يقدم الكاتب قراءة في رؤية فؤاد زكريا حول «التفكير العلمي» وماهية السمات التي تميزه عن طرق التفكير الأخرى، والعقبات التي تقف في طريقه، كما يستعرض أهم الصفات والعناصر الأخلاقية الواجب توافرها في العلماء. ويرى أن الكتاب جدير بأن يكون ضمن المنهج المدرس في الجامعات المصرية.

قراءة في كتاب «التفكير العلمي» للدكتور فؤاد زكريا

حاتم صادق

أن تفكر بطريقة علمية، فهذا أمر يبدو سهلاً وبسيطاً، أما أن ترسم للآخرين كيف يفكرون بطريقة علمية فهذا أمر بالغ الصعوبة. هذا ما فعله الدكتور والفيلسوف فؤاد زكريا ببراعة واقتدار في هذا الكتاب الذي أعتقد أنه حتى هذه اللحظة لم يأخذ حظه من التقدير والاهتمام.

وعلى طريقة المثل الشعبي الشهير "مالئوش في الورد عيب ، قالوا يا أحمر الخدين"، فإنني أستطيع أن أقول إن العيب الوحيد في هذا كتاب "التفكير العلمي" هو أنك لا تستطيع أن تحدد الموضوعات والعناوين والأفكار ذات الأهمية الكبرى فيه، لأنك حين تطالع سطوره وصفحاته تجد أن كل جملة فيها مهمة وكل فكرة فيه خطيرة، والكتاب من أوله إلى آخره يحاول كتابة روشتة علاج لمرضنا المزمن وهو خصام العقل والقطيعة مع التفكير العلمي.

منذ السطر الأول للمقدمة ينبهنا المؤلف أن "التفكير العلمي ليس تفكير العلماء بالضرورة، إذ لا ينصب على مشكلة متخصصة بعينها، أو حتى على مجموعة المشكلات المحددة التي يعالجها العلماء، ولا يفترض معرفة بلغة علمية أو رموز رياضية خاصة، ولا يقتضي أن يكون ذهن المرء محتشداً بالمعلومات العلمية، أو مدرباً على البحث المؤدي إلى حل مشكلات العالم الطبيعي أو الإنساني، بل إن ما تم التحدث عنه هو ذلك التفكير المنظم الذي يمكن استخدامه في شئون الحياة اليومية، أو في النشاط الذي يمارس في الأعمال المهنية المعتادة، أو في علاقة الشخص بغيره من الناس ومع العالم المحيط بنا".

وفي الفصل الأول، تناول مفكرنا الكبير سمات التفكير العلمي والتي تميزه عن طرق التفكير الأخرى وهي:

أ- التراكمية: فالعلم معرفة تراكمية ، وبتلك التراكمية يتطور العلم و يعلو بها صرحه. فالمعرفة العلمية كما حددها الدكتور فؤاد زكريا أشبه بالبناء الذي يشيد طابقاً فوق طابق.

ب- التنظيم: وهو من أهم الصفات التي يتحلى بها التفكير العلمي فلا يمكن ترك أفكارنا تسير حرة طليقة، وإنما يتم ترتيبها بطريقة ممنهجة عن وعي لكي يخضع التفكير لإرادة واعية.

ج- البحث عن الأسباب: بمعنى أن النشاط العقلي لايكون علما بمعناه الصحيح إلا إذ استهدف فهم الظواهر وتعليلها.

د- الشمولية واليقين: تجسد معرفة شاملة تسري على جميع أمثلة الظاهرة التي يبحثها العلم.

ه- الدقة والتجريد.

وفي الفصل الثاني أتبع المؤلف هذه السمات، بالعقبات التي تعوق التفكير العلمي، وحددها في خمسة معوقات:

  1. الأسطورة والخرافة:
    الأسطورة: تقوم على مبدأ "حيوية الطبيعة" أي صبغ الظواهر الغير حية بصبغة الحية. أما التفكير الخرافي فهو التفكير الذي يقوم على إنكار العلم ورفض مناهجه.
  2. الخضوع للسلطة:
    أهم دعائم السلطة لتكون عقبة في وجه التفكير العملي هي: (القدم، الانتشار، الشهرة، الرغبة والتمني). وأبرز الأمثلة للسلطة الفكرية والعلمية في التاريخ الثقافي شخصية أرسطو، فقد ظل هذا الفيلسوف اليوناني الكبير يمثل المصدر الأساسي للمعرفة في شتى نواحيها، وما يبين قضية لسلطة مفكر مثل أرسطو، أن هذا الخضوع كان يتخذ شكل التمجيد، بل التقديس، لشخصية هذا الفيلسوف.
  3. إنكار قدرة العقل: أي أن يؤمن الإنسان بقوى أخرى غير العقل كالخيال أو الحدس.
  4. التعصب: هو اعتقاد باطل بأن المرء يحتكر لنفسه الحقيقة أو الفضيلة وبأن غيره يفتقرون إليها. وبتعبير المؤلف: "التعصب يجعل الحقيقة ذاتية ومتناقضة، وهو ما يتعارض كليةً وطبيعة الحقيقة العلمية".
  5. الإعلام المضلل: الذي يشكل خطرا على العقول والقدرة على التفكير الموضوعي، وليس المقصود هنا فقط التضليل، بل تشجيع التفاهة ورعايتها بكل عناية.

