يكشف لنا الباحث الجزائري هنا في تلك القراءة المتميزة لأحد أكبر الباحثين الفرنسيين في عالمنا العربي، وأعمقهم معرفه به وبثقافته ولع بيرك بالتعدد والاختلاف والقراءة العابرة للثقافات، وكيف طبع هذا حياته وفكره، يتحدث عدة لغات، ويخوض في عدة مجالات، مستعربا وعالم اجتماع ومترجما وقارئا الشعر والأدب والفلسفة.

جـاك بيـرك منظـورا إليـه مـن ضفتيـن

عبد الوهاب شعلان

لا يزال المستعرب وعالم الإسلاميات Islamologueجاك بيرك يلهـم ويثير. وليس بعيدا أن يكون السر في ذلك هو هذا الفكر الحي، المتوقد، الكوني Universel الذي ينزع إلى الجوهري والعميق والأصيل، وينأى عن العرضي والعابر والتفصيلي. وكم كانت كلمة "أصالة" التي ينسخها بنطقها العربيacala وليس الفرنسيAuthenticité أثيرة عنده، بهذا الوقع المتجذر في ثقافة عربية، لطالما ظلت إحدى أهم ملهماته ومجالا خصبا لهذه المعرفة المتفتحة والمتحررة عن الآخر.

لم يكن جاك بيرك إذن من طينة هذا النفر ممن يسمى مستشرقين، بما تحمله الكلمة من إرث وأقنعة وهواجس. لم يكن مدفوعا برغبة أكاديمية باردة، ولا بنزوع إلى الإطلالة من عل على شرق يغذيه الوهم والتوجس والغريب، وإنما كان الباحث والإنسان معجونين بخميرة واحدة، حيث المعرفة تساير التجربة الحيـة، والفكر لا ينأى عن المعيش. كان كلود ليفي شتروس C.L.Strausيرى أنه من أجل معرفة الحقيقي يجب استبعاد المعيش Le réel et le vecu. نتفهم هذا النزوع العلمي عند شيخ البنيويين، أما عند بيرك فإن العقلاني لا يمكن أن يفارق التاريخي أبدا.

وبعد، فإن إطلالتنا هذه على جاك بيرك لا تتغيا الإلمام بفكره، وإنما تروم أمرا آخر: أن تجعل منه بؤرة ينظر إليها من ضفتي البحر المتوسط. وكم كان هذا المجال الجيو- ثقافي محببا إلى قلبه أيضا. كيف يحيا الفكر وينهض عندما تسطع عليه أنوار متعددة ومتباينة، وكيف يكشف عن مضمراته عندما يتلقى الأسئلة الأصيلة والمحرجة معا. نحن إذن أمام محاورة مزدوجة لهذا الفكر؛ يتصدر لها مثقف مغاربي مهتم بشؤون الإسلام والغرب وحوار الحضارات هو مصطفى شريف وباحث فرنسي لزم فكر بيرك، وكانت له معه حوارات طويلة، هو جان سيرJean Sur.

كيف توجه إكراهات الثقافة والتاريخ وباقي مجالات الانتماء، أنماط التفكير وضروب الأسئلة ومجالات الاهتمام؟ وكيف تطفو الهواجس والمخاوف المطمورة وراء السطح؟ ذلك ما تكشف عنه محاورة كل منهما لفكر جاك بيرك. مرجعيتنا في ذلك الكتاب المشترك بينهما.

جاك بيرك في ضيافة مثقف مغاربي:
ظل مصطفى شريف، طيلة مسيرته الفكرية، مهتما برموز الحوار والتواصل بين ضفتي المتوسط خصوصا، والإسلام والغرب عموما (اهتم بجاك دريدا وكتب عنه كتابا تذكاريا مع مجموعة من المؤلفين: Derrida a Alger وحاور بابا الفاتيكان). وكان يؤثر أن يصفه ب "عابرالضفتين" Le passeur des deux rives وهو الوصف الذي أطلقه بيرك على نفسه(1). ذلك أن العبور هو المبدأ المحرك لهذا الفكر المتقد: عبور الهويات والانتماءات الضيقة، وعبور أنماط المعرفة المتكلسة، والسكن المستمر في ضفاف الآخر.

