبذباتٌ تنتقلُ عَبْـرَ الخيطِ والقصبةِ إلى اليــدِ. هذه الذبذباتُ هيَ لُغةُ التفاهُمِ بين الصيادِ والسمكةِ؛ وعلى اليـدِ أنْ تحـسَّ بهذه الذبذباتِ، ليتخذَ الصيادُ قرارَه بأنْ يشدَّ الخيطَ الآنَ، أو بعدَ لحظاتٍ أُخرى، حينَ يقتربُ فَـمُ السمكةِ أكثرَ مِنَ الشصّ. إنَّ ذلك لا يتحقَّقُ للصيادِ إلاَّ بالتمرينِ .. ومِنَ الضرُورِيِّ أنْ تكتسبَ هذه المهارةَ، لتكونَ صيَّادَ سمكٍ !".

أمضيتُ الأيامَ القليلةَ التاليةَ في اكتسابِ حساسيةِ التعامُلِ مع السمكةِ، على نحوِ ما وّرَدَ بنصائحِ الصيَّادِ العجوزِ، كما تحلَّيتُ بالصبرِ إلى أَقصَى درجةٍ، حتى حدثَ، قُربَ انتهاءِ فترةِ إقامتِنا الشاطئيةِ، أنْ شعرتْ يـدي بحركةٍ غريبةٍ تنتقلُ إليها مِنْ خِلالِ القصبةِ. قلتُ في نفسِي: هَا هِي، أخيراً .. لا بـدَّ أَنَّها كبيرةٌ، كسمكةِ الصيادِ في حكايةِ صديقِيَ العجوزِ، فهي تشدُّ الخيطَ بعُنْفٍ. صبراً. شــدِّي ثانيةً. هَــا .. مَـرَّةً أُخرى .. نعم .. نعم .. الآن ... أخيراً، أمسكتُ بِكِ !!

وفوجِئتُ بصيدِيَ الأوَّلِ: سمكةٌ صغيرةُ الحجمِ، استقرَّتْ في يدي، مُشرَعةَ الزعانفِ، لها عينانُ تبرُقان، ولا تكفُّ عن تحريكِ فكَّيها. كنتُ أبتسمُ لها وأنا أشعرُ في داخِلي بالامتنانِ تجاهَها، فهي برهانُ نجاحيَ. شعرتُ، أيضاً، بالإشفاقِ عليها وأنا أَتأَمَّلُها بعد أنْ خلَّـصَتُ من فمِها الشصَّ، وهي تضربُ بذيلِها الضعيفِ، يميناً ويساراً. وربما كنتُ، مع ابتسامتِي، أقولُ لها:

- " أَشكرُكِ يا صدِيقتِي. لا شكَّ أنَّكِ عديمةُ الخبرةِ بالطعمِ والشصّ؛ هل يُزعجُكِ فراقُ رفاقِكِ ؟. حســناً يا سمكتِي الغرِّيرَة .. سأدَعَكِ ترجعينَ إليهِم .. لا حاجةَ ليَ بِكِ .. لقد كسبتُ الجولةَ مِنكِ، وأصبحتُ، كما ترينَ ، صيَّاداً .. عُودِي إلى الماءِ .. ولعلَّكِ تكونينَ وعيتِ الدرسَ .. ولعلَّنا نلتَقِي حينَ تُصبحِينَ أثقلَ وزناً !!".

حسناً، لقد أعددتُ آلتيَ الجديدةَ، ومجموعةَ (الطعومِ) الصناعيةِ البدِيعَةِ. لنَبدَأ، على بركةِ اللهِ ...

إن صيَّادِي السمكِ بالقصبةِ والشصّ لا يستطيعونَ استخدامَ الشصّ عاريــاَ، فالأسماكُ لا تنجذبُ لهذِه الشوكةِ المعدنيةِ، ذاتِ الطرفِ المُدَبَّبِ، وبعضُها يمكنُهُ تمييزُها – غَرِيزِيَّاً – فيتجنبُهـا. أمَّا إذا كان الشصُّ مُغطىً بالطُـعْــمِ، أو مُلاصِــقاً لَـهُ، فإنَّ الأمرَ يختلفُ، إذ يتحققُ عنصرُ الخِداعِ، الذي هو أساسُ عمليةِ الصيدِ.

لقد عرفتُ من قراءاتِي عن سلوكياتِ الأحياءِ البحريةِ أنَّ الأسماكَ – والكائناتُ البحريةُ، بعامَّةٍ – تعيشث طيلةَ يومِهـا تبحثُ عن طعامٍ، أو تهربُ من عدُوٍّ يتربَّصُ بها ليفترِسَها؛ فإذا وجدتْ ما يصلُحُ لها كغذاءٍ، اندفعتْ باتجاهِهِ، قبلَ أن يسبِقَها إليهِ ( الآخَرُون )، أو لتطبقَ عليه فكَّيْها، قبلَ أن يفــرَّ هارباً؛ فالمنافسةُ شــديدةٌ، والفرصةُ قد لا تتكررُ!. من هُنا جاءتْ فكرةُ إعدادِ (طعومٍ) مُغرِيَةٍ، لا تقاومُها الأسماكُ المندفعةُ باتِّجَاهِ الطعامِ، فتعمَى عيونُها عن اكتشافِ الخداعِ، وتلتهمُ أفواهُها - المفتوحةُ دائمَاً – الطعمَ المُغْرِي، الذي يَخفِي بداخِلِه الشصَّ الحادَ؛ فلا تلبثُ السمكةُ أن تشعرَ بوخزةِ انغراسِهِ بفكِّها، فتتلَوَّى وتُناوِرُ في محاولةٍ للإفلاتِ ، تنتَهِي بالفشلِ، في مُعظمِ الحالاتِ؛ ولاتلبثُ أن ترفعَها قصبةُ الصيادِ إلى السطحِ، لِتَجِـدَ طريقَها إلى موائدِ الآكِلِين.

ولا يصلُحُ أيُّ طُعمٍ لكلِّ الأسماكِ، ولا لأسلوبِ الصيادِ ذاتِه في مناورةِ السمكةِ، ولا لنوعِ المياهِ التي يَجرِي الصيدُ بها. وتنقسمُ الطعومُ إلى نوعَيْن: طعمٌ حيٌّ، أو طبيعيٌّ؛ وطعمٌ اصطناعيٌّ. أما الطعمُ الحيُّ، فقد يكونُ نوعاً من ديدانِ الأرضِ، أو الجَمْبَرِيِّ ( الرُبْيان ) الصغيرِ، أو قِطعاً مِن جسمِ سمكةٍ أو حبَّـارٍ. وفي بُحيرَةٍ بولايةِ لويزيانا الأمريكيةِ، يَستخدمُ بعضُ الصيَّادين الصراصيرَ كَطُعمٍ لاجتذابِ الأسماكِ !

هَا هُوَ الخيطُ ينقِـلُ إلى يديَّ اهتزازاتٍ تُبشِّـرُ بأوَّلِ سمكةٍ تلتقطُ طُعمِيَ الجديدَ. وعليَّ الآنَ أنْ أسحبَ الخيطَ مُحاذراً، حتى تَتَيقنُ يداي من أنَّ صيديَ لن يفلتُ من شصِّي. هُنا، يتحدَّدُ نجاحُ الصيَّادِ بسرعةِ اتخَاذِه القرارَ بأنْ يتَأَنَّى، أو يُسارعُ فيسحبُ خيطَه. وقد قررتُ أنْ أسحبَ، حتى انتهتْ عشراتُ الأمتارِ مِن الخيطِ، ثُـمَّ شقَّتْ سمكتِي سطحَ الماءِ، تتلوَّى وهِي مُعلَّقةٌ مِن فمِها بالطُعمِ والشصّ. ألتقطُها راضياً، وأضعُها في سلَّةِ الصيْدِ. كانتْ من أسماكِ المَرجَانِ، ووزنُها يزيدُ عن الكيلوجرام.

إنَّ للطُعمِ الصناعيِّ لَسِحراً!. حقَّقَ نتيجةً طيبةً في ظرفِ دقائقَ قليلةً. إنه يتفوَّقُ على الطبِيعيّ؛ وقد اخترتُ منه عِندَ شِـرائهِ مجموعةً مُتنوعةً صُنِعتْ مِن الخشبِ والبلاستِيك؛ ومختلفةَ الأشكالِ. ويُلزمُكَ الطعمُ الحيُّ بأنْ تبقيَ في موقعٍ ثابتٍ، فلا تجازفُ بتحريكِ شِـــصِّكَ لمسـافةٍ طويلةٍ، خوفاً مِن أنْ ينفلتَ منه الطعمُ ويضيعُ هبَاءً؛ أمَّا النوعُ الصناعيُّ، فيُتيحُ لكَ حريةَ الحركةِ والسعيَ وراءَ السمكةِ، ومدىً واسعاً لمُناورتِها، سواءٌ استخدمتَ قصبةَ الصيدِ الآليةَ وأنتَ ثابتٌ فوقَ جسرٍ أو رصيفٍ، أو كان الصيدُ من فوقِ قاربٍ سريعٍ؛ فَلدَيْكَ طُعمٌ مُتماسِكٌ، لا يتأثَّـرُ بفعلِ الاحتكاكِ بالماءِ.

وفي الحاليْنِ – الطبيعيُّ أو الصناعيُّ – عليكَ أنْ تختارَ الطعمَ الذي يُناسبُ نوعَ الأسماكِ الذي تَسْعَى إليه؛ وهذا يتطلَّبُ خبرةً بعاداتِ الأسماكِ الغذائيةِ، وسلوكياتِ حياتِها، وأسلوبِ تحرُّكِها في المياهِ .. فقد يتخِذُ الطعمُ المناسبُ هيئةَ سمكةٍ ملوَّنة؛ أو قد يكونُ من الأفضلِ استخدامُ سمكةٍ من البلاستيك اللَّيِّـنِ الشفافِ، تصلحُ للشصّ الطويلِ، وتأخذُ الشكلَ الطبيعيَّ لسمكةٍ سطحيةٍ صغيرةٍ، وتحققُ نتائجاً ممتازةً مع الأسماكِ الكبيرةِ التي تعتادُ التقاطَ غذائِها من الأسماكِ العائمةِ، عِند السطحِ المُضِيئ. وثمَّةَ أسماكٌ لا يَستَهْويها إلاَّ الديدانُ؛ ولَهَا ما تُريدُ، فثمَّة أنواعٌ من الديدانِ الصناعيةِ لا تخيبُ أبداً مع أسماكِ (الوقار) الكبيرةِ ؛ وتُصنعُ هذه الديدانُ البلاستيكية في صورٍ متعددةٍ، وبألوانٍ مختلفةٍ، تتفقُ والحالةَ المِزاجِية لكلٍّ من السمكةِ .. والصيَّاِد !.

وفي نهايةِ ساعَتينِ تقريباً، وجدتُ في سَلَّتي عدداً من الأسماكِ مُتفاوِتةِ الأحجامِ مختلفةِ الأنواعِ، يقتربُ وزنُها من عشرةِ كيلوجرامات، فكانَ عليَّ أنْ أتوَقَّف، وأُلمْلِمُ قصبتِي وأدواتِي، وأتَّخذُ طريقيَ راجِعاً بحَمْلي الثقيلِ إلى البيتِ، واثقاً مِن أنَّني سأجدُ استقبالاً رائعاً، ومِن أنَّ أُمِّي ستُعِدُّ لنا من الصيدِ الوفيرِ صِحافاً شهيةً، نجدُها على مائدةِ الغداءِ.

5 - إفطارٌ وطاقةٌ ..!
لم يكن لديَّ أدنى شكٌّ في تواجُدِ (صَدِيق) بيننا، ونحنُ نتناولُ إفطارَنا بالشُرفة. لم تكنْ ثمَّة فرصةٌ لتبادُلِ الكلامِ، أو التحيةِ على أقلِّ تقديرٍ، فالتزمَ هوَ الصمتَ، وكذلكَ فعلتُ. غيرَ أنَّ أختي عبَّرتْ عن إحساسٍ تعيشُه، فقالتْ:

"لديَّ شعورٌ مُحَبَّبٌ هذا الصَبَاح .. كَـمٌّ غيرُ اعتياديٍّ من الطاقةِ الإيجابيةِ يُحيطُ بِي!".

وافقَها أَبي وأُمِّي، أمَّا أنا فقلتُ:

"نجيئُ إلى هُنا لنسَرِّبَ ما ظَلَلنا نحملُه في المدينةِ مِن طاقةٍ سلبيةٍ لشهورٍ طويلةٍ!".

وتفرَّعَ حديثُ المائدةِ إلى موضوعاتٍ مختلفةٍ، حتى انتهينَا من فطورِنا، وجلسْنا نتحدثُ عن خُططِنا لهذا اليومِ ، بينما أَبي وأُمي يحتسيان قهوتَيْهِما. وفجأةً، ألقتْ أُخْتي عليْنا بسؤالٍ مُفاجِئٍ: "ما الطاقةُ ؟!".

إستولتْ علينا الدهشةُ لثوانٍ، وهي تنظرُ إليْنَا منتظرةً مَنْ يَستجيبُ لسؤالِها. ثمَّ قالتْ مُوضحةً لَنَا دافعَها للسؤالِ:

"كُنَّا نتحدثُ منذُ قليلٍ عن الطاقةِ؛ وكلُّ الناسِ يتحدثونَ عنها: العلماءُ والسياسيُّون والأطباءُ والرياضيّون .. حتى المُشَعوِذُون، يتحدثونَ عن طاقةِ الجَانِ!. فهلْ يفهمُ كلُّ هؤلاءِ الطاقةَ بنحوٍ محددٍ، أمْ أنَّ لكلٍّ منهُم مفهومُه الخاصُّ؟!".

عبرتْ أُمي عن سعادتِها بأسلوبِ ابنتِها ذات الإثني عشرةَ ربيعاً في التفكيرِ. واكتفيتُ أنا بالقولِ: "سؤالٌ مثيرٌ حقاً .."، مُلتفِتاً إلى أَبي، الذي انضمَّ إلى سرورِنا بالسؤالِ، ثم تركَ فنجانَ قهوتِه، وانطلقَ يُحدثُنا. قالَ:

"يَبدُو السؤالُ سهلاً، لكنَّ الإجابةَ ليستْ يسيرةً. إنَّه يُمثِّلُ واحداً من أهمِّ المفاهيمِ الأساسيةِ في علومِ الفيزياءِ، ومن المُهمُ أنْ نعرفَه جيداً، بعدَ أنْ شاعَ استخدامُ كلمةِ (الطاقة) بينَ الناسِ. وإنْ نحنُ لجأْنَا إلى الكُتُبِ المتخَصِّصَةِ في الفيزياءِ سنجدُها تقولُ لَنَا إنَّ الطاقةَ هِي (القدرةُ على أداءِ شُغْلٍ)، ثمَّ تعودُ فتقولُ لنا إنَّ (الشغلَ) هُو تحريكُ شيئٍ بالتَغَلُّبِ على (قوةٍ) تحتفظُ بِه في حالةِ ثباتٍ. هلْ أستمرُّ، أمْ أنَّكُم تَجدونَ صُعوبةً في تَلَقِّي ما أقولُه؟"

لم يجدْ أحدٌ مِنَّا صُعوبةً في فهمِ حديثِه، فرجَوْناه أنْ يستمرَّ، فعادَ يقولُ :

"رأييَ الشخصِيُّ أنَّه لا يُوجدُ في مُحتوى الكتبِ العلميةِ البحتةِ الجافةِ ما يَكفِي لأنْ يُعَرِّفَنا بمَاهِيَّةِ الطاقةِ، ويَحلُو لبعضِ الناسِ أنْ يصفَ هذا التعريفَ الذي يأخذُ به الاختصاصيُّون الفيزيائيُّون بأنَّه أشْبَهُ بتعريفِ الفيلسوفِ الإغريقيِّ القديمِ (أفْلاطُون) للإنسانِ..".

أسرعتْ أُختي تسألُ: "وبمَ عرَّفَ أفلاطونُ الإنسانَ؟!".

" بأنَّه كائنٌ حَيٌّ لا ريشَ له، يَمشِيَ على قَدَمَين!".

كنَّا نسمعُ هذا التعريفَ لأوَّلِ مرَّةٍ، فابتَسمنَا. وتمهَّلَ أَبي قليلاً، مُستجمِعاً أفكارَه، ليواصلَ حديثَه عن الطاقةِ، فقالَ:

" ورأييَ أنَّه لأمرٌ صعبٌ أنْ تعثرَ على تعريفٍ مُرضٍ، يُحيطُ بمَعْنَى الطاقةِ إحاطةً تامةً. وأعتقِدُ أيضاَ أنَّ صعوبةَ إيجادِ هذا التعريفِ ناتجةٌ مِنْ أنَّ الطاقةَ فكرةٌ مُجرَّدَةٌ غيرُ محسوسةٍ مادياً، فلا يمكنُكَ أنْ تأتِيَني بشيئٍ تقبِضُ عليه في يدكَ وتقولُ لِي خُذْ هذه الـ (طاقةَ)، فالطاقةُ كلمةٌ موجِزةٌ، تُغني عن شروحٍ طويلةٍ مُستقرةٍ بأذهانِ العلماءِ المتصِلينَ بمجالاتِها؛ ولا يستطيعُ أحدٌ ادِّعاءَ أنَّه يعرفُ (جوهراً) مادياً للطاقةِ ".

والحقيقةُ هِيَ أنَّ أَبي قد بذلَ مجهوداً كبيراً ليبسِّطَ لنا مفهوماً للطاقةِ ينقلَه إلينا. وقد فهمتُ من حديثِه، الذي قطَّعتْهُ تساؤلاتُنا واستفساراتُنا مرَّاتٍ عديدةً، أنَّ الطاقةَ تمتازُ بإمكانيةِ اختزانِها، أَيْ تحويلُها إلى (كُتلةٍ)، كَكُلِّ المحروقاتِ، لتفيدَ في إنجازِ عملياتٍ فيزيَائيَّةٍ وكيميائيةٍ نَنْعَمُ بمردوداتِها. ومِنْ أوضحِ مردوداتِ الطاقةِ الحركةُ. وهُنا، أشارَ إلى لُعبةِ البِلياردُو التي أَهوَاهَا وأُمارِسُـها في المدينةِ، فقالَ مُوجهاً حديثَه لِي:

"إنَّك مِن هُواةِ البلياردو .. فأنتَ عِندمَا تضربُ الكرةَ بطرفِ عصاكَ تُعطِيها طاقةً حرَكِيَّةً تجعلُها تتدحرجُ على طاوِلةِ اللعبِ بسرعةٍ تزيدُ بزيادةِ وزنِ الكرةِ، أيْ بزيادةِ كميَّةِ الطاقةِ التي اكتسبتْها مِنْ اصطِكَاكِ طرفِ العَصَا بِها".

