يؤكد الكاتب المصري أن الإجابة على السؤال المصيري كيفية عودة القدس، لا تكمن بمظاهرات انفعالية، فالمعركة ليست مع العدو فقط لكنها معركة مع الذات أيضا، ويجب أن نحقق الحرية والنصر على أنفسنا، وعلى الفساد المجتمعي والتواكل والطائفية وكل مظاهر التمييز والاستعلاء والعنصرية واحتقار البشر بسبب معتقداتهم وأعراقهم، كما يجب تمكين المرأه وتجريم قهرها.

أمة نازفة

عيد اسطفانوس

رغم حرق الأعلام والشجب والشتائم والتظاهرات ومحاولات اقتحام السفارات لم ولن تعود اميركا عن قرارها، ونحن نعلم ذلك يقينا، ونعلم أيضا أن هذه الاساليب التي جربناها لعقود طويلة لم نحصد بها شيئا على الاطلاق، اللهم الا المساهمة في زيادة المتراكم التاريخي في ذاكرة الشعوب عن مجتمعات متخلفة لا تملك سوى هذه الوسائل العقيمة وهي مناحات حنجورية مكررة في الميكروفونات نمارسها كشعيرة زائفة لتخدير الضمائر ليس الا، ومواجهات خاسرة يقتل فيها العشرات من الشباب ثم لا شيء، وقد اقتربنا من بلوغ قرن كامل من الزمان نمارس هذه الأفعال أو بالأحرى ردود الأفعال ولم نتعظ ونتعلم أن نفس المقدمات تفرز نفس النتائج لكننا نفعلها كل مرة وكأنها لأول مرة.

وهنا يبرز التساؤل هل تستطيع أي من مجتمعات هذه الأمة النازفة ان تتخذ قرارا أو تتخذ اجراءا من تلك التي تتطلب دراسة وحشدا وتنظيما وتمويلا واستراتيجيات طويلة ومتوسطة وقصيرة المدى؟ واذا أرادت هل تملك الكوادر المؤهلة لذلك؟ واذا كانت تملك هل توجد الارادة السياسية الكافية؟ لذا كانت كلمة نازفة التي ذكرناها هي التعبير الأدق لحالة هذه المجتمعات، فهي في حالة استنفار مستدام، تعيش صراعات خارجية مع بعضها وصراعات داخلية بين مكوناتها بالاضافة للصراع الازلي مع الزمن ومحاولاتها اليائسة البائسة للحاق به.

وقد خطط الاسرائيليون لهذا اليوم منذ سبعين عام، خططوا بهدوء وروية وعلم واستعداد، ومن ثم حصدوا ناتج عملهم المتقن، فماذا فعل العرب طوال نفس المدة؟ والاجابة هي أنهم تقاتلوا وغرقوا في مستودع الغيبيات، وحولوا قضية سياسية جغرافيتها على الأرض ومصيرها بيد أصحابها إلى قضية دينية جغرافيتها ومصيرها في السماء، ودغدغوا مشاعر البسطاء واستراحوا لهذا الحل السحري وجمدوا الزمن عند القرن الرابع وعادوا القهقرى اليه يلوون أعناقهم، ولولا بعض مظاهر حضارة استهلاكية يرجع الفضل فيها لنوافير الزيت والغاز القدرية التي انبثقت من باطن الارض، لعادت هذه المجتمعات لنصب الخيام في البوادي من جديد.

ومن هنا أصبح الاسلام السياسي هو الأب الروحي للقضية، يستمد منها استمرارة وشرعية تواجده على الساحة، فمع كل مرة تلتهب الأزمة يعلن (النفير العام) ويتم لعن كل النظم الحاكمة في المنطقة باعتبارها نظم رجعية تسعى للتطبيع مع (العدو) ومهادنته، ومن ثم فالعودة إلى الدولة الدينية هو الحل، أو بالأحرى (الاسلام هو الحل) وتحت هذا الشعار وتفرعاته نشأت فصائل وأحزاب تقتات من ريع هذه القضية، وانقسم اصحاب القضية على أنفسهم وتقاتلوا على رقعة مهترئة لفظها الاعداء لانهم اكتشفوا أنها لقمة مسمومة.