ومن منطلق هذه الروح المتحررة، تغدو إعادة قراءة جاك بيرك أمرا ملحــا، ليس لاعتبارات معرفية فحسب، بل لمقتضيات التاريخ ومتطلبات الواقع أيضا. إن الفكر الحي هو ذلك الذي نناديه كلما فرضت وقائع التاريخ منعرجات خطيرة تنذر بالهاوية والسقوط الإنساني. ولا أدعى لهذه المرحلة القاتمة من فكر بيرك، حيث مارد التعصب والانغلاق يخرج من قمقمه، مشهرا أسلحــــة شتــــــى، متقنعا بأثواب ناعمة – وهذا هو الأخطر – ومتحصنا بقلاع وحصون كنا نظن أن حضارة العقلانية ومحورية الإنسان التي قام الغرب بتصديرها قيما كونية مطلقة، قد أتت على جذورها فنسفتها نسفا.

في ظل استيقاظ مردة المخاوف الجدد في إهاب ساسة متاجرين، وخاصة فلاسفة ومفكرين، يسقون شجرة القطيعة الملعونة، ليس أقلهم هؤلاء "الفلاسفة الجد" (لنذكر منهم أكثرهم حضورا على الأقل إعلاميـــا: برنار هنــري ليفي B.H. Levy، وآلين فلكنكروت A. Felkenkraut، وميشال أونفراي M. Onfray)، تلك الموجة الجديدة التي تربعت على عرش الثقافة الفرنسية في العقود الأخيرة، وغيرت مجرى النهر الفلسفي، صانعة أعداء جدد للغرب "المتنور" و"العقلاني" في صورة إسلام يرقد على مخزون من "التوحش" والنزعة الثاناتوسية – نسبة إلى ثاناتوس Thanatos في الميتولوجيا اليونانية – في مقابل مجال جغرافي وحضاري يباركه إيروس Eros منذ الأزل، ويوشك أن يفقد أنوثته بهذا الصدام، كما كان كلود ليفي شتروس يقول عن الإسلام. في ظل كل ذلك، يتصدر المثقف المغاربي لمواجهة هذه الموجة من العداء والحقد المبطن برداء المعرفة العلمية.

وهكذا تصبح العودة إلى ينبوع التعدد والانفتاح أمرا ملحا، «من أجل الخروج من دائرة الاتهامات والمخاوف وأنواع الجهل، العقيمة والذاتية والخطيرة، والعمل على تحقيق تعايش سلمي وخصب في عالم مطمئن وعقلاني»(2). ذلك هو مجال الاجتهاد الفكري عند بيرك، تسنده روح موضوعية إزاء التحولات التاريخية والتزام كامل، يأخذ بالاعتبار قيم الروح(3). ذلك ما تجلى ساطعا في مسيرة كاملة من البحث والعمل الفكري الذي انصب على المجال العربي والإسلامي في مؤلفات ظلت تلهم باستمرار لأصالتها وقوة النظر المعرفي فيها على السواء، مثل:

l’orient second (1970)-

- Maghreb, histoire et société (1974)

-Langages arabes du présent (1974)

- l’islam au défi (1980)

- Andalousies (1982)

- L’islam au temps du monde (1984)

وخاصة تلك المحاولة المتميزة لترجمة القرآن الكريم إلى اللغة الفرنسية بمقدمته الغنية: Relire le coran (1993)(4).

من هنا تأتي أهمية وفرادة هذه التجربة الفكرية وهي تطل على الإسلام وثقافته، مشرعة أبواب ونوافذ المعرفة وقد تخلصت من أطمار العلموية الزائفة ونفضت عنها أردية الاحتماء بالقوقعة ونوازع اكتشاف الغريب والمفارق، وأقبلت على الآخر يحدوها خلق الاحترام وظمأ السؤال وعشق الحوار المؤسس. وهي منطلقات لم تتوقف عند المستوى العلمي فحسب، بل ألقت بظلالها على حياته وتجربته الشخصية أيضا (يذكر مصطفى شريف منها تلك الشكوك بخصوص تحوله إلى الإسلام، ووصيته التي كان ينوي كتابتها عند موثق تتضمن سر علاقته بهذا الدين، قبل أن تعاجله المنية، ووصيته أيضا بأن تقرأ سورة الفاتحة على قبــره، وقد حدث فعلا – ص9-10 من الكتاب). وليس عجيبا، والأمر كذلك، أن يصرح بوضوح بأن الإسلام قد غير حياته (5):