وأوضحَ لنا أَبي أنَّ الطاقةَ تتخذُ أيضاً صورةَ الحرارةِ؛ فدرجةُ حرارةِ جسمٍ مَا هِيَ مِقياسٌ لسرعةِ حركةِ الذرَّاتِ التي تتكونُ مِنها مادةُ هذا الجسمِ. فكوبُ الشايِ الساخنِ تتحركُ فيها جزيئاتُ الماءِ بسرعةٍ كبيرةٍ، تتولَّدُ عنها حرارتُه المرتفعةُ، التي لا تلبثُ أنْ تنخفضَ عندَمَا تأخذُ هذه السرعةُ في التناقُصِ. ويمكنُ للمادةِ الصُلْبةِ أنْ تكتسبَ طاقةً تتحولُ بداخلِها إلى حرارةٍ. إنْ ألقيْنا قطعةَ حديدٍ في النارِ اكتسبتْ ذرَّاتُها سرعةَ حركةٍ، لكنَّها في هذه الحالةِ حركةٌ بغيرِ انتقالٍ .. إنَّها تتذبذبُ أو تَتَقَلْقلُ في مكانِها.

واختصَّ أَبي، هذه المرَّة، أُختيَ بإشارتِه إليهَا وهو يقولُ:

"أُنظُري إلى كوبِ الماءِ أمامَكِ على مائدةِ الطعامِ. إنَّكِ تَـرَيْنَـهُ ساكناً، والحقيقةُ هِيَ أنَّه واقعٌ تحتَ تأثيرِ قوةٍ تضغطُ عليهِ لأسفلِ، هِيَ الجاذبيةُ الأرضيةُ، وهي تُعطيَ الكوبَ طاقةَ حركةٍ تظلُّ كامنةً فِيهِ، فإنْ لَكَزَتْه يدٌ، سقطَ .. لقد حرَّكتْه الطاقةُ الكامنةُ فيه".

وإن اسْتغنَيْنَا عن التفاصيلِ –يقولُ أَبي- فإنَّ أنواعَ الطاقةِ الكيميائيةِ والكهربيةِ والنوويةِ هِيَ –ببساطةٍ- محكومةٌ بالحركةِ الصريحةِ الواضحةِ، أو طاقةِ الحركةِ الكامنةِ. ولا بأسَ في مِثالٍ قد يُقرِّبُ لَنَا مَعنَى الطاقةِ النوويةِ. إنَّها كميةٌ ضخمةٌ من الطاقةِ محبوسةٌ داخلَ أنويةِ ذرَّاتٍ، كما لَـوْ كانتَ زُنْبُرُكاً ملفوفاً كحَلَزُون، ليحتلَّ حيِّزَاً ضيِّقَاً جداً بالنسبةِ لحجمِه. فإنْ تيسَّـرَ لَنَـا (شَـقُّ) النواةِ، حصُلْنا على قِسمينِ يحمِلُ كُلٌّ مِنهما شحنةً موجبةً، تدفعُ بهما إلى التنافرِ بشدةٍ، أيْ أنَّهما يتحرَّكَان بسرعةٍ كبيرةٍ، بتأثيرِ ما كانَ كامِناً فيهِما مِنْ طاقةِ حركةٍ.

واستحقَّ أَبي قبلاتِنا وشكرَنا على هذه المُسَامَـرَةِ العلميةِ الصباحيةِ، التي أنهَتْها أُمِّي بإعلانِها أنَّها ستكونُ مِن أنصارِ تعريفِ أفلاطون للكائنِ البشريِّ، فأَضْحَكَتْنا جميعاً، ليرتفعَ مُستَوى الطاقةِ الإيجابية، أكثرَ، في المكانِ!

6 – مُهندِسةُ الشاطِئ:
عُدنا من جولةِ شراءٍ في متجرٍ كبيرٍ (مول) مشهورٍ، في مدينةٍ ساحليةٍ صغيرةٍ تقعَ على بُعدِ عشرةِ كيلومتراتٍ أو أَقَل مِنْ موقعِ بيتِنا الساحليّ. وانشغَلْنَا بتصنيفِ المشترواتِ وتخزينِها في الثلاجاتِ وأرفُفِ المطبخِ . ورأيتُ أختيَ العزيزةَ تفحصُ بعضَ الأوراقِ الدعائيةِ التي وضعَها مُوظَّفو المتجرِ مع مُشرواتِنا، وقد استوقفتْهَا ورقةٌ ملونةٌ، وظهرَ الاهتمامُ الشديدُ على وجهِهَا، بينما عينَاها تجريان فوقَ السطورِ المطبوعةِ بالورقةِ. ولمَّا انتهتْ مِنْ قراءتِها لم تنتظرْ أحداً يسألُها عن مُحتوى الورقةِ، إذ انطلقتْ تُحدِّثُنا عَنْ المفاجأةِ التي تحملُها الورقةُ الملونةُ: مسابقةٌ تنظِّمُها إدارةُ الجمعيةِ الأهليةِ المشرفةِ على إدارةِ الشاطِئ الخاصِّ بتلكَ المدينةِ الصغيرةِ، للأولادِ والبناتِ حتَّى سِـنّ اثنتي عَشِـرَة سنةً، لاختيارِ أحسنِ مَنْ يبنيِ قصوراً وقلاعاً برمالِ الشاطئِ!.

وسكتتْ قليلاً، وبدتْ مترددةً وهي تسألُ:

"أيمكنُني الاشتراكُ في هذه المسابقةِ يا أَبِي العزيزَ؟!".

ردَّ أَبي، على الفَوْرِ:

"ثمَّة شخصٌ واحدٌ فقطْ في العالمِ هُـوَ مَنْ يستطيعُ أنْ يجيبَ عنْ سؤالِكِ!".

دهشتْ أُختي، وتمهَّلتْ قليلاً، كما لَوْ كانتْ تفكرُ فيمَنْ يكونُ ذلك الشخصُ، فأسرعَ أبي يُنهي حيرتَها، ويقولُ:

"إنه أنتِ يا صَغيرتيَ الجميلةَ!".

وسألتْها أُمُّنا:

"إنَّني أراكِ تقضينَ وقتاً طويلاً، كلَّ يومٍ تقريباً، تلعبينَ بالرمالِ وتصنعينَ أشياءً جميلةً، فَهَلْ تشعرينَ بأنَّ مهارَتَكِ تؤهلُكِ للتنافسِ في هذه المسابقةِ؟".

وكنتُ أعرفُ أنَّها ماهرةً، بالفعلِ، فتداخلتُ في الحوار متحمساً:

"بالتأكيدِ .. بالتأكيدِ ..".

قالَ أَبي في هُدُوءٍ:

"دَعُونَا لا نتسرَّعُ .. أمامُنا وقتٌ كافٍ، وعليْنَا أنْ نفكرَ على مَهلٍ ..".

كان أبي خبيراً بأحوالِ ابنتِه، ويعرفُ أنَّها تتسرعُ في قراراتِها أحياناً. ولقد لمستُ أنا فِيمَا بعدُ أنَّها مُتردِّدَةٌ بشأنِ هذه المسابقةِ ، وحاولتُ أن أدعمَها بمشاركتِها أفكارَها. كان مصدرُ تردُّدِها خوفُها مِنْ أنْ يُوجِد بين المُتسابِقِين مَنْ يفوقُها قُدرةً على البناءِ برمالِ الشاطئ، ولكنِّي تمكَّنتُ مِنْ مُعالجةِ هذه الناحيةِ، وجعلتُها تكتسبُ ثقةً بنفسِها؛ فَلْيِكُن هناكَ عشراتٌ من الأولادِ والبناتِ المَهَرَةِ، وليكنْ مِنهم –أيضاَ- منْ يستطيعُ أنْ يفوزَ بجائزةِ المسابقةِ، فهلْ أنتِ قادرةٌ على صُنعِ أشيائكِ البديعةِ التي رأيتُكِ مِراراً تُقِيمِينَها مُستخدمةً الرمالَ المبللةَ، ومنافسةِ الجميعِ؟. هذا هُو السؤالُ!.

وأمضيتُ معها ساعاتٍ طويلةً وهِي تتدربُ على إقامةِ المنشآتِ الرمليةِ وتديرُ تحركاتَ مياهِ الأمواجِ المتدحرجةِ على رمالِ الشاطئِ، في قنواتٍ، وتبنيَ أمامَها سُدوداً لتتكونَ منها بحيراتٌ صغيرةٌ. كما أنَّنا ذَهبنَا إلى موقعِ شاطئِ المسابقةِ بصحبةِ أبِينَا وأُمِّنا مرَّتين، لمُعاينتِه. وكان آخرُ ما أتوقَّعُه أنْ يكونَ صديقيَ (صديق) مُهتمَّاً مُتابعاً لانشغالِ الأسرةِ بموضوعِ المسابقةِ، كأنَّه فردٌ فِيها، وأنْ يُسرِّبَ إليَّ أنَّه لنْ يتدخلَ بمساعدةٍ مُباشِرةٍ، ولكنَّه سيُوحِي إلى أُختِي بفكرةٍ واتتْهُ وهوَ يرافقُنا، دونَ أنْ يعلمَ أحدٌ، أثناءَ تجوُّلِنا في منطقةِ المسابقةِ الشاطئيةِ.

وكانتْ دهْشَتي كبيرةً في صباحِ يومِ المسابقةِ، حينَ وجدتُ تغيُّراً كبيراً قد طَرَأَ على أحوالِ أُخْتِي المتنافسةِ في مسابقةِ مُهندسِ، أو مهندسةُ الشاطِئ. كانتْ عيْناهَا تلتَمِعان، وتتصرفُ بهدوءٍ وثقةٍ، ولا تتكلمُ كثيراً. ولما سألتُها عن أحوالِها، ردَّتْ باقتضابٍ: (سأُدهِشكَ .. سأجعلُكَ تفتخرُ بأنني أُختُك!).

وكُنَّا في موقعِ المنافسةِ في الموعدِ المُحددِ؛ واختارتْ أُختي لنفسِها بقعةً على الشاطئِ، وراحتْ تتأملُ حركةَ الأمواجِ وأقْصَى مدىً تصلُ إليهِ على رمالِ الشاطئِ؛ كما اطمأنتْ إلى مَلمَسِ الرملِ. وفجأةً، ووسطَ دهشةِ الجمعِ الكبيرِ من جمهورِ المُشَاهِدِين لوقائعِ المنافسةِ، ونحنُ بينَهم، تركتْ الموقعَ، وتحركتْ بعيداً عن الشاطئِ الخَاصِّ، واختفتْ خلفَ رَوَابٍ رمليةٍ عندَ طرفِه القَصِيِّ. وانْتَابَنا القلقُ عليْها، وانتَظَرنا نحوَ عشرَ دقائقَ، لِنرَاها قادمةً تَتَهَادَى، تحملُ بين يَدَيها كومةً من المُهمَلاتِ، أفرغَتْها عِندَ حُدودِ بُقْعتِها المُختَارَة!

كان بعضُ الأولادِ والبناتِ من المُتَسابقينَ يوشكونَ على الانتهاءِ من مشروعاتِهم، بَينَما أُختِي العزيزةُ لا تزالُ واقفةً ترتِّبُ ما جمعتْه من مُخلَّفاتٍ خَشبيةٍ وبلاستيكيةٍ، وأسلاكٍ، وكُريَّاتِ قطرانٍ، وأصدافٍ وقواقعٍ مُهشَّمَةٍ، بَلْ وبعضُ بقَايَا مِنْ فواكِه وخضرواتٍ. ثم انتصبتْ واقفةً، وراحتْ ترسمُ خطوطاً متوازيةً ومتقاطِعَةً ودوائرَ متداخلةً. وأخيراً، امتدتْ يداها إلى الرمالِ، مُستخدمةً أَدَوات الحفرِ، لِتبدأَ ملامحُ مشروعِها الهندسيِّ في الظهورِ، رُوَيْدَاً رُوَيْدا. ولم تكنْ تستسلمُ للانهياراتِ التي كانتْ تحدثُ في الحفراتِ والجدرانِ، من وقتٍ لآخرَ، فكانتْ تعيدُ بناءَها وتُقَوِّيها، ثم تستمرُ في تطويرِ أبنِيَتِه؛ حتى تحوَّلَتْ الرمالُ المُبَلّلة، والقمامةُ التي كانتْ تُفسِدُ جمالَ تلك الناحيةِ البعيدةِ من الشاطئِ إلى مبانٍ سحريةٍ عجيبةٍ، ومُركَّباتٍ من أعمدةٍ وقبابٍ وأقواسٍ وجسورٍ ومساقطِ مياهٍ. وكانت المياهُ تأتيَ من البحرِ مع حركةِ الأمواجِ لتندفعَ في مساراتٍ خاصةٍ، وتدورُ أكثرَ من دورةٍ، في مستوياتٍ مختلفةٍ، قبلَ أن تعودَ إلى البحرِ مرةً ثانيةً.

وكان الموعدُ المُحدَّدُ لكلِّ مُتسابقٍ قد قاربَ على الانتهاءِ، حين وجَدْنا أُختيَ المهندسةَ العبقريةَ ترفعُ يدَها، إشارةً إلى انتهاءِ عملِها، ودعوةً لأعضاءِ لجنةِ التحكيمِ ليُعايِنُوا مشروعَ آخِرِ المُتسَابِقين. ولم يملكْ أعضاءُ اللجنةِ إلاَّ أنْ يُبدُوا إعجابَهم بالفكرةِ الجديدةِ والغريبةِ التي أتتْ بها مهندستُنا الصغيرةُ، ونفَّذتْها بإتقانٍ تامٍّ.

ثم بدأتْ مراسمُ إعلانِ نتيجةِ المسابقةِ وتوزيعِ الجوائزِ. ولم يكُنْ من الصعبِ على جميعِ مشاهِدِي أحداثِ المسابقةِ، بمنْ فِيهِم المُتسَابِقون أنفسُهم، التنبُّؤُ باسمِ الفائزِ، الذي سيُعلِنه رئيسُ اللجنةِ، حالاً.

كانتْ أُختي العزيزةُ هي الفائزةُ بجائزةِ هذا العامِ: كأسٌ فضِّيَّةٌ، ولقبُ (مُهندسُ الشاطئِ)، معَ شهادةِ تقديرٍ خاصَّةٍ قدَّمتْها لها لجنةُ التحكيمِ، لأنَّها لَفَتَتْ الأنظارَ بذكاءٍ إلى تلوُّثِ الشاطئِ بالمُخلَّفاتِ الصُلبةِ والمهمَلاتِ . وأضافَ رئيسُ الجمعيةِ جائزةً أُخرى، كانتْ دعوةً مجَّانِيَّةً للأسرةِ كُلِّها للاستمتاعِ بالمصيفِ في العامِ القادمِ؛ ولمْ نَكُنْ لنَقْبَلها، فَلَنَا بيتُنا الصيفيُّ، في منطقةٍ لا تزالُ محتفظةً بنظافةِ مياهِها ورمالِها، يشاركُ سًكَّانُها في إبعادِ شَبَحِ التلوُّثِ عَنْها.

7 – بحرٌ نظيفٌ:
أَقِمنا لأُختي حفلاً صغيراً عقبَ عودتِنا إلى البيتِ، استَعًدْنا خِلالَه (سيناريو) أحداثَ المسابقةِ، ووقْعُ المفاجأةِ التي أحدثتْها فكرتُها الطيبةُ، التي نبَّهتْ الناسَ بشدَّةٍ إلى انتشارِ كوماتِ المخلفاتِ في تِلكَ المنطقةِ، التي علمتُ فيما بعدُ أنَّها كانت جانباً أساسياً مِمَّا سرَّبَه (صديق) إلى ذهنِها في الليلةِ السابقةِ.

وبعدَ انتهاءِ حفلِنا، الذي امتدَّ على مائدةِ الغداءِ، خَلدْنا جميعاً للراحة في حُجُراتِنا لبعضِ الوقتِ، ثم خرجتُ أنا إلى مياهِ الشاطئِ، طلباً لمتعةِ السباحةِ قبلَ مَغيبِ الشمسِ. وفي الأحوالِ الاعتياديةِ يَنْقَضِي وقتُ السباحةِ بسرعةٍ، فما بالُكَ إنْ توفَّرَتْ للمرءِ صحبةٌ كصحبةِ (صديق)؟!

ما إنْ تبادلَنا التحيةَ، وأَبْدَى إعجابَه بأسلوبِي في السباحةِ، حتى بادرتُ بشُكرِه على الفكرةِ العبقريةِ التي أَوحَى بها إلى أُختي، وجعلتْها تتميزُ وتفوزُ بكأسِ مهندسِ الشاطئِ، فَــرَدَّ قائلاً إنَّ الفضلَ لَهَا هِيَ، فَلَدَيها مهارةٌ فائقةٌ في هذا النشاطِ الشاطِئي. وأَبدَى أسفَه الشديدَ لِمَا عاينَه بنفسِه مِنَ انتشارٍ لظاهرةِ تلوُّث مياهِ هذا البحرِ، على امتدادِ كلِّ سواحِلِه تقريباً، بمختلفِ أنواعِ المُلَوِّثَات. وتساءلَ: كيفَ يغفلُ البشرِيون عنْ أنَّ صحةَ البحرِ مهمةٌ جداً لصحتِهم وصلاحِ وطِيبِ حياتِهم؟!. ثمَّ أضافَ منزعجاً:

"إنَّه فضَاؤكُم الداخِلِي!".

وفضَّلتُ أنْ أُنهِي سباحَتِي، وأخرجَ من المياهِ، لأواصلَ مسامَرَتي مع هذا الفَضَائيّ المُستَاءِ مِنْ إساءةِ سكانِ اليابسِ للبحارِ والمحيطاتِ. وهَا هُوَ يُشاركُ عالِمَ البحارِ الدكتور حامِد عبد الفَتَّاح جوهَر نظرتَه لبحارِ الأرضِ ومحيطاتِها كفضاءٍ داخليٍّ، هُوَ الأَوْلَى بأنْ يوجِّه إليه النوعُ الإنسانيُّ كلَّ اهتمامِه، وأنْ يرتادَه، فَفِيهِ حلولٌ لجميعِ ما تعانِيهُ البشريةُ مِنْ مشاكلٍ. وداعبتُه قائلاً:

"ما أجدركَ بأنْ تكونَ أرضيَّاً!".