ونعود للسؤال الخطير الجاثم فوق الصدور وهو مادامت كل هذه الممارسات على الساحة لم تنتج شيئا فما هو السبيل لتعود القدس؟ وقبل الاجابة هناك سؤال أهم يجدر الاجابة عليه أولا وهو هل فعلا نحن نريد استعادة القدس؟ ومع أن السؤال يبدو مريبا لكنني أعتقد أن كل الانظمة في هذه المنطقة يهمها بقاء الوضع على ماهو عليه ليستمر الهاء هذه الشعوب بالعنتريات والبيانات على مدار الساعة، وصرف أنظارهم عن واقعهم المتردي وصم آذانهم بأصوات الميكروفونات الزاعقة بالدعاء على (أحفاد القردة والخنازير) وسد أنوفهم عن رائحة الفساد والمخلفات الصلبة والسائلة التي تغرق المصالح والشوارع.

نعود للاجابة عن السؤال المصيري كيف تعود القدس؟ لكن الاجابة عن هذا السؤال تبدو كدواء مر لا بد من تجرعه فالقدس لن تعود بمظاهرة، لان ما ضاع في معركة لايسترد بمظاهرة، اذا القدس لن تعود الا بمعركة، والمعركة ليست مع العدو فقط لكنها معركة مع الذات أيضا، فاذا كنا نريد النصر على العدو فيجب ان نحقق النصر على انفسنا اولا، يجب أن ننتصر على الفساد المستشري كالسرطان في مجتمعاتنا المريضة، يجب ان ننتصر على الطائفية المقيته، يجب ان ننتصر على مظاهر الفرز والتمييز والاستعلاء، يجب ان ننتصر على الاهمال والتواكل وثقافة الرزق الساعي إلى الابواب، يجب ان ننتصر على العنصرية البغيضة وثقافة احتقار البشر بسبب اديانهم ومذاهبهم واعراقهم، يجب ان ننتصر للمرأه واعلاء شانها وتمكينها وتجريم قهرها واشراكها على قدم المساواه في كل مناحي الحياه، يجب ان ننتصر للحرية والعيش الكريم واحترام ادمية الانسان واختياراته في الحياه، يجب ان ننتصر للعمل المتقن والبحث العلمي المثابر، يجب ان ننتصر على اخطبوط منظومة التعليم التي دمرت أجيال وخربت عقول وأفسدت أخلاق، يجب أن ننتصر لثقافة التخطيط العلمي المنظم الموصل للاهداف، يجب أن ننتصر لقضاء عادل نزيه مستقل، يجب أن ننتصر للتداول السلمي المنظم للسلطة، يجب أن ننتصر للوحدة والتكامل على أسس علمية مدروسة، فان انتصرنا لهذه القضايا ولو بعد حين مؤكد أننا سننتصر في كل القضايا المعلقة.

وقد يتساءل القارئ وكم يستغرق هذا؟ ونجيب بأن هذا يتوقف على ارادة الشعوب، وهنا نوضح أيضا اننا لا نخترع العجلة فقد انتظر الصينيون مائة عام ليستعيدوا هونج كونج وماكاو، وهم في طريقهم لاستعادة تايوان، نعم انتظروا مائة عام حتى استردوا عافيتهم وتحولوا من أمه نازفة عليلة إلى عملاق اقتصادي وسياسي وتقني، ومن ثم فرضوا ارادتهم، أما من يرفعون شعارات هنا والآن فهم واهمون، فلا هنا ولا الآن، فأمامنا عدو مجهز بأحدث الاسلحة والتقنيات ونحن لانملك سوى شعارات والشعارات لاتهزم الاسلحة ولا التقنيات.

هذا ما أعتقد أنه الحل وأعتقد أيضا أنه الحل الوحيد لاستعادة القدس والجولان وكل أرض أغتصبت، أما غير ذلك فسيكلفنا مزيد من الدم والأرض، وللتذكرة فان هذا الذي نكافح اليوم لاجل الحصول عليه ولا نستطيع، سبق وعرض علينا أضعافه ورفضنا بطريقة الشعارات والسب واللعن وها نحن نعود للندم على اللبن المسكوب.