Mon rapport avec l’islam a transféré ma vie

يطل جاك بيرك على ثقافة الإسلام من نوافذ عدة: القرآن والكلمة الشعرية القديمة والحديثة معا (لا ننسى تلك المغامرة الممتعة في ترجمة المعلقات الجاهليـة(6))، ثم المجتمع العربي، منظورا إليه في رموزه اللغوية والشعرية وقوة الكلمة فيه، ذلك أن العروبة كما يستهل كتابه المحـjــوري Les arabesهــــي «طريقة في الوجود، وأهم من ذلك أنها رمز يفرض نفسه على الجغرافي والمؤرخ»(7). إن الإنصات إلى وقع الكلمات وهسهسة اللغة كما يقول بارت ومحاورة الشبكة الرمزية التي تؤسس هوية هذه الثقافة هو ديدن بيرك الابستيمولوجي والإنسان معا، وهو أمر قلما نعثر عليه في الاستشراق الكلاسيكي، حيث الحواجز الكثيفة والجدران السميكة بين الذات الدارسة وموضوع دراستها.

وهكذا ينأى عن النمطية الاستشراقية السائدة في فهم النص الأول في الإسلام، إذ لا تثار الأسئلة الاستعراضية بقدر ما تحضر قراءة عميقة تحاور الجوهري والأصيل في هذه الكلمة الإلهية، محورها الروح الإنسانية السارية فيه التي تتأبى عن تفاصيل الزمان والمكان وخصوصية الثقافة، لتنفتح على الشامل والكوني والمطلق، دون أن تفارق التاريخ وتحولاته أو الواقع وتناقضاته. ثم هذه المسوؤلية العظمى التي أناطها الوحي بالإنسان في علاقته المزدوجة ؛ أولا مع الفضاء الذي يتموقع فيه، ثم مع المصير الذي يقوده إلى الموت وتبعاته: L’homme mis sur la terre pendant ce hin, ila hin (8). القرآن إذن تواصل بين التاريخي والمتعالي Le transcendant، حيث التعالي يخاطب البشر عبر كتاب كما يقول بيرك.

يدخل هذا الكاثوليكي عبر ترجمة القرآن في حوار مع ضربين من الإسلام كما يقول: إسلام الأنوار وإسلام يصفه بالظلامي. هذا الإسلام الأنواري الذي كانت الأندلس أكثر تعبيرا عنه، سيستأثر بعالم الإسلاميات العلماني التقدمي الذي يقدم نفسه امتدادا لأجيال متعاقبة من قادة الفكر الحر: برمنيدس، وهراقلليطس، وأرسطو، وروسو، وماركس، وهايدغر، ولكن أيضا ابن سينا، وابن رشد، وابن خلدون كان بيرك الحالم بجنة الأندلس، حيث التعايش والحوار وآفاق الحرية المترامية، يتطلع إلى استعادة عدن التلاقي والجسور الممدودة بدل الأبواب الموصدة، « ابن رشد وابن ميمون، صلاح الدين والقديس فرانسيس الأسيزي، الأمير عبد القادر ومسيحيي الشرق،أي رموز الوحدة والمشاركة والإنصات»(9). كيف يمكن أن يجتمع ابن رشد مع موسى ابن ميمون Maimonide حول كتاب لأرسطو يكشف فيه سر السعادة البشرية ؟ إذا استعدنا رواية جاك أتالي "جماعة اليقظين" La confrérie des éveillés التي كتبها في ها الشأن.

كان جاك بيرك عدو هذه الغطرسة الغربية والعنجهية التي تغذيها الأحكام المسبقة وخزان الأوهام والمخاوف، لذلك رفض الانخراط في تجربة الاستشراق المتواطئ مع أشكال الهيمنة والسيطرة التي تتخذ الخطاب أداة لذلك. إن جدلية المعرفة والسلطة منذ أن نفض نيتشه عنها الغبـار ثم حولها فوكــــو M. Foucault إلى مبدأ محرك لفهم بنى الفكر البشري، أضحت مجالا خصبا في الفكر الحديث.