واصطحبتُه إلى غُرفَتِي بالبيتِ، حيثُ عرضتُ عليه سِجلاًّ أحتفظُ به، أُسَمِّيه (الدفترُ الأزرقُ)، أجمعُ فيه قصاصاتٍ مكتوبةٍ عن البحرِ من نواحٍ عِدَّةٍ. دفعتُ به إليه، وقلتُ:

"إقرأْ لِتَـرَى عَجَبَاً!".

قال: "سبقَ أنْ أخبرتُكَ بأنَّني لا أقرأُ لغتَكم .. فقط، أَفْهمُ مَعانيَ مُفرداتِها، وأعرفُ كيفَ أستخدِمُها منطوقةً". فاعتذرتُ له متعجباً من أمره، وإن كنتُ تذكَّرتُ أنَّه قد أخبرَني بذلك فعلاً، في بدايةِ تعارُفِنا. قلتُ له:

"حسناً .. سأُسمِعُكَ بعضاً من قصَاصَاتي عن البحرِ المتوسطِ .. لنَبْدَأ بِهذه .. إنَّها رسالةٌ إلى مُحَرِّرِ نشرةِ (عَرُوسُ البحرِ)، التي يُصدرُها برنامجُ البحارِ الإقليميةِ، التابعُ لبرنامجِ الأُمَمِ المتَّحدَةِ للبيئةِ، يقولُ فيها كاتِبُها: (في أُغسطس الماضِي، ركبتُ البحرَ المتوسطَ، في رحلةٍ لمدةِ سبعةِ أيامٍ، على ظهرِ سفينةٍ يونانيةٍ، وقد تأثرتُ كثيراً بالجمالِ الفائقِ في جُزُرِ هذا البحرِ، غَيرَ أنَّ ثمَّةَ ما هَالَنِي وانتقصَ من مُتعَتِي؛ ذلكَ أنَّني لاحظتُ أنَّ السفينةَ التي كنتُ أركبُها كانتْ تُلْقِي بكمياتٍ ضخمةٍ من النفاياتِ وسَقْطِ المتاعِ في مياهِ البحرِ، مرَّتين أو ثلاثَ مراتٍ يومياً. وخلالَ أيامِ الرحلةِ، كُنَّا نقابلُ سفناً أُخرَى، وكانتْ تقترفُ نفسَ الأفعالِ، وقد أَحصيتُ من هذه السفنِ حَوَالَي العشرينَ. فإذا كان الأمرُ يسيرُ بهذه الصورةِ، فإنَّ مياهَ البحرِ تستقبلُ عِدَّةَ أطنانٍ من نفاياتِ السفنِ كلَّ عامٍ. وقد أحسستُ بالتِزَامِيَ نحوَ أنْ أنقلَ إليكُم مثلَ هذه التصرفاتِ والسلوكياتِ غيرِ الحميدةِ وغيرِ المسئولةِ، آمِلاً أنْ تَتَمَكَّنوا من العملِ على تَقويمِها أو بَترِها..).

قالَ (صديق): "تصويرٌ لحالةٍ مُزعجةٍ ..".

أضفتُ أنا:

"نحنُ أمامَ شاهدِ عيانٍ يؤكدُ سوءَ أحوالِ البحرِ، الذي كانتْ مياهُه رمزاً للجمالِ والصفاءِ عِندَ الشعراءِ الرومانطيقِيين، وأصبحَ يعانيَ إهمالَ خُططِ التنميةِ في الدولِ المُطلةِ عليه. كانتْ شواطئُ البحرِ المتوسطِ تجتذبُ إليها حَوَالَي مائةَ مليونٍ من السائحينَ والمُصطَافِين مِنْ كُلِّ أنحاءِ العالَمِ، ففقدَ شهرتَه، وهجرَه السَائحُون لتلوُّثِ مياهِه ورمالِه ببُقَعِ الزيتِ الخامِ وكُراتِ القطرانِ، بالإضافةِ إلى الفزعِ من قناديلِ البحرِ".

فاستوقَفضه اسمُ (قناديلُ البحرِ)، فحدثتُه متعجلاً عن هذه المجموعةِ المزعجةِ من المخلوقاتِ البحريةِ؛ ثم دعوتُه لأنْ يستمعَ إلى مُحتوى قصاصةٍ أُخرَى تقولُ بأنَّه قد كانَ على البحرِ المتوسطِ أنْ يتحمَّلَ حركةَ نقلِ النِفْطِ والغَازِ من الشرقِ الأوسطِ وشمالِ إفريقيَا، إلى أوربا وأمريكا الشماليةِ، في مساراتٍ لناقلاتِ النفطِ، تُغطِّي كلَّ مساحةِ البحرِ تقريباً؛ وتشيرُ الإحصائياتُ إلى أن متوسطَ حمولةِ هذه الناقلاتِ 600 مليونَ طنٍّ، سنوياً، من النفطِ ومُنتجاتِه، أمَّا المُخلَّفاتُ الزيتيةُ للسفنِ وناقلاتِ النفطِ، بالإضافةِ إلى حوادثِ التسرُّبِ النفطِيّ المحدودةِ، فإنَّها تلوِّثُ مياهَ المتوسطِ بحَوَالَي 650 ألفَ طنٍّ من الزيتِ، سنوياً.

ولم يكنْ، بطبيعةِ الحالِ، يعرفُ شيئاً عن تاريخِ البحرِ المتوسطِ، وانتابَتْه الدهشةُ وأنا أنقلُ له قولَ كاتبٍ آخرَ، من قصاصةٍ أُخرى:

(.... وللحقيقةِ، فإنَّ التلوُّثَ ليسَ جديداً على البحرِ المتوسطِ، فقد تعرَّضَ له على مَدَى أربعةِ آلافِ سنةٍ من التاريخِ المُسجَّلِ، إذ اعتمدتْ مختلفُ الحضاراتِ التي ازدهرتْ في شُطآنِه، على البحرِ في كلِّ مظاهرِ وأنشطةِ الحياةِ ، ومن بينِها التخلُّصُ من فضلاتِ المُدُن. ولكنَّ البحرَ قديماً، كان (فَتِيَّاً) قادراً على (هَضْمِ) تلك الملوثاتِ المحدودةِ، أمَّا الآن، فإنَّه أصبحَ أقلَّ قُدرةً على تحمُّلِ التلوثِ، لعدَّةِ أسبابٍ: الأولُ: تزايدُ عددِ السُّكانِ المُتوسِطِيين (العددُ المُتوقَّعُ في عام 2025 هو 600 مليونَ نَسَمَةٍ). والثاني: أنَّ مخلفاتَ سكانِ سواحلِ المتوسطِ أصبحتْ تحْتَوي على موادٍ (جديدةٍ)، مثلُ البلاستِيك، ونفاياتٌ سامةٌ (المبيداتُ)، بالإضافةِ إلى النِفطِ. والثالثُ: التصاعُدُ المستمرُ في استغلالِ واستنزافِ المواردِ الطبيعيةِ ومصادرِ الطاقةِ، وذلكَ يؤثِّـرُ في اتجَاهَيْن: إجهادُ المواردِ الطبيعيةِ، حتَّى أنَّ بعضَها قَارَبَ على النفادِ، بالإضافةِ إلى إنتاجِ كميَّاتٍ إضافيةٍ من المُلوِّثاتِ الصُلبَةِ والسائلةِ والغازيةِ، تزيدُ مِنْ أَعبَاءِ جُهُودِ صَوْنِ البيئةِ. أمَّا الرابعُ والأخيرُ، فهُوَ أنَّ مساحةَ البحرِ المتوسطِ ثابتةٌ مُنذُ وُجِدَ، ولا تزيدُ على مليونينِ و695 ألفَ كيلومترٍ مربَّعٍ، بمُتوَسِّطِ عُمقٍ قدرُه 1500 متراً. وبالإضافةِ إلى ذلكَ، فإنَّ مُعَدَّلَ البَخْـرِ فوقَ مياهِ المتوسطِ يُساويَ ثلاثةَ أمثالِ كلِّ ما يكسبُهُ مِنْ مياهِ الأمطارِ ومصبَّاتِ الأنهارِ؛ ولَوْلا صلتُه المحدودةُ بالمحيطِ الأطلنطِيِّ، لصارَ بحيرةً شبهَ مُغلَقة؛ كما أنَّ عمليةَ تجديدِ مياهِه عَبْـرَ مَضيقِ جبلِ طارِق تستغرقُ 80 عاماً تقريباً، فَهِي عمليةٌ لا قيمةَ لَهَا، تَقريباً، في تجديدِ شبابِ البحرِ بالسرعةِ المطلوبةِ لإزالةِ أَيِّ أعراضٍ مَرَضِيَّةٍ تطرأُ عليه).

ولمحَ (صديقُ) بينَ قُصاصَاتِي بعضَ خرائطٍ لحوْضِ البحرِ المتوسطِ، يوضِّحُ جانبٌ منها ازدحامَ سواحِلِه الشماليةِ بالأنشطةِ البشريةِ، فتبادَلَنا الحديثَ حولَ ظاهرةِ تزايُدِ عددِ سُكَّانِها مُؤخَّراً، إذ اجتذبتْ السواحلُ المتوسطيةُ الشماليةُ المُشمِسةُ سكَّانَ الشمالِ الأوربيِّ، فزحفَ إليها رجالُ الأعمالِ والصناعةِ، جَالِبِينَ معهم أنشطتَهم المختلفةَ، وتكنولوجياتَهـم المتناميةَ، ليكونوا أقربَ إلى الأسواقِ وإلى الأَيْدِي العامِلةِ الرخيصةِ.

وكانتْ آخرُ نظرةٍ على قصاصةٍ مُقتَطَعَةٍ من مقالٍ كتبَه أَبي، وفيه مِسْحةُ تفاؤلٍ، حيثُ يقولُ: (... قبلَ ثلاثةِ عُقُودٍ من الزمنِ، كان ثمَّةُ من يصفونَ البحرَ المتوسطَ بأنَّه بحرٌ فَقَـدَ عَمَلِيَّاً- صِفَةَ الحياةِ. والحقيقةُ أنَّهُم لم يكونُوا يَعْنونَ ذلكَ بالضبطِ، بلْ كانوا يُبالِغُونَ في وصفِ حالتِهِ المُتَدهوِرةِ، حيثُ تضخَّمتْ حِدَّةُ مشاكلِ تلوُّثِ مياهِهِ. وعلى أَيِّ حالٍ، فقد فعلَ أُولئكَ المتشَائمُونَ خيراً، فقدْ حَفَّزوا البلادَ المشتركةَ في الإطلالِ على البحرِ المتوسطِ إلى الانتباهِ للمشكلةِ، وإلى التعاونِ من أجلِ صحةِ هذا البحرِ، وتَجَلَّى ذلكَ في عِدَّةِ اتفاقياتٍ وبرامجٍ، تشتملُ على رؤيةٍ واسعةٍ لمشاكلِ البيئةِ، ولا تقتصرُ فعاليَّاتُها على المياهِ والسواحلِ المتوسطيةِ فَقَطْ، بَلء تَتَعَدَّاها لتتناولَ كلَّ ما يجريَ من أنشطةٍ بشريةٍ على أراضِي الدولِ المُتَشَاطِئةِ، فقد أثبتتْ التجاربُ السابقةُ صعوبةَ الفَصْلِ بين صحةِ المياهِ والسواحلِ، وطبيعةِ ما يحدثُ على اليابِسَةِ).

قالَ (صديقُ): "أوافقُ أباكَ في تفاؤلِه وفي تعْويلِه على البرامجِ العلميةِ لإصحاحِ البحرِ ..".

قلتُ: "إنَّ أَبي مِنَ المُشتَغِلِينَ بعلومِ البحارِ الذينَ لا يكتفونَ بالعملِ في المختبراتِ وقاعاتِ المحاضراتِ والمؤتمراتِ، فهُوَ يؤمنُ بالعملِ بين الناسِ لحلِّ قضايا البيئةِ البحريةِ التي يتخصَّصُ في بعضِ شؤونِها .. أُنظُرْ ..".

وأخرجتُ له وَرَقَتَين مطبوعَتَين في هيئةِ منشورٍ. هتفَ: "أعرفُ الورَقَتَين .. رأيتُهما خِلالَ جَوَلاتِي بالمنطقةِ مُلصَقَتَين على جُدرانِ أَمَاكِن كثيرةٍ، وثمَّة نسخةٌ بحجمٍ أَكْبر مُلْصَقة على بابِ بيتِكم، وأُخرى على بابِ سيارتِكم ..".

فسررتُ لدقةِ مُلاحَظَتِه. فَلَمَّا طَالَ سُكُوتِي، نَبَّهَني إلى أنَّه يَرَى الورقَتَينَ، لكنَّه لا يعرفُ ما بِهِما، وينتظرُ مساعدَتِي، فبدأتُ أقرأُ مُحتواهُما، وهوَ نصُّ بيانِ إِشْهارِ الجمعيةِ البيئيةِ التي أَسَّسَها أَبي، والتي أَشرُفُ بأنْ نلتُ عضويتَها المؤقَّتَةَ:

"أُشهرتْ بالإسكندريةِ، مؤخَّراً، جمعيةٌ أهليةٌ تهتمُّ بشُؤونِ البيئةِ البحريةِ، اختارتْ لنفسِها اسماً لَهُ دلالتُهُ، هُوَ (بحرٌ نظيفٌ .. تجمُّعُ خبراءِ وظُهرَاءِ البيئةِ البحريةِ)؛ وتقدِّمُ الجمعيةُ نفسَها للمُجتمعِ، مِنْ خِلالِ بيانٍ أَصدرَتْهُ، فَوْرَ التصريحِ لَهَا مِنْ قِبَلِ الجهاتِ المسئولةِ بمزاولةِ نشاطِها؛ وينصُّ على:

ليسَ البحر مُجرَّدَ خَطٍّ يجرىَ - كما نراهُ في الخرائطِ - ليُحدِّدَ ملامحَ اليابسِ، وليستْ علاقةَ اليابسةِ بالبحرِ محصورةً - فقط - في أن يرتادَه سُكَّانُها طَلباً لاحتياجاتٍ أساسيةٍ ، أو للترويحِ . إنَّها علاقةُ (حِوَارُ حياةٍ) يتبادلُ فيها كلٌّ مِنهُما التأثيرَ في الآخرِ .. فَلليابسةِ قُوَاهَا ، وللبحرِ قُواهُ ، ومِنْ مصلحةِ الطرفينِ، ولصالِحِ البشرِ، أنْ تظلَّ هذه القُوى في حالةِ اتِّزانٍ ، وإلَّا طَغَتْ اليابسُ وسكانثها عَلَي البحرِ وجَارَتْ، أَوْ ثَارَ البحرُ وانقلبَ مُدمراً .. عَلَيْنا أنْ نُحافظَ علي أنْ يبقَى ذلكَ الحوارُ هادئاً ، من أجلِ الحياةِ. ذلكَ هو الهدفُ النهائيُّ والهمُّ الرئيسيُّ لخُططِ وبرامجِ ومشروعاتِ الهيئاتِ المحليةِ والإقليميةِ والعالميةِ - حكوميةً وأهليَّةً - العاملةِ في مجالاتِ البيئةِ البحريةِ والمناطقِ الساحليةِ؛ وهيَ مجالاتٌ يجدُها العلماءُ تتفرعُ يوماً بعد يومٍ، لتُغطِّى ملامحَ تلكَ العلاقةِ، أو ذلكَ الحوارِ، بينَ الأرضِ والبحرِ، وتسْعَى لإيجادِ حلولٍ ضروريةٍ لِمَشَاكِلٍ مُزمِنَةٍ أو طارئةٍ ، تَمَسُّ أمنَ البشرِ وسُبُلَ معيشتِهم، أو تُهددُ- من جهةٍ أُ خريصِحةَ البحارِ والمحيطاتِ وقدرتَها علي التجدُّدِ والاستِشفَاءِ. وتأملُ (بحرٌ نظيفٌ) أنْ تُسهمَ، ضِمنَ منظومةِ الجهودِ الأهليةِ والرسميةِ، في إدارةِ هذا الحوارِ بين البحرِ والأرضِ، والاحتفاظِ به هَادئاً آمناً.

إنَّنا نرى في هذه الجمعيةِ تجسيداً لأملٍ.

نعَمْ .. صارتْ نظافةُ البحارِ أَمَلاً مَرْجُوَّاً. وتتعاظمُ الحاجةُ للتشبثِ بهذا الأملِ لَدَيْنا، نحنُ سكانُ سواحلِ حوْضِ البحرِ المتوسطِ؛ فالبحرُ الذي عاشتْ في رِحابِه مجتمعاتُنا منذُ وَعَتْ التاريخَ، أصبحَ يوصفُ الآنَ بأنَّه (بحرٌ يموتُ). ومِنْ حُسنِ الحظِّ، أنَّ ثمَّةَ ظواهِراً مُنعشةً للأملِ، مُتَمَثَّلَة في جهودٍ علميةٍ، تَأتِي مِنْ جهاتٍ متعددةٍ، لتعملَ في (تنظيفِ) المتوسطِ وإبعادِ شبحِ الموتِ عن مياهِه. ولكنَّ هذه الجهودَ العلميةَ قد لا تستطيعُ بمُفرَدِها تحقيقَ برامجِ إصحاحِ مياهِ وسواحلِ البحرِ المتوسطِ، فهي بحاجةٍ إلى دعمٍ أهْلِيٍّ يساعدُها في تحسُّسِ مواقعَ المرضِ، ويعينُها علي تنفيذِ برامجِها العلاجيةِ لتحقيقِ الدرجةِ الكافيةِ من النجاحِ؛ فما أكثرُ البرامجِ العلميةِ الطموحِ التي ذهبتْ هباءً بسببِ عدمِ اكتمالِ الرؤيةِ، فكانتْ كأنَّها تعملُ في فراغٍ.

و(بحرٌ نظيفٌ) تَعنيَضمناً- ساحلاً نظيفاً، وشاطئاً نظيفاً، ومياهاً نظيفةً، وقاعَ بحرٍ نظيفاً، وإنساناً مُتعامِلاً مع البحرِ نظيفاً. وكلمةُ (نظيفٍ) هُنا لا تعنيَفقطالدلالةَ اللُّغويةِ المباشِرة للكلمة، بلْ إنَّ الأمرَ أقربُ ما يكونُ إلي الدلالةِ التي أصبحتْ لكلمةِ (أخضر)، عندمَا نقولُ (صناعةً خضراءَ) و(سياحةً خضراءَ) و(تنميةً خضراءَ) ، حيثُ يُجسّــُد اللونُ الأخضرُ معْنَى توفُّرِ عنصرِ الاستدامةِ، والأمانِ البيئيِّ. كذلكَ، فإنَّ كلمةَ نظيفٍ تتجاوزُ حدودَ الدلالةِ الحسّــيّةِ للصفةِ إلى معانٍ أُخرى، مِنها: السلامةُ - الأمنُ الاستقرارُ".