وفي الفصل السابع، يتألق الدكتور فؤاد زكريا وتشرق كلماته وهو يستعرض أهم الصفات الواجب توافرها في العلماء، والتي تميزهم عن غيرهم من عموم الناس والتي تشكل في مجملها وفي تكاملها ما أسماه المؤلف "شخصية العالم"، وبدأها بـ"العناصر الأخلاقية في شخصية العالِم"، وهو هنا لا يقصد بها "تلك الأخلاق الشخصية التي تتعلق بطريقة سلوك العالِم من حيث هو إنسان، وإنما المقصود هو الأخلاق المتصلة بعمله العلمي، سواء بطريق مباشر أو بطريق غير مباشر"، ونتوقف هنا مع:

1- الروح النقدية: وهي أول معنى للموضوعية بما تقتضيه من عدم تأثر بالمسلمات الموجودة أو الشائعة، وأن ينقد نفسه، ويتقبل النقد من الآخرين، ويعترف بالخطأ مهما كان الإعتراف أليما. ويشدد د. فؤاد زكريا على حيوية ما يسميه بـ"الضمير النقدي في ميدان العلم"، وهو ما لم يتبلور بالقدر الكافي في عالمنا العربي، لأسباب متعددة أهمها في رأيه سببان: الأول أن نهضتنا العلمية الحديثة مازالت قريبة العهد، بحيث لم يصبح لدينا تراث يجعل النقد جزءاً رئيساً من حياتنا العلمية، كما هي الحال في البلاد المتقدمة. والسبب الآخر (وهو مرتبط بالأول ارتباطاً وثيقاً) هو ذلك الخلط الذي يسود جوانب حياتنا كافة، بين ما هو خاص وما هو عام، أو بين العوامل الشخصية والعوامل الموضوعية.

2- النزاهة: وتتمثل في قدرة العالِم على ألا ينسب إلى نفسه شيئاً استمده من غيره، وأن يستبعد العوامل الذاتية من عمله العلمي، فيطرح جانبا أي مصالح أو ميول أو اتجاهات شخصية قد تكون ذات تأثير سلبي على عمله، وأن يسعى إلى الحقيقة وحدها، بغض النظر عما يمكن أن يجنيه من مغانم. وهنا يشير المؤلف إلى أفلاطون حين حرم على العلماء، في مدينته الفاضلة، اقتناء الذهب والفضة اكتفاءً بما في نفوسهم من هذيْن المعدنيْن النفيسيْن.

3- الحياد: أي التجرد والتنزه والبعد عن التحيز والهوى، فلا ينحاز مقدماً لطرف في أي نزاع فكري أو علمي إذ أنه يطرح تفضيلاته الشخصية والذاتية جانباً ويقف من الكل على مسافة واحدة.

وفي جزئية بالغة الأهمية وتحت عنوان "ثقافة العالم"، يشرح الدكتور فؤاد زكريا الخطأ الذي يقع فيه كثيرون من المشتغلين بالعلوم، حين يوجهون كل اهتمامهم إلى فرع واحد، ولا تنمو لديهم سوى ملكة واحدة، فلا يخرجون عن حدود تخصصهم.

فيذهب زكريا إلى أن: "التخصص المفرط لا يؤدى فقط إلى عزل المشتغل بالبحث العلمي عن كافة جوانب المعرفة الأخرى، بل يعمل أيضاً على توسيع الفجوة بين العلم والإنسان، إذ يحوّل العلم إلى أداة فنية مفرطة في التعقيد، وإلى مجموعة من الإجراءات التي تقتضى تدريباً وتعليماً مكثفاً، ومن ثم يتباعد العلم تدريجياً عن الإنسان في وجوده المتكامل المحسوس، وفى مشاكله الواقعية العينية، ويزداد البحث العلمى عجزاً عن رؤية الصورة الكلية للحياة الإنسانية، لأنه يفنى عمره في قطاع شديد الضآلة من قطاعات عالم الطبيعة أو الإنسان".

يتبقى أن أقول أن كتاب "التكفير العلمي" كتاب يستحق أكثر من الثناء ، لأنه يستحق أن يقرأ ويقرأ، وهو جدير بأن يدرس، ويقرر على جميع الطلاب في كل كليات الجامعات المصرية، لأنه يقدم لشبابنا أهم ما ينقصهم في تعليمهم المتردي، وأهم ما ينقصنا في حياتنا اليومية، وهو أسلوب التفكير العلمي.