إن مأزق الفكر الغربي الحديث، أو على الأقل تيارات هامة منه، يكمن في غياب فضيلة الإنصات المتواضع لهذا الإسلام الذي ظل مجهولا حتى لدى من درسوه بوحي من روح الثأر والمواجهة، وإن تزيت دراساتهم ببهارج المعرفة العلمية، وتقنعت بغطاء الموضوعية الموهومة. لم يكن الإسلام أبدا غريبا عن التاريخ الغربــي، بل شكل - في نظر مصطفى شريف - إلى جانب المرجعيات المسيحية واليهودية والهيلينية، أحد الروافد التي غذت هذا النهر المتدفق. وإن إسهام ابن رشد وحده في هذا النهر كاف. لقد كان العقل التصنيفي الذي هيمن على الفكر الغربي حائلا بينه وبين الوقوف على مشارف الحقيقة التي طالما ادعى امتلاكها منذ السطوة البروميثية على نار الحضرة الإلهية في مرتع الأولمب.

ومثلما كان ليفي شتروس يطعن في إسفين الأنتروبولوجيا الاستعمارية، آخذا عليها سطوة التصنيف القهري الذي لا يصمد أمام أدوات المعرفة الحديثة التي شكلت اللسانيات عمودها الفقري، كاشفا عن وحدة الفكر البشري متجلية في هياكل الأساطير وبنى القرابة ونظم الزواج وطقوس العبادة والشعائر...صائحا في بداية كتابه المعرفي / السيري: المدارات الحزينة Tristes tropiquesفي وجه غرب متغطرس ومتعال: أول ما ترينا إياه أيها السفر، هو قاذوراتنا التي نلقيها على الآخرين. كان بيرك أيضا يعبد هذه الطريق، معلنا أن ليس هناك مجتمعات متخلفة، بل فقط مجتمعات لم تنل حظا من التحليل:

Il n’ya pas de sociétés sous développées ,seulement des sociétés sous analysées(10).

إن نظرة متأنية في كثير من المواقف التي تبدو ناشزة عن طوق الهيمنة، ترينا كيف تستتر روح السيطرة وراء سطوح التصريحات. فمواجهة النزعة الاستعمارية l’anticolonialisme من ديدرو Diderot إلى سارتر لم تكن تخلو من هذا التمركز Eégocentrisme الذي ينطوي على رؤية ميتروبولية، تتكرم بهذا المفهوم دون انخراط واضح في الواقع.كان الأجدر هو فهم وتحليل الوضعية الاستعمارية في علاقتها مع الخاضع لها Le colonisé (11)، كما فعل مفكرون فرنسيون عايشوا التجربة ؛ ألبير ميمي A.Memet colonisé وفرانس فانون F. Fanon، كي لا نذكر سوى هذين القطبين اللذين يلتقي عندهما المعرفي بالمعايشة الوجدانية والالتزام الإنساني.

من شرفة مثقف مغاربي، مؤمن بإمكانية التعايش الحضاري وملتزم بالنضال المعرفي ضد كل الأصوات التي تتعالى منذرة بنهاية التاريخ أو صدام الحضارات أو غيرها من أشكال الإرهاب الذي يختفي وراء الروح الأكاديمية أو الموضوعية العلمية، يحاور مصطفى شريف فكر جاك بيرك، ممسكا ببنيته الابستيمولوجية ونسقه المعرفي المتماسك، حيث يفضي التعدد إلى الوحدة، وينتهي المؤتلف إلى المختلف، وتصب الروافد الكثيرة في نفس الوادي. وليس صدفة أن يطلب بيرك من شريف أن يكتب مقالا عن ترجمته الرائدة للقرآن، فيكون عنوانــه "من الوادي نفسه":Du même oued وهو عنوان يلقي بظلال وارفة على هذه المسيرة الغنية، ويختزل كثيرا من تفاصيلها، لذا لا عجب أن يلامس من هذا المفكر الذي طالما أرهف السمع لرمزية اللغة العربية، وأنصت إلى نبض الشعر الجاهلي، بعضا من شغاف القلب.

سما جاك بيرك بمفهوم الآخر إلى مقام المقولة الفلسفية، معطيا لعمله الفكري نبضا متدفقا من الحيوية والتعالي. إن مقولة الآخر لا تخلو مبدأ الصراع والتراجيدية، من منطلق أن « كل واحد منا يعيد بناء الآخر ويهدمه بهدم نفسه»(12): Chacun refait l’autre et le détruit en se détruisant ههنا يصبح الرهان خطيرا: كيف يمكن أن نصالح بين هذه الرؤية المأساوية وبين دعوات الفلاسفة والشعراء والصوفية إلى " السكن في عالم الآخر " Habiter le monde de l’autre كما يقول بول ريكور P.Ricœur أو كما كان ابن عربي يبشر:

أدين بدين الحب أنى توجهت ركائبه فالحب ديني وإيماني

ورغم كل ذلك ظل عالم الإسلاميات مشدودا إلى الأمل، متعلقا بقيم التعايش والحوار، مؤمنا بالإنسان في تساميه وقدرته على تجاوز تجارب الانكسار والسقوط، مرددا دائما: il reste un avenir(13).