8درسٌ في التكيُّفِ واستخدامِ البَدَائلِ:
كنتُ مُنصرِفاً تماماً إلى تتبُّعِ انقضاضات أفرادٍ من النوارسِ على أسماكٍ صغيرة الحجم، إحتُجِزتْ في بركةِ مياهٍ صغيرةٍ، بعد انسحابِ موجةِ الجزْرِ وتعرِّي مساحةٍ كبيرةٍ من الشاطئِ، عندما نَبَّهَني (صديق) إلى منظرٍ رآه يستحقُّ الالتفاتَ إليه.

كانت هناك بِركةٌ أكبرُ، وأعمقُ يسبحُ فيها حشدٌ من الأسماكِ المعروفةِ باسمِ حصــانِ أو فرسِ البحــرِ. ونجحَ (صديق) في وصفِه تماماً حينَ قالَ عنه: "إنَّه حيوانٌ خليــطٌ؛ فثلُثـــاه حصــانٌ، وثُلُثَه كانجـارو، مع قليلٍ من الشبهِ بالقُرودِ!). قلتُ له: إنَّه كما تقولُ تماماً، وقد أُضيفُ، من معرفةٍ سابقةٍ به، أنَّ له مِنْ صفاتِ الحرباءِ استقلالُ العينينِ، كلٌّ مِنْهُما عن الأخرى، في الحركةِ والعملِ، بالإضافةِ إلى القدرةِ على التشــبُّهِ بألوانِ الوســطِ المحيطِ، للتخفِّــي.

وكنتُ قد قرأتُ عن عالِمٍ بحرِيٍّ اكتشف أنَّ هذه (السمكةَ) تُصدِرُ أصواتاً ذات تردداتٍ قريبةِ الشبهِ إلى حَدٍّ كبيرٍ بالتردداتِ المُمَيِّـزة لصهيــلِ الحصــانِ !.

كانت الأسماكُ في تلك البِركةِ أفراداً متشابهةً، تنتمي لنوعٍ واحدٍ، فرأيتُ أن أحصل على عددٍ قليلٍ منها، أحفظ بعضَه في مجموعاتي الخاصة من الكائنات البحرية، وقد يرى أبي أن يأخذَ لمختبرِه بعضاً من هذه الأسماكِ ذات المظهر المستغرب، والذي يجففُها الناسُ في بعض المناطقِ الساحلية، ويصنعون منها قلائدَ ومشغولاتٍ فنية، يشيعون أنها تجلبُ الحظَّ لِمَن يَقتَنِيها!.

وعند عودتي للبيتِ، اقترح عليَّ أبي أن أزورَ موقعاً في الإنترنت، غنياً بكلِّ ما يتصلُ ببيولوجيةِ وسلوكياتِ وتطورِ هذه السمكةِ التي حظيتْ منذُ زمنٍ بعيدٍ باهتمامِ البشرِ. وقالتْ أُمي، وأنا، بِصِفتِي ناقدةً سينمائيةً، أُحيطُكَ بحقائقَ تاريخيةٍ قد لا يعرفُهــــــا كَثِيرُون، إذ أنَّ حصانَ البحرِ كانَ ( بطـلاً ) لأوَّلِ شــريطٍ سينيمائيٍّ مُتحـرِّكٍ، في التسعينياتِ من القرنِ 19، لمَّا تمكَّنَ مُصوِّرٌ فوتوغرافيٌّ، اسمُه " ماريي "، مِن تصويرِ أسماكِ حصانِ البحرِ وهِيَ تتحركُ في أحواضِ العرضِ، بمعرضِ الأسماكِ (الأكواريوم) المُلحقِ بمحطةِ أبحـاثِ علمِ الحيوانِ، بمدينةِ نابولي الإيطاليةِ. وقد استخدمَ ماريي آلةَ تصويرٍ صمَّمَها بنفسِه، ووصلَ بسرعتِها إلى (واحدٍ على ألفينِ) مِنَ الثانيةِ؛ فأعانَتْه على رصدِ الحركةِ السريعةِ للزعنفةِ الظهريَّةِ للحصانِ البحريِّ. وهكذا، كانتْ اللقطاتُ القصيرةُ التي حقَّقَها ماريي أولَ شريطٍ وثائقيٍّ يتناولُ موضوعاً من الطبيعةِ؛ بلْ إن مارييبهذا الشريطِكان سابقاً للأُخْـوَةِ لوميير في إنتاجِ أولِ شــرائطِ السينيما، بخمسةِ أعوامٍ كاملة.

ولما تفرَّغتُ مساءً ودخلتُ الموقعَ الذي دَلَّنِي عليهِ أَبي، وجدتُ أنَّ أكثرَ ما يثيرُ التعجُّبَ في حصانِ البحرِ هو أسلوبُه الفريدُ في التكاثرِ. إنَّ الزوجَين يَتَنَاجَيَان لبعضِ الوقتِ؛ ثم لا تلبثُ الأُنْثَى أنْ تنقلَ بيضَهـا إلى الذكرِ، الذي يحتفظُ به في كيـسٍ جِرابِيٍّ، شبيهٍ بذلكَ الذي يحملُ فيه حيوانُ البراريِّ الأسترالية الكانجارو وليدَه. وفي هذا الكيسِ ، يختلطُ البيـضُ بالأمشـــاجِ الذكريةِ؛ ويقومُ الذكرُ على رعايةِ البيضِ الملقَّـحِ لنحوِ شهرينِ، حتَّى يفقسَ، ويُعطيَ صغاراً يبلغُ عددُهم ثلاثمائة، في المتوســط.

وفي الأحوالِ الاعتياديةِ، يبدُو حصانُ البحرِ نشيطاً خفيفَ الحركةِ، لا تكفُّ عيناهُ عن الدورانِ في محْجرِيْهِما، تعكسانِ حرصَه على البقاءِ في حالةٍ دائمةٍ من الانتباهش والحَذَرِ، وتترَقَّبان فريسةً غافلةً تقتربث منه، ولا تلبثُ أن تدخلَ مجالَ قوةِ ســحبِ الفمِ الأُنْبُوبيِّ للحصــانش البحــريِّ، وفي جزءٍ من ثانيةٍ، تغيبُ في جوفِه.

وإنَّ المرءَ ليعجبُ، كيف تمكَّنَ مثلُ هذا المخلوقُ، الذي يظهرُ للعينِ بِلا حَوْلٍ ولا قوةٍ، من الاحتفاظِ بموقِعِه في مســيرةِ الحيــاةِ، في بحــرٍ لا يـرحـمُ ؟!.

لقد تبينتُ من بعضِ الدراساتِ المنشورةِ أن الســـرَّ وراءَ ذلك يكمُنُ، أولاً، في هيئتِه التيرُبَّمـالا تشــجِّعُ (المفترسينَ الكبــارَ) على مهاجمتِه؛ فماذا بِهِ غيرُ جسمٍ أعجفِ، خالٍتقريباًمن لحمٍ طريٍّ، يكْسُــوهُ غطــاءٌ قَرَنِـيٌّ تَعَافَه النفسُ. أمَّا (ثانياً) فإنَّ هذه السمكةَ الضئيلةَ قد عملتْ، عَبْرَ عصورٍ طويلةٍ من التحــوُّلِ والتبـدُّلِ والتطورِ، على تعويضِ بُطءِ ســباحتِها بســرعةِ حركتِها الذاتيةِ، مستعينةً في ذلك بزعنفةٍ ظهريةٍ لا تكفُّ عن الحركةِ السريعةِ، حتَّى أنَّ العينَ المُجرَّدةَ لا تكادُ تراهَـا. ومِنَ الحركـــــاتِ الشهيرةِ التي يجيدُها، ويكادُ أن ينفردَ بها حصــانُ البحــرِ، " التطــوُّحُ "، أو الانثنـاءُ يمينــاً ثم يســــاراً، بســـرعةٍ كبيرةِ، مُتَمَحْــوِراً على ذيلِه، حتَّى أنَّ السمكةَ تبدُو كما لو كانتْ بندولاً ســـريعاً في حركتِه التردديةِ.

وفي معظمِ الأوقاتِ، يستقرُّ حصانُ البحرِ ( رأســـياً )، مربوطـاً بذيلِـه الســـوْطِيِّ إلى فرعِ نباتٍ مائيٍّ، أو أيِّ جسـمٍ ثابتٍ أو شـبهِ ثابتٍ بالماءِ؛ إلاَّ أنَّـه يَحْلُــو لَــهُمِنْ حينٍ لآخــرِأنْ ينطـلقَ ( مُقْلِعَــاً )، في اتجــاهِ هدفٍ مـا؛ ثمَّ لا يلبثُ أن يعودَ لحالةِ ( الرسِـــوِّ ). وعندَمَا ( يُقلعُ ) الحصـانُ، فإنَّه يعمدُ إلى الإقـلالِ من عددِ مرَّاتِ فتـحِ وإغـلاقِ الغطـاءِ الخيشــوميِّ؛ وبالتَـالِي، تقلُّ كميةُ المياهِ التي تمـرُّ فـوقَ الخياشــيمِ، فَتَتَلاشَـى المقاومةُ الناشئةُ من احتكاكِ المياهِ بِهـــا، مِمَّا يجعلُ حركةَ ( الإقلاعِ ) أسهلَ، وتبلغُ من السلاسةِ والانسيابيةِ إلى حَـدِّ أنَّ الحصــانَ يبدُو وكأنَّه محمولٌ في مِصــعدٍ غيرِ مـرئــيٍّ!. وقد أظهـرَ التصـويـرُ البطيـئُ أنَّ الزعنفةَ الظهريةَ الصغيرةَ الشفافةَ هي وسيلةُ حصان البحرِ الرئيسيةُ للحركةِ الرأسيةِ. إنَّ هذه الزعنفةَفي حركتِهـا السـريعـةِتبْـدُو للعينِ المُجـرَّدةِ وكأنَّها غيرُ موجودةٍ.

كما أنَّكَ لا تجدُ حصــانَ البحـرِ، في الأحـوالِ الاعتياديةِ، إلاَّ منتصـبَ القامـةِ؛ فإنْ انتابَه فزعٌ أو شعرَ بما يهددث أمنَه، اندفعَ يُثنيَ جسمَه حتَّى يتخذُ وضــعاً أفقيــاً، ليســبحَ كســمكةٍ عاديةٍ، مُتصـــوراً بذلك أنَّه سيبتعدُ عن مصـدرِ الخطـرِ؛ والحقيقةُ هيَ أنَّ أيَّ مُطــارِدٍ مُتواضــعٍ يمكنُه اللحـاقُ بالحصــانِ ومداهمتُـه، فســـرعةُ سباحتِه في وضعِه الأُفُقيِّ لا تزيدُ عن 10 سنتيمتراتٍ في الثانيةِ؛ وهي سرعةٌ أكثرُ تواضعاً، مَهمَا تواضعتْ سرعةُ العدوِّ المُطـــاردِ!.

ولو اكتفَـى حصــانُ البحرِ بهـذهِ الســـــــرعةِ لكانَ الآنَ في عِدادِ الكائنـاتِ (التاريخيةِ)، وانتقلَ إلى قائمـةِ الحيواناتِ المُنقرضةِ. إنَّهـا سرعةٌ قــد تســاعدُه، و بالكادِ، للفِــرارِ والوصولِ إلى الموئلِ الطبيعيِّ، الذي يزدحمُ بتجمعاتٍ كثيفةٍ من النباتاتِ البحريةِ، ذاتِ درجاتِ الألوانِ المُشتقَّةِ من الأخضرِ والزيتونيِّ والبُنِّيِّ. هُنــا، يُتـاحُ لحصانِ البحرِ استخدامُ البدائلِ، وتفعيلُ قُدُراتِه الخاصةَ على التنكُّرِ والتَخَفِّي، مُضَـــللاً مطاردِيهِ. إنَّه يتحولُ إلى عُــودٍ مِنْ عُشْـــبٍ بين أعشـــابِ البحـرِ، معلَّـقـــاً بهــا من ذيلِه، مستجيباً لحركتِها التمَوُّجِيَّةِ، مُتَّخِــذاً لونَهـا؛ فتُخطئُه عينُ العدوِّ، وهذا هو مطلبُهُ.

9 - فضاؤنا الداخليُّ ..

دعوتُ صديقيَ الفضائيَّ (صديق) ليشاركَنِي متابعةَ تقريرٍ في شريطٍ قديمٍ عليهِ حلقةٌ من برنامجٍ ظلَّت (القناةُ الثانيةُ) من التلفازِ المصريِّ تقدمَهُ أسبوعياً لمدةِ عشرينَ سنةٍ متَّصلةٍ، حتَّى أصبحَ ذائعَ الصِّيتِ، هُوَ (عالَمُ البحارِ). وكانَ مقدِّمُ البرنامجِ يختلفُ تماماً عن "نموذجِ" مُقدِّمي البرامجِ الذينَ اعتادَ المشاهدثون رؤيتَهم .. كان شيخاً ذا لحيةٍ رماديةٍ وَقُورٍ، لِعينَيْهِ زُرقةُ ماءِ البحرِ؛ لا يبتسمُ، ولكنَّه غيرُ عابسِ الوجهِ؛ لا ينطقُ حرفَ (الرَّاءِ) نطقاً سليماً، بلْ أقربُ إلى (الوَاوِ)، غيرَ أنَّه كانتْ له جاذبيةٌ خاصةٌ تربطُ المشاهدينَ ببرنامجِهِ، حيثُ كانَ حديثُه الأسبوعيُّ ينسابُ حيَّـاًعلى الهــواءِفي لغةٍ بسيطةٍ سليمةٍ، لا تَستَعصِيَ على الصغارِ، ويأنسُ لها الكبارُ؛ ويجدُ الجميعُ أنَّهمأسبوعاً بعدَ أسبوعٍيحصلونَ على وجبةٍ علميةٍ شهيةٍ ، ويُضيفونَ المزيدَ إلى رصيدِهم من المعلوماتِ عن أسرارِ وخَبَايَا البحارِ والمحيطــاتِ.

إنَّه رائـدُ علوـمِ البحــارِ، العالِمُ العربيُّ الكبيرُ، عاشقُ البحرِ الأحمرِ، الأستاذُ الدكتورُ حامِدُ عبدُ الفتَّاحِ جَوْهَرُ، الذي رحلَ عن عالمِنا في السابعِ عشرِ من يونيةِ، عامَ 1992.

في العام 1929، حصلَ حامدُ جوهرُ على وظيفةِ مُعيدٍ بقسمِ عِلمِ الحيوانِ، في كُليةِ العلومِ، جامعةُ القاهرةِ؛ وكانَ مُغرماً بالسباحةِ ورياضةِ التجذيفِ والقواربِ الشراعيةِ؛ ولكنَّه لمْ يخطُرْ بِبَالِه، يوماً، أنْ يتَّجهَ إلى دراسةِ البحرِ؛ حتَّى لعبتْ المصادفةُ دورَها، حينَ أرادَ أستاذُه أنْ يكافِئَه على نجاحِهِ الباهرِ في دراسةِ الماجستيرِ، فرتَّبَ له رحلةً إلى مَحطَّةِ الأحياءِ المائيةِ، بمدينةِ "الغردقةِ" المطلَّةِ على البحرِ الأحمرِ، إلى الجنوبِ من خليجِ السُوَيْسِ؛ فأعجبَ جوهرُ بالمكانِ، وتكررتْ زياراتُه للمحطةِ، التي كانتْ - في ذلكَ الوقتِتابعةً لجامعةِ القاهرةِ، ولم يلبثْ أنْ طلبَ نقلَه ليعملَ في تلكَ المحطةِ.

لقد كانتْ تلكَ الرحلةُ السببَ في أن يتعلَّقَ العالِمُ الشابُ حامدُ جوهرُ بالبحرِ الأحمرِ؛ وهناكَ أقامَ جوهرُ إقامةً دائمةً، ثمَّ أصبحَ أولَّ رئيسٍ مصريٍّ للمحطةِ. وبدأَ تفرُّغُه لأبحاثِه، التي تناولتْ الشعــــــابَ المرجانيةَ، والأسماكَ، والرخوياتَ، وعروسَ البحر!.

وللدكتورِ جوهرِ، مع الحيوانِ المثسمَّى بعروسِ البحرِ، ويُسمَّى في مواقعِ أُخرى من العالَمِ ناقةَ البحرِ، حكايةٌ طويلةٌ .. فقَدْ قادتْهُ المُصادفَةُ وحدُها إلى بعضِ عظامِه، متناثِرَةً على الشاطئِ؛ فجمعَها وعكفَ على دراستِها؛ وأصرَّ على الحصولِ على نموذجٍ حيٍّ مِنها، فصمَّمَ لها شبكةً خاصةً أمسكتْ بِها؛ وظلَّ يدرُسُها لمدَّةِ 14 سنةً!. ونشرتْ المجلاتُ العلميةُ العالميةُ نتائجَ أبحاثِ ودراساتِ جوهرِ عن ذلكَ الحيوانِ البحريِّ الَّلبُونِــيِّ العجيبِ.

واشتهر الدكتور جوهر بتحـرِّي الدقةِ الشديدةِ في عملِه، ولا بُدَّ أنَّ ذلك كانَ أحدَ عواملِ نجاحِه كعالِمٍ كبيرٍ. ويرويَ تلاميذُه حكاياتٍ عديدةً، في هذا المجالِ، مِنها (حكايةُ فَكِّ الحُـوتِ)، ومُلخَّصُها أنَّه، في عامِ 1949، علمَ الدكتورُ جوهرُ باصطيــادِ حوتٍ ضخمٍ في مدينةِ السُّوَيْسِ، فأسرعَ إلى هناكَ، حيثُ وجدَ أنَّ الحوتَ قد تمَّ تقطِيعُه، فاحتجَّ على ذلكَ، وأخذَ يجمعُ الحوتَ، قطعةً بقطعةٍ؛ واكتشفَ أنَّ أحدَ فكَّي الحوتِ مفقودٌ، فنشرَ إعلاناً في الصحفِ، ورصدَ مُكافأةً لِمنْ يُعيدُ الفكَّ الضائعَ؛ ونجحَ في استعادتِه !.

