افتنانا برؤاه الشعرية والتي ترصد الأسى والحب في آن، يقدم الكاتب الفلسطيني هنا في هذا المقال الديوان الجديد للشاعر السعودي عبد الوهاب العُريِّض، مستقصيا أهم أفكاره، وراصدا للموضوعات الثاوية في لعبة المعنى.

فَرَحٌ مِن فِضْة .. حُزْنٌ مِن ُسكونْ

في «مِحْبَرَةٌ تَنْتَحِبْ»

عبد السلام العطاري

صدر عن دار فراديس للنشر والتوزيع في المملكة البحرينية ديوان "مِحْبَرَةٌ تَنْتَحِبْ" للشاعر والصحفي السعودي عبد الوهاب العُريِّض وجاء الديوان الذي كُتبت قصائده ما بين العام 1994 والعام 2003 بـ (108) صفحات، ولعلني أجدني في فرضية ستقول: أن نبوءة الشاعر تقوم على ما ينسجه الآخرون على مفارق الحياة وداعا ولقاء والتلاقي كان هنا للزوجة التي تتحمل دائما مشاغبات الشاعر وشعره وفلذة الكبد في فراق ابدي إلاّ من ذاكرة تفتح دائما نافذة الحزن المقضي الذي لا يبرح الوالدة ولا الوالد الذي استقام له النص فأقام له الديوان ونصب ما بين المملكتين خيمة تنسج عباءة الود بين الجزيرة الجميلة والصحراء الرافلة بالمقولة، كانت المحبرة تنتحب محبة على التمازج الذي يجبله الشاعر بين الهوية القطرية والهوية القومية، وحينا تنتحب على الفقد الضليع بالذاكرة (الولد).

"حَامِلاً كفَّيْهِ وَسْطَ جِسْرٍ مترنَّحٍ
قَابِِضَاً أَورَاقَهُ
جَوازَ سَفَرٍ
تَأشِيرةَ عبورٍ
وجَسَداً فَارِغاً إلاّ مِنَ الضَيَاعِ...
صَحْرَاءٌ تِلوَ صَحْرَاءٍ..
سَرَابٌ تِلوَ قَبْوٍ
ويَعُودُ..
مُحَمَّلاً بِهَاجِِسِ اللِقَاء..."

لم يكن اختيار العُريِّض مفتتح ديوانه بعد الإهداء بأيقونة لجبران خليل جبران من كتابه المخلد (النبي) إلاّ لنؤكد بأنَّ خيط المحبة الذي يقوى على جسر يربط القريتين والفرح و يسهل على الصّاعد إلى جرن الحزن ليدمغه بآيات الفجر الفضية لتتلى على رتل العائدين من مناسك الانتحاب إلى مواطن الدنّ الجميل الذي يزهو بالمحبرة وان انتحبت فثمة ألوان تتوالد وتتكاثر فيها. "لا تفكر أنك تستطيع أن توجِّه الحبّ في مَساره فالحبُّ، إن وجدك جديراً به، هو الذي يوجّهُ مَسارَك/ حين يُفارقُك الصديقُ، لا تحزنْ، فذاك الذي تحبّهُ فيه أكثر قد يصيرُ في غيابهِ أَجْلى، كما يتجلّى، الجبَلُ للمتسلّق مِنْ مكانهِ على السَّهْل". (النبي، جبران). ثمة سحب تغري بها المحبرة جفاف سنابل الحكاية المدجّنة على الحزن لتَرِد حقول المعنى وتروي ظمأ قوافل الغاديات العائدات من مساءات تتلظّى باشتعالات الرحيل ولعله يمنح الغريبة مأوى بين سنابل ستروق رغم الرحيل القاحل أحيانا، فإن تناسي الموجوع بعد حين غفوة لابد من عودته إلى فجر ليتوضأ من ماء ذاكرة المحبرة المنتحبة، ويمنح غربته المسلوبة من النسيان عباءة الزمن ليعطي الجسد غربة أخرى تفوح منها عبق الموتى ورائحة الجرح الغائر من بواكير الأزل:...

"حُزْنٌ يَلْتَفُّ بِعَبَاءَةِ الزَمَن،
أطْوي غُرْبَتِي
في رَائِحةِ الجُرْح..
أسْكُنُ جَسَداً لَيْسَ يُشْبِهُنِي
والصَبَاحُ..
تَتَنَاهَبُهُ الأشْبَاح..
**
عَلَّهَا رَائِحَةُ المَوْتَى
تَطُوفُ بِضَجَرِهَا خَلْفَ العُيُون،
ودُخَانُ الأرْضِ في بَوَاكِيرِ الأزَل".

الأزل الذي لا يبرح نص يشيع الحزن المرّ بين طرقات المدينة الغارقة في شتاءات تحرّق شهوة القلق حين يئن تحت جمجمة تتثاقل بما تيسر من انكسارات هنا وهزائم تمنح بشائر النصر للمدن تصحو على تخاتل أصوات غارقة في عمق حناجر علقت على أبوابها كلمات الحقيقة، بأنْ لا نشيد للمهزوم ولا شيء يكون غير النائحات على بساط الفجيعة، وتبقى المدينة الغزالة الخاسرة من صيدها الثمين، والليل يمنحها رحلة إلى صباح جديد وان كان لا موقد حين برد قارس في جرن النهار.

"الْلَيلُ يُخَيّمُ على المَدِينَةِ
أرْحَلُ..
والرَّأْسُ مُثْقَلَةٌ بِأنينِ السِنينِ...
بَيْنَ كَفَّي نَعْشٌ لِجُمجُمةٍ وجسدٍ
أنتظِرُ صَبَاحَا آخَر.."

وبورود المعنى إلى بئر تسكنه طيور المساء إلى خيل تجللها تسابيح الفجر والى رحيل يثقل على الطريق خطوات العابرين إلى أنين السنوات كانت المحبرة بما حملته من مقولات شعرية تنعش الكف حين يدغدغ جمجمة جسد ما زال يتأمل ويأمل بعودة الانتظار كي يقف تحت رف الأمل المتّقد بالأمل، ولعله سيقاوم النوم ويغازل مرايا سائلة تبوح بزرقة دفق موج يرشّ ضباب رؤيا تشق ما تبقى من عتمة على باب الصباح.

"مَنْ قَاوَمَ النَّوْمَ فِي جَسَدِهِ هَذَا الصَّبَاحْ؟ حَمَلَ جَيْبَهُ والْقَلَمَ وعَبَرَ بَيْنَ المَرَايَا كَغَرِيبٍ جَرَّحَتْهُ المَرَايَا الصَّقِيلَةُ لِلْأَبْوَابِ المُوَارَبَةِ فِي ذَاكِرَتِهِ".

هي الذاكرة في قمقم الحبر الأزرق أحيانا وهي المجبولة على صفحات من خلجات الحنين بالأسود حينا آخر، ولعل الشاعر سيذهب ونذهب معه في رحلة قصية سرعان ما تفتح مشاوير أخرى حتى نبقى في دائرة صاخبة، محبرة ممطرة... محبرة تنتحب. 

شاعر وكاتب من فلسطين
abedatari@yahoo.com