جاك بيرك والصوت الآتي من حضارة التقنية المرعبة:
يطل جان سير على فكر جاك بيرك من شرفة أخرى، سوف لن نجد صوت الحوار والتسامح والتعايش قويا مجلجلا كما هو الشأن عند مصطفى شريف، فالأمر طبيعي جدا ؛ ذلك أن إكراهات الواقع والانتماء ومقتضيات الوجود هي التي تحرك فكرنا وتوجه اهتماماتنا وأسئلتنا.

لقد اقتحم جان سير عالم بيرك وآوى إلى مأدبته مثقلا بهموم حضارة متأزمة تنخر فيها التقنية، ومجتمع صناعي سدت في وجهه سبل وآفاق الرحابة الإنسانية التي طالما تغنى بها. فلا عجب إذن أن يحاوره من أفق آخر ويسائله من موقع مختلف. وحينما يجد المثقف المغاربي والباحث الغربي معا في فكر بيرك أجوبة ما عن أسئلتهما وأرضية غنية للتحليل، فإن ذلك يعني خصوبة هذا الفكر وكونيته، وتلك سمة الفكر العظيم.

يقترب من هذا المستعرب Arabisant، وكذلك يصفه، لأن بيرك نفسه يفضله على مستشرق الذي يجد فيه كثيرا من بصمات التمركز الأوروبي Eurocentrisme. ولكن الضفتين تلتقيان في تمجيد قيم كبرى، وتجتمعان في الاعتراف بهذه الأبعاد العميقة والغنية في شخص بيرك الباحث والإنسان. وهكذا يرى جان سير – غير بعيد عن مصطفى شريف – أن أصالة عمله تكمن في ضرب من الازدواج الخلاق. إنـــه يتحدث في الـــــــوقت نفسه الهنا والهناك: l’ici et la bas . وهذا الانتماء المزدوج هو الذي مكنه من رؤية سبل التوافق والاختلاف معا، دون جناية أحدهما على الآخر «فالغرب والإسلام اعتبرا دائما معا، ولكن دون الخلط بينهما، يتم قبولهما باحترام خصوصية كل منهما، ويكشف عنهما في أساسهما، ويخضعان للمساءلة في علاقتهما بالروح الإنسانية. ذلك هو الاهتمام الثابت لهذا اليعقوبي jacobinالذي يقدم نفسه كاثوليكيا، رومانيا، عاش حياته كلها بين الإسلام »(14).

هذا الولع بالتعدد والاختلاف طبع حياته وفكره، يتحدث عدة لغات، ويخوض في عدة مجالات، مستعربا وعالم اجتماع ومترجما وقارئا الشعر والأدب والفلسفة، ولكن غير المتخصص في أي شئ كما أسر إلى بعض زملائه(15)، "متفائل تاريخي" Optimiste historique، يعطي لنفسه الحق في مايسميه "الشك المبرر" Le doute justifié، متأرجحا بين جدلية هيغيلية متعالية وتراجيدية نيتشوية مرعبة. عدو القطعية Dogmatisme والتصنيف شأن نيتشه نفسه، ولكن دون نزعة تدميرية أو تقويض ممنهج لسلم القيم والحقائق الكبرى. لنقل إنه يسكن القلق المؤسس الذي يفتح ذراعيه للتعدد الباني، حيث تتجاور القطيعة مع التواصل ويحضر فكر العبور والاختراق بصورة ملحة.

إذا كانت الهوية عند سارتر هي الآخرون، وعند فوكو هي الرحلة itinéraire، فإنها تغدو عنده "عبور الهوية" Iidentité c’est trans identité(16)، بما يحمله العبور من آثار، حتما ليست آثار دريدا التي هي محو مستمر، وترحال لاينقضي، وتجاوز لا موئل له سوى مشارف العبث ومرافئ اللعب الحر. إن العبور يطال الهوية والثقافة معا. يمكننا أن نتجاوز مفهوم interculturel بمعنى التبادل والتداول إلى مفهوم أكثر غنى وتعقيدا هو transculturel، ذلك أن التبادل لا معنى له إذا لم يفض إلى حركية تمكن الثقافة من التساؤل عن نفسها وعن الآخرين سواء(17).