وقد اكتسبَ الدكتورُ جوهرُ احترامَ وتقديرَ عديدٍ من المؤسساتِ العلميةِ العالميةِ، التي منحتْهُ درجةَ (دكتــوراه العلـــومِ)، وهي أَعْلى درجةٍ علميةٍ في العالَمِ، وتمنحُها جامعاتٌ عريقةٌ للعلماءِ الذين أضافُوا للعلِمِ إضافاتٍ حقيقيةً، أسهمتْ في تطوُّرِه وتقدمُهِ. كما نالَ جوهرُ جائزةَ الدولةِ التشجيعية في العلومِ، في العام 1953، ثمَّ جائزةَ الدولةِ التقديريةَ في العام1974.

يبدأُ شريطُ البرنامج التلفازي بجوهرِ يتحدثُ إلى مشاهدِيهِ:

"رأَى روَّادُ الفضــاءِ كوكبَنا، الأرضَ، وهُمْ سابحونَ في الفضاءِ الخارجــيِّ، مُتحلِّلينَ من قوانينِ الجاذبيةِ الأرضيةِ، كــرةً زرقـــاءَ، لهــا لــونُ المــاءِ، الغالبُ علَيْهــا".

وانتقلتْ الكاميرا إلى خريطةِ الأرضِ، بينَمَا صوتُ (جوهر) ينسابث في الخلفيةِ، معلِّقاً:

"أنظُرُوا إلى خريطةِ الكرةِ الأرضيةِ .. إن للماءِ الغلبةَ على اليابسِ، حتَّى أنَّ بعضَ العلماءِ، وأَنا منهُم، يَرَي أنَّ اسمَ (كوكبُ الماءِ) كانَ جديراً بهذا الكوكبِ الذي نسكنُه، بدلاً من (الأرضِ) !. ولنَتَوقَّف قليلاً مع الأرقامِ .. إنَّ البحارَ والمحيطاتَ تغطِّي70,8% من المساحةِ الكليةِ لسطحِ الكوكبِ؛ بمتوسِّطِ عمقٍ قدرُه 3,73 كيلومتراً؛ أيْ أنَّ حجمَ الميــاهِ البحريةِ يبلغُ 1370 مليون كيلومترٍ مُكَعَّبٍ؛ فإذا أضفْنَــا مساحاتَ البحارِ الداخليةِ والأنهارِ والبحيراتِ والأغطيةِ الجليديةِ بالقُطبينِ، فإنَّ مساحةَ المسطحاتِ المائيةِ على سطحA أرضِنا تبلغُ 74,35% من مساحتِه الكليةِ. ولَوْ تصورْنَا أنَّ سطحَ هذا الكوكبِ قد تمَّتْ تسويتُه تماماً، من أَعْلى قمةِ لجبلٍ، إلى أبعدِ عُمقٍ بمحيطٍ، لصارتْ الأرضُ محيطاً متَصِلاً ضخماً، يصلث عمقُ المياهِ فيه، عندَ أيِّ نقطةٍ عليهِ، إلى 2,7 من الكيلومترات !".

وعادت الكاميرا إلى وجهه وهو يفاجئُ مستمعيهِ برأيٍ غريبٍ، ويقولُ:

"إنــَّهُإذَنْكوكــــبُ المـــــاءِ، لا جِدالَ؛ ونحنُ نعيشُإذا جازَ التعبيرُفي (فضــاءٍ مائــي!ٍ)، أميلُ إلى تسميتِه بـالفضــــاءِ الداخلـــيِّ. إنَّه فضاءٌ قريبٌ مِنَّا، وفي متناولِ أيديَنَا؛ ولا يحتاجُ، لكي نرتادُهُ، إلى تقنيـــاتٍ شديدةِ التعقيدِ عاليةِ التكلفةِ، كتلكَ التي نصنعُها نحنُ البشرُ لتنطلقَ بِنَا إلى الفضــاءِ الخارجــيِّ؛ كما أنَّه غنيٌّ بالثرواتِ والمواردِ الطبيعيةِ المتنوعةِ، في عالَمٍ نضبتْ مواردُ يابستِه، أوْ هِي تُوشكُ على النفادِ ؛ ويمكنُنَا أنْ نجدَ فيهِ الحلولَ لكثيرٍ مِنْ مشاكِلِنا".

ثمَّ تغيَّرَتْ المادةُ الفيلميةُ تستعرضُ صوراً من الأحياءِ البحريةِ، يُصاحبُها تعليقاتٌ مُيسَّرَةٌ بصوتِ الدكتورِ جوهر المميَّزِ:

"والثابتُ، أنَّ البحرَ هو مهْدُ الحيــاةِ في عالَمِنا، إذْ دبَّــتْ فيه بعدَ أنْ هيَّأها الخالقُ العظيمُ، فأصبحتْ غنيةً بالعناصرِ المغذِّيــةِ، منذ ما يقرب من 3500 مليونَ سنةٍ. لقد اكتشفَ العلماءُ حَفريَّاتٍ شديدةِ القِـــدَمِ، تشيرُ إلى أنَّ أولَ صورِ الحياةِ، التي ظهرتْ في بحارِ عالَمِنا، كانتْ كائناتٌ بكتيريةٍ وطحالبٌ وحيدةُ الخليةِ. ولا تزالُ هذه الكائناتُ الأوليةُ تحتفظُ بشبيهاتٍ لها على خريطةِ الحياةِ، حتَّى وقتِنا هذا؛ وهي كائناتٌ فائقةُ الأهميةِ، برغمِ بساطةِ تركيبِها؛ فهي تمثلُ القاعدةَ العريضةَ لهرمِ الحياةِ في البحارِ والمحيطاتِ، ولَوْلاهَا لأقفرتْ مياهُ البحرِ، بلْ واليابسةِ!. إنَّ لهذه الطحالبِ الدقيقةِ نفسَ وظيفةِ نباتاتِ اليابسِ، فهيَ تستقبلُ الطاقةَ الشمسيةَ بواسطةِ مُحتوَاهَا مِنْ مادةِ (الكلوروفيل)، أو اليخضورُ، وتستخلصُ الأملاحَ المغذِّيَةَ وغازَ ثانيَ أكسيدِ الكربونِ من مياهِ البحرِ، وتُحيلُ ذلكَ إلى سكرياتٍ ودهونٍ وبروتيناتٍ، لتبنيَ أنسجتَها وتقومُ بوظائفِها الأساسيةِ، ومن أجلِ أنْ تأكلَ بقيةُ المخلوقاتِ!

ولكلِّ خليةٍ من هذه الطحالبِ المجهريةِ غلافٌ رقيقٌ من كربوناتِ الكالسِيُومِ، أوْ مِنَ السِيلِيكا؛ وتتخذُ الخَلايَا الطُحلُبيةُ أشكالاً متعددةً، فتبدُو كالمحاراتِ الدقيقةِ، أو كالقوارِيرِ؛ وقد تكونُ في هيئةِ عُلَبِ أقراصِ الدواءِ ذات المِصرَاعينِ؛ وقد تبرزُ منها أشواكٌ غايةٌ في الدِّقَّةِ. وتزيدُ كثافةُ هذه الطحالبِ الدقيقةِ، في المترِ المُكعَّبِ منَ ماءِ البحرِ، عنْ مائتَي ألفِ خليةً، في الأحوالِ الاعتياديةِ. ويُطلقُ على هذه النباتاتِ البحريةِ المجهريةِ اسمٌ عَامٌّ، هُوَ ( الفيتو بلانكتــون )، أو الهائماتُ النباتيةُ؛ فَهِيَ تفتقرُ إلى وسائلِ الحركةِ، فتظـلُّ معلقةً بالمياهِ، هائمةً، تدفعُها الأمواجُ والتياراتُ البحريةِ، من موقعٍ لآخــرَ. وَهِيَ، على دِقَّةِ حجمِها، شديدةُ التنوُّعِ؛ ويختلفُ عددُ الأنواعِ الموجودةِ منها بينَ مختلفِ البحارِ والمحيطاتِ، وباختلافِ فصولِ السنةِ وظروفِ المُناخِ؛ ولكنهفي أفقرِ المواقعِيصلُ إلى مئاتٍ؛ وفي حالاتِ الازدهارِ، يقفزُ الرقمُ إلى خمسةِ آلافِ نوعٍ، أوْ يزيدُ !.

يليَ هذه القاعدةَ النباتيةَ العريضةَ مجموعةٌ ضخمةٌ من الكائناتِ الحيوانيةِ الدقيقةِ، تُسمَّــى (زُو بلانكتون)، أو الهائماتُ الحيوانيةُ، إذ تشاركُ الهائماتَ النباتيةِ العجزَ عن توجِيهِ حركتِها؛ وبالطبعِ، فإنَّ الهائماتَ الحيوانيةَ تتخذُ من النباتيةِ غذاءً لها؛ ويعيشُ على النوعينِمعاًأنواعٌ عديدةٌ من الكائناتِ الحيوانيةِ البحريةِ الأكبرِ ...".

ويظهرُ وجهُ جوهرِ ليقولَ لمشاهدِيهِ:

"هكذا تمضيَ الحياةُ في البحرِ (وأحياناً على اليابسِ ! .. أليسَ كذلِك؟!)، مجسَّــــدةً في ســـؤالٍ واحدٍ : (مَنْ) يأكلُ (مَنْ) ؟!؛ مع الاعتذارِ للُّغويينِ، عن استخدامِ (مَـــنْ) – وهي للعاقلِفي غيرِ محلِّهــا !".

وتعودُ الصورُ الفيلميةُ تنقلُ إلى المشاهدينَ ما يتساوقُ مع حديثِ (جوهر) عن سلوكياتِ اغتذاءِ بعضِ الكائناتِ التي تقطنُ في هذا الفضاءِ الداخليِّ، البحرُ:

"إنَّ الحيواناتَ آكلةُ البلانكتون، التي تقطنُ المياهَ الشاطئيةَ الضحلةَ، لا تحتاجُ لأنْ تسعَى إلى طعامِها، بلْ تبقىَ ساكنةً في مواقِعِها، تستقبلُ تياراتٍ مستمرةً من المياهِ المُحمَّلــةِ بالكائناتِ الهائمةِ؛ فإذا ترَكْنَـا المياهَ الشاطئيةَ إلى المياهِ متوسطةِ العمقِ، كان على تلكَ الكائناتِ آكلةِ البلانكتون، التي تعيشُ على القاعِ، عندَ ذلك العمقِ، أن تبذلَ جهداً مناسباً، سعياً وراءَ طعامِها، فالبلانكتـون لا يتواجدُ في هذه المياهِ، التي لا تصلُها آشعةُ الشمسِ؛ مِنْ هُنا، كانَ على هذه الكائناتِ أن تكتسبَ مهارةَ السباحةِ النشطةِ، دونَ حاجةٍ إلى السرعةِ؛ فالسرعةُ ستكلَّفُهــا طاقةً لا مُبَرِّر لَهـا؛ ومن جهةٍ أخرى، فإنَّ الغذاءَ متوفَّــرٌ على مسافةٍ قصيرةٍ، إلى أَعلى مِنهــا؛ كما أنَّ السرعةَ الكبيرةَ لن تفيدَها في رفعِ معدلِ جمعِ وحداتِ الغذاءِ البلانكتونيِّ، باستخدامِ وسائلِها الخاصةِ لجمعِ الغذاءِ".

ويختارُ جوهرُ لمشاهديهِ نموذجينَ من أكلةِ البلانكتون التي تستوطنُ بيئةَ المياهِ متوسطةِ العمقِ، ويقولُ عنهما:

"وأمامَنــاكمثــالٍالسمكـــــةُ الغضــروفيــــــةُ القابِعةُ، أو (القوبعُ) المسمَّاةُ بـ (المانتــا)، التي يصـــلُ اتساعE جسمِهـا إلى ستةِ أمتـارٍ؛ ومثـــــــالٌ آخرُ، هُوَ (القَرشُ المتشمِّـــسُ)، ويصـلُ طولُه إلى 12متراً، ووزنُه إلى أربعةِ أطنــانٍ، وله مقدرةٌ عاليةٌ على استخلاصِ البلانكتــون من ميــاهِ البحرِ، إذ يمكنُهُ تصفيةَ ألفِ طُنٍّ من المياهِ بالساعةِ الواحدةِ؛ وهو بطيئُ الحركةِ، فلا تزيدُ سرعتُه عن خمسةِ كيلومتراتٍ في الساعةِ؛ ويبدو كســولاً، مكتفيــاً بتعريـضِ جســمِه الضخـمِ للشــمسِ، مع أنَّهفي الحقيقةِغايةٌ في النشاطِ، فَهُـــوَ لا يكفُّ عن تحضيرِ غذائهِ، الذي يُحققُ له هذا المُعدلَ الفائقَ في النمُوِّ!".

وأَنْهى الدكتورُ جوهرُ حديثَه قائلاً: (إلى هُنا نكونُ قد أَتَيْنا إلى نهايةِ حلقتِنا هذهِ عن الحياةِ في فضائِنا الداخليِّ، على أملِ أن نلتقيَ في الأسبوعِ القادمِ، لنواصلَ جولَتَنا مع سكانِ هذا الفضاءِ. عِمتُم مساءً".

وانتظرتُ تعليقاً من (صديق)، بعد أن انتهى الشريطُ، الذي عرضتُه على حاسوبيَ اللوحيِّ (التابليت)، ولم يطُل انتظاريَ، وكان صوتُه باديَ السرورِ وهو يقولُ:

"أشكركَ يا (صديق) جزيلَ الشكرِ .. لوْ لمْ أرَ غيرَ هذا الشريطِ في سياحتِي الأرضيةِ هذهِ لكانَ فيه الكفايةُ!".

10 لسنا وحدَنا ...
كنتُ أتبادلُ مع (صديق)، كعادتِنا منذُ تعارفِنا القريبِ، حديثاً ودِّيَّاً حولَ خبرٍ تداولتْهُ وكالاتُ الأنباءِ العالميةُ عن بعضِ التقاريرِ التي أصدرتْها روسيا، والتي تشيرُ إلى أنَّ النيزكَ الذي ضربَ مدينةَ (تشيليابينسك)، في إقليمِ جبالِ الأورالِ، قد تمَّ تفجيرُهُ بواسطةِ كائناتٍ فضائيةٍ مجهولةٍ، شوهِدتْ بالمنطقةِ في طَبَقيْنِ طائرينِ، بالليلةِ السابقةِ على واقعةِ التفجيرِ، قبلَ أن يصطدمَ بالأرضِ، وهو ما يعنيَ أنَّ تلكَ الكائناتَ قد أنقذتْ الإقليمَ كلَّهُ من كارِثةٍ مُحقَّقَة. ورُحْنا، (صديق) وأَنا، نشاهدُ شريطَ فيديو بُـثَّ في (يوتيوب)، يصوِّرُ لحظةَ انفجارِ النيزكِ في الفضاءِ، عند اصطدامِ جسمٍ صغيرٍ به.

وفوجِئتُ بـ (صديق) يدعوني لأن أستخدمَ هاتفي النقَّالَ في الحالِ. قال:

"سأُحوِّلُ لكَ عليه، مُتَرْجَماً، حواراً يجري منذُ لحظاتٍ بين كائنينِ فضائيينِ، من قبائلِ تسكُنُ الفضاءَ وتهتمُّ بمراقبةِ الأرضِ وسكَّانِها".

وأَدهَشَنِي أنْ وجدتُ رنيناً من هاتِفِي، ففتحتُه، ورحتُ أستمعُ إلى أغربِ حوارٍ يمكن أن يسمعه آدميٌّ.

-"إنَّهُم مخلوقاتٌ من لَحْمٍ!".

–"لحمٌ؟!".

-"أُكرِّرُ.. مخلوقاتٌ لَحْميةٌ.".

–" لحميةٌ؟!".

-"ليسَ عِنديَ أَدْنَى شكٌّ في ذلك. لقد جَلبْنَا إلى مركبتِنا العديدَ مِنهم، التقَطْناهُم من أماكنِ متفرقةٍ بالكوكبِ، وأخضعنَاهم للفحصِ الدقيقِ، وتأكدَ لَدَيْنا أنَّهم مخْلوقُونَ من الَّلحمِ".

-"مستحيلٌ .. وماذا عن إشاراتِ الراديو التي حملتْ رسائلَهم إلى سائرِ الكواكبِ ؟".

-"إنَّهم يستخدمونَ موجاتَ الراديو في اتصالاتِهم وإذاعاتِهم، ولكنَّ الإشارةَ التي تتكلمُ عَنْها لم يكونوا هُمْ بذواتِهم مصدرُها، بلْ جاءتْ من آلاتٍ ..".

-"فَمَنْ صنعَ هذه الآلاتَ ؟ .. فَهُوَ مَنْ نريدُ أن نلتقِيَهُ ..".

-"إنَّهم هُم صانِعُو الآلاتِ؛ وهذا ما أحاولُ أن أُخبرُكَ به: اللحمُ قد صنعَ آلاتٍ !".

-"أيُّ هُـرَاءٍ هذا ؟. كيف لقطعةِ لحمٍ أنْ تصنعَ آلةً؟. أَتطلبُ مِنِّي تصديقَ أنَّ للّحمِ أحاسيساً ؟".

-"أنا لا أطلبُ منك، بلْ أَنقلُ إليكَ الحقيقةَ التي تقولُ بأنَّ هذه المخلوقاتَ هي السلالةُ الوحيدةُ القادرةُ على الإحساسِ في كاملِ هذا القطاعِ، وهُمْ مَجْبولُونَ مِنْ لحمٍ ..".

-"راجعْ نفسَكَ، فرُبَّما كانوا نظائراً للأورفيين، وهُم –كما تعلمُ- كائناتٌ ذكيةٌ، أساسُ تكوينِها الكربونُ، وتكونُ لحميةً في أحدِ أطوارِ حياتِها ..".

-"لا، فَهُم ينشَأونَ لَحْميينَ ويَموتُونَ لحماً؛ ولقد أخْضَعنَاهُم للدراسةِ في كلِّ مراحلِ حياتِهم، وهِي حياةٌ لا تدومُ طويلاً .. هلْ لديكَ فكرةٌ عن المَدَى الذي يحتفظُ اللحمُ فيه بالحياةِ ؟".

-"إعفِنِي من الإجابةِ، فأنا لا أعرفُها. وعلى أيِّ حالٍ، ألا يُحتمَلُ أن تكونَ طبيعتُهم لحميةً جزئياً، مثلَ الوديليين، وقد عرفْنَاهُم مُكوَّنينَ من دماغٍ لحميٍّ يحتويَ على مُخٍّ من البلازما الإلكترونيةِ ؟".

-"لقد خطرَ ذلك على بالِنا، ولكنَّه غيرُ صحيحٍ. إنَّهم يحمِلُونَ رُؤوساً لحميةً، كالوَديليين، ولكنَّهم –كما أخبرتُك- لحميونَ بكاملِ هَيْئتِهم، كمَا تَبَيَّنَ لنا من فحصِهم".

-"أَهُمْ بلا أمخاخٍ؟!".

-"أوه.. ثمةَ مخٌّ فعلاً، ولكنَّه هُوَ أيضاً من مادةِ اللحمِ؛ وهذا ما أحاولُ أنْ أُخبرُكَ به منذُ البدايةِ".

-" فَماذَا عن التفكيرِ ؟".

-" الواضحُ أنَّكَ لم تفهمْنِي؛ أَمْ تُراكَ فاهماً؟. إنَّك ترفضُ التسليمَ بما أُجهِدُ نفسيَ لأُحيطُكَ بِه عِلماً؛ فأمخاخُهم تؤدِّيَ وظيفةَ التفكيرِ .. إنَّ اللحمَ يُفكِّرُ !".

-"لحمٌ مفكِّر ؟! .. أتطلبُ مِنِّي أن أتصوَّرَ وجودَ لحمٍ مُفكرٍ ؟!".

-"نَعَم .. لحمٌ مفكِّرٌ .. لحمٌ ذُو وَعْيٍ .. لحمٌ لَدَيْهِ القدرةُ على الحُبِّ .. لحمٌ يحلمُ؛ فاللحمُ هُوَ كلُّ شيئٍ .. هلْ وصَلتكَ الصورةُ الآنَ، أمْ أنَّ عليَّ أَنْ أعودَ إلى البدايةِ؟!".

-"يا إلَهِيَ !.. إنَّك لا تهزلُ .. وَهُمْ مخلوقاتٌ مِنْ لحمٍ !".

-"أشكرُكَ.. أخيراً قلتَها .. نعمْ، فَهُمْ حقَّاً لحمِيُّون، كمَا أنَّهم في محاولاتٍ مُستمرَّةٍ للاتصالِ بِنا منذُ مائةِ سنةٍ تقريباً، وِفقاً لِتَقويمِهم".

-"يا إلَهيَ! .. تُرَى، ماذا يمكنُ أنْ يكونَ دائراً بعقلِ هذا اللحمِ ؟!".

-"إنَّ أوَّلَ طلبٍ لَهُم أنْ يتحدَّثُوا إليْنا؛ وأتصوَّرُ أنَّ لَدَيْهِم رغبةً في سَـبْرِ أغوارِ الكونِ وتحقيقِ الاتصالِ بغيرِهم من أنواعِ الأحياءِ والمخلوقاتِ الذكيَّةِ فيهِ، وتبادلِ الأفكارِ والمعلوماتِ ..".

هُنا، طرأَ تشوُّشٌ على الاتصالِ، فانتهزتُ الفرصةَ لأسألَ (صديق) عن (الأورفيين) و(الوديليين)، فقالَ إنَّهما اسمانُ لشعبينِ من شعوبِ الفضاءِ الكونيِّ. ثمَّ طلبَ مِنِّي مُعاودةَ الإنصاتِ، فقدْ عادَ الاتصالُ واضحاً ...

-"أتظنُّ أنَّه ينبغيَ عليْنا التكلُّمُ معَهُم ؟".

-"تلكَ هيَ المسألةُ، وذلكَ هُوَ فَحْوَى الرسالةِ التي يبثُّونَها بموجاتِ الراديو. إنَّها تنصُّ دائماً على: (مرحباً بأيِّ مُستمِعٍ لنا في الفضاءِ) .. شيئٌ من هذا القَبِيلِ".

-"إذنْ، فَهُمْ يتكلمونَ حقاً .. يستخدمونَ كلماتٍ، ولديْهِم معتقداتٌ وأفكارٌ".

-"هذا حقيقيٌّ؛ غيرَ أنَّهمْ يَفعلونَ ذلكَ بواسطةِ اللحمِ".

-"لكنكَ أخبرتَنِي حالاً بأنَّهم استَخدَموا موجاتَ الراديو".

-"فعلاً ..ولكنْ، ماذا تتوقعُ أن تجدَ على هذه الموجاتِ؟. صوتُ اللحمِ. وأنتَ تعرفُ تلكَ الأصواتِ العاليةِ التي يُحدِثُها اللحمُ عِندمَا تلطُمُه .. هكذَا هُمْ يتكلَّمُونَ مع بعضِهم البعضِ؛ بتبادُلِ تلاطُمِ اللحمِ!. كما أنَّهم يُغَنُّونَ أيضاً، عِندَما يُمَرِّرونَ الهواءَ خِلالَ لحمِهم".

-"ياإلَهِيَ ! .. لحمٌ يُغَنِّي !. ذلكَ أمرٌ فائقُ الغرابةِ. فَبِمَ تُشيرُ عَلَيْنا ؟".

-"مشورةٌ رسميةٌ، أم خارجُ نطاقِ الرسمِيَّاتِ؟".

-"كِلاهُما".

-"في حدودِ الرسمياتِ، يُمليَ عَليْنا الموقفُ أنْ نستجيبَ ونتصلَ بِهم، بلْ وأنْ نُرحبَ بالتواصلِ معَ كُلِّ، أو أيٍّ مِنْ، سلالاتِ المخلوقاتِ الحيةِ، أو مُتعدِّدِي أوجُهِ الحياةِ، في هذه الناحيةِ من الكونِ؛ على أنْ يكونَ ذلكَ بِلا تَحامُلٍ أو عَصَبيةٍ، وبحِيادِيةٍ كاملةٍ، فلا نجْفلُ مِنْهم، ولا نُقرِّبَهم إلينا أكثرَ من اللَّازِمِ. فإنْ خرجْنَا مِنْ دائرةِ الرسمياتِ، فإنَّني أَنصحُ بأَنْ نَفُضَّ هذه السيرةِ، ونَنْسَى الأمرَ بِرُمَّتِهِ ..".

-"كنتُ أنتظرُ قولَكَ هذا"؟.

-"قد أَبْدو خشناً قاسياً، غيرَ أنَّ لكلِّ شيئٍ حدودَه .. ثمَّ، هل لَدَيْنا نحنُ الرغبةُ في الاتصالِ باللحمِ؟".

-"أَتَّفِقُ معكَ مائةً بالمائةِ؛ فَمَاذا لَديْنا لنتحدثَ بِهِ معَهُم؟ .. أمْ تُرَانا نكْتَفِي بأنْ نقولُ : مرحباً أَيُّها اللحمُ .. كيفَ تسيرُ الأمورُ معكَ؟. هلْ هذا هوَ المطلوبُ؟. وكمْ من الكواكبِ عليْنا أنْ نتعاملَ مَعَهُ هُنا ؟".

-"إنَّه كوكبٌ واحدٌ؛ وسكانُه قادرونَ على الارتحالِ إلى غيرِه من الكواكبِ، في (أَوْعِيةِ لحمٍ) مخصوصةٍ، وإن كانوا لا قِبَـلَ لهْم بالعيشِ على غيرِ كوكبِهِم؛ ولكونِهم من لحمٍ، فإنَّ رحلاتَهم لا تتعدَّى الفضاءَ (سي)، الأمرُ الذي يجعلُهم متوقفينَ عند حدودِ سرعةِ الضوءِ، وبالتَالِي تتضاءلُ إلى حدٍّ كبيرٍ قدرتُهم على الاتصالِ بِنا".

-"ومن ثمَّ، فلا يكونُ علينا إلاَّ أنْ ندَّعِي خُلُوَّ الكونِ من كوكبٍ مسكونٍ".

-"تمام".

-"شيئٌ فظيعٌ. لقد قلتَها بنفسِكَ. منْ ذا الذي يرغبُ في أنْ يقابلَ لحماً ؟!. ولكن، ماذا عن الأفرادِ الذين جئتُم بهم إلى سفينتِنا لتفحَصُوهم ؟. أَأَنتُم مُتَأَكِّدُون منْ أنَّهم لن يتذكَّرُوا شيئاً ممَّا خَبَرُوهُ ؟".

-"إنْ هم تذكَّروا شيئاً وتحدَّثُوا به فسيعتبرُهم أهلُهم مُلْتَاثينَ. ومع ذلك، فلقدْ اخترقْنَا أدمغتَهم ومسحْنَا لحمَها، لِتبدُو مقابلتُهم لنا وكأنها ضَرْبٌ منَ الحلمِ".

-"حلمُ لحمٍ !. يا لغرابةِ الأمرِ، أنْ نكونَ نحنُ بمثابةِ الحلمِ لِلَحمٍ !".

-"كما أنَّنا وضعْنَا علامةً على كلِّ القطاعِ تقولُ بأنَّه غيرُ مَأهولٍ !".

-"هذا شيئٌ طيبٌ، أوافقُكَ عليهِ، رسمياً ووُدِّيَّاً. وبذلكَ تنتهيَ هذه القضيةُ. أثمَّةَ شيئٌ آخرُ؛ أيُّ شيئٍ يستأهِلُ الاهتمامَ، في هذا الجانبِ من المجرَّةِ ؟".

-"نعم. ذلكَ التجمُّع الذكيُّ، ذو الأساسِ الهيدروجينيِّ الحيِيِّ العذبِ، المصنَّفِ في المرتبةِ 9 من النطاقِ جـ 455؛ وقد كانَ على اتصالٍ بِنا قبلَ الدورتينِ المنتهيتينِ من دوراتِ المجرَّة، ويطلبُ استعادةَ صداقتِنا".

-"لقد كانوا دائماً قريبينَ مِنَّا".

-"ولم لا؟ .. تصوَّر الكونَ وقد خَلا إلاَّ مِنكَ وحدَكَ ؟. إنَّه – بغيرِ الآخرين – لايُطاقُ، ويعجزُ المرءُ عن وصفِ مدَى وحشتِه وبرودتِه".

وانقطَعَ الاتصالُ تماماً، مُفضِياً إلى صفيرٍ حادٍّ لايُطاقُ، فأقفلتُ هاتفي.

سألني (صديق): "ما رأيُك؟".

وكنتُ في حالةٍ كالذهولِ، فاكتفيتُ بأن قلتُ:

"يا إلهي! .. لسْنا وحدَنَا!".

11 - في بِركِ المدِّ والجزْر ..
شعورٌ خاصٌّ يتملَّكُكَ وأنت تخوضُ المياهَ الضحلةَ، سائراً على قدميكَ، بعد انحسارِ الماءِ عن الشاطئِ في حالةِ الجَـزْرِ، إذ تنتابُكَ حالةٌ من الإشفاقِ وأنت تتحسَّسُ مكانَ خَطْـوِكَ، مخافةَ أن تطأَ كائناً حياً هشَّاً كشفَتْهُ المياهُ المنسحِبةُ.

تنظرُ حولكَ، فيأخُذُكَ الانبهارُ الشديدُ بهذا العرضِ الضخمِ لتنوُّعِ أشكالِ الحياةِ في نظامٍ بيئي واحدٍ... عشراتُ الأنواعِ من النباتاتِ والحيواناتِ البحريةِ، تسْبَحُ في البِـرَكِ الصغيرة التي كوَّنتها المياهُ قبل انحِسَارِها، وتتحركُ فوق الرمالِ الطريةِ، في توافقٍ مُدهشِ، بعضُها قعيدٌ، وبعضُها يسيرُ..

  • هي بركُ المد والجزر التي تدخلُ في نطاقِ دراساتِ أبي الأكاديميةِ، التي انتقلَ إليَّ مِنهُ بعضُ شغفِهِ بها، والتي يدعو المجتمعَ الاقتصاديَّ لاستغلالِها كموردٍ لخيراتٍ بحريةٍ متعدِّدَةٍ، فيها منافعٌ غذائيةٌ ودوائيةٌ.

ولا يمضي صيفٌ ألاَّ وأشاركُ أبي جولاتٍ صباحيةً مُبكِّرة، نقضيَ نحوَ ساعتينِ أو أكثرَ نتفحَّصُ أشكالَ الحياةِ الثريةِ التي تتركُها الأمواجُ المنسحبةُ في عملية الجزْرِ، متناثرةً في منطقةِ المَدِّ والجزْرِ التي يصلُ امتدادُها في منطقتِنا إلى نحوِ عشرةِ أمتارٍ، داخلَ البحرِ.

أجملُ ما في تلك الجولاتِ أنَّها دروسٌ عمليةٌ حقليةٌ، من أستاذٍ عظيمٍ، لطالبٍ واحدٍ!.

نبدأُ جولتَنا مع أولِ آشعةِ النهارِ، مُزوَّدينَ بأوراقٍ خاصةٍ لتسجيلِ الملاحظاتِ، وأكياسٍ بلاستيكيةٍ صغيرةٍ نحتفظُ فيها بما نلتقطُه من كائناتٍ، وأقلامٍ؛ وتتكفَّلُ آلاتُ التصويرِ المُدمَجةُ في هواتِفِنا المحمولةِ بالتصويرِ. وكان أبي، من ناحيتِهِ، لا ينسى أنَّه في مجالِ عملِه، فيجمع بينهُ ومُشاركتِي متعةَ التجوالِ الشاطئيِّ، وكنتُ أستفيدُ من ذلكَ، فأتعرَّفُ على الأسلوبِ العلميِّ في الملاحظةِ والتأمُّلِ والتدوينِ.

ومن المخلوقاتِ البحريةِ التي استوقفتْني كثيراً تلك التي يسمِّها العوامُ (نجوم البحر)، بالرغمِ من أن بعضَها بعيدٌ كُلَّ البُعدِ عن الشكلِ الذي اصطلحَ عليه الناسُ للنَجْمِ. صحيحٌ أن لمعظمِ نجومِ البحرِ أذرعاً طويلةً، ولكن مظهرَ البعضِ الآخرِ لا يزيدُ عن مُجرَّدِ قُرْصٍ شِبهِ مستديرٍ، مثل نوع يُسمَّى (وسادة الدبابيس)، لقُربِه من شكلِ الوسادةِ الصغيرةِ التي تصنعُها رباتُ البيوتِ من القماشِ ويعلِّقنَها على الحائطِ، ليحتفِظنَ بالدبابيسِ مغروسةً فيها.

وكنتُ قد رأيتُ في موقعِ شاطئٍ صخريٍّ نوعاً يُعدُّ أضخمَ نجومِ البحرِ، شبيهٍ بزهرةِ دوَّارِ أو عبَّادِ الشمس، يصلُ قُطرُ قُرصِهِ إلى قدَمينِ، ويزيدُ عددُ أطرافِه أو أذرُعِه على العشرين.

ولم أكن رأيتُ قبلَ ذلكَ نجماً بحرياً يمشيَ، فلما رأيتُه وأنا أسيرُ إلى جوارِ أبي، إنحنيتُ أراقبُه، فقالَ أبي:

"ستنتظر طويلاً لتراه يسيرُ خمسةَ سنتيمتراتٍ!".

"يا لبُطْئه!".

"إنه بطيئٌ بطبيعتِه، ولا تتجاوزُ سرعتُهُ سِتَّ بُوصاتٍ في الدقيقةِ، ويمشِيَ على أقدامٍ أُنبوبيَّةٍ تتوزعُ على السطحِ التَحتِيِّ لأطرافِها، وتُعدُّ بالمئات. وتبدو هذه الأقدامُ تحتَ المجهرِ كزوائدٍ تنتهي بتركيباتٍ كأسِيَّة، أو مَمَصَّات، يمكنُها الالتصاقُ بالأسطُحِ. وتعينُ هذه الخاصيةُ نجمَةَ البحرِ على تسلُّقِ أسطحِ الصخورِ، والجدرانِ الزجاجيةِ لأحواضِ العرضِ، كما تَستخدمُ نجومُ البحر هذه الممصاتَ في فتح الكائناتِ الصَدَفِيَّة، لتأكلَ أجسامَها الرَّخوَةَ".

"أنا أجدُ صعوبةً في فتحِ هذه الأصداف!".

"إكتسبَ نجمُ البحرِ قدراتٍ خاصةً لتأمينِ غذائهِ. إنه لا يرى الضــوءَ، فلا عيونَ له؛ ولكنه يشعرُ بالأشياءِ، وبينها فرائسُه، بلوامِسِه المنتشرةِ على السطحِ السفليِّ للجسمِ القُرصِيِّ؛ كما يمكنُه (قراءةُ) التغيراتِ في كيمياءِ المياهِ التي يعيشُ بها، فيترجمُها إلى (معلوماتٍ)، تفيدُه بنوعِ وحجمِ الفريسةِ وقدراتِها الدفاعيةِ؛ فيتهيَّـــأُ للانقضــاضِ عليها، ويختارُ لها السلاحَ الذي يناسبُها. فإذا كانض حجمُ الفريسةِ أكبرَ من اتِّسَــــاعِ الفمِ، الذي يقعُ في مركزِ السطحِ السُّفلِيِّ لقرصِ الجســـــمِ، أو إذا كانتْ الفريسةُ عصِيَّــةً، متشبِّثةً بسطحِ صخرةٍ، مثلاً، ولا يمكنُ زحزحتُها، فإنَّ النجمَ يحتالُ على ذلك بأسلوبٍ فريدٍ؛ فبدلاً من أن تدخلَ الفريسةُ إلى معدتِه، فإنها - المعدةُ - هي التي تخرجُ إليها؛ فتُغَطِّيها، وتُغرِقُها بعصارتِها، فتهضمُهـا، وتمتصُّها، وتعودُ إلى تجويــفِ الجسـمِ!".

وتذكَّرتُ مع أبي برنامجاً تلفازياً صوَّرَ نوعاً من نجومِ البحرِ يركِنُ إلى أساليب سهلةٍ، ولا (يعرقُ) من أجلِ لقمتِه؛ وإن كان عملُه لا يَخلُو من طرافةٍ وغرابةٍ. كان اسمُه (السلَّةُ)، وله أذرُعٌ متفرِّعةٌ تظلُّ مُنكمِشةً ملتويةً طيلَةَ النهارِ؛ فإذا جاءَ الليلُ، انطلقتْ وتمددتْ قائمةً حولَ الجسمِ القُرصيِّ، مكوِّنــةً ما يشبه الســلَّة؛ وهي - في الحقيقةِ - شبكةٌ تقتنصُ كلَّ ما يمُـرُّ بها من كائناتٍ دقيقةٍ غافلةٍ، لا تلبثُ أن توجِّهُها الأذرعُ إلى فتحةِ الفمِ!