كل ذلك لا يحشر فكر بيرك في تجربة ما بعد حداثوية post- moderniste خاوية، ذلك أنه لا يفتأ يقدم نفسه أصوليا Fondamentaliste بمعنى أنه يذهب إلى الجــــذور:

J’ai été toujours un fondamentaliste , au sens où

j’ai toujours essayé de prendre les choses a la racine.

تلك الجذور التي تعتبرها أدبيات ما بعد الحداثة من بقايا الميتافيزيقا، فالوجود رهين الصيرورة والتحول وليس الثبات والاستقرار. إن مرجعيات بيرك المتجذرة في تجربته الطويلة وكاثوليكيته الرومانية وعودته المستمرة إلى روسو J.J. Rousseau ومعاشرته الذكية للكلمة الشعرية التي وحدها ما يبقى كما يقول هولدرلين، كل ذلك يجعل من حياته امتلاء بالمعنى(18)، ومسارا غنيا مؤسسا على الإيمان والتفاؤل والمستقبل، ترعبه الايديولوجيات الشمولية، وتستفزه أفكار النهايات؛ لذا وصف طلعة فوكوياما عن نهاية التاريخ بأنها دجل كبير يضاف إلى قلة حياء كبيرة(19):

Une grande imposture ajoutée a une grande impudence. بيد أن زاوية النظر التي استبدت بمحاورة جان سير لبيرك هي أزمة المجتمع الصناعي وتغول التقنية في حضارة أخذت تتآكل بفعل هذه العلموية الطاغية. وإذا كانت هذه المسألة ليست جديدة في الفكر الغربي ؛ فقد فكك هايدغر ثقافة التقنية، وصب أعضاء مدرسة فرانكفورت جل اهتمامهم على تناقضات المجتمع الرأسمالي وأساليب الهيمنة والسيطرة التي يفرزها وأشكال الاغتراب الناتجة عنه، وقرأ فوكو آليات الضبط والاعتقال والحجز التي تمارسها ثقافة عقلانية متغطرسة على كل من يختلف معها، من مرضى ومجانين ومعتقلين وشواذ، فإن قراءة بيرك تبدو متفردة.

كانت القراءات السابقة منخرطة في استراتيجية الهدم والتقويض كآليتين محوريتين في فكر ما بعد الحداثة، بوصفه معاديا لطبيعة القيم الحداثية نفسها، بمعنى أننا أمام نوذج فكري مسبق يروم إعطاء الشرعية لنفسه من منطلق هدم أسس الآخر، لذا ينحو التقويض إلى ضروب من العبث والجنون. ينأى بيرك عن ذلك ؛ إن مشروعه هو الإنسان ومصيره التاريخي والمتعالي سواء.

وهذا ما يفسر هذا الهوس بالتطور غير المتكافئ للمجتمع الصناعي الحديث الذي انتهى به إلى الانسداد من ناحية، وإلى ما يسميه "نزع الطابع الحضاري" Décivilisé من ناحية أخرى. إن انفلات الآلة أنتج نقيض ما كانت الحداثـــة ترومه: l’éssor de la machine a produit la prolétarisation ,les guerres mondiales ,une inégalité croissante entre les peuples(20)

هذا الصوت الصارخ في برية حضارة القمع والاستغلال، الآتي من أحضانها، ليس الصوت الوحيد لا محالة، لقد أطلق روجيه غارودي صرخة مماثلة، لا قت أصداء متباينة لدى جيل من المفكرين النقديين ليس آخرهم تودوروف وتشومسكي. ربما يكون اصطدام ابن فرندة أول مرة بوهج باريس وأضوائها قد فتح عينيه على خلل ما في هذه المدنية المرعبة. قبل ذلك لاقى بول كلوديلP.Claudel ورومان رولان R.Roland الصدمة نفسها التي توقفت – فيما يبدو عند البعد النفسي- ولكنها ستتحول عند بيرك إلى مجال خصب لفهم روح هذه الحضارة وتناقضاتها. وسيغدو البحث عن جذور التناقض هاجسا ملحا، كيف أضحى البعد الواحد l’unidimensionnel الذي غدا مادة خصبة في فكر ماركيوز مبدأ محركا في قلب هذه الحضارة؟ وكيف تمكنت الرؤية السبنسيرية – نسبة إلى سبنسرSpencer- من هذا الحضور البنيوي في هيكلها؟

إن هذا التطور الأعرج لمسار حضارة متأزمة، يجد تفسيره في تلك «الأولوية المعطاة لكل ما هو وظيفي وإجرائي في كافة المجالات، حيث سيادة المرئي على غير المرئي، والتخطيطي على المركب، والرقم على الكلام، والإحصائي على على المتغير، والميت على الحي... إن التقنية قد جففت منابع الحياة والمتخيل لدى الناس»(21). ما دفع بليون بول فارغ L.P. Fargue إلى أن يرى كل شيء قد تحول إلى عدم، وسط هذا الجنون البروميثي إلى الاستحواذ والسيطرة.

إن حضارة العقلانية الطاغية مدعوة إلى أن تفتح المجال لكل ما يختلف مع منظومتها القيمية، وأن تكسر حصون الانغلاق وقلاع الخوف، وأن تتحول من حضارة الوصاية إلى حضارة المشاركة. من هنا كان ولع بيرك الشديد بمجال المتوسط، ليكون فضاء التلاقي والتعايش الخصب، ليس المتوسط شريكنا بل كينونتنا أو على الأقل جزء من هذه الكينونة: La méditerranée n’est pas un partenaire ,elle est nous-mêmes , où du moins une part de nous(22).

كيف لهذه الكينونة المنذورة للوحدة والتسامح والعيش المشترك أن تصمد في ظل تنامي دعوات الإقصاء التي تتلبس بلبوس المعرفة؟ يتوقف جاك بيرك عند حدث يجد فيه رمزية كبيرة لأوروبا ؛ فقد نشرت جريدة لوموند صفحة إشهارية سنة 1989، تظهر فيها قائمة تضم مائة وثمانية وستين اسما ممن نظر إليهم أنهم أكثر من أسهموا في الفكر الإنساني «ليس منهم عربي واحد أو إسلامي، ما هذا: لا ابن رشد الذي ظل يدرس في أوروبا طيلة أربعة قرون، ولا ابن سينا أو البيروني ولا الهندي الشنقرة Shankara أو الصيني كنفوشيوس»(23). كأن نهر المعرفة المقدس من اليونان إلى الغرب الحديث، لم تسقه جداول مصر وبابل والهند والصين والإسلام، بل روته هذه العبقرية الغربية دون سواها.

ختاما:
ومهما يكن من أمر فقد أطل المحاوران على فكر جــاك كل من شرفته، تحركهما ضرورات حضارية ومتطلبات سوسيوتاريخية، ولكن ذلك لم يمنع أن تتلاقي الضفتان، ذلك أن المنبع واحد كما المصير الإنساني، يكفي فقط أن نرهف السمع لهذا الصوت الذي ينادينا من الأعماق. إن الإسلام وكافة الأنظمة الروحية الكبرى يمكن أن تسهم بحقيقتها في بناء نظام حضاري جديد(24)، وأن تعزز قيم الحوار إلى جانب التراكمات الحضارية المتوسطية الأخرى، يكفي أيضا أن نتنادى إلى كلمة سواء بالمفهوم القرآني العميق، وأن نؤمن بهذا النداء: Amis ,viens a l’ouvert.

 

جامعة محمد الشريف مساعدية- سوق أهراس-الجزائر

 

هوامش وإحالات:

1-Jaques Berque ,Orient –Occident, éd Anep, Alger, 2004,p10.

2-ibid,p5.

3-ibid,p7.

4-ibid,p30.

5-ibidp8.

6-Les dix grandes odes arabes de l’anté – islam ,les mu’allaqat traduites et présentées par-Jaques Berque,ed Sindbad ,paris,1979.7-Jaques Berque ,les Arabes, éd Sindbad,Paris, 1979.

8-Jaques Berque, Relire le Coran, Albin Michel,,paris,1993,p67.

9- -Jaques Berque, Orient –Occident, p44.

10-ibid,p50.

11- ibid,p27.

12-ibid,p28.

13-ibid,p52.

14-ibid,59.

15-ibid,62.

16-ibid,114.

17-ibid,p129.

18-ibid,66.

19-ibid,61.

20-ibid,67.

21-ibid,75.

22-ibid,p141-142.

23-ibid,p140.

24-Mustapha Cherif, culture et politique au Maghreb, éd Maghreb relations, Alger,1990,p81.