وطابَ ليَ أنْ أسألَ أبي: "وكيف يكونُ حالُ هذه الكائنات باديةُ الهشاشةِ، في عالمِ البحارِ الذي يغُصُّ بالمفترِسات؟". قال أبي:

"هذا سؤالٌ جميلٌ .. إسمع يا صديقي! .. إن لنجومِ البحرِ أعداءَها. وإن صادفتْ نجمةُ بحرٍ عدواً جائعاً ذا بأسٍ شديدٍ، لا يأبَهُ لأشواكِ جسمِها، مثلَ بعضِ أنواعِ الأسماكِ المفترسةِ غليظةِ الشفاهِ، التي لا تؤثرُ فيها وخزاتُ الأشواكِ، فقبضُ على إحْدَى أذرعِها، فإنَّها تلجأُ إلى استجابةٍ فوريةٍ، فتتركُها له، اختياراً !. فتَرَاها تُسقطُ ذراعَها عَنْها لتلهيَ بِها عدوَّها الجائعَ، الذي ينشغلُ بلقمتِه، بينما النجمةُ تتحركُ منسحبةً لتختفيَ عن عينيهِ، وهي واثقةٌ من قدرتِها الذاتيَّةِ على تجديدِ الذراعِ المفقودةِ. الأكثرُ من هذا، أن ذراعاً واحدةً يغفلُ عنها عدوٌّ شرسٌ التهمَ كلَّ جسمِ النجمة يمكنُها أن تنشطَ، فَيَنمُو لها جسمٌ جديدٌ!. ولعلَّ هذه الآليةَ الفريدةَ للتجَدُّدِ هي ســرُّ احتفاظِ هذه الكائناتِ القاعيةِ الهشَّةِ البطيئةِ بموقعِها في خريطةِ الحياةِ في البيئةِ البحريةِ، بالرغمِ من كلِّ الظروفِ المعاكسةِ، وانتشارِها في كلِّ بحارِ ومحيطاتِ العالَمِ".

ولم يستطعْ أبي إلاَّ أن يضيفَ إلى حديثِه عن هذه الكائناتِ الغريبة مفارَقةً شديدةَ الطرافةِ، مُتَّصِلةً بظاهرة التجدُّدِ في هذه الكائناتِ التي يُغطِّيَ الشوكُ أجسامَها. فقد كان أصحابُ مزارعِ المحارياتِ البحريةِ يقاوِمونَ نجومَ البحرِ، حمايةً لمحصولِ مزارِعِهم من المحاراتِ، باستخدامِ آلاتٍ حادةٍ تقطِّعُ أجسامَها، حاسِبينَ أنَّهم يتخلَّصونَ بذلك من هذه الكائناتِ التي تهاجمُ مزارعَهم وتلتهمُ كمياتٍ كبيرةً من المحاراتِ؛ وكانوا يجهلونَ أنَّ كلَّ قطعةٍ من النجومِ المُمَزَّقَـةِ كانت تنتج نجماً جديداً!.

إلتقطنا بعضَ نماذجٍ من نجمات البحر، وواصلْنَا سيرَنا، حتى قاربتْ جولتُنا على النهايةِ، وكنتُ أتلكَّأُ مأخوذاً بسَــرطانٍ راهبٍ يدبُّ على الرمالِ المبلَّلَةِ، حاملاً قوقعةً خاليةً يتخذُها بيتاً له، عندما سمعتُ أَبي يدعوني إلى حيث كان يقفُ. أسرعتُ إليه، فقالَ إنَّه عثرَ على كائنٍ بحريٍّ يراهُ الآن لأولِ مرَّةٍ بالمنطقةِ، بل إنه نادرُ الوجودِ في كلِّ سواحِلِ بلادِنا.

ومن شدَّةِ اهتمامِه بما اكتشفَهُ، جلسَ أبي على الرمالِ المُبلَّلةِ، ليقتربَ بعينيهِ أكثرَ إلى كائنٍ بحريٍّ يشبهُ حدوةَ الحصانِ. قالَ أبي، إنَّ ذلكَ هُوَ اسمُه الشائعُ: السرطانُ البحريُّ حُدوةُ الحصانِ!. قال أيضاً إنَّه ليسَ مُجرَّدَ كائنٍ يعيشُ في البحرِ .. إنه أقربُ إلى (مستعمرةٍ)، أو (تجمُّعٍ سُكَّانيٍّ بحريٍّ)!، إذْ يَحْلُو لمجموعةٍ من الكائناتِ البحريةِ أن تســتردفَـهُ، أو تعتليَ ظهرَهوإن كانَ بعضُها يُفضِّـلُ البطنَفَتَتَّخِذَهُ محلَّ إقامةٍ مختـــاراً، مؤقتـاً، أو دائماً.

وطلبَ مِنِّي أبي أن أساعدَه في تصويرِ حدوةِ الحصانِ البحريةِ بدِقَّةٍ، فسوفَ يعتمدُ على تصويريَ عِندَ نشرِ بحثهِ الذي يُسجِّلُ فيهِ اكتشافَه لهذا النوعِ الجديدِ، الذي يُحدِّدُ العلماءُ مواطِنه بالمحيطينِ الهادِيِّ والهنديّ، وشمالِ المحيطِ الأطلنطيِّ .. فكيفَ وصلَ إلى مياهِنا؟!

ومن الحقائقِ التي وردتْ في كلامِ أبي، وأدهشَتْني، أنَّ حــدوةَ الحصـــــانِ، الذي يُقـــــالُ له أيضاَ- في بعضِ مواقعِ انتشارِه "الســرطانُ الجُنديُّ"، ليس ســــرطاناً، وإن كانت له هيئةُ الســـرطــــاناتِ البحريةِ؛ إذْ أنَّه ليس من طائفةِ القشرياتِ البحريةِ، التي تنتميَ إليها السرطاناتُ الحقيقيةُ؛ وإنما هو من مجموعةٍ تمُــتُّ بصلةٍبعيدة نسبياًللعناكـــبِ!.

وبعد أن صوَّرْنَا السرطانَ حدوةَ الحصانِ في موقِعِه الطبيعيِّ، وأَخَذناهُ في كيسٍ بلاستيكيٍّ، ليحتفظَ به أَبي في مختبرِه، عُدنا إلى بيتِنا، حيثُ وجدَ أَبي ضرورةً لمراجعةِ بعضِ المنشورِ عن هذا الاكتشافِ في المجلاتِ العلميةِ المتخصصةِ المُتّاحةِ في شبكةِ المعلوماتِ الكونيةِ. وكان يُطلِعُني على بعضِ ما يجِدُهُ من معلوماتٍ .. ويا لروعةِ وغرابةِ ما اطَّلعتُ عليهِ ...

إنَّ هذه الكائناتَ البحريةَ شبيهةَ السرطاناتِ تعيشُ في المياهِ الشاطئيةِ، ولا تتجاوزُ عمقَ مائةِ قدمٍ؛ وهي تحفرُ لبيضِها أعشاشاً في رمالِ القاعِ، حيثُ تضعُ الأُنثَى الواحدةُ ما يقربُ مِنْ 20 ألفَ بيضةٍ، تفقسُ بعدَ شهرٍ واحدٍ، فتُغَطِّيَ أسرابُ الحُدواتِ الوليدةِ خَطَّ الساحلِ؛ وتتعرَّضُفي هذه المرحلةِللافتراسِ مِنْ كائناتٍ أُخْرَى، أَهمُّها طيورُ البحرِ. وبالرغمِ من الخسائرِ الكبيرةِ التي تتكبَّدُهـا، فإنَّ الجانبَ الأعظمَ مِنْ الصغـــــارِ يُكتبُ لهُ النجاةُ، فلا يلبثُ أنْ يشقَّ طريقَه، فِراراً إلى البحرِ المفتوحِ، ليختفيَ عن أَعيُنِ الطيورِ في المياهِ الأكثرِ عُمقاً، حيثُ يمضيَ قُرابةَ عِـقــــدٍ من السنينِ، حتى ينضجُ، فيعودُ إلى خطِّ الســــــــاحلِ، مُشاركاً في دعمِ دورةِ الحياةِ.

أمَّا الحدواتُ العجوزُ، فإنَّها تَبْقَى بالميــاهِ الشاطئيةِ غيرِ العميقةِ، فيتخذُها عددٌ من الكائناتِ البحريةِ مُستقرَّاً له، فيتراكمُ عليْها، حتى يكادُ شكلُ السرطانِ الحدوةِ أن يختفيَ. وتُختــصُّ الحدواتُ العجوزُ بهذا الهجومِ، لأنَّهاببساطةٍقد توقَّفتْ عن النمُوِّ؛ فالكائناتُ المســتردِفـةُ لا يمكنُها الاستقرارَ على ظهورِ وبطونِ الحدواتِ الصغيرةِ، الآخذةِ في النموِّ، والتي تُبَدِّلُ دَرَقاتِها من وقتٍ لآخـرِ.

ويبدأُ استعمــارُ جسمِ الســــــرطانِ الحدوةِ بالبكْتِيريا، التي تُغطِّيهُ في صــورةِ طبقةٍ رقيقةٍ لزِجَةٍ؛ ولا تلبثُ كائناتٌ أُخرى أنْ تَعْقُبَها. وقد اهتمَّ أحدُ علماءِ البيئةِ البحريةِ بدراسةِ ظاهرةِ اســتردافِ السرطانِ الحدوةِ، فوجدَ أنَّ عددَ الكائناتِ البحريةِ، من اللافِقَارِيَّاتِ فقط، التي تحتلُ ظهرَ وبطنَ هذا الحيوانِ البحريِّ، يصلُ إلى 40 حيواناً، أهمُّها الأَطُومَاتُ، والديدانُ عديدةُ الأشواكِ والمفلطحةُ، وأنواعٌ من الإسْفِنجِ، وبعضُ أنواعِ الرُبيانِ وغيرهِ من القشريَّاتِ البحريةِ الصغيرةِ، بالإضافةِ إلى أنواعٍ دقيقةٍ من الجلدِ شوكِيَّاتِ البحريةِ، مثلِ نجومِ وقنافِذِ البحرِ؛ وإذا توفَّـــرتْ بقعٌ خاليةٌ على سطحِ الحدوةِ، يصلُها ضوءُ الشمسِ، احتلَّتْها الأعشابُ والطحالبُ البحريةُ، مِنْ خضراءِ وبُنِّيَّةٍ وحمراءِ.

وبمرورِ الوقتِ، تُصبحُ درقةُ السرطانِ الحدوةِ (كَوْناً) صغيراً، أو مُستودَعاً مُتحركاً للتنوُّعِ الأحيائيِّ؛ فبالإضافةِ إلى المحتلِّينَ أو المستردفينَ، تجتذبُ الدرقةُ، العامرةُ بالحياةِ والأحيـــاءِ، أنواعاً أُخرى (زائــرةً) من الكائناتِ البحريةِ، تترددُ على هذا (المُـولِ)، أو المستودَعِ الحــيِّ، لتنتَقِـيَ مِنْه ما يروقُهـا من أنواعِ الطعــامِ، أو لتقيــمَ علاقـاتٍ مختلفـةِ الألــوانِ، مع بعضِ المقيمينَ بِــهِ!

وقد وجدَ الإنســانُ لنفسهِ مكاناً بين المُستفيدينَ من السرطــــــاناتِ حـــــدوةِ الحصــانِ. إنَّهبطبيعـةِ الحـالِلن يســـتردِفَهـا؛ ولكنَّه (يحصُــدُها) من مواقعِ تجمُّعاتِها على شواطئِ المحيطاتِ، ليســــتَنزِفَهــا .. نعم .. ليحصــلَ على دمائِهـا، التي تتميَّزُ بحساسيتِها الفائقةِ للسمومِ، ومِنْ ثَمَّ فَهِي تفيدُ في الاختباراتِ التي تُحددُ درجةَ نقاءِ الموادِ الكيميائيةِ الفعَّــالةِ في العقاقيرِ، وفي تنظيفِ الأجهزةِ المستخدمةِ في تداوُلِ دماءِ البشرِ!.

12 – جنازةٌ لِحُوتِ العَنْـبَــرِ
رنَّ هاتفُ أَبي ونحنُ نتناولُ طعامَ الغداءِ، قُربِ الرابعةِ عصراً. كانَ الرقمُ المتصِلُ مجهولاً لأَبي، وتبيَّنَ أنَّ المُهاتِفَ هُوَ رئيسُ جمعيةِ شاطئِ الفيروزِ، وهو اسمُ الشاطئِ الذي شهدَ أحداثَ مسابقةِ مهندسِ الشاطئِ. قالَ الرجلُ إنَّه وجدَ رقمَ الهاتفِ مطبوعاً على مُلصقِ جمعيةِ بحرٍ نظيفٍ، فأسرعَ يتصلُ بأَبِي يطلبُ استشارتَه في أمرٍ طارئٍ مُهمٌّ وخطيرٌ...

جَنَحَ حوتٌ صباحَ اليومِ في موقعٍ على ذلكَ الشاطئِ، أمامَ المدينةِ الجاريَ إنشاؤها، وبَعدَ المُخيَّمِ الذي يُقيمُ فيهِ العمالُ المشاركونَ في بناءِ قريةٍ سياحيةٍ ساحليةٍ جديدةٍ. طَمأَنَه أَبي وأَكَّدَ له أنَّه سيغادرُ البيتَ مُتوجهاً إليه حالاً. والتفتَ إليْنَا، وقالَ مُمازحاً: لقد أُسقِط في يَدي، وأَنا الذي جئتُ هَـرَباً من انشغالاتِ العملِ، فإذا به يُطاردُنِي في عطلةِ استجمامِي، ولكنَّهُ حادثٌ غريبٌ، غيرُ مسبوقٍ، فتلكَ أوَّلُ حادثةِ جنوحٍ أو ترنُّحٍ لحيوانٍ لبُونِيٍّ بحريٍّ في المنطقةِ، إنْ لم يكنْ على طولِ الساحلِ المصريِّ المتوسطيِّ. وسأَلَنِي إنْ كنتُ أرغبُ في مرافقتِهِ، فرحبتُ بِلا تردُّدٍ.

وانطلقتْ السيارةُ بِنا، ثلاثتِنا: أَبي، وأنا و(صديق)، الذي كنتُ أشعرُ به إلى جوارِيَ طولَ الوقتِ. ولم نلبثْ أنْ وصلْنَا بعدَ دقائقَ قليلةٍ، حيثُ وجَدْنا هَـرَجَاً ومَرَجَاً، وقد انتشرتْ بين سكانِ المنطقةِ من البَدْوِ المتناثرينَ، وعمالِ المُخَيَّمِ والقريةِ السياحيةِ، وفي غُضونِ ساعاتٍ قليلةٍ، حكاياتٌ غريبةٌ عن (الوحشِ) البحريِّ الذي أَلْقَى بنفسهِ على الشاطئِ.

كانَ رئيسُ الجمعيةِ في استقبالِنا، في حالةٍ من الارتباكِ، لا يدريَ كيف يتصرَّفُ، فلا أحَـدَ بالمنطقةِ له خبرةٌ سابقةٌ بالحيتانِ المترنِّحَةِ، وقَادَنا مع فريقٍ من المتطوعينِ، إلى حيثُ هَلَكَ الوحشُ.

تعرَّفَ أبي، من أولِ نظرةٍ، على صاحبِ الجثةِ، ذي الرأسِ الضخمةِ مستطيلةِ الشكلِ التي يصلُ طولُها إلى ثُلُثِ الطولِ الكُليِّ للجسمِ، والتي لا يمكنُ أن تكونَ لنوعٍ آخرَ من الحيتانِ غيرِ (حوتِ العنبرِ).

وكان من بينِ الملتفِّينَ حول الحوتِ رجلٌ يصرُّ طولَ الوقتِ على استقدامِ الحكايةِ الدينيةِ عن سيدِنا يُونُسِ والحوتِ، حتَّى ضجَّ أَبي من تدخُّلِه بغيرِ عِلمٍ، فشرحَ له إنَّ فمَ هذا الحوتِ ليسَ أَدْرَدَ، أيْ خالٍ مِنَ الأسنانِ ، فقد كانتْ أسنانُه بارزةٌ، فهلْ تتصورُ أنَّ "يُونس" مرَّ بهذينِ الفكَّينِ المُسنَّنَينِ، ومضيَ إلى بطنِ الحوتِ سالِماً؟!. فتوقَّفَ الرجلُ عمَّا كان يرددُه.

واهتمَّ أَبي بأنْ يُخفِّفَ منْ جَزَعِ الناسِ، فأخذَ يُذكِّرَهم بالشريطِ السينيمائيِّ المأخوذِ عن روايةِ للكاتبِ الأمريكيِّ "هرمان ملڤيل" واسمُها (موبي دِكْ)، التي استلهمَ فيها أحداثاً حقيقيَّةً وقعتْ عِندَما قامَ حوتُ عنبرٍ ذكرٌ بمهاجمةِ وإغراقِ سفينةٍ اسمُها (إسكس)، وقد كانَ ما جاءَ في تلك الروايةِ عنْ وحشيَّةِ الحوتِ مبنِيَّاً على قدرةِ الذكورِ من حيتانِ العنبرِ أن تُدافعَ عن نفسِها بشراسةٍ ضدَّ قواربِ وسفنِ الصيدِ التي كانت بدائيةً في ذلك الوقتِ، وأنْ تتسببَ في إغراقِها وقتلِ بحَّارتِها.

ولما سُئَلَ أَبي من أحدِ الصحفيينَ المحليينَ، جاءَ على عَجَلٍ ليغطيَ قصةَ جنوحِ حوتِ العنبرِ، عنْ سببِ الجنوح، وما إذا كان متصلاً بعوامل بيئية محلية طرأت عليها تغيرات، وبالتالي فيكون علينا أن نتوقع وقوعِ مثلِ هذا الحادثِ من حينٍ لآخرَ في أنحاءٍ متفرِّقةٍ من العالمِ. أجابَهُ أَبي قائلاً إنَّ معظمَ الآراءِ التي تحاولُ تفسيرَ جنوحِ اللبونياتِ البحريةِ على الشواطئِ تحتاجُ إلى دعمٍ علميٍّ منْ دراساتٍ تشريحيةٍ وفسيولوجيةٍ وبيئيةٍ لحالاتِ الحيتانِ الجانحةِ، وإنْ كنتُ أميلُ إلى أنَّها في مُعظمِها ناتجةٌ عن حالاتِ سوءِ تغذيةٍ، فلم تعُد تلك الحيواناتُ التي تَتَّسمُ بضخامةِ الحجمِ تجدُ ما يكفيَها من غذائِها، نتيجةَ نقصِ إنتاجيتِهِ في مياهِ البحرِ، فتتأثرُ أجهزتُها الملاحيةُ المُرتبطةُ بأدمِغتِها أشدَّ الارتباطِ، وتفشلُ في الإحساسِ بالاتجاهِ، كما لو كانتْ أُصيبتْ بالمرضِ البشريِّ (زهايمار)، فيتَّجِهُ بعضُها إلى الشاطئِ، حيثُ المياهُ الضحْلةُ لا تكفيَ للاحتفاظِ بجسمِه الضخمِ طافِياً، فيسقطُ مُترنحاً، وينتهيَ به الأمرُ إلى الموتِ.

وأنهى أبي حديثَه قائلاً، إنَّ المنطقةَ لمْ تشهدْ تغيراتٍ حادةٍ، ولكنَّها التغيراتُ العالميةُ العامةُ في أحوالِ المناخِ، التي تَطَالُ كلَّ مكانٍ على سطحِ الأرضِ، ونحنُ أمامَ كائنٍ لبونيٍّ بحريٍّ يعيشُ في تجمعاتٍ صغيرةٍ، ولهُ أسلوبُه الثابتُ في البحثِ عن غذائهِ اليوميِّ، إذْ تَقتاتُ حيتانُ العنبرِ على الحبَّاراتِ العملاقةِ بشكلٍ رئيسيّ، وهي حباراتٌ تسكنُ الأعماقَ البعيدةَ، فتغوصُ إليها حيتانُ العنبرِ، تطاردُها وتقتنصُها، وبمقدورِها أنْ تغوصَ مِنْ أجلِها حتَّى عُمقِ 3 كيلومترات. ولا بأسَ في أنْ تتعددَ مراتُ الغوصِ، حتَّى تكتفيَ من الحباراتِ، وتشبعُ؛ فنحنُ أمامَ أَقْدرِ الغوَّاصِين اللبونيين على الإطلاقِ، وهو يغوصُ مُستعيناً بجهازٍ ملاحيٍّ غايةً في التعقيدِ والكفاءَةِ، إذ يفرزُ عُضوٌ في رأسهِ مادةً شمعيةً، إنْ تجمَّدتْ بفعلِ الماءِ ارتفعتْ كثافتُها وازدادَ وزنُها، وساعدتْ الحوتَ على إتمامِ الغوصِ إلى تلكَ الأعماقِ السحيقةِ، مُستغرقاً ساعتينِ تقريباً، غَوْصاً وصُعوداً. وتمثِّـلُ تلك المادةُ مشكلةَ هذا الحوتِ المتصلةِ بوجودِه، فقدْ كانَ الصيَّادونَ يطاردونَه مِنْ أَجلِها، ويُمكنُ لهذا الجهازِ المِلاحِيِّ العجيبِ أنْ يحتويَ على حجمٍ يزيدُ عن 1900 لترٍ من السائلِ العنبريِّ، المُكوَّنِ كيميائياً من خليطٍ منْ مُركَّبينِ هما (الجليسريدُ الثلاثيُّ) و(إستراتُ الشمعِ).

ومِن جهةٍ أُخرى، فإنْ صادفَ حوتَ العنبرِ أذىً في طعامِه، أسرعتْ مادةُ العنبرِ إلى أمعائِهِ (ولحوتِ العنبرِ أطولُ جهازٍ معويٍّ بين جميعِ الكائناتِ الحيةِ المعروفةِ)، وأحاطتْ بالغذاءِ غيرِ المرغوبِ فيهِ، ليطردَهُمَا الحوتُ معاً في الماءِ، ليجدَهما سعيدُ الحظِّ، فيستخلصُ مادةَ العنبرِ ذاتَ الرائحةِ العِطريةِ الفوَّاحَةِ، التي يُجيدُ (الصيادلةُ الشعبيونَ) استخدامَها في أغراضٍ عديدةٍ، أهمُّها تصنيعُ العطورِ والمساحيقِ والمَرَاهِمِ والشمعِ وزيتِ المصابيحِ، ويتمزُ العنبرُ الموجودُ في أمعاءِ الحوتِ بقُدرتِه على تثبيتِ العطورِ، وبه مادّة تسمّىambrein لها رائحةٌ تُشبهُ رائحةَ المِسكِ، الّتي ينتشرُ عبقُها بسرعةٍ كبيرةٍ، والتي تدومُ على الملابسِ لمدّةٍ طويلةٍ.

وينتظمُ متوزعاً في رأسِ حوتِ العنبرِ عددٌ من الجيوبِ أو الحجراتِ المملوءةِ بهذا السائلِ الشمعيِّ، يقومُ بإصدارِ أصواتِ نَقْـرٍ قويَّةٍ ومُركَّزةٍ، تصلُ درجةُ حِدَّتِها إلى 230 ديسيبل تحتَ سطحِ الماءِ، فهي الأحدُّ بينَ أصواتِ جميعِ اللبونياتِ على سطحِ الكوكبِ، تُطلِقُها الحيتانُ في الماءِ ثمَّ تعودُ فتستقبلُها، لتحقيقِ التواصلِ فيما بينَها، وتحديدِ مواقعِ طرائدِها وفرائِسِها بِرَجْعِ الصدآ.

كانَ حجمُ الحوتِ الهالكِ ضخماً، إذْ تجاوزَ طولُهُ 15 متراً، وقد تجمَّعَ حولَه مَعَنا، بدافعِ الفُضُولِ وحُبِّ الاستطلاعِ، أفرادٌ عديدُون لا أعرفُ معظمُهم ولا مِنْ أينَ جاءُوا، وكانَ كلٌّ مِنْهم يَدْلُو بدلوِه في كيفيةِ التعاملِ مع الحوتِ، الذي أكدَّ لهم أَبي أنَّه قدْ ماتَ، ولا أملَ في إنقاذِهِ.

وعرضَ أبي اقتراحاً أَنْهى به حالةَ التخَبُّطِ، وهو توفيرُ رافعةٍ وشاحنةٍ ضخمتينِ، تَـرْفَعَـان الحوتَ وتَنقِلانهِ إلى منطقةٍ في عُمقِ الصحراءِ، بعيدةٍ عنْ العُمرانِ، حيثُ يُعدُّ له قبرٌ يناسبُه، يدُفنُ فيهِ، أملاً في أن يتحَلَّلَ بعد سنواتٍ، فيسهُلُ عليْنَا استخلاصُ عظامِه وإعادةِ ترتيبِها، لتُستخدمَ للعرضِ المُتحفيِّ في أيِّ قريةٍ سياحيةٍ أو مدينةٍ قريبةٍ، أو يُهدَى الهيكلُ إلى مُتحف الأحياءِ المائيةِ في الإسكندريةِ.

لَقِيَ الاقتراحُ قبولاً من الحاضرِين، ووعدَ الرسميُّون مِنْهم بتنفيذِه، على أن تبدأَ إجراءاتُ التنفيذِ في صباحِ الغدِ، فقد كانَ نهارُ اليومِ يقتربُ من نهايتِهِ. وانصرفَ الجميعُ تاركينَ جُثَّةَ الحوتِ على رمالِ الشاطئِ.

غيرَ أنَّني تلقيتُ قبلَ أنْ ينتصفَ الليلُ رسالةً عاجلةً مِنْ (صديق) أفادتْ بأنَّ ثمَّةَ عدداً قليلاً مِنَ الناسِ، يحملونَ أدواتَ نَشرٍ وتقطيعٍ، يعكفُ بعضُهم الآن على فَصْلِ رأسِ الحوتِ وتحطيمِها، والبعضُ الآخرُ قامَ بإخراجِ أحشاءِ الحوتِ، وأنَّ الجميعَ يبحثونَ عنْ تلكَ المادةِ التي تعرَّفوا عليْها لأولِ مرَّةٍ في حديثِ أَبي إليهِم، وقدْ تحوَّلَ المكانُ إلى مُستنقَعٍ مِنْ سوائلِ جَوفِ الحوتِ وقِطعٍ ضخمةٍ مِنْ دهونِه ولحمِه.

لمْ أشأْ أنْ أوقِظَ أَبي مِنْ نومِه لأُخبرَه بهذِه الأمورِ المؤسفةِ، التي لا يمتلكُ صلاحياتٍ لوقفِها. لكنَّنا ذهبْنا إلى الموقِعِ في الصباحِ، حيثُ فوجِئْنَا بأنَّ الوصفَ الذي نقلَهُ (صديق) لِي هُـوَ أَقَـلُّ مِنَ الحقيقةِ البَشِعةِ بكثيرٍ .. كُنَّـا نَخُوضُ في كُتلٍ مُهترِئةٍ من الدهونِ واللحمِ وبحرٍ من الدماءِ، وكانتْ رائحةُ المكانِ لا تُطَاقُ.

ولمْ يكُنْ من الصعبِ إدراكُ أنَّ ثمَّةَ من فَطِنَ إلى أَهميةِ الرأسِ والأمعاءِ، فَسَعَى إليهِمَا، وحصلَ على ما بِهِما مِنْ عَنبرٍ، وتركَ لنا ما قامَ فريقٌ منَ العُمَّالِ بجمعِهِ في أكياسٍ بلاستيكيةٍ ضخمةٍ، تجاوزَ عددُها مائةَ كيسٍ، رفَعُوها على شاحنةٍ ضخمةٍ اتخذتْ طريقَها حاملةً أغربَ جثَّةٍ، في أَغْربِ جنازةٍ، إلى أَغربِ قبرٍ، في موقعٍ بعيدٍ في الصحراءِ.

13 وداعاً يا "صديق" ...
معذرةً يا (صديق)، كان عليَّ أن أُسرعَ عائداً إلى الفضاءِ. ووجدْتُكَ نائماً، بعدَ يومٍ حافلٍ بالتجوالِ الشاطئيِّ البديعِ الذي تُقبِلُ عليه فرِحاً مَسروراً وحدَكَ أوْ مع أفرادِ أُسرتِكَ الطيبةِ التي آنستُ لها كثيراً، فلمْ أشأْ أنْ أزعجُكَ، وهَا أنا أسبحُ في الفضاءِ، وقد تناءتْ بيننا المسافاتُ، بعدَ أنْ كنَّا لَصِيقَيْن، لا نكادُ نفترقُ، لمدةٍ تحسبونَها أنتُم في الأرضِ بأكثرِ من شهرينِ؛ وكانتْ زمناً من المُتعةِ الخالصةِ بالنسبةِ لِي، تمكنتُ من الاقترابِ الشديدِ مِنْ فضائِكُمُ الداخليِّ: البحرُ، الذي أحببتُه، بلْ وانتقلتْ إليَّ منكُما (الرجلُ الكبيرُ)، وأنتَ، خبرةٌ بِه كبيرةٌ. وأنا أتفقُ تماماً معَ ما قالَ بِهِ مُقَدِّمُ البرنامجِ التلفازيِّ بأنَّه فضاءٌ غنيٌّ، سهلُ المنالِ، وهُوَ الأَوْلَى بالاهتمامِ، منْ أجلِ صالحِ البشرِ.

لقد كنتَ من الكرمِ معِيَ، يا (صديق)، حتَّى أنَّكَ لم تشَأْ أن تُزعِجنِيَ بالتشكُّكِ في نوَايَايَ، فلم تسألْنِي، مثلاً، من أينَ جئتُ من الفضاءِ، وأَوْلَيتَنِي ثقةً، لعلَّني كنتُ أهلاً لَها.

ويمكنكَ يا (صديق) أنْ تعتبرَنِي، حسبَ مفهوماتِكم، مُواطِنَاً شَمْسِيَّاً، فَأَنا مُتواجِدٌ حيثُما توفَّرَتْ سيَّالاتُ الآشعةِ الكونيةِ. إنَّها غذائِي، إنَ أردتَ أنْ تقيسَ على حالِكُم ككائناتٍ بشريةٍ. إنَّكم تُطلقونَ عليها اسمَ (الآشعةُ الكونيةُ)، وهِيَ ليستْ آشعةً في حقيقتِها، وإنَّما تتكوَّنُ مِنْ 90% بروتوناتٍ، أيْ الأجزاءُ موجبةُ الشحنةِ من ذرَّاتِ العناصرِ، و9% مِنها هِيَ جُسيْماتُ أَلْفَا، أيْ أنويةُ ذرَّاتِ عُنصُرِ الهيليوم، ونحوِ 1% جسيماتَ بِيتا، أيْ اليكتروناتٌ. وتنطلقُ هذه المكوناتُ في الفضاءِ على نحوٍ مُنفرِدٍ، فلا تتجمعُ في حِزَمٍ أو آشعةٍ، كما يظُنُّ بعضُكم. وهِي تحملُ طاقةً عاليةً جداً.

ولا يخترقُ الغلافَ الجويَّ للأرضِ غيرُ قدرٍ يسيرٍ مِنَ هذه (الآشعةِ الكونيةِ)، لا يستمِرُّ مؤثراً علي البشريينَ، إذ تمتصُّه الأرضُ والصخورُ، ويختفيَ تماماً عندَ عُمقِ نحو 1000 مترٍ تحتَ سطحِ الأرضِ. وقد أحسستُ فجأةً يا (صديق) بانخفاضٍ في مُحتوَى غلافِكم الجويِّ الأرضيِّ من هذه الآشعةِ، الأمرُ الذي دفعنيَ دفعاً لأنْ أُنهِيَ هذه السياحةَ البديعةَ بينَكثم، وقُربَ فضائِكم الداخليِّ، وأنْ أنطلقَ إِلى الفضاءِ الغنيِّ بغذائيَ الكونيِّ، وأنتَ نائمٌ.

إنَّني الآن في مَوطِني الفضائيِّ، الذي يهُمُّني أنْ أُحدِّثَك عنه. ويُمكنُكَ أنْ تقولَ أنَّه مَقَرُّ إقامتِيَ الأساسيُّ، الذي أَجُولُ هُنا وهُناك، لكنِّي لا ألبثُ أنْ أعودَ إليهِ (مَا أَحْلى الوطنُ!)، هُوَ المُذنَّبُ الذي اهتمَّتْ بِهِ أبحاثُ علماءِ فيزياءِ الفلكِ الأرضيينَ لبعضِ الوقتِ، وأَعطُوه اسماً طويلاً هُوَ (67-بي-كشوريوموف جيراسيمنكو)، وأَرسَلُوا إليهِ مُختَبَراً فضائياً في صورةِ مركبةِ فضاءٍ خاصةٍ، أَطلقُوا عليْها اسمَ مدينتِكم المصريةِ (رَشِيدُ)، آملينَ أنْ تكونَ هذه المركبةُ بمثابةِ (حَجَرُ رَشيد)، الذي كانَ له فضلُ فَكِّ شِفرَةِ رُموزِ الكتابةِ الهيروغليفيةِ القديمةِ، لأوَّلِ مرَّةٍ، وكان ذلكَ مُنذُ أكثر من قرنين.

ويتخذُ (67-بي-كشوريوموف جيراسيمنكو) شكلاً غيرَ معهودٍ بينَ المُذَنَّباتِ: قِطْعَتان يربطُ بينَهما عُنُقٌ، وقد حُدِدتْ أبعادُه بثلاثةِ كيلومتراتٍ عَـرْضاً فى خمسةِ كيلومتراتٍ طولاً، وهُوَ يتَّخذُ مداراً حلزونياً يَتَّسِعُ شيئاً فشيئاً خلالَ رحلتِه حولَ الشمسِ، مروراً بكَوكَبَىّ الأرضِ والمِريخِ. ولا يتوقَّفُ مَوطِني هذا عن الانطلاقِ بينَ كواكبِ المجموعةِ الشمسيةِ بسرعةٍ تصلُ إلى 55 ألفَ كيلومترٍ فى الساعةِ، وكُلَّما اقتربَ مِنَ الشمسِ ازدادَ نشاطُهُ. ومِمَّا يزيدُه غرابةً أنَّه ينفثُ الغازاتَ.
وقد التقطتْ (رشيدُ )، قبلَ أنْ تتحطمَ فوقَ مُذنَّبِنا في سبتمبر 2016، عدداً كبيراً من الصورِ، وتحصَّلتْ على كمِّ هائلٍ من المعلوماتِ عن مُذَنَّبِنا الذي أصفُه أحياناً بالأهوجِ، فتصرفاتُه غيرُ محسوبةٍ معظمَ الوقتِ، ولعلَّ علماءَ الأرضِ يُفلِحون في استقراءِ ما تحصَّلوا عليه، وأن يَفِيدُوا منه في أبحاثِهم التالِيةِ.

قدْ لا نلتقيَ ثانيةً يا (صديق)، ولكنْ دَعْنَا نَأْملُ أنْ يثوبَ جميعُ سكانِ الكونِ إلى صوابِهم، وأنْ ينبُذوا أفكارَ الهيمنةِ والسيطرةِ، التي لا طريقَ إليها إلا التدميرَ ونشرَ الخرابِ، وأنْ يسودَ السلامُ كلَّ أنحاءِ الكونِ.

وقد رأيتُ، قبلَ أن أغادرَكم، أنْ أتركَ لكَ هديةً متواضِعةً، تُذكِّرُكَ بِي، وبالأيامِ الشاطئيةِ الجميلةِ التي عشتُها معكم: أنتَ والرجلُ الكبيرُ والسيدةُ الكبيرةُ والإنسانةُ الصغيرةُ صاحبةُ كأسِ المسابقةِ. لقد سمحتُ لنفسيَ أنْ أتسللَ إلى حاسوبِكَ المطويِّ، لأضعَ فيه نسخةً مِنْ كلِّ ما سجَّلتُه بأدواتِيَ الخاصةِ من صورٍ.

ستجدُ صوراً شخصيةً لكم جميعاً، في أكثرِ من مُناسبةٍ، وصوراً من مسابقةِ الشاطئِ، وصوراً تفصيليةً لأحبائكَ من طيورِ البحرِ، وللمخلوقِ الذي اكتشفَهُ الرجلُ الكبيرُ، وللحُوتِ النافِقِ الذي سرقَهُ اللصوصُ مِنْ أجلِ ما بداخِلِه من عطورٍ.

ومِنْ جهتيَ، فسوفَ أنقلُ في كلِّ مكانٍ أذهبُ إليهِ انطباعيَ الرائعَ عنكُم وعن الحياةِ الغنيةِ على سطحِ هذا الكوكبِ، ولعلَّكَ بدَوْرِكَ تحدثُ رفاقَكَ عنِّي كنموذجٍ لكائنٍ فضائيٍّ مُسالمٍ.

لكَ جزيلُ الشكرِ.

(صديق)